الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 120
- بتاريخ: 21 - 10 - 1935
أحمد شوقي
بمناسبة ذكراه الثالثة
اجتمع رأي الناس - ما عدا الشعراء - على أن شوقي طيب الله ذكره، كان تعويضاً عادلاً عن عشرة قرون خلت من تاريخ العرب لم يظهر فيها شاعر موهوب يصل ما انقطع من وحي الشعر، ويجدد ما اندرس من نهج الأدب، ويحفظ للبيان العربي قسطه المأثور من التعبير الملهم عن كلمة الله المنبثة في الكون، وأسرار الجمال المضمرة في الطبيعة، ومعاني الخير الغامضة في الحياة؛ وأن فقده كان فقداً للوجدان الفني في الشعب الذي علمه كيف يتذوق الأدب ويستسيغ الشعر وينضح عواطفه الجافة بفيض هذه القريحة النابغة الثَرَّة؛ فالأعوام تعقب الأعوام، والذكرى تخلف الذكرى، والأسى لا يزال يُرمض الجوانح لامتناع الصبر عليه واعواز العوض منه؛ فسيبقى شوقي كما وضعه القدر كمالاً في نقص كان، وهيهات أن يصير نقصاً في كمال سيكون؛ وسيدور الفلك ويدور، ويقصد النقد ويجور، ويتطور الذوق ويسمو، وشعر شوقي ثابت ما ثبت الحق، خالد ما خلد القرآن، مقروء ما بقي العرب!
ذلك لأن الطبيعة اختارته لرسالة الشعر بعد فثرة موئسة من الرسل، ثم آثرته بالنصيب الأوفى من الفكر والخيال والعاطفة، وهن الملكات الثلاث التي ترفد القريحة وتمد الطبع، وعلى تفاوتها في القوة والضعف يتفاوت الفنان في السبق والتخلف؛ ثم زوّدته بالأذن الموسيقية والقريحة السخية والأداة الطيعة، فشب عبقرياً بالفطرة، لا شأن للبيئة في تنشئته، ولا للمدرسة في إعداده، ولا للفرصة في توجيهه؛ وهل كان أثر البيئة وقفاً عليه، وتعليم المدرسة خاصاً به، ومواتاة الفرص امتياز له؟ إنما كان مثله في رسالة الشعر كمثل الأنبياء في رسالة الدين، يختارهم الله من الضعفاء والفقراء والأميين ليكون جلاله عليهم أبهر، ومعجزته فيهم أظهر، وحجته منهم أبلغ
وشوقي رجل روحه أقوى من فنه، وشعره أوسع من علمه، وحكمته أمتن من خلقه، وقدرته أكبر من استعداده، فلا يشك قارئه في أنه وسيط لروح خفية تقوده، ورسول لقوة إلهية تلهمه؛ وما اكتسب من القراءة والأسفار إلا إرهاف الذوق، وتحصيل المادة، وتوسيع الخبرة؛ والذوق في الفن كالعقل في العلم إنما يحصلان بالدرس والتجربة والسن؛ والطبيعة
تصنع صاحب العبقرية، ولكنها تبدأ صاحب الذوق
الشاعر المطبوع رجل يتأثر خياله بقوة، وينفعل قلبه بسرعة، ثم يكون بين خياله وقلبه تجاوب سريع مستمر؛ له أذن مرهفة الحس تفطن للإيقاع وتطرب للنغم، وذوق سليم الإدراك يعرف جمال الشعر ويعلم مواقع الكلم، ونفس ترى المُثُل الروائع فتحمَى وتتحمس، ثم يدفعها السمو الفني فيها إلى المنافسة الحرة والمعارضة النبيلة؛ وإذا تناول الفكرة الأساسية الأولية لموضوع ما، لا يلبث أن يراها في دخيلة نفسه تنمو وتتسع وتتركب وتتشعب وتتلون، ثم تغدو ولوداً خصبة؛ ثم لا ينفك شاعراً بالحاجة الملحة إلى الإنتاج الناشئ عن غزارة الفيض وحرارة العاطفة؛ ثم يدرك في يسر ما بين المعاني المجردة والمواد المحسَّة من علاقة، فيتخذ من هذه ألواناً لتلك، بحيث تولد هذه الأفكار في الذهن مكسوة بهذه الصور؛ تتمثل في خاطره المواد من ذات نفسها على الوجه الأنسب للتصوير والوضع الأجمل في النظم، فإذا كان الموضوع مؤثراً انثالت عليه العواطف معجلة تريد أن تظهر، مزدحمة تحاول أن تفيض
ذلك هو الشاعر المطبوع، وذلك هو شوقي؛ علمناه بالدرس، وعرفناه بالصحبة، فما انخزل يوماً في تحليقه وإسفافه عن مواقف العبقرية. ولئن كان في شعر شبابه مأسور الفكر، محصور الخيال، محدود النظر، لا يعبر إلا عن رأي القصر، ولا يصور إلا بألوان البيئة، لقد كانت هذه الحقبة الرسمية غيبة للشاعر عن نفسه، وذهولاً منه عن وجوده؛ وقديماً كانت صلات الشعراء بالملوك والخلفاء عاهة الشعر وآفة العبقرية، فلما أعتقته الحرب من رق الوظيفة، وأطلقته إنجلترا بالنفي إلى الأندلس، تيقظ فيه الرسول الشاعر والحكيم المصلح، فحلق بخياله في كل جو، وسطح بعقله في كل أفق، وشدا بالإسلام والعروبة والمصرية شدوا ردده كل لسان واهتز له كل قلب؛ ثم زاد في القيثارة العربية الأوتار الناقصة، فأضاف الشعر القصصي والشعر التمثيلي إلى شعرنا الغنائي؛ فكان بذلك وحده الشاعر الكامل!
شوقي كله من صنع الطبيعة، ولد منشداً كما ولد البلبل مغرداً؛ فالحكم على شعره بقوانين النقد الوضيعة، وآراء الناقدين الشخصية، لا يضعه في مكانه، ولا يزنه بميزانه. اقرأه ثم راجع فيه نفسك، واستشر في أثره حسك، فإذا وجدت ذهنك يشتغل، وشعورك يشتعل،
وروحك تتصل بروحه، وذوقك يرتاح لذوقه، فثق أنك بازاء شاعر علت مزاياه على النقد، وسخرت مواهبه بالقيود:
إن شوقي سيظل على رغم الهتاف به مغموط الحق مادام الشعر العربي للخاصة، لأن الخواص أكثرهم لا ينصفونه، والعوام كلهم لا يفهمونه، فمتى زالت معرّة الأمية عن الأمة العربية أصبح لشعره يومئذ شأن وأي شأن
أحمد حسن الزيات
5 - الجمال البائس
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
تتمة
قلت لها: إن كلمة الكفر لا تكون كافرة إذا أُكره عليها من أُكره وقلبُه مطمئنٌّ بالإيمان، وكلمة الفجور أهون منها وأخف وزناً وشأناً، ثم لا تكون إلا فاجرة أبداً، إذ لا إكراه على هذه الدَّعارة إكراها لا خيار فيه. وما أول الدَّعارة إلا أن تمد المرأة طرفها من غير حياء، كما يمد اللص يده من غير أمانة
ومن اضطُر إلى الكفر استطاع أن يخبأ محراب المسجد في أعماقه فيصلي ثمة، ولكن الفجور لا يترك في النفس موضعاً لدين ولا إيمان، إذ هو دائب في إثارة الغرائز الطبيعية الحيوانية المسترسلة بلا ضابط، فيجعل المرأة تحيا بعيدة عن ضميرها، فيضعف منها أول ما يضعف آثار الآداب والأخلاق، فيهلك فيها أول ما يهلك إحساسها بمعنى المرأة الإنسانية وشعورها بمجد هذا المعنى
فإذا انتهت المرأة إلى هذا لم يكن لها مبدأ ولا عقيدة إلا أنَّ على غيرها أن يتحمل عواقب أعمالها، وهذه بعينها هي حالة المجنون جنون عقله؛ أفلا تكون المرأة حينئذ مجنونة جنون جسمها. . .؟
فساءها ذلك وبان فيها، ولكنها أمسكت على ما في نفسها؛ والمرأة من هؤلاء لا يمشي أمرها في الناس ولا يتصل عيشها إلا إذا كثرت طباعها كثرة ثيابها، فهي تخلع وتلبس من هذه وتلك لكل يوم ولكل حالة ولكل رجل، فينبعث منها الغضب وهي في أنعم الرضى، كما ينبعث الرضى وهي في أشد الغيظ، وكأن لم تغضب ولم ترض لأنها ليست لأحد ولا لنفسها
وتساير غضبها ثم قالت: كان كلامك أن لك رجاء إليَّ، فأنا أحب. . . . أحب أن أعلم
قلت: وأنا كذلك أحب. . . أحب أن أعلم
فضحكت وسرِّى عنها، وثبتت على شفتيها ابتسامة لو جاء ملكٌ من السماء ليضع في ثغرها ابتسامة أجمل منها لما وجد أجمل منها
ثم قالت: تحب أن تعلم ماذا؟
قلت: أحب أن أعلم منك قصة هذه الحياة ما كان أولها؟
قالت: لقد قضيت من حكمك فينا، ولكنك أخطأت، فلكل ليل مظلم كوكبه؛ والكوكب الوقاد المعلَّق فوق ليل المرأة منا هو إيمانها. نعم إنه ليس كإيمان الناس في واجباته ولكنه كإيمان الناس في تعزيته، والله ربُّنا وربُّكم
قلت: لو أطيع الله بمعصيته لاستقام لك هذا. وإنما أنت تصفين الإيمان الأول الذي كان عملاً فصار ذكرى، فصارت الذكرى أملاً، فظننتِ الأمل هو الإيمان
قالت: ثم إننا جميعاً مكرهات على هذه الحياة فما نحن إلا صرعى المصادمة بين الإرادة الإنسانية وبين القدر
قلت: ولكن لم تهف واحدة منكن في غلطتها الأولى وهي مستكرهة على غلطة؛ بل وهي راغبة في لذة، أو مبادرة لشهوة، أو طالبة لمنفعة
قالت: هذا أحد الوجهين؛ أما الآخر فالتماس الرزق وصلاح العيش. فالرجل مع الرجل رأس ماله قوَّته، وعمله بقوته؛ ولكن المرأة مع الرجل رأس مالها أنوثتها، وعمل أنوثتها. وفي الوجه الأول وجه اللذة والمنفعة، تحتال كلمة الفجور على المرأة بكلمات رقيقة ساحرة، منها الحبُّ والزواج والسعادة، فتستسلم المرأة مضطرة ليقع شيء من هذا. وفي الوجه الثاني وجه الرزق والعيش، تحتال الكلمة الخبيثة الفاجرة على المرأة المسكينة المستضعفة بكلمات رهيبة قاتلة، منها الجوع والفقر والشقاء، فتسقط المرأة مضطرة خيفة أن يقع شيء من هذا؛ وفي أحد الوجهين يكون الرجل هو الفاجر لفساد آدابه، وفي الوجه الآخر يكون الفاجر هو المجتمع لفساد مبادئه
قلت: أنا لا أنكر أن المرأة إذا سقطت في هذه المدينة لم تقع أبداً إلا في موضع غلطة من غلطات القوانين، وآفة هذه القوانين إنها لم تسن لمنع الجريمة أن تقع، ولكن للعقاب عليها بعد وقوعها. وبهذا عجزت عن صيانة المرأة وحفظها، وتركتها لقانون الغريزة الوحشي في هؤلاء الوحوش الآدميين الذين يأخذهم السعار من هذه الرائحة التي لا يعرفها إلا في اثنين: المرأة الجميلة، والذهب. فما ألجأت امرأة حاجتها أو فقرها إلى أحدهم ورأى عليها جمالاً إلا ضربه ذلك السعار، فإن استخفَّت بنزواته وتعسّرت عليه طردها إلى الموت ومنعها أن تعيش من قبله، وإن صلحت له وتيسرت، آواها هي وطرد شرفها. . .
وذلك بخلاف الدين، فإنه قائم على منع الجريمة، وإبطال أسبابها؛ فهو في أمر المرأة يلزم الرجل واجبات، ويلزم المجتمع واجبات غيرها، ويلزم الحكومة واجبات أخرى. فأما الرجل فينبغي له أن يتزوج، ويتحصن، ويغار على المرأة، ويعمل لها؛ وأما المجتمع فيجب عليه أن يتأدب، ويستقيم، ويعين الفرد على واجبات الفضيلة، ويتدامج، ويشد بعضه بعضاً؛ وأما الحكومة فعليها أن تحمي المرأة فتعاقب على إسقاطها عقاب الموت والألم والتشهير، لتقيم من الثلاثة حراساً جبابرة، من لا يخش الله خشيها. فليس يمكن أبداً أن يكون في ديننا موضع غلطة تسقط فيه المرأة
قال الأستاذ (ح): صدقت، فالحقيقة التي لا مِراء فيها أن فكرة الفجور فكرة قانونية. وما دام القانون هو أباحها بشروط فهو هو الذي قررها في المجتمع بهذه الشروط، ومن هذا التقرير يقدم عليها الرجل والمرأة كلاهما على ثقة واطمئنان. ومن ثم تأتي الجرأة على اندفاع الناس إلى ما وراء حدود القانون؛ ومن هذا الاندفاع تأتي الساقطة بآخر معانيها وأقبح معانيها
وتقرير سيادة المرأة في الاجتماع الأوربي وتقديمها على الرجال والتأدب معها، كل ذلك يجعل جراءة السفهاء عليها جراءة متأدبة حتى كأن المتحكك منهم في امرأة يقول لها: من فضلك كوني ساقطة. . . أما هنا فجراءة السفهاء جراءةٌ وقحةٌ معاً، وذلك هو سرُّها
القانون كأنما يقول للرجال: احتالوا على رضا النساء فإن رضين الجريمة فلا جريمة، ومن هذا فكأنه يعلمهم أن براعة الرجل الفاسق إنما هي في الحيلة على المرأة وإيقاظ الفطرة في نفسها بأساليب من الملق والرياء والمكر تتركها عاجزة لا تملك إلا أن تذعن وترضى. وبهذا ينصرف كل فاجر إلى إبداع هذه الأساليب التي تطلق تلك الفطرة من حيائها، وتخرجها من عفتها (تطبيقاً للقانون). . .
ولا سيادة في اجتماعنا للمرأة، ولكن القانون جعلها سيدة نفسها، وجعلها فوق الآداب كلها، وفوق عقوبة القانون نفسه إذا رضيت؛ إذا رضيت ماذا. . .؟
قلت: فإذا كان القانون هنا في مسألتنا هذه يعدل بالظلم، ويحمي الفضيلة بإطلاق حرية الرذيلة، فهو إنما يفسد الدين؛ ويصرف الناس عن خوف الله إلى خوف ما يخاف من الحكومة وحدها. وبهذا لا يكون عمله إلا في تصحيح الظاهر من الرجل والمرأة، ويدع
الباطن يسر ما شاء من خبثه وحيلته وفساده، فكأنه ليس قانوناً إلا لتنظيم النفاق وإحكام الخديعة. فلا جرم كان قانوناً لحالة الجريمة لا للجريمة نفسها، فإذا أخذت المرأة ملاينة ورضى فهذا فجور قانوني. . . وإن كانت الملاينة هي عمل الحيلة والتدبير، وإن كان الرضى هو أثر الخداع والمكر، وإن ضاعت المرأة وسقطت وذهب شرفها باطلاً وألحقه الناس بما لا يكون من توبة إبليس فلا يكون أبداً. أما إذا أخذت مكارهة وغصباً، فهذه هي الجريمة في القانون؛ ويسميها القانون جريمة الاعتداء على العرض، وهي بأن تسمى جريمة العجز عن إرضاء المرأة أحق وأولى
على أن المسكينة لم تؤخذ في الحالتين إلا غصباً ولكن اختلفت طريقة الرجل الغاصب، فإن كلتا الحالتين لم تتأدَّ بالمرأة إلا إلى نتيجة واحدة هي إخراجها من شرفها، وحرمانها حقوق إنسانيتها في الأسرة، وطردها وراء حدود الاعتبار الاجتماعي، وتركها ثمة مخلاة لمجاري أمورها، فلا يتيسر لها العيش إلا من مثل ذلك الرجل الفاجر، فلا تكون لها بيئة إلا من أمثاله وأمثالها كما يجتمع في الموضع الواحد أهل المصير الواحد على طريقة القطيع في المجزرة. . . .
فقالت هي: الحق أن هذه الجريمة أولها الحب؛ وهي لا تقع إلا من بين نقيضين يجتمعان في المرأة معاً: كبر حبها إلى ما يفوت العقل، وصغر عقلها إلى ما ينزل عن الحب. والمرأة تظل هادئة ساكنة رزينة حتى تصادفها اللحاظ النارية من العين المقدرة لها فلا يكون إلا أن تملأها لهباً. ولتكن المرأة من هي كائنة فإنها حينئذ كمستودع البارود يهول عظمه وكبره، وهو لا شيء إذا اتصلت به تلك الشرارة المهاجمة
وليست حراسة المرأة شيئاً يؤبه له أو يعتد به أو يسمى حراسة، إلا إذا كانت كالتحفظ على مستودع البارود من النار؛ فيستوي في وسائلها الخوف من الشرارة الصغيرة والفزع من الحريق الأعظم، فيحتاط لاثنيهما بوسائل واحدة في قدر واحد واعتبار واحد
وإذا تركت المرأة لنفسها تحرسها بعقلها وأدبها وفضلها وحريتها، فقد ترك لنفسه مستودع البارود تحرسه جدرانه الأربعة القوية. . . .
والرجال يعلمون أن للمرأة مظاهر طبيعية من الخيلاء والكبرياء والاعتداد بالنفس والمباهاة بالعفة؛ ولكن هؤلاء الرجال أنفسهم يعلمون كذلك أن هذا الظاهر مخلوق مع المرأة كجلد
جسمها الناعم، وأن تحته أشياء غير هذه تعمل عملها وتصنع البارود النسائي الذي سينفجر. . . .
قلت: إذا كان هذا فقبح الله هذه الحرية التي يريدونها للمرأة. هل تعيش المرأة إلا في انتظار الكلمة التي تحكمها بلطف، وفي انتظار صاحب هذه الكلمة؟
قالت: إن هذا حق لا ريب فيه، وأوسع النساء حرية أضيعهن في الناس؛ وهل كالمومس في حريتها في نفسها؟
ولكن يا شؤمها على الدنيا. إنها هي بعينها كما قلت أنت حرية المخلوق الذي يترك حراً كالشريد لتجرِّب فيه الحياة تجاريبها المؤلمة. وماذا في يد المرأة من حرية هي حرية القدر فيها؟
قلت: ولهذا لا أرجع عن رأيي أبداً، وهو أنه لا حرية للمرأة في أمة من الأمم إلا إذا شعر كل رجل في هذه الأمة بكرامة كل امرأة فيها، بحيث لو أهينت واحدة ثار الكل فاستقادوا لها، كأن كرامات الرجال أجمعين قد أهينت في هذه الواحدة. يومئذ تصبح المرأة حرة، لا بحريتها هي، ولكن بأنها محروسة بملايين من الرجال. . . .
فضحكت وقالت: (يومئذٍ) هذا اسم زمان أو اسم مكان. . . .؟
قال الأستاذ (ح): ولكنا أبعدنا عن قصة هذه الحياة، ما كان أولها؟
قالت: إن الشبان والرجال علمٌ يجب أن تعلمه الفتاة قبل أوان الحاجة إليه. ويجب أن تقرَّ في ذهن كل فتاة أن هذه الدنيا ليست كالدار فيها الحب، ولا كالمدرسة فيها الصداقة، ولا كالمحل الذي تبتاع منه منديلاً من الحرير أو زجاجة من العطر فيه إكرامها وخدمتها
وأساس الفضيلة في الأنوثة الحياء. فيجب أن تعلم الفتاة أن الأنثى متى خرجت من حيائها وتهجمت، أي توقحت، أي تبذلت، استوى عندها أن تذهب يميناً أو تذهب شمالاً، وتهيأت لكل منهما ولأيهما اتفق. وصاحبات اليمين في كنف الزوج وظل الأسرة وشرف الحياة. وصاحبات الشمال ما صاحبات الشمال. . . . .؟
قلت: هذا هذا؛ إنه الحياء، الحياء لا غيره. فهل هو إلا وسيلة أعانت الطبيعة بها المرأة لتسمو على غريزتها متى وجب أن تسمو فلا تلقى رجلاً إلا وفي دمها حارس لا يغفل. وهل هو إلا سلب جمعته الطبيعة إلى ذلك الإيجاب الذي لو انطلق وحده في نفس المرأة
لاندفعت في التبرج والإغراء وعرض أسرار أنوثتها في المعرض العام. . . .؟
قالت: ذاك أردت، فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق، فلا تعدنه من فرط الجمال بل من قلة الحياء
واعلم أن المرأة لا تخضع حق الخضوع في نفسها إلا لشيئين: حيائها وغريزتها
قلت: يا عجباً! هذا أدق تفسير لقول تلك المرأة العربية: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. فإن اختضعت المرأة للحياء كفت غريزتها
قالت: وجعلها الحياء صادقة في نفسها وفي ضميرها، فكانت هي المرأة الحقيقية الجديرة بالزوج والنسل وتوريث الأخلاق الكريمة وحفظها للإنسانية
قلت: ومن هذا يكون الإسراف في الأنوثة والتبرج أمام الرجال كذباً من ضمير المرأة
قالت: ومن أخلاقها أيضاً. ألا ترى أن أشد الإسراف في هذه الأنوثة وفي هذا التبرج لا يكون إلا في المرأة العامة. . .؟
قلت: والمرأة العامة امرأة تجارية القلب. فكأن المسرفة في أنوثتها وتبرجها، هذه سبيلها فهي لا تؤمن على نفسها
قالت: قد تؤمن على نفسها، ولكنها أبداً مومس الفكر في الرجال فيوشك ألا تؤمن. وهي رهن بأحوالها وبما يقع لها، فقد يتقدم إليها الجريء وقد لا يتقدم، ولكنها بذلك كأنها معلنة عن نفسها أنها (مستعدة ألا تُؤْمَن). . . .
قال (ح): لكن يقال إن المرأة قد تتبرج وتتأنث لترى نفسها جميلة فاتنة، فيعجبها حسنها، فيسرها إعجابها
قالت: هذا كالقول إن أستاذ الرقص الذي رأيته هنا، ينظر إلى نفسه كما ينظر رجل إلى راقصة تتأود وتهتز وتترجرج. إن هذا الرقاص فيه الحركة الفنية كما هي حركة ليس غير؛ فهو كالميزان أو القياس أو أي آلات الضبط. أما فتنة الحركة وسحرها ومعناها من المرأة الفاتنة في وهم الرجل المفتون بها؛ فهذا كله لا يكون منه شيء في أستاذ الرقص وإن كان أستاذ الرقص
إن أجمل امرأة تبصق بفمها على وجهها في المرآة، إذا محي الرجل من ذهنها، أو لم يطل بعينيه من وراء عينيها، أو لم تكن ممتلئة الحواس به، أو بإعجابه، أو بالرغبة في إعجابه.
فمهما يكن من جمال هذه فإنها لا ترى وجهها حينئذ إلا كالدنيا إذا خلت من العدل. . .
قلت: ولكنا أبعدنا عن (قصة هذه الحياة ما كان أولها؟)
قالت: سأفعل ذلك لموضعك عندي. إن قصتي في الفصل الأول منها هي قصة جمالي؛ وفي الفصل الثاني هي قصة مرض العذراء؛ وفي الفصل الثالث هي قصة الغفلة والتهاون في الحراسة؛ وفي الفصل الرابع هي قصة انخداع الطبيعة النسوية المبنية على الرقة وإيجاد الحب وتلقيه والرغبة في تنويعه أنواعاً للأهل والزوج والولد؛ ثم في الفصل الخامس هي قصة لؤم الرجل. كان محباً شريفاً يقسم بالله جهد أيمانه، فإذا هو كالمزور والمحتال واللص وأمثالهم ممن لا يعرفون إلا بعد وقوع الجريمة.
ثم سكتت هنيهة، فكان سكوتها يتم كلامها. . .
وقال (ح): فما هو مرض العذراء الذي كان منه الفصل الثاني في الرواية؟
قالت: كل عذراء فهي مريضة إلى أن تتزوج؛ فيجب أن يعلمها أهلها أن العلاج قد يكون مسموماً؛ وينبغي أن يحوطوها بقريب من العناية التي يحاط المريض بها، فلا يجعل ما حوله إلا ملائماً له، ويمنع أشياء وإن أحبها ورغب فيها، ويكره على أشياء وإن عافها وصدف عنها
قال (ح): فيكون القانون الاجتماعي تصديقاً للقانون الديني من أن الذكورة هي في نفسها عداوة للأنوثة، وأن كل رجل ليس ذا رحم محرم يجب أن يكون مرفوضاً إلا في الحالة الواحدة المشروعة وهي الزواج
قالت: فتكون المشكلة الاجتماعية هي: من ذا يرغم الذكورة على هذه الحالة الواحدة المشروعة كيلا تضيع الأنوثة؟
قال: ولكن إذا كان سقوط الفتاة هو جناية (الزواج المزور) فما عسى أن يكون سقوط بعض المتزوجات؟
قالت: هو جناية (الزواج المنقح). . . . تريد أنفسهن الخبيثة تنقيح الزوج؛ والمومسات أشرف منهن إذ لا يعتدين على حق ولا يخن أمانة
ورف على وجهها في هذه اللحظة شعاع من الشمس كان على جبينها كصفاء اللؤلؤ، ثم تحول على خدها كإشراق الياقوت؛ ورأتني أتأمله فقالت: أنا منتشية بحظي في هذه
الساعات؛ وهذا الشعاع إنما جاء يختم نورها
ثم كانت السخرية العجيبة أنها لم تتم كلمة النور حتى جاء حظها الحقيقي من حياتها. . . . وهو رجل يتحظَّاها؛ فلما أخذته عينها ابتسمت له ابتساماً من الذل لو لم تجعله هي ابتساماً لكان دموعاً. ثم وقفت وما تتماسك من الهم، كأنها تمثال (للجمال البائس). ثم سلّمت وودعت. وبعد (واواتٍ) أخرى. . . مشت ساكنة ومرآها يضج ويبكي
فوداعاً يا أوهام الذكاء التي تلمس الحقائق بقوة خالقة تزيد فيها!
ووداعاً يا أحلام الفكر التي تضع مع كل شيء شيئاً بغيره!
ووداعاً يا حبها. . . . . . . . . . . . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
أحلام السلام
وكيف انهارت في خمسة عشر عاماً؟
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان حلماً لم يطل أمده أكثر من خمسة عشر عاماً؛ ذلك هو حلم السلام الذي توهمت أوربا وتوهم العالم أنه سينعم في ظله حقبة من الزمن تكفي لبرء ما أثخنه من جراح، وما أصابه من استنفاد وتخريب وتحطيم. وقد لاح للإنسانية مدى حين أنها تستقبل عصراً جديداً من السلام والإخاء الدولي والتفاهم الحسن، واعتقدت الشعوب مدى حين أن قيام عصبة الأمم، وعقد مواثيق التحكيم، والتبشير بنزع السلاح، إنما هي عناصر جديدة في بناء العالم الجديد، وإنها الدعائم الأولى لصرح سلام جديد لا تزعزعه الشهوات القومية والنزعات الحربية؛ واستمر هذا الحلم يسطع حيناً ويخبو حيناً، زهاء عشرة أعوام، وبلغ ذروة قوته وروعته حينما عقد ميثاق تحريم الحرب الأمريكي، ونص فيه على أن الحرب قد حرمت كأداة للسياسة القومية، وتعهدت الدول بألا تلجأ في تسوية منازعاتها لغير التفاهم والتحكيم
ولكن حلم السلام تبدد فجأة، فرفعت عصبة الأمم قناعها المموه، وانهار مؤتمر نزع السلاح، وظهر أن ميثاق تحريم الحرب لم يكن أكثر من قصاصة ورق، واختفت أصوات الساسة الذين يستظلون بأحاديث السلام، وعلت كلمة الداعين إلى التسليح، وإلى تحطيم المعاهدات القديمة، وإلى الانتصاف القومي، وإلى تحقيق المطامع الاستعمارية. ولم يكن هذا التحول مفاجأة لأولئك الذين يعرفون سير التاريخ، ويستشفون طرف الحقيقة من وراء المظاهر الخادعة، ولكنه كان بالطبع مفاجأة أليمة للشعوب الآمنة التي ما زالت تحتمل على كاهلها كل عبء وكل تضحية في سبيل الشهوات السياسية والقومية، والتي ما زالت ترتجف فرقاً لذكريات الحرب الكبرى
كان مؤتمر الصلح الذي عقد في فرساي بين مارس ويونيه سنة 1919، أعظم مؤتمر دولي شهده التاريخ، وكانت معاهدة الصلح التي تمخض عنها هذا المؤتمر أعظم معاهدة عقدت بين الأمم، وأوسعها مدى، وأبعدها أثراً في سير التاريخ وفي تغيير أوضاع العالم الحديث؛ بل كانت معاهدة فرساي في الواقع دستوراً جديداً للعالم، تغير كثيراً من معالمه الجغرافية والتاريخية، وتقرر حدوداً جديدة، وتنشئ أمماً ودولاً جديدة، وتقضي على أمم ودول أخرى
بالاختفاء من خريطة أوربا. ولم يكن ذلك لأن هذه الدول الجديدة أكثر حقاً في الحياة من الدول المختفية، أو لأن قيامها يكون أكثر تحقيقاً للعدالة الدولية وسير التاريخ، ولكن لأن قيامها يحقق شهوات عسكرية وسياسة للدول الظافرة، ولأن اختفاء الأمم القديمة يقضي على وحدات سياسية وعسكرية ضخمة كانت تخشاها الدول الظافرة. وقد عرف التاريخ الحديث كثيراً من هذه المعاهدات والمؤتمرات الدولية الكبرى التي كانت تغير معالم أوربا، وتفتتح في تاريخها عصراً جديداً، فمعاهدة وستفاليا التي اختتمت بها حرب الثلاثين في سنة 1648، ومؤتمر فينا الذي عقد في سنة 1814 لتسوية المشاكل والتغييرات التي أحدثتها الحروب النابوليونية، ومؤتمر برلين الذي عقد على أثر الحرب التركية الروسية (سنة 1878)، والذي أسفر عن تمزيق الدولة العثمانية القديمة، وسلخ معظم أملاكها الأوربية، كلها أمثلة من هذه المؤتمرات الشهيرة الحاسمة ذات الأثر البعيد في مصاير التاريخ والأمم؛ ولكن مؤتمر فرساي كان أعظمها جميعاً وأبعدها أثراً
وقد ظن العالم بعد أن شهد مصائب الحرب وويلاتها المروعة مدى أربعة أعوام، إنه يستطيع أن يعتصم من خطر الحرب بدروسها وعبرها الأليمة، وإن ما لقيته من فظائعها وأهوالها في هذه الفترة السوداء من تاريخ الإنسانية، كفيل بأن يزهدها في الحرب وخوضها أمداً طويلاً؛ وقامت عصبة الأمم لتكون أداة صلح وتفاهم بين الدول المتنازعة، ونظم مؤتمر نزع السلاح ليعمل على تحديد التسليح إلى الحد الذي يتفق مع السلامة القومية، وعقد ميثاق لوكارنو ليكون دعامة في صرح التفاهم بين أعداء الأمس، ولقرب ما بين فرنسا وألمانيا، وعقدت بين مختلف الدول مواثيق بعدم الاعتداء، وكللت دعوة السلام بعقد ميثاق تحريم الحرب، وغمرت صيحة السلام والتفاهم جو السياسة العالمية مدى حين؛ ولكن هذه المظاهر الخلابة لم تك إلا ستاراً خادعاً تضطرم من ورائه ضرام الأحقاد والمنافسات القومية الخالدة؛ فقد كانت الأمم الظافرة والمغلوبة معاً تجد في مضاعفة تسليحها وأهبتها العسكرية، وكانت المعاهدات والمحالفات السرية تعقد كما كانت تعقد من قبل، وتؤلف من الدول جماعات وكتل خصيمة مثلما كانت بالأمس؛ وكانت عصبة الأمم أثناء ذلك تنحدر شيئاً فشيئاً إلى أداة لينة في يد الدول الكبرى توجهها لتحقيق مآربها السياسية أو الاستعمارية؛ وهكذا وقف العالم فجأة على الحقيقة المرة، وهي أن هذه الخمسة عشر عاماً
التي انقضت على خاتمة الحرب الكبرى لم تكن إلا فترة استعداد واستجمام، تستعيد فيها الدول نشاطها وتنظم اهباتها ومواردها، تحفزاً لحرب أخرى
وكما أن الحرب الكبرى كانت فورة المطامع والأهواء الاستعمارية والمنافسات التجارية والصناعية، فكذلك ستكون حرب الغد؛ وقد ظهرت بوادرها الأولى، بل لقد أضرمت شرارتها الأولى بذلك الهجوم البربري الذي نظمته إيطاليا عن عمد وسبق إصرار لغزو الحبشة؛ وليس في تاريخ الاستعمار كله اعتداء دبر بمثل هذا الإصرار الآثم والصراحة المثيرة، وإن كان تاريخ الاستعمار كله يقوم على العدوان والجريمة؛ وهذه الشرارة التي تضرمها إيطاليا الفاشستية تسطع الآن في أرجاء أوربا، وقد يندلع لهيبها بين آونة وأخرى؛ ولكن إيطاليا الفاشستية تتحدى أوربا كلها والعالم كله، ولن يضيرها أن تضطرم أوربا غداً بنار حرب عامة؛ ذلك أنها تذهب بعيداً في الاعتداد بقوتها واستعدادها وما تثيره فكرة الحرب من الذعر والروع، وقد أخذت بنفس الأحلام القيصرية التي أخذت بها العسكرية البروسية في الحرب الكبرى. ولقد كانت الفاشستية منذ قيامها بالنسبة للمثل الإنسانية العليا عاملاً من عوامل الدمار والهدم، فقد هدمت صرح الديموقراطية والنظم الحرة والكرامة الفردية ومبادئ العدالة الخالدة، وجعلت من الشعب كتلة مصفدة مسوقة، تدفعها إرادة الطغيان المسلح إلى حيث لا تعلم ولا تبغي؛ والفاشستية تنزع بطبيعتها إلى العنف والعدوان ولا تعتمد إلا على القوة الهمجية، كما أنها لا تخضع لغير هذه القوة؛ وهي تجوز الآن في إيطاليا - وفي ألمانيا - ذروة تجاربها ومغامراتها؛ وسنرى ما إذا كان هذا الاندفاع الدموي الذي تصوره عقلية الفاشستية العنيفة في صور العظمة والمجد القيصري، سيغدو قبراً للفاشستية أم سيحقق شيئاً من مطامعها وأحلامها
وهكذا تطورت فكرة الحرب والسلام بسرعة، وعادت فكرة الحرب كأداة للسياسة القومية تتخذ مكانتها الخالدة في تفكير الأمم القوية؛ ولم تكن فكرة السلام العام سوى حلم وخدعة، استظلت بها الدول الظافرة حتى تستر نصرها وتفوقها المسلح، واستظلت بها الدول المغلوبة حتى تستأنف استعدادها وتسلحها؛ ولم يكن من المعقول أن يبقى الظافر متغلباً إلى الأبد، ولم يكن من الممكن أن يبقى المغلوب ضعيفاً مهيضاً إلى الأبد؛ والآن نجد أعداء الأمس - الغالب والمغلوب - وجهاً لوجه، يلوح كل منهما بقوته واستعداده، ويفصح عن
مطامعه وغاياته التي كان يسترها بالأمس لضعف في أهبته؛ نرى ألمانيا بعد أن استعادت حريتها في التسليح وأخذت تستأنف أهبتها العسكرية، تطالب بتعديل حدودها واسترداد مستعمراتها؛ ونرى فرنسا تعمل بكل ما وسعت لمضاعفة أهباتها وتوطيد الجبهة التي حشدتها ضد ألمانيا، ونراها لا تحجم في هذا السبيل عن مناصرة إيطاليا في مشروعها الدموي لافتراس الحبشة، لكي تستبقي صداقتها وعونها ضد ألمانيا في الغد المرتقب، ونرى حمى الحرب تسري إلى جميع أرجاء أوربا، والدول جميعاً تأخذ أهبتها لمعركة عامة لم يبق على نشوبها إلا مسألة زمنية، وقد تنشب في أية لحظة في أسابيع أو أشهر قلائل
والخلاصة أن العالم، بعد أن تبدد حلم السلام الزائف يجد نفسه في نفس الحالة النفسية والواقعية التي كانت في سنة 1914؛ وبعد أن كان حديث الحرب قبل عامين أو ثلاثة يعتبر مسألة بغيضة بعيدة الاحتمال، إذا بشبح الحرب الأوربية يحلق في الأفق واضحاً قوي النذير، وليس من ريب في أن الفاشستية تحمل كثيراً من تبعة هذا التطور الدولي الخطر؛ ولقد كان انهيار الديموقراطية في إيطاليا وألمانيا وغيرهما محنة بعيدة الأثر؛ ذلك أن الديموقراطية أكثر إيماناً بمبادئ السلام والإنسانية؛ وأما الفاشستية وزعامتها الغاشمة فلا تؤمن إلا بالقوة العنيفة، ولا تؤمن بحق الفرد أو الأمة، ولا تسيرها سوى العوامل والشهوات الحزبية والمذهبية الضيقة؛ وقد عملت الفاشستية باستمرار على إذكاء الأحقاد الجنسية والقومية، وعلى إضرام روح العدوان والحرب، وإضرام المطامع والمنافسات القديمة التي كانت من أكبر العوامل في إثارة الحرب الكبرى، فهي اليوم تحمل أكبر تبعة في خلق هذه العقلية العسكرية المتحفزة التي تعمل لإشعال نار الحرب بكل ما وسعت من جرأة واستهتار بكل مبادئ الحق والسلام
إن التاريخ يعيد نفسه بصورة واضحة؛ ولقد كانت القوة وما زالت خلال العصور عماد السياسة القومية؛ وليس التاريخ كله سوى مراحل متعاقبة من نضال قومي لا تفوَّق فيه لغير القوة الغاشمة، ولم يتقدم العالم خطوة في هذا المعنى عما كان عليه في العصور الوسطى؛ ولقد كان ممكناً أن تكون عصبة الأمم ومبادئها رمزاً للتقدم في تقدير الحقوق القومية والسلام العالمي، لو لم تعرض العصبة منذ بدايتها لتأثير نفس الأهواء بوسائل وأسماء أخرى،، ولو لم تنابذها دول قوية كاليابان وألمانيا، لأنها لم تستطع أن تؤثر في توجيهها؛
وهاهي ذي عصبة الأمم تواجه قدرها المحتوم، فإما أن تستطيع بكثير من الشجاعة والجرأة أن تضرب على أيدي أولئك الذين عبثوا بمبادئها واجترأو على تعكير السلم، وأن تنفذ ما اتخذته أخيراً من القرارات الحازمة، وعندئذ تسترد كل ما فقدت من هيبة، وترد إلى الشعوب الضعيفة شيئاً من الأمل، وكثيراً من الثقة؛ وإما أن يخونها التوفيق مرة أخرى، فينهار آخر حجر في صرح التفاهم الدولي، وتنطلق الشهوات القومية من عقالها سريعة لا تلوي على شيء، وعندئذ يضطرم العالم مرة أخرى بضرام حرب يعلم الله وحده مداها ومبلغ هولها وروعتها
محمد عبد الله عنان
فريزر ودراسة الخرافة
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
تتمة
تخير فريزر أربعة من النظم الاجتماعية ليبين ما للخرافة من أثر في نشأتها وتكوينها. وهي: الحكومة، والملكية الفردية، والزواج، واحترام الحياة الإنسانية. فأثبت في وضوح أن الخرافة ساعدت على تأييد الحكومة وبسط نفوذها، وكانت عاملاً قوياً من عوامل الأمن والنظام. وثبتت كذلك دعائم الملكية الشخصية وصيرتها مقدسة بحيث أصبحت في مأمن من السلب والعدوان، واستطاع أصحابها أن ينتفعوا بها تمام الانتفاع. وحاربت الزنا والزناة فدفعت الناس إلى الزواج وحببتهم في الحياة الأسرية. ثم صورت الخرافة أخيراً الموتى والقتلى في صورة أشباح عظيمة الهول وأرواح تنتقم ممن اعتدى عليها، فكان في هذا ما صرف الناس عن سفك الدماء ودفعهم إلى احترام الحياة الإنسانية؛ وهذه النظم الأربعة هي عماد البناء الاجتماعي بأسره، إذا اضطرب واحد منها اضطربت له الجمعية كلها. فكأن الخرافة لم تؤثر في بعض النظم الاجتماعية فحسب، بل أثرت في عناصر الحضارة والتقدم على اختلافها. هي شر جاء من طريقه خير كثير، وخطأ في ذاتها إلا أنها هدت الناس إلى صواب عظيم. وليس يعني الجمعية أن تكون مدفوعة إلى الخير ببواعث خيرة بقدر ما يعنيها أن تصل إلى هذا الخير من أي طريق كان وكيفما كانت الدوافع. والأفراد أنفسهم لا يخرجون عن هذا القانون ولا يتعدون هذا النظام، إذ ما دامت أعمالنا طيبة، فليس يعني الغير كثيراً أن تكون نوايانا صالحة. ولئن ملأت الخرافة أدمغة الناس بخزعبلات لا حصر لها وقادتهم إلى أخطر الويلات، لمن الظلم أن ننسى أياديها في الترفيه عن الإنسانية والدفاع عن المجتمع. وكفاها إحساناً أنها هيأت للعجزة، والضعفاء، والجهلة، وناقصي العقول وسيلة من وسائل العمل الصالح وسلكت بهم سبل الخير. فهي كالعود قد ينقذ غريقاً، أو كالفنار الضئيل الذي، وإن لم يتجاوز ضوءه ظله، يهدي كثيراً من المارة وعابري السبيل
تابعنا فريزر في المقالات السابقة، وسرنا وراءه خطوة خطوة رجاء أن نعرض صورة كاملة من آرائه وأبحاثه. وعلّ القارئ قد تبين في هذه الصورة غزارة مادة العالم الإنجليزي وسعة إطلاعه وتمكنه من موضوعه. فهو لا يكتفي بأن يدرس ظاهرة من الظاهر الاجتماعية لدى قبيلة أو شعب أو طائفة، وإنما يستقري الشعوب ويتتبع الجمعيات على اختلافها: فمن زنوج إفريقية إلى هنود أمريكا، ومن متوحشي استراليا إلى سكان الهند والصين، ومن القبائل الهمجية إلى الأمم المتحضرة، ومن العصور القديمة إلى التاريخ المتوسط والحديث. تشهد أمثلته، فوق غزارتها، وحسن اختيارها، بدقة الملاحظة والتعمق في البحث. هذا إلى خيال رائع، وأسلوب جذاب، وأحكام متواضعة لا زهو فيها ولا ادعاء، ولا مبالغة، ولا تهويل، قد أملتها دراسة هادئة، واستنبطتها عقلية متزنة. ويكفي للبرهنة على ذلك أن نسرد الفقرة التالية التي ختم بها فريزر بحثه إذ يقول:(هاكم، سيداتي وسادتي، دفاعي عن الخرافة الذي قد يعرض تخفيفاً عن هذا المتهم الساقط حين يقف بين يدي القضاة، ومع هذا سيحكم عليه بالإعدام لا محالة؛ غير أن هذا الحكم لن ينفذ في جيلنا الحاضر، وسيبقى موقوف التنفيذ إلى أجل بعيد. وما أنا إلا محام - لا خصم - يتقدم إليكم الليلة. وقد كانت محكمة أثينا العليا لا تقضي في الجنايات إلا ليلاً، لهذا تخيرت الليل للدفاع عن سلطان الظلام. والآن، ونحن في ساعة متأخرة، يجدر بي أن أختفي مع موكلي الأشأم قبل أن يصيح الديك، ويبدو ضوء الفجر الرمادي في الأفق)
وفي دراسة فريزر للخرافة ناحية أخرى جديرة بالتقدير، ذلك أنه أخذ على عاتقه نصرة قضية يتبادر إلى الذهن بطلانها. يكاد يجمع الناس على أن الخرافة مبعث شر ومثار فتنة؛ ويأبى فريزر إلا أن يخرج على هذا الإجماع معلناً أن في باطن هذا الشر خيراً عظيماً وأن الخرافة أساس النظم الاجتماعية الهامة. وقد نجح نجاحاً كبيراً في إثبات دعواه والبرهنة على ما كان يرمي إليه. بيد أنه لا يفوتنا أن نلاحظ أن ما يسميه فريزر خرافة هو في رأى معتنقيه دين وعقيدة. فالهمجي يخضع للملوك والحكام خضوع الموقن بسلطانهم الخارق للعادة وهيبتهم الصادرة عن السماء، ويؤمن بأن مال سيده ورئيسه مقدس فلا يمسه بسوء، ويعتقد أن الزنا مجلبة للصواعق والجدب والقحط فلا يقربه، ويخشى الأرواح والأشباح خشية الواثق من وجودها فلا يقتل نفساً ولا يسفك دماً. ولو خالجه الشك يوماً في هذه
المعتقدات ما انقاد لها، ولو جال بخاطره أنها تمت إلى الخرافة بصلة لنبذها نبذ النواة. نعم إن من الديانات ما هو حق ومنها ما هو باطل؛ ولكن الفكرة، صواباً كانت أم خطأ، متى اكتست بكساء الدين أضحت قوة هائلة وأثرت في المجتمع تأثيراً نافعاً. ولو لم يكن للأديان إلا هذا النفوذ في قيادة الشعوب والتأثير في الجماهير لكفى في نصرتها والاستمساك بها
ونستطيع أن نأخذ على فريزر - فوق هذا - عنايته بالأمثلة وتعلقه بالحوادث الجزئية أكثر من بحثه عن القواعد الشاملة والقوانين العامة. وهذا نقد يصدق على مدرسة الاجتماع الإنجليزية الحديثة بأسرها التي قامت أعمالها أولا وبالذات على الرحلة والمشاهدة دون أن تعير النظريات والضوابط اهتماماً كبيراً، وقد جارها فريزر في هذا التيار. انظر أي كتاب من كتب سبنسر أو وسترمرك أو تيلور الاجتماعية مثلاً تجد أنك تنتقل من مشاهدة إلى مشاهدة ومن مثال إلى آخر، وقل أن تظفر بقضية عامة أو أصل ثابت. نحن لا ننكر أن هذه الطريقة أفادت علم الاجتماع مادة غزيرة وثروة طائلة، إلا أن هذه المادة لم تهيأ بعد للتغذية، وهذه الثروة لما تستثمر. هي مادة أولية (خام)، إن صح هذا التعبير، في حاجة إلى من يستخلص منها روحها وما حوت من أسرار. وقد فطن علماء الاجتماع الفرنسيون - وهم أبعد الناس عن السفر وأرغبهم عن الرحلة - إلى هذا النقص فكملوه، واستغلوا التجارب والمشاهدات الإنجليزية استغلالاً حسناً، وصاغوا المعلومات الاجتماعية في القوالب العلمية الحق. فإذا كان علم الاجتماع مديناً لرحالة الإنجليز والأمريكان بما فيه من مشاهدات جزئية وحوادث واقعية، فإن الفضل في كثير من نظرياته وقوانينه يرجع إلى المدارس الفرنسية
ومهما يكن فهناك نقطتان هامتان نخرج بهما من أبحاثنا السابقة في الخرافة، أولاهما خاصة بمصر والشرق في جملته، وتتلخص في أنه يسود هذه الديار قدر وفير من الخرافات أشرنا إليها سلفاً. فالخرافة متوغلة في كثير من معتقداتنا وعباداتنا، في عاداتنا وتقاليدنا، في آرائنا وأفكارنا. وليس معنى هذا أن أوربا خالية من أية خرافة؛ كلا فللغرب خرافات كما للشرق، والجمعيات على اختلافها لا تستطيع أن تتخلى عن مجموعة من الخرافات ترى فيها غذاء لميولها وأحلامها. ولكن مما لا شك فيه أن الخرافة وجدت بين ظهرانينا مرتعاً خصيباً فنمت وترعرعت. وما أجدرنا بأن ندرس خرافاتنا لنعرف أصلها ونشأتها وصلتها
بالخرافات العالمية الأخرى؛ وبذا نستطيع معالجتها أو مطاردتها والتخلص منها. فخرافة (الزار) مثلاً ظاهرة اجتماعية تتطلب دراسة تاريخية مقارنة فيها كثير من بواعث السرور ووسائل التشويق. وما تخيرنا الخرافة بين الأبحاث الاجتماعية الكثيرة إلا لنلفت الأنظار إلى هذه الأرض الخصبة التي لم تستكشف وهذا العمل لم يبدأ فيه بعد
وقد لاحظنا من قبل إجماع بعض القبائل على اعتناق خرافة ما؛ وفي هذا ما يؤذن أن للإنسانية، وإن تنوعت بتنوع البيئة والوسط، تراثاً عاماً يأخذه الخلف عن السلف؛ وأن الإنسان المتحضر ليس إلا صورة مهذبة للإنسان المتوحش. نحن في كثير من آرائنا وعادنا وتقاليدنا عالة على من كان قبلنا، بل تكاد تكون شخصيتنا ونظام تفكيرنا من صنع القرون الغابرة. فلندرس إذن النظم الاجتماعية على ضوء التاريخ إن كنا نريد فهمها على وجهها الصحيح، لا سيما ونحن مخدوعون غالباً بما ألفناه. فكثيراً ما يلبس الشيء في أعيننا لباس العقل والمنطق في حين أنه يعتمد على أساس خرافي وأصل ضعيف. وكم من عمل عادي فردي أو جمعي نقوم به اليوم دون أن نعيره أية أهمية في حين أنه كان بالأمس ذا صلة بعقيدة خاصة أو عبادة محترمة. وقد تنبه علماء الاجتماع المحدثون إلى هذا فشرحوا لنا أموراً ما كنا نفكر في سردها وتعليلها. وعلى الجملة فالإنسانية أشبه ما تكون بشجرة ممتدة الأغصان مترامية الأطراف قد مرت عليها عصور طويلة وأجيال كثيرة، ولا يمكن فهم طبيعتها وفصيلتها والمؤثرات في ثمرتها إلا إن بدأنا بجذورها الأولى وعرفنا كيف نمت وتكونت
إبراهيم بيومي مدكور
دكتور في الآداب والفلسفة
العامية والعربية أيضاً
ألفاظ صحيحة لم لا نستعملها؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لما فتح العرب مصر لم تكن العربية لغة البلاد، وإنما كانت لغة القوم خليطاً من المصرية القديمة والإغريقية والرومانية وغيرها، ثم أخذت العربية تحل محل هذا المزيج، وبدأت مصر بعد رسوخ الإسلام فيها تساهم بحظ في النشاط الذي كانت بغداد مصدره، على خلاف الحال في إفريقية الشمالية، حيث كان انتشار العربية بطيئاً جداً، حتى أنه - إلى القرنين التاسع والعاشر - لم تكن ثم دائرة أدبية تستحق الذكر إلا في القيروان بتونس، على حين كانت مصر قد صارت في القرن التاسع مركزاً لمدرسة تاريخ مستقلة في العالم الإسلامي. ومما ساعد على رسوخ اللغة العربية في مصر ونجاتها من العوامل التي كانت تحدث أثرها في هذه اللغة في آسيا، دخول الفاطميين وقيام دولتهم في مصر، فقد كانوا أنصاراً للعلم والثقافة، ومن أجل آثارهم هذا الأزهر الذي ظل بعد خراب نظائره في أسيا أكبر جامعة إسلامية، ولا يزال كذلك إلى الآن؛ فلا عجب إذا كانت عامية مصر أصح من عاميات الأمم العربية الأخرى وأقرب إلى الفصيح
وقد سقت أمثلة في فصل سابق، وإلى القراء طائفة أخرى من الألفاظ التي يتوهم الكثيرون أنها عامية، وهي صحيحة لا عيب فيها
فمن ألفاظ الطعام والآكال وما إلى ذلك:
النّشا - شيء يعمل به الفالوذج
القطائف - دقيق يعجن قريباً من الميوعة ويخمر ويحشى بالفستق وما إليه ويقلى
المُرَبَّي - معروفة
القَرَاصيا - الثمر المعروف
الزَّلَابْيَةُ - حلواء معروفة
البَسيسة - دقيق يُلتُّ بالسمن ويؤكل ولا يطبخ، أو يطبخ
الكُرُنب، أو الكَرْنَبُ، والقُنَّبيط (تلفظه العامة قرنبيط) والخس، واللفت، والفجل، والكراث، والإسفاناخ، والفول، والحمص، والباذنجان، والعدس، والثوم، والرّجلة، والشبث،
والجرجير، والسلق، واللوبيا، والقلقاس، والكرفس، والقرفة، والدّارصيني، والقرنفل، والكراويا - وهي جميعاً معروفة
قرّصت العجين - بسطته بالتقطيع لتجعله أرغفة
الفرن - ما ينضج فيه الخبز
الطابون - من طبن النار دفنها لئلا تطفأ، والموضع الطابون والعامة في مصر يؤنثون اللفظ
الرُّقاق والكعك - معروفان
قَشَشْتُ الشيء - أخذته بأجمعه
التمطُّق بالشفتين - أن تحدث صوتاً وأنت تضمهما وتفتحهما
الكوز - والجمع كيزان وأكواز
المسعور - الحريص على الأكل
الطبق - ما يؤكل عليه
الرائب - اللبن إذا خثر
الرُّوبة - الخميرة في اللبن
مَخْضُ اللبن - أخذُك زبده
تَجَبّن اللبن - صار كالجبن
الحالوم - الجبن الطري
العُلبة - معروفة
زهمت يدك - صارت فيها رائحة الشحم، والزُّهومة، ريح اللحم السمين إذا أخذ يفسد
ومن ألفاظ البيت التي يستعملها العوام وهي صحيحة:
الدهليز - ما بين الباب والغرف
الرُّواق - يستعمل في مصر للحجرة الكبيرة الواسعة
الصحن - وسط الدار
الرف - معروف
الكنيف - المرحاض
الصفة في البناء - معروفة
الدكة - للقعود
الإسطبل - للدواب
الحارة والشارع والزُّقاق - معروفة
المصطبة - مكان للجلوس
المِدْماك - الصف من الَّلِبن في البناء
الطيّان - الرجل الذي يصنع الطين للبناء
البلاط - الحجارة تفرش بها الأرض
العتلة - حديدة طويلة تقلع بها الحجارة
الزيج، والأمام، خيط البناء
الرَّزَّةُ - حديدة يدخل فيها القفل
الخوخة - الكوة في الجدار أو في الباب
العريش - الظلة من شجر أو نحوه
الحصير - نسيج من القش معروف
النُّخ - بساط خشن معروف
المِخدة - الوسادة للرأس
المسند - الوسادة يُستند عليها
الخُرْجُ - جوالق ذو ناحيتين
الدُّرج - ما تحفظ فيه الأشياء الصغيرة
القنّينة - إناء للشرب
الشباك - النافذة
إن اتخاذ هذه الألفاظ وما إليها، في مواضعها، يمنع التكلف الذي يجعل اللغة غريبة، وينفي ما تقرر في النفوس من أن لنا لغتين: واحدة نكتب بها، والأخرى نستعملها في الكلام
ويأخذ الطريق على الذين يدعون إلى اتخاذ العامية لغة للكتابة، فإن كل حجتهم هي أن العامية هي لغة السواد، وأن العربية أجنبية، ومتى ثبت أنهما شيء واحد، فقد سقطت
الحجة
وليس من همي الاستقصاء، وما أريد إلا أن أنبه إلى أن درس العامية واجب، وأن من العبث والتكلف الذي لا موجب له، أن نبحث عن ألفاظ وهي على ألسنتنا كلما تكلمنا
إبراهيم عبد القادر المازني
النقد والمثال
للأستاذ أحمد الزين
تحدثت إليك في فصل سابق عن البيان اللفظي ومنزلته من الشعر، وأنه من أهم ما تتفاوت به الشعراء في مراتبهم، وتتمايز به درجاتهم، كما تحدثت عن الاختلاف بين لغة الشعر والكتابة والخطابة؛ واليوم أتحدث إليك في المعنى، فإن المعنى هو قوام الشعر، والعنصر الأول من عناصره، بل هو الشعر نفسه؛ وما حرصنا على تحسين الألفاظ وتجميل العبارات إلا ليظهر المعنى في صورة فاتنة تجعل القلوب أشد قبولاً له، وأقوى تأثراً به، وينطبع في أذهان الحفظة والوعاة، ويخلد على ألسنة الرواة؛ فلا ينال منه تعاقب الزمن، ولا تمحوه عوادي المحن؛ وتلك هي ميزة الشعر التي اختص بها من دون النثر، وإلا فقد كان النثر كافياً في تأدية المعنى وإفهام الغرض؛ وكما أن الأصوات الغنائية المعروفة الآن بالأدوار لا تعمل عملها في النفس إذا تليت على الأسماع كما تتلى الرسائل، وألقيت كما تلقى الخطب، بل لابد من جريانها على قواعد الفن الموسيقي الجميل، وأدائها بالصوت العذب الرخيم حتى تبلغ في النفوس أثرها، وتفعل في المشاعر فعلها، فكذلك المعاني الشعرية لابد في تأديتها من حسن الألفاظ، وعذوبة العبارات، وجزالة التراكيب، وقوة النسج واطراده، وما إلى ذلك مما سأذكره بعد في هذه الفصول، ليكون أثرها في القلوب أبلغ، وعملها في النزعات والميول أقوى؛ وكما أن سوء الطبع والتحريف، وكثرة الخطأ والتصحيف، وتعمية الخط، ورداءة الورق في بعض الكتب قد تذهب بما حوت صفحاتها من علم غزير وفضل كثير وبحوث دقيقة وأفكار عميقة، فلا غرابة أن يذهب سوء التأدية وضعف النسج والإبهام في العبارات، والإسفاف في الألفاظ، يما يريده الشاعر من أغراض سامية ومعان جليلة؛ بل إن الصلة بين المعاني والألفاظ أشد وأقوى من الصلة بين الألفاظ والكتابة، إذ المعاني لا تؤدَّى بدون العبارات، وقد تؤدَّى الألفاظ مشافهة بدون كتابة. وقد غفل أو تغافل أو عجز عن ذلك بعض الشعراء في عصرنا، فاعتبروا المعاني كل شيء في الشعر، على ما في معانيهم من الضعف والمسخ وسوء تناولهم إياها، وقصور شاعريتهم عن تحويل المعنى الأصلي إلى معنى شعري، وقلة خبرتهم بكيفية وصفها في الشعر، وما إلى ذلك مما سأحدثك به عند الكلام على المعاني؛ ولم يعنوا بالألفاظ أقل عناية، موهمين
أنفسهم وغيرهم من قصار النظر أن بيان الألفاظ، وإشراق العبارات، ومتانة النسج، والبلاغة في الأسلوب، وإجراء الشعر على سنن الشعر العربي، أنواع من التزيين والتحلية والزخرف الذي مضى عصره، وانقضى زمنه، وذهب به العصر الجديد، ومحته آية التجديد؛ فملئوا الصحف والدواوين بشعر لا صلة بينه وبين الشعر العربي إلا الصلة العروضية في الوزن والقافية؛ علة أن بعضهم قد يتركهما مبالغة في التجديد، محتجاً بأن ذلك نوع من التقييد؛ على أنهم بعد أن أطلقوا الألسنة والقرائح من قيودها المزعومة، لم يأتوا بالمعجب المطرب في معنى ولا لفظ، ولم يبتكروا غريباً في تشبيه ولا خيال، ولم يخترعوا جديداً في تصوير عاطفة ولا إحساس؛ وإنك لتقرأ ديوان أحدهم من ألفه إلى يائه فلا تظفر منه ببيت يعلق بذهنك فتعيده، ولا معنى يملك لبَّك فتستجيده؛ وسبب ذلك يرجع إلى أنهم لم يقرءوا من الأدب العربي القديم ولا من علوم العربية ما يقوّمون به ألسنتهم، ولم يتعلموا من فحول الشعراء المتقدمين ما يهذبون به معانيهم قبل وضعها في قالبها الشعري، ويميزون به بين المعنى الشعري وغيره من معاني الكتابة والخطابة، فإنه مما لا ينازع فيه ذو ذوق فني دقيق أن المعنى الواحد تختلف صوره باختلاف تأديته في هذه الصناعات الثلاث، وأن الشعر والكتابة والخطابة كما تختلف في ألفاظها وعباراتها تختلف في تصوير معانيها وأغراضها، فإن الخطيب لا يعمد في تصوير معانيه إلى خلودها على مر العصور، وبقائها محفوظة في الصدور، ولكن يقصد إلى نوع من الإثارة الوقتية يلهب بها حمية الجمهور إلى ما يريده من الأمور؛ فإذا فترت همم الجمهور بعد ذلك الموقف لجأ إلى خطبة أخرى وهكذا، ففن الخطيب فنٌّ وقتي لا فن خالد، ولذلك لم ينقل الرُّواة إلينا من خطب الأولين ومواقفهم في المخاصمات والمصالحات وفي حضرة الخلفاء والأمراء ما يوازي كله ديواناً واحداً من دواوين الشعراء، ولا مجموعة واحدة من رسائل الكتاب. أما الشاعر والكاتب فإنهما يقصدان في تصوير معانيها إلى خلودها وبقائها؛ والفرق بينهما أن قصد الشاعر إلى تخليد أثره أكثر، وحرصه على بقاء فنه أقوى، فهو يضع في معانيه وألفاظه من جمال التصوير وروعة الفن ما يرى أنه كفيل ببقاء شعره وحياته على الزمن
ولذلك كانت رواية الشعر أشيَع، وما نقل إلينا منه أكثر
وأيضاً فإن الكاتب والخطيب يبالغان في تقرير المعنى وتأكيده في الأذهان بإكثار الأمثلة
وذكر الأشباه والنظائر إلى حدّ الاستقصاء أحياناً؛ أما الشاعر فيقتصر من ذلك على قدر الحاجة، فإن الشعر ضيق لا يحتمل ذلك الطول، بل يراه في بعض الأحيان نوعاً من الفضول. وثم فرق ثالث هو أن الخطيب يراعي في تصوير معانيه أن تكون سطحية بسيطة، قريبة الغور، سريعة إلى الفهم، فإنه يوجهها إلى عقلية بسيطة هي عقلية الجماعة؛ وكما أن هذه العقلية سريعة القياد، فهي سريعة الجموح، لا يؤمن نِفارُها؛ وما أقرب انصرافها وإعراضها عن الخطيب إذا رأت في معانيه ما يكلفها مشقة الفهم وعناء الفكر، ولذلك يعتمد الخطيب في خطبته على الصوت والإلقاء وملابسات الموقف أكثر من اعتماده على غرابة المعنى وعمق الفكر
أما الكاتب والشاعر فيغربان في معانيهما ما شاءا، ويتعمقان في ذلك ما أرادا؛ تلك هي بعض الفروق بين المعاني في الصناعات الثلاث؛ فإذا رأيت في إحدى هذه الصناعات بعض الميزات الغريبة عنها فهي مستعارة من غيرها لا أصلية فيها؛ ولا غرابة في أن ترى الشاعر خطيباً أو كاتباً في قصيدته، ولا أن ترى الكاتب شاعراً أو خطيباً في رسالته، ولا أن ترى الخطيب شاعراً أو كاتباً في خطبته؛ وإنك إذا قرأت شعر ابن الروميّ وجدت فيه كثيراً من تقسيمات الكتاب وتعليلاتهم والاستدلالات المنطقية، والاحتجاجات الملزمة للخصم، كقوله:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
…
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها
…
لأوسع مما كان فيه وأرغد
وقوله يخاطب صديقاً:
وقد حلفنا على الوفاء جميعاً
…
واجتهدنا وذاك جهد المطيق
فبأي الأحكام توجِب تصدي
…
قك حتما ولا ترى تصديقي
وبأي الأحكام قولك برها
…
ن وقولي من خُلّبات البروق
ليس في العدل أن تحكم في قو
…
لك فارجع إلى سواء الطريق
ما من الدعويين إن ضِقت دعوى
…
غير محتاجة إلى تحقيق
ولنا إن رددت ما ندّعيه
…
رَدُّ ما تدعيه، ضيقاً بضيق
وقوله يعاتب صديقاً لم يحفظه في مغيبه وعاب شعره:
لي صاحب قد كنتُ آمل نفعه
…
سبقت صواعقه إليَّ صبيبه
إلى أن قال:
نبئت قوماً عابني سفهاؤهم
…
وشهدت مجلسهم وكنت خطيبه
عبوا وعبتَ بغير حق منطقاً
…
لو طال رميك لم تكن لتصيبه
وهب القضاء كما قضيت، ألم يكن
…
في محض شعري ما يجيز ضريبه
هلا وقد ذُوِّقت دَرَّ قريحتي
…
فذممت حازرَه حمدت حليبه
بل هبْه عيباً لا يجوز، ألم يكن
…
من حق ِخلك أن تحوط مغيبه
وديوانه مملوء بمثل هذا الشعر الذي هو أقرب إلى رسائل الكتاب منه إلى قصائد الشعراء. أما الكتاب الشعراء في نثرهم فمنهم المرحوم أحمد شوقي بك في كتابه أسواق الذهب، والزمخشري في أطواق الذهب، والقاضي الفاضل عبد الرحيم البيسانيّ في رسائله الكثيرة المملوءة بها كتب الأدب
أحمد الزين
الشعر في صدر الإسلام وعهد بني أمية
بقلم أحمد حسن الزيات
شعر الشيعة
ورث علي بن أبي طالب بحكم مولده ومرباه مناقب النبوة، ومواهب الرسالة، وبلاغة الوحي، وصراحة المؤمن، وبسالة المجاهد، فأجمع الناس على إجلاله وكادوا يطبقون على حبه؛ حتى من كتب عنه من الأوربيين قد شاركوا المسلمين في هذه العاطفة، فقد قال فيه الكاتب الإنكليزي كارليل:(أما ذلك الفتى عليّ فلا يسعك إلا أن تحبه؛ ركب الله في طبعه النبل منذ الحداثة، وتجلى في خلاله الكرم طوال عمره، ثم طبعه على العمل ونفاذ الهمة وصراحة البأس، وآتاه سر الفروسية وجرأة الليث، وكل ذلك في رقة قلب وصدق إيمان وكرم فعال تليق بالفروسية المسيحية) ثم سار عليّ في خصومته وخلافته وسياسته على ضوء هذه الأخلاق، فما قارف الأثرة، ولا حاول الفرقة، ولا راقب الفرصة، ولا أثار العصبية، ولا استخدم المال؛ وإنما أخلص النية للعمرين، ومحض النصيحة لعثمان، وأعذر بالحجة لمعاوية؛ ولكن دنيا الفتوح كانت قد أخذت على عهده تتجاهل دين البساطة والزهد، ولم تعد السياسة الدينية وحدها قادرة على كبح النفوس المفتونة بمال معاوية في الشام، وثراء الرافدين في العراق، فانتشر أمره، وانصدعت خلافته، ثم قتل مظلوماً في محرابه؛ فكان محياه ومماته تاريخاً دامياً للفضيلة المعذبة والنفس المطمئنة الشهيدة. ثم ورّث بنيه وأهليه ذلك العزم الثائر وهذا الجد العاثر، فدب الموت للحسن سراً في كأس مذعوفة، وقتل الحسين قتلة لا يزال يرعد من هولها الدهر
وتلاحقت الفواجع الأموية فصرع زيد وقتل يحيى، وافتنَّت المنايا الرواصد في اختلاج بني عليّ، وهم يقابلون هول الغوائل الظاهرة والباطنة بالشجاعة والصبر والاحتساب، وحتى أسفرت حول وجوههم طفاوة من التنزيه والتقديس، وتخللت محبتهم قلوب المسلمين، ولا سيما الشيعة. فإن ندم هؤلاء على خذلانهم إياهم، وألمهم لما رأوا من اضطهادهم وأذاهم، رفعا في نفوسهم ذلك الحب حتى أشرفا به على مقام العبادة؛ ثم ظهر ذلك الحب في صور من العقائد: فقالوا بالوصية، وجعلوا الإمامة من أصول الدين، وحصروها في عليّ وبنيه، وطعنوا في إمامة الشيخين. ولم يتهيأ لهم السلطان، ولم تسعفهم القدرة، فاعتمدوا على
استمالة القلوب وترقيقها بالبكاء والندب، وتصوير الآلام، وإعلان الفضائل، فاصطبغ شعرهم بالحزن العميق، والرثاء النائح، والمدح المبتهل، والعصبية الحاقدة. على أن هذه الخصائص لم تكن واضحة في شعر أوائل الشيعة وضوحها في شعر الأواخر منهم، فإن تغلغل الفكرة في أصل العقيدة، وتنكيل الحاكمين بآل البيت، واضطهاد الولاة للشيعة، إنما تدرجت قسوةً وقوة مع الزمن، فضلاً عن قلة شعراء الشيعة في هذا العصر لإفساد الأمويين الضمائر بالحديد والذهب؛ فشعرهم بدأ ولاءً صادقاً، ومدحاً خالصاً، وهجاء مراً، ثم اشتد فصار مفاضلة جريئة، ومعارضة شديدة، ومناقشة فقهية، ودعاية حزبية. ولعل ذلك يتجلى لك فيما ذكرناه وفيما سنذكره من الأمثلة. فمن التعبير عن العاطفة القوية الساذجة قول أبي الأسود الدؤلي:
يقول الأرذلون بنو قشير
…
طوال الدهر لا تنسى عليّا!
ينو عم النبي وأقربوه
…
أحبُّ الناس كلهم إليّا
أُحِبهمُ كحبّ الله حتى
…
أجيء إذا بُعثت على هَويا
فإن يك حبهم رشداً أُصِبْهُ
…
ولست بمخطئ إن كان غيّا
ومن المدح والمفاضلة قول أيمن بن خزيم الأسدي:
نهاركمُ مكابدة وصوم
…
وليلكُم صلاةٌ واقتراء
أأجمعكم وأقواماً سواءً
…
بينكُم وبينهم الهواء؟
وهم أرض لأرجلكم وأنتم
…
لأرْؤسِهمْ وأعينهمْ سماء
ومن الهجاء قول ابن مفرغ الحميري:
ألا أبلغ معاوية بن صخر
…
مغلغلةً من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عفٌّ
…
وترضى أن يقال أبوك زاني؟
فأشهد إن رحمك من زيادٍ
…
كرحم الفيل من ولد الأتان
وأشهد أنها ولدت زياداً
…
وصخر من سُمَيّة غير داني
وقول عبد الله بن هشام السلولي في يزيد بن معاوية:
حُشينا الغيظ حتى لو شربنا
…
دماء بني أمية ما روينا
لقد ضاعت رعيتكم وأنتم
…
تصيدون الأرانب غافلينا
ومن المناقشة الجدلية قول الكميت في الخلافة:
يقولون لم يورث ولولا تراثه
…
لقد شَركت فيه بجيلٌ وأرحبُ
ولا انتشلت عضوين منها يُحابرٌ
…
وكان لعبد القيس عضو مؤَرّب
فإن هي لم تصلح لحي سواهمُ
…
إذن فذوو القربى أحق وأقرب
فيالك أمراً قد تشتَّت جمعُه
…
وداراً ترى أسبابها تتقضب
تبدلت الأشرار بعد خيارها
…
وجُدَّ بها من أمة وهي تلعب!
ويكاد الكميت بن زيد الأسدي بقصائده الهاشميات يكون الشاعر الفذ لبني هاشم؛ فقد مدحهم واحتج لهم ودافع عنهم بلسان صادق واعتقاد خالص ونفس جريئة وقريحة سمحة. ولما أهدر هشام بن عبد الملك دمه لجأ على ما أُرجح إلى التَّقَّية في شعره على عادة الشيعة، فقال من كلمة يمدحه فيها:
فالآن صرتُ إلى أميّة والأمور إلى المصائر
يا ابن العقائل للعقا
…
ئل والجحاجحة الأخاير
من عبد شمس والأكا
…
بر من أمية فالأكابر
لكم الخلافةُ والألا - ف برغم ذي حسد وواغر
ومهما يقل الكميت فإن عاطفة شعراء الشيعة ستظل كما قلنا مكظومة بالطمع والخوف حتى تنبجس في عهد بني العباس نفثات غيظ، وحسرات حزن، وعبرات ألم، في شعر السيد الحميري، ودعبل الخزاعي، وديك الجن، ومطيع بن إياس، وأبي الشيص، والعكوّك، وأضرابهم
شعر الخوارج
وأما الخوارج - وجمهرتهم من البدو الجفاة والسذج - فقد قام أمرهم على الصلابة في الرأي، والمكابرة في القول والاشتطاط في الحكم، والتشدد في الدين، والغلو في العبادة، والقسوة في المعاملة، والاعتماد على الحرب. شايعوا عليّا وآزروه حتى قبل التحكيم، فقالوا له: حكّمتَ الرجال ولا حكم إلا لله! ثم خرجوا عليه وأبوا أن يرجعوا إليه إلا إذا أقر على نفسه بالكفر، ونقض ما عاهد معاوية عليه، فأبى عليهم ما سألوا، وأوقع بهم يوم النهروان، فزاد ذلك في حنقهم عليه وخلافهم له فائتمروا به واغتالوه. واستعرضوا أعمال الخلفاء
وعقائد الناس، فخطئوا بعضاً وكفَّروا بعضاً؛ ثم ذهبوا إلى أن الخلافة تصح في غير قريش وفي غير العرب، وأن العمل جزء من الإيمان، فحرصوا كل الحرص على أداء الشعائر واجتناب الكبائر، ولاذوا بكور الجبال يدعون جهراً إلى مذهبهم دون مواربة ولا تقية ولا هوادة؛ فكانوا في الدين كما قال صاحبهم أبو حمزة الشاري:(أنضاء عبادة، وأطلاح سهر؛ قد أكلت الأرض أطرافهم، واستقلوا ذلك في جنب الله؛ فإذا كان الجهاد ورعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، ومضى الشاب منهم قُدُماً حتى اختلفت رجلاه في عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه، فإذا أنفذه الرمح جعل يسعى إلى قاتله ويقول: (وعجلت إليك ربِّ لترضى)
وكانوا مع هذا الورع الشديد والخشية البالغة يقسون على مخاليفهم، فلا يرحمون ضعف المرأة، ولا براءة الطفل، ولا شيخوخة الهرم، ولا وشائج الرحم، لأنهم - كما ظنوا - باعوا أنفسهم وأموالهم لله بأن لهم الجنة، فقطعوا أسباب الحياة، وأماتوا عواطف الدنيا، وقاتلوا وقُتلوا في سبيل هذا المذهب وتلك الغاية. وهم لصراحة بداوتهم، وشدة عصبيتهم، وخلوص عقيدتهم، وما تقتضيه دعوتهم من إدمان الحجاج والناظرة، أسلس الناس منطقاً، وأروعهم كلاماً، وأمتنهم شعراً؛ ولكن الشعر كان عندهم في المحل الثاني من الخطابة، لقيام أمرهم على الإقناع والجدل بآيات الله وأحاديث الرسول، وغناء الشعر في ذلك قليل. فإذا ما صمد الخارجي إلى الخصم، أو هجم على الموت، أو وقع في الأسر، جاشت نفسه بمتين الرجز، أو رصين القصيد، يضمنه وصفه للحرب، وولهه للقتال، وزهده في الحياة، واستخفافه بالموت، وشوقه إلى الشهادة، وظمأه إلى الجنة، في لفظ جزل وأسلوب قوي؛ وقلما يدور شعرهم على غير ذلك. فمن الرجز قول أم حكيم:
أحمل رأساً قد سئمت حمله
…
وقد مللت دهنه وغسله
ألَا فتى يحمل عني ثقله!
ومن القصيد قول معاذ بن جوين يحرض قومه وهو أسير:
ألا أيها الشارون قد حان لامرئ
…
شرى نفسه لله أن يترحلا
أقمتم بدار الخاطئين جهالة
…
وكل امرئ منكم يصاد ليُقتلا
فشدوا على القوم العداة فإنها
…
أقامتكُم للذبح رأياً مضللا
ألا فاقصدوا يا قوم للغاية التي
…
إذا ذكرت كانت أبر وأعدلا
فيا ليتني فيكم على ظهر سابح
…
شديد القُصيري دارعا غير أعزلا
فيا رُب جمع قد فللت، وغارة
…
شهدت، وقِرْن قد تركت مجندلا
وقول الطرماح بن حكيم:
لقد شقيتُ شقاءً لا انقطاع له
…
إن لم أفز فوزة تنجي من النار
والنار لم يَنجُ من لهيبها أحد
…
إلا المنيبُ بقلب المخلص الشاري
أو الذي سبقت من قبل مولده
…
له السعادة من خلاقها الباري
وقوله:
وأمسى شهيداً ثاوياً في عصابة
…
يصابون في فج من الأرض خائف
فوارس من شيبان ألف بينهم
…
تُقى الله نزالون عند الزواحف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى
…
وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف
وكقول قَطَرِي بن الفجاءة في يوم دولاب:
فلم أر يوماً أكثر مَقْعصاً
…
يمج دماً من فائض وكليم
وضاربة خداً كريماً على فتى
…
أغر نجيب الأمهات كريم
أصيب بدولاب ولم تك موطناً
…
له أرض دولاب حميم
فلو شهدتنا يوم ذاك وخيلنا
…
تبيح من الكفار كل حريم
رأت فتية باعوا الإله نفوسهم
…
بجنات عدن عنده ونعيم
وقليلاً ما يجادل الخوارج بالشعر ويقارعون بالهجاء، لاعتمادهم في الجدل على الخطابة، وفي القراع على السيف. ومن هذا القليل قول بعضهم في الجدل وقد هزم أربعون منهم ألفين لابن زياد:
أألفا مؤمن فيما زعمتم
…
ويقتلكم بآِسكَ أربعونا
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم
…
ولكن الخوارج مؤمنونا
هي الفئة القليلة قد علمتم
…
على الفئة الكثيرة ينصرونا
وقول عمران بن حطان في هجاء الإمام:
لله در المرادي الذي سفكت
…
كفاه مهجة شر الخلق إنسانا
أمسى عشية غشاه بضربته
…
مما جناه من الآثام عُريانا
وما حمله على ذلك إلا أنه من القَعَدة لضعفه عن الحرب لكبر سنه فجاهد بلسانه
الزيات
من نوادر المخطوطات
أثر أدبي فذ!
اختراع الخراع لصلاح الدين الصفدي
للأستاذ علي الطنطاوي
أطلعني على هذه الرسالة صديقي الشاعر الأديب السيد أحمد عبيد، أحد أصحاب المكتبة العربية العامرة بدمشق الشام، فرأيتها رسالة عجيبة، وتحفة أدبية غريبة، ورأيت فيها فناً من فنون الأدب العربي لا يعرفه الناس ودليلاً على بعد الغاية التي بلغها أدبنا، ورأيت فيها جمالاً ولذة، ووجدت فيها نفعاً وفائدة، فأحببت أن أتحف بها قراء الرسالة، فتكون لهم أفكوهة وللأدب خدمة، بتسجيل هذا الأثر الجميل من آثاره الضائعة في الرسالة (السجل الأدبي الخالد)
صلاح الدين، أبو الصفا، خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي (المتوفى سنة 764) أحد أئمة القلم والأدب في عصره، (مهر في فنّ الأدب، وكتب الخط المليح، وقال النظم الرائق، وألف المؤلفات الفائقة، وباشر كتابة الإنشاء بمصر ودمشق، ثم ولي كتابة السرّ بحلب، ثم وكالة بيت المال بالشام، وتصدى للإفادة بالجامع الأموي، وحدّث بدمشق وحلب وغيرهما. ذكره شيخه الذهبي في المعجم المختص، فقال: الإمام العالم الأديب البليغ الأكمل، طلب العلم وشارك في الفضائل، وساد في علم الرسائل، وقرأ الحديث وكتب المنسوب وجمع وصنف والله يمده بتوفيقه، سمع مني وسمعت منه، وله تآليف وكتب وبلاغة)
قال شيخ الإسلام التاج السبكي:
(خليل بن أيبك) الشيخ صلاح الدين الصفدي الإمام الأديب الناظم الناثر أديب العصر: ولد سنة 696 وقرأ يسيراً من الفقه والأصلين، وبرع في الأدب نظماً ونثراً وكتابة وجمعاً، وعني بالحديث، ولازم الحافظ فتح الدين بن سيد الناس وبه تمهر في الأدب، وصنف الكثير في التاريخ والأدب. قال لي: إنه كتب أزيد من ستمائة مجلد تصنيفاً
ومن مؤلفاته الوافي بالوفيات ويكاد يكون أجمع كتب التراجم. ومن مؤلفاته المطبوعة نكث الهميان في نكت العميان، والغيث المنسجم في شرح لامية العجم، وجنان الجناس في
الأدب، ودمعة الباكي، وتمام المتون في شرح رسالة ابن زيدون (وهي غير الرسالة التهكمية التي شرحها ابن نباته) ووصف الهلال وغيرها
أما هذه الرسالة التي نتكلم عنها، فلم أجد من ذكر أنها له، ولكني لا أشك في أنها إن لم تكن له، فلن تكون إلا لأديب كبير، وعالم متمكن، ولغوي محقق، وهي في شرح بيتين من الشعر. . . شرحهما المؤلف شرحاً مستفيضاً، حلاه بالنكات اللغوية والمسائل النحوية، والطرائف الأدبية، والآراء الفلسفية، وزينه بالحكم الباهرة، والأمثال السائرة، واستشهد على كل مسألة من مسائله بأقوال العرب. . . ولكنه - وتلك ميزة هذا الكتاب - تعمّد ألا يأتي إلا بما هو خطأ محرّف عن أصله، معدول به عن جادة الصواب، ممال به عن سبيل الحق: فلا بيت ينسب إلى صاحبه، ولا كتاب يعزى إلى مؤلفه، ولا مسألة تورد على وجهها، ولا بلدة توضع في موضعها؛ وقد أورد ذلك كله بحذق ومهارة، ولباقة وظرف، حتى أن الرجل ليتلوه فيحس لحلاوة ما يقرأ أنه لا يقرأ إلا حقاً وصدقا، وما فيه من الحق والصدق شيء
ولا يقدر على الخطأ الذي لا صواب فيه، إلا من يقدر على الصواب لا خطأ معه. يحتاج كلاهما إلى علم بمواقع الخطأ ووجوه الصواب، وانتباه وفطنة، واطلاع ومعرفة، كيلا يخلط خطأ بصواب، أو صواباً بخطأ. والرسالة على ما فيها من الهزل والتحريف، تدل على طول باع مؤلفها في علوم اللسان، وعلوم العقل، ووقوفه على آراء الفلاسفة، وآثار الأدباء، ومباحث العلماء، ولا تخلو من فوائد
وهي ناقصة من وسطها وآخرها، والموجود منها (53) صفحة، في كل صفحة (11) سطراً، مكتوبة بخط قريب من النسخي، مضبوط قليل الأخطاء، يدل على علم ناسخه. وليس في الرسالة تاريخ، ولكن ورقها من الورق الذي بطل استعماله من ثلاثة قرون، فكأنها مكتوبة في القرن التاسع أو العاشر
على الصفحة الأولى منها:
كتاب اختراع الخراع
تأليف المولى الأجل الفاضل
العلامة فريد دهره ووحيد
عصره صلاح الدين أبي الصفا
خليل بن أيبك الصفدي
رحمه الله تعالى
للشيخ عبد الجواد:
بدا لابن أيبك في عصره
…
كساد العلوم وخبث الطباع
وأن الأماثل قد أصبحوا
…
هباء يطار بهم في الشعاع
وأن كثيراً كمالاتُهم
…
دعاوى أحاديثها في انقطاع
فجرّ بأفعاله رأيهم
…
وأتحفهم باختراع الخراع
وعلى الرسالة تعليقات لطيفة، وتنبيهات شريفة
وأول الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو خرافة، الهدّ القشيري، سامحه الله تعالى: حضرت في بعض أوطان أوطاري، وأوْكار أفكاري، مع جماعة الخ. .
فابتدر أحد ظرفائهم فأنشدنا بيتين الخ. . . وهما
لو كنت بكتوت امرأة جارية الفضل
…
وكان أكل الشعير في البرد مَلْبَسكو
لا بدّ من الطّلوع إلى بئرك في
…
الليل وظلام النهار متضحٍ اً
فأخذ الجماعة في الإعجاب، مما اتفق فيهما من اختلال النظم، واختلال القافية، وعدم الإعراب، وخلاف أوضاع اللغة، وتناقض المعنى وفساده، والتخبيط في التاريخ، وقضوا نهارهم بتعاطي كؤوس العجب من ذلك
فقال أحدهم: ألا إنهما محتاجان إلى شرح ينخرط معهما في سلك الغريب، ويبرز في مظهرهما العجيب!
فالتزم بعض من حضر الخ. . . وصبَّحهم وقد أعمل في الشرح حيلته. . . فقال:
حدثني نصير الدين أبو الهزايم ثابت، قال حدثني من كتابة أصيل الدين أبو المفاخر لقيط القطربي، وقيل القرطبي، قال أخبرني اجازة أسد الدين أبو ثور صقر الفنحكردي من أهل دمشق، قال: إن افتخار الدين سبكتكين القسهتاني صاحب زهر الآداب، قال: عارض هذين
البيتين الأفوه الأودي أبو علي، على ما ذكره الحريري في الخطب النُباتية في قوله:
وإذا نظرت إلى الوجود بعينكم
…
فجميع ما في الكائنات مليح
وهذا من قصيدته الطردية في التشبيهات، وأولها:
وأنت يا غصن النقا
…
ما أنت من ذاك النمط
وزعم مؤيد الدولة أبو خاذل أيدكين الجواليقي، صاحب المديح المأموني، في كتاب الصادح والباغم، في باب المراثي أنهما من باب قول الثعالبي:
لو كنت شاهين جارية الف
…
ضل وكان الحريم منزلك
لابدّ الخ. . .
وليس بشيء والصحيح الأول
قال الشارح عفا الله عنه: نبدأ أولاً بما في البيتين من اللغة وثانياً بما فيهما من الإعراب، وثالثاً بما فيهما من التاريخ وتقدير المعنى، ورابعاً بما فيهما من البديع، وخامساً بالكلام على ما يتعلق بعروضهما، وسدساً بما يتعلق بعلم القافية
القول في اللغة:
قوله بكتوت: هو علم مركب من اللغة العربية والتركية، فبك بالعربي وتوت بالتركي، ومعناهما أمير توت مثل دمرطاس ومروان وقراحاً وما أشبه ذلك، ومن قال إن معنى ذلك بالعربية أمير النيروز فلا يتأتى له ذلك إلا إن كان النيروز في شهر توت على ما ذكره السخاوي في سمع الكيان
قوله امرأة: المرأة مشتقة من المرآة، وهي التي يرى الإنسان فيها وجهه إذا كانت في جيبه أعني السراويل، وكقول الأخطل:
ما أخذ المرآة في كفّه
…
ينظر فيها للجمال المصون
إلا رأى الشمس وبدر الدجى
…
ووجهه في فلك يسبحون
قوله جارية فيها قولان، منهم من قال: هي الساقية لأنها تجري من أسفل إلى فوق، واستشهد بقول الحطيئة:
نديمتي جارية ساقية
…
ونزهتي ساقية جارية
جارية أعينها جنّة
…
وجنّة أعينها جارية
ومنهم من قال هي في مقابلة المملوك، واستشهد بقول العكوّك:
أيا بديع الجمال رقّ لمن
…
ستر هواه عليك مهتوك
دموعه في هواك جارية
…
وقلبه في يديك مملوك
وهذا باطل ببديهة الإنسان
قوله الفضل: هو كل شيء ناقص، ومنه سمّي عبد الرحيم كاتب مروان بالفاضل لأنه كان قصيراً، وفي أمثال بزرجمهر لأمر ما جدع قصير أنفه. قال التلعفري:
ضعاف الطير أطولها جسوماً
…
ولم تطل البزاة ولا الصقور
قوله كان: معلوم أنها للاستقبال وسيأتي الكلام عليها في الإعراب
قوله أكل: هو الحالة المؤدية إلى الجوع لمن هو شبعان الخ. .
قوله الشعير: معروف أنه من فواكه الآدميين؛ ولا يوجد إلا في جزرات الهند بالمغرب في الليل دون النهار صيفاً. قال ابن الساعاتي:
جارية لم تأكل المرققا
…
ولم تذق من البقول الفستقا
ومن استشهد في هذا بقول ابن الفارض يصف رجلاً من الأكراد كوسجا:
إن تطل لحية عليك وتعرض
…
فالمخالي معروفة للحمير
علق الله في عذاريك مخلا
…
ة ولكنها بغير شعير
فليس من التحقيق في شيء والمعنى على الأول
قوله البرد: هذا معروف أيضاً عند الأساكفة في الشام وأظنه نوعاً من الأطلس الحريري. قال امرؤ القيس في معلقته الطائية:
قالوا حريراً كان وجه حبيبه
…
ونرى مسوح الشعر فوق الأطلس
جهلوا معاني حسنه مع علمهم
…
أن الحرير كماله بالقندس
ومن قال إنه نوع من العديني وأنشد الخ. . فليس بشيء لأن العديني نوع الخ. . والأطلس إنما هو فلك القمر خلافاً لأبي تمام فإنه في الخطب النباتية زعم أنه الفلك الذي له الحركة القمرية الخ. . وهذا رأي المشائين. والرواقيون خالفوهم والعمدة في اللغة على أقوالهم (إلى أن قال):
لابدّ: البد معلوم، وهو صنم يعبده اليهود في النوبة. قال بعض شعراء الجاهلية:
من قال لابدّ منه
…
فمنه لي ألف بدّ
وقال النابغة:
دعوه يبلي فؤادي
…
لا خفَّف الله عنه
كم لمت قلبي فيه
…
فقال: لابدّ منه
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي
من تراثنا الأدبي
2 -
أبو العيناء
بقلم محمود محمود خليل
تحدثت في مقالي السابق عن إسراف أبي العيناء في هجاء الناس، حتى لم يسلم منه أحد من عظيم أو سوقة، وقلت إن هناك عوامل أثرت في حياته، حتى جعلته سليط اللسان وقد آن أن أتحدث عن تلك العوامل:
(1)
الوراثة وقد تعرضت لها فيما سبق بحديث مستفيض، فلا حاجة بي الآن إلى تكرار القول فيها
(2)
نشأته فقيراً، وطالما كان الفقر وهو مثير الأضغان والأحزان منبعاً للنبوغ والذكاء، ونجد فقره هذا اضطره فيما بعد إلى الارتحال من منبت نشأته وهو البصرة إلى بغداد طلباً لعطايا الخلفاء والوزراء، وكل أحاديثه مع الكبراء تنبئنا بفقره المدقع، فقد دخل مرة على عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير فضمه إليه، فقال له أنا إلى ضم الكفاية أحوج مني إلى ضم اليدين. وقال له مرة أنا معك مغبوط الظاهر موجود الباطن كما قال أبو الطيب المتنبي:
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها
…
إني بما أنا باك منه محسود
وقال لعبيد الله بن يحيى: مسّنا وأهلنا الضر، وبضاعتنا الحمد والشكر، وأنت لا يخيب عنده حر
وسواء كان هذا الكلام منه من أساليب الاستجداء الذي اشتهر به أو من شدة الحاجة كما يقول، فقد عاش أبو العيناء في حياته كلها سواء منها المدة التي قضاها في البصرة أو المدة التي عاشها في بغداد في ضنك من العيش وشدة، وتلك حياة كثير من الأدباء والكتاب في عصره، حتى كان الانتساب إلى الأدب طالع سوء على محترفيه، اللهم إلا نفراً قليلاً من الأدباء الذين أتاح لهم القدر أن يصلوا إلى مرتبة الوزارة أو القضاء، وغفلت عنهم عين الزمان كما يقولون، كالفضل بن سهل وأخيه الحسن والفضل بن الربيع وابن الزيات ويحيى بن أكثم وأحمد ابن أبي دؤاد وغيرهم، وما عدا هؤلاء فكانت حياتهم تتوقف على العطايا التي ينفحهم بها أرباب المناصب في الدولة؛ وكثيراً ما كانت تضيق أمامهم سبل
العيش، وتضطرهم الفاقة إلى الاستكانة والذلة، ولا سيما إذا راعينا رجلاً كأبي العيناء وهو مكفوف البصر، رثينا لحاله التي كان فيها، وانتحلنا له عذراً في استطالته بلسانه على الكبراء، فإنه لا يملك غيره، وهو سيفه الوحيد الذي كان يناضل به في حياته عن عيش الكفاف الذي كان يبتغيه في دنياه كما يقول ذلك لعبيد الله بن سليمان
(3)
وثالث العوامل التي غيرت مجرى حياته فقد بصره، ولم يحدثنا الرواة أحصل له ذلك الحادث في حياته البصرية أم في حياته البغدادية، وإني أرجح أن ذلك كان في حياته البصرية قبل أن ينتقل إلى بغداد، فإن أحاديثه جميعها التي نقلت عنه وهو ببغداد تنبئنا أنه كان أعمى يقوده غلامه
ويظهر أن هذا الحادث قد أثر فيه تأثيراً كبيراً فجعله ساخطاً على الحياة، يتناول الناس بقوارص الكلم. قال له المتوكل: لا تكثر الوقيعة في الناس، قال: إن لي في بصري لشغلاً عن الوقيعة فيهم، قال ذلك أشد لحيفك في أهل العافية. فانظر إلى حيفه في أهل العافية الذي يذكره له المتوكل، أما كان هذا أثراً من آثار فقد بصره؟ وشكا مرة إلى صديق له سوء الحال وفقد البصر، فقال له اشكر فإن الله قد رزقك الإسلام والعافية. قال: أجل ولكن بينهما جوعاً يقلق الكبد، ويفقد الرشد
لم يتخذ أبو العيناء سخطه على الحياة مذهباً فلسفياً له كما اتخذه شاعر المعرة من بعده، ولم يؤدّ به هذا السخط إلى الزهد والتقشف كما فعل ذلك أبو العلاء، وإنما كان سخطه مقصوراً على حزنه العميق الذي خالج فؤاده لفقد بصره
صفاته وأدوار حياته:
إذاً فقد اجتمعت عوامل ثلاثة أثرت في حياته: الوراثة والفقر وفقد البصر، حتى جعلته سليط السان حاضر البديهة متوقد الذكاء؛ ولقد تزود في حياته البصرية من آثار الوسط الذي كان يعيش فيه بما يصلح لمجالس الملوك والأمراء ومنادمتهم بأحاديث وطرف ونوادر، ثم رحل إلى بغداد بعد أن ضاقت به سبل العيش في البصرة؛ ولقد ذمها للمتوكل حينما سأله عنها فقال: من أين أنت؟ قال من البصرة. قال له: فما تقول فيها؟ قال: ماؤها أجاج، وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم
تزود بتلك الرواية الواسعة واشتهر مع هذا بالجواب المسكت والمراسلات العجيبة
والجواب السريع والطبع الفكه والحجة الداحضة، والبديهة المتوقدة. فكانت تلك المظاهر معينة له على الحياة التي أقدم عليها ببغداد. فمن ذلك أن بعض الرؤساء قال له: يا أبا العيناء، لو مت لرقص الناس طرباً وسروراً! فقال بديهةً:
أردتَ مذمتي فأجدت مدحي
…
بحمد الله ذلك لا بحمدك
فلاثك واثقاً أبداً بعمد
…
فقد يأتي القضاء بغير عمدك
ثم قال: أجل. الناس قد ذهبوا فلو رآني الموتى لطربوا لدخول مثلي عليهم، وحلول عقلي لديهم، ووصول فضلي إليهم، فما زال الموتى يغبطونكم ويرحمونني بكم. وخاصم أبو العيناء يوماً علوياً فقال له العلوي: تخاصمني وأنت تقول كل يوم: اللهم صل على محمد وآل محمد! قال لكني أقول الطيبين الطاهرين ولست منهم. ووقف عليه يوماً رجل من العامة فلما أحس به قال من هذا؟ قال رجل من بني آدم، فقال مرحباً بك! أطال الله بقائك، ما كنت أظن هذا النسل إلا قد انقطع. ولقيه بعض أصحابه في السحر فجعل يتعجب من بكوره، فقال له: أراك تشركني في الفعل وتفردني في التعجب! وقال له المتوكل: إبراهيم بن نوح النصراني واجد عليك. فقال: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم. قال إن جماعة من الكتاب يلومونك. فقال: -
إذا رضيت عني كرام عشيرتي
…
فلا زال غضباناً علي لئامها
وغير هذه الأحاديث كثير تستطيع أن تقرأها في كتب الأدب. وتلك البديهة الوقادة والأجوبة المسكتة هي التي جعلت الحصري صاحب زهر الآداب يقول: كان أبو العيناء أحدَّ الناس خاطراً وأحضرهم نادرة، وأسرعهم جواباً، وأبلغهم خطاباً. ولقد كان أبو العيناء يجالس في حياته البغدادية الخلفاء والكبراء فيطرفهم بأحاديثه وفكاهته، فكان سلوة لهم في مجالسهم وزينة في محاضرهم على ما فيه من حدة اللسان
انتقل أبو العيناء إذاً من البصرة إلى بغداد بعد أن تمت له الثقافة التي أرادها، والبلاغة العكاظية التي امتاز بها، وتلك حال كان يشترك معه فيها كثير من أدباء عصره، إذ كانت بغداد مركز الخلافة الإسلامية يرحل إليها الأدباء والعلماء، ويبتغون فيها صلات الملوك والأمراء، وقد يصل بعضهم إلى أن يرتب له الخلفة من بيت المال رزقاً يجري عليه. ويظهر أن أبا العيناء كان من أولئك النفر كما تدل عليه أحاديثه ولا سيما إذا لاحظنا أنه من
موالي الخلفاء العباسيين، فكان بلا ريب له دالة عليهم جعلته في مأمن من تلك الحزازات التي كانت في صدور كثير من الحاشية، والتي سبّبها أبو العيناء ببذاءة لسانه، وتطاوله على أعراض الناس
حياته البغدادية:
يقول الرواة إن أبا العيناء ولد في آخر المائة الثانية وتوفي سنة 282 أو سنة 283هـ فمن ثم يكون قد أظلته خلافة المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد وصدر من خلافة المعتضد بالله الذي تولى سنة 279 وتوفي سنة 289هـ. ولقد كانت الحياة البغدادية في عصر أبي العيناء كلها ترف ولذة، يسودها المجون والخلاعة، ويروج فيها العبث واللهو، وقد روى لنا المؤلفون كثيراً من مجالس لهوهم ومنادمتهم على الشراب، ومساجلات الشعراء في خلواتهم، وأحاديث المجان في طربهم، وإني أعتقد أن الخليفة الذي تمتع بملذات الحياة، وأنال نفسه ما تبتغيها حقاً، من خلفاء العباسيين هو المتوكل على الله، فهو أول من أظهر من خلفاء بني العباس الانهماك على شهوته، فأسرف في بناء القصور، وعكف على الشراب ولم يبال باللوم، ولقد جنى ثمرة رفاهية الدولة، وإن شئت فقل إن الدولة قد بلغت في أيامه ذروة العظمة، وكان لابد لها من بعده أن تضعف حتى تنمحي، ولكل شيء إذا ما تم نقصان. ولقد حدثنا التاريخ أنه قتل في قصره، وأن الأمور من بعده اضطربت اضطراباً شديداً بسبب المعول الهادم الذي أوجده المعتصم وهو الجنود الأتراك، ولم يظهر استبدادهم وشرهم حتى بلغت الأمور غايتها ثم ظهر الفساد بعد عصر المتوكل
اتصل أبو العيناء بالمتوكل اتصلاً شديداً، وسنعلم إلى أي حد أثر فيه هذا الاتصال، ولم يقتصر اتصاله بالخلفاء على المتوكل وإنما اتصل بغيره كما اتصل به، ولكن المتوكل هو الذي رفع له الحجاب، وجعل يصغي لأحاديثه، ولقد بهره منه تلك البديهة الحاضرة، وذاك الذكاء الوقاد، حتى رأيناه يمزح معه في كثير من مجالسه، ويرفع الكلفة بينه وبينه
ويظهر من أقوال الرواة أن أبا العيناء حينما ارتحل إلى بغداد كان الخلفة المأمون على رأس الدولة فاتصل به وعرف وزيره الحسن بن سهل وأخذ منهما الصلات والعطايا، ولقد أثر ذلك المعروف في نفسه حتى قال لما بلغه موت الحسن بن سهل: والله لئن أتعب
المادحين، لقد أطال بكاء الباكين، والله لقد أصيب بموته الأنام، وخرست لفقده الأقلام. وخبر آخر قال أبو العيناء: حصلت لي ضيقة شديدة فدخلت يوماً على يحيى بن أكثم فقال إن أمير المؤمنين جلس للمظالم وأخذ القصاص فهل لك في الحضور؟ قلت نعم ومضيت معه، فلما دخلنا أجلسه وأجلسني ثم قال يا أبا العيناء بالألفة والمحبة ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ فأنشدته:
لقد رجوتك دون الناس كلهم
…
وللرجاء حقوق كلها تجب
إن لم أكن لي أسباب أعيش بها
…
ففي العلا لك أخلاق هي السبب
فقال لغلامه: انظر أي شيء في بيت مالنا دون مال المسلمين، فقال بقية من مال، قال فادفع له منها مائة ألف وابعث له بمثلها في كل شهر. فلما كان بعد أحد عشر شهراً مات المأمون فبكى عليه أبو العيناء حتى تقرحت أجفانه، فقال له بعض أولاده يا أبتاه بعد ذهاب العين ماذا ينفع البكاء. فقال:
شيئان لو بكت الدماء عليهما
…
عيناي حتى يؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقيهما
…
فقد الشباب وفرقة الأحباب
(يتبع)
محمود محمود خليل $ 2
شوقية لم تنشر
مراقب الصحف بالآستانة
للمغفور له أحمد شوقي بك
لنا رقيب كان ما أثقله
…
الحمد لله الذي رحّلهْ
لو ابتلى الله به عاشقاً
…
مات به لا بالجوى والولَهْ
لو دام للصحْف ودامت له
…
لم تنج منه الصحف المُنْزله
إذا رأى الباطل غالى به
…
وإن بدا الحق له أبطله
لو خال (بسم الله) في مصحف
…
تغضب (تحسيناً) محا البسمله
وعزة الله بلا (عزتٍ)
…
لا تنفع القاري ولا خردله
جرائد الترك على عهده
…
كانت بلا شأن ولا منزله
إن تذكر الخنجر لفظاً تُصِبْ
…
من شدة الذعر به مقتله
وإن تصف قنبلة لم ينم
…
من هول ذكرى حادث القنبله
الشر بالشر فيا قوم لا
…
إثم إذا راقبتموه منزله
فحاصروا الأبواب واستوقفوا
…
من أخرج الزاد ومن أدخله
إن كان في السلَّة تفاحة
…
ضعوا له موضعها حنظلة
أو جيء (بالشرشر) له فاملأوا
…
مكانها من علقم جردلة
أو اشتهى الأبيض من ملبس
…
قولوا له الأسود ما أجمله
ذلك يا قوم جزاء امرئ
…
كم غيرَّ الحق وكم بدَّله
خطرات
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
- 1 -
اكْدَحْ لدنياكَ اكْدَحِ
…
وبالملذات افرِح
وامرح فما خُلِقتَ في ال
…
أرض لغير المرح
دع الهمومَ جانباً
…
وللمسرّات اجنح
وربما وجدتَها
…
في جرعة من قدح
فقد تكون مُمْسياً
…
في اليوم غير مُصبح
وإن خُلِقتَ شاعراً
…
فقل ولا تمتدح
كل الذنوب إن صرف
…
تَ النفسَ عنها تنمحي
- 2 -
الناس تحيا بالمُنى
…
فما لها عنها غِنَى
لولا المنى ما عشتَ أن
…
تَ هادئاً ولا أنا
لا تَدْلَهِمُّ أنفسٌ
…
لها من المُنى سَنا
ولا يَرى ذو اليأس ما
…
أمامَه وإن رنا
اليأس نارٌ تحرق الر
…
وح وتفني البدنا
وتجعل العمرَ قصي
…
راً وتُطيل الشجنا
أمِّلْ حياةً كلها
…
طيبٌ هناك أو هنا
- 3 -
مَن يعتقد بنحسه
…
فهو عدوُّ نفسه
خير الفتى وشرّه
…
كلاهما في رأسه
إن الفتى بسؤله
…
ينشط لا بيأسه
وذلُه في جبنه
…
وعزهُ في بأسه
وربما عرفت ما
…
نسيجُه من لمسه
يرجو الفتى ألا يكو
…
ن يومُه كأمسه
قد درّسته نفسُه
…
فليستفد من درسه
- 4 -
يا نفس لا تنخدعي
…
بالزاهد المنقطع
دنياكِ هذي تحتوي
…
على النعيم أجمع
تنعّمي بخيرها
…
قبل دنوّ المصرع
وبالحياة ما صفت
…
تمتعّي تمتّعي
لكل بابٍ تحسبي
…
ن الخيرَ خلفه اقرعي
وانتهزي الفرصة قب
…
ل فوتها وأسرعي
بالبسمات تبلغي
…
ن السؤلَ لا بالأدمع
- 5 -
مصيبتي في الهرم
…
فإنه امتصَّ دمي
لم يبق مني غير جلْ
…
دٍ ذابلٍ وأعظُم
وغير نفسٍ قد تربَّت
…
ني فيا نفسُ أسلمي
وغير ما أقوله
…
عند الأسى من كَلِم
صعبٌ عليّ السيرُ من
…
ضوء الضحى للظلم
إني أرى الموتَ أما
…
مي ماثلا من أمَم
مَن ضامنٌ ألا يكون
…
ن الشيخ بالمنهدم
- 6 -
انظر إلى الزواهر
…
يسبحن في الدياجر
تلك شموسٌ قد بعدْ
…
ن عن عيون الناظر
لا تنسَ ما بين نجو
…
م الليل من أواصر
فكلها مؤلَّفٌ
…
من كهرباء ثائر
ما أقدم الوجودَ فَهْ
…
وعنصر العناصر
فما له من أوّل
…
ولا له من آخر
بلى لكونٍ فيه نح
…
يا سندٌ من قادر
- 7 -
أهْدِ إلى الشمس القبَلْ
…
فإنها بنتُ الأزَلْ
وحَيِّهَا عند شرو
…
قها وحَيِّ في الطَّفَل
قد عُبِدت من الأنا
…
م في قرونها الأُوَل
منها الحياة والرخا
…
ء والسرور والجذل
والأرض لولاها خلت
…
من الحياة والعمل
والشمس أمُّ الأرض وال
…
خطبُ إذا زالت جَلل
توغِلُ في هذا الفضا
…
ء الرحب من غير وَجَل
بغداد
جميل صدقي الزهاوي
بعد الأخاء والعداء
للأستاذ عبد الرحمن شكري
حنوت على الود الذي كان بيننا
…
وإن صَدَّ عنه ما جنينا على الود
حنوت ولو أني حنوت وما حنا
…
ولو أنه يبغي هلاكي من الحقد
ولا أكذِبَنَّ الناس قلبي كقلبه
…
له آنة ميلٌ عن النصف والقصد
كلانا جنى شراً فعاد إخاؤنا
…
محالاً حكى ذكرى الشباب على بُعْدِ
فيا طيب ذكراه وما بُعْد عهده
…
وأين قديم الود من حاضر الصد
مضى حيث يمضي عابر بعد عابر
…
من الأهل والأصحاب والذخر والولْدِ
مضى حيث يمضي كل رأي ومذهب
…
له أجل كالناس ظعن بلا عَوْدِ
إذا أنا أُنْسِيتُ الإساءة من أخ
…
ذكرتُ له مني إساءة ذي عمد
وأيقنت لا ينسي عدائي وما جنى
…
عدائي عليه من عناء ومن جهد
أيلتئم الصخران في اليَمِّ بعدما
…
تردد موج اليَمِّ بالصدع والهد
ويتفق الخِلاَّنِ من بعد ما بدت
…
به بغضة من مين قول ومن نقد
وكنا على ما كان من قرب أنفس
…
كنهرين في وادي الغضارة والورد
قد اقتربا مجرى وماءً وعسجدا
…
من الشمس لألاءً كلألأة الود
حياة شبابٍ عسجدٍ أيَّ عسجد
…
وعهد إخاء لا يغيض ولا يُكْدِي
إلى أن دعا داعي الحياة وإفنها
…
فمال بنا قصد السبيل عن القصد
وغَيَّرَ منا القلبَ والنفسَ والمُنى
…
وزاد طماحُ النفس بعداً على بعد
هو البغض مثل الحب لحظ فمنطق
…
فنار لها بين الأضالع كالوقد
وإن كنت تدري الحب كيف طروقه
…
ولم تدره أيقنت ما جاء بالحقد
فيا ليت أني قد غفرت جفاءه
…
ونَبْوْتَهُ حتى يصد عن الصد
ويذكر لي صبري على الضيم والأذى
…
فيأسى على ما كان منه من الكيد
وَتكْسِبني منه الندامة أُلفة
…
وإن كان لي من قبل كالحجر الصلد
أعيش بصفو منه يوماً فإنْ جنى
…
على إثْرِهِ غدراً ذخرت له ودي
وأُذْكِرُ نفسي منه عند انصرافها
…
شمائل تستدعي المَغِيظَ إلى الحمد
أبَعْدَ بلائي العيش أبغي مُبَّرأَ
…
وكيف ونفسي لي كما الضد للضد
يروقك حسن الفجر والنجم في الدجا
…
ومرأى رياض من عرار ومن ورد
وَأحسن منها البشر وجه صاحب
…
حليفك منه ما استسر ولم يُبْدِ
فيا ليت لي دنيا أبيع حطامها
…
بود أخٍ لو يشتري الود بالنقد
إذا الحب لم يخلص من البغض والأذى
…
فكيف خلاص الود من عنت الحقد
وخِلاَّننا مثل الجوارح أيهم
…
فقدنا فبعض النفس في ذلك الفقد
أحقٌ طِلَابُ الود من نقص طالب
…
إذاً قَمِنٌ نشدانك الود بالحمد
لتكمل بالخل الذي أنت ناشد
…
كما كَمُلَ النصفان تجمع في العد
ويا طيب قلب غره الود حقبة
…
كما عظُمَ المخدوع بالفضل والمجد
وإنك لا تدري أقلب مراوغ
…
أسرُّ أم القلب المُغَرَّرُ بالود
وإنَّ وداد المرء من بعض غنْمِهِ
…
ولو أنَّ مخلوف الوفا غاض لم يُجْدِ
تعيش بمخلوف الرجاء وكذبه
…
فَطَامِنْ فإن الود يا قلب لم يُرْدِ
رحيق الحياة الود لو دام صفوه
…
- وكالخمر - أصفاه المُعَتَّقُ ذو العهد
وأحسنه ما كان من عصرة الصِّبى
…
ولم يَحْلُ بعد الشيب مُستَحْدَثُ الود
فمن لي بعود الدهر للود والصِّبَى
…
أليفين ما كانا كما الند للند
يخال الصِّبَى ودا وود الصِّبَى صِبىً
…
كيانهما الممزوج كالجوهر الفرد
وإن فقير الناس من خان خِلُّهُ
…
وإن نال حظاً من طريفٍ ومن تلد
أأبغي إخاءً لم تَشُبْهُ عداوةٌ
…
وأنقم عفو الغدر أو غدرة العَمْدِ
كأنَي لم أدرِ الأنام وخُلقه
…
ولم أدْرِ أن الضد يولع بالضد
أَبَعْدَ فراغي من جنازة ودنا
…
أروم خلود الود من عادم الخلد
متى أرتضى الخلان صحوا وغيمة
…
فأمنحهم غيثي وأمنعهم رعدي
أُغالط نفسي فيهمُ وأغرها
…
وإن لاح منهم غدر أعْدَائي اللد
وأكتم من آلام نفسيَ عزةً
…
إذا لم يُتَحْ لي ما أُزيل به وجدي
فيا ساقِيَ النسيان عاطِ صحابتي
…
وهات لِيَ النسيان رفداً على رفد
وهيهات ما أمر إذا جد جده
…
ليُنْسَى ولو واروه في مُشْبِهِ اللحد
إذا انفلت السهم الطليق فما له
…
ولو أنه سهم النميريِّ من رد
ويعجز هذا الدهر عن نقض فعله
…
ألَا وهو الدهر المصَرِّفُ ذُو الأَيْدِ
عبد الرحمن شكري
في الأدب الإنجليزي
4 -
الكائنات الغيبية في شعر شكسبير
بقلم خيري حماد
وكان من السائد في ذلك العصر أن هذه الطائفة من المخلوقات سرمدية أزلية، فكثيراً ما يطلق شكسبير على الناس لقب الأحياء الفانين بينا هو لا يعرض لهن بشيء من ذلك. وقد يجعلن من الرجل أداة للهزء والسخرية فيلقبنه بألقاب عدة أهمها أنه حي زائل وليس بباق. فالملكة تيتانيا تطلب من بطانتها ووصائفها أن يعاملن بلطف ذلك المخلوق الزائل بوتوم ولهذه المخلوقات زيادةً على ذلك خاصية الاختفاء والظهور للبشر، فهي كالفقاعات الهوائية التي لا تظهر للناس حتى تزول ولا يمكن عند ذلك معرفة الجهة التي اختفت فيها أو تمييزها.
وفضلاً عما تقدم كانت لهن صفات أخرى أهمها خاصية التشكل والظهور بصور عدة، وقد صور إبيرون لنا نفسه بقوله:(سأكون في وقت ما حصاناً فأصهل، أو كلباً فأنبح، أو قوقعة فأنعق، أو دباً فأقهقع، أو ناراً فأحترق). وخاصية السرعة والنشاط فهنّ أسرع من القمر، وفي استطاعتهن الدوران حول الكرة الأرضية في مدة لا تتجاوز الأربعين دقيقة. وقد افتخر روبن هود بسرعته وتحدى الآخرين قائلاً (انظروني أذهب بسرعة لا تدانيها سرعة السهم وقد انطلق من قوس التتري)
وأهم ما نراه مشتركاً بين الجنيات هو ميلهن إلى الموسيقى وفنه فلا يطربن للسماع فقط بل خلقن وقد لازمهن هذا الفن وهذه الموهبة النادرة ملازمة تامة. وما جزيرة العاصفة الخرافية إلا مكان تسوده الموسيقى والأصوات العذبة مما جعل للمكان روعة ساحرة خلابة. فكثيراً ما كانت تسمع أصوات آلاف الآلات الموسيقية منتشرة في الجو انتشاراً لا يضاهيه انتشار الروائح العطرية المختلفة ولم تقتصر هذه الموهبة على الموسيقى فحسب بل تجاوزتها إلى الرقص، فنرى الملكة تيتانيا تأمر بطانتها وجواريها (أن يخترن من الينابيع وجداول الأنهار وشواطئ البحار أمكنة ليقمن فيها حلقات الرقص والموسيقى)
وآخر هذه الميزات التي اشتهرت بها الجنيات هي ميزة حماية القبور والأضرحة. فكن يقمن بأعمال ما يسمونه الملاك الحارس. ولا تقتصر مهمتهن على تسلية الميت بل تتعداها إلى حفظه سليماً من الحشرات معافى من الجراثيم. ونرى هذه الخاصية بوضوح في رواية سمبالين إذ يقول (ستقوم نساء الجنيات بحراسة قبره من الحشرات)
أم وقد انتهينا من هذه الصورة الرائعة التي صورها لنا شكسبير فيجدر بنا أن ننظر أكان موفقاً في تصويره أم غير موفق. قال جبسن يصف هذه المحاولة: (إن صورة الجنيات في روايات شكسبير تمثل لنا المرح والسرور والنية الطاهرة ممتزجاً بعضها ببعض تحددها المحاولات الضئيلة التي يقصد منها إيقاع الضرر بالناس. ولا يقصد الشاعر من هذه الصور إلا تسلية قراءه فقط غير محاول إظهار عقيدته الحقيقية، وما هي إلا مخلوقات هوائية تحلق في الفضاء مرفوفة أمام أعيننا)
لا يسهل علينا أن ننكر قط هذا الجمال الظاهر في هذه الصورة النادرة. فقد نجح شكسبير أيما نجاح في إبرازها إلى حيز الوجود بلباس رائع من المرح والسرور؛ ولقد صدق جبسن في وصفه السابق لهذه الصورة من ناحية واحدة وأخطأ في ناحية أخرى، فلقد حكم أن شكسبير لم يقصد منها إلا تسلية قرائه غير معبر عن أية عقيدة من عقائده. وحسبي أن أقول معارضاً هذا الرأي أنه ليس في استطاعة أي شاعر أو كاتب أن يصف عقيدة من العقائد كهذا الوصف الدقيق المسهب دون أن يكون له أدنى تفكير وإيمان بالعقيدة نفسها. فقد اعتقد شكسبير بوجود الجنيات وسمع ما كان يدور على ألسنة أهل عصره من قصص وأساطير جلاها في رواياته مرتدياً رداء من الخيال الواسع والابتكار البديع
الساحرات
من الصور الغيبية التي رسمها شكسبير بدقة تأتي صورة الساحرات في الدرجة الثانية؛ فلم يقتصر ذكرهن على رواية واحدة من رواياته؛ بل تعدتها إلى عدد من الروايات لا يقل عن التي تبحث في الجنيات أهمية وعدداً، ولكنه اختص إحدى هذه الروايات ببحث مسهب مستفيض جعلها قاصرة على هذا النوع من المخلوقات الغيبية، وهذه الرواية هي التي يعدها كثير من النقاد والأدباء أحسن ما كتبه الشاعر ألا وهي رواية مكبث
أما ساحرات شكسبير فيقسمن إلى طبقتين مختلفتين: أولاهما طبقة الساحرات البشريات
اللواتي يوصفن عادة بالذبول. وثانيهما طبقة الساحرات العلويات أو الغيبيات اللواتي امتزن عن أخواتهن بميزات أرقى وأهم
يذكر شكسبير ساحراته الأرضيات في كثير من رواياته العديدة حيث يكون لهنّ شأن ضئيل في مجرى الرواية وهيكلها. فهو يذكر في رواية هنري السادس إحدى هؤلاء الساحرات على لسان تالبوت حيث يقول: (إن بوسيل تلك الساحرة الملعونة قد سببت هذه المصيبة وتلك الأكدار التي لم نتخلص منها في فرنسا إلا بعد لأي)، وقد ذكرهن في رواية أخرى هي رواية (نساء وندسور المرحات) حيث تقول السيدة بيج (دعنا نلبسه ألبسة تشبه ألبسة ساحرة برانيفورد). وقد ذكر هذا النوع من الساحرات في رواية ثالثة هي رواية الملك ريشارد الثالث عندما يخاطبه كلوسستر قائلاً:(إن هي إلا امرأة ادورد تلك الساحرة التي نفثت سحرها في أعمالي فباءت بالفشل)
في جميع هذه الروايات التي ذكرتها نرى الساحرات البشريات يلعبن دوراً بسيطاً، بينما الساحرات السماويات تشغل قسماً أكبر من تفكير هذا الشاعر العظيم؛ فقد اختص رواية مكبث كلها بتحليل شخصياتهن ووصفها وصفاً دقيقاً مسهباً. وقد صدق مستر لويد في كتابته النقدية عن مكبث حين قال:(إن رواية مكبث تشمل الخيال المبدع والمخاوف السحرية، وكثيراً من الخرافات التي كانت تسود أقسام بريطانيا الشمالية والجزر الغربية منها)
وهؤلاء الساحرات لا أسماء لهن فهن يدعين أنفسهن بالأخوات الذابلات كما يتبين لك في مواضع عدة من رواية مكبث وقد كان الناس كثيراً ما يشتبهون فيهن فيحسبونهن رجالاً لما في ذقونهن من لحى كلحى الرجال بينما هنّ في الحقيقة إناث اكتملت فيهن صفات الأنوثة؛ ويظهر هذا جلياً في رواية مكبث عندما يقول مخاطباً آباءهن: (إنكن نساء مع أن لحاكن تجعلني أميل إلى الاعتقاد في رجولتكن)
إن هذا المظهر الذي كان يجمع بين صفتي الرجولة والأنوثة في هؤلاء الساحرات كان سبباً قوياً في ازدياد الشعور نحوهن بالكره والازدراء. وكم كان الناس يودون القضاء عليهن لولا أن في استطاعتهن أن يغيرن صورهن وأشكالهن، فتارة تراهن بصورة قطة من القطط الرقطاء، وطوراً بشكل فأر قد قطع ذنبه، وهذا يتجلى لنا بصورة واضحة في رواية مكبث عندما تظهر إحداهن في بدء الرواية بصورة هرة تدعى كريمالكين وقد
وصفت إحداهن نفسها بقولها في ناحية أخرى من الرواية (سأكون بشكل فأرة عارية عن الذنب فأمتطي منخلاً وأسبح في البحر محاولة تخريب السفن وإغراقها)
وتختلف الساحرات عن الجنيات بكونهن عاملاً من عوامل الشر والدمار فهن يحملن في أنفسهن الكره الشديد لبني البشر ويسعين بكل طاقتهن لإيقاع الضرر بالمجموع البشري، وكثيراً ما يستعملن الأعشاب السامة لتنفيذ أغراضهن الشريرة، وكانت لهن ملكة تدعى هكبت اقتصرت أعمالها على إيقاع الآلام بالناس، وقد وصفها لوشيانس في رواية هملت بقوله:(انك لتخلط بين أعشاب الليل وبين الأعشاب الصفراء الذابلة التي جمعتها هكبت لتستعملها في سحرها وفي ذلك تنتهي الحياة البشرية)
وتمتاز الساحرات بأنهن أقوى أنواع هذه المخلوقات المغيبة، فهبوب الرياح والسباحة في البحار كانت من المسائل التي في استطاعتهن القيام بها بكل سهولة، وكان الليل أحب الأوقات إليهن لأنهن يستطعن الخروج فيه بكل جرأة وحرية ويتعاطين ما يشأن في أثنائه. ولنستمع إلى مكبث مخاطباً إياهن قائلاً:(ماذا تعملن أيتها المخلوقات السرية الليلية)
ولم يقتصر زمن ظهورهن على الليل فقط بل كان بإمكانهن التجول أثناء النهار فقد اتفقن في الفصل الأول من رواية مكبث أن يقابلنه قبل مغيب الشمس. وكان في استطاعتهن أن يختفين أو يظهرن حسب إرادتهن. فقد ظهرن لمكبث وبانكو في الفصل الثالث من الرواية لكنهن ما عتمن أن اختفين بعد أداء مهمتهن التي قصدنها وقد استولت الدهشة على بانكو فصاح قائلاً لما اختفين: (إن للأرض فقاعات كما أن للماء فقاعات أيضاً، وهذه المخلوقات هي من فقاعات الأرض، في أي مكان اختفين؟)
حاولت الساحرات إظهار قوتهن وسلطتهن على البشر فصدرت عنهن تلك النبوءات التي تم تحقيقها في نهاية رواية ومبث، وكل ما في هذه الرواية من ابتكار وابتداع يرتكز على محور واحد ذلكم هو النبوءات، ففي بدء الرواية يخبرنه عن المستقبل فيتنبأن بصيرورته سيداً على كادور ثم ملكاً على اسكتلندا، وكلتا هاتين النبوءتين يتحقق، وفي نهاية الرواية يتنبأن بنبوءات جديدة، فيخبرنه أنه لن يصيبه مكروه من إنسان عادي بل من رجل لم تنجبه امرأة، وإن هذا الأمر لن يتحقق إلا إذا انتقلت غابة برنام من مكانها وسارت مسافة لا تقل عن الخمسين ميلاً، وكل هذه النبوءات تتحقق ويتبين صدقها في نهاية الرواية
ونظراً لهذه الشرور والآثام التي كان الساحرات يرتكبنها كان الناس على اختلاف مللهم ونحلهم ينظرون إليهن بعين الكراهية والسخط، فكانت لهن عادات مستهجنة غريبة كميلهن إلى الأعداد الغريبة وخصوصاً الثلاثة منها، فلا يخطون إلا ثلاث خطوات عند رقصهن، والقط لا يموء إلا ثلاث مرات؛ وقد اعتقد شكسبير أن السبب الذي حدا بهن إلى هذا الميل الغريب هو اعتقادهن أن الأعداد الغريبة تنبئ عن الحظ الحسن والفال الجيد
وكان العقاب الشديد دائماً في انتظارهن يهدد حياتهن، فكل امرأة كان يشك في كونها ساحرة من النوع الخطر كانت تشد إلى قطعة خشبية مصلبة تتوقف بواسطتها الحركة الدموية، وتتشنج الشرايين فتحدث ألماً شديداً قل أن يحتمله إنسان. وقبل أن تتوقف الحركة الدموية بهذه الطريقة كان الساحرات يربطن لمدة لا تقل عن الأربع والعشرين ساعة حتى تعترف بسحرها. وهناك طريقة أخرى كان الساحرات يعذبن بواسطتها ألا وهي طريقة نزيف الدم بقطع أحد الشرايين
وللساحرات فصل معين من فصول السنة لا يظهرن فيه أبداً، وقد ذكر شكسبير ذلك في رواية هملت بقوله:(يقول البعض إن الفصل الذي ولد فيه السيد المسيح هو فصل سعادة وحبور، ففي أثنائه تظل الطيور مغردة على الأفنان، وتختفي الساحرات والأشباح من عالم البشر). وكان الناس يخافونهن ويسعون في مرضاتهن فيستعيذ المتدينون من الرجال منهن ويبتعدون عن شرورهن وآثامهن
وإني لأعتقد من جرّاء هذا الاهتمام الذي أبداه شكسبير بهن، وهذا التدقيق في البحث في مسألتهن وتصويرهن، أن شكسبير كان يؤمن بوجودهن وقدرتهن الإيمان كله، فقد اعتقد أن لهن من القوة والجبروت ما تستطعن بواسطته إخضاع النوع البشري لسلطتهن وسيطرتهن، وهذا ما أظهره جلياً في كتابته عنهن في كثير من رواياته.
خيري حماد
القصص
صور من هوميروس
10 -
حروب طروادة
معركة بين الآلهة. . .
للأستاذ دريني خشبة
وقفت نَدْمانَةُ الآلهة (هيب) اللعوب الهيفاء، تسقي أربابها خمراً! وكان الأولمب يزخر بسادته
فهذا زيوس العظيم مستوياً على عرشه الضخم المرصع بالجوهر والياقوت
وهذا أبوللو سيد الشمس، وصاحب القوس، يوقع على قيثارته أشجى ألحانه
وهذا فالكان، الحداد القذر، قد بدا في حلة جديدة ذات ألوان صارخة
وذاك مارس الجبار، إله الحرب، يلاعب الأسنة، ويداعب الصَّعْدَةَ المُرِنَّة
وذلك هرمز، عزرائيل هيدز الكريم، ورسول الآلهة إلى سكان الأرض، يرسل في الملأ نظراته الساخرة، ونكاته المنكرة
وهذه حيرا،، مليكة الأولمب، تود لو تضرم النار في قصور مولاها، إن لم يقض بانتصار الإغريق!
وهذي مينرفا. . . الحكيمة الراشدة. . . تصمت صمتاً أبلغ من وحي الأولمب كله، ترى هل تستطيع تسخير هذه العصبة من الأرباب لسحق باريس وقومه وأحلافه!
ثم طائفة كبيرة من الآلهة وأنصاف الآلهة. . .
وهيب اللعوب تسقي الجميع خمراً!!
وللخمر الأولمبية، كما لخمر هذه الأرض، نشوة وسورة، ولها على رؤوس أربابها صولة وسلطان، وهي مثلها تُرَوِّي حتى تبلغ المُشاش، وتتغلغل حتى لتمتزج بالدم!
وهيب تروح وتجيء، حلوة بسامة. . . كأنها مدامة!
وروى الجميع إلا حيرا!!
وانتشى الجميع إلا مينرفا!!
لقد كانتا ما تفكران إلا في هذه الساحة الحمراء، وما يقع فيها من بلاء!
أليس قد ذهب الهيلانيون ينتقمون لكبريائهما من باريس ومن قوم باريس؟
ألم تنصح عروس الماء، إيونونيه، لباريس ألا يصيخ لفينوس، وأن يعطي التفاحة لمينرفا؟
ألم تحذره من التعرض لنقمة الربتين العظيمتين؟
غير أنه أبى!!
وآثر الجمال والحب، ثم الشقاء والحرب، مع فينوس، على القوة والصولة، والملك الكبير، والحكمة والنورانية، مع حيرا أو مينرفا!!
وبذلك جلب على نفسه وقومه وبال هذه الحرب ونكالها!
وليس اليوم أروح إلى قلب حيرا، وأرضى إلى نفس مينرفا، من أن تنصرا جحافل الهيلانيين، وتثبتا في ساحة الحرب أقدامهم!
ولكن أخيل منفرد في معسكره وهو مفئود محزون!
وقد وعدته أمه بالأثئار له، وكلمت فيه زيوس سيد الأولمب، ولم تزل به تسلط عليه ذكريات غرامهما القديم حتى زلزلت أركانه، وسلبت جنانه، وانتزعت منه وعداً قدسياً بأن ينتقم من أجاممنون، وجنوده لأخيلها العزيز!
تانِكم إذن حيرا ومنرفا
وذاكم زيوس كبير أرباب الأولمب
أما أبوللو، فهو لا ينسى أن فضحه أجاممنون في بنت كاهنه، وهو ما يفتأ يتربص بالقوم، ويدبر لهم سوء المنقلب!
وأما فينوس،. . .،. . .؟. . .
فتلك أبر بباريس وبقوم باريس، وهي أبداً ستحمي باريس وجند باريس!! لأنها ستذكر له أبداً أنه نصرها على حيرا. . . وأيدها على مينرفا!!
وكذلك أوقدت هذه الحرب العداوة والبغضاء بين الآلهة، وأضرمت النيران في قصور الأولمب!
فللآلهة في جبل (إيدا) معسكران، كما لبني الموتى حول طروادة معسكران!!
أوشك منالايوس أن يفتك بباريس، لولا أن أنقذته فينوس ولقيته هيلين عاذلة مغضبة، لكنه
نسي نفسه بين ذراعيها، واستماحها أن تدع حديث الحرب إلى نشوة الحب،. . . (على أن أعود فأثأر لنفسي من منالايوس العنيد، الذي لولا حماية مينرفا وحيرا له لبطشت به وجعلته خبراً في الذاهبين. . .)
وكان العهد بين بريام الملك، وأجاممنون قائد الهيلانيين، أن يلقي المغلوب السَّلمَ، فلما فرّ باريس تقدم أجاممنون وطلب أن يسلم الطرواديون هيلين الأرجيفيه، وأن يقدموا دروع باريس وسيفه، وفرسه، وجميع عدته الحربية، لتكون أثراً خالداً يحتفظ به الإغريق ويتوارثونه رمزاً لمجدهم الحربي، وتذكاراً لفوزهم وغلبهم
بيد أن الطرواديين رفضوا هذا الطلب: (لأن أحداً من المتبارزين لم يظفر بالآخر، ولأن قطرة من الدم لم تصبغ أديم الأرض فتكون شاهد النصر)
وكانت بين الفريق مهادنة
فخشيت حيرا ومينرفا أن يطول أمدها، واتفقتا على أن تذهب مينرفا هذه المرة أيضاً فتضع حداً لهذا السلام الذي يشمل الساحة، وأن تثير الحرب من جديد!
وذهبت مينرفا فاندست بين صفوف الطرواديين؛ وسحرت نفسها فبدت في عدة (لاودوكوس) البطل الطروادي وهيئته، ثم وترت قوسها وأرسلت سهماً مراشاً نفذ في جسم منالايوس إذ هو يبحث عبثاً عن باريس. . .
وتجددت الحرب بين الفريقين بسبب هذه السهم، فكانت حرباً زبوناً، طاشت من هولها الأحلام، وبلغت القلوب الحناجر وزاغت الأبصار فما ترى إلا حميماً. . .
وعز على فينوس أن ينهزم جند طروادة، وهم أولياؤها وصنائعها، فذكرت أن لها في أرباب الأولمب عاشقاً هيماناً يترضاها ويلتمس وصلة منها تشفي قلبه الخفق، وتداوي هواه الثائر، وأعصابه التي مزقها الحب، وأذابها لظى الغرام، فانطلقت إليه تغريه بكل ابتسامة تلين الحديد، وكل نظرة ساجية تفجر الماء من الصخر، أن يقوم من فوره فينفخ من روحه في قلوب الطرواديين، ويؤيد بنصره صفوفهم. . .
ذلك هو مارس، مسعر الحروب وموري لظاها!
وطرب الطرواديون لوجود رب القتال في صفوفهم يناصب أعداءهم الحرب فيجعلها ضراماً، ويصلصل دروعه فيوقع في قلوبهم الرعب، ويثير في نفوسهم الهلع، ويروعهم
ترويعاً. . .
وكانت إلى جانبه فينوس تنفث فيه سحرها، فكان لا يلقى فارساً إلا طعنه فيكبه على وجهه، ثم يشكه فيجفوه من الأرض، كأنما يتخذ منه هزواً وسخرياً!!
وهرع أبوللو فأمطر الهيلانيين وأبلا من سهامه التي ما مست أحداً إلا أردته، وما أقصدت صدراً إلا شقته. . .
وساء منقلب الهيلانيين!
وعز على حيرا ومينرفا أن ينهزم أصحابهما، وأن يصلوها من مارس وأبوللو نارا حامية، وهزيمة منكرة، ثم لا يكون بحسبهم ضربات مارس اللزاب، وسهام أبوللو المفوَّقة، بل تطحنهم هذه الصواعق الجهنمية التي سلطها كبير الآلهة عليهم؛ زيوس؛ سيد الأولمب، الذي أصبح كل همه أن ينتقم لأخيل بن حبيبته ذيتيس من هؤلاء الإغريق ناكري الجميل!!
وعبست حيرا عبوساً ثقيلاً، ودعت إليها مينرفا، وجلستا تفكران! وبدا لهما أن يذهبا إلى الأولمب فيستدعيا رب البحار العظيم، نبتيون، فيضع حداً لهذه القسوة التي يبديها مارس وزميله أبوللو. . .
ولكن كيف السبيل إلى غل يد زيوس، ورد صواعقه التي تنحط على الإغريق من عل، فلا تبقي عليهم ولا تذر؟
آه! لا سبيل إلى ذلك إلا بمنطقة فينوس السحرية! سستوس! تلك المنطقة العجيبة التي تغوي كل من نظر إليها، وتشعل في قلبه لظى من الهوى، وضراماً من الحب. لا بأس إذن من ممالقة فينوس حتى تنزل عن منطقتها أياماً لمليكة الأولمب وكبيرة رباته، ثم لتذهب مليكة الأولمب بمنطقة فينوس لتعبث كثيراً - أو قليلاً - بقلب زيوس، الذي ما يفتأ يرسل صواعقه على الإغريق من جبل (إيدا)، وليس شك أن سيصبو زيوس حين يرى منطقة فينوس تزين خصر حيرا وتبرز مفاتن صدرها؛ فإذا عصفت به فورة التشهي، وحاول قبلة واحدة من آثر زوجاته إليه، فلا بأس من أن تمنحه إياها. . . ولكن. . . لتنتهز سكرته العميقة وتسلط عليه إله النوم الجبار - الذي هو دائماً في خدمتها أينما سارت - فيغرقه في سبات عميق، ويظل به يداعب أجفانه، ويعسل أحلامه، حتى يكون نبتيون قد انكشف لمارس وصاحبه، وأجنادهما، فيقذف الرعب في قلوبهم، ويزلزل أركانهم، ويوهي
عزائمهم؛ ويختلط حابلهم بنابلهم فيولون مدبرين لا يلوي أحد على أحد!. . .
وقد أفلحت خطة حيرا. . .
فهذا مارس ما يكاد يلمح نبتيون حتى يذكر هذه الأيام السوداء التي صب عليه فيها رب البحار سوط عذابه، فيخفق قلبه، وترتعد فرائصه، ويكبو زنده، وتذهب ريحه وتنحطم شوكته. . . ثم يقذفه نبتيون بسهم، وقل أن تطيش سهام نبتيون، فيصرخ إله الكريهة صرخة كريهة، وينفتل من الحلبة الحمراء مولياً عقبه، ساخطاً على فينوس، وما يجر إليه غرام فينوس!!!
وولى في أثره أتباعه الطغاة، آلهة الشرور، إيريس رب الشغب، وفوبوس رب الرعب، وميتوس رب الخوف، وديميوس رب الفزع، وباللور رب الهلع. . . عصبة الإجرام وشرذمة الآثام، والطغمة الباغية من أوشاب الأرباب!!
وأفيق الإغريق مما حل بهم من روع. . .
ونظروا فرأوا مارس وملأه مولين الأدبار، والدم يتدفق من جراحهم جميعاً؛ فأفرخ روعهم، وأمن سربهم، ثم لموا شعثهم وهجموا على أعدائهم هجمة رجل واحد، فأدالوا لأنفسهم، وثأروا لكبريائهم، وانصرفوا يتفقدون جرحاهم، ويحرّقون جثث قتلاهم الشهداء!
يا للهول!
لقد قتل إمبريوس البطل! قتله تيوسير، غير راحم شبابه، ولا مبق على عوده الفينان!
وأمفيما خوس!! لقد صرعه هكتور بن بريام، غير راث لأمه العجوز الهرمة، ولا آبه بالباكين حوله والمعولين!!
وديوميد!! زين شباب هيلاس، وآثر فتيانها إلى قلوب الآلهة! لقد جرحه باريس بسهم أوشك أن يكون قاتلاً! لولا أن أدركه جنوده فأسعفوه، وضمدوا جرحه وإلى المعسكر حملوه!
وأجاممنون! لقد برز في المعمعة، ودل على الفروسية التي بهرت الطرواديين، بيد أنه أصيب بسهم نفذ فيه، فارتد على عقبه يصرخ ويتلوى!
وأوليسيز!! أوليسيز العظيم!! لقد أرسل إليه سوكوس، أمهر رماة طروادة، بسهم مفَوَّق، فجعله ينتفض كما ينتفض المحموم، ويخر إلى الأرض فيتأود كمن لدغته أفعى، ولولا أن أدركه أجاكس ومنالايوس فأسعفاه لكان من الغابرين!
وأجاكس كذلك! لقد أتاه سهم كاد يذهب به لولا بقية من حياة!!
ومخاون! لقد روعه باريس هو الآخر فشكى وبكى!!
أرأيت؟
لقد نال الطرواديون وأحلافهم من جموع الهيلانيين، ولولا أن أغاث هؤلاء نبتيون القاهر، لكانت ملحمة فاصلة في هذه الحرب الشعواء!
وكأن السماء قد أيقظت ضمائر اليونانيين، وبرهنت لهم أن أخيل ما دام لا يخوض معهم المعمعة، فلا نصر لهم ولا غلبة، ولا محيص من هذه الهزائم المتتالية، والجروح التي لما تكن قصاصاً لولا أن أدركهم نبتيون!
عرف اليونانيون هذا، وآمنوا بعد هذا الفزع الأكبر أن لو كان أخيل بينهم يوم هذه الكريهة لما حفلوا بمارس وأتباعه، ولأظفرتهم آلهتهم بأعدائهم، ومارس وملئه، وأبوللو وجنوده جميعاً. . .
وانطلق نسطور فعرض على أجاممنون مصالحة أخيل وإرضاءه، وبعد لأي رضى القائد العام أن ينطلق نسطور وأوليسيز وأجاكس وفونيكس إلى معسكر أخيل، مندوبين عن القائد، ليعرضوا عليه صلحاً شريفاً، وموثقاً كريماً، يرضاه الطرفان؛ ولكن أخيل يثور لكرامته، ويأبى إلا. . . بريسيز. . . ثم لا يشترك في حرب ضد الطرواديين. . .
ويلح أوليسيز على صديقه القديم. . . . ولكن صديقه القديم ما يزداد إلا شماساً، وما يزداد إلا أنفة. . .
ويكون فونيكس قد نالت منه حجج أخيل، ويكون قد خلبه بيانه، وبهره حسن منطقه، وطلاقة لسانه، وعظيم شجاعته، فيؤثر البقاء معه، مخاصماً الهيلانيين جميعاً حتى يرضى أخيل فيتركه أوليسيز وصاحباه، ويعودون إلى أجاممنون. . . بخفي أخيل!!
وهكذا تتم كل هذه الأحداث الجسام. . .
وزيوس يغط في نومه الهادئ الناعم يوماً بأكمله. . حتى يبطل السحر، وتذهب الرُّقية، فيهب الإله الأكبر من سباته حيران أسفاً. . . لأنه ينظر من ذروة جبل إيدا، فيرى إلى نبتيون الجبار يصول في ساحة طروادة ويجول، ويصرع الأبطال، ويجندل الأقران، ويرى إلى مارس العتيد، وجنوده الأقوياء، يفرون من وجه سيد البحار، لا يلوون على شيء. . .
ويرى أيضاً إلى أخيل ما يزال منفرداً في فسطاطه، قريباً من سفائنه، والحزن يمضه، ويوهي جلده، فيحزن الإله الأكبر وينفذ إيريس إلى نبتيون ليزجره، ويأمره أن يغادر المعمعان في الحال، وإلا أرسل عليه سيد الأولمب صواعقه، وهناك لا يكون له حول ولا تكون له قوة. . .
ويغادر نبتيون الموقعة، ولكن بعد دمر الطرواديين تدميراً!. . .
(لها بقية)
دريني خشبة
رحلة إلى حدود مصر الغربية
مرسى مطروح، سيوه، السلوم
للأستاذ الرحالة محمد ثابت
شددت رحالي إلى الناحية الغربية من الديار المصرية، تلك الناحية التي نجهل عن أهلها الشيء الكثير، فكان أن بدأت بخط أدكو ورشيد، فمررنا بأراض شبه صحراوية، بها مزارع متناثرة غير متصلة، وبخاصة حول أدكو، وهنا أدهشني نشاط الأهلين في الكد وراء كسب عيشهم حتى الأطفال، فتراهم لا يضيعون من وقتهم شيئاً، يخرجون جماعات لصيد السمك أو الطيور، ويتجرون في ذلك كباراً وصغاراً، وأنت ترى جموعهم تتهافت على القطار يعرضون عليك سلعهم هذه، فإن أعوزهم المشترون عكفوا على دورهم يأكلون ما تخلف معهم من سمك كثير وطير وفير؛ لذلك كنا نلمس في أجسادهم وفرة التغذية والامتلاء، ومن السلع المنتشرة هنالك البيض والليمون، أما غابات النخيل فهي في كثرة فائقة، ومنها نستمد البلح الرشيدي (الزغلول) ذائع الصيت. ولقد مررنا بتفتيش إدفينا، وهنا تجلت المجهودات الجبارة التي بذلت في استثمار تلك الأراضي التي كانت بائرة نزة، فلقد زودت بالمصارف والمضخات والقنوات، فأضحت جنة يانعة، وهي ملك للخاصة؛ ويا حبذا لو شمل ذلك الإصلاح ما جاورها من متسعات لا يزال أمرها مغفلاً مهملاً، وهنالك بعض الشركات الأجنبية تشتري المساحات الشاسعة وتتعهدها بالإصلاح، فهلا قامت الحكومة بذلك أو ساعدت الأهلين عليه حتى لا تزيد في ملكية الأجانب وامتيازاتهم في بلادنا؟ دخلنا رشيد فحاكت بلدا عتيقاً، بيوته بالآجر الأحمر الصغير لا يكسوه ملاط، وهي تقوم على النيل، ومن أظهر ما يسترعي نظرك مداخن لا حصر لها هي لمضارب الأرز أنشط جهات العمل في البلدة، وعلى مسيرة زهاء خمسة كيلو مترات يلتقي النيل بالبحر في لسان شبيه بذاك الذي في رأس البر، ولقد كان ماء هذا الشهر عذباً (أغسطس) بعد أن ظل مالحاً ستة شهور قبل ذلك من طغيان ماء البحر على النهر، وسيظل الماء عذباً بقية العام؛ ويجاور البلد عدد من الملاحات، ونرى زوارق الصيد يغص بها النهر والبحر، ومهنة صيد السمك رئيسية هنالك
عدت إلى الإسكندرية، وقمت صوب الغرب إلى مطروح مسافة تزيد على 300ك م، ثلاثة
أرباعها بسكة الحديد إلى محطة فوكه وبعدها بالسيارات الكبيرة، وكان قد أنشأ ذاك الخط سمو الخديو السابق رغبة في تعمير تلك الناحية التي كان يمتلك جل أراضيها ويحاول إصلاحها، لكنه اعتزم أن يبيع الخط للطليان، فسارعت الحكومة بشرائه منه، ولقد سار القطار إلى جانب مستنقعات بحيرة مريوط وصحرائها الملحة طويلا، ومر بمحطة (اكنحي مريوط)، ولعل أكبر البلاد (الحمام) العاصمة التجارية لتلك الناحية، أما الأهلون فهم قليلون مشتتون في خيامهم، ولهم لهجتهم العربية المحرفة، وقد كنا نقف على المحطة فلا نرى من المساكن شيئاً سوى أبنية عمال المحطة، فنتساءل أين البلدة؟ فيقولون: ليس هناك من بلد، والأهلون متفرقون في مساحة شاسعة من الأرض حولها، ويبدو عليهم العوز والجوع، وبخاصة في هذا العام الذي تخلف فيه المطر فأجدبت منابت الشعير، وكنا نرى مساحات الأراضي التي (عزقها) أصحابها وبذروا فيها الشعير كعادتهم وتركوها حتى ينزل عليها مطر الشتاء فيسقيها، وعند اقتراب نضجها يعودون من جولاتهم الطويلة - التي قد تصل بهم إلى داخل مديرية البحيرة - ويحصدونها
وبعد مسير ثماني ساعات ونصف من الإسكندرية أشرفنا على مرسى مطروح في خليج هلالي، تقوم المباني على جوانبه في شوارع متعامدة أبعادها تكاد تكون متساوية وهندستها موحدة بسيطة، فجلها شبه مربعات من طابق واحد يكسوه الطلاء الأبيض، وقل أن تجد بناء يشذ في علوه أو لونه وهندسته، والشوارع هناك فسيحة، ويبدو عليها المظهر الصحراوي في ندرة النبت، وإن حاولت المحافظة استنبات بعض الأشجار القليلة على جوانب الطرق؛ وهناك بيت المحافظ الإنجليزي - ومطروح تعتبر عاصمة محافظة الحدود الغربية - يشرف على البحر، ويليه بيت وكيل المحافظ وسائر الموظفين. ومما يذكر للإدارة هناك بالفخر، عنايتها بالنظافة التامة، ورعاية صحة الأهلين والرقابة الخلقية عليهم؛ ولقد أعدت للموظفين نادياً صغيراً جميلاً على البحر زود بصنوف الحلوى والمرطبات وأدوات اللعب البريء وبجهاز للراديو يسري عنهم في معيشتهم المنعزلة الموحشة؛ وتضاء الشوارع بالمصابيح الكبيرة التي تقلل من وحشة سكون الليل الرهيب هنالك. وخير ما يتجلى منظر البلدة في كامل روائه من الاستراحة الحكومية التي أقيمت على النجاد التي أدت بسيارتنا إلى شاطئ خليج مطروح؛ وفي ناحية نائية من غرب مطروح مسجد أنيق
(لسيدي العوام) بطل المنطقة وقد بناه الخديو السابق كما بنى كثيراً من المساجد في بلدان خط مريوط، وكانت تقوم حوله طائفة من مساكن الأعراب فعوضتهم عنها الحكومة وأزالتها وأقامت مصيفاً يسمونه الليدو، فبدأت بنزل فاخر زودته بكافة وسائل الترف والراحة وجعلت أجر المقام به نصف جنيه في اليوم، ثم أقامت حوله بيتين صغيرين أنيقين (فلآت) لمن يريد الاستئجار. على أن عزلة المكان وبعده وافتقاره إلى وسائل اللهو قد زهد المصيفين فيه، إذ أني لم أحص في المصيف كله أكثر من عشرة أشخاص، فهو عندي خير مصطاف لطلاب الراحة البريئة والسكون الشامل وهؤلاء قليلون؛ ويخيل إلي أن تقدير الحكومة الصدقية كان خاطئاً إذ كلفته نيفاً وعشرين ألف جنيه لن يسد للدولة منها شيئاً. ولقد قال لي بعض الناس من سكان البلد إنها فكرة إنجليزية قصد بها أن يقيم على حساب الدولة مستراضاً للمارة من السادة الإنجليز في روحاتهم وغدواتهم على الحدود الغربية
وأهل البلد من الأعراب يسيرون في ثيابهم الفضفاضة، وسادتهم يطوقون كواهلهم بأحزمة بيضاء ثقيلة، ونساؤهم يسرن سافرات في ثياب حمراء فضفاضة أكمامها هائلة هادلة وهن على جانب كبير من السذاجة. تجلس في المقهى فترى الواحد منهم يدخل ويقف حولك يحدق فيك ويزوغ ببصره ثم يتسكع حولك ولا يكاد ينصرف حتى ترى غيره، وأطفالهم عراة جياع حالتهم تستدر العطف وتستنزل الرحمات ويكثر بينهم الزنوج السود وهم من عبيد السنوسية جاءوا بهم معهم بعد أن حرروهم لما أن طاردهم الطليان وأجلوهم عن ديارهم. ولأبناء السنوسي هناك مقام كبير بين الناس يكاد يبلغ حد التقديس. حدث مرة أن رأيت بيتاً فاخراً طلي باللون الأزرق على خلاف سائر بيوت البلدة فسألت أحد المارة بيت من هذا؟ فأجاب: بيت الأسياد. قلت: ومن الأسياد؟ فثار الرجل وصاح في نغمة الغاضب المستنكر: الأسياد! الأسياد! كيف لا تعرفهم هم آل السنوسي! ولهؤلاء جل أملاك المنطقة وأبنيتها. وإلى الجنوب الغربي من البلدة أقيم المطار في متسع هائل واستعداد كبير لاستقبال الطائرات المختلفة، وقد نزلت به أمامي طائرتان إحداهما للشركة الهولندية التي تقوم من هولندة وبتافيا، وهي طائرة كبيرة من الألمنيوم بها 14 مقعداً للمسافرين. أما الثانية فطليانية بين الإسكندرية وبني غازي وذاك خط حديث بدأ منذ أسبوعين فقط وطائرته صغيرة
وفي مطروح محطة لاسلكية أساس عملها الاتصال بالطائرات خصوصاً الهولندية. أقمت في مطروح زهاء يومين في نزل إغريقي، واليونانيون هنالك نشيطون في التجارة وبيدهم غالب سيارات النقل وحوانيت البدالة والفنادق؛ وسيارات النقل هناك تقوم لثلاث جهات: فوكة وتلك كل يوم، السلوم، واحة سيوة مرة أو مرتين في الأسبوع
إلى سيوه:
قمنا مبكرين نستقل سيارات الحدود فأخذنا نسير في صحراء لا نهائية عربت عن النبت حتى الشائك منه وإن كان مظهرها في الشتاء والربيع أبهى وأجمل إذ يكثر العشب بنواره المختلف الجميل، ولا يفتأ المسافر يمر ببقاع تنمو بها أعواد الشعير، والطريق حجري في جزئه الأول، مترب في الأخير، ويمر بمجموعة من آبار أذكر من بينها: حجفة جلاز عند الكيلو 72 من مطروح - حجفة أي بئر بلغتهم - وحجفة البويب عند الكيلو 124 على مقربة من الاستراحة التي أقيمت لجلالة الملك يوم أن زار تلك الناحية سنة 1928، ولذلك يطلقون على تلك البئر أحياناً (بئر جلالة الملك) لأنه شرب منها، ثم بئر النصف في منتصف الطريق عند الكيلو 150، والمسافة كلها 300 كيلو متر، وغالب تلك الآبار رومانية الأصل كانوا يحفرونها تجاويف في الصخر تبطن بالأسمنت أو الآجر، وتعد بفتحات ضيقة يؤدي إليها ماء المطر عند سقوطه ليتراكم فيها، وعلى الفتحة الرئيسية باب وحارس يكلف بحفظها من الأوساخ ومن إسراف الناس في مائها، وأنت ترى طائفة كبيرة من السائمة وبخاصة الإبل تحوم حول تلك العيون وتتسكع في مرعاها عساها تشفي بعض ظمئها من الماء كلما مر بالبئر عابر، وقد كان يبدو على بعض الإبل عند بئر جِلاّز ظمأ شديد، ولم يرغب الحارس في سقيها، ولما سألناه عن السبب قال: لكي لا تنتجع تلك الناحية وتعتادها كثيراً فتضايقه، على أنا أجبرناه أن يسقيها هذه المرة إكراماً لنا ورأفةً بها
لبثنا نسير في ذاك الطريق الوعر ثماني ساعات ونصف الساعة - والسيارات الأخرى الكبيرة تقطعه في يوم كامل - وقبل دخولنا الواحة أخذنا في الهبوط تدريجياً، وظهرت مخاريط متناثرة من الربا، تمتد إلى الآفاق في منظر رائع جميل، ثم بدت الخضرة الشاحبة على بعد أمامنا، وذاك أول قبس من سيوه التي تنخفض عن سطح البحر بنحو 25 متراً، ثم أخذت تفاصيل المنظر تبدو في شبه غابات من النخيل مغلقة متباعد بعضها عن بعض؛
بينها ربا أقيمت عليها المباني بعضها للحكومة والبعض للأهلين
وقفنا بباب مركز البوليس، ولقينا حضرة المأمور أحسن لقاء، وقدم لنا الاستراحة لنأوي إليها، وأظهر استعداده الجميل لمساعدتنا في جولتنا العلمية القصيرة هناك، وكان قد أوصاه بنا خيراً سعادة وكيل المحافظ وبعض إخواننا من مطروح. دخلنا دار الاستراحة وقد أقيمت فوق ربوة شاهقة تشرف على الواحة وقد زودت بالشرفات تغطيها شبابيك من السلك لمنع البعوض، وقد كانت الواحة مهددة بالملاريا منذ زمان بعيد ولا يزال لها بقية إلى اليوم - ولن أنسى جلستي في إحدى تلك الشرفات ومشهد الواحة من دوني ساحر وامتداد الصحراء رهيب، وقد عني بتلك الاستراحة عناية خاصة، لأن جلالة الملك قد نزل بها في زيارته، وبها دورة للمياه فاخرة، وفي أسفلها بعض المغارات التي كان يتعبد فيها الشيخ السنوسي الكبير في زياراته لتلك الواحة قديما، وبعد أن طارده الطليان إليها. نزلت أجوب بعض أطراف البلدة فإذا بغالب بيوتها على الربى تقام من الطين المصفر الذي يحكى الطفل، وترى البيوت وكأنها الأحجار أو المغائر بعضها ركب فوق بعض وتشبه مجموعة من حصون قديمة، وليس لها من النوافذ سوى كوى صغيرة لا تكاد تسمح لضوء الشمس أن يتخللها، ولهم العذر في ذلك، لأن لفح الصيف قاتل وبخاصة في أبريل ومايو، وقر الشتاء زمهرير، وشهور أغسطس وسبتمبر خير مواسم السنة جواً هنالك. ومن أظهر ما يسترعي نظرك وسط تلك الأبنية برج مربع يدق كلما علا ويشبه المدخنة وهو مئذنة لمسجد من مساجدهم القديمة، أما سوق البلدة ومتاجرها فأقيمت في متسعات أسفل تلك الربى وزودت بطلل من الطين وجريد النخيل، ومداخل شوارعها ضيقة مسقفة، لا تشعر بأنها طرق يباح المرور فيها
(يتبع)
محمد ثابت
البريد الأدبي
ذكرى الموسيقي سان سيان
احتفلت الدوائر الفنية الفرنسية في أوائل أكتوبر الحالي بالذكرى المئوية لمولد الموسيقي الشهير شارل كامي سان سيان. ويشغل سان سيان في عالم الموسيقى مركزاً فريداً، فهو حلقة اتصال بين المشرق والمغرب يندر وجودها، وله بالأخص صلة بمصر لا يزال يذكرها من تمتع بسماع عزفه في هذه البلاد قبل الحرب الكبرى. وقد ولد هذا الموسيقي الشهير في أكتوبر سنة 1835 بباريس ودرس الموسيقى منذ حداثته، ودرس عزف الأرغن على العازف الشهير بنوا، ودرس التأليف الموسيقي على هاليفي في معهد باريس، وتخصص في الموسيقى الكنسية. وفي سنة 1858 عين عازفاً لكنيسة المادلين، ولم يمضي قليل حتى طار صيته كعازف ومؤلف موسيقي، وفي سنة 1867 نشر مقطوعته الشهيرة (أعراس بروميتيه) فلقيت نجاحاً عظيماً، وأتبعها بنشر سلسلة أخرى من المقطوعات القوية الشائقة وأخصها مقطوعة عنوانها (شمشون ودليله) التي عزفت لأول مرة في فيمار بألمانيا وأكدت صيته وعبقريته كمؤلف لمقطوعات الأوبرا، ومن مقطوعاته الأخرى:(الرقصة المروعة)، (شباب هرقل)، (هنري الثامن)، (اسكانيو)، (البرابرة)، (هيلين) وغيرها
وقد ساح سان سيان كثيراً في بلاد المشرق، فزار الجزائر ومصر، وتأثر بمحيطها ومثلها الشرقية. وله مقطوعات شهيرة يلذ سماعها للشرقي بنوع خاص، ففيها يتجلى سحر السماء الصافية، وروعة الصحراء، وجمال الليالي الشرقية
ومما يرويه المستر أدوين ايفانس الناقد الموسيقي الشهير، أنه كان يمر ذات مساء بالإسكندرية في طريق الرمل، إذ سمع عزفاً بديعاً على (المعزف)(البيانو)، فسمره السحر في مكانه وسرعان ما علم أن هذا العازف إنما هو سان سيان، وإنه يقضي بمصر أياماً في خفية وتنكر
وذاع صيت سان سيان في جميع أوربا، ولا سيما فرنسا وإنكلترا والنمسا وألمانيا. وعاش زهاء خمسة وثمانين عاماً. وتوفي بالجزائر في ديسمبر سنة 1921
مباحث عن أصل الترك
أنشأت حكومة الجمهورية التركية في استنبول متحفاً لعلم الأجناس البشرية يقصد به بنوع
خاص أن يعاون العلماء الباحثين في أصل الجنس التركي على تحديد خواصه الجنسية وتعيين السلالة الإنسانية التي ينتمي إليها. ولكي يتمكن العلماء من إجراء المباحث العلمية اللازمة أصدرت الحكومة لائحة تبيح فتح قبور العظماء الترك وفحص جماجمهم وإيداعها بالمتحف المذكور عند الحاجة
وقد نفذت هذه اللائحة بالفعل وفتح قبر سنان باشا أعظم مهندسي الترك؛ وقد عاش في القرن الخامس عشر وأنشأ أكثر من مائتي مسجد وقصر ومكتبة كلها من الأبنية الأثرية الشهيرة؛ وفحصت جمجمة المهندس الشهير لجنة من العلماء. وسيجري أيضاً فحص عدد من جماجم العظماء الترك الآخرين من رجال الحرب والسياسة والتفكير. وتشجع الحكومة هذه المباحث وتعضدها؛ وهي تجري بإشراف عالمين أجنبيين كبيرين أحدهما الأستاذ موشيه الأخصائي في علم الأجناس البشرية
والمعروف أنه يصعب جداً أن تحدد خواص الجنس التركي أو خواص العنصر السائد فيه لأن الترك ليسوا إلا شعبة من جنس آسيوي كبير هو الجنس المغولي على الأرجح؛ وهو جنس متشعب الفصائل، هذا إلى أن الشعب التركي امتزجت به خلال العصور أجناس كثيرة أخرى دخلت الإسلام واعتنقت الحضارة التركية؛ ثم إن الترك درجوا خلال العصور على التسري، وكان الكبراء منهم يحوزون في (حريمهم) نساء من مختلفي الجنسيات، فمن الصعب بل ربما كان من المستحيل أن يستطيع الترك المعاصرون إرجاع أصلهم إلى جنس بذاته
خطر على المؤلفين
هل يقرأ الناس اليوم أكثر مما كانوا يقرءون؟ وهل يربح المؤلفون أكثر مما كانوا يربحون؟ دلت الإحصاءات في إنكلترا وفي أمريكا على أن قراء الكتب الإنكليزية قد زادوا في سنة 1934 عنهم في سنة 1933 بمعدل نحو عشرة في المائة، وكان المفروض أن ذلك يعني أن المؤلف قد زاد ربحه ولكن الواقع أن أخبار المؤلفين لا تسر، والأدلة متوفرة على أنهم يسيرون من سيئ إلى أسوأ، وقد دل البحث على أن أشد العوامل وطأة على المؤلفين هو نظام المكاتب الدورية المأجورة؛ ويوجد من هذه المكاتب في أمريكا نحو خمسين ألف مكتبة، وهي تنتشر الآن في إنكلترا بسرعة مدهشة، ونظام هذه المكاتب في غاية السهولة
فهي لا تطلب ضماناً عما تعيره من الكتب، ولا تتقاضى من القارئ إلا أجراً زهيداً قد لا يتجاوز بضعة ملاليم عن الكتاب الواحد، على أنها مع ذلك تجني أرباحاً طائلة، وبهذه الوسيلة يقرأ الكتاب الواحد مئات وربما آلاف من الناس، ولا يصل المؤلف منهم شيء، وقد وصفت هذه المكاتب السيارة بأنها (الوباء الأسود) بالنسبة للمؤلفين؛ فإذا لم يوضع نظام آخر لهذه المكاتب يكفل للمؤلفين نوعاً من المشاركة في الربح، فإنها تنتهي بتثبيط همم المؤلفين، ويحجم المؤلفون بذلك عن التأليف، وعندئذ يكون المشتغلون بهذا النظام قد قتلوا الدجاجة ذات البيضة الذهبية، وما يقال عن إنكلترا وأمريكا يمكن أن بقال عن مصر التي أصبحت فيها عارية الكتب والمجلات والصحف رذيلة ذائعة
معرض للإنجيل
مضت أربعمائة عام كاملة على طبع أول إنجيل باللغة الإنكليزية. وقد احتفل بهذه الذكرى أخيراً في إنكلتراً؛ وأقامت مكتبة رينالدز الشهيرة في منشستر معرضاً للأناجيل القديمة. والإنجيل الذي يحتفل بذكراه هو الإنجيل الذي ترجمه (كفرديل)؛ وقد عرضت إلى جانبه أناجيل عديدة بمختلف اللغات تمثل تطور الإنجيل منذ نشأة النصرانية حتى القرن الأخير. والمعروف أن أول إنجيل طبع هو إنجيل جوتنبرج الذي طبع في سنة 1456، وتوجد منه الآن في العالم كله أربعون نسخة فقط. وبين هذا الإنجيل، وإنجيل (كيفرديل) ثمانون سنة؛ وقد ظهرت تراجم عديدة أخرى للإنجيل منذ العصور الوسطى منها تراجم إلى العبرية واليونانية والألمانية والفرنسية؛ وظهرت بالإنكليزية تراجم لأجزاء من الإنجيل في وقت مبكر جداً؛ من ذلك ترجمة كايدمون في القرن السابع، وترجمة الراهب بيد في القرن الثامن، ثم ترجمة ألفريد الأكبر. وقد عرضت هذه الأناجيل كلها في صعيد واحد. وعرض معها إنجيل مخطوط كان ملكاً للملكة اليصابات
آثار الفيكنج
كشفت المباحث الأثرية في السويد عن أشياء مدهشة تدل على بعد المدى الذي انتهى إليه (الفيكنج) في تجوالهم في طلب السلب والغنيمة، في القرنين الثامن والتاسع من الميلاد، ومن ذلك ما وجد في جهات متعددة في أنحاء السويد وحفظ في متاحفها، وهي عبارة عن
طائفة كبيرة من الآثار واللقط الشرقية، وبالأخص النقد الشرقي القديم، فقد وجد منها زهاء عشرين ألف قطعة، وجد معظمها في جزيرة جوتلاند، وتدل بعض الأحجار المنقوشة على أن بعض زعماء الفيكنج سافروا حتى ضفاف بحر الخزر (بحر قزوين)، وتوفوا هنالك في تلك القفار النائية؛ وفي متحف البندقية أسد من المرمر عليه نقوش (فيكية) محي بعضها؛ وكان هذا الأسد من غنائم الحرب التي حصلتها البندقية من اليونان في القرن السابع عشر
كيف يشجعون الأدب
قرأنا في أنباء أمريكا الأخيرة أن الرئيس روزفلت أقر مشرعاً أدبيا ضخما يعد الأول من نوعه، وخلاصته أن الحكومة الأمريكية قد اعتمدت نحو سبعة وعشرين مليون ريال (خمسة ملايين جنيه ونصف) لتغذية الحركة الأدبية والفنية في أمريكا، وأن هذا المشروع الذي يبدأ في تنفيذه من سبتمبر الماضي سيؤدي إلى إيجاد أعمال لخمسين ألفاً من الكتاب والموسيقيين والفنانين لمدة ستة شهور
وهذا المشروع بلا ريب من مفاخر الرئيس روزفلت وسياسته، وإذا كان ثمة بلد نرجو أن يحدث فيها مثل هذا المشروع صداه وأثره، فهي مصر التي ما زالت تتجاهل الحركة الأدبية والفنية، وما زالت تتركها لمصيرها وبؤسها. ولقد عنيت الحكومة أخيراً بمسألة التمثيل، ورصدت لتشجيعه وإنهاضه زهاء ثلاثين ألفاً، هذا عدا عشرة آلاف أخرى تفرق كل عام على الفرق الأجنبية. وإذا كنا نحمد لوزارة المعارف عنايتها بالتمثيل وهو من عناصر الفن وأركانه، فإننا لا نستطيع أن نسيغ موقفها إزاء الحركة الأدبية وإزاء المشتغلين بالأدب والكتابة، فلم نسمع إلى اليوم أن وزارة المعارف قد فكرت في عهد من العهود أن ترصد أي اعتماد لتشجيع الحركة الأدبية، ولم نسمع أنها رصدت يوماً أي مبلغ لمكافئة الكتاب المبرزين أو مؤلفي الكتب الممتازة، ومنذ أعوام ترصد وزارة المعارف اعتمادات مختلفة لإعانة الممثلين والممثلات، ولكنها لم تفكر يوماً في أن ترصد مبلغاً لإعانة الكتاب والمؤلفين، ولسنا نجد مبرراً لمثل هذا الإغفال المؤلم من وزارة المعارف، فهل لنا أن نؤمل أنها في عهدها الجديد، تعنى بهذه المسألة؟ وهل لنا أن نؤمل أنها كما ذكرت التمثيل والممثلين تذكر الأدب والكتاب، فتعمل لهؤلاء شيئاً مما تريد أن تعمله لأولئك؟
آخر كتاب للكولونيل لورنس
من أنباء نيويورك أن شركة للنشر قد أعلنت أنها ستخرج في الخريف القادم عشر نسخ فقط من آخر كتاب وضعه الكولونيل لورنس بطل الثورة العربية الشهير، وعنوانه المضرب وستطبع هذه النسخ العشر على ورق من الحرير الفاخر وتعرض النسخة الواحدة للبيع بمبلغ خمسمائة ألف دولار (مائة ألف جنيه!) والمقول أن بيع الكتاب بهذا الثمن الخرافي يقصد به حماية حق طبعه وعدم إذاعته. ومما يذكر بهذه المناسبة أنه لما طبع كتاب لورنس الشهير (سبعة أعمدة من الحكمة) في أمريكا عرضت النسخة للبيع بمبلغ أربعة آلاف جنيه وبيعت كلها وكان المطبوع منه 120 نسخة فقط
كتاب جديد لدانونزيو
صدر أخيراً كتاب جديد لجبرائيلي دانونزيو شاعر إيطاليا الأكبر بعد صمت طال أمده. وعنوان كتاب الشاعر الجديد طريف مدهش، فقد سماه (مائة ومائة ومائة ومائة صفحة من الكتاب السري لجبرائيلي دانونزيو الذي يود الموت) والكتاب مدهش رائع حقاً؛ فهو يحتوي على طائفة كبيرة من ذكريات دانونزيو ومخاطراته وتجاربه الشخصية وملاحظاته من كل ضرب، وهو يفيض بالصور البديعة والآراء الغريبة، والتخيلات المدهشة والاضطرام المتقد في سبيل المجد والشهرة. وينقسم الكتاب إلى قسمين، قسم يحتوي على قصص الشباب وأحلامه الوحشية، وقسم عنوانه (الكتاب السري)، وفيه يتحدث دانونزيو عن الدور الذي قام به في الحرب الكبرى، ومخاطراته وأحلامه وأعماله العبقرية التي جعلت من الشاعر جندياً شهيراً، وجعلت منه بطلاً قومياً لإيطاليا
من ضحايا النازي
يعيش في المنفى رهط كبير من أكابر الكتاب الألمانيين (غير اليهود) وذلك لأنهم من خصوم هتلر وسياسته؛ ويعاني الكثير منهم شظف العيش وآلام المنفى لأنهم حرموا من أموالهم وأملاكهم التي صادرتها الحكومة الألمانية. وقد توفي أخيراً في باريس أحد هؤلاء الكتاب، وهو الدكتور هلمان فون جيرلاخ
وكان فون جيرلاخ قبل قيام الحكم الهتلري من أقطاب الصحافة الألمانية، يحرر (جريدة
برلين الأسبوعية) وقد اشتغل فون جيرلاخ بالسياسة منذ بعيد وتقلد النيابة في الرخستاج مراراً عن سيليزيا العليا موطنه. ولكنه كان ديموقراطي النزعة يدعوا إلى السلام والتفاهم مع فرنسا، وهو الذي أسس شعبة حقوق الإنسان الألمانية، ولما قام الحكم الهتلري في ألمانيا فر من ألمانيا إلى باريس، فنزعت الحكومة أملاكه وأمواله، وجعل فون جيرلاخ جهوده لمقاومة الحكومة النازية ومبادئها حتى توفي في نحو الخامسة والستين من عمره
منازل الفضل
كان الأستاذ الجليل محمد محمود جلال قد أخذ يكتب تحت هذا العنوان عن الدور القديمة التي كان لها أثر ظاهر في تاريخ مصر الحديثة، فنشر في العدد الثامن والثمانين من (الرسالة) مقالاً نفيساً عن (قصر الوالدة)، ثم شغلته شواغل الحياة عن موضوعه. وقد جاءنا اليوم كتابان أحدهما من الأديب (علي فهمي) بالمنصورة، والآخر من (فؤاد شاكر) بالقاهرة يستنجزان الأستاذ وعده بالمضي في هذا الموضوع الطريف الذي يجمع بين الفائدة والعضة واللذة، والأستاذ لا شك فاعل
الكتب
1 -
وحي العصر - تأليف الأستاذ إبراهيم المصري
2 -
قصص الحياة - تأليف السيدة نور الهدى الحكيم
للأستاذ محمود الخفيف
ترى في هذين الكتابين مثلين من ألوان الأدب العصري في مصر. أما أولهما فمجموعة مقالات تتخللها عدة أقاصيص مترجمة، قسمه المؤلف خمسة أقسام: دراسات أدبية، واجتماعيات وصرخات، ووجوه وأروح، وقصص. ولذلك كان الكتاب في بنائه وفي موضوعه لا يخرج كثيراً عن ذلك النوع من الأدب المعروف (بأدب المقالة)، فلقد جمع المؤلف شتيت ما كتب في مناسبات مختلفة وأطلق عليه اسم وحي العصر، وإن كان هذا الاسم يوحي إليك فكرة متصلة أو دراسة مفصلة للعصر الذي يعيش فيه
تطالع الفصل الأول (وحي البيئة والعصر في الأدب الحديث) فترى الكاتب يقرر أن الأدب الحي الجدير بالبقاء هو ما جمع بين تأثير البيئة وإيحاء العصر، وتراه من أجل ذلك يعيب على أدبنا العصري خلوه من هذه الصفة، بينما هو يمتدح الأدب الأوربي ويعجب به، وهو إذ يورد لك الأمثلة في أدبنا ينسى أن ما يشكو منه إنما هو وليد البيئة، كما جاء في كلامه عن طريقتنا في الحب والشعر مثلا؛ والغريب أنه يشير إلى العلة، وهي بعد المرأة عن الرجل! أوليس تأثير البيئة الذي يدعوا إليه واضحاً في هذا؟ وكيف يتسنى لنا أدب آخر مع ما نحن عليه؟
وإنك لتنتظر أن يدور الكتاب على تلك القاعدة التي يدعو إليها، فإذا بك لا تكاد تحس أثراً لبيئتنا إلا في تلك القطعة الجميلة القوية وهي (المرأة المصرية قبل الكفاح الوطني وبعده) وماعدا هذه فالصيغة كلها غريبة، أوربية وأمريكية، ففي مقالة (الصدق في الأدب والحياة) تجده لا يقتصر عن اتهام أدبنا فيرمينا بأننا نؤثر اللذة على الألم في إنتاجنا ضعفاً منا وجبنا، ثم هو يعيب علينا كثرة الخيال وضعف قوى العقل، يعيب ذلك علينا في الشعر والقصة، وهو لا يجهل أن الشعر في العالم قديمه وحديثه شرقيه وغربيه وليد الخيال، وأن القصة تفقد أهم عناصرها إذا غلب فيها التحليل والدرس على الخيال الشعري القوي، فإذا
طلب الصدق فعليه أن يطلبه في الفلسفة، فان الصدق في الأدب عدو الخيال، ومن ثم فهو عدو الشعر والقصة. على أن الكاتب الفاضل لا يلبث أن ينسى القاعدة أيضاً، فيرى أن الأدباء البرجوازين يتعامون عن بيئتهم، ويزيغون عنها، ويبتعدون بذلك عن الصدق، وهو مع ذلك يرى في أدبهم قوة تنجيه من اللوم، ثم تراه حين يتحدث عن (الشعر في هذا العصر ونهضته في فرنسا) يدعوا مع الداعين من أبناء الغرب إلى السمو الروحاني والخيال الجامح المليء بالرؤى والأحلام، تراه يدعو إلى (ذلك الشعر الذي يغلب فيه الخيال على العقل، والذي ينطلق كموج الموسيقى، ويتصاعد إلى السماء كالصلاة، ويقصد به الشاعر التغني بالحياة وتمجيد ظواهرها واستبطان هذه الظواهر بواسطة الإشراق الروحي والاتصال من خلالها بالقوة العلوية الخالدة التي أبدعتها) فأين هذا من إنكاره الخيال في الأدب وخصوصاً في أدبنا؟! ولعل هذا التناقض نتيجة انعدام الوحدة في الكتاب كما سبق أن ذكرت
أما باقي موضوعات الكتاب فهي كما أسلفت غريبة الروح والعاطفة، فأنت تقرأ الأدب الأمريكي الحديث وترجمة خمسة من أعلامه، وتقرأ أدب السرعة ومظهره في أوربا، كل ذلك دون أن تظفر بإشارة إلى شاعر من شعرائنا أو كاتب من كتابنا؛ وفي قسم التراجم من هذا الكتاب لن تجد سوى أعلام الغربيين كأميل زولا، وبول بورجيه، ورومان رولان، وهنري دي منترلانن وغيرهم؛ وفضلاً عن ذلك فلن تحس بشخصية المترجم في تلك التراجم، وهي على دقتها واستيفائها لا تخرج في جملتها عما نطالعه في المجلات من لمحات بسيطة في سير هؤلاء الرجال حتى لقد أحسست أن ثقافة المجلات مسيطرة سيطرة قوية على الأديب المؤلف في هذا الباب
حتى الأقاصيص تجدها معربة تشرح بيئات غير بيئتنا ومجتمعاً غير مجتمعنا، ومثلاً غير مثلنا. نعم لا ضير على الأديب أن ينقل إلينا ما استحسن من النماذج بين حين وآخر، ولكن على شرط أن يشعرنا بألحاننا ويرينا من ألوان ثقافتنا وصور حياتنا ما يؤنسنا وسط هذا الضجيج الغربي الذي نخشى أن يعوق تقدمنا، ويمحو ذاتيتنا، ويحول بيننا وبين الأصالة والخلق، ويقطع الصلة بيننا وبين ماضينا الحافل
ولست أشك في أن الأستاذ إبراهيم المصري بذكائه ونشاطه واستعداده قمين أن يجول في
أدبنا المصري الناشئ جولات تعود علينا بالخير، إن هو وجه إليه بعض عنايته
يأتي بعد ذلك الكتاب الثاني (قصص الحياة في الأسرة والمجتمع) للمربية الفاضلة السيدة نور الهدى الحكيم، ويقع في نيف وثلثمائة صفحة، وذكرت مؤلفته أنه مؤسس على نظريات التربية وعلم النفس والاجتماع. ولقد قرأته فألفيته يدور كله حول المرأة وعلاقتها بالرجل، وهو يضم إلى ما به من أقاصيص بعض نظرات في الحياة (كاستفتاء في حادث خلقي) والمجتمع الحديث للأسر المصرية، وتطور الآراء في تربية المرأة. وهذا الكتاب يتناول المجتمع المصري والبيئة المصرية في الكثير الغالب من موضوعاته، حتى لتكاد تنعدم فيه الصبغة الغربية، على الرغم من أن صاحبته عاشت في أوروبا زمناً، وهي ظاهرة نحمدها لها؛ فما أحوجنا إلى من يتناول حياتنا بالشرح والتحليل في إخلاص وعطف. ولقد أحسست الإخلاص والتحرق إلى الإصلاح في هذه الأقاصيص الساذجة، وأعجبتني تلك الروح الطيبة؛ فالكاتبة لا تشير إلى عيوبنا إشارة المترفع المستكبر الذي يباهي بمدنية غيره، ولن يهمه سوى إظهار نقائصنا وعرضها في شكل فضائح كما يفعل شبابنا، بل تراها تعرض لها في رفق وهوادة، ولن تقتصر على الموقف السلبي منها، وإنما تذكر اوجه العلاج وتشرحها جهد طاقتها، وهي كما أذكر طريقة حميدة وروح محمودة. هذا إلى أن الكاتبة الفاضلة قد وفقت إلى أسلوب بسيط مقبول، تراه وإن لم يرضك كثيراً من ناحية البلاغة، لن يثقل عليك ولن تمله
غير أني أرى بناء القصة عندها ضعيفاً، ولعلها لا تسير فيها على قاعدة ولا تنتهج طريقة، وإنما يختلج الرأي في رأسها فتلبسه ثوب القصة في أي وضع، جاعلة نصب عينيها إبراز الفكرة وتوضيحها بطريقة سهلة غير طريقة الدفاع والمناقشة. ولعلها لم تفكر قط في بناء تلك الأقاصيص؛ والحقيقة أنها أقرب إلى (الحكايات) التي تدور بين جليسين منها إلى القصة في وضعها الفني، فأنت إذا طلبت الاستمتاع الفني عند قراءة هاتيك الأقاصيص لن تظفر به في معظمها، أما إذا طلبت الرأي والعاطفة فهي متوفرة لديك
هذا إلى أن الكاتبة النابهة، أقوى شخصية وأشد تأثيراً وأسمى بياناً في المقالة عنها في القصة، فلقد أعجبت حقاً بمقالها (تطور الآراء في تعليم المرأة وتربيتها) وتلوته مرتين مستمتعاً بما جاء فيه من آراء صائبة، وما تجلى في ثناياه من روح متوثبة
وإني إذ أقدم هذا الكتاب إلى فتياتنا وفتياننا، أتقدم بالثناء للمربية الفاضلة على ما بذلت من جهد وما توخت من خير
الخفيف