المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 121 - بتاريخ: 28 - 10 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ١٢١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 121

- بتاريخ: 28 - 10 - 1935

ص: -1

‌خيبة المدنية

وا أسفاه!! أبعد هذه الحقب الملايين التي أتت على سليل الطين فسوت من خلقه، وراضت من خلقه، وصقلت من ذهنه، وصفت من جوهره، وجعلته على ملكوت الأرض يديره على حكمه، ويجريه على نظامه - لا يزال كأوابد الفقر وضواري الغاب يسطو القوى على القوى بالختل، ويعدو القوى على الضعيف بالقتل، وتضطرب الشهوات والمآرب بين الحيلة والغيلة اضطراب الأثرة بين العجز والقدرة؟!

أبعد الرسالات المتعاقبة التي بلغها رسل الله فغمرت العالم بالضياء، ووصلت الأرض بالسماء، ونهجت للنقص البشري سبيل الكمال المطلق - لا يبرح الإنسان باسطاً عنانه في الجهل، يرتكس في عماية الهوى، ويرتطم في حمأة المادة، ويجعل من الدين غشاء لنابه، ومن الأخلاق طلاء لظفره!

أبعد انتشار العلوم التي هتكت أستار الكون، وكشفت أسرار الطبيعة، وسبرت أغوار الحياة، وذلك ريض القوة - يظل أبن آدم على حيرة من يومه، وفي غمة من غده؛ لا يثق وثوق العالم بالحاضر، ولا يطمئن اطمئنان المؤمن بالمستقبل؟

أبعد ازدهار الآداب التي خلقت للناس أجنحة من الشعر، وكشفت للعالم أجواء من الخيال، وأبهجت مشاعر النفس بسحر المجهول، ودبجت حواشي العيش بألوان الربيع، ووجهت مطامح العيون إلى رفيع المثل - يظل الإنسان مسفا إلى حقير الأمل، مدفوعاً إلى دنى الغرض، محصوراً في حدود المنفعة؟!

أبعد هذه المدينة المغرورة التي تزعم إنها حررت الفكر، وأبطلت الرق، وضمنت حقوق الإنسان، ووحدت المقاييس بين الألوان، وحصرت أهواء الدول العاتية في قصر من قصور (جنيف) لتأمين خصامها بالتوفيق، وضمن سلامها بالتعاهد، وتجعل من جماعتها ألباً على الطغيان، وحرباً على العدوان، ويداً على الإثم - يظل الإنسان على عاد الجاهلية: يتكاثر بالعديد، ويتعزز بالسلاح، ويرصد الغفلة للغزو، ويفتري الحجة للغضب، ويغذى قوته على ضعف غيره؟!

من كان يظن بعد هذا الدهر المتطاول والعمران المستبحر والتقدم العجيب، أن يظل الناس على ضراوة الفطرة لا يتغير فيهم غير الغشاء، ولا يتبدل غير الأسماء، فتصبح البربرية بالعلم مدنية، والاغتصاب بالمدينة إنتداباً، والإسترقاق بالقانون وصاية!

ص: 1

من كان يظن أن بحر الروم الذي كان بالأمس مسبحاً لغارة القرصان، ومسرحاً لبغي الرومان، لا يزال اليوم مجالاً لمثل ذلك؛ فالأساطيل على وجهه، وفي جوفه، وفي جوه، تضطرم بالحديد والنار لا استجابةً لصريخ الحق، ولا إطاعة لأمر القانون، ولكن لأن طاغية من طغاة المدنية المغشوشة، حشر جنوده في البر والبحر والهواء ليقتل أمة عزلاء قبل أن يتفق مع منافسيه على اقتراف الجريمة واقتسام الغنيمة؟!

من كان يظن إن هذا (الفاشي) المفتون يقف بمرأى من (الفاتيكان)، وعلى مسمع من (جنيف)، فيلغي قانون (العصبة)، وينقض ميثاق (كيلوج)، ويتحدى جميع الدول، لأنه نفخ (زقاقه السود) بالهواء الحار، وحوَّل الحذاء الإيطالي كله مصانع للذخائر والآلات، ومعامل للسموم والغازات، ثم تكبر وإختال، وتيخل ثم خل، وفكر فيمن يحرقه بهذا الرصاص، ويمزقه بهذا الديناميت، ويخنقه بهذا الغاز، ويسحقه بهذا الحديد، فلم يجد كفاء لتالد روما وطريف الفاشيست غير الحبشة المتواضعة المسكينة!! ولكن بأي حجة يبلغ (الدوتشي) الشعوب الهمج. والأحباش ولا ريب همج لأنهم لا يأكلون (الأسباجتي)، ولا يشربون (الكيانتي)، ولا يسترقون إلا الأفراد فلم يرتقوا بعد إلى استرقاق الأمم!!

أما بعد، فلو كانت أمور الناس تجري على سنن المنطق لكانت الحبشة أولى بتمدين إيطاليا؛ قضى خمسون دولة بالإجماع على الطليان بالعار والخزي، فقاطعوهم مقاطعة المجذوم، وطاردوهم مطاردة الآثم؛ ووقف الأحباش من المغير موقف الكرامة والنبل، يقابلون العدواة بالسلم، ويدافعون السفاهة بالحلم، حتى ظفروا بإعجاب العالم ورشح النجاشي لجائزة نوبل!! فلما أغار (المتمدنون) من غير إعلان، وقاتلوا من غير ضمير، واستعملوا أسلحة بغير حق، دافع (الهمجيون) دفاع المستبسل الحر، وجاهدوا جهاد المستشهد الصابر، وغالبوا باطل المعتدين بقوة الحق وعطف الشعوب ومزايا الرجولة، وكان موقف النجاشي الأسود من الزعيم الفاشي الأبيض موقف رب الدار من اللص، وصاحب القانون من الجرم!

رويدك يا أسود الشعار وممثل دور الجبار ومنذر العالم بيوم القيامة! إن أرواح الشباب الذين قذفتهم ظلماً في جحيم الحبشة، لتخرق أذنيك من خلال اللهيب بهذا الهتاف الرهيب:

على رسلك يا نيرون! إنك تحرق روما مرةً ثانية!!

ص: 2

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌بعد شوقي

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

كان يتوجه الظن على شوقي رحمه الله فيزعم الزاعم أن شوقي هو يحي شعره، وهو يرفع منه، وهو يشيع حوله قوة الجذب من مغناطيس الثروة والمكانة؛ وإن الرجل ما أوفى على شعراء جميعاً لأنه أفضلهم، بل لأنه أغناهم، ولا من أنه أقواهم قوة، بل لأنه أقواهم حيلة؛ وأن الشاعر لو جاء يومه لبطل السحر والساحر، فترجع العصا وهي عصاً بعد أن انقلبت حية، ويؤول هذا الشعر إلى حقيقته، وتتسم الحقيقة بسمتها؛ كأن شوقي كان يعمل لشعره بقوة السموات والأرض لا بقوة رجل من الناس.

فقد ذهب الرجل إلى ربه، وخلا مكانه، وبطلت كل وسائله، ونام عن شعره نومة الأبدية، وتركه لما فيه يحفظه أو يضيعه إن كان فيه حق من الشعر أو باطل، وأصبح الشاعر هو وماله وجاهه وشعره في حكم الكلمة التي بقولها الزمن، ولم تعد هذه الكلمة في حكمه. فهل أثبته الزمن أو نفاه، وهل سلم له أو كابره، وهل رده في غمار الشعراء أو جعل الشعراء بعده أدلة من أدلته؟

أول ما ظهر لي أن الزمن بعد شوقي أصبح أقوى في الدلالة عليه وأصدق في الشهادة له، كما تكون الظلمة بعد غياب القمر شرحاً طويلاً لمعنى ذلك الضياء، وإن سطعت فيها الكواكب وتوقد منها شيء وتلألأ شيء. فقد دل الزمن على أن ذلك الشأن لم يكن لشاعر كالشعراء، يقال في وصفه إنه مفتن مجيد مبدع؛ ولكنه للذي يقال فيه إنه صوت بلاده وصيحة قومه كانت تحدث الحادثة، أو يتخالج الناس معنى من الهم الذي يعمهم، أو يستطيرهم فرح من أفراح الوطن، أو يزول عظيم من العظماء فيزيد صفحة في التاريخ، أو ينشأ كون صغير من أكوان الحضارة في الشرق كبنك مصر، أو ترتج زلزلة في الحياة العربية أينما ارتجت، فإذا كل ذلك قد وقع في الدنيا بهيئتين إحداهما في ذهن شوقي، فيرسل قصيدته الشرود السائرة داوية مجلجلة، فلا تكاد تظهر في مصر حتى تلتقي حولها الأفكار في العالم العربي كله، فتكون شعراً من أسرى الشعر وأحسنه، ثم تجاوز فإذا هي صلة من أقوى الصلات الذهنية بين أدباء العربية وأوثقها، ثم تجاوزها فإذا هي عاطفة تجمع القلوب على معناها، ثم تسمو فوق هذا كله فإذا هي من هذا كله زعامة مصر على

ص: 4

الشعر العربي.

واليوم يقع مثل ذلك فتتطاير بعض الفقاقيع الشعرية من هنا وثم ملونة منتفخة ماضية على قانون الفقاقيع في الطبيعة من أن لحظة وجودها هي لحظة فنائها، وأن ظهورها يكون لتظهر فقط لا لتنفع.

ولست أماري في إن بيننا شعراء قليلين يجيدون الشعر ولهم فكر وبيان ومذهب وطريقة، ولكن ما منهم أحد إلا وهو يشعر من ذات نفسه أن الحوادث لم تختره كما اختارت شوقي، وأنه في الحياة كالواقف على باب ديوان ينتظر أن يعهد إليه وأن يخرج له التقليد فهو ينتظر وسينتظر.

وهذا عجيب حتى كأنه سحر من سحر الزمن حين تفصل الدنيا بين العبقري الفذ وبين من يشبهونه أو ينافسونه - بضروب خفية من الصرفة والعوائق لا هي كلها من قوة العبقري ولا هي كلها من عجز الآخرين.

وأعجب من ذا إن (شوقي) كان في العالم العربي كأنه عمل تاريخي متميز من أعمال مصر، غير أنه مسمى بأسم رجل؛ وكان على الحقيقة لا على المجاز - كأن فيه شيئاً من هذه الروح التاريخية المتغلبة التي تخلد بأسماء الآثار الفنية وتكسبها العظمة في الوجودين، من محلها ومن نفس الإنسان.

وأعجب من هذا وذلك أني لم أر شعراً عربياً يحسن في وصف الآثار المصرية ما يحسن في وصفها شعر شوقي، حتى لأسأل نفسي: هل تختار بعض الأشياء العظيمة وصفها ومفسر عظمتها، كما تختار المرأة الجميلة عاشقها ومستحلي حسنها؟

وما بان شوقي على غيره إلا بأنه رجل أفرغ في رأسه الذهن الشعري الكبير، فكان في رأسه مصنع عماله الأعصاب، ومادته المعاني، ومهندسه الإلهام؛ والدنيا ترسل إليه وتأخذ منه؛ وعلامة ذلك من كل شاعر عظيم أن تضع دنياه على أسمه شهادتها له. ولهذا ما يكون بعض الشعراء كأن أسمه في وزن اسم مملكة. فإذا قلت شكسبير وإنجلترا، فهما في العظمة النفسية من وزن واحد، وكذلك المتنبي والعالم العربي، وكذلك شوقي ومصر.

قالوا كان الفرزدق ينقح الشعر، وكان جرير يخشب (أي يرسل شعره كما يجيء فلا يتنسوق فيه ولا ينقحه)؛ وكان خشب جرير خيراً من تنقيح الفرزدق. ولم يتنبه أحد إلى

ص: 5

السر في ذلك؛ وما هو إلا السر الذي كان في شوقي بعينه، سر الامتلاء الروحي قد أمد بالطبع، وأعين بالذوق، وأوتى القوة على أن يتحول بآثاره في الكلام؛ فكل ما كان منه فهو منه، يجيء دائماً قريباً بعضه من بعضه، ولا يكاد ينفذ إلى شعور إلا اتحد به.

وقد كان عمر بن ذر الواعظ البليغ إذا تلكم في مجلسه نشر حوله جسواً من روحه فيجعل كل ما حوله يتموج بأمواج نفسية؛ فكان كلامه يعصف بالناس عصف الهواء بالبحر يقوم به ويقعد، وكان من الوعاظ من يقلده ويحكيه ولا يدري إنه بذلك يعرض الغلطة على ردها وصوابها، فقال بعض من جالسه وجالسهم: ما سمعت عمر بن ذر يتكلم إلا ذكرت النفخ في الصور، وما سمعت أحداً يحكيه إلا تمنيت أن يجلد ثمانين. . .

فالفرق روحاني طبيعي كما ترى، لا عمل فيه لأحد ولا لصاحبه وهو يشبه الفرق بين عاصفة من الهواء وبين نسيم من الريح يرسلان على جهتين في البحر. ففي ناحية يلتج الماء ويثب ويتضرب ويقصف قصف الرعد، وفي الأخرى يترجرج ويتزحف ويقشعر ويهمس كوسواس الحلي.

والشأن كل الشأن للكمية الوجدانية في النفس الشاعرة أو الممتازة؛ فهي التي تعين لهذه النفس عملها على وجه ما، وتهيئهاً لما يراد منها بقدرٍ ما، وتقيمها على دأبها إلى زمن ما، وتخصها بخصائصها لغرض ما. وإذا أنت حققت لم تجد الفروق بين النوابغ بعضهم من بعض، إلا فروقاً في هذه الكمية ذاتها مقداراً من مقدار. ولولا ذلك لكان أصغر العلماء أعظم من أكبر الشعراء، فقد يكون الشاعر العظيم كأنه تلميذ في العلم ثم يكون العلم كأنه تلميذ لقلب هذا الشاعر وعواطفه. ولئن عجز النقد العلمي أن ينال من الشاعر العبقري لقديماً عجز في كل أمة.

وقد كان فيمن حاولوا إسقاط شوقي من هو أوسع منه إطلاعاً على آداب الأمم، وأبصر بأغراض الشعر وحقيقته، وكان مع ذلك حاسداً شانئاً قد ثقب في قلبه الحقد؛ والحاسد المبغض هو في اتساع الكلام وطغيان العبارة أخو المحب العاشق، فكلاهما يدور الدم في كبده معاني ووساوس، وكلاهما يجري كلامه على أصل مما في سريرته فلا تجد أحدهما إلا عالياً عالياً بمن يحب، ولا تجد الآخر إلا نازلاً نازلاً بمن يبغض. وكان هذا الناقد شاعراً فأنضاف شعره إلى حسده، إلى بغضه، إلى ذكائه، إلى إطلاعه، إلى جهده، إلى طول الوقت

ص: 6

وتراخي الزمن؛ وهذه كلها مفرقعات نفسية. . . بعضها أشد من بعض كالبارود، إلى الديناميت، إلى الميلينيت؛ ولكن شوقي كان في مرتقى لم يبلغه الناقد فانقلب جهد هذا عجزاً وأصبح البارود والتراب في يده بمعنى واحد. . . .

ومن أعجب ما عجبت له من أمر هذا الناقد، أني رأيته يقرر للناس صواب الحقيقة بزعمه، فإذا هو يقرر غلطه وجهله وتعسفه. وهو في كل ما يكتب عن شوقي يكون كالذي يرى الماء العذب وعمله في إنبات الروض وتوشيته وتلوينه، فيذهب بعيبه للناس بأنه ليس هو البنزين. . . الذي يحرك السيارات والطيارات.

تناول شوقي بعد موته فجرده من الشخصية أي من حاسة الشعر ومن إدراك السر الذي لا يخلق الشاعر الحق إلا لإدراكه والكشف عن حقائقه؛ وكان فيما استدل به على ذلك أن شوقي لا يحسن وصف الربيع بمثل ما وصفه ابن الرومي في قوله:

تجدُ الوحوشُ به كفايَّتها

والطيرُ فيه عتيدةُ الطُّعْمِ

فظباؤُه تُضحى بُمنْتَطَح

وحمامه يضحى بمختَصمِ

وزعم أن ابن الرومي قد ولد بحاسة لم يولد بها شوقي، ولهذه الحاسة اندمج في الطبيعة فأدرك سر الربيع وأنه غليان الحياة في الأحياء، فالظباء تنتطح من الأشر الخ الخ وبنى على ذلك ناطحة سحاب. . . . لا ناطحة ظباء.

أما شوقي الشاعر الضعيف العاجز الذي لم يولد بمثل تلك الحاسة فلو أنه شهد ألف ربيع لما أحس هذا الإحساس ولا استطاع أن يجيء بمثل هذا القول المعجز. وكل ذلك من هذا الناقد جهلٌ في جهل في جهل، واعاليل بأضاليل بأباطيل؛ فابن الرومي في هذا المعنى لصٌّ لا أكثر ولا أقل، فلم يحس شيئاً ولا ابتدع ولا اخترع.

قال الجاحظ: يقال في الخصب (أي الربيع) نفَشَت العنز لأختها؛ وخلفت أرضاً تطالم معزاها (أي تتظالم). قال لأنها تنفش شعرها وتنصب روقيها في أحد شقيها فتنطح أختها وإنما ذلك من الأشر. (أي حين سمنت وأخصبت وأعجبتها نفسها).

فأنت ترى أن ابن الرومي لم يصنع شيئاً إلا أنه سرق المعنى واللفظ جميعاً، ثم جاء للقافية بهذه الزيادة السخيفة التي قاس فيها الحمام على الظباء والمعزة. . . . فاستكره الحمام على أن يختصم في زمن بعينه وهو يختصم في كل يوم. وإنما شرط الزيادة في السرقة الشعرية

ص: 7

أن تضاف إلى المعنى فتجعله كالمنفرد بنفسه أو كالمخترع ولعمري لو كان للطبيعة مائة صورة في الخيال الشعري، ثم قدم شوقي للناس تسعاً وتسعين منها، لقال ذلك الناقد المتعنت: لا. إلا الصورة التي لم يقدمها. . . .

وكان شعر شوقي في جزالته وسلاسته كأنما يحمل العصا لبعض الشعراء، يردهم بها عن السفسفة والتخليط والاضطراب في اللفظ والتركيب؛ فكثر الاختلال في الناشئين من بعده وجاءوا بالكلام المخلط الذي تبعث عليه رخاوة الطبع وضعف السليقة، فتراه مكشوفاً سهلاً ولكن سهولته أقبح في الذوق من جفوة الأعراب على كلامهم الوحشي المتروك.

والآفة أن أصحاب هذا المذهب يفرضون مذهبهم فرضاً على الشعر العربي كأنهم يقولون للناس: دعوا اللغة وخذونا نحن. وليس في أذهانهم إلا ما اختلط عليهم من تقليد الأدب الأوربي فكل منهم عابد الحياة، مندمج في وحدة الكون، يأخذ الطبيعة من يد الله، ويجاري اللانهاية، ويفنى في اللذة، ويعانق الفضاء، ويغني على قيثارته للنجوم؛ وبالاختصار فكل منهم مجنون لغوي. . . .

وأنا فلست أرى أكثر هذا الشعر إلا كالجيف، غير أنهم يقولون إن الجيفة لا تعد كذلك في الوجود الأعظم، بل هي فيه عمل تحليل علمي دقيق. لقد صدقوا، ولكن هل يكذب من يقول: إن الجيفة هي فساد ونتن وقذر في اعتبار وجودنا الشخصي، وجود النظر والشم، والانقباض والانبساط، وسلامة الذوق وفساد الذوق!

وكان حاسدو شوقي يحسبون أنه إذا أزيح من طريقهم ظهر تقدمهم؛ فلما أزيح من الطريق ظهر تأخرهم. . . وهذه وحدها من عجائبه رحمه الله.

وقد كان هذا الشاعر العظيم هبة ثلاثة ملوك للشعب، فهيهات ينبغ مثله إلا إذا عمل الشعب في خدمة الشعر والأدب عمل ثلاثة ملوك. . . . وهيهات.

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 8

‌السنيون والشيعة

للأستاذ أحمد أمين

بهذا العنوان كتب الأستاذ (محمد رضا المظفر) من أفاضل علماء النجف مقالاً قيماً في (عدد الرسالة 118 السنة الثالثة)؛ وقد أستهلها الأستاذ بالعجب من أن أكون كاتب (فجر الإسلام وضحاه)، وكاتب (مقدمة تاريخ القرآن) للأستاذ الزنجاني معاً وأن (النغمة التي ظهرت مني في هذه المقدمة نغمة متواضعة على وتر من إحساس جديد) وإنها على عكس ما ظهر مني في فجر الإسلام وضحاه، وفسر ذلك بأن لي (شخصيتين تباعدتا على قرب العهد بينهما)

والحق - يا أخي - أن النغمتين صدرتا عن نفس واحدة كانت تكره الخلاف بين السنيين والشيعة أشد الكره وأعمقه يوم كتبَتْ فجر الإسلام وضحاه كما كانت تكرهه يوم كتبت مقدمة تاريخ القرآن، وكما لا تزال تكرهه إلى اليوم

وكل مظاهر الخلاف بين القولين سببه أني بحثت في فجر الإسلام وضحاه مذهب الشيعة كما يبحثه كل عالم، وحاولت جهدي أن أضع التعصب جانباً، وأن أتناسى أني سني أكتب عن الشيعة، وأملأ نفسي عقيدة أني مؤرخ يتطلب الحق حيث هو - ومن أجل ذلك نقدت السنيين كما نقدت الشيعة، وقلت ما اعتقدته الحق في هؤلاء وهؤلاء، ووضعت الفرقتين في كفتي ميزان؛ فإذا قلت إن بعض الشيعة وضعوا بعض الأحاديث قلت إن بعض السنيين وضعوا بعض الحديث أيضاً، لأني اعتقدت الحق في ذلك؛ وهكذا سرت على هذا النهج دائماً وأنصفت المعتزلة في بعض آرائهم، والخوارج في بعض آرائهم، والشيعة في بعض آرائهم. مع أن العادة جرت أن السنيين لا يرضون عن شيء من ذلك، فأسلوبي في الحالين طلب الحق حيث كان، وإذا كان ديننا يتطلب منا أن نزن الحق في ذاته من غير أي اعتبار آخر سواء كان مصدره مسيحياً أو يهودياً أو وثنياً، فبالأحرى نزنه إن كان مصدره معتزلياً أو خارجياً أو شيعياً؛ وكل ما في الأمر أن بعض أخواني من الشيعة اخطأوا من ناحيتين: الأولى إنهم دائماً طبقوا ما أقوله عن الشيعة على أنفسهم، وفهموا أني لا أعني بالشيعة في كل موضوع إلا إياهم، مع أن الشيعة كما يعلمون فرق مختلفة لا حصر لها، وإن منها الغالي الممعن في غلوه، ومنها المعتدل القريب من الإنصاف، وليست الإمامية التي يدين

ص: 9

بها أهل العراق وفارس إلا فرقةً واحدة من فرق عديدة، بعضها باق إلى اليوم، وبعضها عفى عليه التاريخ؛ فخطأ محض أن يظنوا أني كلما قلت (الشيعة) عنيتهم؛ إنما يكون لهم الحق كل الحق أن يفهموا إني أقصدهم عندما أتكلم على الإمامية أو الاثني عشرية - والمؤرخ يجب عليه أن يؤرخ الماضي كما يؤرخ الحاضر، وأن يذكر الغلاة كما يذكر المعتدلين، فإذا عاب الغلاة فليس عيبه إذا فهم قوم منه أنه يعنيهم

والناحية الثانية هي ما دعوت إليه في (مقدمة تاريخ القرآن) من إنه يجب على العلماء من الطائفتين أن يوسعوا صدرهم للنقد النزيه (ويتلقوا النتائج بصدر رحب)، فهذه شيمة العلماء حقاً، فكم أخطأ الشيعة وكم أخطأ السنيون! فواجب الباحث أن يبحث المسائل حراً طليقاً، ويتأهب للبحث وهو على الحياد بالنسبة للنتائج، فسواء خرجت النتيجة صفراء أو سوداء لا يهمه، لا أن يعتقد أولاً ثم يبحث عن البرهان الذي يؤدي إلى النتيجة التي أعتنقها من قبل، فذلك ليس شيمة العلماء المخلصين للحق. وكل ما في الأمر أن الواجب أن ينحي العامة وأشباههم عن الدخول في مثل هذه المباحث لأنهم لا يستسيغونها ولا هم متهيئون لها، وليست تنفعهم في دينهم ولا ديناهم

بهذه الروح بحثت، ولا أدعى العصمة، فقد أكون أخطأت؛ وقد وجه بعض أخواني من الشيعة نظري إلى أني حين بحثت عولت على مصادر أهل السنة أكثر مما عولت على مصادر الشيعة، وكان الواجب ألا يعتمد في كلام خصم على خصم، وأن ينظر في قول كل فرقة إلى حكاية أصحابها وخصومها معاً، ثم يمحص الحق من ذلك كله؛ وقد أصغيت إلى هذا القول واقتنعت بصحته، فلما أردت أن أكتب فصل الشيعة في الجزء الثالث من ضحى الإسلام توسعت ما وسعني في قراءة الكتب المعتمدة عند الشيعة، ولا أزال أقلبها ظهراً لبطن وأفكر فيها من وجوهها المختلفة حتى ينثلج صدري للحق وأومن بما يقوم عليه البرهان من غير تحزب لناحية - وليس يتطلب مني أكثر من ذلك. وإنما يتطلب من قادة الرأي في الشيعة والسنيين ألا يضيق صدرهم حرجاً مما يقال متى خلصت نية القائل - وعلى القائل والكاتب أن يعمد إلى الحق والحق وحده، وأن يقوله في أدب لا في تهاتر وسباب

وليس من الحق ألا يرضى الشيعة عن المؤرخ إلا إذا مجد كل عقائد الشيعة وصوبها، كما

ص: 10

ليس من الحق ألا يرضى السنيون عنه إلا إذا مجد كل عقائدهم وصوبها، فالمؤرخ قاض عادل لا يهمه من رضى ومن غضب، وهو لم ينصب للإرضاء والإغضاب، إنما نصب ليتعرف الحق ويجهر به

هذا ما أردت أن أقوله من الناحية العلمية، وأرى من وراء ذلك كله إلى القول بأن البحث العلمي شيء والنزاع والخصام شيء آخر، وأن البحث العلمي لا يمنع التفاهم والوئام، بل هو إذا نظر إليه النظر الواسع العالي سبب من أسباب الألفة

أما الناحية العملية في الوفاق فسهلة ميسورة متى أخلص القادة في ذلك - وهي في هذا الزمان أيسر وأسهل؛ وإذا كانت الوطنية قد استطاعت أن توفق في مصر بين الأقباط والمسلمين، وفي سوريا بين المسلمين والمسيحيين، فكيف لا تستطيع المصالح المشتركة القوية الواضحة ألا توحد بين الشيعة والسنيين وهم أهل دين واحد يجمعهم الإيمان العميق في صدورهم بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وان كل الخلاف بينهم موجات على السطح وفقاقيع في الظاهر يستغلها أهل الجاه والمال والرياسة فيوهمون أنها كل شيء في الدين، وليس ذلك بصحيح إلا إذا كانت فقاقيع الماء كل الماء، وأمواج البحر هي كل البحر، وزبد السوائل كل السوائل، والعمامة الخضراء والحمراء والبيضاء هي كل الإسلام؛ فالحق إن الإسلام أعمق من ذلك كله، وما الخلافة والنزاع عليها والفروق الخفيفة في مظاهر الوضوء والصلاة والزواج والطلاق ونحو ذلك إلا أشياء تافهة كل التفاهة بجانب القواعد الأساسية للدين، والفرق بينهما كالفرق بين مظهر الإنسان وقلبه، وبين ملبسه ومخبره. ليكن الإيمان بالأسس في القلب، ثم ليكن المظهر ما يكون، فالله ينظر إلى قلوبكم لا إلى صوركم

وليقلل علماء الدين سنيون وشيعة من تمسكهم بالمظهر ومحافظتهم على وجاهتهم في قومهم وأتباعهم وما يغله ذلك عليهم، يروا أن الوفاق أقرب ما يكون وأسهل ما يكون ويضحكوا ويبكوا من سخافات السلف والخلف الذين أثاروا النزاع على التافه وتركوا اللباب أليس من السخف أن يتقاتل طائفتان على خلاف تاريخي أكان علي أحق بالخلافة أم أبو بكر وعمر، وعلي وأبو بكر وعمر في قبورهم لا يعنون بشيء من ذلك؟ أم ليس من السخف أن يتعادى طائفتان مسلمتان تقرأن كل أسس الإسلام من أجل اختلافهما في جزيئات صغيرة في أشكال

ص: 11

الوضوء وما إليه؟ أم ليس من السخف ألا يقر الشيعة بعلم ولا فضل ولا فكرة ولا عمل مجيد إلا إذا صدر من شيعي؟ وألا يقر السنيون بعلم ولا فضل ولا فكرة ولا عمل مجيد إلا إذا صدر من سني؟. . لا لا أيها القوم! جعفر الصادق رجل عظيم، وأبو حنيفة رجل عظيم، فليزر شيعة العراق أبا حنيفة لعظمته، وليزر سنيو العراق مشهد الحسين لعظمته؛ والأمهات يلدن النوابغ على السواء، فلم تضن على الشيعة بنوابغ ولا على السنيين بنوابغ، كما لم تضن على الأمم الأخرى بنوابغ، فحصر كل فرقة تعظيمها لرجال فرقتها ضيق في النظر وفقر في الفكر.

وإذا زال هذا كله وأمثاله - وهي فيما أرى من البديهيات - رأينا الخلاف قد تبخر ولم يعد له أساس، ولا يبقى إلا عند المؤرخ والباحث، والمؤرخون والباحثون دائماً متصافون متى كان رائدهم الحق، وشعارهم الصدق، ولم تطوح بهم الأغراض والشهوات

ليس من وسيلة تدرأ هذا الخلاف إلا أن يتقدم علماء اليوم من الفريقين فيمحوا الآثار السيئة التي خلفها علماء الأمس

ولعل أصلح بقعة لذلك هي العراق، لأنها أشد البلاد مظهراً لهذا الخلاف، فيتعاون رؤساء الطائفتين لعقد مؤتمر في بغداد من رؤساء السنيين والشيعة، ويبحثوا وجوه الخلاف وكيف تزال في جو هادئ مخلص؛ وأسبق الطائفتين إلى هذه الدعوة أفضلهم، ولا يجعلوا للعامة والغوغاء سلطاناً، وليحذروا من أصحاب المطامع والشهوات ودسائسهم، وليجعلوا شعارهم في كل مجتمع وعند كل خلاف (مسلمون قبل كل شيء)(مسلمون قبل أن نكون شيعة وسنيين).

ولا بأس أن يدعوا قادة الفكر في مصر والشام والحجاز للاشتراك في هذا المؤتمر والتشديد في حصر أغراضه في إزالة الخلاف بين سني وشيعي، فلا يمسون أي موضوع آخر، ثم يرسمون الطريق العملي لإزالة هذا النزاع من تزاور الطائفتين، واتخاذ شعار لهذا الوفاق، وتبيين يوم يتخذ عيداً يذكر بهذا الاتحاد ونحو ذلك. إنهم إن فعلوا واخلصوا خلصوا من أكبر مشكلة يتعرض لها الطائفتان، وأمكنهم أن يوجهوا هذه القوى - العظيمة التي تذهب في الخلاف - إلى إصلاح شؤونهم الاجتماعية، واستطاعوا أن يتعاونوا على رفع مستوى قومهم، وعجبوا بعد قليل - لما يظهر من نتائج باهرة - كيف كانوا جميعاً في ظلام دامس،

ص: 12

وكيف كانوا هذا الزمن الطويل يستمسكون بالعرض، ويضيعون الجوهر، ويفرطون في الكتاب، ويحتفظون بالغلاف

واقرر من الآن أني سوف لا أرد على من يتخذ من بعض ما جاء في هذه المقالة وسيلة لإثارة النزاع من جديد، إلا أن يفتح صاحبها مجالاً للكلام في مشروع المؤتمر، أو وسائل الوفاق وباللهالتوفيق. . . .

أحمد أمين

ص: 13

‌عصبة الأمم وتطبيق العقوبات

تحريم الحرب من الوجهة الدولية وتشبيه الدولة بالفرد في قمع

الاعتداء

لباحث دبلوماسي كبير

لأول مرة في التاريخ نشهد قراراً دولياً بأن حرب الاعتداء وسيلة غير مشروعة لتحقيق غايات السياسة القومية، ولأول مرة في التاريخ تصدر دول العالم ممثلة في عصبة الأمم حكمها على دولة أوربية عظمى هي إيطاليا بأنها دولة معتدية، وإنها بغزو الحبشة ترتكب خرقاً لقانون الأمم؛ بل نشهد في الواقع ما هو أعظم من الأحكام النظرية؛ نشهد عصبة الأمم تقرر باسم دول العالم أن توقع على إيطاليا طائفة من العقوبات الاقتصادية التي نص عليها في ميثاقها؛ وهذه أول مرة تتخذ فيها عصبة الأمم مثل هذه القرارات الخطية الحاسمة، وقد كان يبدو دائماً كلما وقعت أزمة دولية خطيرة أن هذه النصوص التي أدمجت في ميثاق عصبة الأمم وقت حمى السلام، إنما هي نصوص خيالية لا سبيل إلى تطبيقها بصورة عملية؛ ولكن يلوح لنا إن عصبة الأمم تسير هذه المرة بعزم واضع إلى تطبيق هذه التجربة الشائكة، وإنها تزمع أن تصل بتطبيقها إلى نتائج عملية لا شك في أهميتها من الوجهة الدولية

وهذا الإقدام الذي تبديه العصبة في مقاومة الاعتداء الإيطالي على الحبشة وعلى السلام العام يثير بلا ريب كثيراً من الإعجاب، ويرفع بلا ريب هيبة العصبة بعد أن كادت تغيض في الأعوام الأخيرة؛ ولكن يجب ألا نبالغ في فهم الدور الذي تؤديه العصبة في هذا النضال الدولي الخطير، أو بعبارة أخرى يجب أن نفرق بين العصبة كشخصية دولية معنوية، وبين الدول التي تساهم في تكوينها وتشرف على توجيهها؛ فمن الواضح أنه لو لم تقف إنكلترا وقفتها المعروفة في التمسك بميثاق العصبة، ولو لم توفق السياسة البريطانية إلى إقناع الدول الأخرى بوجهة نظرها في تأييد الميثاق، بل لو لم تقم إنكلترا باتخاذ تلك الاهبات البحرية والعسكرية الخطيرة لتأييد موقفها، لما استطاعت العصبة أن تقدم بمثل هذا العزم على تطبيق الميثاق واتخاذ قرارها الشهير في الحكم على إيطاليا بالاعتداء وتوقيع

ص: 14

العقوبات الاقتصادية عليها

ومن الواضح أيضاً أن بريطانيا العظمى لم تقف هذا الموقف الحازم من المغامرة الإيطالية حباً في السلام فقط، أو لأن بريطانيا تريد أن تكون حارسة للسلم، أو أن تكون على حد تعبيرها (بوليسا) للقارة، أو بوليسا للعالم. فبريطانيا أزهد ما يكون في مثل هذه المهمة التي تعرضها لمتاعب ومسؤوليات لا نهاية لها؛ ولكن الحقيقة أن هذه الحرب الاستعمارية التي تثيرها إيطاليا تعرض مصالح الإمبراطورية البريطانية للخطر، وفوز إيطاليا بافتتاح الحبشة وتحقيق حلمها في إقامة إمبراطورية استعمارية في شرق أفريقيا، يهدد السيادة البريطانية في وادي النيل، وفيما وراء البحار، ويعرض المواصلات الإمبراطورية البريطانية لأخطار لاشك فيها، وإذكاء مطامع إيطاليا القيصرية بالفتح يهدد سيادة إنكلترا البحرية في البحر الأبيض المتوسط، وهي عماد الطريق الإمبراطوري إلى الهند وإلى استراليا. فهذه البواعث الخطيرة هي التي تحمل إنكلترا قبل كل شيء على اتخاذ موقفها في تحريك ميثاق عصبة الأمم، وفي المغامرة بالدخول في أية معارك بحرية أو برية يقتضيها تطبيق العقوبات الاقتصادية على إيطاليا

على إنه مهما تكن البواعث التي تواجه السياسة البريطانية في الآونة الحاضرة فلا ريب أن بريطانيا العظمى تقف إلى جانب السلم، ولا ريب إنها بموقفها تؤيد سلام العالم؛ وإذا كانت الفاشستية الإيطالية بعنفها المضطرم، ووسائلها المثيرة، وأحلامها الإمبراطورية، وغرورها الأعمى، تهدد الإمبراطورية البريطانية في البحر الأبيض والبحر الأحمر، فإنها تهدد سلام العالم أيضاً؛ وربما كان من حسن الطالع أن يتحد هذان العاملان معاً، وأن تجد بريطانيا من بواعث مصالحها الحيوية ما يدفعها إلى العمل في تلك الآونة لتحطيم مشروعات إيطاليا الهمجية. وها نحن أولاء نشهد من إصرار بريطانيا على موقفها، ومن تمسكها بتطبيق العقوبات الاقتصادية ضد إيطاليا، ومن أهباتها البحرية والعسكرية ما يفسر خطورة البواعث والعوامل التي تجثم وراء هذا النزاع

وقد كثر الحديث حول العقوبات الاقتصادية التي تعنى بتطبيقها عصبة الأمم ضد إيطاليا المعتدية؛ وهي عقوبات لها خطورتها وأثرها في هذا العصر الذي يتوقف كل شيء فيه على المال، وتستمد فيه قوى الدول من مواردها المالية قبل كل شيء؛ فإذا شلت موارد

ص: 15

الدولة من جراء مقاطعة اقتصادية صارمة تنظمها الدول الأخرى، فلا ريب إن مشاريعها العسكرية تصاب أيضاً بنوع من الشلل يضطرها إزاء هذا الضغط إلى الخضوع. وقد أجملت المادة 16 من ميثاق عصبة الأمم ذكر هذه العقوبات، ولسنا نرى لشرحها خيراً من إيراد نص هذه المادة كاملاً وهو:

(إذا التجأ عضو من أعضاء العصبة إلى الحرب خلافاً للتعهدات المنصوص عليها في المادتين 12 و13 أو المادة 15 فإنه يعتبر قد أرتكب عملاً حربياً ضد كل أعضاء العصبة الآخرين، ويتعهد هؤلاء أن يقطعوا في الحال معه كل علائقهم التجارية والمالية، وأن يحظروا كل علائق بين رعاياهم وبين رعايا الدولة التي خرقت الميثاق، وأن يقطعوا كل الصلات المالية والتجارية والشخصية بين رعايا هذه الدولة وبين رعايا أية دولة أخرى، سواء أكانت عضواً في العصبة أم لا

(وفي هذه الحالة يجب على المجلس (مجلس العصبة) أن يوحي إلى الحكومات المختلفة ذات الشأن بتقديم القوى العسكرية أو البحرية أو الجوية التي يساهم أعضاء العصبة في تقديمها للقوى المسلحة التي تقوم بالعمل على احترام تعهدات العصبة

(ويتعهد أعضاء العصبة أيضاً أن يعاون بعضهم بعضاً في تطبيق الإجراءات الاقتصادية والمالية التي تتخذ طبقاً لهذه المادة والتي يراد بها أن تخفض إلى أدنى حد ما يمكن أن يترتب عليها من الخسائر والمضار، ويتعهدون أيضاً بالتعاون في مقاومة كل إجراء خاص يوجه إلى أحدهم من جانب الدولة التي خالفت الميثاق، ويتخذون الإجراءات اللازمة لكي يسهل المرور في أراضيهم لقوات أي عضو من أعضاء العصبة يساهم في العمل المشترك الذي يقصد به العمل على احترام تعهدات العصبة

ويمكن أن يفصل من العصبة كل عضو وينتهك أحد التعهدات المترتبة على هذا الميثاق، وبصدر قرار الفصل بموافقة أعضاء العصبة الآخرين الممثلين في المجلس)

فهذه العقوبات الدولية يمكن إجمالها في كلمة هي (المقاطعة الاقتصادية) وهذه المقاطعة هي التي تجد في سبيل تنظيمها عصبة الأمم ضد إيطاليا؛ وتجد إيطاليا من جهة أخرى في سبيل اتقاء عواقبها؛ وتعلل إيطاليا نفسها بأمل انقسام أعضاء العصبة وانهيار الجبهة التي استطاعت السياسة البريطانية أن تؤلفها ضدها حين البدء في تطبيق العقوبات، وتعتمد في

ص: 16

ذلك بادئ بدء على فرنسا التي تزداد كل يوم تردداً وإحجاماً؛ وسنرى على أي حال نتيجة هذا الصراع في القريب العاجل؛ بيد أن الذي نريد أن نلفت النظر إليه هو أن تنفيذ هذه العقوبات بدقة سيقتضي بلا ريب تنظيم نوع من الحصار المسلح ضد الدولة المعتدية أعنى إيطاليا، وقد يقتضي القيام ببعض الإجراءات والأعمال العنيفة، وهذا أخطر ما في التجربة، فإن إيطاليا تصرح دائماً بأنها ستقابل مثل هذه الأعمال العنيفة بمثلها، وعندئذ يكون هذا الصدام الذي لا مفر منه، بدء حرب، يستحيل أن تحصر في دائرة معينة، ومن المحتوم أن تتحول في الحال إلى حرب أوربية وربما إلى حرب عالمية

- 2 -

على أننا نترك هذه التكهنات جانباً لنبحث ناحية أخرى من الموضوع. ولنفرض أولاً أن عصبة الأمم قد وفقت في مهمتها، واستطاعت الدول المتحدة أن ترغم إيطاليا على وقف الحرب الحبشية، وأن تقنع بتسوية ودية تمنح بها بعض المزايا الاستعمارية؛ فماذا يمكن أن يترتب على هذه النتيجة من الوجهة الدولية؟ يمكن أن يترتب عليها تقرير مبدأ في منتهى الخطورة أو بعبارة أخرى تأييده من الوجهة العملية، إذ هو موجود بالفعل، وهذا المبدأ هو تحريم الحرب الاعتدائية؛ وقد نص على تحريم الحرب كأداة للسياسة القومية بمقتضى ميثاق كلوج؛ ولكن هذا الميثاق لم يكن أكثر من وثيقة نظرية؛ أما اليوم فإن تحريم الحرب يقع بصفة عملية، إذ ترغم دولة قررت عصبة الأمم أنها (معتدية) على وقف الحرب أو تعاقب على فعلتها بالمقاطعة الدولية. وهنا نستطيع أن نلمح وجه المقارنة الفقهية بين الدولة (المذنبة) وبين الفرد (المذنب) ففي القانون العام، وفي داخل المجتمع المتمدن يحرم على الفرد أن يرتكب ضد غيره عملاً من أعمال العنف، ولو وقع عليه اعتداء ما فلا يسمح له أن ينتصف لنفسه؛ ذلك لأن إقامة العدالة من حق المجتمع، والقانون العام ينظم المجتمع ويرتب حقوق الأفراد وواجباتهم، فإذا اعتدى على شخص فرد ما أو اعتدى على حقوقه، كان القانون كفيلاً بمعاقبة المعتدي، وكفيلاً برد الحق المسلوب، وإذا تقرر ذلك فما الذي يمنع من أن تشبه الدولة في جماعة الأمم بالفرد في المجتمع؟ وكما أن العنف محرم على الفرد - عدا ماله من حق الدفاع عن النفس أو المال - فكذلك يمكن أن يحرم العنف على الدولة وتحرم الحرب كأداة لتحقيق غايات السياسة القومية، وإذ كانت الحرب ما زالت

ص: 17

تعتبر في القانون الدولي أداة مشروعة للسياسة القومية، فإنه يمكن بتحريمها أن تغدو عملاً محرماً غير مشروع، والمقصود هنا دائماً هو الحرب الاعتدائية، وهذا ما سعى إليه الساسة الفقهاء الذين اشتركوا في وضع ميثاق تحريم الحرب أو (ميثاق كلوج)، فإذا تقرر أن الحرب محرمة، وأنها تعتبر خرقاً لمواثيق السلام وقانون الأمم، فإنه يمكن معاقبة الدولة التي تقدم عليها، إذا قررت دول العالم ممثلة في هيئة دولية عليا كعصبة الأمم، أنها دولة معتدية، وقررت بذلك أن تطبق عليها نوعاً من العقوبات يكفل ردها إلى صوابها

وهذا ما نشهده اليوم في الواقع، فإن عصبة الأمم، تقرر أن إيطاليا وهي عضو من أعضائها دولة معتدية فيما تقوم به من غزو للأراضي الحبشية، وتقرر أن تطبق عليها العقوبات الاقتصادية التي نص عليها في المادة السادسة عشرة من الميثاق، ولكنا نكرر القول بأن عصبة الأمم ما كانت لتجرؤ على اتخاذ مثل هذه الخطوة لو لم تحركها يد السياسة البريطانية القوية، وإلا فأين كانت عصبة الأمم يوم اعتداء اليابان على منشوريا والاستيلاء عليها تحت سمع العصبة وبصرها؟ وإذا كانت عصبة الأمم تستطيع كشخصية معنوية تمثل فيها إرادة الأمم أن تحكم على الدولة الممثلة فيها أولها، فمن الواضح أنه يقتضي لتنفيذ أحكامها قوة دولية أو وسائل ضغط معينة، وهذه القوة أو الوسائل أشارت إليها المادة السادسة عشرة من الميثاق، ولكنها لم تخلق أو توجد بعد، ولو لم تتقدم بريطانيا العظمى باهباتها وقوتها المسلحة مدفوعة بما تقدم من البواعث لتنفيذ العقوبات، لبقى قرار العصبة قراراً نظرياً لا سند له ولا أثر

على أن من الإسراف في التفاؤل والأمل أن نعتقد أن عصبة الأمم قد غدت محكمة الأمم العليا، وغدت ملاذ السلم الأعلى، وأن هذه الخطوة التي تقدم على اتخاذها اليوم ستغدو بالفعل مبدأ دولياً عالمياً يحتكم إليه في كل الحوادث والظروف المماثلة. إنها نظريات السلام والعدالة الدولية وحقوق الأمم تبدو في الأفق، وفي ظلها وباسمها تعمل عصبة الأمم، ولكنها القوة في الواقع تعمل من الوراء ظاهرة غير مستترة؛ وهي تعمل مسيرة بالبواعث والمصالح الخاصة التي كان من حسن الطالع أنها تتفق مع قضية العدالة الدولية والسلام العالمي؛ ولكن هل يمكن أن تجتمع مثل هذه الظروف دائماً إذا ما تعلق الأمر بإقامة الحق والعدالة الدولية؟ هذا ومن جهة أخرى فإنه من المرجح جداً أن تطور الحوادث على هذا

ص: 18

النحو الخطر الذي نشهده قد يقضي في النهاية على كل مظاهر الحق ونظريات السلام والعدالة الدولية؛ وقد يضطرم العالم من جديد بحرب تودي بعصبة الأمم وكل ما يمثل فيها من النظريات والمثل الدولية العليا

ص: 19

‌النقد والمثال

للأستاذ أحمد الزين

تحدثتُ في فصلٍ سابقٍ عن المعنى، وأنه العنصرُ الأولُ من عناصر الشعر، بل هو الشعرُ نفسهُ، وقلت: إن الألفاظ ليست إلا ثوباً يحيط به، ويقدر على أجزائه، وأن حُسنها وروعتها ليست إلا وسائل يقصد بها استمالة القلوب النافرة، واجتذاب الميول الجامحة

ولست أريد بالمعنى أي معنى يخطر بالخاطر، وأول ما تتحدث به نفس الشاعر، والحقائق المجردة الأصلية التي تقع في الفكر لأول مرة قبل أن تتصرف فيها الملكة الفنية، فإن ذلك لا يسمى شعراً وليس منه في قليل ولا كثير، لأن هذه المعاني مشتركة بين جميع الأذهان، ولا فضل للشاعر فيها على غيره؛ وإنما يقصد بنظمها ضبط الحقائق المتفرقة، وضم المسائل المنتثرة على من أراده، لا التأثيرُ في العاطفة الذي يقصد إليه الشاعر بشعره، ومن ذلك قول المرحوم حافظ بك إبراهيم:

البرلمان تهيأت أسبابه لم يبق من سبب سوى المفتاح

وقوله من قصيدة يودع بها صاحب الدولة المرحوم سعد زغلول باشا في بعض أسفاره لمفاوضة الإنجليز:

الشعب يدعو الله يا زغلول

أن يستقلّ على يديك النيل

وقوله في هذه القصيدة أيضاً:

فزعيمهم شاكي السلاح مدجّجٌ

وزعيمنا في كفه منديل

وقوله يمدح ثلاثة من الأغنياء قد وقفوا بعض الضياع على إحدى المدارس المصرية:

ثلاثة من سراة النيل قد وقفوا

على مدارسنا سبعين فدانا

وخالفوا سنةً في مصر شائعةً

جرّت على العلم والآداب خسرانا

فإن عادتهم في مصر أن يقفوا

على القبور وإن لم تحو إنسانا

فهل ترى فرقاً بين تلك الأبيات والأخبار التي تقرؤها في مختلف الصحف إذا نظمت على أجزاء العروض وبحوره؟

وكذلك قول المرحوم أحمد شوقي بك في قصيدته التي أستقبل بها مصر حين عاد من الأندلس:

ص: 20

وكلُّ مسافر سيؤوب يوماً

إذ رُزِق السلامة والايابا

إلا أن ما في بقية القصيدة من جلال المعاني، وعلو الألفاظ، ورقة الديباجة قد ستر ما يشعر به الأديب المتذوق في هذا البيت من عادية المعنى، وخفته وإبتذاله، وقلة خطره، واشتراك جميع الأذهان فيه

ومن هذا النوع أيضاً تلك المتون التي ينظمها العلماء في مختلف الفنون ليسهل حفظها واستذكار العلم بها على الطالب، كالشاطبية في القراءات، وألفية النحو، والبهجة الوردية في الفقه، وعقود الجمان في البلاغة، وما إلى ذلك

ومنه أيضاً ما كان ينظم في عهد الثورة المصرية من القصائد المسجلة لحوادثها لإثارة العامة. وتنشرها الصحف إذ ذاك في كل يوم لأشخاص لا يجيدون قراءة الشعر فضلاً عن قوله، فلا يلبث أحدهم أن يسمع الحادثة عن بعض الزعماء، أو يرى طوائف الجنود المدججة تجوب الأحياء، أو يسمع الخبر، حتى يجلس جلسته يسيرة يعصر فيها ذهنه، ويكد قريحته، وينشئ قصيدة طويلة الذيول، كثيرة الفضول، لا يذوق الأديب فيها للشعر طعماً، ولا يحس له فيها عيناً ولا أثراً؛ وعفا الله عن الغرابلي باشا، فكم أمطرنا سحابه الهاطل من هذه القصائد ما يصك الأذواق والأسماع، وإن أستهوى قلوب العامة والرعاع، فهذا الشعر أشبه بالخطب الشعبية منه بالقصائد الشعرية

فإذا تصرفت ملكة الشاعر في تلك المعاني الأصيلة، وتناولتها بأناملها الرقيقة الصناع، فأضافت إليها شيئاً من جمال الشعر وروعته، وسحر الفن وفتنته، ومزجتها بخيال مستعذب، أو تعليلٍ مستحسن، أو تشبيهٍ رقيق، أو مجازٍ غريب، أو تصويرٍ فاتن، أو وضعٍ حَسَن أو ترتيبٍ جميل، أو حرارة تحي العاطفة وتستثير الشجن، أو روحٍ فيها تحرك الحاسة وتجتذب الشعور، أو غير ذلك، تحولت تلك المعاني الأصيلة إلى معانٍ شعريةٍ تحسب أن صاحبها قد إخترعها، ولم تكن معروفةً لأحد قبله، ووقع الشعر من القلوب موقعه، وأصاب من كل نفسٍ موضعه؛ وكان كما قلت في صفة شعر المرحوم إسماعيل صبري باشا في القصيدة التي رثيته بها:

متلمِّسٌ من كلِّ نفس سِرّها

ومُلامِسٌ من كلِّ قلب موضعا

طبَّ النفوس يعيد في ميت المنى

روحاً ويبعث في القنوط المطمعا

ص: 21

شِعرٌ إذا يتلى تكاد لحُسَنِهِ

تَثبُ القلوب من الصدور تطلعا

فكأنها في كل بيت تبتغي

نبأ عن الأحباب فيه أُودعا

فلو أن شعركَ كان سجعاً للقطا

كاد الأراك مع القطا أن يسجعا

ومن المعاني الشعرية ما تراه شائعاً في شعر الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين ومن نهج نهجهم من التحدث إلى ما لا يفهم خطاباً، ولا يحير جواباً، كمخاطبة الأطلال الدراسة، والرسوم الطامسة، ومساءلة الديار الخالية والمغاني المقفرة عن أهلها متى رحلو؟ وأين حلو؟ والدعاء له بسقيا المطر، وأن يعود لها ما فقدته من زمان غبر، كما قال أبو تمام:

دِمنٌ ألم بها فقال سلامُ

كم حلَّ عقدة صبره الإلمامُ

لا مرَّ يوم واحد إلاّ وفي

أحشائه لمحلّتيك غمام

حتى تعمّمَ صَلُع هامات الرُّبى

من نوره وتأزَّر الأهضام

ولقد أراك، فهل أراك بغبطة

والعيش غض والزمان غلام

أعوام وصل كان ينسى طولها

ذكرُ النوى فكأنها أيام

ثم انبرت أيامُ هجر أردفتْ

نجوى أسىّ فكأنها أعوام

ثم انقضت تلك السنون وأهلها

فكأنها وكأنهم أحلام

وقول مهيار الديلميّ:

سلمت وما الديارُ بسالماتٍ

على عنتِ البلى يا دارَ هندِ

ولا برحتْ مفوَّفة الغوادى

تصيب رُباك من خطأ وعمْد

بموقظة الثرى والترب هاد

ومجدية الجنى والعام مكدي

على أنى متى مطرتْكِ عيني

ففضلٌ ما سقاكِ الغيث بعدي

أميل إليكِ، يجذبني فؤادي

وغيرُك - ما استقام السير - قصدي

وأشفق أن تبدّلك المطايا

بوطأتها كأن ثراكِ خدّي

وعلة الجمال في ذلك أن قوة العاطفة قد ملأتْ قلب الشاعر وضاقت بها نفسه، وضعف عنها احتماله، فافضاها على ما حوله، وأسبغها على ما يشاهده من آثار الديار، والدِّمن القفار؛ متخيلاً أن لها ماله من قلب وكبد، وإنها تحس ما يحس، وتجد ما يجد؛ ومن ذلك أيضاً مخاطبة الحمائم على الغصون، والإفضاء إليها بما يكنه الشاعر من لوعة وشجون،

ص: 22

كقول الشاعر:

تذكرني أمَّ العلاء حمائمٌ

تجاوبن أن مالت بهن غصون

تملأ طلا ريشِكُن من النّدي

وتخضرُّ مما حولكن فنون

ألا يا حمامات اللوى عدْنَ عَودة

فأني إلى أصواتكن حزينُ

فعُدْن فلما عدْنِ كدْن يمتنني

وكدتُ بأسراري لهن أبين

فلم تر عيني مثلهن حمائما

بكين ولم تدمع لهن عيون

وقول أبي كبير الهذليّ:

ألا يا حمام الأيك إلفُك حاضر

وغصنُك ميّادٌ ففيم تنوحُ

أفِق لا تنُح من غير شيءٍ

فأنني بكيتُ زماناً والفؤاد صحيح

ولوعاً فشطت غربةً دارُ زينب

فهأنا أبكى والفؤادُ قريح

ولهذا الشعر قصة طريفة لا بأس من روايتها هنا لما اشتملت عليه من المعاني الشعرية التي نحن بصدد شرحها في هذا الفصل.

لما وُلَي عبد الله بن طاهر خراسان أخذ معه عوف بن محلِّم الخزاعي؛ فلما كانا (بالرّي) جلسا تحت شجرة، فسمعا صوت عندليب يغرد، فقال عبد الله: هل سمعت مثل هذا الصوت يا عوف؟ قال: لا والله، ألا قاتل الله أبا كبير الهذلي حيث يقول:(ألا يا حمام الأيك إلفك حاضرٌ) الأبيات. فقال عبد الله بن طاهر: لقد كان في هذيل مائة وثلاثون شاعراً وكلهم مُفْلِق، وكان أبو كبير أحسنهم. بالله عليك يا عوف إلا ما أجزت هذه الأبيات؛ فقال: كبرتْ سني، وفنى ذهني، وأنكرتُ ما كنتُ أعرف؛ فقال عبد الله: أقسمت إلا ما فعلت؛ فقال:

أفي كل عام غربةٌ ونزوح

أما للنوى من وَنيةٍ فتريح

لقد طلَّح البين المشتُّ ركائبي

فهل أرينَّ البين وهو طليح

وشوقني (بالرَّيّ) نوح حمامة

فنحت وذو اللّبِ الغريب ينوح

على إنها ناحت ولم تُذْرِ دمعةً

ونحت وأسراب الدموع سفوح

وناحت وفرخاها بحيث تراهما

ومن دون أفراخي مَهامهِ فِيح

ألا يا حمام الأيك إلفك حاضرٌ

وغصنك مَيَّادٌ ففيم تنوح

عسى جود عبد الله أن يعكس النوى

فتلقى عصار التَّسيار وهي طروح

ص: 23

فإن الغنى يُدني الفتى من صديقه

وعدْم الغنى بالمعسرين نزوح

فبكى عبد الله بن طاهر وحلف ألاُ يعمل معه خفاً ولا حافراً إلا بالرجوع إلى أهله، وأمر له بثياب ودنانير؛ فقال عوف:

يا ابن الذي دان له المشرقان

طُرَّا وقد دان له المغربان

إنَّ الثمانينَ وَبلِّغتُها

قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

وبدّلتني بالشطاط انحِنا

وكنتُ كالصعدة تحت السنان

وبدّلتْني من زَماع الفتى

وهمّتي همَّ الجبان الهِدان

وقاربت مني خُطى لم تكنِ

مقارباتٍ وثنتْ من عِنان

وأنشأتْ بيني وبين الورى

عنانةً من غيرِ نَسج العنَان

ولم تَدَع فيَّ لمستمعٍ

إلا لساني وبحسْبي لسان

أدعو به الله وأثني به

على الأمير المُصْعَبيِّ الهِجان

فقرّباني بأبي أنتما

من وطني قبل اصفرار البنان

وقبلً منعايَ إلى نسوةٍ

أوطانها حران والرفتان

أما أمثلة المعاني الشعرية من شعر المعاصرين، فمن ذلك قصيدة (مصاير الأيام) للمرحوم احمد شوقي بك، فقد بلغت هذه القصيدة من جمال الفن، ووفرة هذه المعاني الفاتنة غايةً لم تبلغها قصيدة أخرى من شعر المعاصرين، وأنا انصح للأدباء والتادبين بحفظها وروايتها فأنها تعتبر بحق من معجزات الشعر الحديث لما فيها من دقة في تصوير الحياة بجميع مراحلها حتى ليخيل لك أنها حياة كاملة من مبدئها إلى نهايتها يقول في أولها:

ألا حبِّذا صحبةُ المكتبِ

وأحْبِبْ بأيامه أحْبِبِ!

ويا حبذا صبيةٌ يمرحون

عِنانُ الحياة عليهم صَبي

كأنهمُ بَسماتُ الحياة

وأنفاسُ رَيحانها الطيّبِ

يُراح ويُغدى بهم كالقَطيع

على مشرق الشمس والمغرب

إلى مَرْتع الفِوا غيَره

وراعٍ غريبِ العصا أجنبي

ومستقَبلٍ من قيود الحياة

شديدٍ على النفس مستصعَب

فراخ بأيكٍ فمن ناهضٍ

يروض الجناحَ ومن أزغَبِ

ص: 24

تقاعدُهم من جَناح الزمان

وما عملوا خطرَ المْركَب

عصافيرُ عند تهجّي الدروس

مِهارٌ عرابيدُ في المَلْعب

خليّون من تبِعات الحياة

على الأمّ يُلقونها والأب

جنونُ الحداثة من حولهم

تضيق به سَعةُ المذهب

عدا فاستبدّ بعقل الصّبّي

وأعدَى المؤدِّبَ حتى صبي

لهم جَرَسٌ مطربٌ في السراح

وليس إذا جدّ بالطرب

توارت به ساعةٌ للزمان

على الناس دائرةُ العقرب

تَشُول بإبرتها للشباب

وتقذف بالسمّ في الشُّيب

يَدقّ بمطرقتيها القضاء

وتجري المقادير في اللولب

وتلك ألا واعي بإيمانهم

حقائب فيها الغد المختبي

ففيها الذي أن يقم لا يُعَد

من الناس أو يَمضِ لم يُحسب

وفيها اللواء وفيها المنار

وفيها التبيع وفيها النّبي

وفيها المؤخَّر خلف الزحام

وفيها المقدمّ في الموِكب

ويقول في آخرها:

قد انصرفوا بعد علم الكتاب

لبابٍ من العلم لم يكتب

حياةٌ يغامر فيها امرؤٌ

تسلح بالناب والمخلب

وصار إلى الفاقة ابن الغنّي

ولاقى الغني ولد المترب

وقد ذهب الممتلئ صحة

وصح السايم فلم يذهب

وكم منجب في تلقي الدروس

تلقى الحياة فلم ينجب

وغاب الرفاق كأن لم يكن

بهم لك عهدٌ ولم تصحب

إلى أن فنوا ثلةً ثلةً

فناء السراب على السبسب

ولنذكر لك مثالا أخر للمعنى الشعري من شعر شوقي أيضاً موضحين لك معناه الأصلي، وكيف استطاع صاحبه أن يحوله إلى معنى شعري بما أدخله عليه من المحسنات التي تلعب بالألباب لعب الشمول، قال يصف أبا الهول:

أبا الهول طال عليك العصُر

وبلغت في الدهر أقصى العمُر

ص: 25

فيالدةَ الدهر لا الدهر شاب

ولا أنت جاوزتَ حد الصغر

إلامَ ركوبك متن الرمال

لطيِّ الأصيل وجَوْب السحر

تسافر منتقلاً في القرون

فأيان تلقى غبار السفر

أبينك عهدٌ وبين الجبال

تزولان في الموعد المنتظر

الخ. . .

فإن المعنى الأصلي لهذه الأبيات لا يزيد على أنه يصف أبا الهول بطول البقاء، وأن العصور المتوالية والأجيال المتعاقبة لم تنل منه منالاً، ولم تصدع له بناء، فأنظر إلى عبقرية شوقي كيف أتت بذلك المعنى اليسير واستخرجت منه تلك المعاني الكثيرة الساحرة ومزجته بتلك المحسنات الفاتنة؛ أتراه لو انه اقتصر على نظم المعنى الأول كان يعده أصحاب الذوق الشعري قد صنع شيئاً أو أتى بجديدة؟ ولا يفوتنا في هذا الفصل التنبيه على وفرة هذه المعاني الشعرية الساحرة، وقوة الجمال الفني الرائع في شعر الرافعي، فانك تحس بذلك الجمال في كل بيت من ابياته، بل في كل من نثره، بل فيه هو إذا جلست إليه وتحدث اليك، فهو شعر كله؛ وإنما انسب الغموض المتوهم في بعض أبياته إلى قصور ذهن المتوسطين من القراء، والى ضيق الألفاظ المحدودة، عن أن تحصر هذا الجمال المعنوي الذي لا يحد؛ إلا إنني أرى أن معانيه من صنعة الفكر وابتكار الذهن، لا من وحي العاطفة وإملاء الإحساس. واليك بعضاً من شعره ليتبين لك صحة ما ذهبت إليه؛ قال يصف بائسة حسناء أفقرتها الحرب:

طريدة بؤس ملّ من بؤسها الصبرُ

وطالت على الغبراء أيامها الغُبر

وكانت كما شاءت وشاء جمالها

كما اشتهت العليا كما وصف الشعر

تلألأ في صدر المكارم دُرَّةً

يحيط بها من عِقد أنسابها درّ

وما برحت ترقى السنين وتعتلى

وكل المعالي في طفولتها حِجْر

فكانت كَزهر نَضرّ الفجرُ حسَنه

ولما علت كالنجم أطفأها الفجر

تقاسمت الحسْن الإلهي واُنثنى

يقاسمها، فالأمر بينهما أمر

فللشمس منها طلعة الحسن مُشرقاً

وفيها من الشمس التوقد والجمر

وللزَّهر منها نفحةُ الحسن عاطرا

وفيها ذُبولٌ مثلَما ذبلَ الزهر

ص: 26

وللظبي منها مقلتاها وجيدها

وِفيها من الظبي التلفت والذعر

وما قيمة الحسناء يقبح حظها

وتذوي بروض الحب أيامها الخُضْر

فما الحسن فخر للحسان وإنما

لخالقه فيما يريد به سِرّ

ضعيفة أنفاس المنى بعد ما غدت

رقابُ أمانيها يغلّلها الفقر

وبين خُطَى أيامها كل عَثرةٍ

يزلزل أقدامَ الحياة بها العُسر

وزَجت بها الأحزان في بحر دمعها

وليس لبحر الدمع في ارضنا بر

إذا استنبؤها أرسلت من دموعها

لآلى حزن كلّ لؤلؤةَ فكرْ

وان سألوها لجَلجَت فكأنما

عرا اللفظ لما مرّ من فمها سكْر

مشرَّدة حيرى تنازَعَ نفسها

فريقان ذلٌ لم تعوَّده والكبرْ

إلى أن قال في هذه القصيدة يصف ما في الإنسان من شر وسوء:

رأت كل مخزاة من الشر تلتوي

ويهرب ذعراً من جنايتها العذر

رأت أثراً تَدمى به الأرض والسما

وليس سوى الإنسان في جرحه ظُفر

أليس يرى الإنسانُ في القرد شِبَهُه

فهل ذاك إلا من تكبّره سُخْر

كما عاقب الله الأسود لكبرها

فجاء لنا في صورة الأسد الهرِّ

وهي طويلة

فقد عرفت ألان نوعين من المعاني وعرفت الفرق بين المعاني الأولية والمعاني الشعرية التي هي من مقومات الشعر وأصوله فينبغي للشاعر إذا أراد أن يكون شعره مخصب المعاني، متنوع الاغراض، ان يقصد إلى المعنى قبل ألفاظ البيت وقافيته، فيمزجه بالمحسنات التي سبق ذكرها، ويهذبه تهذيباً يقربه من العواطف ليحدث فيها اثره، ويبعث الحياة فيما همد منها. وبعض الشعراء قد تعوزهم من البيت قافية فيتطلبونها قبل المعنى، ويتلمسونها قبل إعداد الغرض، فإذا ظفروا بالقافية آتوا بالمعنى على مقتضاها، فيخرج الشعر مكبلة معانيه، مظلمة نواحيه، ضيق المقاصد، قليل الأغراض؛ وكثيراً ما ترى ذلك أيضاً في شعر شعراء البديع الذين لا يقصدون من البيت أو القصيدة إلا إلى ذلك النوع البديعي الذي لا يحرك نفساً، ولا يهز حساً، فقد أجهزوا على الشعر بالحرص على هذه المحسنات اللفظية إجهازاً تاماً، وصيروا البكاء عليه في جميع الأقطار عاماً، واليك أبياتاً

ص: 27

من قصيدة لصلاح الدين الصفدي كتب بها إلى صديقه جمال الدين بن نباته المصري، وقد ضمنها شطرات من معلقة امرئ القيس التي أولها:(قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) وجعل صدر كل بيت من شعره وعجزه من قصيدة امرئ القيس، قال:

أفي كل يوم منك عتب يسؤني

(كجلمود صخر حطه السيل من عَلِ)

وتَرمى على طول المدى متجّنياً

(بسهميكَ في أعشار قلب مقتَّل)

فأمسِي بليل طال جنح ظلامه

(عليّ بأنواع الهموم ليبتلى)

وأغدو كأن القلب من وقدة الجوى

(إذا جاش فيه حَميهُ غلى مِرجَل)

تطير شظاياه بصدري كأنها

(بأرجائه القصوى أنابيشُ عُنصُل)

وسالت دموعي من همومي ولوعتي

(على النحر حتى بل دّمعيَ محملي)

وهي طويلة، وقد أجابه ابن نباته بقصيدة مثلها ضمنها شعر امرئ القيس أيضاً، قال:

فَطَمَت ولَائي ثم أقبلت عاتباً

(أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلل)

بروحيَ ألفاظ تعّرض عتبُها

(تعّرضَ أثناء الوشاح المفصّل)

فأحيين وداً كان كالرسم عافياً

(بسقط اللوى بين الدخّول فحومل)

تعفىِّ رياح الغدر منك رقومَه

(لمِا نسجَتها من جنوب وشمأل)

نعم قَوِّضتْ منك المودّةُ وانقضت

(فيا عجبا من رحلها المتحمّل)

وهي طويلة أيضاً

فهل ترى في هذا الشعر غير المقدرة على الملاءمة بين شعرهما وشعر امرئ القيس، والمهارة في التوفيق بين المعاني المتباعدة، والأغراض المتباينة؟ على أن هذه المقدرة ضائعة القيمة حقيرة الخطر إذا قيست بما جره تكلف التضمين على هذه الأبيات من تفاهة وبرود، وخلوها من روح الشعر. ولنا في هذه الفصول عودة إلى شعراء البديع وغيرهم ممن يحرصون على إظهار المقدرة اللفظية اكثر من غيرها في شعرهم.

احمد الزين

ص: 28

‌معركة عدوى

للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان حرب الجيش العراقي

أخذت الجرائد والمجلات في الآونة الأخيرة تبحث في معركة عدوى التي انتصر فيها الأحباش على الطليان وكثيراً ما يذكرها الطاغية موسوليني، ويحث الشبان الفاشيست على محو وصمة العار التي لحقت بالجيش الطلياني، ويعلن للملأ انه عازم على الانتقام من الأحباش.

وقعت هذه المعركة في 1 مارس 1896 في أطراف عدوى بين الجيش الطلياني البالغ عدده زهاء عشرين الفاً، والجيش الحبشي البالغ مقداره زهاء ثمانين ألفاً، وبرغم حيازة الجيشالطلياني على الأسلحة الجيدة، وتنظيمه على احدث الأساليب، انتصر الأحباش عليه انتصاراً مبيناً، وأوقعوا به خسارة فادحة بلغت 248 ضابطاً، و15400 جندي، بين قتيل وجريح وأسير، ونالوا بذلك صك استقلالهم الذي امتنعت إيطاليا عن الاعتراف به.

لم يكن الجيش الحبشي جيشاً منظماً على الوجه المطلوب، بل كان مؤلفاً من أناس مسلحين بأسلحة متنوعة كالبندقية والحربة والسيف والترس والقوس وغير ذلك، وكان يقودهم رؤساؤهم على الطريقة البدوية وكانت مدافعه قديمة يبلغ عددها الأربعين؛ وكان لدى الجيش الطلياني أربعة وستون مدفعاً حديثاً

وقبل البحث في هذه المعركة رأينا من المفيد أن نذكر باختصار جغرافية الحبشة وتاريخها وعلاقاتها بالدول المستعمرة

جغرافية الحبشة

تقع الحبشة في الشمال الشرقي من أفريقية ويحيط بها من الشرق مستعمرة إريترية الطليانية، والمستعمرات الصومالية الفرنسية، والبريطانية والطليانية؛ ومن الشمال مستعمرة إريترية والسودان المصري؛ ومن الغرب والجنوب المستعمرات البريطانية في وسط أفريقية.

ولا منفذ للحبشة إلى البحر الأحمر، وقد سدت دول الاستعمار طريق البحر في وجهها، فجعلتها خاضعة لها في تجارتها واقتصادياتها. وتبلغ مساحتها السطحية زهاء 1. 120. 400 كيلو متراً مربعاً؛ وتقدر نفوسها باثني عشر مليوناً؛ وهذه النفوس لا تنتمي إلى قومية

ص: 29

واحدة، ولا تدين بدين واحد؛ وفيما يلي الشعوب التي يتألف منها سكان الحبشة:

الأمحرة، الغالا، السيدامو، الصومال، الدناكل، الزنوج ودين الدولة الرسمي المسيحية، والمذهب يعقوبي. وفيما يلي عدد النفوس بالنظر إلى الأديان:

العدد

4.

500. 000 مسيحيون (يعاقبة)

3.

000. 000 مسلمون

3.

500. 000 وثنيون

50.

000 يهود

40.

000 كاثوليك

5.

000 الاتحاد اللاتيني

واللغة الرسمية هي اللغة الامحرية وهي شعبة من اللغات السامية والعاصمة أديس أبابا ونفوسها زهاء 100. 000 نسمة وهي متصلة بالميناء جيبوتي عاصمة المستعمرة الفرنسية بالسكة الحديدية.

وصف البلاد - السهول والجبال

تتألف بلاد الحبشة من جبال وسهول. والأراضي السهلة واقعة بالقرب من الساحل. أما الأراضي الجبلية فهي في داخل البلاد. وإذا ما أنعمنا النظر في خريطة الحبشة رأينا إن سلاسل الجبال الواقعة إلى الشرق وإلى الجنوب قد كونت مثلثاً متساوي الأضلاع: الضلع الشرقي منه ضفاف البحر الأحمر وخليج عدن، والضلع الجنوبي يمتد من رأس عسير المقابل لجزيرة سومطرة إلى الشرق، والضلع الغربي يمتد من الشمال إلى الجنوب.

والأرض الواقعة في هذا المثلث هي الأرض السهلة المتموجة من بلاد الحبشة والمتاخمة لمستعمرة إريترية الطليانية والصومال الفرنسي والبريطاني. والقسم الشمالي منها صحراء دناكل القاحلة، وإلى جنوبي الضلع الجنوبي من ذلك المثلث تقع أرض سهلة متموجة أخرى تتألف منها بلاد الغالا وفيها قصبة ولوال التي نشأ الخلاف عليها بين إيطاليا والحبشة.

وليست الأرض المتموجة خالية من الجبال، فالجبال منتشرة فيها هنا وهناك، إلا إنها أقل وعورة من المناطق الجبلية الواقعة إلى غربي الضلع الغربي من المثلث المذكور. ومع

ص: 30

ذلك تقع سفوح الجبال الشرقية إلى شرقي هذا الضلع وهي شديدة الانحدار كثيرة المناعة والوعورة.

والجبال في الحبشة تحيط البلاد الداخلية بسور منيع طالما وقف في وجه المستعمرين وساعد الأحباش على الاحتفاظ باستقلالهم.

ويشبه الوضع الجبلي في داخل بلاد الحبشة خطوطاً مستحكمة، فخط منها في الشرق يمتد من الشمال إلى الجنوب على موازاة الساحل ويسيطر على السهول ويسد طرق الاستيلاء الممتدة من الساحل. وهذا الخط هو السلسلة التي تؤلف ضلع المثلث الغربي.

وهناك خط آخر ممتد من رأس عسير في الصومال البريطانية على موازاة ساحل خليج عدن الجنوبي إلى أن يصل إلى قصبة (هرر) ثم ينعطف نحو الجهة الجنوبية الشرقية ثم إلى الجنوب موازياً للبحيرات الواقعة في جنوبي الحبشة، وهو السلسلة التي تؤلف الضلع الجنوبي للمثلث. وهذا الخط يعلو ارتفاعاً ويشتد مناعة كلما تقدمنا من الشرق إلى الغرب، وكأنه الخط المستحكم الأول الذي يسد طرق الهجوم في وجه القوات الزاحفة من الصومال الطليانية للتوغل في صحراء الغالا.

وغير هذين الخطين توجد خطوط أخرى تمر بذري الجبال الشامخة منفصلة عن الخط الشرقي وممتدة من الشرق إلى الغرب على موازاة حدود إريترية الطليانية الشمالية كأنها خطوط مستحكمة متوازية لصد القوات المتقدمة من الشمال على التعاقب.

ومع وقوع الأرض السهلة والأرض المتموجة والحافات الشرقية الوعرة في شرقي الخط الأول الممتد من الشمال إلى الجنوب والمسيطر على صحراء الدناكل تشتد الأرض وعودة وتزداد مناعة في هذا الخط ذاته وفي غربيه - أي في الهضبة الحبشية التي تقطعها عدة سلاسل جبلية ممتدة من الشرق إلى الغرب على ما سبق ذكره؛ وفي أطراف بحيرة تانا نلتف الجبال بعضها ببعض فتكون المعقل المركزي للحبشة بشكل منحرف، ضلعاه القصيران في اتجاهي الشرق والغرب، وضلعاه الطويلان في اتجاهي الشمال والجنوب؛ وتقع العاصمة (أديس أبابا) في طرف الضلع الشرقي.

أما منطقة البحيرات الواقعة في جنوبي الحبشة فمحاطة من الشرق والغرب بسلسلتين جبليتين؛ وهما طرفا الخط الأول والخط الثاني الممتدين من الشرق والغرب، وفي وسط

ص: 31

هاتين السلسلتين تعلو البحيرات فتؤلف هضبة مرتفعة.

مما تقدم نعلم أن داخل بلاد الحبشة قلعة منيعة ذات عدة خطوط مستحكمة تسيطر على السهول في الشرق والجنوب، وهي مؤلفة من عدة معاقل كونها الهضاب الشامخة بجبالها وغاباتها وبحيرة (تانا).

تمد وادي النيل بالمياه في موسم الصيف بواسطة رافده النيل الأزرق، وهي ذات خطورة خاصة لمصر والسودان، ولولاها لما فاض النيل في كل سنة فسقي الحقول الواسعة والمزارع الخصبة التي ضرب بها المثل في فجر التاريخ؛ وسبب ذلك أن الثلوج المتراكمة في ذرى الجبال تذوب فتختلط بالأمطار الغزيرة التي تنزل صيفاً فتجري في الوديان المتشبعة من الجبال وتنصب جميعاً في النيل الأزرق فيطفح بالمياه وبالطين، وينقل البركة والخير إلى بلاد السودان ومصر.

ولنذكر بعد ذلك المرتفعات التي في أرض الحبشة:

الأرض المتاخمة للساحل في المستعمرات الطليانية والفرنسية والبريطانية منخفضة وسهلة، وكلما تقدمنا من الشرق إلى الغرب أخذت الأرض في الارتفاع. وفي إريترية (على مسافة تتراوح بين 50 و80 كيلو متراً من الساحل تتصل هذه الأرض بالقسم الشمالي من الخط الأول فتصبح شامخة وعرة، مكسوة بالغابات والإحراج.

وفي صحراء دناكل بالقرب من (عصب) تكون أرضاً متموجة قليلة المياه، وذات شعاب ووديان؛ وعلى مسافة (200 إلى 300) كيلو متر من الساحل تصل إلى حدها الأعلى في الخط الأول حيث المضايق الوعرة؛ ويتفاوت ارتفاع الذرى في هذا الخط من (2400 إلى 4300) متر، ويبلغ الارتفاع في ذروة (أبونا يوسف)(4200) متر، وفي ذروة (كللو) يبلغ 4300 متر، وتقع قلعة (مجدلة) على هذه الخط.

وفي الجنوب يبدأ السهل من ساحل البحر المحيط الهندي ويأخذ في الارتفاع إلى الغرب، وعلى مسافة 200 إلى 300 كيلو متر من الساحل يبلغ من الارتفاع والوعورة مبلغاً يكون هضاب (اوجادن) و (بوران).

وتتفاوت الارتفاعات في هذا القسم من (300 إلى 1000) متر وبالقرب من خليج عدن يبلغ الارتفاع في السلسلة التي تؤلف الخط الأول 2000 متر في جنوبي (بربرة).

ص: 32

وفي صحراء (الغالا) نجد الأرض متموجة والروابي قليلة الميل، وهي ترتفع إلى جبال هرر بسهولة وتلتقي بالخط الثاني، وتتفاوت المرتفعات في مركز هذا الخط من (1000) إلى (1500) متر، وفيها هضاب شامخة بانحدارات شديدة كأنها جدران يتفاوت ارتفاعها من (2000 إلى 3500) متر وصخورها بركانية.

أما الجبال الداخلية التي تؤلف معاقل الحبشة فالهضاب فيها ترتفع (2000) متر كأنها قلعة أحاطت بها الجبال من الشمال والشرق والجنوب، ومع ذلك لا يمكن تسلقها من جهة الغرب حيث يجري النيل الأزرق إلا بصعوبة.

وفي منطقة (غوجام) يبلغ الارتفاع في راس (دانجان)(4620) متراً وهو أعلى ذروة في بلاد الحبشة

(يتبع)

طه الهاشمي

ص: 33

‌من الأشواق الملتهبة

شجرتي الضالة

(مهداة إلى الأستاذ مصطفى صادق الرافعي)

للأستاذ خليل هنداوي

مقدمة:

(لي شجرة ضخمة الجذع وارفة الغصن؛ أحج إليها كل يوم لأتبوأ جذعها ألابتر مقعداً، حيث لا يطرقني إلا الطيور النازحة والنسائم الرائحة شان هذه الشجرة عجيب، قد غبرت عليها عصور، وهي ثابتة تبدل قشوراً بقشور، لا يمسها نصب ولا فتور. والسالك في ذلك الطريق الوعر ينجذب بظلها، فيأوي إليها مخففاً عن نفسه بعض ما ناء بها من مشقة الطريق؛ فيرى الظل والراحة والنعيم؛ فيتمنى لو أنام أيامه تحت ظلها؛ أو لو أن حياته القلقة تحتوي على مثل هذا الظل الذي تنحط عليه الشمس من كل مكان لتحرقه وما هو بمحترق؛ ولكن الإنسان ما أشقاه! ولوع بالسير ولكن إلى أين؟

هذه الشجرة آثرتها لي مثوى في أيام صيفي، لأنها تقصيني عن الناس وتدينني من نفسي؛ وما آثرته لجسدي منتقلاً كيف لا أوثره له يوم تغدو حقيقته ظلاً!. . .)

(خليل)

المسلك إليك وعر يا شجرتي!

وهأنذا قد سلكته

الطريق محفوف بالشوك

وهأنذا قد طرقته. . .

يقولون عنك (ضالة) لأنك آثرت هذه العزلة العميقة، وهذه الزاوية السحيقة

وينظرون إليك ساخرين لأنك تركتهم وملت إلى الانفراد.

كم يخشى الناس هؤلاء المعتزلين!

يرونهم فيقولون: ربنا لا تجعلنا من الضالين

اتضنين على من سلك الوعر إليك. . .

ص: 34

ضالاً عن قرنائه

بهذا الفيء الذي جاهدت جذورك وأوراقك وروحك في حياكته

ولو أردت الظل لنفسك لما تعبت في مده

والظل الخفيف يغنيك. . .

ولكنك لست كالإنسان الذي يقضي العمر كله في حياكة ظل لنفسه، ويمضي غير منتهٍ من

حياكة ذلك الظل

أما ظلك أنت فقد حُكتِه!

وهذا الظل الواسع الممدود على الأرض لم تحوكينه؟

أليس - للظالين - أيتها الشجرة الظالة؟

إلهي اجعلنا من الضالين!

أتضنين على من تحمل النصب من أجلك - وقد تكونين أنتِ في غنى عنه -

أتضنين عليه باستواء قصير على منكبك العالي

ليشركك في تأملك العميق

وإن ضلالك ليشرك ضلالي

وظلك الممدود ينادي خيالي

فلا تثاقلي من استوائي عليك، فإنني لن أشوش عليك تأملاتك

ولن تعطل طيورك أهازيجها من أجلي

افتحي قلبك لي فإني لاجيء إليك

وأومئي بأوراقك فإني ضال مثلك

أأنت تلك المحجة التي يسعى إليها الإنسان غير حافل بوعورة الطريقة؟

أأنت تلك المحجة التي تناهضها الصخور والوعور والأشواك لتواريها عن العيون؟

وكم يكلف الوصول إلى هذه المحجة؟

إرتفعي كثيراً وأسمي كثيراً، حتى تبدو للضالين ذروتك، وأصعدي باغصانكِ إلى السماء.

وليجذبها شوقك دائماً إلى السماء.

هل رأيت المحجة بعين الشوق، فأنبأت رفيقاتك فسخرن منك، لأنهن لا يرين إلا

ص: 35

بعيونهن، فإعتزلتهن، وانطلقت وحدك وراء المحجة. . .

نورها يسطع للعيون براقاً، فما أدناه للعين وما أبعد تناوله!

أغمضي عينك فقد جمدت، وسالمي قدمك فقد ارتعشت

والمحجة لا تزال بعيدة كالنور الذي ترنو إليه العين وتقصر عنه اليد.

ألا أن المحجة في عالم أنفسنا قد سطعت، فمدى يدك إلى قلبك تلمسيها، وانظري بعينك

في نفسك تبصريها.

ألا إن المحجة في أنفسنا. . .

ستضرمنا العاصفة ثم تذرونا الرياح رماداً قبل أن ندرك هذه المحجة.

أليست هي في أنفسنا؟ ولكن الأبعاد الشاسعة بين نجوم الفضاء. . . هذه الأبعاد التي

ترتجف لها مقاييسنا حين نمدها بينها، هذه الأبعاد هي أقرب تناولاً من الأبعاد الشاسعة المنتصبة بيننا وبين أنفسنا.

أين أنت أيهذا الذي بلغ نفسه!

بلى! ستضر منا العاصفة، وسنحول رماداً قبل أن تنتهي مراحلنا إلى أنفسنا

كلانا ضال وراء نفسه

كلانا يرهب طريقه الناس، لأن طريقنا طريق الوحدة، وطريق الوحدة طريق الضلال

كلانا يمشي وإن لم يكن في نظر المقاييس شيئاً، لأن مشينا لا تدركه مقاييس

ضميني إليك يا شجرتي الضالة فقد أضواني السير ولفحت وجهي الشمس

ضميني إليك أقرن تأملاتي بتأملاتك، فنحن في نظر الحياة شريكان يتمم بعضنا بعضاً

تضيئنا شمس واحدة، وتنير طريقنا مصابيح واحدة، وتعانقنا غاية واحدة

مشهدك واحد في حياتك كلها لا يبرح ناظرك، ولك منه كل يوم وجه للتأمل جديد

ومشاهدي كثيرة واعتباري منها قليل

وواصلي أيها الطيور أغانيك فوق رأسي فما أنا بالمروع لك!

وغذيني أيتها الشجرة الضالة بفيئك الواسع

وغداً أغذي جذورك بلحمي ودمي

ألست ظمأى إلى دم إنسان!

ص: 36

محجتنا واحدة وصداقتنا عميقة فوق ظهر الأرض وتحت بطنها

ستمتصني جذورك عصيراً، وستحملني سراً عميقاً إلى فروعك السامية.

إننا لن نقف!

لأن الشمس تبارك أشواقنا وتنير أرواحنا لأننا أحسنا الاستحالة

وبغير هذه الاستحالة كيف يريدون أن تحوك جذورك هذا الظل الوارف الذي يأوي إليه

الضالون!

وكيف يريدون أن تعيش هذه الزهور المتفتحة بدون رماد!

ألسنا في حالي الفناء والوجود قافلة من قوافل الحياة السائرة منذ الأبد حتى الأبد؟

ألست في صدرك حياً أيتها الشجرة؟

ألست أنت حية في صدر النار التي ستلتهمك؟

ونحن ألسنا بعد شيئاً ينبض في قلب الحياة دماً ولحماً، وماء ونباتاً، وناراً ورماداً؟

ربي أحلني في قلب هذه الشجرة ثمرة يباركها قلب جائع، ثم اجعلنا وقوداً لنار يهتدي بها

الضالون.

(كفريا)

خليل هنداوي

ص: 37

‌من نوادر المخطوطات

أثر أدبي فذ!

اختراع الخراع لصلاح الدين الصفدي

للأستاذ علي الطنطاوي

تتمة

قوله من الطلوع: نعوذ بالله منه، لأنه مرض بلغمي يحدث في الشعر لمداومة أكل الزنجبيل والأشياء الحارة: كالبطيخ والأسماك، وغيرها. قال أبن الدمينة يرثى شخصاً:

فسَّر لي عابر مناماً

فصّل في قوله وأجملْ

وقال لابدّ من طلوع

فكان ذاك الطلوع دّملْ

ومن قال إن الطلوع ضد النزول وأستشهد بقول أبي ذؤيب الهذلي في الهجاء:

أيسعدني يا طلعة البدر طالع

ومن شقوتي خطٌّ بخديك نازل

فقد أخطأ ووهم والصحيح الأول.

إلى بئركِ: لفظ مركب من الأعداد في التركي، كقولك في العربي واحد إثنان، فبير واحد وإكي اثنان. ومجموع هذا العد سبعة ونصف، لأن إكي ناقصة الياء، ولولا ذلك لكان المجموع ثمانية، وألفاظ الأتراك لا شاهد عليها من العربية. فلهذا أضربنا عن الاستشهاد لذلك.

في الليل: الليل معروف، وهو من الزوال إلى أذان العصر في العرف، وفي اللغة من طلوع الشمس إلى غروبها، كما قال دريد بن الصمّة في الغزل:

أستوفي قلْيّوبَ

إلى كم هكذا تكذب

من الصبح إلى الظهر

إلى العصر إلى المغرب

وقليوب بليدة صغير على شاطئ الفرات من أعمال عدن، وقيل هي إقريطش (كريد) باليمن.

قوله: ظلام النهار الخ. . . الخ.

القول في الإعراب

ص: 38

لو: حرف يجر الاسم ويكسر الخبر على ما ذكره الرماني في شرح طبيعي الشفا. والكسائي في رموز الكنوز هذا مذهب الكوفيين؛ والصحيح إنها من الأفعال الناقصة التي لا عمل لها، إنما قلنا إنها فعل ناقص لأنها كانت في الأصل لوي فنقصت حرفاً، وإنما قلنا إنها لا عمل لها لأنها متى نقصت ضعفت عن العمل، وهذا الذي ذهب إليه إقليدس وأرشميدس في مخارج الحروف وبرهناه مستشهدين على ذلك بقول الشماخ في رائيته:

أرسل فرعاً ولوي هاجري

صدغاً فأعيا بهما واصفه

وقد سقط من الرسالة أوراق لا أدري كم هي، ثم يبدأ الموجود منها بقوله

قال الشارح رحمه الله تعالى:

ما في كلام العرب أسم معتل الطرف بالألف المقصورة غير كان، وهذا مع أن دخلت فيها الحركات الثلاث: الجر والخفض والكسر فأجريت مجرى الصحيح، وليس بعجيب. قال أرسطو العبري:

وربما صحت الأجسام بالعلل

ومن قال: هذا من شعر أبي مرة الحلاوي أبن المتنبي فهذا قول من لا يدري علم الرمل ما هو. . .

وبعد هذا فما أدري بماذا حكم عليها؟ هل هي صلة وتتمة لأبن خلكان وزير بغداد الحنبلي، أو هي أسم قائم برأسه، أستغفر الله: قائم برجليه. فإن قلنا إنه صلة من أبن خلكان فلا يخلو إما أن يكون العائد على الصلة من باب أسماء الأفعال أو من باب مالا يتصرف، فإن كان الأول من القسمين لزم الخ. . أكل: فعل مضارع لأن في أوله أحد الزوائد الخمسة وهو الهمزة، إنما قلنا بزيادتها لأنه لا يصح تجريدها، تقول كل شيء. . . قال لبيد:

كل خطب ما لم تكونوا غضاباً

يا أهيل الحمى عليّ يسير

وقد جاء فعلاً ماضياً في قول الخنساء الاخيلية ترثي زوجها:

أكِلُ الأمر إذا ما حل بي

للذي قدَّره أن يقعا

الشعير: الألف واللام أصلية، وهو نكرة إن قلنا بأنها أداة التعريف، ومعرفة إن قلنا بأصليتها، ذكر ذلك المبرد في كتاب ديسقوريدوس في باب النعت، وهو هاهنا مرفوع على الحال؛ وللنجاة هاهنا بحث في الماضي والمستقبل والحال بينهم وبين الحكماء، لأن النجاة

ص: 39

أنكروا زمن الحال، وقالوا ثبوته يؤدي إلى القول بالجوهر الفرد وهو ممنوع، وقول الحكماء أقرب إلى الصحة قال عبد الله بن عجلان النهدي:

ولو عاين النظام جوهر ثغرها

لما شك فيه أنه الجوهر الفرد

وما الذي يمنع الخ. . .

في: أسم لأنه يحسن دخول حرف الجر عليه: تقول أنتقل من الشمس إلى فيء الظل، ودخول الألف واللام: تقول هذه الدراهم مبلغ ألفي درهم، والإضافة تقول: أعجبني حسن فيك، والتنوين أيضاً تقول: هذا المال فيءٌ للمسلمين، وعلى الجملة فما للنجاة في الأسماء كلمة يدخلها سائر خواص الاسم إلا (في) وهي ممنوعة من الصرف لأنه أجتمع فيها من العلل أكثر مما أجتمع في أذربيجان، وذلك أن الفاء بعشرة والياء بثمانين على ما ذكره الزجاج في الجمل، فصارت تسعين، وعلل الصرف المانعة تسعة!

قال شبرمة بن الطفيل في وصف الزرافة:

ربَّ برغوث ليلة بت منه

وفؤادي في قبضة التسعين

والقبض هو المنع من الصرف. فلهذا قال النحاة إن (في) لا تنصرف، وهذه النكتة غريبة جداً لم أر أحداً ذكرها من النحاة غير الأصطخري في كتاب الحميات له، وهو معرب بالنصب على أنه صفة للفاعل وهو جارية وإن قلنا إلخ. . .

البرد: منصوب بالألف واللام التي في آخره على أنه خبر متقدم تأخر عنه المبتدأ فحذف، وهي مسألة مشهورة في باب الاستثناء، ونصّ عليها سيبويه خلافاً لأبن الحاجب لما بحث معه في المسألة الزنبورية بين يدي الوليد بن عبد الملك، وتقدم الخبر دائر في الكلام على ألسنة العرب، قال كثير عزة في محبوبته بثينة:

والله ما من خبر سرني=إلا وذكراك له مبتدأ

فقدم الخبر وأخر المبتدأ. . .

(إلى أن قال):

القول على المعنى

قبل الخوض في الكلام على المعنى نقدم مقدمة تشتمل على ما يتعلق بهذين البيتين من التاريخ منقولاً من المجسطي للأحنف أبن قيس في تاريخ بغداد؛ فنقول: بكتوت هذه كانت

ص: 40

بعض حظايا النعمان بن المنذر، شراها من نور الدين الشهيد صاحب القيروان، وكانت قبل لعنان بنت النابغة أبن أبي سلمى زوج سيف الدولة أبن بويه السلجوقي أول ملوك السامانية الذين أخذوا خراسان من الفاطميين.

أول أملاكهم السفاح. . .

والسفاح هو أخو العاضد

وكانت بكنوت الخ. . . وما أحسن قول بعض ملوك الأندلس أظنه أبن سكرة الهاشمي:

أيا ربة القرط التي حسنت هتكي

على أيّ حال كان لابدّ لي منك

فأما بذلٌ وهو أليق بالهوى

وأما بعزّ وهو أليق بالملك

وقد أخطأ من نسبهما إلى ابن الأحمر، فقد أوردهما صاحب المرقص والمطرب وهو مصنف موجود قبل ابن الأحمر بألف وخمسمائة سنة. وهذا المعنى من البيتين واضح اتضاح الغسق نصف الليل في ثماني وعشرين من الشهر، وضياء الباطل إذا جاءه الحق، إن الباطل كان زهوقاً، ولله در نجم الدين الكاسي دبيران حيث قال يخاطب الشريف الرضي:

وليس يصح في الإفهام شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

هذا مثال من هذه الرسالة العجيبة، نقف عنده لا نجاوزه إلى القول في البديع والعروض والقافية لأن المقال قد طال، ونخشى أن يمل القراء الكرام

علي الطنطاوي

ص: 41

‌من صور العباقرة

هانيبال

بقلم حسين مؤنس

لنكن على حذر حين نلتمس أخبار هانيبال، فهذا رجل وكل أمره لأنصاف خصومه، وترك تراثه في رعاية أشد الناس عداوةً له، وتولى تقديمه إلى الناس أحفل الناس ببغضه؛ فهو مظلوم من بوليبيوس، مغضوب عليه من تيت ليف، مهضوم الحق عند الكثرة الغالبة من رواة عصره وقضاة زمانه، ولكنه برغم هذا كله بارز لا تحتاج عظمته إلى البينة، ظاهر لا يعوز عبقريته البرهان؛ وإن الشهادة له لتبدر من الخصم حين يتخونه الحذر، وإن فضله على أعدائه لتقوم عليه البينات والحقائق وإن أعوزته الألفاظ والعبارات؛ وهذا بوليبيوس يتحدث عن آل سيببو فيطيل الحديث، ويكون قصارى ما يتأنق فيه من دلائل نبوغهم أنهم أخذوا فنون الحرب عن هانيبال، وأن أشهرهم المعروف بالأفريقي أخذ عنه وتفطن لأساليبه وحاربه بها في زاما. ولعل سبب هذه الخصومة هو أن الرجال كان شرقياً، لا هو روماني ولا إغريقي، وإنما هو فينيقي عريق، وكانت الخصومة مشبوبة في ذلك العصر بين الشرق والغرب، وكان الزمان قد استدار وصار اليوم للغرب، ورفرفت راياته وخفقت بنوده، حملها الإسكندر وخلفاؤه زماناً ثم تركوها للرومان، وكان الفينيقيون قد ضاقت بهم الأرض في المشرق فالتمسوا الرزق في المغرب، وأقاموا المراكز والمدن على شواطئ أفريقية وإسبانيا وصقلية وجنوبي إيطاليا وفرنسا، فلما نهض الرومان وجدوا الفينيقيين في طريقهم أينما ساروا، وكان مركز قيادتهم قد أنتقل من صور في المشرق إلى قرطاجنة في المغرب، ومن هنا كانت الخصومة بين روما وقرطاجنة، ومن هنا كان تعصب مؤرخي الرومان على هانيبال، ومن هنا كانت ضيعة قضيته عند القضاة؛ فلنلتمس أخباره في حذر. . . ولنحاول أن نشهده عن كثب، وأن نفضي إليه ونصاحبه حياته الحافلة بالأحداث، الخصبة بالوقائع والبيانات.

ها هو ذا في مجلسه على شاطئ الرون ينظر إلى جيشه الكبير يعبر النهر صفاً طويلاً وقد طال به الجلوس وطال به الانصراف إلى هذا المشهد حتى لا يدري أهذا مطلع النهار أم مقبل الليل؛ وكيف له التمييز وهذه أيام ثلاثة بلياليها تقضت وهو في مجلسه هذا شاخصاً

ص: 42

إلى أجناده وفرسانه وقبيلته وهي تعبر النهر على مهل؟. . وأين له الراحة أو الانصراف عن التفكير وهو يعلم أن الرومان قد علموا بأمره وأنهم ساعون في أثره مرسلون قوادهم خفافاً للحاق به والقضاء عليه؟. وهذه عيونه تنبئه بأن مارسلوسن ماض في الطريق إليه، وإنه ليخشى ذلك كثيراً، إذ كيف تكون العاقبة لو لحق به الرومان وهو يعبر النهر؟. إذاً لقضوا عليه في يسر وهينة. ثم هذه عيونه تنهى إليه أن آل سيببو يثيرون عليه النافو ويقيمون عليه قيامة الشعب. فإذا متع الضحى فقد أقبل عليه رئيس فرسانه ينبئه بأن الجيش قد فرغ من العبور وأنه لم تبق في الضفة الأخرى إلا شراذم من المشاة وأشتات من المؤن التي لا يؤذي ضياعها. هناك ينهض الرجل الذي أجهده الإعياء وثقلت عليه قلة النوم، ويأوي إلى فسطاطه. . . ويطلب النوم فيسرع إليه النعاس. . . ولكنه على رغم ذلك مضطرب ما يزال. . . وأن الذكريات لتسعى إليه في الحلم فتروعه.

هذا هو أبوه هملكار يخطو إليه رهيباً جليلاً. . . يذكره بعهده الذي قطعه على نفسه وهو أبن سنوات تسع، وهذا صوت الصبي الصغير يتردد على سمعه واضحاً بيناً، إنه يقسم أن يكون عدواً لدوداً لروما إلى الأبد.

وها هو ذا يرى نفسه صبياً وفتى يافعاً، ثم رجلاً في مداخل الرجولة، إنه ليمضي الوقت في قفار إسبانيا ووهادها، لم ينصرف إلى شيء مما ينصرف إليه الشبان، ولم يترك لنفسه فرصة للراحة أو الدعة، وإنما أشتد على نفسه عشرين سنة كاملة حتى أوفى على الثلاثين. . . حتى إذا أكتمل الأهبة، فقد أتخذ سبيله إلى إيطاليا، وكان الرومان قد أخذوا عليه سبيل البحر بعد أن قضوا على أسطول قرطاجنة، ولم يبق له إلا أن يمضي فيخترق هذه المجاهل الجافة حتى يصل إلى سهول إيطاليا؛ ولقد فصل عن قرطاجنة الجديدة وهو في تسعين ألفاً فتهاوى منهم الآلاف في الطريق تعباً وإجهاداً. . . ولولا بقية من أمل معقودة بلواء فرسان نوميديا، لأدركه اليأس وكر راجعاً إلى بلده. . .

هكذا كانت حياته: واقع أشبه بالحلم، وحلم أشبه بالواقع! إنه ينام ليحلم بحرب روما، ويقوم ليمضي لخراب روما. ومضى أمامهم فمضوا من خلفه، وهم أشد ما يكونون رهبة من هذا الذي يمضي بهم إليه؛ إنهم ليشعرون الرهبة من هذه الجبال السامقة التي تطل عليهم وتنذرهم بالموت. . . وأين لأبدانهم المتعبة أن تتوقل هذه النجاد الوعرة، وأن تنحدر على

ص: 43

هذه الصخور القاسية؟ وأين لجسومهم العزم الذي يخوضون به هذه الركام المثلوجة التي تبهر عيونهم على قنن الجبال؟. . . ولكنهم لا يملكون لأمر قائدهم دفعاً. . . بل هو لا يملك لأمر نفسه دفعاً. وإنه ليمضي ليوفي عهد أبيه لا يكاد يفطن إلى شيء مما حوله. فها هو ذا في مقدمة الجيوش يصعد في إعياء ويسير في هينة، والجنود يتساقطون من حوله إجهادا والخيل تنبت من تحته نافقة، وهو في طريقه لا ينبس. . حتى ينتهوا إلى السهول فينحدروا إليها سراعاً.

هنا ترجع بنا الذاكرة إلي معبد (بعل) في قرطاجنة. . . تلك هي القديسة تضطرب تحت يد هملكار الذي يقدمها إلى الآلهة طاعة ونسكا. . . وتلك هي روما تضطرب تحت يد ابنه هانيبال الذي يقدمها إلى أبيه قرباناً زكياً. . وهؤلاء هم الرسل مقبلين على مدينة التلال السبعة يرجفون بالأخبار ويزعزعون العزمات من رهبة الوعيد، ويضطرب الأمر بين الرومان اضطراباً شديداً، ويقذفون بجيوشهم إلى هانيبال في شجاعة وأقدام حقيقين بالإعجاب. . والقرطاجني متربص يفني الجيوش فناء، ويبتلع القادة ابتلاعاً وهذه تربيا تشهد يوم اجبر هانيبال العدو على النزول إلى الميدان في البكرة القارسة والشمس لا تزال في خدرها، وكيف انسابت الكمائن من فرسان نوميديا على جوانب الجيش الروماني فأكلته أكلا. . . وهذه ترازمين تذكر يومها العبوس من شتاء سنة 217. . هذا هانيبال يخبئ جنوده في باطن الجبل المطل على أمواج البحيرة، ويترك منهم نفراً يناوش القنصل فلامينيوس، ويتقدم الروم ثم يندفعون اندفاعاً شديداً. . فإذا انتهوا إلي ساحل البحيرة فقد القوا أنفسهم في وابل من نبال الغال، ونار من فرسان النوميديين وإذا العدو يسد عليه طريق الرجوع، وإذا الماء يعين عليهم الخصم. . وإذا هزيمة ساحقة لم ينج منها إلا نفر مضى إلى روما يزلزل أهلها بالمصيبة النازلة، والفاجعة التي لم تذر. . وهؤلاء أهل المدينة مروعين قد انتابهم هلع شديد. . إذ ترامى إلى أسماعهم أن الرجل قاصد إليهم. . ثم هاهو ذا على أميال من روما. . ليس من الموت بد! ولكن هانيبال لا يتقدم، إنما يطوي عن المدينة ويتجه إلى الجنوب.

ترى ماذا صد هانيبال عن روما؟ كانت الحصون واهنة والجيوش منكسرة ولا يكلف الاستيلاء على المدينة الا اقل الجهد. . ولكن هانيبال كان يرجو شيئاً آخر. . كان لا يريد

ص: 44

أن يقتل الفريسة دفعة واحدة وإنما يقطع أعضاءها عضواً عضواً، ويمزق أشلاءها شلواً شلواً: ثم يدعها تموت؛ كان يرجو أن يمزق جسد روما جزءاً جزءاً ويبتر مستعمراتها عنها على مهل! لم يمزق الرومان أملاك قرطاجنة واحدة فواحدة لكي تموت على مهل. هكذا كان يريد أن ينفذ انتقامه الشديد - ولهذا مضى يثير أنصار روما ويؤلب عليها أحلافها. . . انه ليعلن انه اقبل ليحارب الرومان لا الايطاليين، وانه ليطلق الأسرى الإيطاليين دون الرومان وانه ليكسب من هذا كسباً عظيماً. . هذه (كبوا) تسارع إليه بقواتها وأحلافها. . وهذه المدن الإغريقية في (تارنتم) تعلن ولاءها. . وهؤلاء هم الرومان يشتد بهم الخوف فيختارون (فابيوس) لهم قنصلاً. . فيختط لمحاربة هانيبال خطة صارت علماً عليه في التاريخ: هي أن يجنب نفسه وجيوشه لقاء العدو في موقعة حاسمة. . بل يناوشه ويتخطف جنوده، ويقفل طريق الإمداد من الشمال. . ويمضي على ذلك حتى يضعف فمره ويفني جنوده. . ولكن الرومان لا يطيقون صبراً. . أن هانيبال ليفسد عليهم جيرانهم واتباعهم. . ويتلف مزارعهم ويهدم حصونهم ويمضي من بلد إلي بلد، تاركاً جنوده يأتون من الأمر ما يحبون ويصيبون من العدو ما تصل إليه أيديهم، حتى يضيق ذرع اللاتين فيعزلوا فابيوس ويولوا قنصلاً آخر يمضي مسرعاً حتى يلقي هانيبال في (كاني) على ساحل الأدرياتيك، وهناك تظهر قدرة الرجل في الحرب في أجمل آياتها. . . إنه ليصف جندوه صفوفاً طويلة تكاد تخفي جناحي الفرسان. . وانه ليلقي العدو وينثني قلب جيشه حتى يصير الصف نصف دائرة تحتوي الرومان ثم يقبل الفرسان فيقضون على العدو قضاء مبرماً.

ندع هانبيال في سيره إلى جنوب شبه الجزيرة ونخف إلى روما لنشهد اضطراب الشيوخ وهياج الشعب واشتداد الأمر ولنشهد مشهداً من أصدق مشاهد الرجولة القوية والبطولة الخالدة. . . إن (آل سيببو) لا يحفت لهم صوت ولا يضعف لهم أمل. . . لقد مات الأخوان في وعور إسبانيا، وهما في طريقهما إلى بلادهما بعد أن استوليا على (قرطاجنة الصغيرة) قاعدة هانيبال في أيبريا، وشطرا شبه الجزيرة كلها عن القرطاجني حتى حصروه حصاراً شديداً. . . وها هوذا أخوه (هازدرونال) أخو هانيبال يجمع له ما تيسر من فلول المرتزقة ويمضي إلى إيطاليا فيلقاه الرومان ويفتكون به ويقتلونه. . . ثم يحملون رأسه إلى أخيه ويلقون به بين يديه.

ص: 45

ثم ينهض سيببو الصغير ويقود حملة من أعنف حملات التاريخ؛ فهذا فتى في الخامسة والعشرين ولكنه روماني عزيز. . . إنه ليقطع شبه الجزيرة على عجل. . . ثم يركب البحر إلى صقلية ثم يخف إلى أفريقية وينزل على مقربة من قرطاجنة ثم يبدأ يصنع في أفريقية ما يصنعه هانيبال في إيطاليا. . .!

هنالك يتأمل هانيبال رأس أخيه الشهيد ويستمع إلى أخبار سيببو فتأكل الحسرة قلبه ويفزع على مصير قرطاجنة، ويسرع لنجدتها. . . ولا تكاد قدمه تمس ثرى أفريقية. . . حتى تسرع نحو سيببو. . . فيمضي هذا أمامه. . . ولم يكن أخطر على الجيش الروماني من هذا المضي الذي يباعد ما بينه وبين الشاطئ. . . ولكن. . . أنظر إنه ليثير النوميديين على قرطاجنة، إنه ليطويهم تحت رايته حلفاء أقوياء. . . ثم يثبت لهانيبال عند (زاما) ويرسل فرسانه في طرفي مشاته. . . ويصف الجنود صفاً طويلاً، ويباعد بين الجندي والجندي حتى ليدع بينهما طريقاً رحباً. . . ثم يقبل هانيبال. . . ويدور فرسانه فإذا هم وجهاً لوجه أمام فرسان سيببو. . . فيفسحون لهم الطريق، فيندفع هؤلاء إلى ما وراء الجيش وهناك ينتظرون. . . وتشد المعركة، ويثار النقع، حتى إذا بلغ الإعياء من جيش قرطاجنة أقبل فرسان الرمان فقضوا عليهم قضاءً أخيراً.

أليست هذه أساليب هانيبال؟ أليست تلك خطته في كاني؟ وإنها لبينة واضحة على عبقريته، وآية باقية على ما خلف للعالم من تراث.

ويخف هانيبال إلى قرطاجنة، ويأمر بأسوارها أن تقفل ويسودها الهرج والاضطراب، ويجتمع مجلسها ويتعاقب الخطباء منادين بالحرب والثأر. . . ولكن الرجل لا يطبق. . . إنه يعرف خصمه جيداً فينهض ويسكت الخطيب. . . ويعتذر لمواطنيه عن هذه الجفوة التي لا محيص له عنها بعد ست وثلاثين سنة في ميادين الحروب. . . ثم يوافق على شروط الصلح التي قدمها سيببو.

ثم يبدأ صراع هو أشبه بصراع المائة يوم بين نابليون وخصومه. . . ولكن يطول سبع سنوات، يصر الشيوخ في السناتو على القضاء على الرجل. . . ويطلبونه ويجدون في طلبه. . . وهو لا يفقد الأمل في الغلبة عليهم والانتقام منهم. . . لقد فشل في أن يثير عليهم الغرب، فلملا يقيم عليهم قيامة الشرق؟. . . ها هو ذا يخف إلى بلده (صور)، فإذا

ص: 46

هي ترتعد فرقاً من روما وجيوشها فيفصل عنها إلى (إنطاكية) حيث يستقبله ملكها أثينوكس، إذ كان بعد حملته على روما. . . ويدبر معه الأمر. . . ويرسم معه مشروعاً خطيراً. . . ولا يكادان يشرعان في العمل حتى يفاجئهما الرومان فيقضوا على أثينوكس في داره فيفر إلى بيثتنيا حتى يلقاه ملكها مرحباً. . . . ويأويه ويكرمه.

ولكن الرومان لا يسكتون عنه. . . ويطلبونه ويجدون في طلبه. . . وإنه لجالس ذات يوم في ملجئه. . . إذ أحس اضطرابا وسمع وقع أقدام جنود يقتربون منه. . . فنادى بخادمه. . . وأمر بالسم فأتى به إليه. . . وقال وهو يدني الكأس من شفتيه: (لكي تستريح روما إذا كان لا يرضيها أن تترك شيخاً في الستين يموت على مهل).

حسين مؤنس

ص: 47

‌13 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

وأما عتابه فنذكر منه عتابه لصالح الشهرزوري، وكان أبو العتاهية صديقاً له، وآنس الناس به، فسأله أن يكلم الفضل ابن يحيى البرمكي في حاجة له، فقال له صالح: لست أكلمه في أشباه هذا، ولكن حملني ما شئت في مالي، فأنصرف عنه أبو العتاهية، وأقام أياماً لا يأتيه، ثم كتب إليه:

أقلل زيارتك الصديق ولا تطل

إتيانه فَتِلجَّ في هجرانه

إن الصديق يلجُّ في غشيانه

لصديقه فيملَّ من غشيانه

حتى تراه بعد طول مَسَرة

بمكانه متبرِّماً بمكانه

وأقل ما يلقى الفتى ثِقَلاً على

إخوانه ما كف عن إخوانه

وإذا توانى عن صيانة نفسه

رَجلٌ تنقص وأستخف بشأنه

فلما قرأ الأبيات قال سبحان الله! أتهجرني لمنعي إياك شيئاً تعلم أني ما ابتذلت نفسي له قط، وتنسى مودتي وأخوتي، ومن دون ما بيني وبينك ما أوجب عليك أن تعذرني؟ فكتب إليه أبو العتاهية:

أهل التخلق لو يدوم تخلُّقٌ

لكنت ظُل جناح من يتخلق

ما الناس في الإمساك إلا واحد

فبأيهم إن حصِّلوا أتعلق

هذا زمان قد تعود أهلهِ

تِيهِ الملوك وفعل من يتصدق

أي يطلب الصدقة كما قال في بيت آخر:

هذا زمان ألحَّ الناس فيه على

تيه الملوك وأخلاق المساكين

فلما أصبح صالح غدا بالأبيات على الفضل بن يحيى وحدثه بالحديث، فقال له لا والله ما على الأرض أبغض إليَّ من إسداء عارفة إلى أبي العتاهية، لأنه ليس ممن يظهر عليه أثر صنيعة، وقد قضيت حاجته لك، فرجع وأرسل إلى أبي العتاهية بقضاء حاجته، فقال يشكره:

جزى الله عني صالحاً بوفائه

وأضعَف أضعافاً له في جزائه

بلوت رجالاً بعده في إخائهم

فما ازددت إلا رغبة في إخائه

ص: 48

صديقٌ إذا ما جئت أبغيه حاجة

رجعت بما أبغي ووجهي بمائه

ولم يكن أبو العتاهية كما قال الفضل ممن لا يظهر عليه أثر الصنيعة، ولكنه كان يعاشر هؤلاء العظماء معاشرة الند للند، لا كما كان يفعل غيره من الشعراء المستجدين عند هؤلاء العظماء، وإنما كان البرامكة يكرهون من أبي العتاهية إيثاره الفضل ابن الربيع عليهم، وهو منافسهم السياسي في دولة الرشيد، وقد صحبه أبو العتاهية صحبة طويلة؛ ومازال الفضل من أميل الناس إليه، فلما رجع من خراسان بعد موت الرشيد دخل عليه أبو العتاهية، فأستنشده فأنشد:

أفنيت عمرك أدباراً وإقبالاً

تبغي البنين وتبغي الأهل والمالا

الموت هولٌ فكن ما شئت ملتمساً

من هوله حيلة أن كنت محتالا

ألم تر الملك الأمسيَّ حين مضى

هل نال حيٌ من الدنيا كما نالا

أفناه من لم يزل يُفني القرون فقد

أضحى وأصبح عنه الملك قد زالا

كم من ملوك مضى ريب الزمان بهم

فأصبحوا عبراً فينا وأمثالا

فأستحسنها الفضل، وطلب إليه أن يعود إليه في وقت فراغه ليقعد معه ويأنس به، فلما كان يوم فراغه صار إليه، فبينما هو مقبل عليه يستنشده ويسأله فيحدثه إذا أنشده:

ولي الشباب فما له من حيلة

وكسا ذؤابتي المشيبُ خِمارا

أين البرامكة الذين عهدتهم

بالأمس أعظَم أهلها أخطارا

فلما سمع ذكر البرامكة تغير لونه، ورأى أبو العتاهية الكراهية في وجهه، فما رأى منه خيراً بعد ذلك. وقد حدث أبو العتاهية هذا الحديث الحسن بن سهل في دولة المأمون فقال له: لئن كان ذلك ضرك عند الفضل بن الربيع لقد نفعك عندنا؛ ثم أمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة أثواب، وأجرى له كل شهر ثلاثة آلاف درهم، فلم يزل يقلبها دارة إلى أن مات. وكان الحسن بن سهل فارسياً مثل البرامكة، وكان الفضل بين الربيع عربي النزعة، وقد انتهت تلك العصبية بين الفرس والعرب في هذه الدولة بضياع أمرها منهما معاً.

ومن عتابه أيضاً ما كان منه لأحمد بن يوسف وكان صديقاً له فلما خدم المأمون وخص به رأى منه جفوة فكتب إليه:

أبا جعفر إن الشريف يشينُه

تَتَاُهُهُ على الإخلاء بالوفر

ص: 49

ألم تر أن الفقر يُرجَى له الغنى

وأن الغني يُخشى عليه من الفقر

فإن نلت تيهاً بالذي نلت من غني

فإن غنايَّ في التجمل والصبر

ومن شعره في الاستعطاف إلى الرشيد وهو في سجنه:

يا رشيد الأمر أرشِدْني إلى

وجه نجْحيِ لا عدمت الرَشدا

لا أراك الله سوءاً أبداً

ما رأت مثَلَك عينٌ أحدا

أعِنِ الخائف وارحم صوته

رافعاً نحوك يدعوك يدا

وإبلائي من دعاوي آِملِ

كلما قلت تدانى بعدا

كم أمَني بغدٍ بعد غَدٍ

ينفد العمر ولم ألق غدا

وأما الزهد والحكمة والمثل فهي الفنون التي أستفرغ فيها جهده، وأربى فيها على غيره، ونظم فيها ما استفاده من أهل العلم من السنن وسير السلف الصالح، وأشعاره في ذلك لا مثيل لها لأنها مأخوذة من كتب الدين والسنة، وما جرى من الحكم على ألسنة هذه الأمة. ومن بدائعه في ذلك أرجوزته المزدوجة التي سماها ذات الأمثال، وتبلغ في الطول ما لم يبلغه شعر قبلها، ويقال إن فيها أربعة آلاف مثل، وهي تجديد عظيم في الشعر العربي بهذا الطول البالغ فيها هذا المبلغ، وبهذه القافية التي مكنت له من المضي فيها إلى الحد، وهذا ما ذكره منها صاحب الأغاني:

حسْبكَ مما تبتغيه القوتُ

ما أكثر القوت لمن يموت

الفقر فيما جاوز الكفَافَا

من أتقى الله رجا وخافا

هي المقادير فلمني أو فَذَرْ

إن كنتُ أخطأتُ فما أخطا القدرْ

لكل ما يؤذي وإن قل أَلمْ

ما أطولَ الليل على من لم ينم

ما أنتفع المرء بمثل عقله

وخير ذخر المرء حسن فعله

إن الفساد ضده الصلاح

وربّ جد جرّه المزاحُ

من جعل النمامَ عيناً هَلَكا

مُبلغكَ الشر كباغيه لكا

إن الشباب والفراغ والجِدِهْ

مفسدة للمرء أيُّ مفسده

يغنيك عن كل قبيح تركَه

يرتهن الرأيَ الأصيل شكه

ما عيش من آفته بقاؤه

نغَّص عيشاً كُلُه فناؤه

ص: 50

يا رب من أسخطنا بجهده

قد سرنا الله بغير حمده

ما تطلع الشمس ولا تغيب

إلا لأمر شأنه عجيب

لكل شيء معدن وجوهر

وأوسط وأصغر وأكبر

من لك بالمحض وكلُّ ممتزجْ

وسَاوسٌ والصدر منه تعتلج

وكل شيء لاحقٌ بجوهره

أصغره متصل بأكبره

ما زالت الدنيا لنا دار أذى

ممزوجة الصفو بألوان القذى

الخير والشر بها أزواج

لذا نِتَاجٌ ولذا نتاج

من لك بالمحض وليس مَحَضُ

يخبث بعضٌ ويطيب بعض

لكل إنسان طبيعتانِ

خير وشر وهما ضدان

إنك لو تستنشق الشَحيحا

وجدته أنتن شيء ريحا

والخير والشر إذا ما عُدّا

بينهما بَونٌ بعيد جداً

عجبت حتى غمني السكوت

صرت كأني حائر مبهوت

كذا قَضَى الله فكيف أصنع

الصمت إن ضاق الكلام أوسع

قال أبو الفرج وهي طويلة جداً وإنما ذكرت هذا القدر منها حسب ما استاق الكلام من صفتها.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 51

‌في وادي الهوى

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

شدا فوق فرع مورق بلبل الوادي

فيا حبذا الوادي ويا حبذا الشادي

فقلتُ له زدني بربك أنني

إلى نَغَمٍ حُلو تُرجعه صاد

وما لحياة بهجةٌ وحلاوةٍ

إذا كنتَ في وادي الهوى غير غرّاد

أفدني بأسرار المحبة خُبرَةً

فأنت عليمٌ بالخفي وبالبادي

ضللتُ طريق في هوى من أحبّه

وإنك في وادي الهوى وحدك الهادي

فقال أتحميني من الموت إنني

أراه فأخشاه على نبل صياد

توسمتُ فيه الشرَّ لمّا رأيتهُ

يسدد نحوي السهمَ من عطفة الوادي

فطرتُ بعيداً عنه أهرب واقعاً

على فَنَنٍ في ذروة الدوح ميّاد

ومن هجمات للغراب شديدة

يريد بها عن موطني النضر إبعادي

يطاردني في موطني معتمداً

وما زال فيه واقفاً لي بمرصاد

ينازعني في الشدو حق زعامة

توراثتها من والديّ وأجدادي

فيهدم عشّي وهو ما قد بنيتهُ

بنفسيَ من نبتٍ يبيس وأعواد

وماذا من الإجرام كنتُ أتيتهُ

فيصبح هذا الأسود النحس جلادّي

براني في وادي الهوى اللهُ شاعرا

فأطرَبَ فيه الزهرَ شعري وإنشادي

وما طال لولا الزهرُ فيه إقامتي

وما كنت لولا الزهر بالرائح الغادي

لقد كنتُ في الوادي إلى الزهر مُخِلداً

فهل كان يؤذي ذا جناحين إخلادي

سل الطير بي هل كنتُ في العمر مرّةً

على واحدٍ منها إلى جانب العادي

وإن أضمرت نفسي على ذي تجاوزي

من الطير أحقاداً تناسيتُ أحقادي

بلانيَ ربي كل يوم بظالم

فما القصد من خلقي شقيّاً وإيجادي

ولو كنت ذا ظفرٍ حديدٍ منسرٍ

تجنبت الغربان بطشي وأرصادي

وإنيَ في الوادي الذي هو معبدي

بروحيَ للزهر الذي يحتوي فاد

فما أجَملَ الزهرَ الذي هو مشرق

كنجم بدا في آخر الليل وقّاد

وقل لبني الضاد اجمعوا أمركم فما

لقوم كسالى نهضةٌ يا بني الضاد

ص: 52

جميل صدقي الزهاوي

ص: 53

‌في وصف الطباع

وصف شامل للنفس وطباعها

للأستاذ عبد الرحمن شكري

ما ازدريت الأنام الاوهان ال

كيد منهم وهان منهم عداء

وتفردت لا أصول بكيد

وتزهدت واستقام العزاء

ومن الناس مَنْ إذا ما ازدراهم

كان منه الإجرام والاعتداء

ولو أنى أكبرتهم لم يروني

غافراً واحتوتنيَ البغضاء

ولو أنى أكبرتهم لم تر الرح

مة ديني وما بهم رحماء

ودهم مثل بغضهم فيه عدوى

مثل عدوى تسعى بها الثؤباء

ويرى المرء انه كان كل شيء

هو تبر وما عداه هباء

مركز الكون حوله دارة الأف

ق وبهو من فوقه وسماء

ولقد تحمد الخليل طويلاً

ثم يبدو ما كان منه انطواء

فإذا الغدر شيمة وطباع

وإذا الود والوفاء رياء

وإذا النفس جانب مدلهم

بالدنايا وجانب وضاء

وإذا المرء يحمد الصحب منه

جانباً والكريه منه خفاء

ومع الخبر بالأنام فقد يع

رو الفتى عند غدرهم إعياء

كل يوم يخال منه جديداً

وهو رث وما طواه العفاء

قلبه الأمل المضلل بالو

د يقود الأسى إليه الرجاء

ومع اليأس منهم كرم الصف

ح إذا الحتم ما جنوا والقضاء

كلهم يشتكي ويشمت بالشا

كي وكلٌّ كما يسيء يساء

كلهم يندب الوفاء وكلٌ

يتأذى وطبعه الإيذاء

كلهم قانص يرى في وفاء ال

بخل صيداً وليس منه وفاء

كلهم لا يود للناس ماَ ير

غب فيه لنفسه ويشاء

ويُسَرُّ الفتى ويُبدى اكتئاباً

إنْ ألَمَّتْ بصاحي بأساء

صادق العطف كان أو كاذب العط

ف ففي نحس خله سراء

ص: 54

وارتياح أَن لم يُصَبْ مثل خل

نزل الحزن داره والشقاء

وسواء خب وغِرُّ ولا غَرْ

وَفللغر صولة وعداء

كلهم إن يرقك منه ذكاء

بعد حين يرعْك منه غباء

فكأن الذكاء منه وميض ال

برق والعقل كله ظلماء

كلهم يبغض النقيصة حقاً

حذر الناس بغضه إخفاء

واكتساباً للحمد والربح يقلا

ها ولولاهما لعيف الرياء

كلهم يُلْبِسُ النقيصةَ منه

حلة الخير وهو منه بَرَاءُ

يغضب المرء للفضيلة كيما

يحسب الناس أن ذاك نقاء

وسواء نقص وفضل لديه

إنْ تدانت من كسبه النعماء

ومن الناس من يبوح بنقص

وكثيرٌ من قوله إطراء

كالذي قال إنما أفقدته ال

حلم منه صراحة وإباء

يمدح الحلم مغرياً وهو يسطو

مغنم الحب في الورى الحلماء

وحذاراً للشر يمدح خيراً

ذاك جبن في طبعه واتقاء

قسم النقص والمحامد بين ال

ناس منه الأحقاد والأهواء

فلئيمٌ من كان منه جفاء

وكريمٌ من كان منه إخاء

ذاك ميزانه وما الحق إلا

ما رأى الحق يأسه والرجاء

ويرى الأخرقَ الذي يرحم النا

سَ وإن ود أنهم رحماء

كي يمدوه بالذي ضن عنهم

بجداه وهكذا الأحياء

كل حي يصون منه حياة

ولئن غال ما عداه العفاء

حاطها بالصيال والمكر والقَسْ

وِ ولم عم سواه الشقاء

وبإنكار كيده وأذاه

وبدعوى الكمال وهو طلاء

يتدنَّى يبغي العلاء ولا يث

نيه عما يحط منه إباء

غير من آثروا على أنفس من

هم نفوسَ الورى وقد قيل داء

وعجيب إِنْ كان أَطْهَرُ ما في ال

نفس داءً والحرص منه الشفاء

واشد القُساَةِ يُنِكُر لؤم ال

ناس كيما يكون منه مضاء

ص: 55

وهو يُطْرِى الحياة بُقيا على الكيد وذعراً يكون منه الثناء

بين أمرين يدرج الناس طراً

جوع بطن أو أن يكون امتلاء

ومن الجوع أو حذاراً له أو

خشية الموت كم قسا الأحياء

وامتلاء يصير شهوة جسم

يهتك الطهرَ حفزها والمضاء

هَيِّنٌ بعدها إذا ما الضحايا

نال منها نحس ونال شقاء

خمص بطن ونهمة وحذار

واحتيال وقسوة ورياء

ذلك العيش ثم ما كان من خي

ر بَكِىٍّ لولاه عيف البقاء

وقتالٌ على الحياة دعاه ال

حيُّ فضلاً يبغي به ما يشاء

ذاك فضلُ إذا أساء ولكن

هو نقص في الناس حين يُساء

ولو أن السبيل للموت سهل

لم تكن عنه نجوة أو عزاء

فاحمد العيش إن حبك للعي

ش مُلِحٌّ مما تمادى العناء

إنَّ أقوى الرجاء ما تعرف النف

س وإنَّ قَبَّحَ الحياةَ الذكاء

لم يعفها وإنما شاء أن يُبْ

صِرَ قدماً من حسنها ما يشاء

دائب بَصَّرَ الأنام بما جَ

مَّلَ عَيشاً ووصفة إِغراء

والذي يكلأ الحياة على العل

م بها لا تروعه الأشياء

يمدح المرء مثل ما حاز من فض

ل فإنْ زاد كان منه هجاء

فقليل ما تصدق النفس قولاً

وكثير من أجل ذاك المِراء

مهجة الحاسدين في سورة الأح

قاد والبغض مهجة هوجاء

ساء فعلٌ منهم فساءت ظنون

والورى في طباعهم شركاء

سوء ظن الأنام طبع ولكن

مقلة الظن مقلة حولاء

كل حي أمامه ما جنى الخص

م يراه وما جناه وراء

وعجيبٌ أن يُحْسَد المرء حتى

بعد أنْ لم تَدمُ له النعماء

أي نفس من أنفس الناس عافت

حسداً للقلوب منه اكتواء

لا بل الفضل إنْ تضاءل ما في ال

نفس منه ولم يكن إيذاء

كلهم ذلك الحسود ولكن

هَيّنٌ ما بدت به الفضلاء

ص: 56

لو ينال الأنام ما حسدوه

حسدوا ضده وليِمَ القضاء

حسبوا اللؤَم من ذكاء وعقل

فادَّعاه الطغام والأعلياء

وتباهوا بقدره اللؤم فيهم

استشاطوا إنْ قيل هم لؤماء

وقليل ما يندم المرء أن لم

يك جُرْم من بعده الازدراء

فإذا الناس زَيَّنُوا منه جرماً

شملته مِنْ مدحهم خيلاء

ومضى سادراً يرود من الآ

ثام مرعى ودأبه الكبرياء

يبتغي المرء أن يرى الناس طراً

حيث يرضى وخلقهم ما يشاء

وهو لا يستطيع تغيير ما في

نفسه كي يكون منهم رضاء

وحقيق بالشك مَنْ رأيه يت

بع ما خولجت به الحوباء

رأيه مثل خلقه وهواه

حاكم فيه جَوُّه وُالغذاء

في قنوط ومطمع وانقباض

وارتياح تناكرت آراء

لو بدا الشر في النفوس تعادت

رحم الله فاحتواه كساء

وإذا الشر أعوز المرء عجزاً

ادعَّىَ أن عجزه استعلاء

ومُقِرَّ بالشر كي يُغْفَرَ الش

رَّ وكيما يعود منه اعتداء

واعتراف بالجود حرصٌ وكسبٌ

وهو منه استزادةٌ لا وفاء

ولقد يحقد العشير إذا خ

لاّك رزء وكان منه رثاء

يجرأ الفرد بالجميع على الش

ر ولولاه غاله استخذاء

شد من أزر سافل أنَّ شراً

جُمِعَتْ في مناله الجبناء

فجبان يشد أزر جبان

وعداء يكون منه عداء

ولقد يفعلون خيراً ليخفى الش

ر منهم وذاك منهم رياء

والشقي الجزوع من شر قوم

جر نفعاً منه إليهم رجاء

مستنيم إلى الولاء ويكوي

قَلْبَه أن يغيض منهم ولاء

جاهل بالأنام يخدعه المُط

ري نفوساً لهم وحق الهجاء

لقنوه أن المروءة أن يغ

تر بالناس وهو منه غباء

لا بل الفضل خيره وهو يدري

إنْ بلاهم أنَّ قد يعز الجزاء

ص: 57

مطمئناً بعد اصطناع جميل

عندهم إنْ دهاه منهم بلاء

كلهم ظالم وان كان مظلو

ماً ما رأى أنَّ قَسْوَةُ استشفاء

يشتفي من لواعج الغيظ والذ

ل بظلم الأذَلِّ بئس الدواء

يظلم الصاغر الضعيف كما يظ

لمه من له عليه اعتلاء

طبقاتٌ مقدرَّات من الطغ

يان ما إن يُخَال فيها انتهاء

ومع الشر والأباطيل في النف

س فللخير أنة سيماء

عبد الرحمن شكري

ص: 58

‌القصص

صور من هوميروس

حروب طروادة

أندروماك

للأستاذ دريني خشبة

استطاع نبتيون أن يزلزل قلوب الطرواديين

وحسبه أن يفر من ميدانهم مارس الجبار، وأن يفر في أثره أتباعه إله الروع، وفينوس، أصل البلية التي حاقت باليوم، لينتقل النصر طفرة من جانبهم إلى جانب الهيلانيين.

وبرزت شمس اليوم التالي على الساحة الملطخة بآثام الإنسانية، المضرجة بأوزار الإلهة، المصطخبة بأنين الموتى. . . لتشهد من جديد صراع الضغائن وتصاوُل الأحقاد، وأخذ السخائم بعضها برقاب بعض، وهذه الكتل البشرية يفني بعضها بعضاً.

وأشتد الهيلانيون في طلب الطرواديين، وأستبسل هؤلاء، فكانت أمواج الغزاة تتكسر على صخور شجاعتهم. . . . . ولكنها لا تتلاشى.

وعظم الخطب، ومارت الأرض، وأنعقد رَهَجُ الحرب مما تثير الخيل من هَبَوات، وإشتجرت الهيجاء، حتى لكأنها قطع من الليل، وصلصلت الدروع حتى لكأنها عواء ذئاب الجن، واستشرى الشر حتى لا ترى إلا إلى منايا وآجال، في قتال ونزال. وأحسن جنود طروادة بلُغوب الوغى، وشعروا بالرجفة تأخذهم من كل جانب، وكان هكتور العظيم يخطف كالبرق بين صفوفهم يحضهم ويحرضهم؛ بيد أن الشجاعة لا تغني في موقف الموت شيئاً، فقد شرعت فيالقهم تتقهقر ببطء نحو الأسوار، حتى إذا بلغوها لبثوا ثمة يُصلون أعداءهم وابلاً من السهام، تساعدهم الرماة من فوق الأبراج. . .

لكن الهيلانيين ما تفتر لهم همة، ولا يصل إلى حماستهم كلال؛ فقد صمدوا في مواقفهم، وثبتو وصابروا، وأبدوا من ضروب البسالة واليأس ما حير ألباب أعدائهم، وجعلهم ألباً عليهم واحداً!!

وفي عنفوان المعمعة لقي هيلانوس بن بريام الملك، أخاه المغوار هكتور يقصف بين

ص: 59

الصفوف ويرعد، ويرغي بين المحاربين الصناديد ويزبد؛ وكان هيلانوس خير كأشفى الغيب، وعرافي الطرواديين؛ وكان حبيباً إلى الآلهة، جميل الطلعة، بسام الثغر، حتى في الحرب؛ وكان إلى ذلك حازماً موفور الحزم، صارماً شديد البأس، يقهر الغير على احترامه ولو كانوا يكبرونه سناً؛ فلما رأى هكتور يعبس تلك العبوسة القمطرير لما يحيق بجنوده من أذى، ذهب إليه قُدماً وقال:

(أي أخي! أي هكتور العظيم!).

وما كاد هكتور يسمع النداء الحبيب حتى هرع إلى أخيه يلتمس في صدره الحنون برداً لحر تلك الجحيم التي لفحت شجعان طروادة بزفيرها، وصاح به:

(هيلانوس! أنت هنا؟ أدع لنا آلهتك يا أيها العزيز! لقد كؤد النصر بعد إذ حسبناه في أيدينا أمس. . . أدع لنا آلهتك فقد عيينا بهؤلاء الهيلانيين الأبالسة!. .)

- (هكتور! أصغ إليَّ! لن تظفروا بهؤلاء مادامت مينرفا معهم تؤيدهم، وتشد أزرهم، وترد عنهم سهامكم، فتجعلها في نحوركم!!).

(هكتور! هلم إلى القصر يا أخي، فالق والدتك المرزأة ثمة، فتوسل إليها أن تذهب من فورها، مرتدية أبهى ملابسها إلى هيكل مينرفا، فلتبك عند قدمي تمثالها، ولتقدم الضحايا، ولتُقرب القرابين، ولتحرق البخور المقدس، الممزوج بالأفاويه والصندل وطيوب الهند؛ ولتنذر أن تذبح اثنتي عشرة بقرة من خير أبقار اليوم، فتتصدق بلحومها، وتهب الكهنة شحومها، إذا وعدت ربة الحكمة أن ترفع مقتها وغضبها عن طروادة!)

وألحف هيلانوس على هكتور، فألقى نظرة على المعركة، وكاد قلبه يتفطر على هذه الأشبال التي تسقط هنا وهناك، وفي كل صوب وحدب، لاقيةً حتوفها في سبيل اليوم، وذرف عبرات تذوب حناناً ورحمة، ثم لوى عنان حصانه إلى البوابة الكبرى، فدخلها وقلبه يتصدع من الهم، ووقف مرة أخرى يلقي على الساحة المضطربة نظرة قائد بجنوده جد رحيم. . .

وأنطلق إلى القصر الملكي المنيف ذي الشرفات والآكام. . .

وهناك. . . عند بوابة القصر، وتحت البلوطة الكبرى الوارفة، أجتمع حول هكتور نسوة كثيرات، هن أزواج المحاربين البواسل وأخواتهم وبناتهم، وأمهاتهم كذلك، إزدحمن حول

ص: 60

يسائلن عن رجالهم، هل أودى بهم حتف القضاء؛ واسقوا نرى الوطن العزيز من دمائهم، أم ما يزالون يناضلون الأعداء، ويردون عن طروادة حُمى البلاء؟. . .

ولكن هكتور يوشك ألا يسمع لهن، لأنه ينطلق من فوره إلى داخل القصر،. . . وها هو ذا يهرع في أبهائه العظيمة، ماراً بتلك الغرف الخمسين التي تضم أزواج أبيه وأطفالهن، ثم بالبهو الأكبر ذي العماد الشامخة، ثم بالجواسق الذهبية ذات الدُّمى والتماثيل، حتى يكون عند ردهة الملكة، فتلمحه أخته الجملية ذات المفاتن لاؤوديس فتجري إليه، وتلف ذراعيها حول ساقيه، فيتخلص منها برفق. . . وتكون والدته قد أحست وجوده فتهرع إليه، وتهتف به:

(هتكور! بُني! ماذا جاء بك هنا؟ لمن تركت الساحة يا ولدي! أهكذا تدع أبناء طروادة للموت الأحمر وتجيء إلى الحرم تنشد الراحة يا هكتور؟ لا. لا. لا أحسبك تتخلى عن جنودك لحظة. ولكن هلم إليَّ! إليك هذه الكأس من أشهى ما عصر باخوس! رَّو ظَمأتك منها وعد إلى الميدان. .)

بيد أن هكتور يتهجم تجهمة مُغضَبة، ويهتف بها:

(أماه! حاشاى يا أماه! حاشاى يا أعز الأمهات! لن تهرق الخمر بأسمي، وتلك دماء أخواني تهرق بإسم الوطن وتُراق! حاشاى يا أماه أن أتذوق قطرة واحدة من تلك الكأس، وهناك. . . في سعير المعمعة، يجرع أبناء طروادة الأعزاء كؤوس المنايا وذوب الحمام! أريقيها على مذبح مينرفا إذن! هلمي ولتك معك أزواج القادة والمحاربين جميعاً، فالبسن أبهى ثيابكن الحريرية المفتلة، وحبركن المفوفة، وانطلقن إلى هيكل مينرفا، فصلين لها، وأحرقن البخور الغالي من الأفاويه والصندل أفخر طيوب الهند، ثم أركعن عند قدمي تمثالها المعبود، وإبكين بكاء طويلاً، وسبحن بإسم آلهة الحكمة، واغسلن الأرض عندهما بدموعكن، ثم توسلن إليها أن ترفع عن الطرواديين مقتها وغضبها وأنذرن أن تقربن، لو فعلت، إثني عشرة بقرة من خير أبقار اليوم، يتصدق على الفقراء وأبناء السبيل والمعترين بلحومهن، وعلى كهنة الهيكل بشحومهن. . .

(أماه! إن لم تفعلن كما أخبرتك فلا نصر لنا. . . بل لنا الهوان والهزيمة المؤكدة. . . وعليك وعلى نساء طروادة السلام من أربابها الكرماء!. .).

ص: 61

وصمت هكتور! وأربد وجه هكيوبا!

وأنطلق البطل إلى قصر أخيه. . . إلى قصر باريس فوجده يلهو ويلعب، ولا يأبه بهذه الأرواح الغالية التي تصطرع في الميدان، فأخذته الحنقة، وصب عليه شواظ غضبه. . . (أنت! أنت باريس بن بريام! عجباً وزيوس الأكبر! أنت هنا تلهو وتلعب، وتدع ضحاياك تنافح عن آثامك تحت أسوار اليوم، وتذوق الردى بجريرتك؟!. . .).

وأطلق العنان للخيل، فذهبت عربته الحربية المطهمة تطوي الطريق إلى الميدان. . .

أما أمه فقد جمعت نساء طروادة وجماعة المتوسلات، وذهبن جميعاً إلى هيكل مينرفا. . . وصلين وبكين، وغسلن بدموعهن قدمي التمثال المعبود، ونذرن لآلهة الحكمة ما أمر به هكتور أن يُنذر. . .

ولكن!

لقد أصمت مينرفا أذنيها! ولم تُصخْ لهذه المتوسلات المكلومة، ولم ترق لتلك العبارات المسفوحة، ولم تطمع أبداً في ضحايا وقرابين تكفر عن خطيئات باريس؛ ذاك الراعي المفتون الذي آثر الجمال الفاني على الحكمة الخالدة، فقضى في التفاحة لفينوس، ربة الحسن والحب، تلك الحية الرقطاء التي لدغت طروادة بأسرها، فهي إلى اليوم تصرخ من سمها الزعاف يسري في أرواح أبنائها، فينكل بهم، ويكاد يقضي عليهم. . . ولا ذنب لهم ولا جريرة، إلا لبنات الهوى الآنم، والغرام الشائن، والحب المجرم المهين!!

وأحس هكتور وهو منطلق إلى الميدان كأن منيته تنوشه من مكان بعيد، وأحس في صميمه بشوق حار إلى لقاء أندروماك، زوجه العزيزة عليه، الأثيرة إلى قلبه، شوقاً يشبه وداع الحياة في حرارته وأسره، وشوقاً يشبه الاستمتاعية الأخيرة من مباهج هذه الدنيا. . . في حزنه الصامت، ومعناه العميق!

وأحس كذلك بلوعة إلى التزود بنظرات من سكمندريوس طفله الحبيب؛ هذه الهبة السماوية التي توشك أن تصبح نقمة من نقمات اليتم، إذا كان صحيحاً هذا الهاجس الذي وقر في قلب هكتور، والذي صور له أنه مقتول اليوم لا محالة. . .

وألح الشوق على قلب البطل، فثنى عنان الخيل إلى الطريق المؤدية إلى قصره الممرد، ليشفي حاجات الفؤاد المعذب.

ص: 62

وذهب من توه إلى مخدع أندروماك! ولكنه لم يجدها هنالك، فبحث عنها في الغرف والردهات والأبهاء، ولكنه عبثاً حاول الوقوف لها على أثر!

وسأل عنها حشم القصر، وكان صدره يعلو ويهبط حين كن يتحدثن إليه عن أندروماك العزيزة وما تلقاه دائماً من القلق، وما تتفزع به روحها من الهواجس ما دام زوجها يخوض غبار هذه الحرب!

فهل هي من الأرض الثقيلة المخضبة بالدماء هذه العواطف المشتركة، أو هي من السماء الصافية التي لا يرتفع إليها نغل، ولا يروي فيها زند عداء، ولا تشب فيها سخيمة؟!

وأخبرنه أنها يممت شطر برج طروادة الرفيع، تشهد منه ما يحدث في المعركة من أهوال، وذلك عندما ترامت الأخبار أن الإغريق قد ضيقوا الحصار على جنود طروادة، وأنهم خضدوا شوكتهم، وفلجوا عليهم، ونخبوا قلوبهم، وضعضعوا أركانهم. . . فريعت أندروماك، وذهبت من فورها إلى البرج لتطمئن على رجلها وذخر حياتها، وسندها في هذه الحياة السوداء.

ونهد هكتور إلى البرج، فلقيته أندروماك بعينين مغرورقتين ووجه شاحب وجبين مغضن، وصدر ينوء بما فوقه من الهموم.

كانت تقف أبنت إبتيون، الجملية البارعة، وعلى ذراعها المرمري الفاتن طفلها الرضيع الشاحب، الذي حل بهذه الدنيا الهازلة ليكون عبرة سخينة من عبرات الحزن القاهر، ثم ليكون مأساة وحده حين تضع هذه الحرب الضروس أوزارها، وحين يشب فلا يرى حوله إلا الباكين والمحزونين، وإلا هذه المدينة الكاسفة التي تعصف بها آلهة الحرب، من غير ما شفقة ولا مرحمة!

وتعلقت أندروماك بذراعي زوجها، وشرعت تنظر في عينيه المبللتين، وتقول له:

(هكتور! رجلي وذخري من هذه الحياة! إلى أين أيها الحبيب؟ أما لهذه الحرب الطاحنة من نهاية؟ أهكذا قضت الآلهة على طروادة الخالدة بالحزن الأبدي والأسى المقيم؟ هكتور ألا تفكر في سلم يرفرف على ربوع الوطن، ويبقى على هذا الشباب الذي تعصف به ريح الحرب؟

رَجُلي!

ص: 63

إن آلافاً من الهواجس السوداء تضغط على قلبي تحدثه بالعُقَبى الوخيمة، والأيام الباكية القريبة!

هكتور؟

هذه أشباح القتلى الأعزاء من بني وطني تحدثني عن مأساة أبي، وأخوتي السبعة، والمئين من أهلي، قتلهم أخيل الجبار بيده السفاحة وجعل من جثثهم كومة عالية تقص على القرون تاريخنا الحزين!

لقد هرعوا جميعاً إلى هذه الساحة من سيليسيا، ملبين نداء الملك، الملك التاعس، أبي، الذي سعى إلى طروادة لينام أبد الدهر في ظل أسوارها نومةً غير قريرة ولا هانئة. . .

هكتور!

لقد نام أعز الآباء في تراب ساحتكم دفاعاً عن مدينتكم، ولكن المأساة لم تتم بقتله وقتل أبنائه والمئين الأعزاء من بني جلدته، ولكن المأساة أبت إلا تكون أمي. . . آه يا أمي العزيزة! أن تكون هذه الأم صفحة محلولكة من صفحاتها التي تفجر الدم في القلب، وتضرم النار في الحشا!

لقد ساقها أخيل يا هكتور في جملة السبي، ولولا القَود الكبير، والفدية الغالية التي بذلناها من أجلها، لكانت إلى اليوم، لو مد في أجلها، إحدى خادمات الأعداء الذليلات، اللواتي لا يملك لهن في هذا الإسار عزة، ولا يقدر لها أحد شأناً! لكنها سقطت هناك، في هامش هذه الساحة الظالمة، ضحية سسهم مراش من قوس الآلهة ديان، فكأنما رفضت أن ترفع كأس هذه الحياة إلى فمها النقي الطاهر. بعد إذ لوثته أجداث الدهر بذل الإسار!!

هكتور!!

كل هذه النوازل هدت نفسي، وحطمت قلبي، وأثلجت مشاعري، وجعلتني بائسةً تاعسة موهونةً لا حول لي. . . لولا أنك إلى جانبي تأسو جراحي وتؤنس وحشتي، وتشيع نوراً متلألئاً في ظلمات حياتي. . .! فأنت لي اليوم أب نعم الأب، وأنت لي في وحدتي بقلبك الحنون أم نعم الأم، وأنت لي أخ، بل أنت لي كل شيء في هذه الدنيا!

هكتور!

أبق إلى جانبي فأنا لا أستغني عنك بأب أو أم أو أخ، أو بمملكة يزين مفرقي تاجها

ص: 64

المشرق، ولا يشد يميني صولجانها الرنان!

أبق إلى جانبي يا هكتور!

أبق إلى جانبي وأرع هذا الطفل، ولا تسلمه وتسلمني لليتم والشقاء.

هتكور!

إن المستقبل يعبس من اليوم لولدك سكمندريوس؛ فرده عنه، وأدفع عاديات الزمان من الآن عن فلذة كبدك، وحبة قلبك، واستشعر نحوه حنان الأب الرحيم، ولوعة الأم المفئودة!. . . .)

وخنقتها عبرة حجبت عن ناظريها نور الحياة، وحبس منطقها كمد ممض، وحزن أليم؛ ووقف هكتور مبهوتاً لا يحير، ينظر إليها مرةً، وإلى ولده أخرى، ثم يلقي على طروادة نظرات. . . واستقيظ بطل اليوم من غفوته الصاحية، وأنطلق لسانه من عقاله يقول:

(أندروماك! أيتها الحبيبة! أسمعي إلي!)

لا تخالي يا أعز الناس إلى أن قلبي قد تحجر فلم يخفق لكل ما ذكرته من قبل! لا! لقد خفق كثيراً بمثل هذه الهواجس!

بل هو قد ذكرك، وقد تصور إن هكتور مقتول، وكأنك كما ذكرت عن أمك في جملة السبي، وأنك تؤوين مع أحد القادة الهيلانيين إلى هيلاس! وإن القائد الغليظ قد ضمك إلى حرمه، أو بالغ في الإيذاء فجعلك إحدى سراريه أو خدمه، كلما مر بك أحد أشار إليك بالبنان: (مسكينة! هذه زوجة هكتور فتى طروادة، وأين ملكها المقدام، البطل الذي سفك الدماء وسعر الهيجاء، تعمل هنا اليوم خادمة ذليلة، كسيرة القلب، مهيضة الجناح، تأتمر بأمر السفلة والاخساء!

لا يا أندروماك! لقد ذكرت ذلك جميعاً، ومن أجل هذا فأنا لهذه الحرب، وأنا لهؤلاء الأعداء! سأحطمهم! سأدك الأرض من تحتهم! سأُسقط السماء عليه كسفاً. . .! من أجلك! يا وطني! يا بلادي!. . .).

وسكت فتى طروادة قليلاً، ثم ذكر المعركة وما يدور فيها، فتقدم إلى زوجه فطبع على جبينها قبلة كلها هموم: ومد يده يريد أن يأخذ سكمندرويوس فيداعبه أو يودعه؛ ولكن الطفل صرخ مروعاً من هذه القبعة النحاسية المذهبة التي تحمى مفرق أبيه! وأبتسم والداه، برغم

ص: 65

حزنهما، ورفع هكتور القبعة وألقاها على الأرض المعشوشبة، وتناول الطفل فأرقصه قليلاً حتى انفرجت شفتاه عن ضحكة عالية، ولثمه كما تلثم العاصفة فنناً وارفاً فتلفحه، ودفع به إلى حضن أمه.

وأنطلق يطوي الطريق إلى المعمعة. . .

(لها بقية)

دريني خشبة

ص: 66

‌2 - رحلة إلى حدود مصر الغربية

مرسى مطروح، سيوه، السلوم

للأستاذ الرحالة محمد ثابت

أقلتني سيارة برفقة الأخ النبيل الكريم حسن حشمت، من خيرة الشبان وأكفأ ضباط الحدود، وطفنا بكثير من البساتين والينابيع، وهي عماد موارد الواحة وخير ما يميزها، تنتثر في أطرافها في عدد لا حصر له، وحولها تقوم غابات النخيل تتخللها أشجار الفاكهة، أخص بالذكر منها الكروم والزيتون، ثم الرمان والتفاح والبرقوق والموالح، على أن البساتين تفتقر إلى عناية كبيرة من أهلها، فهي مهملة إلى حد كبير، إذ تغص أرضها بالطفيليات، وتزدحم بالأشجار المتجاورة، مما يؤثر ولاشك في مقدار إنتاجها عاماً بعد عام. ويخيل إلى أن الناس هناك أميل إلى الكسل، إذ كنا نرى ماء الينابيع المتفجرة يجري على غير هدى، ويؤدي بعضه إلى مستنقعات فسيحة هائلة بعضها يبدو كالملاحات المديدة. نرى كتل الملح الأبيض الوضاء تكسو جوانبه إلى مد البصر، ولقد حاولت وزارة الزراعة إصلاح تلك الأرضي وحث الناس على استغلالها بطريقة أنجع من طريقتهم الحالية في الحرث وتعهد الأرض، وكذلك في الاستفادة بذلك الماء الوفير الذي يضيع سدى، ولقد قامت وزارة الزراعة هناك بمجهود يشكر في توزيع أشجار الزيتون والخروب على الناس مجاناً، وفي الاحتفاظ بمياه الينابيع فأقامت حول كل عين أحواضاً كبيرةً من البناء تؤدي منها المجاري الصغيرة إلى مختلف النواحي، بحيث تشعر وأنت تجوب أطراف الواحة من كثرة القنوات وتقاطعها وتشعبها أنك وسط قطر زراعي ممتاز، لكن رغم ذلك يضيع جانب كبير من ذلك الماء سدى، ولقد ساعدت تلك القنوات على تجفيف كثير من المستنقعات التي كانت مربى خصيباً لبعوض الملاريا الذي كان يفتك بالناس فتكاً ذريعاً، وهي تبث في تلك المياه نوعاً من السمك الصغير الذي يعيش على بويضات ذاك البعوض استئصالاً له. ولقد زرنا مصنع وزارة الزراعة الذي أقامته لاستغلال أكبر موردين للناس: هناك البلح والزيتون؛ وهي تبتاع من الآهلين جانباً كبيراً من أجود أنواع البلح، وتخضعه لعملية الغسيل والتطهير والتبخير، ثم الكبس في صناديق من خشب تبطن بالورق الصقيل، وتصدر منه بين 2000 و4000 طن في العام؛ وفي جانب من المصنع معصرة آلية للزيتون بكامل معداتها، يعصر

ص: 67

فيها الزيتون وينقى الزيت بعدة عمليات، ثم يوضع في صفائح ويصدر؛ وإنتاج المصنع آخذ في الزيادة، ولذلك تفكر الوزارة في توسيعه باطراد. وللأهلين كثير من المعاصر الخاصة للزيت ومساطح البلح الذي يعدون منه (العجوة) السيوي الشهيرة؛ أما باقي أنواع الفاكهة فلا يكادون يستفيدون منه تجارياً، حتى البيع لأهل الواحة نفسها غير مباح، ذلك لأن المالك يعد بيع الثمار للناس معرة لا تليق بكرامته، ولكل إنسان أن يدخل البساتين ويأكل منها ما يشاء بدون مقابل، ولكن ليس له أن يحمل إلى الخارج شيئاً منها إلا في حالات خاصة، عندما يريد المالك تقديم الهدايا من ثمار حديقته لبعض ذوي المكانة والجاه من الغرباء أو الأهلين. ولم أدرك من صنوف الثمار شيئاً، اللهم إلا أردأ أنواع البلح هنالك ويسمونه البلح الفراوي، أما البلح الممتاز المسمى الصعيدي، والذي يليه جودة الفريحي فلا يزال فجاً غير ناضج.

أذكر أنا دخلنا بستاناً وتفيأنا بشجرة، وكانت الأرض تحت النخيل يكاد يفرشها ذاك البلح الرديء (الفراوي) فطلب الأخ حشمت إلى الرجل أن يذيقنا أطيب ذاك البلح، فاعتلى الرجل النخلة وهز عرجونها، فأمطرت وابلاً من رطب أصفر كبير، فأقبلنا ننتقي منه أطيبه ونغسله في ماء النبع حولنا ونأكله، فكان لذيذاً شهياً، وما كدت أمتدحه حتى سارع الرجل بالاعتذار بأن الأنواع الجيدة لما تنضج بعد، وأن هذا النوع الذي نأكله غير جدير بنا، لأنه عندهم طعام الحمير! وقد علمت أنهم حقاً يقدمونه علفاً للحمير، والنوى تأكله المعزى.

وأكبر عيون الواحة عين قريشت التي تبعد عنها بنحو عشرين كم، ثم عين تاخررت التي تنفجر بقوة هائلة ويتدفق منها 4000 طن يومياً يضيع جله في متسعات الملاحة بالبحر؛ ثم عين الشفا، وتقول خرافة قديمة إنها كانت متصلة بالجن، خاضعة لعبثهم، ثم اكتسبت هبة سحرية هي شفاء الأمراض كافة، لذلك يكاد يغتسل فيها الناس جميعاً كل يوم، فالنساء يقمن مبكرات ويغسلن أجسادهن دون رأسهن احتفاظاً بجمال الشعر أفخر آيات تجملهن، ثم يعقبهن في ساعة متأخرة الرجال؛ والعين التي يستقي منها الناس جميعاً عين تأبه أمام مركز البوليس؛ وكم كان يروقني منظر الناس وبخاصة النساء وهن يردن تلك العين في بكرة الصباح وعند الأصيل يملأن جرارهن! هذه سيوية في نصف سفور، وقد ارتدت

ص: 68

جلباباً فضفاضاً من قماش يغلب على نقوشه التخطيط الأزرق، وقد ضفرت شعرها في جدائل متعددة، بعضها يتدلى إلى جانبي الرأس والبعض أمامها؛ وتنتهي الجدائل الخلفية بقطع من جلد خشن كان سبباً في أنهن لا يستطعن النوع على ظهورهن أبداً، وتزين أذنيها أقراط ثلاثة، في أسفل الأذن في طوق كبير يعلوه في وسط الأذن واحد أصغر منه، ثم يعلو هذا ثالث هو دونه حجما، وتكاد تكسو رقبها أطواق من الفضة بعضها خارج بعض، وهؤلاء لا يغسلن رأسهن إلا في فترات تعد بالأعوام، وبعضهن لم يغسلنها منذ نشأن، وذلك خشية إفساد زينة الرأس، وهن كل أسبوع يتعهدن الشعر ببعض الزيوت والأعطار، ويخيل إليَّ إن سبب تلك العادة سقوط الشعر من أثر أملاح مياه الينابيع مما نفرهن من غسله فأضحت عادة فيهن.

والسيويات جميلات الوجوه بألوانهن الخمرية وتقاطيعهن الدقيقة النحيلة. وإلى جانب السيوية كنت أرى عربية ازينت بجلبابها الأحمر، وأحاطت خصرها بحزام معوج من الأمام، وكانت تهولني أكمامها الكبيرة، ولقد خبرني الطبيب بأنه عند الكشف على إحداهن لا تضطر السيدة أن تخلع ثوبها ويكفي أن ترفع ذراعها فيظهر كل جسدها من كمها.

وللقوم لغتهم السيوية الخاصة، كنت أستمع إليها في رطانة هي أبعد من اللهجات الأوربية عنا، وقد حاولت أن أتعقب في كلماتها شيئاً يمت إلى العربية أو اللاتينية بصلة فلم أهتد إلى كلمة واحدة؛ وهم يتخاطبون بها دائماً، لكنهم إذا تحدثوا إلى الغريب تكلموا بالعربية، وأطفالهم لا يعرفون إلا اللغة السيوية. وإليك أمثلة من تلك اللغة: تلحاك أنك (كيف حالك؟)، أمقحاط:(أين تذهب؟)، سقم أنا سيط:(من أين تجيء؟)، أفتك اللون:(أفتح الشباك)، أفن شاشنك أخفنك (ألبس الطاقية على رأسك)، أفن شخشيرك في أشكنك (ألبس الجورب في رجلك) أشوُّ (الطعام) الخ. وما إلى تلك الألفاظ التي تمعن في الغرابة بالنسبة للغتنا، وحتى أسماؤهم تجد من بينها عجباً: تلشلشت، زوبَّاي، بيًّخ. ولهم تدليل خاص لبعض أسمائنا فمثلاً ينادون: أبا بكر باسم كاكال، إبراهيم باسم بابي، أحمد باسم حيدة؛ ويقال إن أصل تلك اللغة بربري ما زجتها العربية ثم الرومانية. ولا تزال للرومان هنالك بعض الآثار؛ أشهرها مبعد المشتري (جوبتر أمون)، وكان مقر الكهنة ذرعه 360 300 قدم، ومن أحجاره ما يبلغ 33 26 قدماً، وقد زاره الإسكندر بعد أن قاسى المتاعب الممضة وبعد أن نضب ماؤه

ص: 69

وأشرف على الهلاك لولا أن سقط المطر فأنجاه هو ورجاله. وكان يقوم في هذا المعبد صنم أسمه سيوح هو الذي أكسب الواحة أسمها؛ وقد زرت هذا المعبد وألفيته في حال يرثى لها، فأنت لا تكاد تجدبه حجراً قائماً على أصله وذلك من أثر أحد المأمورين الذين رأوا في أحجاره مادة صالحة لإقامة مركز البوليس، فقام يهدم المعبد ويستخدم أحجاره فيما أراد، والمفروض أنه من مثقفي القوم ومن الذين يعرفون قيمة الاحتفاظ بمثل تلك الآثار الجليلة، وهو لا يزال مأموراً إلى اليوم في ناحية أخرى من مراكز الحدود؛ عفا الله عنه وكفر له عن سيئته.

ويقال إن تلك الواحة كانت تسمى عند العرب (سنتريه)، بناها منافيوس مؤسس بلدة أخميم، أقامها من حجر أبيض وشيد وسطها ملعباً من سبع طبقات وعليه قبة من خشب على عمد من رخام، وكانت كل طبقة لطائفة من الناس على حسب مكانتهم، على إني لم أجد لكل هذا أية بقية أو أثر. وقد حاول قمبيز تدميرها وهدم معبد أمون الذي بها فهلك جيشه العظيم في طريقه إليها. ولقد زاد ذلك في قدسيتها لأنهم عزوا ذلك إلى غضب الآلهة، ولم تدخل تلك الواحة تحت حكم مصر إلا في عهد المغفور له محمد علي باشا حين أرسل إليها حسن بك الشماشرجي، حاكم البحيرة إذ ذاك، فأخضعها وتعهد بها عرب أولاد علي إلى زمن سعيد باشا ثم ضمت لمديرية البحيرة، وهم يؤدون ضريبة النخيل الحكومة، وكان مجموعها زهاء 800 جنيه وزعت على عدد النخيل الجيد الذي يثمر البلح الصعيدي، فخص كل نخلة نحو تسعة مليمات ضريبة تدفع للدولة كل عام؛ ويكاد يكون لهم نظام حكم خاص بهم فالحكومة تكل أمرهم إلى المشايخ وعددهم سبعة يتقاضون مرتبات تتراوح بين جنيهين وأربعة كل شهر، وهؤلاء الوسطاء بين الدولة وبين الأهلين؛ وعند انتخابهم يجتمع أعيان الواحة ممن تزيد ملكيتهم على مائة نخلة وينتخبون الشيخ ولا تقل أملاكه عن 250 نخلة؛ وغالب منازعتهم تحل بطريق التحكيم فيختار كل من الخصمين رجلين يوكل إليهما الأمر وقضاؤهما نافذ بعد عرضه على المأمور، وأساس تشريعهم القواعد التي وضعها لهم عالم أسمه محمد يوسف، وتكاد تكون وفق تقاليدهم الخاصة، إلا في الزواج والميراث فهم خاضعون لقضائنا. وعدد سكان الواحة يقرب من خمسة آلاف ليس بينهم مسيحي واحد؛ ويقولون إن أربعين رجلاً من العرب والبربر وقبيلة أغورمي وفدوا إلى تلك البقعة وأقاموا

ص: 70

لهم معصرة ودونوا أسماءهم في سجلاتهم، ثم تكاثر نسلهم حتى بلغ هذا العدد ومن لا ينتمي إلى واحد من أولئك الأربعين يعد دخيلاً عليهم.

وطبقة العمال هناك يسمون الزجالة أو الزجالين، يزيد عددهم على الخمسمائة، وهم الذين يقومون بخدمة الأرض نظير قيام السيد بمؤنتهم الضرورية، ولكل خادم جبة من صوف وثوب من قماش كل عام، وعند جمع المحصول يتسلم الواحد 32 صاعاً من الحب وأربعين من البلح الصعيدي الجيد. وتلك الطائفة كبيرة العدد مفتولة السواعد ممتلئة الجسوم، ممنوع أفرادها من الزواج مخافة أن يزيد نسلهم فتزيد النفقة على سيدهم، ومن تزوج منهم طرده سيده وتخلص منه؛ وهذا لا شك من أسباب قلة النسل في الواحة كلها، وقد أخذ ذلك يهدد السكان بالإنقراض، فضلاً عن إنه ساعد على انتشار الفساد إلى درجة كبيرة.

(يتبع)

محمد ثابت

ص: 71

‌البريد الأدبي

وفاة الشيخ محمد بخيت

في اليوم الثامن عشر من هذا الشهر استأثر الله بالفقيه العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية السابق؛ وهو خاتم طبقة من العلماء المحققين الذين تميزوا في حياة الأزهر بالتبسط في العقائد، والتعمق في الفقه، فانتهت إليه الأمانة فيهما حيناً من الدهر. كان - غفر الله له - من أشد المعارضين لحركة الإصلاح التي قام بها الإمام محمد عبده، دفعه إلى تلك المعارضة الثائرة شهوة المنافسة من جهة، وتحريض أولي السلطان من جهة أخرى، وكان في الشيخ زكانة شاهدة، ودعابة لطيفة؛ وطموح إلى مساماة الإمام في منصبه ونفوذه وشهرته حرك فيه الأخذ بنصيب من الأدب والثقافة العامة. ولعله كان أعلم أهل جيله بدقائق الفقه الحنفي، وأبسطهم لساناً في وجوه الخلاف بين أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة.

ولد في بلدة المطيعة من أعمال أسيوط في سنة (1271 هـ)(1856م)، ثم دخل الأزهر في سنة 1282 هـ وتخرج منه سنة 1292 فأشتغل بالتدريس فيه. ثم أنتقل سنة 1297 إلى القضاء فتقلب في مناصبه حتى تولى قضاء مصر نيابة عن القاضي التركي نسيب أفندي. وفي سنة 1914م عين مفتياً للديار المصرية، وظل في هذا المنصب حتى أحيل على المعاش سنة 1921م وقضى بقية أيامه في الإقراء والإفتاء حتى قبضه الله إلى رحمته.

اختراع الخراع للصفدي

وقع الأستاذ الطنطاوي على نسخة من هذا الكتاب الغريب عند بعض أصدقائه الأدباء، وقد وصفها في العدد الماضي وفي هذا العدد، وقال إنها ناقصة من أولها وآخرها، وقد أخبرنا صديقنا الأستاذ محمود حسن زناتي أمين الخزانة الزكية إن من هذا الكتاب نسخة مخطوطة كاملة في مكتبة المرحوم عبد الله باشا فكري، وهي الآن في حوزة حفيده الأستاذ محمد أمين فكري بك بوزارة المالية؛ فعسى أن يتيح الله لهذا الكتاب الطريف من ينشره.

قبر الصفدي

ص: 72

إلى الأخ الأديب الأستاذ على الطنطاوي

ذكرت يا سيدي أثراً من آثار صلاح الدين الصفدي بعدد (الرسالة) العشرين بعد المائة ودللت على فضل الرجل وعلى أثره في الأدب العربي، فهل تدري يا سيدي ابن يرقد هذا الرجل الفذ؟ إن قبره في مدينة صفد (فلسطين) قبر متهدم، في حارة لليهود، في بقعة لا تزيد على خمسين متراً مربعاً. . . أتريد أن تعلم أكثر من ذلك؟ - إن جيرانه لا يأنفون أن. . . يقذفوا قبره بزبالة بيوتهم.

قبر مندرس، في مكان ضيق قذر، مجهولة قيمة ساكنه، لا يزار ولا يعرفه إلا القليل، وما كان ليعرفه كل من يعرفه الآن لولا زيارة المرحوم شيخ العروبة له قبل عشر سنوات، والتبرع. . . ببناء جدار حوله!

منذ الحرب حتى يومنا هذا لم يزر قبر (إمام عصره) من الأدباء إلا المرحوم أحمد زكي باشا، فهل هذا هو التقدير لأدبائنا؟ أمة تنشد الحياة والاستقلال وإحياء الماضي العزيز، أيليق بها أن تهمل قبور رجال العلم والأدب فيها لتصبح. . . مزابل؟ قارن بين وستمنستر والبانطيون و (مقبرة) صلاح الدين تعلم السر في الفرق بين من أدباؤهم السابقون في وستمنستر، ومن قبور أدبائهم كقبر ابن أيبك!

ها قد مر على رقدة صلاح الدين الأخيرة خمسمائة وتسعون سنة كاملة، وبعد عشرة سنوات تبلغ الستمائة، فماذا أعددنا لإحياء ذكراه الستمائة؟ في وقت يقيم الغربيون المهرجانات الكبيرة لأحياء ذكر أدبائهم في كل عام! عسى ألا تمر العشر السنوات الباقية لذكرى الستمائة سنة لوفاته وقبر مهمل قذر لا يزار.

(صفدي)

نظريات الجنس والسلالة والخصومة السامية

اتخذت نظريات الجنس والسلالة في العهد الأخير أهمية خاصة؛ فهي اليوم روح النظام الذي يسود ألمانيا، وقد أخذت تثير في بعض الدول الأخرى جدلاً لا نهاية له؛ وقد كان اليهود ضحية هذه الفورة التي اتخذت في ألمانيا أشكالاً من العنف والهمجية تذكرنا بروح العصور الوسطى وأساليبها؛ على أن نظرية الجنس وتفوق السلالة لم تقف عند اضطهاد

ص: 73

اليهود، ولو وقفت عند هذا الحد لكانت مسألة محلية بالنسبة لألمانيا، ولكن هتلر ودعاته ذهبوا بعيداً في صوغ النظرية الجنسية، فنادوا بتفوق السلالة الجرمانية أو السلالة الشمالية (النورديكية) على جميع أجناس البشر، ووصموا الأجناس السامية كلها بالانحطاط وعدم الأهلية لإنشاء الحضارة، ونادوا بوجوب إخضاعها وتمدينها واستغلالها بواسطة الشعوب الشمالية. ومن هنا تتخذ الدعاية الهتلرية أهميتها بالنسبة للشعوب الشرقية، وهي التي وصمت بهذه الوصمة وصدر في حقها هذا الحكم؛ وقد كانت ألمانيا وما زالت مهد التعصب الجنسي، وكانت بالأخص مهد الخصومة السامية؛ ولم يأت زعيم الدولة الألمانية في ذلك بجديد في كتابه (كفاحي) الذي يحدثنا فيه طويلاً عن عناصر الانحطاط والخطر في اليهودية، فإن الثقافة التي تلقاها لا تسمح له بمناقشة هذه الشؤون العلمية والتاريخية؛ ولكنه نقل معظم أقواله من الكاتب الألماني كرستيان لاصن؛ وقد كان لاصن أول من صاغ من الخصومة السامية نظرية علمية تاريخية، وأول من تحدث عن انحطاط الأجناس السامية في كتاب نشره في منتصف القرن الماضي؛ ثم تلاه المؤرخ الفرنسي أرنست رينان؛ واتخذت نظرية الخصومة السامية من ذلك الحين شكلها الجدلي.

نكتب ذلك لمناسبة كتاب ظهر أخيراً بالإنكليزية عنوانه: (كيف التباين من الله) بقلم الكاتب الإنكليزي لويس بروان؛ وموضوع الكتاب هو الحديث عن مركز اليهود في المجتمع والإنسانية؛ وقد يبدو لأول وهلة إن المؤلف وهو يهودي يجري على نغمة الدفاع عن جنسه؛ ولكن الواقع أنه لا يبدي في ذلك حماسة خاصة؛ وإنما لب الكتاب وموضوعه الأول هو تحليل النظريات الجنسية التي ترتبت عليها الخصومة السامية؛ وشرح الأسباب التي أدت إلى تفاقمها وإلى الصراع بين اليهودية وخصومها، ويرى الكاتب أن الحركة اليهودية لم تتخذ هذه الأهمية من تلقاء نفسها، ولكنها نمت وأشتد ساعدها بسبب الاضطهاد والمطاردة؛ ويدلل الكاتب على نظريته بسير الحركات العالمية الكبرى، فالنصرانية ما كانت لتنمو وتنتشر هذا الانتشار لو لم تطارد في بدء ظهورها بعنف وقوة، وكذلك اليهودية؛ فمنذ غابر العصور كان اليهود موضع الاضطهاد والبغض والزراية، وكانوا يجلدون ويعذبون وتحرق منازلهم وتصادر أموالهم، ولكن اليهودية هي اليوم أقوى ما تكون حياة وحيوية؛ بل هي اليوم في ازدهار وتقدم، وقد نتساءل أيكون ذلك رغم الاضطهاد

ص: 74

والمطاردة؛ ويقول الكاتب كلا بل بسبب الاضطهاد والمطاردة. ثم يقول إن اليهود لم يكونوا قط جنساً أو شعباً متحداً، ومن الخطأ أن نعتقد أن العصبية الدينية هي التي تربطهم وتقوي تضامنهم؛ ذلك أن اليهودية دين سهل، يقبل مختلف التطورات والتفسيرات؛ ولكن اليهود يجتمعون في مسألة واحدة ما زالت قائمة خلال القرون، تلك هي أنهم دائماً موضع البغض والزراية من بني الإنسان؛ وقد أرغموا خلال العصور على أن يناضلوا من أجل حياتهم، فبث فيهم النضال قوة؛ واليهودي يشعر أنه ليس كباقي الناس، ولكنه يحمل دائماً على أن يشعر بأنه يوجد شيء ضده؛ ومن ثم تعلم الحذر والتحوط إلى درجة يدهش لها الجمهور الرفيع.

ويكتب لويس براون بوضوح وسلالة ويستعرض ما في بني جنسه من عيوب وفضائل بروح الاعتدال والإنصاف، ويحلل نظريات الجنس والسلالة بقوة وذكاء، ويفند ما فيها من تحامل وسفسطة، ويتساءل عن المعيار الذي يتخذه دعاة النظرية لتفاضل الجنس والسلالة: أهي المظاهر الخلقية المادية كالجمجمة والفك والشفتين واللون وغيرها، وهذه جميعاً يختلف معيار التفاضل فيها عن مختلف الأجناس والشعوب، وربما فضل الزنجي الرجل الأشقر في بعض تقاطيعه أو خواصه، وربما فضل المغولي الأصفر القصير باقي الأجناس بدقة شفاهه وحمرتها، وهكذا. ولا يحاول لويس براون بأي حال أن يزعم أن لليهود تفوقاً خاصاً، ولكنه يقول فقط إن الجمهور الرفيع لم يترك باباً من أبواب الاضطهاد والمطاردة، لسحق اليهود إلا ولجه، وحيثما ترك اليهودي لنفسه ولم يزعج نراه نسياً منسياً، ولكن حيث يواجهه الصراع والمطاردة نراه قوياً يغالب الحوادث.

وقد أثار كتاب لويس براون في الداوئر السياسية والاجتماعية كثيراً من الاهتمام والجدل؛ وربما كان كتابه أول كتاب من نوعه، يذكرنا بمؤلفات سلفه ومواطنه الكاتب والفيلسوف اليهودي الأكبر (مكس نردو) الذي لفت أنظار العالم منذ ثلث قرن بقوة جدله في نقض أصول المدنية الحاضرة وأكاذيبها الاجتماعية والجنسية والسياسية.

تمثال لحنة بافلوفا

من أنباء لندن أنه سيقام في إحدى حدائقها تمثال بديع للراقصة الروسية الشهيرة حنه بافلوفا، وقد أوصت بصنع هذا التمثال لجنة من محبي الفنون في لندن حيث عاشت

ص: 75

الراقصة الشهيرة حيناً من الدهر؛ وعهد بصنعه إلى المثال السويدي الكبير كارل ميلس، وستبلغ نفقاته ثلاثين ألف جنيه؛ وتقرر أن يقام في بستان ريجنت في حديقة الورد، وهي تقع إلى جانب بركة البجع، وهو الطير الذي أوحت حركاته إلى بافلوفا بأشهر وأروع رقصاتها المسماة (رقصة البجع). وتعول اللجنة على جمع المال المطلوب من إيراد (فلم) يمثل حياة بافلوفا في طائفة من أبدع رقصاتها ومنها (رقصة البجعة المحتضرة)؛ وقد أخذت هذه المناظر قبل وفاة بافلوفا بقليل وأشترك فيها مع الفنانة الشهيرة بعض كبار الراقصين الذي عملوا معها.

وتمثل حياة بافلوفا وحدها طوراً من أعظم أطوار الفن الراقص؛ وقد ولدت هذه الراقصة المبدعة في بتروجراد في سنة 1885، وتعلمت الرقص في بعض مسارحها، ولم تبلغ العاشرة من عمرها حتى ذاعت شهرتها وتقدمت في سبيل المجد والرياسة الفنية بسرعة مدهشة؛ وكانت فنانة رائعة الإبتكار، وعلى يدها دخلت أوضاع (الباليه) الراقصة في طور جديد وبلغت ذروتها من الافتنان والروعة. وكان الفن لديها وحياً وسمواً. وقد طافت عواصم العالم الكبرى مثل لندن وبرلين وباريس ونيويورك ولقيت فيها جميعاً فوزاً باهراً. وقدمت إلى مصر سنة 1929 ففتنت المجتمع المصري برائع فنها ولا سيما برقصة (البجعة المحتضرة) وتوفيت سنة 1931 في مدينة لاهاي وطويت بوفاتها صفحة من أروع صفحات الفن الحديث.

أرض السعداء

يوجد بين جزائر المحيط الهادي التابعة لإنكلترا جزيرة صغيرة يصح أن تسمى بالجزيرة السعيدة. وتسمى هذه الجزيرة (جزيرة تونجا) وهي إحدى مجموعة جزائر (الأحباب) التي وقف بها الرحالة الشهير (كابتن كوك) أثناء طوافه في أواخر القرن الثامن عشر بهذه المياه الخطرة. وأمير هذه الجزيرة زنجي يسمى البرنس (توفا آهو) وهو شاب في الثامنة عشرة ولكنه طويل القامة جداً، وهو يدرس الحقوق في مبلورن ووجه الرضى والسعادة في (تونجا) هو أنه ليس بها فقير ولا معوز ولا تدفع فيها ضرائب. وكل فرد من سكانها يبلغ السادسة عشرة يعطى أرضاً مساحتها نحو ثمانية فدادين ومسكناً قروياً، أو بعبارة أخرى تهيأ له كل أسباب العيش والرخاء.

ص: 76

وقد استبدلت ضريبة الدخل بجعل سنوي قدره جنيهان يدفعه كل ذكر بالغ؛ ولكنه ليس بضريبة في الواقع لأنه يخول له مقابله أن يعالج مجاناً هو وأفراد عائلته في مستشفى الحكومة؛ ومعظم إيراد الحكومة يجبى من الجمارك وضريبة السيارات.

ويكفل التعليم الحر بوجود المدارس الابتدائية وهي كلها مجانية؛ وهناك كليتان صغيرتان. ومن مفاخر هذه الجزيرة النائية التي لا يجاوز سكانها ثلاثين ألف نفس أن ليس بها أمي واحد.

ص: 77

‌الكتب

رسالة الحج

تأليف الأستاذ ح. ع. (دبلوماسي)

للأستاذ عبد الحميد العبادي

الأستاذ ح. ع. من خيرة رجالنا العاملين في السلك الدبلوماسي، مثل مصر ولا يزال يمثلها في ممالك الشرق العربي، فأفاد بذلك خبرة نادرة بأحوال البلاد العربية في الوقت الحاضر، وأنشأ لنفسه بخلقه وإخلاصه ونشاطه مكانة عالية عند ملوك العرب، وساستهم، وأدبائهم، وعلمائهم. وإني لسعيد بأن أقول إني اطلعت على ذلك بنفسي في بعض تجوالي في ربوع الشرقين الأدنى والأوسط

وقد واتى الحظ الأستاذ ح. ع. وساعفته ظروف عمله الدبلوماسي فأدى فريضة الحج ثلاث مرات استطاع أن يدرس في أثنائها على هدى التاريخ وفي ضوء الواقع حال ذلك النظام الإسلامي الجليل المعدود خامس أركان الإسلام. ثم صاغ خلاصة دراسته في رسالة لطيفة الحجم عظيمة الفائدة، يعرف فيها من يطالعها بلاغة الأدب، وفكرة الفيلسوف، ونزعة المصلح المؤمن برسالة الإسلام وبإمكان إنهاض المسلمين من عثارهم بالرجوع بهم إلى كثير من نظمهم وسننهم الأولى. فجاءت الرسالة من أحسن ما كتب عن (الحج)، ومن خير ما أخرجته المطابع المصرية في هذا العام

ينعى الأستاذ على المسلمين فيصدر رسالته إهمالهم أمر الحج حتى كاد هذا النظام العتيق يفقد على مر الزمن من الناحية العلمية الحكمة التي قصد إليها الشارع من تشريعه. فهو يقول: (أما بعد فقد أديت فريضة الحج ثلاث مرات، وشاهدت الحجيج من جميع الأجناس، وخالطت منهم طوائف كثيرة، وحادثت كبارهم وذوي العقول منهم، ودرست بفكري وعيني وقلبي، فكنت أرى وأفكر وأبحث، وكنت استلهم كل شيء حكمته، وكل مكان وحيه، وكل عمل سره، فظهر لي أخيراً أن الحج لا يزال مجهولاً في حقيقته، وأن الذين يحجون إنما يؤدون عملاً فردياً محضاً، ولا يعرفون إلا ظاهراً من الأمر. . .)

والرسالة تنقسم إلى ثلاثة أقسام، أولها في أن الإسلام دين إنساني عام، وأنه دين المساواة

ص: 78

التي تظهر في شكلها المادي المحسوس في الحج، وأن الكعبة من العالم الإسلامي بمنزلة القلب من الجسم، فالتوجه إليها في الصلاة والحج ذو حكمة بالغة. والقسم الثاني يتناول الكلام على (مقاصد الحج)، وفيه يرى الأستاذ أن الحج كفيل بتحقيق مبدأ الرجوع إلى طهارة الطبيعة الذي دعا إليه الفلاسفة أمثال روسو ولكنهم عجزوا عن تحقيقه، وأن الحج يستوفي مزايا نظام الكشافة ويربى عليها، وأن الحج رمز للجهاد الإسلامي في أسمى وأشرف معانيه، وأن موسم الحج جدير بأن يصبح مؤتمرا عاماً لنشر الثقافة بين المسلمين لو حرصت كل أمة إسلامية على أن تحج كل عام نفرا من صفوة رجالها يبادلون نظراءهم من حجاج الأمم الأخرى الرأي والمشورة؛ والأستاذ يرى أن هذه المقاصد كلها مما يندرج تحت مدلول قوله تعالى:(ليشهدوا منافع لهم)

على أن الجديد الممتع من هذه الرسالة هو قسمها الثالث، هو تلك الفصول التي عقدها الأستاذ لمناسك الحج وأسرارها التي خفيت على كثير من بحاث المسلمين حتى ذهب بعضهم إلى أنها أمور تعبدية توقيفية لا مجال لتفكير العقل البشري فيها؛ فالأستاذ يتناولها منسكاً منسكاً: من الإحرام، إلى الطواف حول الكعبة، إلى السعي بين الصفا والمروة، إلى الوقوف بعرفات، إلى رمي الجمار عند العقبة، إلى تقديم الهدي، إلى استلام الحجر الأسود والإهلال بالتلبية، فإذا هذه المناسك قد أفصحت عن سرها، وأبانت عن مكنون حكمتها. والحق أن هذا البحث ليكشف عن ناحية روحانية جميلة من نفس الباحث القدير

ثم يختم الأستاذ رسالته بمقترحات عملية يتقدم بها إلى الحكومات الإسلامية عامة والحكومة المصرية خاصة، راجياً الأخذ بها حتى ينتفع المسلمون بنظام الحج

وإن الذي يفرغ من قراءة هذه الرسالة ليتمنى أمرين: أن تجد دعوة الأستاذ ح. ع. من أولى الرأي في العالم الإسلامي آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، وألا يحرم الأستاذ الشباب المتعلم المثقف من نفثات يراعه، فهو يراع يصدر عن فكر ناضج وعاطفة نبيلة.

عبد الحميد العبادي

ص: 79