المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 122 - بتاريخ: 04 - 11 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ١٢٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 122

- بتاريخ: 04 - 11 - 1935

ص: -1

‌في الجمال.

. .

بحث تحليلي نهديه إلى الآنسة شرلوت واصف ملكة الجمال

العالمي في هذا العام

ما هو الجميل؟ الجميل في إجماع الناس هو ما ينشئ في الذهن فكرة سامية عن الشيء في الطبيعة، أو عن الموضوع في الفن فيبعث في نفسك عاطفة الإعجاب به. ولكن ما هي على التحديد الصفات التي تبعث اللذة وتثير الإعجاب في بدائع الفن أو في روائع الطبيعة؟ ذلك ما نحاول شرحه في شيء من الإفاضة.

الطبيعة والفن إنما يحدثان أثرهما في النفس إما بالفكرة وإما بالعاطفة وإما بالشعور الصادر عن آلات الحس؛ ومن ذلك تنوع الجمال فكان عقلياً وأدبياً ومادياً ما في ذلك شك. ففي أي الجهات إذن تتعرف النفس والعاطفة والحواس وجوه الجمال؟ إن الخصائص المميزة للجمال هي القوة، والفِرَة، والذكاء؛ والمراد بالقوة شدة العمل وحدته، وبالفرة كثرة الوسائل وخصوبتها، وبالذكاء الطريقة الرشيدة المفيدة لتطبيق هذه الوسائل. ولا جدال في أن الحواس ليست كلها أهلا لنقل هذه الخصائص الجمالية الثلاث، وإنما ينفرد منها السمع والبصر بنقل أحاسيسها نقلاً قوياً يثير الدهش والإعجاب واللذة. أما الانفعال الذي يأتيك عن طريق الشم والذوق واللمس، فلا ينشأ عنه فكرة ولا عاطفة، لأن الطعوم والروائح، والملوسة والخشونة، والصلابة واللدونة، والحرارة والبرودة، أحاسيس بسيطة عقيمة قد توقظ في النفس ذكرى خابيةً أو عاطفة غافيةً، ولكنها لا تنتج واحدة منهما. وإذا كان البصر آلة الجمال الحسي أو المادي، والسمع آلة الجمال العقلي والخلقي، فإن في هاتين الحاستين الدليل على خصائص الجمال الثلاث، ذلك لأن أجمل ما يؤثر في العين والأذن هو ما بلغ من القوة والفرة والذكانة أسمى غاية؛ وجمال الأشياء إنما يتفاضل فيهما بمقدار ما يشتمل عليه من هذه العناصر؛ وكلما نقص عنصر منها أو قل، ضعف فينا الشعور بالجمال على نسبته. ما الذي يجعل لعملي النفس وهما الفكر والإرادة هذه الصفة التي تملك اللب في العبقرية والفضيلة؟ لا شيء غير القوة والفرة والذكاء، سواء أكان ما تعجب به براعة الصنع أم مهارة الصانع. إن الطِّيبة في ذاتها فضيلة، ولكنها لا تكون جميلة إلا إذا اقترنت بالقوة؛ فسقراط في الحكماء، وعمر في الخلفاء، مثلان سائران في جمال الخلق، ولكنك إذا

ص: 1

جردت أخلاقهما مما ينبئ عن القوة وخواصها من الصدق والصبر والشجاعة والسمو ذهب الجمال وبقيت الطيبة. إذا صنعت المعروف في صديقك وعدوك كان الفعل كريماً في الحالين، ولكنه في الصديق عادي لأنه بسيط سهل، وفي العدو ممتاز لأنه عظيم شاق؛ وفي هذه القوة التي تقتضيها تلك المشقة كان جماله. إن وفاء السموءل بدروع امرئ القيس فضيلة، ولكن اقترانه بالقوة على تضحيته بابنه جعله آية في جمال الوفاء؛ وإن تنفيذ بروتوس عقوبة الموت على أحد المجرمين عادة مألوفة، ولكن تنفيذه إياها على بنيه الذين ائتمروا بروما مثل نادر لجمال البطولة. وموقف هكطور مع أندروماك، وموقف أسماء بنت أبي بكر مع ابن الزبير لا يقلان جمالاً عن ذينك الموقفين. وسر الجمال في كل ذلك إنما هو تلك القوة الخارقة في تغليب فكرة الواجب على عاطفة البنوة.

كذلك الحال في أعمال الذهن؛ فحل معضلة في الهندسة، واكتشافٌ عظيم في الطبيعة، واختراع عجيب في الميكانيكا، ونظام محكم الوضع في التشريع، وقطعة قوية التفكير والتصوير في الأدب، كلها أعمال جميلة؛ لأنها تستلزم نصيباً موفوراً من الذكاء، وقوة عظيمة في التفكير؛ وشعور المرء بالجمال فيها، موقوف على إدراك القوة التي تقتضيها؛ فالعامي أمام الأحرف الهجائية، والتلميذ أمام منطق أرسطو، لا يجدان فيهما من الجمال ما يجده الفيلسوف، لأنه يدرك ما اقتضياه وتضمناه من الذكاء والقوة.

أما في البلاغة والشعر فأبْين خصائص الجمال الذكاء والفرة؛ فتزاحم العواطف، وتكاثر الصور، وتوافر الأفكار؛ ثم اتساع الخواطر بالذهن النير الذي يحييها ويقويها ويستولدها، وغزارة اللغة وخصوبتها وقدرتها على أن تعبر عن العلاقات الجديدة للحياة، أو على أن تفيض من الحرارة والقوة على الحركات المختلفة للنفس، كل أولئك يملأ شعاب القلب بالإعجاب، وذلك الإعجاب الذي نحسه هو عاطفة الجمال.

وشأن الجمال في المادة لا يختلف عن شأنه في الفكر والعاطفة؛ فإنك إذا رحت تبحث في الطبيعة عن الصفة العامة للجمال لم تجدها غير القوة، أو الفرة، أو الذكاء. ففي الحيوان تجد هذه الصفات الثلاث مجتمعة ومتفرقة، ففي جمال الأسد القوة، وفي جمال الطاووس الفرة، وفي جمال الإنسان الذكاء. ولا أقصد ذكاء الإنسان في نفسه، إنما أقصد ذكاء الطبيعة في تهيئته وتثقيفه؛ وذكاء الطبيعة معناه مطابقة طرائقها لصورها، وملاءمة وسائلها

ص: 2

لغاياتها. فغايتها من الرجل غير غايتها من المرأة، ولذلك اختلفت الوسائل في الزوجين، وتباين مقياس الجمال في الجنسين. أرادت من الرجل أن يعمل ويقاتل ويحمي زوجه ويعول أسرته، فزودته بما يحقق هذا المراد ويُمضي تلك الإرادة: تركيب وثيق محكم تنم ملامحه على السرعة والمهارة والقوة والشجاعة، وجسم متجاوب الأعضاء متناظر الشكول متوازن الأوضاع يصلح لكل عمل ويقدر على كل حركة ويستقيم على أي صورة، وسِماتٌ من الشهامة والجرأة والحنان والحساسية تفيض من العيون وتنتشر على الوجوه وتختلج على الشفاه، وجملة من الصفات الخلقية والجسمية تؤلف في الإنسان مزايا الجمال المذكر؛ فإذا قلت رجل جميل كان معنا ذلك أن الطبيعة وهي تكوّنه عرفت ما تفعل، وفعلت ما تريد.

(للبحث بقية)

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌فوق الآدمية

الإسراء والمعراج

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

من أعجب ما اتفق لي أني فرغتُ من تسويد هذا المقال ثم أردتُ نقله فتعسَّرَ عَّلي وصُرِفتُ عنه بألم شديدٍ اعتراني ونالتني منه ثقلةٌ في الدماغ؛ ثم كشفه الله بعد يوم فراجعتُ الكتابةَ، فإذا قلمي ينبعث بهذه الكلمات:

كيف يَستَوْطِئُ المسلمون العجز وفي أول دينهم تسخير الطبيعة؟

كيف يَسْتَمْهِدون الراحة، وفي صدر تأريخهم عملُ المعجزة الكبرى؟

كيف يَركَنُونَ إلى الجهل، وأول أمرهم آخرُ غايات العلم؟

كيف لا يحملون النور للعالَم، ونبيُّهم هو الكائن النورانيُّ الأعظم؟

قصة الإسراء والمعراج هي من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، هذا النجم الإنساني العظيم، وهذا النور المتجسِّد لهداية العالم في حَيرة ظلماته النفسية؛ فإن سماء الإنسان تُظلم وتُضيء من داخله بأغراضه ومعانيه. والله تعالى قد خلق للعالم الأرض شمساً واحدةً تُنيره وتُحييه وتتقلب عليه بليله ونهاره، بيد أنه ترك لكل إنسان أن يصنع لنفسه شمس قلبه وغمامها وسحابها وما تسفِرُ به وما تظلم فيه. ولهذا سمي القرآن نوراً لعمل آدابه في النفس، ووُصف المؤمنون بأنهم (يسعى نورُهم بين أيديهم وبأيمانهم)، وكان أثر الإيمان والتقوى في تعبير القرآن الكريم أن يجعل الله للمؤمنين نوراً يمشون به.

ولقد حار المفسرون في حكمة ذكر (الليل) في آية (الإسراء) من قوله تعالى: (سُبحانَ الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركْنا حوله لنُريه من آياتنا). فإن السُّرى في لغة العرب لا يكون إلا ليلاً؛ والحكمة هي الإشارة إلى أن القصة قصةُ النجم الإنساني العظيم الذي تحول من إنسانيته إلى نوره السماوي في هذه المعجزة، ويتمم هذه العجيبةَ أن آيات (المعراج) لم تجئ إلا في سورة (والنجم) وعلى تأويل أن ذكر (الليل) إشارةٌ إلى قصة النجم، تكون الآية برهان نفسها، وتكون في نَسَقها قد جاءت معجزة من المعجزات البيانية. فإذا قيل إن نجماً دار في السماء، أو قطع ما تقطعه النجوم من المسافات التي تعجز الحساب، فهل في ذلك من عجيب؟ وهل فيه شك أو نظرٌ أو تردد؟

ص: 4

وهل هو إلا من بعض ما يسبَّح الله بذكره؟ وهل يكون إلا آية اتصلت بالآيات التي يراها اتصالَ الوجود بعضه ببعض؟

وأنا ما يكاد ينقضي عجبي من قوله تعالى: (لنٌرِيه من آياتنا) مع أن الألفاظ كما ترى مكشوفة واضحة، يخيَّل إليك أن ليس وراءها شئ، ووراءها السرُّ الأكبر؛ فإنها بهذه العبارة نصٌّ على إشراف النبي صلى الله عليه وسلم فوق الزمان والمكان يرى بغير حجاب الحواس مما مرجعه إلى قدرة الله لا قدرة نفسه، بخلاف ما لو كانت العبارة (ليرى من آياتنا) فإن هذا يجعله لنفسه في حدود قوتها وحواسها وزمانها ومكانها، فيضطرب الكلام ويتطرق إليه الاعتراض ولا تكون ثمَّ معجزة. وتحويل فعل (الرؤية) من صيغة إلى صيغة كما رأيت هو بعينه إشارة إلى تحويل الرائي من شكل إلى شكل كما ستعرفه، وهذه معجزة أخرى يسجد لها العقل؛ فتبارك الله مُنزِلُ هذا الكلام!

وإذا كان صلى الله عليه وسلم نجما إنسانياً في نوره فلن يأتي هذا إلا من غلبة روحانيته على مادته؛ وإذا غلبت روحانيته كانت قواه النفسية مهيأة في الدنيا لمثل حالتها في الأخرى؛ فهو في هذه المعجزة أشبه بالهواء المتحرك. فقُل الآن: أُُيعترضُ على الهواء إذا ارتفع بأنه لم يرتفع في طيارة. . .؟

ومن ثمَّ كان الإنسان إذا سما درجةً واحدةً في ثبات قواه الروحية، سما بها درجاتٍ فوق الدنيا وما فيها، وسُخِّرت له المعاني التي تسخِّر غيره من الناس، ونشأت له نواميسُ أخلاقيةٌ غير النواميس التي تتسلط بها الأهواء. ومتى وُجد الشيء من الأشياء كانت طبائع وجوده هي نواميسه. فالنارُ مثلاً إذا هي تضرَّمت أوجدت الإحراق فيما يحترق، فإن وضع فيها ما لا يحترق أبطل نواميسها وغلب عليها.

وكل معجزة تحدث فهذا هو سبيلُها في إيجاد النواميس الخاصة بها وإبطال النواميس المألوفة، وبهذا يقال إنها خرقت العادة؛ ومن النور نورٌ لا يشفُّ له غيرُ الهواء، ومنه أشعة (رنتجن) التي تشف لها الجدرانُ والحجب، فهذه معجزة في ذاك.

والنبي لا يكون نبياً حتى يكون في إنسانه إنسانٌ آخر بنواميسَ تجعله أقربَ إلى الملائكة في روحانيتها؛ وما ينزل إنسانُه الظاهرُ من الإنسان الباطن فيه إلا منزلةَ من يتلقى ممن يُعطي. فذاك الباطنُ هو للحقائق التي لا تحملها الدنيا، وهذا الظاهر لما يمكن أن يبلغ إليه

ص: 5

الكمالُ في المثل الإنساني الأعلى، ولولا ذلك الباطن ما استطاع نبي من الأنبياء أن يحمل هموم أمة كاملة لا تضنيه ولا تغيره ولا تعجزه.

فحقيقةُ النبوَّة أنها قوةٌ من الوجود في إنسان مختار جاءت تصلح الوجود الإنسانيَّ به لتُقرَّ في هذه الحيوانية المهذَّبة مثلها الأعلى، بدلالتها على طريقها النفسيّ مع طريقها الطبيعي؛ فيكون مع الانحطاط الرقيّ، ومع النقص الكمال، ومع حكم الغريزة التحكم في الغريزة، ومع الظلمة المادية الإشراقُ الروحاني.

وما المعجزات إلا شأنُ تلك القوة الباطنة لا شأنُ إنسانها الظاهر. ومن الذي ينكر أن قوى الوجود هي في نفسها إعجاز للعقل البشري؟ وهل ينكر اليوم أحد شأنَ هذه القوة في (الراديو) حين مسته فجعلت الكلمة التي ترسل بين الشرق والغرب، كالكلمة بين اثنين يتحدثان في مجلس واحد؟

ونحن نرى معجزات التنويم المغناطيسي وما يبصره النائم وما يسمعه وما ينكشف له مما وراء الزمان والمكان؛ وليس التنويم شيئاً إلا تسليط الذات الباطنة بقواها الروحية العجيبة على الذات الظاهرة المقيدة بحواسها المحدودة، فتطغى عليها فتصبح الحواس مطلقة شائعة في الوجود بمقدار ما فيها من قواه لا بمقدار ما فيها من قوة شخصها، وعلى نحو ذلك يتصلُ الرجل الروحانيُّ بذاته الباطنة، فيوقع شخصه الظاهر في الاستهواء، فينكشف له الوجود ويبصر ما يقع على البعد ويرى ما هو آت قبل أن يأتي. وما الكون في هذه الحالة ألا كالمعشوق يقول لعاشقه الذي وقع في قلبه الحب: قد آتيتك نوراً تنظر به جمالي.

وفي علماء عصرنا من يفكر في الصعود إلى القمر، وفيهم من يعمل للمخاطبة مع الأفلاك، وفيهم من تقع له العجائب في استحضار الأرواح وتسخيرها. وكل ذلك أول البرهان الذي سَيُلْزِمُ الفم فيضطره في يوم ما إلى الإقرار بصحة الإسراء والمعراج. .

ونحن قبل أن نبدي رأينا في القصةُ نلمُّ بها إلمامةً موجزة؛ فقد اختلفت فيها الأحاديث ووقع فيها تخليط كثير فجاءت فنوناً وأنواعاً من طرق شتّى حتى جمعها بعضهم في جزءين، وما تحتمل كل ذلك ولا بعضه؛ ولكن روح الرواية في ذلك الزمن كانت كروح الصحافة في هذا العصر، متى فارت فَوْرَها استحدثتْ من كل عبارة عبارة أخرى، وعلى هذه الطريقة تخرج من العبارتين عبارة ثالثة، فيكون الأصل معنى واحداً وإذا هو يَمُدُّ من يمينه ويساره.

ص: 6

ولا يرون بذلك بأساً فانهم يَشُدُّون به الرأي ويضاعفون منه اليقين، ويزيدون ضوءاً في نور المعنى، وما داموا قد أثبتوا الأصل واستيقنوه فلا حَرَجَ أن يؤيد القولُ بعضُه بعضاً باجتهاد في عبارة، واستنباط من أخرى، وزيادة في الثالثة - مما هو بسبيل منها، على نحو ما نرى من فن الرواية القصصية؛ إذ تتعدد الأساليب والعبارات مختلفة متنوعة، وليس تحتها إلا حقيقة واحدة لا تختلف. والقَصصُ الديني في هذه اللغة العربية فنّ كامل قائم بنفسه لا يُبدع العقل والخيال والعاطفة أقوى منه ولا أعجب ولا أغرب ،

هذا في متن القصة؛ أما في واقعتها فقد اختلفوا اختلافاً آخر؛ هل كان الإسراء والمعراج يقظةً أو مناماً، وبالروح وحدها أو بالروح والجسم معاً؟ وإنما ذكرنا هذا الخلاف لأنه الدليل القاطع على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بشيء من ذلك فلم يعين لهم وجهاً من هذه الأوجه. والحكمة في ذلك أن عقولهم لم تكن تحتمل الإدراك العلمي الذي أساسه الكهرباء والأثير. .

والخلاصة التي تتأدَّى من القصة: أنه صلى الله عليه وسلم كان مضطجعاً فأتاه جبريل فأخرجه من المسجد فأركبه البُراق فأتى بيت المقدس ثم دخل المسجد فصلى فيه، ثم عرج به إلى السموات فاستفتحها جبريل واحدة واحدة، فرأى فيها من آيات ربه، واجتمع بالأنبياء صلوات الله عليهم، وصعد في سماء بعد سماء إلى سِدْرة المنتَهى، فغَشيَها من أمر الله ما غشيها، فرأى صلى الله عليه وسلم مظهر الجمال الأزلي، ثم زُجَّ به في النور فأوحى الله إليه ما أوحى ،

أما وَشى القصة وطرازُها فبابٌ عجيب من الرموز الفلسفية الإنسانية التي يُرمز بها إلى تجسيد الأعمال في هذه الحياة، تكون تعباً وتقع فائدة، أو تُلتمس منفعة وشهوة وتقع مضرَّةً وحماقة، ثم تفنى من هذه وتلك الصُّور الزمنيةُ التي توّهمها أصحابها، وتخلد الصور الأبدية التي جاءت بها حقائقها.

ومن هذه الرموز البديعة قوله: فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل أخذت الفِطرة. وإنه مرَّ على قوم يزرعون ويحصدون في كل يوم كلما حصدوا عاد كما كان؛ فسأل ما هذا؟ قال جبريل: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعَفُ لهم الحسنة سبعمائة ضِعف. ثم أتى على قوم تُرْضَخُ رءوسُهم بالصخر، كلما رُضِخَت

ص: 7

عادت كما كانت ولا يُفَتّر عنهم من ذلك شيء. فقال ما هذا؟ قال جبريل: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحمٌ نضيج في قدر، ولحمٌ آخر نيء في قدر خبيث، فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث ويَدَعون النضيج. فقال ما هؤلاء؟ قال جبريل: هذا الرجل تكون عنده المرأةُ الحلالُ الطيّب فيأتي امرأة خبيثة، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيباً فتأتي رجلاً خبيثاً. ثم أتى على رجل قد جمع حزمةً عظيمةً لا يستطيع حملَها وهو يزيد عليها، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال هذا الرجل تكون عليه أماناتُ الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها. ثم رأى نساءً معلَّقاتٍ بثديِّهن، فسأل، فقال جبريل: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم.

ونحن على الرأي الذي عليه جمهور العلماء من أن الإسراء والمعراج كانا بالجسم والروح معاً على التأويل الذي سنبينه. ويثبت ذلك قوله تعالى في سورة (والنجم): (إذ يغشى السِّدرةَ ما يغشَى، ما زاغ البصرُ وما طغى). فلا يكون البصر يزيغ ويطغى إلا في الجسم ولا ينتفي عنه ذلك إلا وهو في الجسم. ولم ينتبه أحد من المفسرين إلى المعنى المعجز العجيب في قوله ((وما طغى)؛ فذلك نص على أنه كان يرى بجسم قد تحول عن الطبيعة الآدمية المحدودة فليس فيه منها شيء، إذ لا يكون طغيان البصر إلا من تسلط الخيال عليه بأهواء الجسم التي لا يستقيم بها حكم على حقيقته، فما زاغ البصر بكونه مقيد الحاسة، ولا طغى بكونه مطلق الخيال، بل كان كما يُريه الله من آياته، أي كان حقيقةً كونيةً في غير حالتها الأرضية الناقصة.

والذين قالوا إن الإسراء والمعراج كانا رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم؛ احتجوا لذلك بقوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) وقد خلط المفسرون في هذا أيضاً، وإنما كان التعبير بلفظ (الرؤيا) وهي التي تكون مناماً، لنفي تأثير الحواس على الرائي وإثبات أن الطبيعة الآدمية بجملتها كانت فيه كالنائمة عن حياتها الأرضية بحقائقها وأخيلتها معاً فليس نائماً كالنائم ولا مستيقظاً كالمستيقظ.

وفي أساس القصة جبريل والبراق؛ وهما القوة الملائكية، والقوة الطبيعية، أو الروح الملائكي والروح الطبيعي، ولم يوصف البراق بأنه دابة إلا رمزاً إذ لا يأتي للعرب أن يفهموا ما يراد منه وعندنا أنه سمي البراق من البرق، وما البرق إلا الكهربائية، وهذا هو

ص: 8

المراد منه. فتلك قوة كهربائية متى نَبَضت جمعت أول العالَم بآخره. وهذه هي الحكمة في أن آية الإسراء لم تذكر أنه كان محمولاً على شيء إذ لم يكن محمولاً إلا على الروح الأثير.

وما دامت القوةُ الملائكية والقوة الطبيعية قد سُخرتا له صلى الله عليه وسلم فلا معنى لأن يكون ذلك للروح وحدها، بل اجتماعهما معاً في القصة دليل على أن سر المعجزة إنما كان في تيسير ملاءمة جسمه الشريف لهاتين الحالتين؛ فيتحول في صورة كونية ملائكية بين سر الملك وسر الطبيعة، وحينئذ لا تجري عليه أحكامُ الحواس ولا أحكام المادة.

ومن الممكن أن تتحول الأجسام إلى حالتها الأثيرية في بعض الأحوال الخارقة، وبهذا يعلَّل طيُّ الأرض لبعض الروحانيين وتعلل خوارق كثيرة مما يَحدث في استحضار الأرواح لهذا العهد ومما يأتيه فقراء الهند، ومما كان يصنعه (لاهوديني) الأمريكي إذ كانوا يغلِّلونه بالسلاسل والقيود ثم يرونه طليقاً؛ ويحبسونه في السجون المحصَّنة يقوم عليها الحراس وتُمسكه فيها الأبواب والجدران، ثم يجدونه في بعض الفنادق.

وليس للعقل أن ينكر شيئاً من هذا ونحوه فان تركيب الطبيعة ردٌّ عليه، ونقصه هو ردٌّ على نفسه، والمستحيل على الأعمى هو أيسر الممكنات على المبصر.

فأنت ترى أن ذكر البراق والملك في أساس قصة الإسراء والمعراج هو صلة القصة بالمعجزة وهو عينه صلتها بالبرهان العلمي ولو لم يكونا فيها لما كان لها تفسير.

والقصة بعد ذلك تثبت أن هذا الوجود يرق وينكشف ويستضيء كلما سما الإنسان بروحه، ويغلظ ويتكاثف ويتحجب كلما نزل بها، وهي من ناحية النبي صلى الله عليه وسلم قصةٌ تصفه بمظهره الكوني في عظمته الخالدة كما رأى ذاته الكاملة في ملكوت الله، ومن ناحية كل مسلم من أتباعه، هي كالدرس في أن يكون لقلب المؤمن معراجٌ سماويّ فوق هذه الدنيا ليشهد ببصيرته أنوار الحق، وجمالَ الخير، وتجسد الأعمال الإنسانية في صورها الخالدة؛ فيكون بتدبره القصة كأنما يصعد إلى السماء وينزل؛ فيستريح إلى الحقائق الأساسية لهذه الحياة فيدفع عن نفسه بذلك وتعقُّد الأخيلة الذي هو أساس البلاء على الروح.

ومتى استنار القلبُ كان حياً في صاحبه وكان حياً في الوجود كله. ومتى سلمت الحياة من تعقيد الخيال الفاسد لم يكن بين الإنسان وبين الله إلا حياةٌ هي الحق والخير، ولم يكن بينه

ص: 9

وبين الناس إلا حياةٌ هي الرحمةُ والحب.

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 10

‌1 - مدينة الزهراء

وحياتها الملوكية القصيرة

للأستاذ محمد عبد الله عنان

قرأنا منذ حين في بعض الأنباء الخارجية أن بعض الهيئات الأثرية في إسبانيا تعنى بالبحث لاكتشاف معالم مدينة الزهراء الأندلسية، وأنها قد وفقت بالفعل إلى اكتشاف بعض أسس قديمة في ضاحية قرطبة يظن أنها من أسس قصر الزهراء؛ وجدير بمثل هذا النبأ أن يثير شجناً في نفس أولئك الذين يستعرضون تاريخ الأندلس، وتاريخ قاعدتها الملوكية الشهيرة التي غاضت من صفحة الوجود حتى لم يبق من أطلالها اليوم ما يدل على مواقعها ومعالمها.

كانت الزهراء من أعظم القواعد الملوكية التي عرفها التاريخ، ولكنها لم تعمر طويلاً ولم تقم في تاريخ الأندلس بدور ذي شأن، ولم ينزلها سوى مؤسسها الناصر وولده الحكم وابنه المؤيد، ولم تعمر كقاعدة ملوكية أكثر من نصف قرن؛ ومن غرائب القدر أنه في الوقت الذي أكملت فيه الزهراء في عهد الحكم المستنصر، وضعت أسس قاعدة ملوكية إسلامية جديدة قدر لها أن تؤدي في تاريخ الإسلام وتاريخ الحضارة الإسلامية أعظم دور؛ تلك هي القاهرة المعزية التي أخذت تتفتح عظمتها وبهاؤها في نفس الوقت الذي ذوت فيه عظمة الزهراء وعصفت بها حوادث الدهر؛ ولم تكن الزهراء أول قاعدة ملوكية في الأندلس، ولم تكن القاهرة أول قاعدة ملوكية إسلامية في الشرق أو في مصر، فمن قبل أنشأ هشام بن عبد الملك رصافة الشام لتكون منزلاً ملوكياً لبني أمية، وأنشأ المعتصم سامراء لتكون منزلاً له ولعقبه من بني العباس، وأنشأ ابن طولون مدينة القطائع بمصر لتكون له ولعقبه قاعدة ملوكية إلى جانب الفسطاط عاصمة مصر الإسلامية؛ وفي الأندلس أنشأ عبد الرحمن بن معاوية مؤسس ملك بني أمية بالأندلس ضاحية ملوكية في قرطبة سماها الرصافة تشبهاً برصافة جده هشام؛ وسطعت كل من هذه القواعد الملوكية الإسلامية حيناً من الدهر، ولكنها اختفت جميعاً من صفحة الوجود، إلا القاهرة فإنها استحالت إلى عاصمة الإسلام في مصر، وما زالت تقطع الأحقاب قوية راسخة، تحمل حتى اليوم عمرها الألفي أعظم ما تكون الحواضر العظيمة والمدن الغراء ضخامة وفخامة وبهاء.

ص: 11

كان عصر عبد الرحمن الناصر أعظم عصور الإسلام في الأندلس، وكانت قرطبة عاصمة الأندلس، قد بلغت يومئذ أوج العظمة والإزدهار، وأضحت تفوق بغداد، منافستها في المشرق، بهاء وفخامة، ولكن قرطبة كانت بمعاهدها ودورها وطرقها الزاخرة، وسكانها الخمسمائة ألف، تضيق بما يتطلبه ملك عظيم كملك الناصر من استكمال الفخامة الملوكية والقصور والرياض الشاسعة؛ بل كانت تضيق بهذه الأبنية الملوكية منذ عهد عبد الرحمن الداخل حيث أنشأ الرصافة في ظاهرها لتكون له منزلاً ومتنزهاً ملوكياً. وقد كان بناء القواعد الملوكية دائماً سنة العروش القوية الممتازة؛ فلما بلغ الناصر لدين الله ما أراد من توطيد ملكه وسحق أعدائه في الداخل والخارج، عنى بأن يعرض آيات من ملكه الباذخ، وثاب له رأي في أن يقيم بجوار قرطبة ضاحية ملوكية رائعة، فأنشأ مدينة الزهراء؛ ولإنشاء الزهراء قصة، وربما كانت أسطورة على مثل الأساطير التي ترتبط بقيام المدن والمنشآت العظيمة. ولم تقل لنا الرواية إن الناصر رأى حلماً كالذي رآه قسطنطين فأوحى إليه بإنشاء قسطنطينية، ولكنها تقول لنا إن الذي أوحى إلى الناصر ببناء هذه الضاحية الملوكية هي جاريته وحظيته (الزهراء)؛ وأنه ورث من إحدى جواريه مالاً كثيرا فأمر أن يخصص لافتداء الأسارى المسلمين، ولكنه لم يجد من الأسارى من يفتدى، فأوحت إليه (الزهراء) بأن ينشئ بهذا المال مدينة تسمى باسمها وتخصص لسكناها. بيد أنا نفضل أن نرجع مشروع الناصر إلى بواعث الملك والسياسة، وإلى عرض فخامة الملك والترفع بمظاهره وخصائصه عن المظاهر العامة لعاصمة مكتظة زاخرة.

والظاهر أيضاً أن شغفاً خاصاً بالعمارة والبناء كان يحفز الناصر ويذكي رغبته في إقامة هذه الضاحية الملوكية، وقد كانت المنشآت والهياكل العظيمة على مر العصور مظهر الملك الباذخ والسلطان المؤثل، وقد نسبت إلى الناصر في ذلك أبيات قالها في هذا المعنى:

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها

من بعدهم فبألسن البنيان

أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم

ملك محاه حوادث الأزمان

إن البناء إذا تعاظم شأنه

أضحى يدل على عظيم الشان

وهكذا اختطت الزهراء في ساحة تقع شمال غربي قرطبة على قيد أربعة أميال أو خمسة منها في سفح جبل يسمى جبل العروس؛ وكان البدء في بنائها في فاتحة المحرم سنة خمس

ص: 12

وعشرين وثلثمائة (نوفمبر سنة 936م). وعهد الناصر إلى ولده وولي عهده الحكم بالإشراف على بناء العاصمة الجديدة، وحشد لها أمهر المهندسين والصناع والفنانين من سائر الأنحاء، ولا سيما من بغداد وقسطنطينية، وجلب إليها أصناف الرخام الأبيض والأخضر والوردي من المريه وريه، ومن قرطاجنة أفريقية وتونس، ومن الشام وقسطنطينية؛ وكان يشتغل في بنائها كل يوم من العمال والفعلة عشرة آلاف رجل ومن الدواب ألف وخمسمائة، ويعد لها من الصخر المنحوت نحو ستة آلاف صخرة في اليوم؛ وقدرت النفقة على بنائها بثلثمائة ألف دينار كل عام طوال عهد الناصر أعني مدى خمسة وعشرين وعاماً، هذا عدا ما أنفق عليها في عهد الحكم وابتنى الناصر في حاضرته الجديدة قصراً منيف الذرى، لم يدخر وسعاً في تنميقه وزخرفته حتى غدا تحفة رائعة من الفخامة والجلال، تحف به رياض وجنان ساحرة؛ وأنشأ فيه مجلساً ملوكياً جليلاً سمي بقصر الخلافة صنعت جدرانه من الرخام المزين بالذهب، وفي كل جانب من جوانبه ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والآبنوس المرصع بالذهب والجوهر، وزينت جوانبه بالتماثيل والصور البديعة وفي وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق، وكانت الشمس إذا أشرقت على ذلك المجلس سطعت جوانبه بأضواء ساحرة؛ وزود الناصر مقامه في قصر الزهراء وهو الجناح الشرقي المعروف بالمؤنس، بأنفس التحف والذخائر، ونصب فيه الحوض الشهير الذي أهدي إليه من قيصر قسطنطينية، وأقام عليه اثني عشر تمثالاً من الذهب الأحمر المرصع بالجوهر، وهي تمثل بعض الطيور والحيوانات وتقذف الماء من فيها إلى الحوض. وقد دون هذه الروايات والأوصاف العجيبة التي تشبه أوصاف قصور ألف ليلة المسحورة عن قصر الزهراء، أكثر من مؤرخ معاصر وشاهد عيان، وأجمعت الروايات على أنه لم يبن في أمم الإسلام مثله في الروعة والأناقة والبهاء.

وأنشأ الناصر في الزهراء أيضاً مسجداً عظيما تم بناؤه في ثمانية وأربعين يوماً، وكان يعمل فيه كل يوم ألف من العمال والصناع والفنانين، وزود بعمد وقباب فخمة ومنبر رائع الصنع والزخرف، فجاء آية في الفخامة والجمال، وأنشئت بها مجالات فسيحة للوحوش متباعدة الساح ومسارح للطير مظللة بالشباك، ودار عظيمة لصنع السلاح، وأخرى لصنع الزخارف والحلي؛ والخلاصة أن الناصر أراد أن يجعل من الزهراء قاعدة ملوكية حقة

ص: 13

تجمع بين فخامة الملك الباذخ وصولة السلطان المؤثل، وعناصر الإدارة القوية المدنية والعسكرية.

وفي إقامة هذه المنشآت الباذخة وبذل هذه النفقات الطائلة ما يستوقف النظر، ويحمل على تأمل ذلك المدى المدهش الذي بلغته الدولة الأموية بالأندلس من القوة والضخامة والغنى؛ وقد انتهت إلينا في ذلك أرقام مدهشة، منها أن جباية الأندلس بلغت لعهد الناصر من الكور والقرى خمسة آلاف ألف (أعني خمسة آلاف مليون) وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار؛ هذا عدا أخماس الغنائم العظيمة التي لا تحصى؛ وقيل لنا إن الناصر خلف وقت وفاته في بيوت الأموال خمسة آلاف ألف (خمسة آلاف مليون) دينار؛ وكان يقسم الجباية من أجل النفقة إلى ثلاثة أثلاث، ثلث لنفقة الجيش، وثلث للبناء والمنشآت العامة، وثلث يدخر للطوارئ، ولم يتردد المؤرخ الحديث في قبول هذه الأرقام حتى أن دوزي ينقلها، ويقدر أن الناصر ترك عند وفاته في بيت المال عشرين مليوناً من الذهب ويقول لنا ابن حوقل الرحالة البغدادي الذي زار قرطبة والزهراء في ذلك العصر إن الناصر وبني حمدان ملوك حلب والجزيرة هم أغلى ملوك العالم في ذلك العصر؛ وهذه أرقام وروايات تشهد بضخامة الدولة الأموية وطائل غناها وبذخها في عصر الناصر، وتفسر لنا كيف استطاع الناصر إلى جانب حروبه وغزواته الكثيرة أن يضطلع بأعباء هذه المنشآت العظيمة الباهرة.

واستمر العمل في منشآت الزهراء طوال عهد الناصر أعني حتى وفاته في سنة خمسين وثلثمائة؛ واستمر معظم عهد ابنه الحكم المستنصر؛ واستغرق بذلك من عهد الخليفتين زهاء أربعين سنة. ولكنها غدت منزل الملك والخلافة، مذ تم بناء القصر والمسجد؛ وقد كان ذلك فيما يظهر في سنة تسع وعشرين وثلثمائة ففي شعبان من هذا العام تم بناء المسجد، وأقيمت به أول جمعة رسمية؛ وكان الناصر قبل ذلك بنحو عامين قد اتخذ سمة الخلافة وتسمى بألقابها (سنة 327هـ)، فكانت الزهراء بذلك أول منزل للخلافة الإسلامية بالأندلس.

للبحث بقية (النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان

ص: 14

‌بين المعجزة والعلم

للأستاذ زكي نجيب محمود

أخي س:

. . . لم أكن أتوقع من صروف الدهر مهما أسرفت في عبثها، أن تُخرج منك، وأنت القديس المتبتل في يفوعتك، زنديقاً يكفر بما كان يؤمن به قلبك ويدين!! حتى جاءتني هذه الرسالة منك، ففضضتها وأجلت فيها البصر سريعاً، فإذا بصفاتك تختفي وتتنكر، وإذا بك تبدو لعين صديقك إنساناً غريباً يشك بعد يقين، وينكر بعد إيمان! لقد مضيت في كتابك لي ترفض كل ما يزعمه الناس من المعجزات وخوارق الطبيعة، وتلوح في كل سطر بالعلم وقوانين العلم، وتعتز في كل سطر بالفلسفة ونتائج الفلسفة؛ ثم ختمت الرسالة بهذه العبارة أخذتها من كتاب سبينوزا (في الدين والدولة):(يظن الدهماء أن قوة الله وسلطانه لا يتجليان بوضوح إلا بالحوادث الخارقة التي تناقض الفكرة التي كونوها عن الطبيعة. . . إنهم يظنون أن الله يكون مُعَطَّلاً ما دامت الطبيعة تعمل في نظامها المعهود، وعكس ذلك صحيح، أي أن قوة الطبيعة والأسباب الطبيعية يبطل عملها ما دام الله فعَّالاً؛ وهم بذلك يتخيلون قوتين منفصلة إحداهما عن الأخرى: قوة الله وقوة الطبيعة؛ والواقع أن الله وقوانين الطبيعة شيئ واحد). ولقد ساءلتني بعد ذلك قائلاً: (ما حاجتك إلى التمسك بالمعجزات وخوارق الطبيعة ما دام العلم يفسر لنا كل شيئ بقانون؟!)

وإني لأستطيع أن أقوض علمك هذا من أساسه بضربة واحدة حين أُذكّرك بما انتهى إليه هذا العلم نفسه، من أن الطبيعة المادية لا تسير وفق قانون صارم كما يذهب بك الظن، بل إنها قد تغير سلوكها بما لا يمكن التنبؤ به، كالكائنات الحية سواء بسواء؛ وإن هنالك بين أساطين العلم من يزعم أنه ليس في الطبيعة كلها ذرة واحدة تخلو من الحياة أو ما يشبه الحياة، وكل الفرق بين حياتها وحياة الإنسان هو في الدرجة لا في النوع، فكما أنني لا أستطيع أن أتنبأ بما أنت فاعله غداً، كذلك لا يستطيع العلم أن يقطع جازماً بما ستؤول إليه هذه الذرة أو تلك، لأنها يا سيدي تتمتع بشيء مما تتمتع به أنت من حركة وإرادة، وليست مجرد آلة صماء في يد القانون!! ولكن يجب أن أسارع إلى القول بأنه وإن تكن الذرة الفردية على شئ من الحياة التي تغير في سلوكها، فإنها في مجموعها أقرب ما تكون إلى

ص: 16

النظام الدقيق في سيرها، كما أن الإنسان الفرد حُرٌّ في تصرفه إلى حد بعيد، ولكنه في المجموع يسير وفق أسس وقواعد لا تكاد تعرف الشذوذ.

نعم أستطيع أن أقوض علمك هذا من أساسه بضربة واحدة حين أُذكّرك بهذه الحقيقة العلمية التي تعترف للطبيعة بإمكان التغير في بعض جوانبها، فذلك وحده كفيل بتعليل أي تبديل في نظام الكون المعهود، ولكني سأفرض معك أن قوانين الطبيعة يستحيل عليها الخطأ، وأن المادة لا تملك لنفسها تغييراً ولا تبديلاً عما رسمه لها قانونها الأعلى، فمن ذا الذي زعم لك أن المعجزة كسر لقانون الطبيعة، وإنه لذلك يجب اطراحها ونبذها؟ نحن نسلم معك أن قانون الجاذبية صارم لا يقبل الشذوذ، وأن التفاحة إذا انفصلت عن فرعها سقطت من فورها على الأرض بفعل قانون الجاذبية هذا، ولكن هب يداً امتدت إلى التفاحة أثناء طريقها إلى الأرض فلقفتها فحالت بذلك بينها وبين الأرض، أيكون ذلك كسراً للقانون؟ كلا! القانون لا يزال قوياً سليماً، غير أن إرادة بشرية حالت دون تطبيقه لا أكثر ولا أقل. . . أإذا تركت أقلامك وكتبك مبعثرة في أرض غرفتك ثم عدت بعد حين فوجدتها صعدت إلى ظهر المكتب صفوفاً منظمة، أفنقول إن قانون الجاذبية قد انقلب رأساً على عقب لأن الكتب والأقلام قد صعدت إلى أعلى بدل أن تستقر على الأرض منجذبة بها؟ أم أنت جازم في مثل هذه الحالة بأن شخصاً بشرياً قد تدخل في الأمر بإرادته وحال بين قانون الجاذبية وبين تنفيذه حيناً، فأمكن للكتب بذلك أن تفلت من يده، ولكن القانون لا يزال قائماً لم يخدش ذلك من قوته وشموله؟! لا أحسبك مرتاباً في صحة هذا القول، فأنت موافقي ولا شك أن الإرادة البشرية قد تستطيع أن تتوسط بين القانون وبين تطبيقه فتعطله دون أن تبطله، نعم إنك موافقي على ذلك، ولكني لو حورت العبارة قليلاً سائراً بها نحو الأقوم والأصح فستغضب للعلم وكرامة العلم؛ لو زعمت لك أن لله إرادة حرة كهذه التي للإنسان، يستطيع بها أن يعطل قانون الطبيعة حيناً قد يقصر أو يطول ولكنه يظل قائماً معمولاً به لا يصيبه عطب ولا خسارة، كان ذلك الزعم مني في رأيك جهلاً وحماقة، يا رعاكالله! أفتستطيع أن تحدثني بما يبرر عندك أن يكون للإنسان ما ليس لله؟!!

معذرة، يا صديقي، فسأقص عليك حديثاً عن كلبي، وللحديث صلة بموضوعنا، فقد وضعت كتاباً بالأمس على مقعد إلى جانبي، فجاء الكلب يتحسس ويتجسس ويشم الكتاب، وأظنه قد

ص: 17

حسبه قطعة من الجماد لا خير فيها، فترك الكلبُ الكتاب وانصرف؛ وإذا فرضنا أن التفاهم مع الكلب ممكن، ثم جئت تقسم له أن في الكتاب ما ليس يدرك بالشم واللمس، وأن فيه معنى إذا كان لا يدركه هو فليس عجزه دليلاً على عدم وجوده، نفر وسخر وأكد لك أن حواسه مقياس للحقيقة لا يخطئ. . . وإني لأحسب الكون يا صديقي كتاباً مفتوحاً فيه من المعاني السامية ما يمكن فهمه وإدراكه لذوي البصيرة السليمة. ولكني أؤكد لك أن هنالك طائفة من الناس ستمد أيديها وأنوفها إلى جوانب الطبيعة تتحسسها، ثم تجزم في يقين لا يعرف الشك ولا التردد بأن هذه الطبيعة جماد في جماد يسيره هذا وهذا من القوانين في طريق مرسومة معلومة لن تشذ فيها خارقة ولا معجزة. . . وأعجب العجب أن تكون هذه الطريقة الكلبية علماً، وأن يكون كل ما عداها تخريفاً وجهلاً.

نشدتك الله إلا حدثتني كيف جاز لك أن تقطع أن ليس في الكون من الحقائق ما تعجز عقولنا وحواسنا عن إدراكه؟ ولم لا يكون في هذا الكون الفسيح من هو أكبر منا عقلاً وأحد ذكاء فيستطيعفي كتاب الكون ما لا نستطيعه؟ ترى لو أتانا الله حاسة سادسة وسابعة وثامنة، فماذا عسانا نعرف بتلك الحواس الزائدة، أم تظل أبواباً مغلقة لأن العلم قد نفد؟!

تعال معي إلى الكون نحتكم إلى ظواهره لنرى هل استطاع العلم أن يعللها جميعاً، أم أن هناك ألوفاً وألوفاً يقف أمامها العلم مكتوف الأيدي ولا يمكن فهمها إلا أن تكون (خوارق) فوق العلم وقوانينه. أم تُراك فاعلاً كما يفعل ذوو النزعة المادية الضيقة، فتطأ بقدمك كل الظواهر التي تستعصي على العلم وتنكر وجودها حتى لا ينثلم العلم ولا ينخدش، أو تطلب إلينا أن نصبر وأن ننتظر حتى تتم للعلم قوته وفتوته فيشمل الكون كله بالتفسير والتعليل؟ وفي الحق أن هذا السلاح الذي يشهره الماديون_سلاح التسويف والوعد بأن العلم سيتمكن في المستقبل مما لم يتمكن منه اليوم_يمكن استخدامه في كل حين، فليس بيننا وبينهم موعد يبطل بعد التسويف، ولكنها مماطلة متجددة لا تنقطع ولا تفرغ؛ فإذا فرضنا أن رجلاً استطاع أن يحز رأسه ويحمله فوق يديه سائراً به في الطريق، ثم سألت الماديين رأيهم في هذا أجابوك: اصبر فإن الزمن كفيل للعلم أن يبرهن على هذه الظواهر وأشباهها، فليس ذلك على العلم بعزيز. . . ولكن هل يتفق وروح العلم أن نلجأ إلى دليل غير موجود؟ أم أنه أحجى وأقرب إلى الصواب أن نعلل الظواهر بالأدلة التي بين أيدينا، حتى ولو تعارض

ص: 18

ذلك مع آرائنا؟ فماذا يمنع أن نفرض أن هنالك قوى غير مادية تفعل فعلها وتؤثر في مجرى الطبيعة فتنتج كل هذه الخوارق والمعجزات؟

ولكن الماديين يركبون رؤوسهم ويحاولون أن يعللوا بقوانين العلم كل شئ، فإن عجزت أمهلونا إلى المستقبل القريب أو البعيد. والعجب أن لهؤلاء الماديين (شطحات) في التفكير تدعو إلى التأمل، فأنت إذا سألتهم مثلاً كيف نشأت هذه الخلائق؟ أجابوك: تسلسلت نوعاً عن نوع وجنساً عن جنس، وأصلها كلها خلية واحدة. . . حسن! وكيف نشأت هذه الخلية الواحدة؟ إنها تولدت بطريقة تلقائية آلية من الجماد! فانظر إليهم كيف تجيز لهم عقولهم صدق هذا النبأ مع أنه على فرض أنه صحيح فقد حدث في ماض بعيد سحيق، ولم يشهده شاهد ولا سجله مسجل، ولكنهم مع ذلك يقبلونه راضين مختارين؛ ثم إذا عرضنا عليهم خارقة من خوارق الطبيعة مما يقع على مرأى منا ومسمع، أنكروها في حمق مع أنها حاضرة بين أيديهم وليست بالماضي البعيد، وهي مشاهدة ومسجلة فكانت أجدر بالتسليم والقبول من تلك (الخارقة) البعيدة_ونسميها خارقة لأنه ليس من قوانين الطبيعة فيما نظن انبعاث الحياة من الجماد! ولكن القوم يختارون من الآراء والعقائد ما يتفق مع مذهبهم، كما يتخير النساء أزياءهن لكي تلائم ألوانهن وأجسامهن.

هب يا صديقي جماعة قد ارتطمت سفينتهم على جزيرة مهجورة لا أثر للحياة فيها، ولكنهم ألفوا على أرضها آثار أقدام ليست من آثارهم هم، فبماذا يعللون هذه الظاهرة إلا أن أناساً غيرهم كانوا بالجزيرة منذ حين؟ أظن هذا منطقاً لا صعوبة فيه ولا التواء: لكل أثر مؤثر، فإن رأينا أثراً ولم نجد بيننا مؤثره أيقنا أن هذا المؤثر لا بد أن يكون موجوداً في غير مكاننا. وها نحن أولاء ننظر فنرى أنفسنا فوق هذه الجزيرة المهجورة التي تسبح بنا في الفضاء، ثم ننظر فإذا بآثار لا يحصيها العد تفرض علينا فرضاً أن أحداً غيرنا قد اتصل بهذه الجزيرة وهو يتصل بها في كل حين ليحدث هذه الآثار.

ولست أدري ماذا يضيرك أن تعلل بالعلم ما يمكن العلم أن يعلله، وأن تُرجع إلى القوة التي فوق الطبيعة كلَّ ما تصادف من خوارق ومعجزات؟ يقول الماديون إن إدخال (الله) في مجرى الطبيعة عجز وقصور عن التعليل الصحيح، ويزعمون أن الإنسان الأول كان يفسر كل شئ بقوة الآلهة لقلة محصوله من العلم، فكان إذا اكتسب شيئاً من العلم يعلل به ظاهرة

ص: 19

ما، أسقط هذه الظاهرة من دائرة نفوذ الله وأدخلها تحت سيطرة العلم؛ وهكذا أخذ العلم ينمو ويتسع كما أخذت العقيدة في تأثير الله على سير الطبيعة تضؤل وتضيق، وهم يرجون أن يطرد نمو العلم حتى يشمل الكون جميعاً ويفسر (الظواهر) كلها بغير استثناء؛ وهم بناء على ذلك يرفضون رفضاً قاطعاً أن يعللوا شيئاً إلا على أساس واحد: هو قانون الطبيعة ويلفظون من حظيرتهم كل من يحاول أن ينسب شيئاً إلى قوة أخرى غير قوة الطبيعة وقانونها! وقديماً كان العالم أو إن شئت فقل الكاهن يفسر كل شئ بقوة الآلهة وحدها، وينبذ كل من يحاول أن يفسر شيئاً على غير هذا الأساس! فهل ترى فرقاً بين الكاهن القديم والعالم الحديث؟ كلا، فكلاهما متعصب محدود الفكر، ضيق النظر، ولعمري إن العالم الماديِّ الحديث لم يزد على أن ارتدى رداء سلفه الكاهن مقلوباً ظهراً لبطن!

لعله أقرب لروح العلم الصحيح أن نتناول الأبحاث أحراراً من كل قيد، فلا نفرض لأنفسنا أساساً معيناً للبحث لا نمدوه، أعني أنه لا ينبغي أن نحتم على أنفسنا أن تفسر كل شئ بكذا أو بكذا؛ وإلا كنا كعلماء الفلك الأقدمين الذين كانوا ينظرون في السماء ويبحثون في النجوم على شرط أن يكون بحثهم مقصوراً على ما هو معروف من النجوم، فإن ظهر كوكب أو نجم جديد أنكروه ورفضوه!!

أردت يا أخي أن تكون حراً في البحث فكبلت نفسك بالأغلال والقيود! فارفع عن بصرك هذه الغشاوة عسى أن يهديك الله سواء السبيل.

زكي نجيب محمود

ص: 20

‌2 - منازل الفضل

دار علي مبارك باشا

للأستاذ محمد محمود جلال

من الأسماء ما يخف على سمعك لمجرد تركيبه ووقع نغمه في الأذن، ومنها ما يعجبك لمعنى يشير إليه؛ وقد يعجبك الاسم وقد خلا من هذين إعجاباً بشخصية قدَرت في التاريخ دورها؛ وقد يكون من بين الأسماء ما ينفر منه السمع، وهو مع ذلك حبيب إلى نفسك لذكرى تتصل به أو جميل أردفته بالعرفان.

ويقص المتشيعون للعلاقة بين الاسم والمسمى من علماء اللغة أن أحدهم سأل إعرابياً عن معنى (أذغاغ) فقال الإعرابي وهو لا يعرف من الفارسية شيئاً: (أرى فيه يبساً وصلابة، ولعله الحجر).

وليس للطفولة أن تسمو إلى شئ من ذلك البحث أو ذاك القياس، وإنما يسبق فيها الإحساس بالمعرفة، فما نظرت إلى شيء من ذلك يوم كان (شارع علي مبارك باشا بالحلمية) أحب الشوارع إلي سنة 1908، فكنت أخصه بروحاتي وغدواتي، وأختص (اليافطة) أول سيري به بتجربة قدرتي على قراءة اليفط والخط المشبك.

سكنا الحلمية بعد أن هجرنا دارنا الأولى بدرب الجماميز حيث مأمورية الأوقاف الآن، على أثر خلاف بيننا وبين ديوان الأوقاف على حيازة القطعة المجاورة لتوسيع الدار بطريق البدل، ولا أجد اليوم تعليلاً معقولاً لتفضيلي إلا بالصلة التي توجدها النشأة، وقد نشأت في الريف، ومن أسرة فلاحة، واسم علي ومبارك كثيراً الشيوع في الفلاحين، فلم يكن عجيباً أن يكون هذا الاسم أقرب إلى النفس وأسهل في الحفظ من أسماء ندر أن نسمع بها (كسنجر الخازن) و (الأمير يوسف) وغيرهما.

أجل لم يكن بذلك الشارع بائع (سوداني) ولا شوكولاته، ولم تكن حوانيت الساندويتش انتشرت بعد، حتى أرد التفضيل إلى تلك المغريات في سن الطالب.

وفي عام 1911 أهدتني الجمعية الخيرية الإسلامية مجموعة ثمينة من الكتب لنجاحي من الفرقة الثالثة في الشهادة الأبتدائية، كان من توفيق الله أن ضمت بين دفتيها (تاريخ علي مبارك باشا) ولن أنسى ما حييت غبطتي بهذا الكتاب، وذكرت على التو شارع علي مبارك

ص: 21

باشا، وقلت: إذن فهذا رجل له في تاريخ البلاد شأن!

عكفت على القراءة مبتدئاً به، وخفق قلبي حين وقفت في أوله على نشأة (علي مبارك) فصدق ظني، فهو فلاح وابن فلاح مثلي، فلم أترك الكتاب حتى جئت على آخره، وأعدت قراءته مرات حتى كدت أحفظه عن ظهر قلب إذ ملئت إعجاباً بالرجل.

سميت المرحوم محمد شريف باشا حين كتبت عنه (رجل البرنامج)، وليس اليوم أحق بأن يسمى (رجل الواجب) من المرحوم علي مبارك باشا.

رأى صديقي المرحوم محمد رمضان بك القاضي السابق بالمحاكم الأهلية حين زار (فينا) عقب الحرب أحد ضحاياها (جول) يزحف وقد بقيت له ساق واحدة وذراع واحدة، وبيده الوحيدة مكنسة ينظف بها الرصيف، فسأله عن قصته.

قال جان: إنه كان يعمل في التحاليل الكيميائية، ويؤدي بذلك واجبه نحو بلاده وأسرته، وانخرط في سلك الجندية يؤدي واجبه نحو بلاده وأسرته، فلما فقد ساقه وجد مجال الواجب في عنابر الجيش يلف ويرتب بيديه، ولما فقد إحدى اليدين وكانت الحرب في نهايتها اشتغل كناساً، فهو بعد لا يستريح ضميره أن يكون من العاطلين، ومن بين إخوانه من هو أحق منه بالإعانة والإعاشة، وليس أحب إلى نفسه من أن يقوم بالواجب ويعيش من أداء الواجب، فليس فرق عنده بين المعمل والصفوف، ولا بين العنابر وكنس الرصيف!!!

حيَّاه صديقي عليه رحمة الله، وكتب عنه مقالاً كاملاً يذيع نبل نفسه ويضربه مثلاً لقومه.

وكذلك كان علي مبارك باشا، فهو من نوابغ البعوث العلمية في أول البعوث، وهو المبرز بين أفراد بعثته، وبلاده في حاجة إلى أمثاله، وفي حاجة أشد إلحاحاً إليه؛ ولكن لا زهو ولا صلف ولا استكانة! فالحاجة إليه يراها نعمة الله تستوجب الشكر، والعلم الذي يقدره الناس فيه يراه الثروة التي زكاتها البذل منها في خير البلاد.

ومن لم يجمّل فضله بتواضع

يَبِنْ فضله عنه ويعطل من الفخر

كان علي مبارك باشا (ناظراً) وزيراً للأشغال يسيطر على أكبر الإدارات صلة بحياة البلاد ومرافقها، يضع الخرط وينظم حفر الترع والجسور التي طالما أحيت مواتاً ودرت أخلاف الرزق على الملايين وتركت اليباب مزارع وحقولاً، في أول عهد البلاد بزراعة منظمة وري منظم.

ص: 22

وبينما هو غارق فيما نعده اليوم أبهة المنصب، ينقل لسبب أو لغير سبب، لغضب أو لتقدير موهبة منتدباً لإصلاح طابية وهو من خريجي المعاهد الحربية، فينتقل قرير العين وكأن العالم صور فانحصر في تلك الطابية لا يرى أمامه إلا أن يُعِدَّها كما يجب أن تعد تقديراً لأمانة العلم وقياماً بالواجب.

ولي علي مبارك باشا في وقت ما وزارتين، وجيئ به وقتاً آخر يشرف على مد خط حديدي ليس أكثر من كبير مهندسين، جاءت خطته وأوضاعه وتنفيذ مشروعه آيات في حسن الوضع والتنفيذ؛ ولم يكن علي مبارك باشا ذو الوزارتين غير علي مبارك صاحب عيشة الخيام في براري البلاد يوطد أركان الدفاع عنها، ولا غير ذلك الرجل الهادئ رجل الواجب، يضع من قطع الحديد وصلاً لبلاد الريف وقراءة وتقريباً للشقة وتيسيراً لأمور الخلق، فهو إنما يعيش لبلاده، وإنما يخدم بلاده، وإنما يخدمها حيث يوضع، ويستثمر كفاءته في أي مجال. طريقته واحدة ونظرته واحدة، وهدفه واحد: الواجب.

وإنك لترى اليوم من شبابنا من ينقل من وظيفة إلى أخرى دون أن يمس راتبه ودون أن تمس درجته، فهو لا يكتفي بالشكوى والضجيج والإلحاح حتى يسمم عمله الجديد آثار غضبه ويأسه ولا يعيش إلا بخيال واحد وأمل واحد: أن يتغير العهد ويعود له ما كان فيه، بينما يقاسي المحكومون ممن تتصل أحوالهم بعمله ألواناً من البطء في شؤونهم وكثيراً من عنت لا ذنب لهم فيه.

هذه الظاهرة وحدها من سيرة (علي مبارك باشا) درس قيم في الأخلاق وتراث زاخر، وموعظة لهذا الجيل بالغة.

أما عمله في وزارة المعارف ففي كل ركن من أركان التهذيب والتثقيف له أثر عميق، كان لا يني عن زيارة المدارس زيارة لا يسبقها إعلان ولا شئ من جلبة الرسميات، ولو خلت من هذا وحده لكانت بذلك كافية في معنى الرقابة وما يتصل بالحرص على الواجب من الوقوف على درجة التقدم وعيوب التنظيم.

لكنها لم تقف عند ذلك الحد، فكان عليه رحمة الله يسأل أكثر من طالب في كل فرقة وفي أي مادة يتفق تدريسها مع ساعة الزيارة، وطالما كان له جولات في مختلف العلوم مع من يزورونه من الطلبة في الديوان سواء لرفع شكاة أو تبيان مصلحة.

ص: 23

هكذا كان علي مبارك باشا. فانظر إذن وتخيل ما تكون عليه دار أسعدها الله بسكنى رجل الواجب.

كان عهده نادر المقاهي والسوامر والملاهي؛ وكانت الدور العامرة سواء في العواصم أو في الريف بدورها في صيانة الأخلاق وتكوين الجيل، والعلماء وقت ذاك قليل، وعلي مبارك بين القليل درة لامعة.

دار كانت بالوافدين والساعين إلى العلم أكثر ازدحاما مما ترى اليوم في جامعة أو في سينما، لكل فريق دور، والأدوار متعددة تنتهي بآخر السهرة من الليل لاختلاف أوقات الفضاء لصاحب الدار أو للوافدين.

دار طالما عمرت بصالح الحديث وبعدت بنازليها عن اللغو، فصفوة العلماء يبحثون ويباحثون، وللأدباء فيها نصيب كبير، وللطلاب النصيب الأوفر.

تزين الدار مكتبة جامعة، نصيب الرجل منها كنصيب أي واحد من قاصديه، وعليه هو القوامة على تنسيقها وحفظها، بل عليه أن يختار لكل ما يلائمه، يبذل من الكتب والمراجع كما يفيض من محفوظه وتجاريبه؛ وهل يستطيع علي مبارك إلا أن يكون واحداً في كل تصرفاته وفي روحاته وغدواته يقوده الواجب، وسيرته التماس النفع للبلاد؟

ولقد أعلم أن المرحوم (مصطفى كامل باشا) الذي ما زالت البلاد تعتز في ظل ما خلف إلى اليوم ما أحسن المحسن وما أساء المسيء، كان في شطر كبير من تكوينه العلمي أكبر حسنات تلك الدار، كما كان صاحب الدار أكثر الناس إعزازا للنجباء من أبناء البلاد، فمن نزح إلى أوربا يكمل تعلمه، لا يني في البحث عنه في العطلة الصيفية وفي عودته إلى الوطن، ولا تلبث الحلقات أن تعقد من أولئك الأنجاب في تلك الدار التي ازدهرت وقتاً ما فازدهرت بها حديقة العرفان وكللت جبين البلاد.

كانت مهمة الدار في أفق العلم مهمة الجامعات، فهي سيطرة رفيقة على تنظيم الثقافة وتوزيعها على قدر المختلفين إليها، وكانت فيما يمس الذين أكملوا دراستهم واسطة العقد، ووسيلة التعارف وأداة الوصل، كما كانت للنازحين في طلب العلم مرداً إلى عوارف الوطن، وجميل المدرسة الأولى، وخير مقرب بين الثقافتين، وخير قوام على تطبيق المعلومات وتهذيبها وصبغها بما يناسب صبغة البلاد.

ص: 24

أين تلك الدار؟ وأين كعبة العلم؟ ذهبت بها تصاريف الزمان وعفاها ما يشبه الجحود منا حكومة وشعباً، ومثلها مثل قصر أم المحسنين في حي الدوبارة، قامت أحجاره يسخر منها (قصر العار) وخلى من كل شيء إلا من نسيج العنكبوت.

بل إن للعلم عند الله كرامة! فلئن ذهبت رسوم الدار بين الرياح من جنوب وشمأل فقد أكرم الله نازلها وعامرها بهذا العفاء، فلعلها لو عاشت لظهرت غريبة ولأزرى بها انصراف مؤمن عنها وشماتة من دور قامت على الإساءة للبلاد والسخرية مما ينفع الناس.

يبحث إخواننا من أهل العراق عن (المثنى) ويقيمون باسمه نادياً، فهلا نسمع من شباب الجامعة عزماً على البحث عن مكان الدار وتسمية ناديهم باسم (علي مبارك).

إذا كان هذا عزيزاً على أنواء الزمن فهل نسمع في القريب أنهم زينوا إحدى غرف النادي أو قاعات البحث بالجامعة باسم الراحل الكريم؟!.

أيها الناس أكرموا السلف يكرمكم الخلف، فكما يدين الفتى يدان

الشيخ عطا

محمود محمود جلال المحامي

ص: 25

‌فُجور القانون

للأستاذ جمال الزرقاني

أعجبت أشد الإعجاب بسلسلة مقالات (الجمال البائس) للأستاذ الكبير مصطفى صادق الرافعي وتتبعتها بمجلة (الرسالة) الغراء؛ وأعجبت منها خاصة بتصويره للقانون في مقاله الأخير ورميه بالفجور وقوله على الأستاذ (ح): (فالحقيقة التي لا مراء فيها أن فكرة الفجور فكرة قانونية، وما دام القانون هو الذي أباحها بشروط، فهو هو الذي قررها في المجتمع بهذه الشروط). وهذه فكرة كانت ظاهرة خافية معاً؛ فهي في القانون ولم ينتبه لها أحد ولا من رجال القانون. وقد صار من حق (الرسالة) وقرائها عليَّ أن اكشف هذا المعنى كشفه القانوني ليعرف القراء كيف غُرس الفُجور غرساً في قوانيننا المصرية.

لا مشاحة في أن قانون العقوبات قد اهتم لعقاب الجريمة بعد وقوعها اكثر من اهتمامه بالاحتياط لها والعمل على منعها قبل حدوثها؛ فمهمته في الواقع لم تخرج عن بيان الأفعال التي يعتبرها الشرع جرائم ومقدار الجزاء على كل منها، فهو يتضمن القواعد الموضوعية للقانون؛ بينما اهتم قانون تحقيق الجنايات (بالنظم والإجراءات) التي يجب أن تراعى لتنفيذ قانون العقوبات، أي لمعرفة الجاني إذا ما وقعت الجريمة، فهو يتضمن القواعد الشكلية فكلا القانونين اهتما كما قال الأستاذ الرافعي (لحالة الجريمة لا للجريمة نفسها) وتركا مسألة الجريمة وبلا احتياط لمنعها قبل حدوثها للقوانين البوليسية وللعقوبات الأدبية، وبهذا أضافا للخطأ خطأ آخر إذ أغفلا مسألة واقعة وهي أن العقوبة الأدبية قد أضعفتها عوامل المدنية الحاضرة ولم يبق في أكثر النفوس إلا سلطان القانون وحدوده. .

والسبب في تقصير القوانين الجنائية هذا التقصير الفاضح وخاصة في بلاد إسلامية تتخلق بأخلاق الفضيلة، هو أجنبية هذه القوانين فإنها فرنسية الأصل، فرنسية الوضع، فرنسية التطبيق، فرنسية المرجع، فمن ثمَّ لا يؤدي إلا ما تؤديه القوانين الفرنسية في بلادها. أما حالات الشرق الخاصة وتقويم تقاليده وأخلاقه، فهي عمياء عنه أو تخبط في عمياء؛ ومن البلاء أن نقل هذه القوانين كان من عمل متشرعين أجانب بعيدين عن المحيط القومي فنقلوا نقلاً ممسوخاً أضاع كل فائدة ترجى وخاصة في صميم المسائل الأخلاقية الشرقية. بل إن القانون وقف من هذه الأخلاق موقف الجامد الغافل أو المشجع المستهتر بالأباحة.

ص: 26

ولو أنا عرضنا قانون العقوبات ووضعنا بعض المواد الصماء تحت نظر الفاحص لوضحت فكرتنا، فمن المعروف قانوناً أن حرية النيابة في (تحريك) الدعوى العمومية وفي استعمالها ليست مطلقة كل الإطلاق، فهناك أحوال تحد من تلك الحرية، ومنها ما يستوجب الإذن من صاحب الشأن كالحال في دعوى الزنا. والزنا في القانون يختلف عنه في اللغة وفي الشريعة، وبهذا اقتصر القانون على اعتباره كذلك إذا وقع من الزوج أو الزوجة وشريكيهما، وأحاطه بشروط خاصة ضيقة اشترط فيها قيام الزوجية فعلاً أو حكماً. فالفعل الواقع من الزوج أو الزوجة أثناء الخطبة أو بعد الطلاق البائن لا يعتبر جريمة. وكأن القانون في نقله ذلك عن المواد 336 - 339 من قانون العقوبات الفرنسي قد أغفل الأخلاق الشرقية وتناساها وترك حبل الشيطان على غاربه، بل هو قد شجع على ارتكاب هذا العمل من غير الزوج أو الزوجة بالشروط الخاصة بجريمتيهما، بل أكثر من ذلك أتاح الفرصة للزوج أن يفعل فعلته النكراء في غير منزل الزوجية بلا عقوبة. وبذلك ترك الأسرة تتدهور بتدهور عائلها ووقف موقفاً غريباً في صدد المساعدة على التدهور الأخلاقي، فجعل الحق في رفع دعوى الزنا للزوج وللزوجة وحدهما، فإذا رضي أحدهما عن فعلة الآخر وقف القانون مكتوفاً لا يمكنه التحرك إزاء العمل على سقوط الأسر واختلاط الأنساب والقضاء على الأخلاق، بل إنه يقف حائلاً دون الزوج نفسه في (تحريك الدعوى العمومية) إذا ما وقعت منه يمين الطلاق وهو في جنون غيظه من جريمة زوجته، وبذلك تتقي الزوجة وشريكها صولة القانون ويكون الطلاق كأنه محا الجريمة قانوناً مع أنه لم يقع إلا بها.

ولا دلالة على نقل القانون المصري نقلاً جامداً عن القانون الفرنسي أكثر من وقوفه بالمادة 201 عقوبات في جانب الزوج الذي يقتل زوجته في حالة التلبس بالجريمة، معتبراً ذلك ظرفاً قانونيا مخففاً يعاقب فيه بالحبس فقط، ثم يأبى ذلك على الأب والأخ الذين يمتد إليهما عار الجريمة أكثر من الزوج، فالزوج يتخلص منه بالطلاق، أما هما فالعار قد لصق بهما. وهذه القاعدة الفرنسية كانت معقولة في فرنسا في وقت وضع قانون العقوبات الفرنسي إذ كان الطلاق وفقاً للمذهب الكاثوليكي غير جائز، وإذ كانت الجريمة من ذلك لاصقة بالزوج أكثر من التصاقها بأسرة الزوجة.

ص: 27

ومن التخريجات الغريبة والتطبيقات التي تنشأ عن القانون الجنائي المصري في هذا الصدد، حالة ما إذا فاجأ الزوج زوجته وشريكها، فحاول قتلهما فقتلته الزوجة أو شريكها، فلا عقوبة على فعلهما لاعتبار ذلك دفاعاً شرعياً عن النفس؛ ثم إنه بعد ذلك لا عقوبة على جريمة الزنا التي اقترفاها إذ فد مات الزوج صاحب الحق في الدعوى ضدهما. ولو حدث أن قتل الزوج زوجته سقط بذلك حقه في الدعوى ضد شريكهما، لأن حظ الشريك مرتبط بحظ الزوجة الزانية فيستفيد مما كان يفيدها. وقد ماتت فالشريك يعتبر بريئاً إذ لا عقوبة عليه إلا إذا حكم على الزوجة، وهذا غير متيسر لموتها.

وكذلك القانون لا يعاقب على جريمة الفسق ولا على تلك الجريمة النكراء الشنعاء: جريمة اللواط متى توفر الرضا إذا كان سنَّ الفتى أو الفتاة أكثر من ست عشرة سنة. فكأن القانون يشجع ذلك بعدم وضع الحظر عليه، بل أكثر من هذا فإنه يقف موقفاً غريباً بالنسبة للقاصر إذا جاوز السادسة عشرة فإنه يبيح له أن يجني ويبيح الجناية عليه. . . . بلا قيد، بينما لا يبيح له الزواج أو التصرفات المدنية إلا برضا وليه أو وصيه حسب الظروف، وهذه مسألة من الخطورة بمكان عظيم إذ تترك الشبيبة الناشئة تتلاعب بها الأيدي والأغراض، وتجرها المفاسد إلى غير مستقر بدون رقيب عليها، وهي عدة المستقبل وآمال الأمة. فإذا كانت هذه الشبيبة على ما يحوطها من المفاسد ويغريها لا يحميها القانون فيا سوءة المستقبل، ويا ضياع الآمال ، ومن الواجب المحتم أن يتنبه المشرع إلى هذا النقص التشريعي فيسارع إلى علاجه قبل استفحاله كيلا يتهم بالمساعدة على التدهور الخلقي وعلى إفساد الأمة في أساسها الحي الذي هو الفتى والفتاة.

هذا بعض من كل من الأمثلة الدالة على فُجر القانون والمشجعة لضروب المنكر_قد يقال إن روح القوانين الحديثة أن تتجه نحو الحرص على عدم التعرض بالعقاب للجرائم الأخلاقية إلا في حدود معينة، فلم يعاقب على الرذائل والآثام لذاتها؛ بل لما يترتب عليها من الضرر للأفراد أو للمصلحة العامة. ولكن الرد على هذا سهل يسير وهو: أنه ما من جريمة أخلاقية إلا أصاب الغير ضررها بالذات أو بالواسطة حالاً أو مستقبلاً، وذلك بانتشار الرذيلة الذي يتبعه تأثر الوسط وفقدانه حيويته؛ والذي يتبعه حتماً كنتيجة مباشرة إنهيارُ البيئة الإجتماعية وتفشي الأمراض الخبيثة بينها وازدياد الأدواء المختلفة الجسمانية

ص: 28

والأخلاقية، وبذا تتأثر المصلحة العامة؛ فلا حجة في تلك الحجة.

ومع ذلك فإن كثيراً من القوانين الحديثة لا تزال تحرم الرذيلة لذاتها، والقوانين الإنكليزية والألمانية والنمسوية والمجرية تعاقب على اللواط ولو وقع بالرضا، كما تعاقب أيضاً على اتخاذ القيادة حرفة ومرتزقاً؛ والقانون السويسري يعاقب على البغاء.

وهذه هي قوانين الدول المسيحية؛ أما الدول الإسلامية فإن قوانينها ولا كُفران لله قوانين واسعة سمحة. فيا ليت الحكومات الإسلامية تعمل بهذه الطريقة العكسية فتضع للشيطان قانوناً على الضد من طباعه، وبذلك يجئ قانون الشيطان مصلحاً لقانون الإنسان. . . . . .

جمال الزرقاني لسانسييه في القانون

ص: 29

‌من أيام سورية التاريخية

ذكرى 24 يوليو!

للأستاذين علي الطنطاوي وسليم الزركلي

قال الملك فيصل رحمه الله: (. . . وقد كان بين هؤلاء الذين سقطوا صرعى في ميسلون بعض رفاقي في معارك فلسطين؛ وإني لأحني رأسي احتراماً لجميع هؤلاء الذين ضحوا بحياتهم في سبيل اعتداء لم يعرف له التاريخ مثيلاً. . .)(جريدة الأيام الدمشقية العدد 863 من هذا العام)

أخرجْ من دمشق، وخلِّف وراءك الجِسْرَ وفيكتوريا، وهذه البِنْيَة ذات الطبقتين، التي كانت منذ خمسة عشر عاماً (النادي العربي) مثوى الوطنية، ومثابة الإخلاص؛ ودِعْ عن شمالك المرجة الخضراء، التي وقفها نور الدين على سوائم المسلمين، فرعاها نفر من الأقوياء الحاكمين، وعاثوا فيها آمنين مطمئنين؛ وجُزْ بالمِزّة وقلاعها، لا تلتفت إليها، ولا تأبَهْ لها، واستقبل الربوة لا تحفِل بقرارها ومعينها، ولا تعجبْ لأنهارها السبعة، وقد امتدت بين عَدْوَتي الوادي بعضها فوق بعض، كعقود اللؤلؤ في جيد الحسناء، وتناسَ ما قال فيها ياقوت وقد طوَّف أنحاء الدنيا، وجاب أرجاء الأرض، ثم رجع فلم يجد في الدنيا أنزه منها؛ وعدِّ عن النَيْرَب لا تذكر عهده، ولا تَبْكِ أيامَه، فقد ذهب النيْربَ، وغبرت أيامه، وفارقه وأنشد قول ابن حمدان:

سقى الله أرض الغوطتين وأهلها

فلي بجنوب الغوطتين شجون

وما ذقت طعم الماء إلا استخفني

إلى بَرَدى والنير بين حنين

وقد كان شكي في الفراق يروعني

فكيف أكون اليوم وهو يقين

فو الله ما فارقتكم قالياً لكم

ولكن ما يقضى فسوف يكون

واسلك على وادي الشاذروان، ولا يقفك عن غايتك أنه وادٍ من أودية الجنة، هبط إلى الأرض لتذكر فيه النفس أيام الجنة الأولى، فتطير إلى سمائها بأجنحة من نشوة الذكرى، ولا يثنك عن وجهتك هذان الجبلان المتعانقان، كأنهما عاشقان قد لبسا من النجوم المزهرة، والأشجار المثمرة، حلة أبهى من السندس، ولا (يزيد) الذي يجري في صلب الجبل يزخر بالمياه، فيطفح بها، فتهبط الصخر من علو مائة ذراع متكسرة مزبدة، كأنما هي ذوب

ص: 30

اللجين، حتى تعود إلى أبيها بردى، وهو يجري في بطن الوادي جياشاً ثائراً؛ واستقبل دُمّر لا تقف بجنانها ورياضها، ولا تفتنك قصورها ودورها، ولا يشبك هذا القصر العجيب، ذو المعارج الملتوية، والألوان والنقوش، والبرك والنوافير: قصر الأمير سعيد، ولا قصر شمعايا تجري من تحته الأنهار!

ودع عن يمينك معمل الأسمنت الفخم، الذي قام دليلاً على أن الشرق يستطيع أن يعمل، ويقدر أن يبني. ومركباته التي أبت أن تمشي على الأرض، فسارت متعلقة بأسلاك في الهواء. . وائت الهامة فدعها عن يمينك لا تنزل إلى السهل، ولا تفتنك أنهاره وبهجته، ولا تجذبك فسحته وخضرته، وامش واضعاً (قادسية) عن شمالك، ثم دُرْ دورة فاخرج من الوادي، وامش صُعُداً حتى تدع الوادي من ورائك، وتستقبل الصحراء الخالية القاحلة، فإذا أصحرت فدع الديماس وحدائقه وامش قدماً حتى ترى هذه الهضاب المتسلسلة، والآكام المتتالية، فاعلُها. . حتى إذا بلغت ذراها، ولمحت في عرض البادية، في حضن الجبل، بناءاً غريباً كأن سقفه جناحاً طيارة؛ ورأيت من أمامه سلسل ماء، فاهبط إليه، ثم قف خاشعاً منحنياً، فأنت في ميسلون، وأنت حيال قبر يوسف العظمة. . .

علي الطنطاوي

قِفْ عند هذا الضريح

واهتف بسكانهْ

هل حلّ فيكم جريح

من أجل أوطانه

أهوى بكم يستريح

من برح أحزانه

بغى عليه الزمان

والغاشم الغادرْ

فراح يبغي الأمان

في الفَلك الدائرْ

أصمته هوج الخطوب

ففجرت دمعهْ

ومرهقات الكروب

فأوقرت سمعهْ

ولم تدعه الحروب

فكسرت ضلعه

بكى له النيّران

والكوكب الساهر

فأين هذا الهوان

من مجده الغابر

الملك رهن الضيْاع

إن غيل في مهدهْ

ص: 31

والسيف ما إن يطاع

ما دام في غمده

واحسرتا للشجاع

يبكي على مجدهْ

النذل والخوّان

والخاتل الماكرْ

يفوز بالجنان

ويطرد الثائر

تبكي عيون السماءْ

على أمانينا

وفي مجاري الدماء

خاضت مواضينا

ما زال رهن الفناء

شتى مرامينا

هل يرجع الفاتحان:

الأسد الزائر

للعرش والطيلسان

والفاتح الظافر

جاست دياري العداه

والدهر يبغينا

وعاث فينا الطغاه

ذلاً وتهوينا

لم تصف بعد الحياه

حتى تعادينا

آن أوان الطعان

فلينهض العاثرْ

لا يبلغ المجدَ وإن

عن نيله قاصر

فاستصرخي يا قبورْ

عزائم الأبرار

ولتحطمنَّ الدهورْ

صواعق الأحرار

لا عاش من لا يثور

ويستسيغ العارْ

إنا فدى الأوطان

من غاصب جائرْ

لا عيش للإنسان

في موطن صاغر

سليم الزركلي

ص: 32

‌2 - معركة عدوى

للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان حرب الجيش العراق

وفيما يلي وصف الأرض العام في بلاد الحبشة: في الساحل أرض سهلة رملية، والرطوبة فيها تبلغ درجة عالية في موسم الأمطار، وحرها لا يطاق ألبتة؛ وكلما تقدمنا من الساحل إلى الداخل ارتفعت الأرض واختلفت تربتها وتنوع شكلها، فتكون ترابية وحصوية فصخرية فكلسية وهلم جرا، وتأخذ في التموج، وهذا التموج يجعل الأرض في بعض المحلات جبلية ذات غابات وأدغال، وكلما زاد الارتفاع كثرت الوديان الضيقة المكسوة بالغابات والأحراج الكثيفة. والانحدار في حافات الجبال شديد يحول دون تسلقها؛ والطرق فيها مسالك ضيقة تسلكها الدواب بصعوبة. وإذا ما دخلنا الهضاب اشتدت الوعورة، وازدادت المناعة. فالجبال تعلو في انحدار شديد، ويسيطر بعضها على البعض الآخر، وتكثر فيها المكامن والمضايق والفجوات والوهاد.

وقد شق الطليان طريقاً في مستعمرتهم اريترة يربط الميناء (مصوع) بالعاصمة (أسمرة)؛ وقد أنفقوا على شقه مبالغ طائلة من جراء انحدار الأرض وكثرة الوديان فيها؛ وكذلك السكة الحديدية التي تربط (مصوع)(بأسمرة) فإنها تعتبر من أرقى ما بلغه الفن الهندسي في مد السكك الحديدية، لأن السكة تتسلق الجبال ملتفة حولها عابرة على عدة جسور وملتوية الالتواء كله.

وتستطيع القوات القادمة من الساحل بفضل وسائط التجهيز والتموين السير في الأرض السهلة والأرض المتموجة، وإذا ما وصلت إلى السفوح الغربية بتوقف السير لمناعة الأرض وصعوبة سير العجلات والدواب فيها. ومع ذلك نجد أن فقدان المياه في الأرض السهلة والمتموجة مما يحول دون تسيير قوات كبيرة فيها.

الأمطار والبحيرات

والحقيقة أن بلاد الحبشة مدينة لغزارة الأمطار التي تنزل فيها، فهذه الأمطار تسقي بلاد الحبشة فتدر بركاتها على البلاد المجاورة لها، وتنزل الأمطار في بلاد الحبشة مرتين في السنة، صيفاً وشتاء؛ والصيف موسم الأمطار الطويل، فتبدأ الأمطار في هذا الموسم في أوائل آيار إلى نهاية أيلول، وتقع غالباً بعد الظهر، وتنزل بغزارة، وتقلب الأرض السهلة

ص: 33

والمتموجة إلى بحيرات وسيول في مدة قصيرة، وتجري هذه المياه بسرعة الوديان الجافة إلى البحر، وبعض الماء تبتلعه الأرض.

وأما موسم الأمطار في الشتاء فهو شهرا كانون الثاني وشباط، والمطر فيه قليل. وأجل الأنهار شأناً في بلاد الحبشة هي تلك التي تنبع من السفوح الغربية في المنطقة الجبلية الداخلية وتصب في نهر النيل.

فنهر (صوباط) مثلاً يتكون من فرعين، ويجري في الجهة الجنوبية الغربية؛ ونهر (أباي) ينبع من بحيرة (تانا) وهو يؤلف القسم الأعلى من نهر النيل الأزرق.

وفي الشمال نهر (عطبرة) وهو يتألف من نابعين: نابع (مارب) في الشمال، ونابع (نكازة) في الجنوب، وبعد أن يسقي مقاطعة (تيجري) يجري شمالاً ويصب في نهر النيل في عطبرة شمالي الخرطوم.

ولنهري أباي وعطبرة تأثير شديد في اقتصاديات السودان؛ فالأمطار الصيفية تملأ أحواض هذين النهرين، فيفضيان بها ويسقيان مزارع السودان ويتركان الرسوب الغرينية في المزارع.

وبحيرة (تانا) التي تمثل دوراً خطيراً في تاريخ الحبشة من حيث تأثيرها في مياه النيل تعلو عن البحر 1700متر، وتبلغ مساحتها زهاء 3000كيلو متر، وتحيط بها الجبال من كل جانب ،

وفي الجنوب وديان كثيرة تأتي من حافات الجبال، وأهمها نهر وادي (جبة) وهو الذي ينبع من الحافات الجنوبية للمنطقة الجبلية الداخلية ويجري في الأرض المتموجة والسهلة.

وتبدأ الوديان من حافات الجبال الشرقية، وتمتد إلى السهول، وإذا ما نزلت الأمطار جرت فيها المياه.

ومن المياه ما تتكون منه البحيرات الجنوبية في أرض الحبشة؛ وهذه البحيرات واقعة على طول الخط الممتد من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، وتنتهي في شمالي بحيرة (فيكتورية) وأخطر هذه البحيرات بحيرة (رودولف) في الجنوب وبحيرة (استفاني) في الشمال.

تقسيم الأحباش البلاد

ص: 34

والأحباش أنفسهم يقسمون بلاد الحبشة إلى ثلاثة أقسام من حيث أوصافها، وإليك بيانها:

القسم الأول: وهو القسم المنخفض، ويتفاوت الارتفاع فيه من (1000 إلى 1800) متر، وهذا القسم حار وتتفاوت درجة الحرارة فيه من 20 إلى 40 درجة سنتغراد؛ وفي هذا القسم المقاطعات (هرر) و (كانا) و (يديتو) و (سيدامو) و (شافكالة)؛ والحرارة في المحلات المنخفضة، وفي الوديان لا تطاق؛ والزرع فيه هو الذرة. وفي المحلات المرتفعة من هذا القسم يزرع قصب السكر والقطن والزعفران والموز والتمر الهندي والبن والنخيل وغير ذلك.

القسم الثاني: وهو القسم المتوسط من حيث ارتفاع الأرض إذ يتفاوت العلو فيه من (1800 إلى 2400) متر. وتختلف درجة الحرارة فيه من 14 إلى 19 سنتغراد، والهواء فيه جيد، والربيع دائم، وتكثر فيه المياه والغابات.

القسم الثالث: وهو القسم المرتفع ويتفاوت الإرتفاع فيه من (2400 إلى 3400) متر، ومناخه يشبه مناخ جبال الألب، والشتاء فيه شديد وبرده قارص. وتختلف درجة الحرارة فيه من 10 إلى 12 سنتغراد ويجمد الماء في الليل. وبينما نجد القسم الأول جهنم الحبشة نرى القسمين الثاني والثالث جنتها.

التقسيمات الإدارية

تنقسم بلاد الحبشة إلى عدة مقاطعات، ويحكم كل مقاطعة رأس، وهو بمنزلة ملك تلك المقاطعة وله سلطة مطلقة عليها نالها إرثاً بحقوق الإقطاع. وكثيراً ما أطلق عاهل الحبشة على نفسه ملك الملوك بعد إخضاعه الرءوس في المقاطعات وتوحيده المملكة.

وفيما يلي المقاطعات الخطيرة: -

(أ) مقاطعة (تيجري) وهي واقعة في الشمال ومتاخمة لأريترة الصومالية والسودان، وفيها العاصمة المقدسة (أكسوم).

(ب) مقاطعة (أمحره)، وهي واقعة إلى جنوبي مقاطعة تيجري ومتاخمة للسودان.

(ج) مقاطعة (غوجام)، واقعة إلى جنوبي مقاطعة أمحرة.

(د) مقاطعة (شوعا)، وهي من أخطر المقاطعات وفيها عاصمة الدولة (أديس أبابا).

ص: 35

(هـ) مقاطعة (كاتا)، وهي واقعة إلى الجنوب ومتاخمة للسودان ولمستعمرة أوغاندة البريطانية وفيها يزرع البن.

(و) مقاطعة (أوجادن)، وهي واقعة إلى الجنوب الشرقي ومتاخمة للصومال الطلياني.

نبذة من التاريخ

يزعم العلماء الضليعون في معرفة الأجناس والشعوب إن الأحباش هاجروا من جزيرة العرب إلى إفريقية عن طريق اليمن، ويعللون انتماء اللغة الحبشية إلى اللغات السامية بتلك الهجرة.

والمحقق أن الأحباش احتكوا بالمصريين في قديم الزمان واقتبسوا منهم بعض مظاهر الحضارة؛ ولما امتدت فتوح المصريين إلى بلاد النوبة والسودان إشتدت هذه العلاقة. ويؤيد التاريخ إستيلاء الأحباش على مصر العليا وتأسيسهم أسرة حاكمة هناك. ويزعم الأحباش أن الملك منليك الأول هو ابن سليمان من بلقيس ملكة سبأ. وشاعت النصرانية في الحبشة في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد ورسخت فيها بعد ذلك. والمعلوم أن أبرهة قائد القوات الحبشية الذي استولى على بلاد اليمن وتقدم نحو الحجاز كان نصرانياً. والشائع أن الداعي إلى هجوم الأحباش على اليمن هو الانتصار لبني دينهم أهل نجران.

وكان الأحباش يدينون بالنصرانية لما هاجر المسلمون إلى الحبشة فراراً من الاضطهاد. وشاعت اليهودية في الحبشة في عهد هذا الملك. وتخليداً لهذه الذكرى أحدث ملك الحبشة في سنة 1874 وساماً سماه (وسام خاتم سليمان).

وفي القرن السادس تبع الأحباش الكنيسة المصرية التي اعتقدت أن ليسوع (عيسى) طبيعة واحدة، وانضوى الأحباش من ذلك التاريخ لبطريرك الإسكندرية.

وفي القرن السابع استفاد اليهود القاطنون في الحبشة من الإنشقاق في العقيدة المسيحية، واتفقوا مع المعارضين والوثنيين وتغلبوا على الأحباش فأخرجوهم من مقاطعة أكسوم وحكموا البلاد زهاء مائتي سنة. وفي نهاية القرن الثامن قضى (لاليبا) على حكم اليهود ورجع الأحباش يحكمون بلادهم معتنقين المذهب اليعقوبي.

المسلمون والأحباش

ص: 36

ولم يتوجه العرب في عهد فتوحهم نحو بلاد الحبشة بل اكتفوا بالاستيلاء على بلاد مصر والسودان فقط، وذلك على ما نعتقد لسببين: أولهما بُعد بلاد الحبشة عن طريق الاستيلاء ومناعتها، وثانيهما ذكرهم للأحباش بخير لأنهم آووا المسلمين الأولين وآمن نجاشيهم برسالة الرسول.

وفي القرن الثامن عشر ثارت الحروب بين الأحباش والمسلمين الذين أحاطوا ببلاد الحبشة من كل جانب. وقبل منتصف القرن الخامس عشر احتك البرتغاليون بالأحباش من أجل الحصول على موانئ صالحة في مغامراتهم في بحر المحيط الهندي، وسعوا لتأسيس علاقات ودية بينهم وبين الأحباش، وعقدوا أول معاهدة في سنة 1515؛ وكان من نتائج هذه المعاهدة أن المسلمين أخذوا يتوغلون في بلاد الحبشة لمحاربة الأحباش حلفاء البرتغاليين، وكلما انتصر المسلمون على البرتغاليين في البحر الأحمر وفي خليج عدن انتقموا من الأحباش الذين ناصروا البرتغاليين في حروبهم.

وفي سنة 1517 تحرك جيش كبير من المسلمين من (زيلع) وهجم على بلاد الحبشة واستولى على (أكسوم) العاصمة المقدسة، و (جوندار) عاصمة المملكة. وبعد أن مد البرتغاليون الأحباش بالمدافع وتولى (كريستوفوس دغاما) قيادة الجيش الحبشي انكسر المسلمون وانسحبوا.

ولما استولى العثمانيون على مصر اشتدت علاقة الترك بالأحباش، وأخذ سلاطين آل عثمان يساعدون المسلمين في البحر الأحمر على محاربة البرتغاليين والأحباش، وكان من نتائج ذلك أن استولى العثمانيون على مصوع وبربرة وهما من موانئ الحبشة، وتوغلوا في الداخل، وأخذ المسلمون القاطنون في السهول يشددون العزائم للهجوم على بلاد الحبشة ويسعون لنشر الدين الإسلامي فيها.

(يتبع) طه الهاشمي

ص: 37

‌من ضحايا الوطنية

شارلوت كورداي

لتوماس كارليل

بقلم الأستاذ حسن عبد الحليم اليماني

يعي التاريخ مشهداً يذكره وسط الغموض والاضطراب اللذين لفا مدينة (كان) الفرنسية كما لفّا العالم بأسره في طليعة عهد الثورة الكبرى: أما مكانه فساحة مجلس (كان) النيابي، وأما أبطاله فرجل وفتاة أوشكا أن يفترقا بعد لقاءهما النائب باربارو وشارلوت كورداي ((دارمان) كما كانت أسرتها تلقب قبل الثورة التي ألغت رتب النبل وألقابه) كانت فتاة فارعة العود في عامها الخامس والعشرين، يتلألأ محياها جمالاً ووداعة؛ وكانت على أن ترحل إلى باريس في أمر ما، ولهذا تقابلت وباربارو فحملها توصية وتقدمة إلى صديقه الباريسي النائب دوبريه ذاكراً في خطابه (إنها لجمهورية الهوى من قبل أن ينادي بالثورة منادٍ، وإنها لم تكن في حاجة أبداً إلى الحماسة، ففي قلبها منها الكفاية). (أما الحماسة في رأيها فهي تلك العاطفة التي تدفع بالمرء إلى بذل روحه طائعاً في سبيل بلاده).

وقبيل ظهر الثلاثاء التاسع من شهر يولية من العام الرابع للثورة، اتخذت شارلوت مكانها من عربة بريد (كان) الراحلة إلى باريس مزودة بخطاب باربارو وبقليل من متاعها الخفيف. لم يكن في وداعها - كسنة السفار - أحد يتمنى لها رحلة طيبة موفقة، فهي قد بيتت عزيمتها بينها وبين نفسها مخلّفة لأبيها رقعة تفضي إليه فيها بأنها في طريقها إلى إنجلترا، وأنها ترجو أول ما ترجو أن يغفر لها فعلتها وأن ينساها إلى الأبد.

وزحفت عربة البريد بحملها، وكأنما لازمها نعاس ملح، ما زال يدفع بها وئيدة مهومة حتى بلغت جسر (نيلي)، وحتى لامست عجلاتها ثرى باريس في ضحى يوم الخميس 11 يولية، حيث شهدت عينا شارلوت مدينتها المنشودة تطالع السحاب بقبابها العديدة السوداء وفي فندق البروفدانس بشارع دي فيو أوجستين احتجزت لنفسها غرفة سرعان ما احتواها فراشها، وسرعان ما راحت في سبات عميق بقية النهار وطيلة الليل، فلم تستفق منه إلا وشمس الجمعة قد علت في الأفق.

ص: 38

غادرت شارلوت فندقها في ذلك الصباح لمقابلة النائب دوبريه، فلما سلمته رقعة صديقه باربارو علم منها أن لصاحبتها أوراقاً تتعلق بأسرتها، وأن صديقه يرجو مساعدتها حتى تحصل عليها من وزارة الداخلية. وأنالها دوبريه بغيتها وقضت نشدتها في اليوم نفسه، وغادرته ولم تشر بطرف إلى رحيل أو بقاء. وفي باريس طالعت نواحي عديدة وصوراً متباينة، ولكنها لم تهتد إلى لقاء (مارا والتحقق من قسمات وجهه فقد احتبسه المرض إذ ذاك في منزله.

باتت ليلتها في الفندق، حتى إذا أسفر الصبح غادرته حوالي الساعة الثامنة لتشتري خنجراً، ثم لتأخذ عربة من ميدان الانتصارات ميممة مسكن مارا بشارع مدرسة الطب رقم 44، حتى إذا بلغته حال مرضه دون لقائها، فأهمها أن تفشل في وسيلة ركزت فيها كل آمالها وأحلامها. يالشارلوت الجميلة المنكودة! ويالمارا القبيح المنكود! أي قدر يسعى بفتاة من (كان) في أقصى الغرب، وبرجل من نيوشاتل في أقصى الشرق ليلتقيا؟ وأي شأن يربط بين حظيهما فيجذبهما إلى أن يصطدما؟

وإذ عادت إلى فندقها بعثت إليه بورقة تحمل اسمها واسم بلدتها: (كان مهد الثورة)، وتحمل فوق هذا رجائها ولهفتها إلى لقائه، حتى تدفع إليه (ما يعينه على أن يسدي لفرنسا يداً) ولكنها لم تتلقى عليها جواباً، فخطت إليه أخرى أقوى من سابقتها رجاء وعاطفة، وحملتها بنفسها إلى مسكنه في مساء اليوم نفسه 13 يولية.

كان مساء شاحباً، وقد مضى على المساء الذي سقط فيه الباستيل أربعة أعوام كاملة، ذلك المساء الذي وقف فيه مارا على رأس جموع الشعب، طالباً من رجال فرقة الهوسار - حرس الباستيل وكانت قلوبهم مع الشعب - أن يخلوا أمكنتهم وأن يلقوا بأسلحتهم. وبهذا الحدث ارتفع مارا إلى الذروة - ذروة البطولة والوطنية، وها قد مضت أربعة أعوام حافلة - فأية طريق اشتقها مارا إلى المجد وأية طريق دفع بنفسه في شعابها؟

لقد كان في الآونة التي يممت فيها شارلوت صوب داره، ينتقع في حوض استحمامه، وقد تجرد من ملابسه إلا قليلاً، وكانت الساعة حوالي منتصف الثامنة مساءاً، وكان منهوكاً محطماً يحمل في يده قصاصات من الورق، وأمامه منضدة مثلثة القوائم، يتكئ عليها كلما هم بالكتابة. كان وحيداً في مسكنه اللهم إلا إذا اعتبرنا خادمه الشوهاء رفيقة تطرد الوحدة

ص: 39

وتخفف أثقالها. فهل انتهى به الطريق إلى أن يلقى خاتمته على هذا الوضع وفي تلك الصورة؟

قُرع الباب وتكرر القرع، ونفذ إلى مسمعيه صوت ليّن حلو، يرفض صاحبه أن يغادر مكانه من الباب أو تقضى حاجته. كانت صاحبته هي المواطنة شارلوت كورداي، تلك التي تريد (أن تعينه حتى يسدي للوطن يداً) - عرف (مارا) من كلماتها تلك أنها صاحبة الرقعة الأولى التي وصلته، فنادى خادمه: أن دعيها تدخل؛ ودخلت شارلوت قائلة: (أيها المواطن مارا! إنني من (كان) مهد الثورة، وأريد أن أفضي إليك بأمر).

فرد عليها قائلاً: (اجلسي يا طفلتي! ما وراءك من أخبار كان وأخبار خونتها؟ ومن ترى فيها من النواب الآن؟).

ولما سمت له شارلوت بعض النواب، زمجر (صديق الشعب) قائلاً:(ستطاح رؤوسهم في مدى أسبوعين)؛ واجتذب المنضدة إليه ثم أخذ يكتب (باربارو، بتيون. . .) واستدار في الحوض مصلحاً من جلسته (بتيون. . . لوفيه و. . .)، وفي أسرع من اللمح استلت شارلوت خنجرها من غمده، ثم أهوت به إلى قلبه. لم تمهله حشرجة الموت طويلاً؛ فلم يستطع إلا صرخة واحدة:(إليّ يا عزيزي - الغوث يا عزيزي!) سارعت الخادم إليه فإذا به لقي لا روح فيه، وقد انكفأ على وجهه الذي بدا مغيظاً محنقاً. . . وهكذا قضى مارا (صديق الشعب) وليس إلى جواره صديق!

إلى هنا تمَّ لشارلوت ما دبَّرت وأنّى لها أن تلقى جزاء عاجلاً محتوماً. . . فقد تدفق الجيران على صرخة مارا الأخيرة والتفوا بشارلوت التي قاومت قليلاً، حتى إذا حضر الشرطة أسلمت نفسها لهم طائعة. واقتيدت لتوها إلى سجن (أباي حيث احتوتها إحدى غرفه هادئة ساكنة، وقد ماجت باريس حول محبسها، ودَوَّت أصوات الشعب في خليط يتذبذب بين الدهشة والغضب والإعجاب.

بعد أيام أربعة، طالعت الجموع المحتشدة في قصر العدالة، حيث تعقد محكمة الثورة، وجه شارلوت جميلاً هادئاً كعادته، وما إن دخلت القاعة حتى سرت فيها همهمة ليس من السهل أن نستبين العاطفة التي أوحتها! - وهنالك وقف تنقيل ليقيم الدعوى مستعيناً بالشهود وببائع الخنجر الذي حضر المحكمة ليدلي بالواقعة أمامها، ولكن شارلوت قاطعته قائلة (لا

ص: 40

حاجة بكم إلى هذه التفاصيل

(إنني أنا القاتلة)

(وبإيحاء من؟)

(لم يوح إلي أحد)

(إذاً فما الدافع؟)

(جرائمه) ثم زادت في صوت صاخب مرتفع (لقد قتلت فرداً لأنقذ مئات الألوف، مجرماً لأنجي أبرياء، حيواناً مفترساً لأريح بلداً بأسره! لقد اعتنقت مبادئ الجمهورية قبل أن تقوم للثورة قائمة، ولم أكن أبداً في حاجة إلى الحماسة أو التشجيع!).

وهكذا قطعت عليهم كل سبيل إلى الكلام، وحملق الجمهور مشدوهاً بينما أتم القضاة إجراءاتهم في صمت وسكون، وصدر الحكم بإعدامها لجريمة القتل فتلقته هادئة، وفي لهجة رقيقة تشف عن روح نبيلة عالية شكرت محاميها، كما شكرت القسيس الذي أحضروه لها معتذرة له في لطف بأنها ليست في حاجة إلى شئ من بضاعته!

وفي مساء ذلك اليوم نفسه خرج سكان باريس - على بكرة أبيهم - إلى الطرقات والمنافذ ليلقوا على شارلوت نظرة أخيرة. . وظهرت عربة السجن المشئومة تحمل تلك المخلوقة الصغيرة في ملابس الإعدام الحمراء، حلوة وادعة، غضت الإهاب ريانة الغصن تسعى إلى حتفها وحيدة وسط هذا العالم الصاخب! كثير هم أولئك الذين حيوها في احترام برفع قبعاتهم، فأي قلب لا يمس هذا المشهد قرارته؟ بينما طاوعت بعض الآخرين نفوسهم فزمجروا وهدرت أصواتهم لدى رؤيتها!

وفي (ميدان الثورة) حيث ينتظرها الموت، لم يتسلل إلى أساريرها الجميلة الهادئة أي شحوب أو فرق، بل حافظت على ثباتها وحيويتها؛ ولما تقدم الجلادون لقيد ساقيها، احتجت متذمرة، وقد حسبت أنهم إنما يفعلون ذلك رأفة بها، وقد لحظوا في أنوثتها ضعفاً لا يقوى على مجابهة الموت إلا مكبلاً! حتى إذا أفهموها أنها إجراءات تتبع في كل حالة اعتذرت لهم باسمة وخضعت راضية!

وفي المشهد الأخير عندما جردوا عنقها من لفائفه وهيأوه لسيف الجلاد، تمشت في عنقها ووجهها الجميل حمرة من خجل العذارى ضلت تصبغ خديها النديين حتى بعد أن رفع

ص: 41

الجلاد رأسها المفصول ليراه جمهور النظارة!

فيا للجمال ويا للقبح ممثلين في شارلوت ومارا! يصطدمان فيلاشي كلاهما الآخر! ويالكما من منكودين أنهلهما العدم كأسه مترعة! فلتناما في أحضان أمكما الأرض، تلك التي حملتكما معاً!

حسن عبد الحليم اليماني

ص: 42

‌في الأدب الإنجليزي

4 -

الكائنات الغيبية

في شعر شكسبير

بقلم خيري حماد

الأشباح:

تشتمل الأشباح التي وردت في روايات شكسبير نوعين مختلفين:

أشباحاً مرئية وأشباحاً غير مرئية. أما الأشباح المرئية فهي التي في استطاعة كل شخص أن يراها ويبصرها. وأما الأشباح غير المرئية منها فهي التي اختفت عن أعين الجميع إلا عن أعين بطل الرواية.

استعمل شكسبير نظرية الأشباح في عدد غير قليل من رواياته ومؤلفاته، فهناك شبح في رواية الملك ريشارد الثالث لم يره إلا ريشارد وريشموند، وهناك شبح آخر في رواية يوليوس قيصر يعجز الخدم عن رؤيته بينما يظهر جلياً لبروتوس. وفي رواية سمبالين أشباح متعددة تظهر لبوشيموس في سجنه في حالة لا يراها الحرس والسجانون.

وكانت مخاطبة الأشباح تقتصر على نفر قليل ممن كانت لهم قوة التنبؤ والاستنباط، فكان في استطاعتهم أن يرسلوا الأرواح في مهماتهم الخصوصية. وقد ذكرهم شكسبير في كثير من رواياته كرواية سمبالين ورواية يوليوس قيصر بقوله:(قد استطعت التغلب على روحي الخفية بواسطة حيلك السحرية) وفي رواية ' بقوله: (هل يوجد هناك من مشعوذ يستطيع أن يزيل ما أمام عيني من الشك).

وهذا النوع من الرجال كان ينتظر منه الإلمام باللغة اليونانية واللاتينية والاضطلاع الواسع على الآداب القديمة. وتظهر لك هذه الميزة جلياً في رواية هملت عندما يظهر الشبح، فيقول مارسيليوس مخاطباً هورايتو:(إنك متعلم ومطلع على الآداب، ولذا وجبت عليك مخاطبته يا هورايتو).

ص: 43

ويصحب ظهور الأشباح عادة تغيير في الأنوار، فنرى ريشارد الثالث بتغير في الأضواء قبل ظهور الشبح؛ وفي رواية يوليوس قيصر نرى نفس الظاهرة بجلاء ووضوح، فيرى بروتس تغيراً في ضوء الشمعة يسترعي انتباهه ويهتف قائلاً:(ما لهذه الشمعة قد شحب ضوؤها؟ من القادم؟).

وتظهر الأشباح بصورة عادية مرتدية نفس الملابس التي كان أصحابها يرتدونها قبل موتهم. ففي رواية هملت يظهر الشبح بنفس الأردية التي كان يرتديها الملك قبل وفاته، وهذا ما دعا هورايتو إلى الهتاف قائلاً: (إنه ليشبه والدك تمام الشبه مرتدياً نفس الملابس والأسلحة التي كان يرتديها قبل وفاته؛ وفي رواية مكبث يظهر شبح بانكو بنفس الحلة التي وجد فيها قبل وفاته لساعات قليلة.

ولهذه الأشباح طبائع غريبة وأخلاق شاذة، فهي لا تستطيع احتمال الأسئلة الكثيرة بل تهملها. وفي رواية هنري السادس نرى الشبح وقد ضاق ذرعاً بالأسئلة الكثيرة التي وجهت إليه فأجاب سائله بقوله:(اسأل ما بدا لك ولكني لا أجيب إلا عما أريد الإجابة عنه) ز

وكانت الأشباح تفضل الصمت على الشغب والضوضاء، ولذا نرى بروسبيرو يطلب الهدوء التام عند ظهور الأشباح. وتختلف هذه المخلوقات الغيبية عن سابقتها بكونها لا تستطيع الظهور مطلقاً إلا عند سدول الظلام، فلا يظهر الشبح في رواية هملت إلا بعد غروب الشمس؛ وعندما يشعر باقتراب النهار يفر مسرعاً إلى عالمه العلوي. فالنهار والضوء عدوان لدودان للأشباح.

قال جبسن في ختام بحثه عن الأشباح: (إن المهارة والمقدرة التي أظهرها شكسبير في تصوير الأشباح لما يؤكد لنا اعتقاده الجازم بها) وهذا الحكم الذي يصدره ناقد معروف كجبسن لجدير بالتفكير والبحث. نعم إن شكسبير لم يوفق في بحثه عن الأشباح وتصويرها كما وفق في الساحرات والجنيات؛ فخياله المبدع الذي رأيناه سابفاً لا نشاهده في الصورة الحالية؛ وقد يكون هذا النقص ناتجاً عن عدم اعتقاده بالأشباح؛ خصوصاً وأن الرجل لا يحسن ما لا يؤمن به ويعتقد فيه، فكان بحثه تعوزه المقدرة، وينقصه الخيال الواسع والفكر العميق.

العفاريت:

ص: 44

كان من السائد على معتقدات الناس في ذلك العصر أن العفاريت هم من سلالة الآلهة القدامى. وما عفاريت شكسبير إلا صور مصغرة من آلهة الرومان واليونان والفلسفة الشمالية، فهم مصدر شقاء وينبوع آلام. نعم إن مقدرتهم لم تصل إلى تلك الدرجة من القوة التي وصلت إليها مقدرات الساحرات، ولكنهم رغماً عن ذلك كانت لهم القدرة الكافية على الاختفاء بالشكل الذي يريدون.

وفي رواية تايمون أثينا نرى وصفاً مسهباً لهذا النوع من العفاريت عندما يتكلم المهرج قائلاً: (إنها روح شريرة تظهر مرّة بشكل سيد من الأسياد، وأخرى بشكل محام بارع، وثالثة بشكل فيلسوف شهير).

وكانت في بعض الأحيان تتخذ لها وسيطاً من بني البشر، فيكون لهن من روحه مكاناً يقمن فيه، ويعامل هذا الرجل (المسكون) عادة أشد المعاملة وأقساها، فهو عرضة للشتائم وشتى أنواع العذاب والهوان. وفي رواية (مهزلة الأخطاء) نرى بنسن يخبر خليلته بأن زوجها وخادمه قد أصابهما مس من الجنون، وأن العفاريت قد اتخذت من روحيهما مسكناً مريحاً، فمن الواجب إذن القبض عليهما وإيداعهما حجرة مظلمة.

وفي حديث غرامي بين روزاليذ وعاشقها رولاندز في رواية (كما تريد نرى الفكرة نفسها واضحة جلية؛ فهي تقول له: (إن الحب جنون، وما العاشق إلا مجنون يجدر به أن يكون حبيس غرفة مظلمة لا يدخلها الضوء؛ ولكن المحب لا ينزل به هذا النوع من العقاب، لأن الحكام والقضاة قد كانوا في نفس الحالة يوماً ما، ولذا كان من الواجب مداواته بالنصيحة والمشورة).

يندر أن تجد عفريتاً من هذه العفاريت يظهر بشكله الحقيقي على مسرح شكسبير؛ ولا أذكر في رواياته كلها غير مرة واحدة تراءى العفريت فيها للنظارة، وهذه المرة تقع في رواية هنري السادس عندما تدخل العفاريت المسرح بعد إلحاف شديد من الساحر (لابوسيل)، فيقومون بأعمال كثيرة تعد في حكم المستغربة الشاذة، فيدخلون دون أن ينطقوا بأية كلمة، ومن ثم يلقون برؤوسهم إلى الأسفل، ثم يرفعونها مرة ثانية ويغادرون القاعة حيث لا رجعة بعد ذلك.

من هذه الأعمال الغريبة التي كان العفاريت يقومون بها نستنتج أن هذه المخلوقات تعد من

ص: 45

أغرب أنواع المغيبات، وتختلف عن سائر الأنواع الأخرى باختفائها الدائم في الهواء؛ وقد ختم جبسن بحثه عن العفاريت بقوله:(إن شكسبير لم يهتم بهذه المخلوقات اهتمامه بالأنواع الأخرى المشابهة لها؛ وإن معاملته الشاذة لها لجديرة بالاستهزاء بدل الإجلال والتقدير) وهذا الحكم على درجة كبيرة من الصحة والصواب؛ فلا نجد هنالك إلا عدداً قليلاً من الأماكن التي يأتي ذكرها فيها؛ ولو فرضنا جدلاً أن شكسبير ذكرها في عدة أماكن لرأينا أن ذكره لها لا يتجاوز عدداً من الأسطر؛ ثم يتركها على ألا يعود إليها ثانية. ومن هذا يظهر جلياً أن شكسبير كان يحتقر هذا الاعتقاد في العفاريت فلم يولها جانباً من اهتمامه.

(يتبع) خيري حماد

ص: 46

‌الدكتور محمد إقبال

فلسفته

معالم الاتفاق والاختلاف بينه وبين فلاسفة الغرب

للسيد أبو النصر أحمد الحسيني

إن أول مَن لَحِظَه التوفيق بين فلاسفة الغرب في أن يثبت بالدلائل القاطعة والشواهد الصادقة أن الإنسان لا يقدر على حل العقد المستغلقة والمعضلات الغامضة في هذه الكائنات بالعقل المجرد، هو الفيلسوف الألماني الكبير (كانت). وعلى هذا أثبت كانت عن طريق فلسفي ضرورة وجود الله ولزوم الإيمان به، وبرهن في مصنفه (نقد العقل العملي) على أن قواعد عقل الإنسان العملي ودعائم عمله ووطائد اختباره ثلاثة: حرية الإرادة، وخلود الروح، والإيمان. ووضح أن الإنسان لا يمكن أن يكون مسؤولاً عن أعماله إذا لم يكن فيها بالخيار. لذلك كان (كانت) بكشف هذه الحقائق وأمثالها في عالم الفلسفة قد قام للإنسانية بخدمة عظيمة.

ونحن قد أبنا لك في المقال السابق أنه على حسب فلسفة إقبال أيضاً يكون لكمال الإنسان وتقدمه ثلاث دعائم: إحراز الغاية القصوى من الحرية والاختبار بنيل الأنانية العظمى، ونيل الخلود باتصاف الأنانية بحالة الجد المستمر، ثم بلوغ منزلة الخلافة الإلهية التي هي نهاية عليا لذلك الكمال والتقدم: فعلى هذا يتفق إقبال مع كانت في التصورات الثلاثة أساسياً، ويختلف عنه في أن ليس لدى كانت تصور الخلافة الإلهية. وأما تصور (كانت) الثالث وهو الإيمان فهو أساس جميع تصورات إقبال، لذلك لم يحتج إقبال إلى إثبات ضرورة وجود الله والإيمان به في فلسفته كما احتاج إليه كانت، ولأن مبدأ فلسفة إقبال الأنانية المتصفة بحالة الجد المستمر. وآخر الجد المستمر الإيمان كما هو أوله، لأن الإنسان لا يقدم على عمل ويستمر فيه إذا لم يك مؤمناً بنتيجته ونجاحه فيه، وكذلك إقبال لم يحتج إلى إثبات قانون أخلاقي خارجي كما احتاج إليه كانت في بيان نظريته الأخلاقية، لأن قانون الأخلاق عند اقبال ينجم عن ضروريات الأنانية الباطنية، فكل شئ يقوي الأنانية عنده خير وحسن، وكل ما يضعفها شر وقبيح؛ فكأن أنانية الإنسان المتصفة بالجد المستمر

ص: 47

عنده ضمنية لإنتاج ذلك القانون، فلا يحتاج إلى البرهان والدليل.

ويختلف إقبال عن كانت في أن اكتساب الحرية والاختيار ونيل الخلود والدوام في فلسفته ثمرة الجهد المستمر لا يفوز بها إلا الذي اتصفت أنانيته بتلك الصفة، أي الجد المستمر. فكل من رغب فيها وطمح ' ليها ينبغي له عنده أن يسعى لذلك بعزم وحزم لا يشوبها على الزمن خلل ولا وهن، وأما كانت فقد تصدى لفكرة الحرية والاختيار والخلود والدوام في فلسفته ليقول إن العدل جار في الكائنات وإنه يوجد فيها المطابقة بين الأعمال ونتائجها، وبين الأمور وعواقبها.

إن فلسفة إقبال فلسفة تفاؤل لأنه تخلق في الإنسان الأماني تتري، وتبعث فيه الهمة القصية المرمى، وتحفزه لبذل الجهد واستفراغ الوسع في تحقيقها بالمثابرة والمواظبة. فهي لذلك تخالف فلسفة التشاؤم التي كان أكبر أئمتها الفيلسوف الألماني شوبنهاور. كان شوبنهاور هذا متأثراً بأفكار البوذية الهندية، فنظر إلى العالم نظرة التشاؤم، وقرر أن حقيقة الكائنات القصوى هي الإرادة، لكنها لا تقدر أن تملك لقصدها مشمولاً خاصاً يمكن أن يعرض عملياً في الذهن، لأن كل مشمول مثل هذا يتعلق بخارجها. فلذلك تملك الإرادة الكونية لقصدها نفسها، أي هي تريد لأن تريد. هي تريد لأن تكون حقيقياً، فإن كل شئ حقيقي ليس إلا الإرادة الممثلة. فبهذا المفهوم سمى شوبنهاور تلك الإرادة (إرادة الحياة)، ورأى أنها جوهرياً شر، فإنها لا يمكن أن تقع؛ هي ألم. هي ألم غير القانع؛ وعلى هذا فالحياة حمأة الطموح الذي لا يشبع، وثورة التوقان الذي لا يقنع. لذلك كانت نهاية الإنسان دائماً في الشكوى، ولن يتم له حسن الحظ أبداً. ولكن إقبالاً يرى أن سوء الحظ وآلام الحياة أكثر فائدة للإنسان إذ بها تربى أنانيته وتدرب، فيطأ بها أعراف المجد، ويتسور شرفات الكمال؛ ثم شوبنهاور ينكر الفردية أي وجود الأشياء المنفردة أو (الإرادات المنفردة) كما يقول، ويرى أنها وهم تتوقف على الفروق الزمنية والمكانية، بينما أساس فلسفة إقبال هو الفردية.

أما من يوجد بين فلسفته وفلسفة إقبال معالم المشابهة وملامح المماثلة أكثر فهو الفيلسوف الألماني الكبير نيتشه. والمزية الكبرى لنيتشه هذا بين فلاسفة الغرب أن عبقريته صبغت الفلسفة بصبغة الإلهام، ولم تكتف في المباحث الفلسفية بانتقاد الفن، بل أتت للعالم بمقياس جديد للحسن والقبح، والخير والشر. وفلسفته ثمرة مزيج من أفكار كانت، وشوبنهاور،

ص: 48

وداروين. فقد استنبط من نظرية العلم لكانت أن ليس هناك شئ يقال له علم، بل كل شئ خيال ووهم، وذلك لأن الحقيقة لا يكشف عنها بل تُخلق، ولا يبحث عنها بل تُخترع، وهو أيضاً قد قرر مثل شوبنهاور أن حقيقة الكائنات القصوى هي الإرادة، ولكن ليست (إرادة الحياة) كما رأى شوبنهاور بل (إرادة القوة)، وهي عنده مصدر كل خير وفلاح كما أن (إرادة الحياة) عند شوبنهاور منبع كل شر وخسران. وما أحسن قول البعض أن ما يراه شوبنهاور شيطاناً يراه نيتشه إلهاً.

يرى نيتشه أن (إرادة القوة) هذه دافع قويّ غريزيّ سارٍ في الكائنات، فهو مركز الحياة الإنسانية، بينما إقبال يرى أن مركز حياتها هي الأنانية المتصفة بحالة الجد المستمر. ولكنهما يتفقان في أن خوض غمار الآلام ومكابدة المصائب، ومعاناة النوازل، مما لا محيص عنه لصعود الإنسانية في معارج الشرف ولبلوغ تقدمها غاية الكمال. ويتفقان أيضاً في أن هذا العالم المادي هو ذريعة إلى تلك البغية ووسيلة إلى ذلك المطلب، وأن الفن يجب أن يكون ملتقى الجمال والقوة كما يتفقان في أن فلسفة الأخلاق المسيحية غير وافية لضروريات تقدم الإنسان وتسمنه ذروة الكمال. غير أن نيتشه قدح فيها قدحاً شديداً وانتقدها انتقاداً لاذعاً وصرح بأن المسيحية تدعو إلى (أخلاق العبيد) في حين أن إقبالاً اكتفى بالإشارة إلى أنها غير مفيدة للإنسانية لأنها لا تقدر على إماطة اللثام عن قواها الخفية، ولا على الكشف عن استعداداتها المكنونة، وذلك لأنها تدعو إلى الرهبة وترك العالم. وبناء عليه فدعوة إقبال خلاف ذلك كما قال في بيت ترجمه:

غص في البحر وحرب الأمواج

فإن خلود الحياة في المحاربة

يتفق إقبال ونيتشه في تصور كمال الإنسانية؛ بيد أن نيتشه يراه ممثلاً في سوبرمان (أي فوق البشر) وإقبال يراه في خليفة الله. والفرق الأساسي بين تصوريهما هو أن نيتشه ينكر وجود الله ويقول: (اقتلوا الله! كل شئ مباح. إن الطبيعة والدوافع الطبيعية ليست شراً. ابْعدوا الحياء والكظم! ابْعدوا الأدب والتقيد! إن أخلاق الرجل الحر ستكون الأخلاق المعبرة عن الذات حقيقة)، وعلى هذا فسوبرمان نيتشه محصور في نفسه ومحدود في ذاته، ليس لديه غاية يجري إليها ولا هم يتفرّغ له. وأما الخليفة عند إقبال فحياله الأنانية العظمى، أي الله ذو الرحمة الواسعة، وصاحب العطاء المتصل، فله عنده الدرجات العلى، يجزي بها بما

ص: 49

يسعى؛ ثم سوبرمان نيشته عارٍ عن العاطفة جافي الطبع، شديد الوطأة، لأن روح أفكار نيشته أرستقراطية، فرأى أن حقيقة الكائنات القصوى (إرادة القوة)؛ وقرر أنها هي الدافع الغريزي الأقوى في الإنسان فعليه أن يطلبها، ولكن هذا الطلب غير المشروط كان ينجم عنه نظام القِيَم الذي ظلت الحضارة مشتبكة فيه إلى الآن. فهنا أتى نيشته بفكرة (وراء الحسن والقبح) فإرادة القوة عنده لا تعرف حدود الحل والحرمة، والحسن والقبح، لأن كل شئ مصدره ونهايته قوة، عندها حلال وحسن، وكل شئ مصدر ونهايته ضعف، عندها حرام وقبح، والعقائد كذلك ليست عندها متساوية متماثلة، فالفرق الحقيقي بينها ليس عندها من حيث كونها حقاً وباطلاً، بل من حيث كونها مفيدة وغير مفيدة. وهكذا شعرت أرستقراطية نيشته بضرورة أي تغيير جميع القِيَم، فمثل في أن واحد دور الفيلسوف، والمصلح الأخلاقي، والشارع، وخالق الحضارة الجديدة. وكان في دور ارتقاء أفكاره الأخير شاعراً بمهمته هذه.

فعلى هذا النمط وصل نيشته إلى تصور كمال الإنسانية في صورة (سوبرمان) بازاء عامة الناس الذين هم موضع قنوطه ويأسه. فأنشأ فكرته الجديدة للحضارة بتوزيع الاجتماع الإنساني في طبقتين متناقضتين: ذات أخلاق السادة وذات أخلاق العبيد. وقرر أن الأولى منشأ سوبرمان، وأن لأفرادها وهم الأقوياء حق معاملة أفراد الأخرى وهم الضعفاء بالظلم والعدوان، وإن واجب القوى في شريعة الارتقاء وتنازع البقاء الولوغ في دماء الضعيف وفتح جميع أبواب الجور عليه بكل وحشية، فإن السوبرمان أو الإنسان القوي الكامل الصالح للحياة لا يظهر إلا بتدمير الضعيف غير الكامل وغير الصالح للحياة. وأما طبقة الضعفاء أو (ذوو أخلاق العبيد) كما يسميهم هو فقد خلقوا لأستمال الأقوياء فقط، وهم موضع بأس نيشته، لذلك سد عليهم نيشته جميع أبواب التقدم كما سدت ديانة البراهمة على المنبوذين في الهند.

فلذلك كان تصور الخليفة لدى إقبال خيراً من تصور السوبرمان عند نيتشه، لأن روح أفكار إقبال الديمقراطية الإسلامية فالخليفة عند إقبال شخصية محبوبة إلى جميع طبقات البشر تسعى لخيرهم، وتسبغ من خصب طبعها عليهم وتقربهم إلى نفسها؛ فكلما تتقربوا إليها تتدرج حياتهم في مدارج الكمال؛ وهي تمثل اللين كما تمثل الشدة. وهاتان الصفتان لا

ص: 50

محيص عنهما لتقدم الاجتماع البشري. قال إقبال في بيتين ما ترجمتهما:

اخلق من حفنة ترابك

جسما أوطد من حصن منيع

وليكن في داخله قلب رقيق

كالنهر في جنب الجبل الراسي

إن ما حدا بنيتشه إلى هذه التصورات الأرستقراطية هو خوضه غمار الأدب اليوناني، وهو لم يشعر بأن النظام الاجتماعي اليوناني في هذا الأمر كان ناقصاً. فلو شعر بذلك لم يحسب العبودية كالجزء الضروري للتمدن. فظهور سوبرمانه في الحقيقة على حساب تلك العبودية، وهو يحوز قصب السبق على جهود هؤلاء العبيد، وعلى هذا فشخصيته عند فلسفة إقبال ليست بأكثر من شخصية مستجد

(للمقال بقية) السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي

ص: 51

‌كلمات

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

حياةٌ ولكن الحياة تزول

ودنيا ولكنَّ البقاء قليل

ودهرٌ طويلٌ ماله من نهاية

ولكنَّ فيه العيشَ ليس يطول

وشمسٌ يسرّ الناظرين طلوعُها

ولكن لها بعد الطلوع أفول

وفي كل يوم للنهار إذا أتى

غدوٌّ ومن بعد الغدو أصيل

ربيعٌ ولكن لا يطول زمانهُ

وزهرٌ ولكن يعتريه ذبول

وإن حياة المرء آفةُ نفسه

فإن لم يَغُله الموت فهي تغول

وفي القبر قد تبقى من الميْت أعظم

ومما بناه أرسمٌ وطلول

وما الموت للإنسان إلا ضرورة

فينشأ من جيل تقاعس جيل

يواري الفتى تحت التراب صديقَه

ويدفن في الأرض الخليلَ خليل

كأن الأسى جمرٌ له من لهيبه

ذوائب أصلى نارَها وذيول

كأن فؤادي يستحيل بها إلي

دموع ومن عيني الدموع تسيل

أمامي أرى ماءً نميراً وبي صدى

ومالي إلى الماء النمير سبيل

يبيتُ ابن أرض الرافدين على الطوى

ويشبع من خير البلاد دخيل

وما الأرض بين الرافدين شحيحةُ

ولا الماء يسقي الرافدين قليل

تهون فلول السيف في حومة الوغى

إذا لم تصب نفسَ الكماة فلول

أفكّر في الماضي فلا هو عائدٌ

إليّ ولا عن ناظريّ يزول

ولو كنتُ ممن يؤثرون نفوسهم

لملت مع الأيام حيث تميل

طريقي طريق الصدق لو كان منجياً

فما ليَ حتى الموت عنه نكول

ولي كبدٌ أخشى عليها من الجوى

إذا ما نأى بالظاعنين رحيل

وكم مرّة واريتُ صحبيَ للثرى

على وجه مَن عزُّوا عليّ أهيل

يقولون ما للدهر يقسو بصرفه

عليك ويبغي غِرَّةً ويصول

ومن أنا من دهري فيطلب غِرَّتي

ويغريه بي بعد المشيب ذُحول

أكوّن رائي في الحياة مفكّراً

ولكنَّ رائي في الحياة يفيل

ص: 52

ورب عويصٍ في الحياة أمامه

يظلّ سواءً عالمٌ وجهول

من الدهر تبغي خَلْقَ ذي عبقرية

ولكنه بالعبقريّ بخيل

من الغُرّ أما عقله فهو راجح

يصيب وأما وجهه فجميل

ويعرف من نور السهى ما بجوفها

على أن ما يأتيه منه ضئيل

إذا الشمس ذرّت من وراء حجابها

فللأرض منها غرّة وحجول

أُلام على نَيْلي من الشعر شهرةً

ومَن ذا يعاف المجدَ وهو أثيل

يجيش بصدري الشعر من سورة الأسى

فأشدوا به مستعبراً وأقول

ورب يراع جاء في كف شاعر

بما لم يجئه السيف وهو صقيل

إذا امتلك الذعرُ النفوسَ فجاءة

فأوَّل ما يَلقي الضياع عقول

وإن حياة الشيخ بعد صراعه

وخيبتِه عبءٌ عليه ثقيل

لقد حال مني كل شئ عرفته

سوى ذكرياتٍ لا تكاد تحول

ص: 53

‌الموت

للأستاذ فخري أبو السعود

أيا قادماً تخشَى النفوس قُدُومَه

لأنْتَ صديقٌ في ثياب غريم

قدومُك تحريرُ الأُسارى ولو درتْ

لما أنكرتْك النفسُ يوم قدومِ

كما يُنكرُ الطفلُ الطبيبَ وعنده

له بُرْءُ أسقامٍ ودَمْلُ كلوم

بَلَوْتَ نفوسَ الخلْق من عهد آدم

فأنتَ بها يا موت جدُّ عليم

إذا قسَت الدنيا على مُتعَب بها

بسطتَ له لأْياً جناحَ رحيم

ومن شَفَّهُ قيظُ الحياةِ أغَثتَهُ

بِبَرْد نسيم في الأصيل رخيم

فأنت لِنِضْوِ العيش من دون صحبه

ومن دون قُرباه أُبَرُّ حميم

وأنتَ دواءُ الجسم قد خيلَ داَءهُ

تميط الأذَى عن مُوجَع وسقيم

وأنت بلاغُ النفس حَيْرى مَرُعَةً

بوادي شكُوكٍ جمةٍ وهموم

وفيك ابتعادٌ عن جهالة جاهل

وعن قول مَأْفونٍ وفعل لئيم

وعندك نسيانٌ وطول زهادة

لكل مُراد في الحياة عقيم

فأنت - وإن غُلْتَ المنى - أطْيَبُ المنى

وفيك نعيمُ المرءِ أيّ نعيم

لعمرك ما حَيٌّ بأرْوَحَ منزِلاً

على الأرض من بالٍ بها ورميم

ولو علم الجاني لما جادَ عامداً

على خَصمه بالموت جُود كريم

وتمحو يداك الحقدَ والخوفَ والأسى

وكلَّ بلاءٍ في النفوس قديم

وكلُّ بلاءٍ لم يسِغ طعمَه الفتى

عليه طَوَى بالأمس كشح كظيم

وأنت تُريح الفكر من كلِّ مُعْضِلٍ

يَظَلُّ لَهُ في حَيرةٍ ووجوم

وتطوِي عن الأجفان صفحة عالمٍ

مَليءٍ بأنواع الشرور ذميم

وتطوي كتاب الأمس طياً وما مضى

به من بغيضٍ ذكرُه وأليم

عزاءٌ لبعض الناس أنك قادمٌ

وأن شقاَء العيش غيرُ مقيم

ص: 54

‌المادة

للأستاذ محمود غنيم

فتَّشتُ بين الناس عن زاهدِ

فلم تقع عيني على واحدِ

ما أزهدَ المرَء إذا لم يجدْ

وأبعدَ الزهدَ عن الواجد

لا يُزْهَ إنسانٌ بآدابه

أو يفتخر بالسلف البائد

المجد إما سطوةٌ أو غنىً

ما العاجزُ المعدِمُ بالماجد

فقيمةُ الشعب إذا قستها

بقيمة الصَّادر والوارد

وقيمةُ الفرد بما يملك الْ

فَرْدُ من الطّارف والتَّالد

كم طفلةٍ أوْدَعَ من هِرَّةٍ

حَوَّلها الجوعُ إلى مارِد

قد يُحسدُ المرءُ على رزقهِ

ولا أرى للفضل من حاسد

لم يفتتن بالمكْرُماتِ امرؤٌ

والغانياتُ فتنةُ العابد

العلمُ والأخلاق ما قُدِّسا=إلا لنفع منهما عائدِ

لا يَردَعُ التاجرَ عن غشِّهِ

إلا اتِّقاءُ المتجرِ الكاسد

لم يَخْتَر الناسُ دياناتهم

بل أخذوا بالمذهَب السائد

ليس جمالُ الطبع في غادةٍ

مثلَ جمال اليَدِ والسَّاعد

يا زاعمَ العِّفةِ في حبهِ

ما تبتغي من كاعبٍ ناهد؟

لم يتَّقِ اللهَ امرؤٌ للتقى

بل لنعيم الجنة الخالد

تَيمَت الناسِكَ حُورِيةُ

ذاتُ قوامٍ أهْيَفٍ مائد

تَسقيه كأساً حُلوَةَ الطعم من

خمرِ الجنانِ السيِّغ البارد

لولا جمال الحورِ ما لامَسَتْ

أرضَ المُصلَّى جَبهةُ الساجد

هل كنتَ تلقي في الورى ساعياً

لو كان يسعى الرِّزقُ للقاعد

سِيَّان مَنْ يسعى إلى قُوتِهِ

بالسلْبِ أو بالوَرَع الزائد

كم لحيةٍ أجْدَى على ربِّها

من ألفِ سهمٍ بِيَدِ الصائد

جُرْحُ يد المرءِ لَهُ قائدٌ

وما لجُرح العِرْضِ من قائد

كم مُجرمٍ يقتُل روحاً ولا

يُجزَى جزاَء القاتل العامد

ص: 55

قد يُتركُ الأولادُ من جهلهم

صَرْعى ولا حدَّ على الوالد

صاح دَع الرُوحَ ودع قُدْسها

نحن عبيدُ الجسد الفاسد

ص: 56

‌حمامتي!

للشاعر الإنجليزي (كيتس

بقلم عيسى وهب الله الشمبيري

أظنها من حزنها قد ذوت

ورفرف الموت على وكرها

ويلاه! ماذا ساءها فانزوت

تطفئ بالحزن سنا عمرها

كانت على سيقانها الناعمة

خيوط خز صنعتها يدي

تزهو بها، كالوردة الحالمة

على غُصين مائس أمْلد

جفت وأبلى السقم سيقانها

واحسرتا من سكرات السقام!

يا زهرة أذبل عيدانها

عصف الردى كيف أتاك الحمام؟

قد ضمك زماناً مضى

لم تسعدي فيه بنجوى الحبيب

والآن قلبي وكرك المرتضى

فكيف هدت جانبيك الكروب

والحمص الأبيض كم أشرقت

في ثغرك المحبوب حباته!

والشاعر المحزون كم صفقت

فوق لماك العذب قبلاته!

فَلِمْ هجرت الدار لم تسعدي

بين يدي فيها بعيش مصون!!

لو كان أمر الموت طوع اليد

فديتك اليوم بروحي الحزين!

ص: 57

‌القصص

صور من هوميروس

12 -

حروب من طَرْوادَة

بتروكلوس

للأستاذ دريني خشبة

إن يكن قد أصاب الطرواديين قَر {حٌ فقد أصاب الهيلانيين قَرحٌ مثله.

ذلك أنه ما كاد يغادر نيتيوما حومة الوغى، صادعاً بأمر الإله الأكبر، حتى أفاق الطرواديون وأحلافهم، كما أفاق الهيلانيون من قبل حين غادر الحومة مارس وزبانيته.

أفاق الطرواديون إذن، وصحا زيوس من رُقْية حيرا، فأقسم إلا أن تدور الدائرة على جنودها من شانئ أخيل، وإلا أن يحيق بهم مكر هذا السحر ملأ جفنيه، وغلّق سمعيه، وأطلق أيديهم في أبناء طروادة يضربون منهم كل عنق كريم وكل بنان!!

وما هي إلا أن لم الطرواديون شعثهم، ورتقوا فتقهم، حتى استطاعوا أن يعيدوا الزحف، ويأخذوا أعدائهم المزهوين بنشوة النصر، على غرة منهم؛ ويطّلع سيد الأولمب من ذروة جبل إيدا فيمكن لهم من أبناء هيلاس، ثم يسلط عليهم صواعقه، ويفتح عليهم السماء فتمطرهم بعذاب واقع، ليس له من دونه دافع، إلا أن يُثأر لابن ذيتيس، حبيبة القلب. . . ومنية النفس!

وفزع أوليسيز إلى رمحه. . .

وأجاممنون إلى سيفه. . .

وديوميد إلى صَعْدته. . .

وأجاكس إلى جُرازه. . .

وفزع الجنود إلى أسلحتهم يشحذونها، وإلى دروعهم يلبسونها، وإلى الجياد الصافنات يمتطون صهواتها. . . . وإلى الواقعة فيخوضون خُبارها، ويثيرون عجاجتها. . .

ولكن!. . . بلا جدوى. . .!

فلقد طوردوا حتى بلغوا سيف البحر؛ وضُيّق عليهم حتى نظروا إلى الهزيمة تأخذهم من

ص: 58

هنا وهنا؛ ورأوا إلى هكتور كالأسد الهصور يزلزل الساحة بزئيره؛ ويثير في قلوب جنوده الحمية بافدامه، وأينما توجه الموت في ركابه، وقطرت المنية من سنان سيفه، وانقدح الشرر من حوافر خيله، وتناثر الزبد من أشداقها، فيكون سُماً في قلوب الهيلانيين.

وطرب الطرواديون لهذا النصر المفاجئ، وشاعت الخيلاء في أعطافهم حين أبصروا فرأوا أوليسيز يغادر الميدان متأثراً بجراحه، وأجاممنون يفر بنفسه كأحقر الأجناد، وديوميد محمولاً إلى سفينته كمن يجود بروحه، وأجاكس العظيم يولي دبره غير متحرّف لقتال. . . . فأوقدوا مشاعلهم، وأججوا نيرانهم، واعتزموا إضرامها في أساطيل الأعداء، ليكفوا طروادة شرورهم، وليأمنوا آخر الدهر مكرهم، وليتم نصرهم. . .

وهنا. . . . . . . . . . . . . . .؟!!

انتفض بتروكلوس! بتروكلوس الكبير، صديق أخيل، وأعز الناس عليه، وجذوة الحماسة المتأججة في ضلوع الميرميدون!

لقد نظر بتروكلوس فرأى جموع الهيلانيين تنهزم إلى البحر فتلقى بعتادها فيه، ثم يسبح منهم من يسبح إلى الأسطول الحزين بدا عليه كأنه يرثى لرجاله، ويبكي على أبطاله، ثم يغرق منهم خلق كثير، فيبتلعهم اليم. . . إلى غير عود. . . ونظر فرأى الطرواديين وأحلافهم وعلى رأسهم هكتور الهائل كأنه زوبعة يأخذون أبناء هيلاس غير راحمين. . . ثم نظر أخيراً فرأى إلى حَمَلة المشاعل والنيران يزحفون إلْباً فيكونون غير بعيد من السفائن اليونانية، لو أعملوا منجنيقهم في قذفها لأصبح الأمر غير الأمر، ولأتوا على آخر قوة لبني قومه، ولباء بنو قومه بالفشل العظيم! ولعاد الميرميدون كاسفي البال يحملون إلى هيلاس أنباء مصارع إخوانهم، الذين تخلى عنهم أخيل وجنوده وهم أقصى ما يكونون حاجة إليهم؛ ولكن أخيل لا يرضى أن ينسى الضغينة التي بينه وبين أجاممنون حتى في هذه الساعة العصيبة، فينهض لنصرة إخوانه اليونانيين، وليدفع عنهم هذا البلاء الذي حاق بهم، وليرد عنهم عادية هذه الكلاب التي تنوشهم وتمزق صفوفههم. . . . . . . . . . . .

ورأى يتروكلوس أنه لا سبيل لعودة الميرميدون إلى وطنهم بفرض نجاتهم من نيران الطرواديين، يجرون أذيال الخيبة، ويلملمون أكفان الفشل، فثارت في قلبه نخوة الجندي الباسل، واشتعلت في أضالعه نيران الغيرة من مفاخرات هكتور ومنابذاته التي يملأ بها

ص: 59

السهل والجبل، ثم تفطر قلبه أسى وحسرة على هذه الجموع الهيلانية التي تتدافع إلى البحر. . . . . . فكأنها تفر من موت إلى موت، وتنجو من حمام إلى حمام. . . . . . فذهب من فوره إلى أخيل، واقتحم بابه غير مستأذن؛ وقال:

(أخيل!)

(فتى هيلاس وغَوْثَها في كل رَوْع!)

(يا سليل الآلهة، المترفع عن الدنايا!)

(أرأيت؟!. . .)

(ماذا تتحدث القرون إذا قيل إن الهيلانيين باءوا بالهزيمة، فلم ينهض أخيل لنصرتهم؟ وماذا تحمل إلى هيلاس إذا أُبنا غداً غير أنباء السوء ووقائع تلك النهاية المحزنة؟ وكيف نلقى الأمهات المعولات على أبنائهن؟ وماذا نقول للوطن إذا طالبنا بصحيفة الحساب عن هذا اليوم الأسود الذي بدت بوادره، وأخيل العظيم لا يحرك ساكناً؟ وكيف نتقي نقمة الشعب الذي ندبنا لهذا الأمر إذا خُنا أمانته، وبددنا ثقته، وحطمنا آماله؟ وأين تذهب الشهرة الطويلة التي أحسبنا خدعنا بطراوة العيش فيها والأحاديث الممسولة عنها؟).

(أخيل!)

(بل فكر معي إذا تم النصر لهذه الذئاب الوالغة في دمائنا، هل يكون بحسبها أن تستأصل شأفة هذا الجيش المنهزم، وتحرق سفنه، ثم لا تعتزم غزو هيلاس العزيزة، لتتأثر لهذه السنين السوداء التي أذقناهم طوالها رهق الحياة وخباثة العيش!!).

(ثم أين لوطننا قوة بعد هذه القوى المبعثرة، وأنى له جيش بعد هذا الجيش المُراع، ومن لنا بأسطول يعنو له الموج، وتذل لعزته البحار؟)

(أخيل!)

(أنظر إلى الميرميدون تكاد تقتلهم الحُنْقَةُ على هذه البلادة التي أخمدت سورة الحرب في نفوسهم، وأطفأت جذوة البطولة في قلوبهم. . . أنظر إليهم يكادون يقذفون بجموعهم من سفائنك لنصرة إخوانهم، وليلقوا على هكتور درساً في النزال لا ينساه آخر الحياة!)

(مالك لا يحركك هذا اللظى يا أخيا؟! إن هذا يوم ينسى فيه أمثالك أحقادهم، ويدفنون سخائمهم، ولا يبالون ألف متعسِّف أفاقٍ مثل أجاممنون! إن هذا يوم هو كله للوطن من دون

ص: 60

أيام الدهر جميعاً، فإذا أفلتت فرصته من أيدينا، أفلتت عزة الحياة وكرامة العيش من أيدي الهيلانيين جميعاً؛ ولن يقال في سبب ذلك إلا أن أخيل العظيم قد تقاعس بجنوده عن نصرة الوطن، وفي سبيل إشباع شهوة الخصومة قامر بالوطن، وأبناء الوطن، ومستقبل الوطن!. .)

(إيه يا فتى هيلاس، وحامي ذمارها إذا اشتد بها الكرب!)

(مالك تصمت هكذا كأنك تسمع إلى ألف قرن تناديك، وتضع ثقتها فيك؟!)

(أنا زعيم لك يا فتى هيلاس، أن هذه الجحافل الطروادية سترتد على أعقابها فتكون للهيلانيين الكرّة عليهم إذا رأوْا خوذتك التي تكسف بلألإها شمس الضحى، وشاهدوا هذه الشعرات البيض التي تزين ذؤابتها!)

(أخيل!)

رد على أعز الناس عليك، فالظرف أحرج من المطل، وأقصر من هذا الصمت! والساعة مفزعة مروعة، وإخواننا في الوطن والآلهة يصرخون ويموتون!

(أخيل!)

إن كان يعز عليك أن تحنث في عزمتك التي عزمت، فأذن لي أن ألبس خوذتك، وأمتشق سيفك، وأحل في دروعك السوابغ، ثم أسوق الميرميدون باسمك، فأرد عادية القوم، وأجير إخواننا الهيلانيين!. . . . . . . . .

وكان بتروكلوس يكلم أخيل وكأنما وحي السماء يتنزّل على قلب البطل، بلاغة وحرارةً وقوةً إيمان وثبات يقين، ونفساً تجيش بالحب وأقدس المنى لوطنٍ مصابٍ في أبطاله، منقوصٍ في عزائم بنيه، يتلفَّت من خلف البحار، يرى ماذا يصنع أخيل في هذا الروع، وجنوده الميرميدون!!

وهب أخيل من جلسته الخاملة، وأخذ يدَيْ بتروكلوس في كلتا يديه، وطبع على جبينه المرتجف قبلةً مهر بها صك التضحية في سبيل الوطن الشقي، وقال لصديقه:

(بتروكلوس! أخي! يا أعز جنودي عَليّ!

(أما أن أذهب أنا فأرد هذه الذئاب، فلا! ولكني آذن لك بكل ما أردت من قوة وعتاد، ما دمت تؤثر صالح الوطن، وتحرص على حقن دماء الهيلانيين)

ص: 61

بتركلوس! لا يَدُرْ بخلدك يا صديقي الكريم أنني انتويت أن أغضب غضبةً لا انتهاء لها؛ ولكنني أُمرت أن أنتظر حكم السماء بيني وبين خصمي الذي لم يتورع أن يهتك أمر السماء، فيسلبني ثمرة خلعها رمحي علي، وقدمها لي جيش بأسره. . . هلم يا بتروكلوس فالبس دروعي واسبغ عليك لأمتي، وشرف خوذتي بجبينك، ولأذهب أنا فأعد لك الميرميدون، ولتبرهنوا لناكر الجميل أننا سبب مجده وخير جنده، وذخيرته كلما حز به كرب، أو ألم به خطب

(هلم. . . . . هلم. . . . .)

وانطلق أخيل فصاح بجنوده، فهرعوا إليه في سُفُنِه الخمسين، الراسية بمعزل من سائر الأسطول الهيلاني. . . . وكم كان رائعاً أن يتحرك أسطول أخيل، في أحرج ساعةٍ مرت بهذا الجيش المغير، الذي وقع فريسة كله في قبضة الطرواديين! لقد كان أجاممنون وجنوده ينظرون إلى سفن أخيل؛ وكأنها الخلاص من الموت الذي يلاحقهم، والمنايا التي ترقص فوق هاماتهم، وهي مع ذاك فيما خُيل لهم تزور عنهم، وتشيح عن نجدتهم، لأنهم لؤموا مع زعيمها، وأنكروا عليه ما اعترفت به السماء أنه حقه خالصاً له!

أقلع أسطول أخيل، ولكنه لم يقلع ليفر من واجبه، بل أقلع نحو الشمال ليكون جنده بمأمن، يهبطون إلى الشاطئ من كبسة الصفوف الظافرة، المشغولة باستئصال شأفة الهيلانيين.

وما هي إلا ساعة حتى رسا شمال طروادة، وحتى أخذ سيل الميرميدون ينهمر على شاطئها الشاحب فيملؤه، وكأنهم كِسف من العذاب أرسله نيتيون، رب البحار، من أعماق أليم ليقذف بها في قلوب الطرواديين!

وطفق أخيل يجيشهم، فجعل منهم خمسة جحافل كقطع الليل البهيم؛ فكان على رأس الجحفل الأول البطل الحلاحل، والقائد المناضل، منستيوس بن سبرخيوس، ابن السماء وصاحب العزة القعساء.؛. وعقد لواء الجحفل الثاني لابن هرمز المقدام، الفتى يودوروس، الذي طالما كان جزعاً في فؤاد الردى، ووجلاً في قلوب المنايا!!. ووضع على رأس الجيش الثالث القائد بيزاندر، ابن ميمالوس، صفي الآلهة وهبة الأولمب. وأقام على الجيش الرابع صديقه فونيكس، الذي آثر البقاء إلى جانب أخيل حين أقبل مع أوليسيز وأجاكس، يفاوضون في الصلح من قبل أجاممنون؛ أما الجيش الخامس فقد عقدت رايته لابن ليرسيز،

ص: 62

الكميدون العظيم، أخي الغمرات وصاحب الثارات.

أما بتروكلوس! فقد أقدم يتخايل فوق عربة أخيل، يجرها جواداه الأشبهان، إكسانثوس وبليوس، أعز خيل زفيروس، وأحب دوابه إليه، ولقد كان مظهره الوقور يبعث الروع في النفوس: فهذي خوذة أخيل تتألق فوق هامته، والريح العاصف تداعب شعراتها فتجعل منها بركاناً يقذف الحمم. وهذي دروع أخيل سابغة فوق الصدر والفخذين والذراعين، كأنها لبدٌ نبتت فوق حيدْ جبل شامخ ينطح السماء برَوْقيه.

وتقدم أخيل فصافحه، ومنحه شرف القيادة العامة، وخطب الجنود فقال:

(إيه أيها الميرميدون! هذا يومكم!

لقد كنتم تنظرون إلى الساحة، وبكم من الظمأ إلى اقتحامها ما لو أن بعضه بكم الآن لزلزلتم الجبال وخرقتم الأرض؛ ولقد كنتم تعذلونني فتقسون علي في أني أحتجزكم هنا ووقفت في سبيلكم دون نصرة إخوانكم، فها هو الميدان أمامكم فاشفوا صدوركم وأنقذوا أجاممنون مما حاق به، ولا يجرمنكم شنآنه ألا تغيثوه، أغيثوه فنصره عز لكم؛ شد الإله أزركم، وباركت الأرباب أسيافكم، وأحبت مجد الوطن بما أنتم قادمون عليه؛ سيروا على بركة زيوس، وفي حمى حيرا، وعين ميزفا تكلؤكم).

وانطلق الميرميدون فانطوت الأرض من تحتهم، ورجف الوادي رجفة أجفل منها السهل والجبل؛ إذ كانوا ينسابون فلا يربعون على شئ، ويتدفقون فما تحجزهم لابة، ولا يعوقهم جُرفُ، وتسجد من دونهم حزون الأرض وآكامها.

وانتظم خميسهم؛ فبرز القلب تتبعه الميمنة، تلقاءها الميسرة؛ وهرول الجناحان فأخذا السبيل على جحافل الطرواديين.

ونفخ في البوق فانقض الميرميدون على مؤخرة الأعداء الظافرين، فبدّلو نشوة ظفرهم بأنكر من سكرة الموت، وانطفأ في أبصارهم بريق النصر فكان أغطش من ظلام الهزيمة؛ ونظروا فرأوا تلك الخوذة المذهبة التي طال عهدهم بها، وحسبوا أنهم أصبحوا بنجوة منها: خوذة أخيل التي كانت تكفي وحدها لإلقاء الرعب في قلوب الطرواديين، وقذف الوجل في نفس كل منازل أو مناجز.

وتصايح بعضهم ببعض: (يا للهول يا صاح! لقد أقبل أخيل! النجاء النجاء! أين كان

ص: 63

الطاغية؟. . . . . .) ثم تنادوا يحذر بعضهم بعضاَ: (أي أيها الطرواديون! خذوا حذركم! الفرار الفرار من الداهية الجبار! لقد قطع الميرميدون رجعتنا! دعوا الهيلانيين وانشدوا خلاصكم، إلى البوابة العظمى! أيها المقاتلون! لا تزحموا الجسر! القهقري القهقري!. . . . . . (إلى أخر هذا النداءات المنزعجة الواجفة. . .

ولكن أين يهرب الطرواديون من بتروكليس؟!

لقد كان إكسانثوس وبليوس - الجوادان الكريمان - زوبعتين مُغْضَبتين، تثيران الرهج وتعقدان العجاجة، في جميع أنحاء الميدان: في القلب، في الميسرة، في الميمنة، في الجناح الأيسر، في الجناح الأيمن. . . . . . بل. . . في السماء!!

وكانت الشمس، شمس طروادة الملتهبة، تعكس أضواءها على خوذة أخيل، فتذهب أفئدة الطرواديين!

واختلط نظام القوم، وتدافعت جموعهم مذعورة مولية نحو الجسر الكبير، الذي نصبوه فوق الخندق حول اليوم. ولم يحتملهم، فهوى بالألوف المؤلفة في جوف الخندق؛ ولكن المؤخرة، وكانت غالبية الجيش، لم تنتبه لما حل بأكثر المقدمة وكذلك تدافعت لا تلوي على شئ، فجعلت من جثث الموتى قنطرة تعبر فوقها إلى. . . طروادة!!

وأخذ الميرميدون السبيل على كتائب كثيفة فأبادوها، ثم جال بتروكلوس جولة هنا وجولة هناك، يبحث عن أصحاب النداءات المنكرة التي كانت تملأ الساحة شماتة بالهيلانين، منذ لحظات، فلقي منهم برنوس فصرعه، ثم ثستور فجند له، ثم اريالوس فأرسل به إلى الجحيم، وعشرات غيرهم من بني طروادة النجب.

وكانت أعز أمانيه أن يلقى هكتور؛ فسعى إليه وضيق الحصار عليه، وأرسل إليه طعنة لو أصابت جانب الجبل لصدعته، ولكن، يا لهكتور!! لقد ريع من هول ما رأى من مقاحمة بتروكلوس، فألهب جياده الضاريات فعدت به وأنقذته من قتلةٍ محققة وموت مبين.

ولشد ما شده بتروكلوس إذ رأى إلى جانبه فتى هيلاس، ومحاربها الصنديد أجاكس، يقود فلول الهيلانيين، ويقتحم بهم الحلبة كرة أخرى!؟ غير مبال بجروحه التي يتدفق من أفواهها الدم صبباً.

وكم كان سرور الهيلانيين عظيماً حين استيقظوا من سكرة هزيمتهم فرأوا جنود أخيل

ص: 64

الأنجاد يذودون عنهم، ويردون عادية الموت والقتل والغرق عن جموعهم!؟

ونشبت ملاحاة بين بتروكلوس قائد الميرميدون، وساربيدون البطل الطروادي الكبير، أدت إلى مبارزة دامية، وانتهت إلى فجيعة طروادة في أشجع فتيانها بعد هكتور! إذ شكه بتروكلوس شكة جرعته غصة الردى، وقربت إليه ورد الحمام!!. . . . .

وانكشفت غمة الهيلانيين

ولكن الميرميدون هم الذين دفعوا ثمن هذا النصر، ودفعوه غالياً وعزيزاً!! يا للهول!

لقد قُتِل بتروكلوس!!

فمن لك بعده يا أخيل!!

(لها بقية) دريني خسبة

ص: 65

‌رحلة إلى حدود مصر الغربية

مرسى مطروح، سبوه، السلوم

للأستاذ الرحالة محمد ثابت

وللقوم عادات عجيبة في الأفراح، فإذا ما تم الاتفاق على المهر وقدره ستة ريالات (ومن هنا جاءت الأغنية القديمة: بستة ريال بابا جوزني) تعهد به الزوج على أن يدفع عند حلول أحد الأجلين الموت أو الطلاق، ثم يقدم قطعاً من القماش، وفي ليلة الزفاف يدعى الأحباب إلى الطعام، ويطوف عليهم خلال ذلك كشف بأسمائهم، فيتبرع كل منهم بما تجود به نفسه، وقد شهدت فرحاً اكتتب المدعوون فيه بأربعين جنيهاً، وذلك الاكتتاب يعد ديناً عليه يؤديه كلما دعي في أفراحهم؛ وجل تكاليف الفرح تقع على عاتق أهل الزوجة؛ وفي ليلة (الحنة) تمشط رأس العروس في حفل كبير يحضره نساء من الفريقين وتلبس حلي ثقيلة من فضة، تكاد تغطي جسمها كله، والعجيب أنها مقترضة من الغير فلا يجوز لها أن تلبس حليها الخاصة إلا بعد الزفاف، وتلك الحلي المقترضة ترد لأصحابها بعد الزفاف بأيام؛ وفي ليلة الزفاف يقوم بين الفريقين شبه شجار ومشادة يشترك فيها نساء الفريقين، طائفة تحاول أخذ العروس بالقوة، والأخرى تحاول منعها، وعند بزوغ الفجر تخطفها إحدى السيدات وتجري بها إلى بيت الزوج، وبعد أن يدخل الزوج بها يظل الثلاثة الأيام الأولى نافراً من أهله وصحبه، يخرج قبيل الشمس ويظل في الحقول إلى المساء لكيلا يراه أحد منهم، وفي ذلك شئ من التأدب والاحتشام لا بد منه! ثم يعد أهل العروس صحافاً من طعام (الرقاق) أو من العدس والحمص يسمونه (أطقاع) يحمل إلى بيت الزوج، ويحاول أهل الفريقين أن يتخاطفوه في الطريق، فإن وصل إلى الزوج سالماً أكله وإلا التهمه الناس في الطريق تيمناً. وفي صباح اليوم الأول من الزفاف (الصباحية) يعد أهل الزوج (شجرة العرس) وهي من جمار (لباب) نخلة طيبة تخرط في شكل أنيق وفي طول العروس تم تزين بالأعلام وسائر أنواع الفاكهة، وتعلق عليها الحلي الفضية التي كانت قد اقترضتها الفتاة، ثم تحمل تلك الشجرة وسط حفل يكاد يحضره كل أهل البلدة، ويطاف بها في الطريق إلى أن تصل بيت العروس، وهناك تقوم وسط البيت أياماً وكأنها عروس قامت تعوضهم عن فتاتهم، وإذا ما قاربت اليبس قطعت وأكل منها المحبون، وبخاصة الفتيات

ص: 66

اللواتي يرغبن في الزواج تيمناً وتبركاً؛ وإذا ما رزق الزوجان مولوداً سارع المحبون بتقديم قطع من قماش أبيض إن كان المولود ذكراً أو قماش ملون إن كانت أنثى، وقد تبلغ تلك القطع بضع مئات تسد حاجة الطفل من الملابس شطراً كبيراً من عمره. وإذا مات الزوج عكفت الأرملة في معزل من الناس جميعاً لتقضي عدتها وقدرها ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وفي صبيحة اليوم الأخير تخرج لزيارة قبر زوجها، والويل لمن لاقاها في طريقه إذ ينصب عليه نحسها، لذلك ينبه الناس بعضهم بعضاً ألا يخرجوا في الصباح لأن (الغولة) ستكون في طريقها إلى المقابر؛ وقد يطوف بالنبأ مناد ينبه الناس، وبعد عودتها تقصد إحدى العيون (عين طموس) فتغتسل فيها، فإن اتفق أن لاقاها شخص أصابه نحسها كله، وإلا استأجر أهلها فقيراً يلقاها ليرفع عنها وصمة النحس، وبعد ذلك تسير حرة ولا ضير على من لاقاها أو تحدث إليها أو رغب في زواجها. وعادة الندب ولطم الخدود شائعة لديهم، ومقابرهم متجاورة، إلا من اشتغل بالذبح (القصابون)، أو بعصر الزيتون، فهؤلاء يدفنون في أماكن نائية، فكأنهم من المنبوذين.

ومن أشهى الأطعمة لديهم (لِمْصَفَّة) وهي مزيج من القرع والطماطم واللحم والزيت، ثم (إنْقطة) وهي فطير بالزيت والعجوة، وكل غذائهم بالزيت، ولا يكادون يعرفون (السمن) قط؛ وأحب المشروبات عندهم (اللقبي) يتخذ من عصارة لباب النخيل، وذلك بأن يكشف عن لباب النخلة وتجرح وتوضع تحتها آنية يتجمع فيها السائل، وقد تدر النخلة منه صفيحة كبيرة (4 جالون) في اليوم الواحد، وتظل تعطي النخلة هذا القدر زهاء نصف عام، ثم تموت، لذلك تراهم لا يأخذون من النخيل الجيد إلا القليل كل يوم لكيلا يؤثر ذلك على حال الشجرة فيضنيها. وطعم ذلك الشراب وهو طازج حلو لذيذ، لكنه إذا ترك قليلاً تخمر فأصبح مسكراً قوياً، وهم يشربونه متخمراً، وبعضهم يدمن تناوله.

ويدهشني تقاعد الناس هناك عن استغلال موارد تلك الواحة الغنية، فالأرض المنزرعة محدودة جداً وهم لا يحاولون زيادتها رغم وفرة المياه وسهولة الري فيها، وحتى البساتين لا تلقى من عنايتهم إلا القليل رغم أن المنطقة جد صالحة لسائر أنواع الفاكهة والزيتون والحبوب، وقد تمثل الفرق أمامي مجسماً بين الناس هنا وبين أهل (الواحات الخارجة) فهم هناك يستنبتون الحبوب وبخاصة الأرز والقمح والشعير بكثرة هائلة، وينتجون غلتين في

ص: 67

الأرض الواحدة كل عام، ويعنون بتسميدها ولا يفتأون يوسعون المساحة المنزرعة يوماً بعد يوم وينقبون عن ينابيع جديدة؛ أما أهل سيوة فمتواكلون قانعون حتى ملاك الأراضي يتركونها لطبقة العمال (الزجالين) ولا يكاد المالك يزور بستانه مرة كل أعوام. وعندي أن الحكومة لو أوفدت طائفة من (الصعايدة) وأقطعتهم مساحات في مجاورة الينابيع في سيوة لكان لتلك الواحة شأن آخر في الإنتاج خصوصاً وأن الطرق المعبدة الجيدة تربطها بالسلوم وبمطروح والسيارات تقطعها في أقل من عشر ساعات.

قمنا نودع سيوة عائدين إلى مطروح، ثم أقلتنا إحدى الطوافات وكانت أجمل البواخر وهي (الأميرة فوزية) إلى السلوم فقضينا يوماً كاملاً ونحن نسير إزاء السواحل المصرية الوطيئة.

وفي باكورة الصباح دخلنا خليج السلوم الذي حاكي (الحويصلة) في تقوسه ورسونا على شاطئه الرملي فأشرفت الجبال من ورائه في طوق هائل أظهر لنا متعة الموقع من الناحية العسكرية؛ وتلك الجبال هي حافة الهضبة الصحراوية الداخلية التي تؤدي إلى الحدود الطليانية وارتفاعها 190 متراً. وما كادت الباخرة ترسو حتى تهافت أهل البلدة عليها في جموع لا حصر لها من سائر الطبقات، وكانت تبدو عليهم علائم الفرح والسرور لأنها تحمل إليهم مؤونتهم من الطعام والخضر والفاكهة وحتى الماء لأن موارد ماء الشرب هناك معدومة تقريباً، فالباخرة تملأ لهم مستودع الماء الذي منه توزع على الموظفين يومياً بمعدل (صفيحة واحدة) لكل فرد، وإن اعوزهم الماء بعد ذلك أتموا حاجتهم من المياه المكثفة من البحر وقد قامت الآلة المكثفة (كندنسر) على حافة الماء. على أن ماءها رغم نقاوته غير صحي لخلوه من المواد اللازمة للجسم التي لا يخلو منها ماء الشرب عادة.

ويوم وصول الباخرة عندهم هو يوم (الملوخية)، لأن الناس جميعاً يطبخونها لأنها أسرع الخضر تعرضاً لليبس والعطب، ولقد خلقت الباخرة جو عمل وحركة غير عاديين وسط تلك الجهات الساكنة، فقد تهافتت سيارات النقل والحمالون وبدأت العربات المعلقة الهوائية تشحن حاجات الجيش المعسكر فوق المرتفعات، فترى العربات تجري معلقة على الأسلاك إلى قمة الجبل ثم تعود فارغة، وحتى زوارق صيد الإسفنج تبتاع ماء الشرب لها من الطوافة؛ والمنطقة غنية جداً بالإسفنج الجيد وأصحاب امتياز صيده طائفة من اليونانيين

ص: 68

يفدون من بلادهم في موسم الصيد ومعهم زوارقهم، وهم لا يفهمون من العربية شيئاً قط. أما أهل السلوم فمن فقراء الأعراب يعيشون عالة على الموظفين أو خدماً لهم، وترى خيامهم القليلة مبعثرة في سفح الجبل، وهم يحصلون على مائهم العذب بطريقة عجيبة بسيطة، فهم يحفرون الرمل بجوار البحر إلى عمق نصف متر فينز الماء ويملأ الحفرة ماء لا بأس بمذاقه، وهم في فقرة مدقع وبؤس مبيد خصوصاً بعد أن اجدبت منابت الشعير إجداباً تاماً هذا العام. ولقد أثر ذلك في حالتهم الصحية والخلقية تأثيراً سيئاً؛ وتلك فئة جديرة بعطف ذوي البر، وقد تبرعت لهم الحكومة ببعض الغلال ويا حبذا لو ضاعفت إحسانها فحفظت طائفة من سكان مصر من أن يلقوا بأنفسهم إلى أحضان الطليان في حدود طرابلس مستسلمين كأسرى البال؛ ونساء العرب هناك سافرات لهن جمالهن الخاص في أرديتهن الحمراء، وعند زواج إحداهن يجتمع الناس لتقدير المهر ويبدأ بنحو خمسين جنيهاً، ثم لا يفتأ يتدخل شيخ منهم ويقول (وعشان خاطري) فينزل المهر إلى أربعين. ثم إلى ثلاثين، وهكذا حتى ينزل إلى خمسة جنيهات. ويكاد الفرح يقصر على حفلات الرقص، ولهم حركات في غاية الرشاقة والخفة، وجل الرقص يوقع وفق تصفيق الجماهير؛ ويغلب أن تكون الراقصة ويسمونها الحجالة من الأوانس اللاتي يرغبن في الزواج، وهي ترقص وعلى وجهها قناع، وليالي الفرح أربع، وفي ليلة الزفاف تحمل العروس على جمل تحت هودج يسمونه (كرمود)؛ ويمسك بالخطام الفتيات البكر تفاؤلاً ويقتادها إلى بيت الزوج. ومن عاداتهم أن الفتاة إن طلبها أحد ذوي قرباها فضل على غيره حتى ولو لم يكن كفؤاً لها، وإن حصل ما يخالف ذلك فرضت على المعتدي الدية التي يختلف قدرها باختلاف مكانة الفتاة.

حدث مرة أن أجمل فتاة في قبيلة المعابدة هناك طلبها كل فتيان قبيلتها فرفضت لأنها كانت تحب فتى من قبيلة أخرى، وذات ليلة دبر ذلك الفتى أمر اختطافها، فكانت الدية ألف جنيه. والعجيب أن سائر رجال القبيلة لابد أن يتعاونوا على جمع تلك الدية ودفعها وإلا لحقهم العار ولزمهم الحق جميعاً، وأنت إذا مررت على (خيشة) من خيامهم وحييتهم وجب أن تعرج لتشرب الشاي. ولا بد من تقديمه ثلاث مرات: الأولى شايها ثقيل أسود مر لا يوضع به سكر قط، والثانية أخف منه وأحلى، والثالثة يقدم شايها وكأنه العسل وغليه النعناع،

ص: 69

ويدور السقي إلى اليمين مهما كان من أمر الجالسين؛ وهم يدمنون الشاي إدماناً أثر على صحتهم ولو أنه أفاد من ناحية التطهير ضد بعض الأمراض.

وإذا اعتدى أحدهم على غيره وأصابه بسوء أرسل المصاب إلى (التَّطَّار)، وهو يقابل الطبيب الشرعي عندنا لتقدير الدية، وقوله نافذ على الجميع، وتلك الدية تسمى (كبارة)، والقاتل لا يقتل في عرفهم متى دفع الدية التي يقضي بها المحكمون، وهي حوالي مائتي جنيه في العادة، ويتعاون كل أغنياء القبيلة على دفعها.

طفنا ببلدة السلوم فإذا بها قرية شبيهة بمطروح في نظام بيوتها البيضاء الوطيئة، على أنها تفوقها وحشة، إذ يشعر الواحد فيها بأنه في معزل عن العالم. تسلقنا المرتفعات في طرق لياتها من الأعاجيب، وكلما علونا بدا مشهد خليج السلوم رائعاً بديعاً، وفوق الهضبة زرنا المعسكر وتوابعه في أبنية بالحجارة، فاخرة الإنشاء، لم أكد أصدق أنها أقيمت لجنودنا المصريين، وهنا تعسكر أورطة مصرية بكامل رجالها ومعداتها، وتشرف على الخليج إلى جانب المسكر طابية قديمة أسسها عصمت التركي سنة 1322، وعليها الطغراء العثمانية، ويشغل القسم الأكبر منها اليوم السجن. ولقد أخذنا نشق تلك الصحاري المجاورة، ومررنا ببعض الآبار الرومانية القديمة، ومن أكبرها بئر وعرة نزلناها فإذا بها تجويف في الصخر الهائل، له شعاب ممدودة تحت الأرض فإذا ما أمطرت السماء سال الماء إليها خلال فتحات ضيقة وترشحت أوساخه مع الرمال الراسبة واستقى منها الناس. ثم سرنا حتى وصلنا الحدود الطليانية، وهم يمدون على طولها أسلاكاً شائكة. وزرنا طابية (مساعد) التي كانت لهم وتنازلوا عنها لمصر عند تحديد التخوم بعد أن أخذوا هم جنوب وما جاورها، وتركوا لنا تلك الطابية ومسافة قدرها زهاء عشرة كيلو مترات حول السلوم. وعجبت جداً لما لم أجد من الاستعداد لدفع طوارئ الهجوم على تلك الناحية المكشوفة من حدودنا، فعدد الجنود غير كاف ولم يزودوا من الأسلحة بشئ يدفع عنهم أذى، وحتى معسكر المدفعية رأيته يضرب خيامه أسفل الخليج بعيداً عن المرتفعات، لذلك يوجس الناس هناك خيفة هجوم العدو بين يوم وآخر. فهلا اهتمت وزارة حربيتنا بأمر تحصين ذلك الركن الهام من حدودنا فأمنتنا أخطاراً جسيمة وألقت شيئاً من مسئولية الدفاع عنا على عواتق أبنائنا المخلصين.

قمت من السلوم عائداً إلى الإسكندرية في الطوافة، وكان أجرها زهيداً جداً، إذ للموظفين

ص: 70

جميعاً أن يدفعوا ربع الأجر فقط، والأجر الكامل للذهاب والإياب خمسة جنيهات في الدرجة الأولى، وبتنا فيها ليلتين، ثم دخلنا الإسكندرية في باكورة الصباح.

محمد ثابت

ص: 71

‌البريد الأدبي

مشاكل الشرق الأقصى - كتاب طريف عنها

في العهد الأخير لفتت مسائل الشرق الأقصى أنظار العالم؛ وأثار توغل اليابان في الصين في بعض الدول التي تهتم بمجرى الحوادث في الشرق الأقصى شكوكاً ومخاوف جديدة، وأبدت اليابان رغبتها جلية واضحة في الاستئثار ببسط نفوذها على الصين ومقاومة النفوذ الأوربي، وما تزال مشكلة الشرق الأقصى جاثمة في الأفق تثير اهتمام السياسة الأمريكية، والسياسة الروسية، والسياسة البريطانية؛ وقد صدر في أمريكا أخيراً كتاب عنوانه (سحب الحرب في آفاق الشرق الأقصى). بقلم المحامي توم إيرلاند، تناول فيه المؤلف مسائل الشرق الأقصى بإفاضة، وذهب فيه إلى رأي جديد لا يبدو أنه متفق مع اتجاه السياسة الأمريكية الحاضرة. وخلاصة هذا الرأي هو أن أمريكا يجب أن تنفض يدها من التدخل في مسائل الشرق الأقصى، وأن تترك الصين لمصايرها؛ ويستند المؤلف في عرض رأيه إلى ما يأتي:

(1)

أن التجارة الأمريكية في الشرق الأقصى لا تبرر هذا التدخل من حيث أهميتها.

(2)

أن أمريكا مضطرة إلى إنشاء أسطول ضخم تكون نسبته للأسطول الياباني كنسبة 5 إلى 3، إذا أرادت أن تتدخل لمقاومة اليابان تدخلاً فعلياً، وهذا يكلفها نفقات باهظة.

(3)

وحتى لو سلمنا بأن في استطاعة أمريكا أن تنشئ مثل هذا الأسطول فإنه لا يفيدها كثيراً، بعد أن فرطت في جزائر الفيليبين، وأصبح من المتعذر أن تتخذ منها قاعدة بحرية للعمل في المحيط الهادي.

(4)

أن اليابان سائرة في طريق التوسع، ومن حسن الحظ أنها وجدت في منشوريا (منشوكيو) مجالاً لنشاطها، وفي ذلك ما يدفع تيار الخطر الأصفر عن أمريكا.

وقد أريد بهذا الكتاب أن يصدر قبيل انعقاد المؤتمر البحري إذ ينتظر أن تطالب اليابان فيه بزيادة نسبة أسطولها نظراً لما تتطلبه حماية أملاكها الجديدة، ولأن أمريكا ما زالت تطالب في الصين بسياسة الباب المفتوح، وهي سياسة عتيقة أضحت لا تبررها الظروف.

ويقرن المؤلف عرضه بإحصاءات ووثائق اقتصادية كثيرة عن نشاط مختلف الدول ذات المصالح في الشرق الأقصى، وإحصاءات عن نفقات الحرب، وعن القوى البحرية، وسير

ص: 72

المهاجرة، وسير المواليد، ويثبت فيه كل المعاهدات التجارية، ويتحدث طويلاً عن سياسة روسيا ونشاطها. والكتاب بموضوعه وتدليله يعتبر وثيقة هامة في التاريخ السياسي والاقتصادي المعاصر.

محنة الصحافة الألمانية في ظل الإرهاب الهتلري

من أنباء برلين الأخيرة أن جريدة (كرويتس تسيتونج) الشهيرة (جريدة الصليب) قد احتجبت واختتمت حياتها الصحفية الحافلة. وقد كانت (الكرويتس تسيتونج) من أعظم الصحف الألمانية وأقدمها، وأعرقها في الهيبة السياسية؛ وقد أنشئت سنة 1848 لتكون لساناً للحزب المحافظ الذي أنشأه البرنس بسمارك عميد السياسة الألمانية في القرن التاسع عشر؛ وكان شعارها منذ نشأتها العبارة الشهيرة الآتية:(إلى الأمام مع الله، في سبيل الملك والوطن. نحن الألمان نخاف الله، ولا نخاف شيئاً آخر في العالم)؛ وكان هذا الشعار ما يزال يطبع في صدر الصحيفة حتى أيامها الأخيرة أعني حتى 31 أكتوبر المنصرم وهو آخر أيام حياتها؛ وكانت عند نشأتها تسمى (نوية برويسشه تسيتونج) أو الجريدة البروسية الجديدة، وقد اختطت لها منذ نشأتها نزعة بروسية محافظة تعبر عن آمال العسكرية والأرستقراطية وكبار الملاك؛ وتظهر صباحاً ومساءً في حجم كبير وتفوق في الانتشار معظم جرائد برلين الكبرى مثل التاجبلات وجرمانيا، والدويتشه الجمينة وغيرها؛ وكانت ما تزال حتى العهد الأخير تتمتع بمركز حسن وذيوع لا بأس به؛ ولكنها كانت تعاني منذ قيام الحكم الهتلري صعاباً جمة في التعبير عن آرائها؛ وكانت من الجرائد القليلة التي لم تقبل أن تخضع لأغلال النازي ونظرياتهم؛ وقد كان مصيرها الإغلاق والمصادرة منذ بعيد لو لم تكن تتمتع بتأييد نفوذ بعض الهيئات العسكرية والمحافظة القوية؛ ولو لم تكن تعتبر أثراً من آثار منشئها بسمارك. بيد أنها رأت أخيراً أنها لا تستطيع المضي في رسالتها تحت تأثير الضغط والوعيد الذي يفرض على الصحافة الألمانية في العهد الجديد، ولهذا آثرت الاحتجاب من تلقاء نفسها. وهكذا تختفي الصحف الألمانية الكبرى واحدة بعد الأخرى وتنحط الصحافة الألمانية تباعاً إلى عداد صحف الدعاية الحزبية. وباختفاء (كرويتس تسيتونج) ينهد ركن متين من أركان الصحافة الألمانية العريقة، وتسجل ضحية صحفية جديدة لحكم الإرهاب السائد في ألمانيا.

ص: 73

مدينة للسينما في إنكلترا

كانت الأفلام الأمريكية قد اكتسحت بلدان العالم، وكادت الصناعة السينمائية تصبح وقفاً على أمريكا وعلى هوليوود مدينة الكواكب الشهيرة؛ ولكن كثيراً من الأمم تنبهت إلى هذا الخطر الذي يهدد صناعتها وثقافتها المحلية، فنهضت تنشئ لها صناعة سينمائية خاصة، وكانت بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا وإيطاليا في مقدمة هذه الدول، فشجعت صناعة الأفلام القومية، ووضعت قيوداً مختلفة على عرض الأفلام الأجنبية. وقد قرأنا في البريد الأخير أن إنكلترا قد بدأت بإنشاء مدينة خاصة للصناعة السينمائية على نمط مدينة هوليوود الأمريكية. وموقع هذه الضاحية الفنية في دنهام من مقاطعة بوكنهام شير حيث تكثر المناظر الطبيعية البديعة؛ ومساحتها مائة وخمسة وستون فداناً من الأرض؛ وتبنى فيها الآن أبهاء التصوير (ستديو) بإشراف المهندس والرسام جاك أوكي، وستكون أعظم أبهاء من نوعها في القارة الأوربية، وهي ثمانية سيكلف صنعها 400 ألف من الجنيهات، وسيكون في كل منها مسرح مجهز بالألوان لا يضارعه أي مسرح في أمريكا، وسيجهز بمولد كهربائي يكفي لإنارة مدينة كبيرة.

وينتظر أن ينفق نحو مليوني جنيه سنوياً على صناعة الأفلام في دنهام، وأن تخرج كل عام 24 فلماً من الأفلام العظيمة، وستشترك في العمل فيها شركتان أمريكيتان كبيرتان إلى جانب شركات لندن الكبرى، وينتظر أيضاً أن يهرع إليها عدد كبير من نجوم هوليوود.

ولم ينته إلى اليوم من المدينة السينمائية العظيمة سوى الهياكل الحديدية، ولكن المنظور أن تنتهي بعد بضعة أشهر؛ وتحتوي الأرض المختارة على غابات وأشجار ورياض وأنهار وشواطئ بديعة؛ وستنشأ بها مكاتب ومطاعم وفنادق وكل ما يجب لتوفير الوقت والرفاهة لساكنيها من نجوم وغيرهم.

مجمع اللغة العربية الملكي

تقرر أن يبدأ مجمع اللغة العربية الملكي دورته القادمة في يوم الأربعاء 20 من شهر شوال سنة 1354 الموافق ليوم 15 من يناير سنة 1936، وقد أرسلت سكرتارية المجمع رقاع الدعوة إلى الأعضاء في مصر وفي الخارج. وقد استأنفت لجانه أعمالها بعد فترة الصيف؛

ص: 74

وقد انعقدت مساء يوم الجمعة الماضي بدار المجمع لجان الآداب والعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية؛ وستوالي جميع اللجان اجتماعاتها لتعد ما سيجري البحث فيه في الدورة المقبلة، وقد استدعت اللجان بعض الخبراء الفنيين للاستعانة بهم في دراسة المصطلحات العلمية. هذا وستعجل إدارة المجمع بإصدار الجزء الثاني من مجلته تمهيداً لإصدار الجزء الثالث منها، بحيث يكون الجزءان بين أيدي الأعضاء في مفتتح الدورة المقبلة.

ذكريات عن أكابر الكتاب

ظهر في لندن أخيراً كتاب طريف عنوانه: (الصلات) بقلم المستر كورتس براون. ومستر براون ليس كاتباً بمهنته، ولكنه من أكبر (وكلاء الأدب) في إنكلترا، وله صلات وثيقة بمعظم الكتاب الإنكليز؛ وقد تعاقد مع كثيرين منهم على حقوق كتبه. ويعرف مستر براون جيل الكتاب المنصرم معرفة وثيقة، ويعرف الكثير عن أحوالهم وعاداتهم ومشاربهم، وأساليبهم في التفكير والكتابة؛ وقد وضع كتابه المشار إليه متضمناً ما يعرفه عن كثيرين من أقطاب الكتابة في أواخر القرن الماضي مثل توماس هاردي، وهول كين، وجورج مور، والسير كونان دويل، ولورانس وغيرهم. وكتب أيضاً عن بعض الكتاب الهواة مثل مستر لويد جورج واللايدي اسكويث وغيرهما. ونستطيع أن نستخلص من قراءة هذا الكتاب حقيقة مدهشة هي أنه وإن كان هؤلاء الكتاب يشتغلون دائماً بعالم التفكير والخيال، فإن بنهم رجالاً يحسنون فهم الأعمال التجارية والمالية، ويحرصون على مصالحهم المادية حرصاً عجيباً. بيد أن الكاتب يروي لنا أيضاً أن بعض هؤلاء الكتاب كان يفرط في حقوقه المادية تفريطاً مدهشاً، ويضرب لنا مثلاً بتوماس هاردي، ويقول لنا إنه لم يتقاض عن حق تأليف روايته الشهيرة:(تحف شجرة الغابة الخضراء) سوى ثلاثين جنيها!

ص: 75

‌الكتب

1 -

البُحَاثة اللغوية

عن قاعة البحث اللغوي بدار العلوم

2 -

القبس للإنشاء العربي

تأليف:

محمد رزق الدهشان - مدرس بالمدارس الثانوية

عبد الغني الصاوي - مدرس بالمدارس اثانوية

للأستاذ محمد سعيد العريان

في دار العلوم اليوم نهضة موفقة، يساهم فيها الشباب والشيوخ من أبناء هذه الدار التي قامت على العربية ستين عاماً، فأحسنت القوامة، ورعت الأمانة، وأدت حق العلم وحق اللغة أوفى أداء، وأثرت تأثيرها المبارك فيما ينتج الشعراء والكتاب من أدباء هذا الجيل؛ وهي نهضة حكيمة، بادية النشاط، بادية الأناة، تسير على سننها في رفق وقوة، وتمضي إلى غايتها في حماسة ووقار؛ فمن ثم لا تحاول أن تنسلخ جملة من ماضي التاريخ، وهي تأبى كذلك أن تصمّ أذنيها عن دعوة إلى الابتكار والتجديد.

وهذا أثر جديد، هو مجْلى من مجالى نشاطها الدائب؛ تحاول به أن تثبت للحاقدين من خصومها، والعاقِّين من بنيها، أن عندها هي وحدها تلتمس الأسبابُ لحياة هذه اللغة حياةً تكون بها بين اللغات ما كانت بينها في تاريخها المجيد.

ولقد أنشئت في دار العلوم منذ أكثر من عام (قاعة البحث اللغوي) لتكون ميداناً حراً لكل ذي فكر جديد، يتناول شأناً من شؤون اللغة. والعلم اليوم عرض وبحث ومذاكرة، لا تلقٍ وحفظٌ واستذكار؛ من أجل ذلك أنشئت هذه القاعة في دار العلوم، غير مسبوقة بمثال لها تتخذه قدوة وتسير على نهجه؛ على أنها قد أجدَّتْ فأجْدَتْ، واخترعتْ ففرعتْ؛ وهذا كتابها الثاني (البحاثة اللغوية) يدل على جهد مشكور، وعمل له ما وراءه.

وهو نهج جديد في فقه اللغة. وفقهُ اللغة عند القدماء أبوابٌ موضوعة، تضم من أشتات اللغة كلَّ معنى إلى ما يشاكله، وكل تعبير إلى ما يضاهيه، وكل لفظ إلى ما يرادفه؛ فهو عندهم معجم يرتِّب اللغة على أبواب المعاني لأعلى أبواب الحروف؛ وإذْ كانت اللغات

ص: 76

تتطور، وحاجات العصر تطلب حقها من كل لغة، وأن تتعرف اسمها على كل لسان - كان همّ فقهاء اللغة من هذا الجيل أن يحاولوا الربط بين ألفاظ اللغة وحاجات العصر، وأن يكشفوا عن أوجه المشاكلة بين كل اسم ومسماه وما يتصل به، في أبواب يضعونها، وترتيب يخترعونه، إلا أنه لا يخرج في جملته ومعناه عن طريقة القدامى في الوضع والترتيب.

ولكن فقه اللغة شئٌ غير الكلمات الجديدة، وغير الجمع والترتيب والتبويب، وغير النحت والاشتقاق والترجمة - وإن يكن أولئك هو كل ما نطلبه من فقه اللغة لنساير بها حاجات العصر؛ إنما فقه اللغة أن نحاول الكشف عن أسرار اللغة، وتفهم طبيعتها، وفقه ألفاظها على حقيقتها وفي معناها الذي عناه الواضع الأول؛ ثم البحث في نشأة الكلمات، وتاريخها، واشتقاقها، وتطورها، وما استعملت فيه ودلت عليه من المعاني في مختلف العصور، وما صارت إليه وعرفت به في لغة الأحياء؛ ثم ما يهدي إليه هذا البحث مما تزيد به ثروة اللغة، ويصح به أسلوب الكلام.

وهذا هو ما رآه الأستاذ (محمد عبد الجواد) أستاذ فقه اللغة بدار العلوم، فدعا طلابه إليه، فهيأ لهم قاعة البحث اللغوي، فكان من عملهم هذه البحاثة اللغوية.

وهو كتاب دوريّ، سبقته البحاثة الأولى إلى الظهور باسم: أنابيش لغوية.

وهذه البحاثة كما يدلّ عليها اسمها والغرض منها هي خلاصة البحث اللغوي لطلاب دار العلوم في السنة الدراسية الماضية بتوجيه أستاذهم؛ ويبلغ الكتاب ثلثمائة صفحة، ثلثاها مما اختير من بحوث الطلاب أنفسهم في (رياضة لغوية في قراءة القاموس المحيط)؛ وقد نهج بهم أستاذهم منهجاً حسناً، هو يصفه في مقدمته لهذا الباب:

(. . . رأينا أن توزع عليهم أوراق من القاموس المحيط للبحث فيها واستخراج كنوزها ودفائنها، كي يوجه النظر إلى استعمالها، والانتفاع بها في حركة التجديد اللغوي. . . وقد طلب إليهم قراءتها بإمعان وتدبر، ووضع خط بالقلم الرصاصي تحت ما يصح أن يوضع لمسمى لم يعرف له اسم عربي، أو كلمات يتوهم أنها عامية وهي عربية، أو ما خرج به التحريف أو التصحيف عن عربيته الخ، أو أية لفظة يرى أنها جديرة بالنشر. وإذا كان لأحدهم مقترح، أو أراد التوسع في بحثه، شفع ما قرأ من الأوراق بتوضيح كتابيّ. . .)

ص: 77

ولقد كانت رياضة لغوية مثمرة، تدل على جدوى هذا النهج الجديد في دراسة فقه اللغة؛ وإننا لنرى فيها جهد الطلاب ظاهراً قوياً، وقد وفق الكثير منهم توفيقاً يدعو إلى الإعجاب والرضى ويبعث على كثير من الاطمئنان والأمل؛ على أنه من التواضع أن يسمى كل هذا الجهد (محاولة)؛ فما أغلو إذا ادعيت أنه قد أضاف إلى العربية ثروة جديدة، وكشف عن دفائن تزيدها قوة وغنى.

على أن في الكتاب غير ذلك بحوثاً طريفة، وأبواباً قيمة، وطرائف من اللغة تروق الأدباء والمتأدبين. وإذا كان لنا أن نأخذ شيئاً على الكتاب، فذلك أنه كان في حاجة إلى العناية بترتيبه وتقسيم فصوله خيراً مما رُتِّب وقُسِّم، ليتأتى للمستفيد أن يقع منه على ما يريد من غير عناء، ولكننا نحب أن نعتذر عنهم من ذلك، بأنهم أرادوه ليكون أشبه بسجلّ يصوِّر مجهودهم، أكثر مما أرادوه كتاباً يتناوله القراء للبحث والانتفاع، وإن كان هو عندنا لأكثر من ذاك.

القبس للإنشاء العربي

وهذا كتاب آخر للإنشاء العربي، متين العبارة، قويّ الأسلوب، جميل التقسيم، أنشأه مؤلفاه الفاضلان ليستعين به التلاميذ في دروس الإنشاء العربي، فجاء وافياً بما يريدان من قوة السبك، وحسن الأداء، ودقة التقسيم.

ولكننا نعود فنسأل عن مدى استفادة التلاميذ مما يسمونه (كتب الإنشاء)؟

ليس من شك في أن تعليم اللغة تلقين ومحاكاة، يهيئان التلميذ من بعدُ للخلق والابتكار، ولكن وسائل التلقين ليست هي هذه الكتب التي توضع بين أيدي التلاميذ لغرض واحد، هو أن يقرءوها فيحاكوها، أو ينبشوها فيقتبسوا منها، والتي لا ينظرون فيها إلا على نية الأخذ عنها، والاستعانة بها على تجويد العبارة وصقل الكلام؛ إنما ينبغي أن يلقن التلميذ من حيث لا نشعره أنه يلقن: بأن نحمله على القراءة في كتب شتى، ونبعث فيه الشوق إلى المطالعة والنظر في كل كتاب، ونعوده حسن الاستماع لجيّد الكلام؛ فما يقبل التلميذ على مثل كتب الإنشاء هذه بقلبه وعقله، بل بحافظته؛ فمن ثم لا تراه ينظر فيها إلا ليسترق أو يقلد، فيؤول ذلك إلى أن تكون كتابته أشبه بطبع الرواسم (الأكلشيهات): عبارات محفوظة، وربط سقيم، وفكر بليد؛ ثم هي تجعل التلميذ لا يحاول أن يطالع أو أن يقرأ، إلا إذا طلب إليه أن يكتب

ص: 78

أو أن ينشئ، للمدرس، أو للامتحان؛ لأنه لم يتعود أن يقرأ ليلذ نفسه ويرضي عاطفته، بل ليستعين على أداء تكليف ثقيل. . .!

وهذه الكتب الكثيرة للإنشاء، أثرٌ من إيحاء مناهج الدراسة ونظم التعليم في بلادنا، هذه النظم التي تقيس العلم بعدد الناجحين ونسبة النجاح، ومن ثم كانت أكثر محاولات المدرسين في مدارسنا للوصول إلى هذه الغاية؛ أما تربية الملكات، وصقل العقل، وإرهاف الحس، فذلك شئ قلما ترى من يحاوله منهم، ولعل لهم عذراً كبيراً من ذاك. . .!

ولقد يكون من الخير الكثير لو أن المؤلفين الذين يحاولون تأليف الكتب للإنشاء اتجهوا في ذلك اتجاهاً آخر، فوضعوا همهم وجهدهم في تأليف كتب أخرى مما يروق التلاميذ صغاراً وكباراً، ويشوقهم إلى قراءته غير محمولين عليه، مثل: القصص، والرحلات المشوّقة، وغيرها، ثم ليجعلوا في ثنايا ذلك ما يريدون أن يضيفوه إلى ثروة التلاميذ اللغوية والعلمية. فلعلهم إن فعلوا ذلك يكونون قد أضافوا إلى اللغة ثروة جديدة من أدب الأطفال، وعوَّدوا الأطفال أن يقرءوا التماساً للذة العقلية ومتاع الروح، بدل أن يقرءوا رغبة في النجاح وحسب.

وما نعني بهذه الكلمة - هذا الكتاب الجديد وحده، فلعله من خير ما أُلف في موضوعه، وإنما هو رأي نحب أن يسمعه كل القائمين على تعليم الإنشاء في المدارس المصرية.

محمد سعيد العريان

ص: 79