الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 124
- بتاريخ: 18 - 11 - 1935
على هامش الموضوع
في الجمال؟!
حاولت أن أتابع البحث (في الجمال) فنبا علىّ الفكر، وشرد عني الخيال، واستبهم أماميَ المسلك. وكيف يستطيع أن يبحث في الجمال من يرى القبح الشنيع قد هجم على المشاعر من وراء البحر، فآذى الأحداق، وسمم الأذواق؛ وشوه كل منظر؟ ومَن أقبح من قادر يختل، ومعاهد ينكث، وصديق يروغ، ومتمدن يعالن الناس بسخف الذمة، وذائد عن الحق يتبجح باهتضام الحق، وغارق في الثراء يتحلب ريقه على كفاف الفقير، وكابوس من الأنس يجثم على صدرك نصف قرن، تريد أن تزحزحه فيثقل، أو تخاطبه فيغبى، أو تغاضبه فيبرد؟
إن في بعض أعمال اللصوص جمالاً إذا نمّت جراءتها على القوة، أو دلت حيلتها على الذكاء؛ ولكن أي جمال في صوت يتحنن بالرياء في (جنيف)، ويتخشن بالعداء في (جلد هول)، ثم لا يختلف في مقامه وقراره عن عواء الذئب في روما؟ أليس هذا وذاك مظهرين وضيعين قبيحين من ضراوة الحيوانية في الإنسان الضعيف؟
على أن من يسطو وفي يده الخنجر، أدنى إلى الرجولة ممن يسطو وفي يده المسبحة؛ لذلك كانت قهقهة (الدوتشي) من تصريح (هور) سخرية أليمة، خنس لها الرياء، وخجل منها الدهاء، وفرت أمامها الحجة!
الحياة جميلة؛ ولكن هذا الإنسان يلونها بلونه فتقبح؛ وقد جاهد المرسلون والمصلحون أن يجلوها على صبغة الله فعجزوا أمام بغيه وجشعة!
ماذا يبتغي الإنسان من الإنسان إذا كان يفسح له في أرضه، ويفضل عليه من رزقه، ويقول له: هواك هواي، ورضاك رضاي، وعدوك عدوي، ولكن لي وطني ولك وطنك، فلينعم كلانا بسلطانه الطبيعي على ما يملك، وليكن بيننا ما بين الحليف والحليف من تعاهد في شرف، وتعاون في استقلال، وتعامل في حرية؟ هذا كلام على بساطته وصراحته ووضوحه ما يزال يعجز الإفهام في أمة تفاخر بالعلم والحكم، وتباهي بالديمقراطية والعدل؛ لأن الأنانية المسلحة إذا عصفت في النفوس غشّت على الحواس فلا تشعر، ورانت على الأذهان فلا تدرك، وأنبهم في الخواطر مفهوم الفضيلة في الإنسان، ومدلول الجمال في الطبيعة، فلا تدرك من معنى البحر غير الأسطول، ولا من دلالة الأرض غير الجيش، ولا
من جمال غير الاستعمار الوقح.
من شذوذ هذه العقلية الغالبة في الغرب ما نعاني ويعاني الشرق من أرزاء ومحن!
ومن شذوذ هذه العقلية الطاغية ما تصبَّب أمس من نفوس الشباب على أديم الأرض! فدحتهم تركة الآباء الغارمة، وأحفظتهم سياسة الأصدقاء الجارمة، فغضبوا للحق الطعين، وفزعوا للأمل المخيَّب، ففاضت أرواح طاهرة، ودميت وجوه حرة، وضجت بالأنين مستشفيات، وجأرت بالشكوى سجون، وتجاوبت بالحزن بيوت، وتألف من هذه السطور الحمر صفحة بيضاء من تاريخنا الوطني الحديث.
جف اللسان وحفى القلم من استعداء القانون واستصراخ العدالة؛ والقانون والعدالة كلمتان لا تعنيان إلا إرادة القوى ومنفعة الغاصب؛ فإذا لم يكن بجانب الحق قوة تؤيده، وبازاء العدل سلطان يقيمه، كان استمساك الضعيف بهما استمساكاً بالهباء المنتثر!
إذا أعوزتك اليوم قوة السلاح فلا تعوزك قوة الخلق؛ وقوة الخلق ميسورة لك متى أقنعت نفسك بأنك إنسان له إرادة قبل الوظيفة، وكرامة فوق المال، وواجب مع الحق، وتاريخ بعد الموت. وقوة الخلق هي التي تجعل للأمة كلمة لا تتعدد، وسياسة لا تتردد، ومهابة في الصدور تكسر من طرف المحتقر، وتكف من شرة الطامع، وتصد من عادية الدخيل.
جربنا كل شئ في جهاد العادين فما أغنى عنا جهاد ولا تجربة، لأن العُدة كانت قوية إلا من ناحية الخلق. وإذا لم يكن الخلق كانت الشهوة والأثرة والتحاسد والتخاذل والتواكل والهوى؛ وهذه الرذائل مجتمعة ومتفرقة كانت في مدى أعوام الجهاد الستة عشر وباءً ذريعاً تسلطه الأقدار من حين إلى حين على جهود الشباب فيفنيها، وعلى آمال الأمة فيذويها، ثم يقطع ما بيننا وبين الزمن المتقدم فنسقط في هوة الماضي على الموقف الأول.
هانحن أولاء على جلَد الصخرة التي وثبت من فوقها الأمة: وراءنا الهدنة التي قُسمت عليها الأسلاب ووُزعت بينها الغنائم؛ وأمامنا أطلال من الجهود العافية، وأنقاض من الأماني المحطمة؛ وعن أيماننا وعن شمائلنا آثار أقوام كانوا قبلنا فغبَّروا في وجوهنا وانطلقوا خفافاً متساندين إلى الأمد البعيد. فهل لسادتنا الذين يتولون استئناف الجهاد أن يجربوا في قيادتهم قوة الخلق؟ إنهم إن فعلوا ذلك أمنوا ولا ريب نكسة العلة، ورِدَّة الهزيمة، وضلة الطريق. جاهدوا أنفسكم قبل أن تجاهدوا العدو، فإن من لم ينتصر على نفسه لا
ينتصر على غيره، ومن لم يقد نفسه الواحدة، لا يستطيع أن يقود النفوس المتعددة.
أحمد حسن الزيات
6 - كَلِمة وكُلَيمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أصوبُ الصوابِ عند المأفون غلطةُ تجلِبُ له الشهرة.
يرى المغرورُ أنه كالمسجد، إذا هدمه الناسُ بقيت أطلاله تصلي وتسلم على نفسها. . . .
عقلُ النملة يصوِّرُ لها ظلام الليل جيشاً من النمل قد ملأ العالم. . . . . . . . . . . . . .
تعدُّدُ الأحزاب في أُمة تحتاج إلى الحرية، كتعدد الأنبياء في أمة تحتاج إلى العقيدة؛ إذا وجد فيها نبيان كان اتفاقهما معاً دليلاً على كذبهما معاً، وكان أقل ما في اختلافهما أنه دليل على كذب أحدهما.
إنما أضعفَ السياسيين في الشرق أن ربحهم وخسارتهم من (الوظائف) لا غير.
من مصائب هذا الشرق أن الخصامَ السياسيَّ فيه لا يدلُّ على سياسة. . . تَبَرَأ متبوعٌ من تابع فاختصما، فكانا كرجُل وحذائه؛ يقول الرجل: أنا خلعتُ الحذاء، ويقول الحذاء: بل أنا خلعت الرجل. . . إذا كانت المشكلةُ بين الذئب والحَمَل، فلن يكون حلها إلا من أحد اثنين: إما لحم الخروف، أو عصا الراعي. . .
كلُّ دجال له أساليبُه التي صار بها دجالاً، وليس للمنخدعين إلا أسلوبٌ واحد في الغفلة؛ وشرٌّ من الشرِّ تعدُّدُه. . .
إذا اصطنعتَ سفيهاً يُسافِهُ عنك، فاحذَرْه لليوم الذي لا يكون فيه سفيها إلا عليك.
من أحْسَنَ تملُّق المرأة أحسنَ إخضاعها لا تملُّقَها.
ما رأيت امرأةً حمقاءَ إلا كان حمقُها من سخفه كأنه امرأةٌ أخرى حمقاء. . .
إذا أحببت ففكر في البغض لعله يكون، وإذا أبغضتَ ففكر في الحب لعله يعود؛ بهذا وهذا تكون دائماً محباً وإن أبغضت.
ما أعجبَ تناقُض المرأة! هي تريد أن تستقلَّ فتخرجَ عن طاعة الرجل، وهي لا تسعد إلا حين تجد رجلاً تشعر من حبه بوجوب طاعته.
من بلاءِ الحب أنه ينزِّه جمالَ المحبوب عن كل عيبٍ وكل نقص؛ ولكنه بذلك يدفع طبيعةَ العاشق إلى البحث عن كل نقص وكل عيب في أعمال المعشوق.
قاعدةُ الرجل مع المرأة التي يحبها أن تنتصر إرادته وإن ذلت كبرياؤه؛ وقاعدة المرأة مع
الرجل أن تنتصر كبرياؤها وإن ذلت إرادتُها.
سؤال فيه جوابه: لماذا يكون حَقدُ المرأة الخائبةٍ في حبها حقداً شديداً على الرجل الذي أحبته حتى كأنه حقدُ أمٍ على قاتل أطفالها. . .؟
المرأةُ التي لا زوج لها منفيةٌ وإن كانت في دارها، لأن وطن قلبها الرجل.
إذا استسلمت المرأةُ لمحبها ظنت الحبَّ قد ابتدأ، وعلِمَهُ الرجلُ قد ابتدأ ينتهي. . . أذاك فرقُ ما بينهما في الحب أم فرقُ ما بينهما في الظلم؟
ما أعجبَ هذا! أرادت حبيبةٌ ظريفةٌ أن تكون مرةً سخيفة عند محبها، فلم تستطع أن تكون سخيفة إلا كما يحب.
ما هو السُّلوان في الحب؟ هو رجوعُ العقل من سَفَره الخياليّ في جسم المحبوب.
الرذيلة الصريحةُ رذيلةٌ واحدة، ولكن الفضيلةَ الكاذبةَ رذيلتان.
يرى الملحدون أن من حقهم أن يعملوا في النفس الإنسانية كما يعمل أهل الدين؛ فهل من حق أصابع الرجلين أن تمشي على البِيَانة كأصابع اليدين؟
لكل إنسان عقلٌ تحكمه الغريزة، وحقيقةُ الدين أن يكون للغريزة عقلٌ يحكمها.
إذا جئتَ بالنكتة وبالغتَ فيها، كنت كمن أضاء المصباح وأطفأه حين أضاء.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
2 - مدينة الزهراء وحياتها الملوكية القصيرة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تتمة البحث
وقد انتهت إلينا هذه الضاحية الملوكية الشهيرة أوصاف وأرقام مدهشة تنبئ عما كانت عليه من الضخامة والفخامة، فقد ذكر ابن حيان مؤرخ الأندلس أن الزهراء كانت تشغل مسطحاً قدره تسعمائة وتسعون ألف ذراع، وأن مبانيها اشتملت على أربعة آلاف سارية ما بين صغيرة وكبيرة، منها ما جلب من مدينة رومة، ومنها ما أهداه قيصر قسطنطينية، وأن مصاريع أبوابها كانت تبلغ زهاء خمسة عشر ألفاً، وكلها ملبسة بالحديد والنحاس المموه؛ وذكر مؤرخ آخر أن عدد الفتيان بالزهراء كان ثلاثة عشر ألفاً وسبعمائة وخمسين فتى، وعدد النساء والحشم بالقصر ستة آلاف وثلثمائة، يصرف لهم في اليوم ثلاثة عشر ألف رطل من اللحم سوى الدجاج والحجل وغيرها. وقد لا نجد في المنشآت الملوكية الحديثة ما يذكرنا بهذه الأرقام المدهشة سوى القصر البابوي أو قصر الفاتيكان الشهير برومة وما انتهى إليه خلال العصور المتعاقبة من الضخامة والفخامة والجلال، فإن هذا المقام الكنسي الملوكي الفخم يحتوي على أربعة آلاف غرفة وعلى مئات الأبهاء والساحات والأروقة، ويضم عدة أجنحة ومجالس رائعة أسبغ عليها أبدع ما عرف الفن الرفيع من آيات الزخرف والنقش والتصوير.
- 2 -
ولم تعمر الزهراء طويلاً كقاعدة ملوكية؛ فقد لبثت قاعدة الملك والخلافة زهاء أربعين عاماً فقط، مذ نزل بها الناصر سنة 329هـ حتى نهاية عهد ابنه الحكم المستنصر سنة 366هـ؛ ولم يكن ذلك لأن الزهراء قد عفت كقاعدة ملوكية، ولكن لأن تحولاً خطيراً قد وقع في سلطان بني أمية؛ فقد ترك الحكم الملك لابنه الوحيد - هشام المؤيد - وهو طفل لم يجاوز الحادية عشرة؛ وسرعان ما استولى الوزير محمد بن عبد الله بن أبي عامر على مقاليد الحكم بمؤازرة صبح أم المؤيد ووصية العرش، ولم يمض قليل حتى استأثر ابن أبي عامر بكل سلطة ورياسة في الدولة؛ وفي سنة 368هـ أنشأ له ضاحية ملوكية جديدة
بجوار قرطبة على نهر الوادي الكبير وأسماها الزاهرة، وجعلها قاعدة الحكم، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة ودوائر الحكومة، واتخذ سمة الملك وتسمى بالحاجب المنصور.
وهكذا فقدت الزهراء صفتها كقاعدة رسمية، وشاءت الأقدار ألا تكون منزل الملك والخلافة إلا في عهد مؤسسها وخلفه الذي أكمل بناءها. وكان قيام الحاجب المنصور في الواقع خاتمة لسلطان بني أُمية، ولم يبق لهم بعد ذلك من الملك سوى الاسم؛ وقد بقيت الزهراء حيناً آخر مقاماً ملوكياً للخليفة المحجور عليه، ولكنها فقدت إلى الأبد أهميتها السياسية، وروعتها الملوكية.
ثم كانت المحنة الكبرى بانهيار هذا الصرح البديع الذي شاده بنو أُمية بالأندلس، وانهيار الخلافة الأموية والدولة العامرية معاً، وسقوط الأندلس صرعى الحرب الأهلية. ففي سنة 401هـ (1011م) زحف سليمان المستعين زعيم الثورة الأموية على قرطبة لينتزعها من المؤيد وواضح الحاجب التغلب عليه، ثم هاجم مدينة الزهراء واقتحمها، وفتك أنصاره البربر بسكانها، وعاثوا في معاهدها ورياضها، وأحرقوا المسجد والقصر؛ والظاهر أن الضربة كانت قاضية، فلم يبق من الضاحية الملوكية الباهرة سوى أطلال دارسة، ولا يكاد اسم الزهراء يذكر بعد ذلك في التاريخ الأندلسي إلا كأثر عصفت به صروف الدهر؛ وقد كانت الزهراء أيام روعتها وازدهارها وحي الشعر الرائع والخيال الرفيع، وقد تغزل بجمالها وفخامتها جمهرة من أكابر شعراء الأندلس وأمراء البيان، ثم رثوها بعد ذلك في مقطوعات مؤثرة؛ ومما قاله ابن زيدون أعظم شعراء العصر يشيد بالزهراء ورائع ذكرياتها:
خليلي لا فطر يسر ولا أضحى
…
فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى
لئن شاقني شرق العقاب فلم أزل
…
أخص بمخصوص الهوى ذلك السفحا
معاهد لذات وأوطان صبوة
…
أجلت المعاني في الأماني بها قدحا
ألا هل إلى الزهراء أوبة نازح
…
تقضت مبانيها مدامعه سفحاً
مقاصر ملك أشرقت جنباتها
…
فخلنا العشاء الجون أثناءها صبحا
يمثل قرطبها لي الوهم جهرة
…
فقبتها فالكوكب الرحب فالسطحا
محل ارتياح يذكر الخلد طيبه
…
إذا عز أن يصدى الفتى فيه أو يضحا
هناك الحمام الورق تندى خفافها
…
ظلال عهدت الدهر فيها فتى سمحا
تعوضت من شدو القيان خلالها
…
صدى فلوات قد أطار الكرى صبحا
ونقل إلينا الشيخ محي الدين بن العربي أبياتاً قال إنه قرأها على بعض جدران الزهراء بعد خرابها، رثاء في المدينة الشهيرة وهي:
دَيار بأكناف الملاعب تلمع
…
وما إن بها من ساكن وهي بلقع
ينوح عليها الطير من كل جانب
…
فيصمت أحياناً وحيناً يرجع
فخاطبت منها طائراً متغرداً
…
له شجن في القلب وهو مروع
فقلت على ماذا تنوح وتشتكي
…
فقال على دهر مضى ليس يرجع
ويرثي الفتح معاهد الزهراء خلال رواية نقلها عن جولة لبعض الكبراء في تلك الأطلال: (وآثار الديار قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها، وانقراض إطرابها، والوهي بمشيدها لاعب، وعلى كل جدار غراب ناعب، وقد محت الحوادث ضياءها، وقلصت ظلالها وأوفياءها، وطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت، وفاحت من شذاهم وأرجت، أيام نزلوا خلالها وتفيأوا ظلالها، وعمروا حدائقها وجناتها، ونبهوا الآمال من سناتها، ورعوا الليوث في آجامها، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها، فأضحت ولها بالتداعي تلفع واعتجار، ولم يبق من آثارها إلا نؤى وأحجار، وقد هوت قبابها، وهرم شبابها؛ وقد يلين الحديد، ويبلى على طيه الجديد. . .)
ويحدثنا الرحالة البغدادي ابن حوقل عن الزهراء - وقد زارها أيام الحكم - فيصف موقعها، ويقول إن العمارة اتصلت بينها وبين قرطبة، وأن لها مسجداً جامعاً دون جامع البلد (قرطبة) في المحل والقدر، وعلى سورها سبعة أبواب حديد، وليس لها نظير بالمغرب فخامة حال وسعة تملك، وابتذالاً لجيد الثياب والكسى، وفراهة الكراع وكثرة التحلي، وإن لم يكن لها في عيون كثير من الناس حسن بارع).
وكانت أطلال الزهراء ما تزال قائمة حتى القرن السابع، الهجري (القرن الثالث عشر) وقد ذكرها الشريف الإدريسي في معجمه الجغرافي الذي وضعه في منتصف القرن السادس وذكر أن بينها وبين قرطبة خمسة أميال؛ وذكرها أيضاً ياقوت الحموي في معجمه الجغرافي الذي وضعه في أوائل القرن السابع الهجري. وفي سنة 636هـ (1236م)
كانت نكبة الأندلس، ونكبة الإسلام بسقوط قرطبة في يد النصارى، فطويت بذلك أسطع صحف الإسلام وصحف الخلافة في الأندلس؛ وكانت قرطبة قد فقدت أهميتها السياسية منذ الثورة وسقوط الدولة الأموية، ولكنها لبثت بعد ذلك عصراً تحتفظ بهيبتها الخلافية القديمة. ومن المرجح أن أطلال الزهراء بقيت بعد سقوط قرطبة في يد النصارى عصراً يصعب تحديده؛ غير أن قرطبة فقدت في ظل سادتها صبغتها ومعالمها الإسلامية بسرعة؛ ولم يبق اليوم من آثارها ومعاهدها الإسلامية الشهيرة سوى مسجدها الباهر الذي حوله الأسبان منذ افتتاحها إلى كنيسة جامعة؛ وقد شوهت بذلك معالمه ومناظره الأولى، ولكنه ما زال يحتفظ بكثير من أروقته وأبهائه القديمة، وما زال يلفت نظر الزائر المتجول بمسحته العربية والإسلامية، بل ما زال يعرف حتى اليوم بكلمة (مزكيتا) أي المسجد؛ ولم يبق غير المسجد من معاهد قرطبة وأبنيتها الفخمة القديمة سوى أنقاض بالية. أما الزهراء، فقد اختفت معالمها منذ عصر بعيد، ولم يبق منها اليوم أثر ما. بيد أن موقعها ما زال يعرف بالتقريب، في شمال غربي قرطبة، ويطلق عليه اليوم (قرطبة القديمة) ويقوم إلى جوار موقعها القديم إلى اليوم دير (سان جيرونيمو) ويقال إنه بني بأنقاض قصر الزهراء وقد عنيت الهيئات الأثرية الأسبانية في العهد الأخير بإجراء الحفر في تلك المنطقة محاولة استكشاف مواقع الزهراء ومعالمها الحقيقية.
وقد كان لهذا المصير المحزن الذي انحدرت إليه مدينة الناصر بسرعة مؤسية شبيه بين مصاير القواعد الملوكية الإسلامية؛ ذلك هو مصير مدينة القطائع الملوكية التي أنشأها ابن طولون إلى جانب الفسطاط، وأسبغ عليها ولده خمارويه آيات رائعة من الفخامة والبهاء، ثم شاء القدر أن تنهار دعائم الدولة الطولونية، وأن تمحى القطائع بين يوم وليلة، بعد حياة قصيرة لم تجاوز ثلث قرن؛ فكانت مأساة مؤثرة تشبهها مأساة الزهراء من وجوه كثيرة مع فارق في العظمة والمنزلة السلطانية، وفي ظروف العصر، وصروف الأحداث.
محمد عبد الله عنان
مذاهب الفلسفة
2 -
المذهب الطبيعي
للأستاذ زكي نجيب محمود
إذن فالجامد والحي شيئان مختلفان أشد ما يكون الاختلاف، وليس من اليسير أن يسيغ العقل أنهما جانبان لحقيقة واحدة هي الطبيعة، وأنهما يسيران وفق قانون واحد هو قانون الطبيعة؛ ولعل أعقد المشاكل التي يصادفها المذهب الطبيعي هي هذه:
كيف أنتج الجماد عالم الأحياء وبين موات الجماد وحياة الأحياء ما رأينا من فروق؟ هنا تقدمت نظرية التطور لتأخذ بيد المذهب الطبيعي فتنجو به من هذا المأزق العسير بأن تفسر لنا كيف نشأت الحياة وكيف نشأ العقل.
أما دارون فلم يستطع ذلك، أو هو على الأصح لم يحاوله، فقد سلم بوجود الحياة تسليماً وفرضه فرضاً، ثم بدأ سيره من هذه النقطة بأن أخذ يبحث فيما يطرأ على الحياة من تغير وتحول، ومعنى ذلك أن دارون قد فرض أن الكائن الحي قد تسلسل من كائن حي قبله، وهذا من كائن حي قبله، وهكذا دواليك. فهو على ذلك لم يزد في بحثه على أن تتبع حلقات الاتصال بين أنواع الأحياء أي بين الكائنات السفلى والكائنات العليا، وإذن فدارون لم يقدم في نظريته حلاً للمشكلة الأولى: مشكلة المذهب الطبيعي، وهي، كيف نشأت الحياة من الجماد، وكيف نبت العقل مما لا عقل فيه؟
ثم جاء في أثره هربرت سبنسر وتناول بعقله الجبار نظرية دارون فأكمل نقصها وأتم مطلبها. فأقام الحجة على أن الحياة إن هي إلا ضرْب من ضروب المزيج الكيميائي بين أجزاء المادة، فإذا كنا نبغي الوصول إلى الحلقة التي تصل الحياة بالجماد، فما علينا إلا أن نلتمس علماء الكيمياء!. . . ولقد رأى سبنسر مما وصلت إليه العلوم في عهده أنه ليس بين قطع الجماد وكائنات الأحياء تلك الشقة الفسيحة التي توهمها الأولون، فالفرق كل الفرق بينهم اختلاف في درجة التعقيد والتركيب. أما العقل فضرب من ضروب الطاقة كالحرارة والكهرباء والضوء.
ولكن ما بالنا نركب رءوسنا فلا يرضينا إلا أن يقوم الدليل على أن العقل قد نشأ من الجماد نشأة تدريجية معقولة وإلا كان الأمر في أعيننا لغزاً مغلقاً؟ فلم لا تكون الحياة قد خرجت
من الجماد خروجاً فجائياً مباغتاً بغير مقدمة ولا تمهيد؟ قلب النظر في جوانب الكون تر آلافاً من الأشياء التي جاءت إلى الوجود من غير مقدمة منطقية؛ خذ طعم الملح مثلاً وسائل نفسك من أين جاء؟ هو لم يكن في عناصر الملح الأولى التي من مزيجها نشأ الملح، وإذن فقد جاء هذا الطعم الذي نعرفه للملح طارئاً مباغتاً. فلماذا لا تكون الحياة ولا يكون العقل قد نشأ كلاهما على هذا النحو، فيكون لهما من الخصائص ما ليس لعنصرهما الأول: أعني ما ليس في مادة الطبيعة الجامدة. . . تلك حجة جديدة يؤيد بها المذهب الطبيعي رأيهم.
ولكن دعك بعد هذا كله من تطور العقل سواء أكان تدريجياً أم مفاجئاً، وحسبنا أن نأخذه كما بين أيدينا. فهل يستطيع المذهب الطبيعي أن يفسر كيف يعمل العقل؟ كيف يمكن لقطعة من اللحم أو الشحم أن تخلق فكراً وتبدع خيالاً كما نرى؟ إنه إن استطاع أن يعلل ذلك هان عليه بعد ذلك كل شئ، ولهذا تراه اليوم يجاهد جهاد الأبطال في ميدان علم النفس لعله واجد عنده نصيراً وظهيراً؛ وهاهو ذا علم النفس منذ منتصف القرن الماضي ينحو في بحثه نحواً فسيولوجياً، أي أنه يعتبر العقل وظيفة للمخ لا أكثر ولا أقل، فهو لذلك خاضع كبقية أعضاء الجسم لقوانين العلة والمعلول. وكثير بين علماء اليوم من يزعم أن كل ظواهر الإنسان الروحية والعقلية لا تعدو أن تكون نتائج كيميائية لبعض إفرازات الجسم. وليس بعيداً عن هؤلاء أن يحين الحين الذي يسيطر فيه الإنسان على قواه العقلية، بأن يبتكر طعاماً معيناً إفرازاً خاصاً يرفع الفدم الوضيعْ إلى مرتبة الفلاسفة والحكماء!!
المذهب الطبيعي والدين:
لما كان أنصار هذا المذهب يتشبثون بالطبيعة وحدها، فهم ينكرون أشد إنكار أن يكون وراءها أية حقيقة أخرى، وبعبارة موجزة واضحة: هم ينكرون الدين وكل ما يتصل بالعقيدة الدينية من حقائق لا تمت إلى ظواهر الطبيعة بسبب من الأسباب. فإن ساءلتهم قائلاً: إن كانت العقائد ضلالاً في ضلال فما الذي حدا بالإنسان بادئ ذي بدء أن ينظر إلى العالم بمنظار روحي، ومن أين جاءه هذا الاتجاه في التفكير؟ أجابوك إنه خطأ بشري ككل ما يقع فيه الإنسان من أخطاء، ولكنه في رأيهم خطأ واجب مفيد لم يكن للإنسانية عنه بد في حياتها الأولى.
إنما ينشد الإنسان الحقَّ في الرأي لا لشيء إلا أن تكون الحقيقة عوناً له في طريق الحياة؛
إذ الفكرة الصائبة توضح السبيل وتيسر الطريق، وتعمل على استمرار البقاء واجتناب الخطر؛ وعلى نقيضها الفكرة الخاطئة، فهي مضللة للإنسان مبعثرة لجهوده في غير ما طائل، بل إنها قد تضره وتؤذيه وتؤدي به إلى الموت. ولما كانت العقائد الدينية مجموعة آراء نسجها الإنسان ووشج بينها، كان لنا أن نقول إنه كلما بعدت العقيدة عن الصواب كانت أدنى إلى إيذاء الإنسان والعمل على تدهوره، ولكن مما يهون الأمر أن الفكرة الخاطئة لا يستفحل خطرها وأذاها إلا إذا مست حياة الإنسان العملية فأثرت فيها أثراً مباشراً، فإن لم تكن كذلك كانت قليلة الخطر أو عديمته؛ فلما كان الإنسان مثلاً في العصور القديمة لا يتعدى بأسفاره ورحلاته نطاقاً محدوداً ضيقاً، لم تكن لتؤذيه فكرة أن الأرض مسطحة على خطئها، فالخطأ والصواب في مثل هذه الحالة سواء، بل كثيراً ما يكون الخطأ أنفع للإنسان من الرأي الصحيح كأن توهم المشفى على الموت بأنه قوي سليم.
وعلى هذا النحو كانت فائدة النظرة الروحية في مراحل الإنسانية الأولى، إذ كانت العقيدة أقوى حافز يدفعه إلى العمل والنشاط حينما كان الإنسان أشد ما يكون حاجة إلى التشجيع. فقد كان أول أمره يهيم مع أوابد القفر وضواري الغاب، يعيش لساعته عيش الحاجة والضرورة، فلما أراد أن يعلو على مستوى الحيوان وأن يتخذ لنفسه في الحياة منزلة رفيعة ومكانة ممتازة بين الأحياء، مستعيناً بما أوتي من عقل وخيال، رأى أن الوسيلة الأولى هي أن يحطم أغلال الضرورة ما استطاعت حيلته، وأن يوسع من أفق زمانه فينفذ ببصره إلى الغد، مهنا يعيش في جو من أحلام ينسجها لنفسه بقوة خياله، وسرعان ما ألقى في روع نفسه أن هناك - فوق العالم الذي يرى - قوة سامية سترعاه وتأخذ بيده مما يصادفه في حياته من عسر وإشكال، وتمكنت من نفسه العقيدة بأن تلك القوة العليا ستكون له خير هادٍ ومرشد في طريقه نحو الكمال الذي أخذ يرجوه ويبتغيه بعد أن نقض حياته الحيوانية الأولى، وتحرر من رق الضرورة واستعبادها.
تلك كانت نواة العقيدة الدينية التي عملت فيما بعد على تماسك الأفراد وترابطهم في تكوين المجتمع، إذ أوحت إلى الناس ضرورة احترام العادات والتقاليد التي هي الأساس الأول في بناء المجتمع، كما خلعت على السلطة المدنية مسحة مقدسة زادت من هيبتها واحترامها؛ وبديهي أنه لا بقاء لمجتمع بغير سلطان محترم مهيب، وهكذا كان الدين عماداً قويماً في
بناء المجتمع أول الأمر كما كان خير مدرب لمشاعر الإنسان وعواطفه، إذ راضها وصقلها وأجراها في سبيل صالح مستقيم، ولعل هذا هو السبب الذي من أجله كان الدين كنفاً ترعرعت في ظله الفنون الجميلة على اختلافها إبان طفولتها.
كل هذه حسنات للدين مشكورة غير منكورة، ولكن قد يكون هذا الذي عاون الإنسان على السير في أول الطريق عائقاً يحول اليوم دون تقدمه، وقد يكون (فرويد) العالم النفسي الكبير مصيباً في رأيه بأن الدين صالح لتقويم الأخلاق إبان الطفولة حتى إذا ما نضج الإنسان كان لزاماً عليه أن يواجه مشكلات الحياة العملية في صرامتها وجدها، ولا ينبغي أن نطيل الوقوف عند هذه المرحلة الأولى - مرحلة الأحلام الجميلة والآمال الحلوة بأن قوة سامية ستحول بين صدورنا وبين ضربات القدر وسهامه، فلئن كان الدين قد ساهم بقسط وافر في تطور الحياة البشرية ورقيها فلقد فرغت رسالته وأصبحت الإنسانية اليوم في مرتبة من رشد الكهولة تجعلها في غنى عنه.
ويقول أوجست كونت في هذا الصدد إن طريقة تفكير الإنسان بازاء العالم قد سارت منذ نشأتها إلى اليوم في مراحل ثلاث: الأولى هي المرحلة اللاهوتية حيث كانت تُفسر. الأحداث بقوى الآلهة؛ والثانية، وهي المرحلة الغيبية حيث كان الإنسان يعلل حوادث الكون بمجموعة من القوى، فيعزو الحياة إلى القوة الحيوية، والنار إلى الحرارة، وسقوط الأجسام إلى قوة ثقل الجسم؛ والمرحلة الثالثة هي المرحلة الإيجابية التي فيها يفسر الناس ظواهر الوجود بأسباب مباشرة تسبق حدوث الظاهرة المعينة، فإذا وقعت العلة جاء في أثرها المعلول تبعاً لقانون معروف؛ وهذه المرحلة كما يقول كونت هي أسمى مراحل العقل البشري، وهي المرحلة التي تجتازها الإنسانية اليوم. وهكذا يدعو أصحاب المذهب الطبيعي إلى نبذ العقائد على الرغم من رسوخ قدمها في النفس وتأصل جذورها في القلوب، ويهيبون بالناس أن يواجهوا حقائق الكون الواقعة في شجاعة وإقدام.
والعجيب أن هذا المذهب الطبيعي لم يعدم في كل عصر من عصور الفكر ظهيراً ونصيراً، فقد وجد بين فلاسفة الإغريق من يقيمه ويؤيده كديمقريطس؛ ووفق في مستهل العصر الحديث إلى رجل مثل (توماس هويز) الذي أخذ على نفسه أن يفسر كل شئ في الوجود على أنه مادة متحركة ليس إلا، فتناول العقل نفسه وقال إنه نتيجة لجملة الأحاسيس التي
تنفذ إلينا خلال الحواس الخمس، ولما كان هذا الإحساس أثراً مباشراً لتحرك الأعصاب، وهذه نتيجة لأزمة لما يقع بين الأشياء المادية من حركة، كان العقل بكل ما فيه من ذاكرة وخيال وما إليها ضرباً من ضروب الحركة المادية لا أكثر ولا أقل - هذا وإن ديكارت الذي يعتبر مؤسس الفلسفة الحديثة وواضع أصولها قد نادى بأن الكائن الحي لا يزيد على آلة صماء عمياء تسير في حياتها كما تسير الآلة الميكانيكية، وقال إن جسم الإنسان أيضاً آلة كسائر صنوف الحيوان ولو أنه استثنى العقل من هذه الآلية وقال إنه عنصر ممتاز. ثم جاء القرن التاسع عشر، وهو عصر ازدهرت فيه المادية ووجدت طائفة كبيرة من المشايعين، على رأسهم دارون وسبنسر وبخنر وهيكل وهكسلي ونيتشه، فسار المذهب الطبيعي على أيديهم شوطاً فسيحاً في تدعيم قواعده.
(يتبع)
زكي نجيب محمود
النقد والمثال
الجمال الذاتي في بعض المعاني البسيطة
للأستاذ أحمد الزين
تحدثتُ في الفصل السابق عن نوعي المعنى الأصليّ والشعريّ؛ وقلت في المعنى الأول: إنه أول ما يخطر على الخاطر، وتتحدث به نفس الشاعر، وذكرتُ أنه لا يسمى شعراً، وليس من الشعر في قليل ولا كثير، وبينت المعنى الثاني الذي تصرفت فيه الملكة الفنية بإضافة شئ من المحسّنات الشعرية إليه، وقلت: إنه هو الذي يعدّ من مقومات الشعر وعناصره، ومثلت لكلا المعنيين بما فيه الكفاية من شعر المتقدمين والمحدثين.
وأقول في هذا الفصل:
إن بعض هذه المعاني الأصلية التي لم تتصرف فيها ملكة الشاعر قد يكون الحسن فيها أصلياً، والجمال فيها من ذاتها، فلا تتصرف فيها ملكة الشاعر تصرفاً كثيراً ولا قليلاً، ولا تتكلف فيها تحسيناً ولا تجميلاً، بل إن تصرف الشاعر فيها قد ينقص من جلالها، ويشوه من جمالها، ويحجب هذه الطبيعة الجميلة بثوب من التكلف يحول بينها وبين مشافهة الأذواق بجمالها، ومباشرة الاحساسات بتأثيرها؛ فهي أشبه بغانيات أبي الطيب اللاتي استغنين بما فيهن من جمال مطبوع، عما يُكسبهن الافتنان في الزينة من جمال مصنوع إذ يقول:
حسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ
…
وفي البداوة حسنٌ غيرُ مجلوب
أفدي ظِباء فلاةٍ ما عرفن بها
…
مضغَ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمّام مائلة
…
أردافهن صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة
…
تركتُ لون مشيبي غير مخضوب
وليس على الشاعر في أمثال هذه المعاني إلا ما يتعلق بالصياغة البيانية، من عذوبة العبارة، ورقة النسج، وشرف الألفاظ، واختيار الأسلوب الملائم لغرض الشاعر، وما إلى ذلك مما يتصل بالألفاظ والعبارات، دون المعاني والأغراض، وإنما يكون هذا الجمال الطبعيّ في المعاني البسيطة إذا صدرت عن عاطفة قوية في النفس، وتحدرت عن ينبوع صافٍ من الحِسّ، وكانت صُوَراً دقيقة للشعور الصادق في القلب الخافق، فهنالك لا يعد
الشاعر إلا لساناً ناطقاً، لا مبتدعاً خالقاً.
وترى هذه المعاني الجميلة بطبيعتها مستفيضةً شائعةً في شعر الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين إلى أواسط العصر الأموي، وإنما استفاضت هذه البساطة في شعر الأمويين لقرب عهدهم بعيش البساطة في البادية، ومشافَهة الطبيعة في صحراء الجزيرة، فهم رغم تفرقهم في الممالك التي فتحوها وانتشارهم في الأمصار التي مصّروها، ومفارقة الفطرة في بواديهم، لم يزل صوتها يناديهم، فيجيبونها في أشعارهم بالبساطة في معانيهم وأفكارهم.
وإنك لتستجلي ذلك في شعر النسيب وما هو بسبيله، من الحنين إلى الأوطان وما قضاه الشاعر فيها من لبانات وأوطار وما لقيه بعد فراقها من مِحَن وآلام وذِكر الشباب الزائل، وما كان فيه من لهو وباطل، ونفور الحسان من هذا الشعر الأبيض الذي يُقذي العيون، ويذهب باللهو والفتون، كما ترى هذه البساطة الفاتنة فيما تقرؤه أوائل قصائدهم في صفة الديار والأطلال، وما فعلت بها الرياح والأمطار، وما بقي فيها بعد من رحلوا عنها، وتحديد مواقعها بين الأمكنة التي تتصل بها أو تقرب منها.
وترى ذلك أيضاً في شعر الذكريات حين تنزل بالشاعر محنة من سجن أو إسار فيعزّي نفسه عن تقييد ساقيه بإطلاق فكره في تذكر أيامه الذاهبة، ولذاته الفائتة؛ وذِكر ما كان يحضره من مجالس الشراب والقيان، وبقائه رغم القيد على الوفاء لمن كان يجالسه من القدامى والصحاب، وإقدامه في القتال، وصبره على مقارعة الأقران ثم يأخذ في الافتخار بقومه وعشيرته ولومِهم على تركه لأعدائه، وبطئِهم عن فدائه؛ كلُّ ذلك في حسرة وألم يفريان الضلوع، ويستنزفان الدموع.
وأنا أعرض عليك في هذا الفصل أمثلةً يسيرة لما ذكرت مما اخترته من حفظي.
أما جمال هذه البساطة في النسيب، فكقول المجنون (وهو من أصوات الأغاني).
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا
…
سوى أن يقولوا إنني لكِ عاشقُ
لقد صدق الواشون أنت حبيبةٌ
…
إليّ وإن لم تَصْفُ منكِ الخلائق
ووجه الجمال في هذا الشعر مخالفةُ الشاعر غيرَه من المحبّين باحتقاره الوشاة، وعدم استحقاقهم لتكلّف المصانعة والمداراة وهو بذلك يصف حبَّه بالنقاء من الريبة، وأنه أسمى من أن يستره بحيلة، وأشرفُ من أن يُعمِل في إخفائه الوسيلة.
ثم انظر إلى سحر هذه البساطة في ضد ذلك وتصوير الخوف من الوشاة والارتياع من مقالتهم؛ وشكوى الشاعر إلى حبيبته قلّة الرسل إليها، وأن الحيل قد أعوزته في لقائها، ثم إشارته بعد ذلك إلى عتابه عليها، وضراعته إليها؛ كل ذلك في بساطة ساحرة وجمال رائع يشبه جمال الأزهار التي كستها الطبيعة من ألوانها الفاتنة ما تقصُر عنه ريشةُ الفن بما تزوِّره من أصباغها الحائلة.
أريد شعر يزيد بن الطَّثرية حيث يقول:
أيا خُلة النفس التي ليس دونها
…
لنا من أخلاء الصفاء خليل
أما من مقام أشتكي غربة النوى
…
وخوف العدا فيه إليك سبيل
فديتكِ، أعدائي كثير، شقتي
…
بعيد، وأشياعي لديك قليل
وكنت إذا ما جئتُ بعلة
…
فأفنت علاتي فكيف أقول
فما كلَّ يوم بأرضك حاجةٌ
…
ولا كلَّ يوم لي إليك رسول
صحائف عندي للعتاب طويتها
…
ستنشر يوماً والعتاب طويل
فلا تحملي ذنبي وأنت ضعيفة
…
فحمل دمي يوم الحساب ثقيل
ومثل هذه البساطة الساحرة ما تراه في شعر عبد الله بن الدُّميْنة حيث يقول:
ألا لا أرى وادي المياه يثيب
…
ولا النفس عن وادي المياه تطيب
أحب هبوط الواديين وإنني
…
لمشتهر بالواديين غريب
أحقاً عباد الله أن لست وارداً
…
ولا صادراً إلا عليَّ رقيب
ولا زائراً فرداً ولا في جماعة
…
من الناس إلا قيل أنت مريب
وهل ريبة في أن تحن نجيبة
…
إلى إلفها أو أن يحن نجيب
أما جمال هذه البساطة في معاني الحنين إلى الوطن فمن أحسن ذلك قول بعض الأعراب:
أحب بلاد الله ما بين منعج
…
إلي وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها حل الشباب تمائمي
…
وأول أرض مس جلدي ترابها
وقول عبد الله بن نمير:
تعز بصبر لا وجدِّك لن ترى
…
عراص الحمى إحدى الليالي الغوابر
كأن فؤادي من تذكره الحمى
…
وأهم الحمى يهفو به ريش طائر
وقول الصمة بن عبد الله القشيري:
قفا ودِّعا نجدا ومن حل بالحمى
…
وقلَّ لنجد عندنا أن يودعا
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى
…
وما أحسن المصطاف والمتربَّعا
وليست عشيّات الحمى برواجع
…
عليك ولكن خل عينيك تدمعا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني
…
على كبدي من خشية أن تَصدَّعا
فهل ترى أحد هؤلاء الشعراء الثلاثة قد زاد في هذا الحنين على ما يتحدث به إليك متحدث نأى عن بلده، وفارق أهله وعشيرته، من الحنين إليهم، والألم لفراقهم، وتذكر ما مضى له من عهود، وزمن لا يعود، وتَمنيه العودةَ إلى وطنه تمني اليائس من الأمنية، وتأميله الرجوع إلى بلده تأميل من يثق بالخيبة ويوقن بامتناع الأمل واجتهاده في الدعاء له وتوديعه إياه، وتفديته بالنفس؛ فلم يخترع أحدهم في الحنين معنىً جديداً، ولم يفكر تفكيراً بعيداً، ولم يُغرِب في خيال، ولم يبالغ في تصوير ما يشعر به من ألم الفرقة، ووحشية الغربة، ولم يُثقِل شعره بالمجازات والاستعارات، ولا بشيء من تلك الحُلي الظاهرية الزائدة على الحاجة في هذه المعاني وأشباهها.
ولما كان هذا الشعر خطاباً صادراً عن نفس الشاعر منبعثاً عن عاطفته كان لا بد من مشافهته لنفس السامع ومباشرته لها، ولا نزاع في أن إثقاله بتلك الحلي الظاهرية من الاستعارات والمجازات مما يحول بين معانيه ومشافهتها للنفس، ويباعد بينها وبين الحس، ويجعلها أشبه بالغناء الجميل تسمعه بواسطة (الحاكي) فإنه لا ينال من نفسك ما يناله الغناء المشافه.
وفي هذه الأمثلة التي رويتها لك فوق البساطة الساحرة في معانيها من رقة الأسلوب الملائم لمعاني الحنين، وعذوبة العبارة، وحلاوة الألفاظ - وهي كلُّ عمل الشاعر في أمثال هذه المعاني - ما يثير الشجن ويوقظ اللوعة، ويجتذب قلب السامع إلى قلب الشاعر حتى يصيرا قلباً واحداً متحد الإحساس، متفق الشعور، حتى يخيل للسامع - وهو في وطنه بين أهله وعشيرته - أنه غريب عنهما، وأن النوى قد قذفت به إلى مكان سحيق، فهو يشكو الغربة كما شكاها الشاعر، ويتمنى العودة كما تمناها؛ وقد كان بعض علماء الأدب المتقدمين ينشد أبيات الصّمّة بن عبد الله السابقة على تلامذته في مسجد الكوفة، ثم يبكي حتى تخضل
لحيته، ويقول: ما أصاب أكبادكم! ألا تبكون عشيات الحمى؟
وسرّ الجمال في هذه المعاني مشافهتها للعاطفة ودخولها إلى النفس الإنسانية من ناحية الضعف الموجب للمواساة والرحمة؛ ونفوذها إلى إحساس العطف المشترك بين الأسرة البشرية الباعث على المشاركة في الألم والمحنة. أما بساطة هذه المعاني في أشعارهم إذا بكَوا الشباب وعهده، وذموا المشيب ووفدَه؛ ووقفوا على الأطلال والديار، فلا أريد أن أطيل عليك في هذا الفصل القصير بذكر أمثلتها، فإن ذلك مستفيض شائع في كلامهم بل هو جُلُّ شعرهم، وأكثرُ ما يبدأون به قصائدهم؛ فلا تكاد تجفّ قصيدة لأحدهم مهما يكن غرضها من دمعة حارّة يذريها الأسف على شباب ذاهب والارتياع من مشيبٍ طارق، والوقوف على طلل ما حل، ورسمٍ حائل، وذِكر ما قضاه الشاعر في أفياء هذه الرحاب وأكناف هذا الجناب، من أيامٍ عِذاب وليال قصرتها مُتَعُ الصِّبا ولهوُ الفتوّة إلى غير ذلك.
ولعلّهم جرَوا على ابتداء قصائدهم بهذه المعاني وتقديمها على الغرض المقصود بالشعر لتحريك القرائح الراكدة، وإيقاظ الشاعرية الراقدة، وتنبيه الأذهان التي قد تغفو، واقتياد الأفكار التي قد تعزب؛ ولما كانت هذه المعاني معروفة لديهم، معبدة طرقها لهم، محفوظاً أكثرها عندهم، كانت تجربة قرائحهم فيها أيسر، وتنشيط شاعريتهم في ميدانها أسهل، كما يجرب الجواد بإجرائه شوطاً قبل الانتظام في الحلبة، وكما ترى أرباب الموسيقى إذا قصدوا إيقاع إحدى النغمات، أوقعوا على الأوتار ما يقاربها من النبرات حتى يسَهل عليهم الخروج منها إلى النغمة المقصودة.
أما روعة هذه المعاني في قصائد الذكريات إذا نزلت بالشاعر محنةٌ من سجن أو إسار، فأنا أذكر لك أمثلة منها لقلتها وانتثارها في كتب الأدب، وصعوبة الظفر بها في دواوين العرب، وأكثرها من شعر لصوص البادية والمُغيرين على أموال القبائل وهم أفصح العرب شعراً، وأصرحُهم عربية؛ وكان بعض علماء الأدب المتقدمين وأحسبه الأصمعي يقول:(إذا أتاك بيت لصّ فاحتفظ عليه) وذلك لإخلادهم إلى سكنى البادية، وعدم اتصالهم بالحضر.
ومن أحسن ذلك شعر عبد يغوث بن وقّاص الحارثي، وكانت تيم قد أسرته وشدّوا لسانه، فقال من قصيدة
ألا لا تلوموني كفى اللوم ما بيا
…
فمالكما في اللوم خيرٌ ولا ليا
أيا راكباً إمّا عرضت فبلّغن
…
نداماي من نجرانَ ألاّ تَلاقِيا
أقول وقد شدّوا لساني بنسعةٍ
…
أمعشر تيمٍ أطلِقوا عن لسانيا
أحقّا عباد الله أن لستُ سامعاً
…
نشيدَ الرِّعاء معزِ بين المتاليا
وقد علمت عرسي مُلَيكة أنني
…
أنا الليث معدوا عليّ وعاديا
وقد كنت نحّار الجزور ومُعمِل ال
…
عطيَّ وأمضي حيث لاحيَّ ماضيا
وأنحر للشَّرب الكرام مطيتي
…
وأصدع بين القينتين ردائيا
وكنت إذا ما الخيل شمسها القنا
…
لبيقا بتصريف القناة بنانيا
كأني لم أركب جواداً ولم أقل
…
لخيلي كُرّي نفِّسي عن رجاليا
ولم أسبأ الزِّق لبرَّويّ ولم أقل
…
لأيسار صدق أعظِموا ضوء ناريا
وإنك لتقرأ هذا الشعر بيتاً فلا ترى ملكة الشاعر قد تصرفت في هذه المعاني البسيطة الفاتنة ببساطتها تصرفاً قليلاً ولا كثيراً، ولا أضافت إلى هذا الجمال الطبعي الرائع بطبيعته من المحسنات الفنيّة ما يزيده روعة وحسناً؛ ولم يزد الشاعر على أن عرض صوراً دقيقة من حياته الماضية ولذاته المنصرفة، كما يتحدث به المتحدث، لا كما يتخيله الشاعر المتكلف؛ ودَعْني أيها الأديب المتذوق أعتمد على ذوقك في إدراك الجمال في هذا الشعر فإني أرى الإطالة في شرح الجمال الشعر والإبانة عن وجوه الحسن فيه كما يفعله علماء البلاغة مما يسخفه ويسمّجه، ويخرجه عن كونه احساسات نفسية، إلى جعله قواعد علمية. وسيمر بك أيضاً كثير من أمثلة هذا الجمال منتثرة في هذه الفصول.
أحمد الزين
4 - معركة عدوى
للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان حرب الجيش العراقي
علاقة الطليان بالحبشة
نشأت هذه العلاقة من اشتراك إيطاليا في سياسة الاستعمار. ففي اليوم الذي نال الطليان وحدتهم تامة غير منقوصة بعد حرب 1870 أخذت الجرائد الطليانية تطالب بالمستعمرات الإيطالية بحجة أن الطليان في زيادة مستمرة في بلادهم فيحتاجون إلى أرض أخرى للسكنى فيها.
فاستأجرت في سنة 1870 شركة (روباتينو) أرضاً من الأهلين في جوار (عصب) لمدة عشر سنوات. وكانت أرض مصوع وما يجاورها ملكاً للعثمانيين ولكنهم تنازلوا عنها لخديو مصر مقابل خراج سنوي. وعند انقضاء مدة الإيجار اشترت الشركة الأرض المذكورة. ولما احتل البريطانيون أرض مصر أعلن الطليان أن (عصب) مستعمرة طليانية فأخذت البعثات الطليانية تتجول في أرض دناكل والحبشة برغم هلاك بعضها بيد سكان البلاد، وكان البريطانيون في هذا التاريخ منهمكين في مقاتلة جماعة المهدي في السودان. وأراد الطليان أن يقلدوا البريطانيين في تشكيل القوات في المستعمرات فأخرجوا قوة طليانية صغيرة إلى (عصب) لحماية الشركة هناك وجعلوا هذه القوة نواة لتشكيلات أهلية أخرى أسوة بالبريطانيين.
وعقيب انتصارات المهدي في السودان اضطر المصريون إلى إخلاء مصوع وهرر وأرض الصومال والانسحاب إلى الشمال. فاستفاد الفرنسيون من ذلك فعقدوا معاهدة مع سلطان هرر واحتلوا خليج تاجورة بأجمعه. فارتاب البريطانيون في ذلك فأسسوا لهم مستعمرة في الصومال في جنوبي جيبوتي وجعلوا قصبة (زيلع) مركزاً لها وألحقوها بمستعمرة عدن وجعلوا سلطان هرر تحت حمايتهم.
ويظهر أن بريطانيا أرادت أن تشرك إيطاليا في حركاتها على المهدي وتجعل لفرنسا رقيباً في أرض الصومال فوافقت على أن تحتل إيطاليا مصوع في 5 شباط 1885، فخرجت
يومئذ قوة طليانية إلى مصوع ورفعت العلم الطلياني على دار الحكومة. فلم يحرك خديو مصر ساكناً. بيد أن الفرنسيين لم يرتاحوا إلى ذلك، وبعد أن رسخت أقدام الطليان في مصوع وجهوا أنظارهم إلى الداخل للتوغل في أرض الحبشة، وكان هناك طريقان تجاريان يربطان مصوع بالداخل: أولهما طريق (مصوع - كرن - كسلا - الخرطوم). أما الطريق الثاني فكان متجهاً إلى الجنوب ويقطع جبال الحبشة من الشمال إلى الجنوب إلى أن يصل إلى شاطئ البحر الأحمر.
ولما كان هواء مصوع الحار الرطب غير ملائم للأوربيين فكر الطليان في الحصول على مركز في الداخل صالح للسكنى. فارتفاع قصبة كرن حوالي 1340 متراً عن سطح البحر. أما كسلا فارتفاعها يبلغ 530 متراً ولكنها محاطة برواب بشكل قلعة، ولكي يحصل البريطانيون على مساعدة الطليان في مقاتلة المهدي في السودان لوحوا للطليان بالطريق الأول.
فقررت الحكومة الطليانية تجهيز قوة لإنزالها في مصوع تأهباً لاحتلال الحبشة من جهة أخرى وذلك رغم كون القيادة في مصوع لفتت نظر ساسة الطليان إلى عاقبة الحركة في اتجاه كسلا. وكان في جنوبي مصوع ميناء عرفالي الذي كان الأحباش يعتبرونه من الموانئ الحبشية لأنهم كانوا يجلبون الملح منه، ولما رأى النجاشي (يوحانس) أن الطليان احتلوا هذا الميناء احتج على ذلك.
والحقيقة أن الحوادث بعد ذلك جعلت الحبشة وإيطاليا تقفان وجهاً لوجه لأن البريطانيين قضوا على حركة المهدي بعد وفاته واحتلوا السودان وثبتوا أقدامهم فيه.
لذلك لم يخش الأحباش خطراً من هذا الجانب. أما الطليان فأخذوا يوسعون نفوذهم في مستعمرة مصوع التي أطلقوا عليها اسم (أريترة)(أي الزنبقة الحمراء) ووسعوا ساحة الساحل باحتلالهم ميناء زولا وخليج (عدولي) ومنعوا الأحباش من أخذ الملح فاحتج النجاشي على ذلك أيضاً فلم يعبأ الطليان باحتجاجه بل سلكوا سبيل تخدير أعصاب الأحباش بإرسال البعثات وكانوا قبل ذلك أرسلوا بعثتين من (عصب) فقتلهما الدناكليون. وأرسلوا بعثة أخرى في سنة 1886 فذبحت برمتها في هرر. وفي سنة 1887 أرسلوا بعثة أخرى. ولما وصلت إلى ملك تيجري ألقى الرأس القبض عليها وحبسها. فأرسل
الطليان قوة مؤلفة من 500 جندي قضى عليها الأحباش فاغتاظ الطليان لذلك فأبلغوا قوتهم في مستعمرة أريترة إلى 18 ، 000 جندي وقرروا الحرب.
وحشد الأحباش رجالهم في آذار سنة 1888 أمام موضع دفاع الطليان وكان عددهم بالغاً زهاء 100 ، 000. فخشي الطليان عاقبة الأمر ومالوا إلى المسألة فانسحب الأحباش لأن المهدي كان يهدد مقاطعة أمحرة فهاجمها بجيوشه ودخل عاصمتها جوندار فدمرها، فظن الطليان أن القتال بين الحبشة والمهدي سوف ينهك الأحباش فيجيبون مطالبهم لذلك أعادوا قواتهم إلى إيطاليا وتركوا 8000 جندي في أريترا.
وفي أوائل سنة 1889 جهز الأحباش بقيادة النجاشي (يوحانس) جيشاً بقوة 180 ، 000 كما سبق ذكره وتقدموا نحو المهدي فوقعت معركة في (متمة) مات فيها النجاشي جريحاً وبعد أن ترك الأحباش 30 ، 000 قتيل في ميدان المعركة رجعوا إلى بلادهم خاسرين.
منليك ملك الملوك
كان ملك شوعا أقوى ملوك الحبشة كما نعلم وكان من سلالة الملوك الذين يمتون بنسبهم إلى النبي سليمان وزوجته بلقيس ملكة سبأ. فاحتل منليك مدينة هرر في سنة 1887 وبسط حكمه على الغالا كلها، واستولى على مقاطعة كانا وما يجاورها فأصبح بذلك ذا نفوذ عظيم، فأراد الطليان أن يستفيدوا من حرب داخلية بالانحياز إلى جانب منليك متألبين على النجاشي (يوحانس) فأعطوه 5 ، 000 بندقية و 200 ، 000 طلقة ليبقى على الحياد عندما يقاتل الطليان النجاشي (يوحانس)، وكان الكونت (انطونلي) على رأس الوفد الموفد إليه فتذاكر الوفد مع منليك في الوقت الذي مات (يوحانس) في معركة متمة. فقبل منليك شروط معاهدة (أوكسالي) في سنة 1889 وكانت خلاصة أحكام المعاهدة ما يلي:
(تبادل الممثلين السياسيين، قبول خط الحدود بصورة عامة، دفع رسوم جمركية بمقدار ثمانية في المائة عن الأموال الطليانية التي تدخل أرض الحبشة عن طريق مصوع وضرب النقود الحبشية في إيطاليا، وقرض الحبشة أربعة ملايين ليرة ذهباً، وحرية التجارة على أن ينفذ حكم المعاهدة في بلاد الحبشة برمتها).
وكانت المادة السابعة عشرة تقضي على الحبشة بأن ترضى بتوسيط إيطاليا في علاقتها بالحكومات الأخرى. وكانت هذه المادة سبب الحرب بين الحبشة وإيطاليا.
فاستفاد الطليان فوراً من أحكام المعاهدة واحتلوا الأراضي التي تركت لهم بموجب المعاهدة قبل أن يوقع عليها ملك إيطاليا واحتلوا أرضاً في بلاد الحبشة.
ولم يرض ملك تيجري بأن يتعاهد الطليان مع ملك شوعا وهو الذي ورث الملك عن أبيه يوحانس واعتبر نفسه ملكاً للملوك.
واحتل الطليان في حزيران 1889 (كرن) وفي آب (أسمرة) واستمالوا أحد رؤساء تيجري إلى جانبهم. وهكذا استطاعوا أن يدخلوا (عدوى) عاصمة تيجري بسهولة.
وبهذه الواسطة تقدموا من مصوع مسافة 130 كيلو متراً فتوغلوا في أرض الحبشة واعتبروا أنفسهم حماة الحبشة بالملحق الذي أضافوه إلى المعاهدة بسهولة حتى أم ملك إيطاليا أضاف إلى ألقابه لقب (حامي بلاد الحبشة).
ولما ذهب الرأس (ماكونن) ابن عم منليك إلى رومة حاملاً مواد هذا الملحق لنص المعاهدة هلل الطليان فرحاً واستبشاراً. وكان من حقهم أن يهللوا لأنهم حصلوا على صك استعمار الحبشة دون أن يسفكوا دماً إيطالياً.
وفي تشرين الثاني سنة 1889 وقع الرأس (ماكونين) على الملحق باسم منليك وقدموا إليه مقابل ذلك أربعة ملايين فرنك و 38 ، 000 بندقية و28 مدفعاً وعتاداً كثيراً عربوناً لإخلاصه.
فاعترفت الدول جميعاً بالمعاهدة وملحقها ما عدا روسيا. وفي سنة 1891 رضي البريطانيون بأن يحتل الطليان قصبة (كسلا) بصورة مؤقتة لأن قضية المهدي لم تكن قد انتهت.
أما النجاشي منليك فعني بتوحيد الحبشة وتوقيتها ونقل عاصمة البلاد من (جوندار) بعد أن أحرقها المهديون إلى أديس أبابا. ومنح الفرنسيين امتيازاً بإنشاء سكة حديدية تربط العاصمة بالساحل. ومن الطبيعي أن البريطانيين والطليان لم يرتاحوا إلى عمل منليك فاحتجوا عليه وحرضوا الرهبان عليه بدعوى أن السكة الحديدية من عمل الشيطان.
ولم يستطع الطليان أن يعملوا أكثر من ذلك لأنهم كانوا مكلفين بمساعدة البريطانيين في محاربة المهدي. وكانوا أرسلوا قوة في اتجاه كسيلا بدعوى حماية الأهلين من ظلم دراويش المهدي واحتلوا (أجوردة) وفي سنة 1894 تقدمت قوات طليانية بقيادة الجنرال (باراتيري)
نحو (كسلا) وبعد معركة حامية طردوا أتباع المهدي منها واحتلوها.
أما النجاشي منليك فكان يسعى لتوحيد البلاد فاستند في السياسة الخارجية إلى صداقة فرنسا وأخذ يستميل الرؤساء المخالفين إلى جانبه في الداخل واتفق مع رأس تيجري فاعترف هذا بمنليك ملكاً لملوك الحبشة وهكذا أصبح النجاشي يحكم فعلاً بلاد الحبشة برمتها.
وأول عمل قام به بعد إعلانه ملكاً لملوك الحبشة أنه أخذ يذيب كل العملة التي ضرب الطليان عليها رسم ملك إيطاليا ويضع بدلاً من رسم الملك الإيطالي رسم النجاشي منليك ويكتب اسمه فيها بالكتابة الحبشية ويضع في الوجه الثاني للعملة شعار الحبشة الأسد والتاج.
(يتبع)
طه الهاشمي
شكاة واعتذار
قصة معلم
فمن كان يرثي قلبه لمعذب=فأجدر شخص بالرثاء المعلم
الرسالة 117 (الأستاذ محمود غنيم)
للأستاذ علي الطنطاوي
قلت لصديق لي أديب:
- إني لأقرأ لك منذ عشر سنوات، فما رأيتك أسففت إسفافك في هذه الأيام، وإني لأشك أأنت تكتب ما تكتبه، أم يجري به قلمك وأنت نائم، فتأخذه فتضع عليه اسمك؟ فماذا عراك أيها الصديق فأضاع بلاغتك ومحا آيتك؟
- قال: دعني يا فلان دعني. . . فإن سراج حياتي يخبو، وشمعتي تذوب؛ وما اخالني إلا ميتاً عما قريب، أو دائراً في الأسواق مجنوناً. . . إنني انتهيت. . . بعت رأسي وقلبي برغيف من الخير. . . . . . . .
- قلت: أربع عليك أيها الرجل وأخبرني ما بك، فلقد والله أرعبتني. . . . . . . . . .
- قال: وماذا بي إلا أني معلم. إني معلم في مدرسة ابتدائية. . نهاري نهار المجانين، وليلي ليل القتلى، فمتى أفكر، ومتى أكتب. . . . وأنا أروح العشية إلى بيتي مهدود الجسم، مصدوع الرأس، جاف الحلق، فلا أستطيع أن أنام حتى أقرأ مائة حماقة، حتى أصحح مائة كراسة، فأعمي عيني بقراءتها، والإشارة إلى خطئها، وبيان صوابها، وتقدير درجاتها، فإذا انتهيت من هذا كله - ولا يقرأ تلميذ من كل هذا شيئاً، ولا ينظر فيه - عمدت إلى دفتر تحضير الدروس، وهو الموت الأحمر، والبلاء الأزرق، الذي صبّ علينا هذا العام صباً، فكتبت فيه ماذا أنا فاعل غداً في الفصل، دقيقة دقيقة، ولحظة لحظة. . . وماذا أنا قائل من كلمة، أو مقرر من قاعدة، أو ضارب من مثل، حتى إذا بلغت آخر كلمة فيه، استنفدت آخر قطرة من ماء حياتي، فسقطت في مكاني قتيلاً، فحملت إلى السرير حملاً. . فنمت نوماً مضطرباً ملؤه الأحلام المزعجة، والصور المرعبة، فأحس كأن أمامي ركام الدفاتر التي سأصححها غدا، فلا أنجو منها حتى أبصر المفتش يتكلم من فوق المآذن، فلا يدع قاعدة من
قواعد التربية، ولا نظرية من نظريات التعليم، ظهرت في فرنسا أو إنكلترا، إلا أرادني على تطبيقها، في فصل فيه سبعون تلميذاً قد حشيت بهم المقاعد حشواً، وصفوا على الشبابيك، ووضعوا على الرفوف، ممالا يرضى عنه منهج من مناهج التربية، ولا قانون من قوانين الصحة؛ فإذا انمحت هذه الصورة، رأيت كأني أفهم تلميذاً وهو يصغي إليّ ولا يفهم، فأكرر وأعيد فلا يفهم، فأقوم إليه أنظر ما يصنع، فإذا هو منصرف إلى دُبيرة يربط رجلها بخيط. فإذا شتمته أو أخرجته من الفصل، ذهب يستنجد القانون الذي حرّم العقوبات كلها، وكفّ يد المعلم، وشد لسانه بنسعة. . . ولا أزال في هذه الأحلام، تنوء بي، فأتقلب من جنب إلى جنب، أحس كأن رأسي من الصداع بثقل أُحُد، حتى يصبح الله بالصباح، فأفيق مذعوراً، أخشى أن يسبقني الوقت، فلا أدري كم ركعت وكم سجدت، ولا كيف أكلت ولبست، وأهرول إلى المدرسة لا أستطيع التأخر عنها ولو طحنتني الأوجاع، أو أحرقتني الحمىّ، لأن المعلم لا يسمح له القانون أن يمرض في أيام المدرسة، وعنده أربعة أشهر (عطلة الصيف) يستطيع أن يمرض فيها، فإذا خالف ومرض، حرم الراتب ومنع العطاء!
أغدو إلى المدرسة، فأدخل على تلاميذ السنة الثالثة الأولية، وهؤلاء هم تلاميذي، لم يجدوني أهلاً لأكبر منهم. . . فلا أنفك أقطع من عقلي لأكمل عقولهم، وأمزق نفسي لأرقّع نفوسهم، ثم لا أفلح في تعليمهم ولا أنجح في تفهيمهم، ولا أدري من أين السبيل إلى مداركهم؛ فأنفق ساعة كاملة، أقلّب أوجه القول، وأستقري عبارات اللغة، لأفهمنهم كيف يكون (الاسم هو الكلمة التي تدل على معنى مستقل في الفهم وليس الزمن جزءاً منه) فلا يفهمون من ذلك شيئاً، ولا أقدر أن أطرح هذا التعريف السخيف أو أستبدل به، فأهذي وأهري ثم أقول: من فهم؟
فيرفع ولد إصبعه. فأحمد الله على أن واحداً قد فهم، وأقول:
- قم يا بني بارك الله فيك، فأخبرني عن معنى هذا التعريف
- فيقول: يا أستاذ! هذا داس على قدمي. فأصيح به ويحك
أيها الخبيث! إني أسألك عن تعريف الاسم، فلماذا تضع فيه قدمك؟ ألم أقل لكم إن هذه الشكاوي ممنوعة أثناء الدرس؟
- فيقول: ولماذا يدوس هو على رجلي؟!
- فأصيح بالآخر: لم دست على رجله يا شيطان؟
- فيقول: والله لقد كذب، ما دست على رجله ولكن هو الذي عضّني في أذني فأغضب وأصرخ في وجهه:
- وكيف يعضك وأنا قاعد هنا؟
- فيقول: ليس الآن، ولكنه عَضّني أمس ويتطوع العفاريت الصغار للشهادة للمدعي وللمدعى عليه، ويزلزل الفصل فأضرب المنصة بالعصا وأسكتهم جميعاً مهدداً من يتكلم بأقسى العقوبات، ولا أدري أنا ما أقسى العقوبات هذه؟. . . فيخنسون ويُبْلسون فأعود إلى الدرس فإذا هو قد طار من رؤوسهم، على أنه ما استقر فيها قط!
وينفخ في الصور، فتقوم القيامة، ويخرج الأولاد إلى الفرصة، ثم نرجع إلى درس القرآن. فأقول:
- من يحفظ سورة الفاتحة؟
- فيتصايحون: أنا. . . أنا. . . أنا
- سكوت! واحد فقط. . . اقرأ أنت
- الحمد لله رب العالمين. . . إياك نعبِد
- فأقول: إياك نعبُد. - فيقول: نعبد
- ويحك: نَعْ بُ د
- فيقول: نَعْ بِ د
- انتبه يا بني: نَعْ بود
فيقولها. حسن. قل نعبُد. فيقول: نعبِد فلا نزال في نعبُد ونعبِد حتى ينتهي الدرس. ولا يلفظونها إلا بالكسر لأنهم حفظوها من السنة الأولى خطأ.
ولا أزال في هذا البلاء بياض نهاري، ولا يأتي المساء وفيّ بقية من عقل، أو أثر من قوة، ثم لا أنا أرضيت الوزارة، ولا أنا نفعت أبناء المسلمين، ولا أنا انصرفت إلى مطالعاتي وكتابتي.
وهذه مكتبتي لم أدخلها منذ أول العام المدرسيّ، وهذه مشروعات المقالات والبحوث التي أكتبها، وهذه مسوّدات الكتاب الجديد الذي أؤلفه مبثوثة في جوانب الغرفة، ضائعة مهملة.
أفتلومني بعد، على أني لا أجوّد في هذه الأيام؟ قلت: هذه والله حالي فلست ألومك؛ فرّج الله عني وعنك!
دمشق
علي الطنطاوي
آيتان من آيات الله
للأستاذ قدري حافظ طوقان
حدثت منذ أسبوعين حوادث جوية في نابلس لا عهد لنا بها، ولا لمن هم أسن منا، أزعجت الناس وأدخلت خوفاً كثيراً إلى نفوسهم؛ هالتهم وعظمت عليهم، أقضت مضاجعهم ونفت الكرى عن عيونهم؛ أرجعتهم إلى الله يسألونه اللطف بالكهول والأطفال، وقام المؤذنون من أعلى المآذن يستنجدون بخالق السموات والأرضين أن ينظر بعين الرأفة إلى هذه الأمة التي توالت عليها المحن والمصائب من كل جانب؛ وكان صوت:(يا رب - يا لطيف) يدوي في الأجواء، ويرن في الآفاق، ترجعه الأصداء إلى الآذان، فيدخل إلى النفوس خشوعاً أحاطه الخوف، واستسلاماً أحاطه الإيمان والعقيدة، فاطمأن المؤمنون وقالوا: ليفعل الله ما يشاء؛ هو العليم وهو الحكيم، بيده الخير إنه على كل شئ قدير. وقال آخرون: إنها لعلامات تدل على قرب الساعة. وقال غيرهم: إنها لأشارات تنذر بالحروب والكوارث. وكيف لا تشغل هذه الظواهر أفكار الناس، وكيف لا تصبح حديثهم وموضع تنبؤاتهم وخوفهم وقد شغلت السماء كلها، بما على الأرض من رياح ومياه وأشجار ومبان؟؟. .
لاحظ الناس في مساء يوم الأحد الموافق 21 من الشهر الفائت أن الحالة الجوية غير طبيعية قبل غروب اليوم المذكور، فقد كانت تظهر في بعض جهات المشرق والجنوب بروق ولمعات فجائية، دامت إلى ما بعد الغروب، ثم ما لبثت هذه البروق وتلك اللمعات أن استحالت إلى بروق متواصلة متعاقبة الحدوث والظهور في نواحٍ عديدة إلى أن شملت السماء كلها، فإذا أضواء شديدة تنبعث من بين الغيوم من شرارات كهربائية كثيرة الشعب والتعاريج، كانت تظهر للناظرين وقد خيل إليهم أن السماء مفتحة الأبواب، تخرج منها أنوار تخطف الأبصار، مصحوبة برعود متعاقبة، لها قعقعة مختلفة الشدة، تبعها برد وأمطار غزيرة ورياح هائجة أحارت الناس وأذهلتهم.
ومما لا ريب فيه أن هذه الظواهر الجوية لا تحدث عفواً ومن دون أسباب، بل إن وقوعها لا يكون إلا حسب أنظمة خاصة لا تتعداها، خاضعة لنواميس طبيعية لا تشذ عنها، عرف الإنسان بعضها ووقف على أسرارها؛ وقد ثبت أن مدبر هذا الكون سائر بكونه على أساس من القواعد والقوانين متين، وقد أتبع كل شئ سبباً، وكلما عرف الإنسان شيئاً عن هذا
النظام وهذا الناموس وتلك القواعد والقوانين تجلت لنا عظمته تعالى واضحة في آياته، وتجلت لنا حكمته في أفعاله وأعماله؛ وما البرق والرعد وما إليهما إلا آيات من آيات الله لا تحدث لموت أحد، ولا تنبئ عن وقوع حروب، بل هي ظواهر تسير حسب أنظمة تمكن العلماء من اكتشافها، وثبت لديهم أنها دلائل ساطعة على قدرته تعالى وأُلوهيته جل وعلا. . . . . . . . . .
لقد حسب كثير من الأقدمين أن هذه الظواهر الجوية من أفعال الشياطين تجري بموجب قدرة إلهية لتوقع القصاص على الكفار والمذنبين. هذا الرأي كان سائداً في الغرب وعند كثير من العلماء؛ ومن الغريب أن العرب لم يأخذوا بهذا الرأي، وقد استعملوا في تعليل بعض هذه الظواهر الجوية العقل والفكر فكان رأيهم في تعليل حدوث البروق والرعود والصواعق، مع بُعده عن الحقيقة، يدل على دقة في الملاحظة، ويدل أيضاً على أنهم كانوا لا يقبلون الآراء والنظريات المبنية على أوهام وخزعبلات فنجد أحد علمائهم وهو القزويني يقول في تعليل البرق والرعد ما يلي:
(إن الشمس إذا أشرقت على الأرض حللت منها أجزاء أرضية تخالطها أجزاء نارية ويسمى ذلك المجموع دخاناً، ثم الدخان يمازجه البخار ويرتفعان معاً إلى الطبقة الباردة من الهواء فينعقد البخار سحاباً ويحتبس الدخان فيه، فإن بقي على حرارته قصد الصعود، وإن صار بارداً قصد النزول، وأيَّا ما كان يمزق السحاب تمزيقاً فيحدث منه الرعد، وربما يشتعل ناراً لشدة المحاكة فيحدث منه البرق إن كان لطيفاً، والصاعقة إن كان غليظاً كثيراً فتحرق كل شئ أصابته، وربما تذيب الحديد على الباب ولا تضر بخشبه، وربما تذيب الذهب في الخرقة ولا تضر الخرقة، وقد يقع على الماء فيحرق حيتانه وعلى الجبل فيشقه. . . . .) وقال في سبب رؤية البرق قبل سماع الرعد. . . (واعلم أن الرعد والبرق يحدثان معاً لكن يُرى البرق قبل أن يسمع الرعد لأن الرؤية تحصل بمراعاة البصر، وأما السمع فيتوقف على وصول الصوت إلى الصماخ، وذلك يتوقف على تموّج الهواء، وذهابُ النظر (أي سير النور) أسرع من وصول الصوت. . .)
ولقد بقي تعليل البرق والرعد وغيرهما من الظواهر الجوية غامضاً إلى أن جاء فرنكلين الأمريكي في القرن الثامن عشر للميلاد فأوضح هو وغيره بأن في الجو كهربائية يمكن
الحصول عليها، وقد أثبت وجودها بتجارب عديدة، وبين أيضاً أن هذه الكهربائية موجبة في غالب الأحيان، وأن كهربائية السحب تكون عادة سالبة، وقد تكون موجبة في بعض الأحيان، وأن هذا كله يتبع التغيرات الجوية، وعوامل عديدة بعضها معروف والبعض الآخر غير معروف؛ وقد قدم فرنكلين بنتيجة تجاربه تقريراً إلى جمعية الملكية بلندن؛ ومع أن أعضاء هذه الجمعية عدو تجاربه وآراءه خيالاً في أول الأمر إلا أنهم أقروا أخيراً نظرياته وأخذوا بآرائه ومنحوه نوطاً رفيعا الشأن اعترافاً بفضله وانتخبوه عضواً في جمعيتهم.
واختلف العلماء في منشأ كهربائية الجو والسحب؛ ومن الغريب أن هذا الاختلاف لا زال قوياً، إذ لم يستطع أحد البت في هذا الشأن. يقول بعض العلماء إن سبب وجود الكهربائية في الجو يرجع إلى تبخر الماء المحتوي على مقادير ضئيلة من الأملاح؛ ويقول آخرون إن منشأ الكهربائية الجوية بما فيها السحب هو الاحتكاك بين القطرات المائية الدقيقة بالثلج الموجود في الطبقات العالية من الجو. وهناك عوامل أخرى لها علاقة بمنشأ هذه الكهربائية لا تزال غامضة وفي حاجة إلى الاستقصاء وزيادة البحث. . . ولكن الثابت
المحقق أن في الجو كهربائية، وأنه يوجد سحب كثيرة مشحونة بكهربائية سالبة أو موجبة، فقد يصادف أن تمر سحابة مشحونة فوق سحابة أخرى أو فوق شجرة أو بناية، فتؤثر فيما تمر عليه وتجذب إليها الكهربائية المخالفة لها، وينتج عن ذلك اتحاد نوعي الكهربائية برغم الهواء ومقاومته، ومن هذا الاتحاد تتكون شرارة كهربائية ينبعث منها ضوء شديد نسميه (البرق)؛ وكثيراً ما يكون سير هذه منعرجاً، ويرجع العلماء سبب هذا إلى مقاومة الهواء الشديدة عند اتحاد نوعي الكهربائية؛ ويختلف طول الشرارة بحسب مقادير الشحنات الموجودة في السحب وعلى سطح الأرض فقد يبلغ ميلاً وقد يزيد على ذلك. ويلاحظ أن لون البرق يختلف، فبينما نراه أبيض في أسفل الجو نراه في أعلاه ضارباً إلى اللون البنفسجي أو مائلاً إلى الحمرة، وذلك لتخلخل الهواء في تلك الجهات المرتفعة.
والبرق على أنواع: منها برق كثير التعاريج وقد ظهر جلياً في تلك الليلة التي دفعتنا إلى كتابة هذا المقال.
وبرق يرى عند الأفق وهو في حدوثه كاللمعة الفجائية، وبرق كروي يمتد من السحاب إلى
الأرض في بطء ويمكن العين أن تتبعه. وقد اختلف العلماء في منشأه وفي أسباب حدوثه ولم يستطيعوا أن يصلوا إلى نتيجة قاطعة في ذلك؛ وهناك برق يرى في ليالي الصيف برغم صفاء السماء، ويرجع منشأ هذا البرق إلى الغيوم الموجودة تحت الأفق، وهذه الغيوم تكون عادة بعيدة، وبعدها هذا من العوامل التي تحول دون سماع أصوات الرعود التي تحدث كنتيجة لهذا البرق. وقد أثبتت التجارب أن البرقة تتكون من شرارات عديدة يتبع بعضها بعضاً وإن مدة لبث ضوء البرق أقل بكثير من عشر الثانية.
أما الرعد فهو الصوت الذي يعقب البرق، وهو يسمع دائماً بعد رؤية البرق، والسبب في ذلك يرجع إلى أن سرعة الصوت أقل بكثير من سرعة الضوء، فالصوت يسير في الثانية الواحدة نحو ربع كيلومتر، بينما الضوء يقطع ثلثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة - فتأمل!!. .
وسبب حدوث الرعد يرجع إلى أنه عند ما يتحد نوعاً الكهربائية أي عند التفريغ الكهربائي بين سحابتين، أو بين سحابة والأرض، يتمدد الهواء في منطقة التفريغ ويحدث ضغطاً على الهواء المجاور ثم يأتي الهواء ثانياً إلى تلك المنطقة لتخلخل هوائها، وهكذا تتكرر هذه الحركات وينتج عن تعاقبها صوت نطلق عليه اسم (الرعد)، فإذا كان التفريغ في منطقة قريبة منا سمعنا صوتاً مزعجاً جداً؛ أما إذا كانت بعيدة فحينئذ يكون للرعد أصوات ليس فيها شدة نسمعها متتابعة آخذة في الازدياد من أزيز إلى قرقرة إلى قعقعة؛ وإذا حصل برق ولم يعقبه رعد فمعنى هذا أن التفريغ الكهربائي حدث في أماكن بعيدة أو في مناطق مرتفعة حيث الهواء قليل الكثافة.
وكثيراً ما نسمع بأن صاعقة وقعت على شخص فأفقدته حياته، وانهالت على بعض مواد قابلة للاشتعال فألهبتها، وأنها أصابت حيواناً فأماتته، وأنها نفذت إلى الأرض فأحدثت فيها فوهات عميقة، وقد تقع على قضبان من الحديد فتمغنطها وتظهر عليها آثار المغناطيسية بصورة ملموسة. فما هي هذه الصاعقة التي تحدث مثل هذه الأعمال؟ ما سبب حدوثها؟ لقد أثبتت التجارب أن الصاعقة ليست إلا تفريغاً كهربائياً بين سحابة مشحونة وبين الأرض. فالأرض تشحن بالتأثير بكهربائية مخالفة كهربائية السحابة فيحصل اتحاد بين نوعي الكهربائية وينتج عن ذلك شرارة كهربائية وهي ما نسميها بالصاعقة. وهي تتجه في
سيرها في الطرق الأقل مقاومة لها من الهواء فتمر على المباني والأشجار وتؤثر فيها؛ وقد تحدث فيها أضراراً جمة، فإذا مرت على شخص أو حيوان فقد تفقدهما الحياة، ولهذا لا يستحسن أن يجلس الإنسان في الليالي الكثيرة البرق في أماكن مرتفعة (تحت السماء) أو تحت شجرة، ففي ذلك كله يعرض نفسه للخطر. وتسلح الأبنية في البلدان التي يكثر فيها وقوع الصواعق بجهاز خاص يطلق عليه اسم (مانعة الصواعق، أو مترسة الصاعقة) اخترعها فرنكلين لحفظ المباني والأماكن العامة من الأضرار التي تحدثها الصاعقة: وبرغم معارضة رجال الدين لهذا الاختراع الجليل في بادئ الأمر فقد انتشر انتشاراً كبيراً في أمريكا وأوربا، وذاع اسم مخترعه (فرنكلين) وأصبح حديث الحلقات العلمية وموضع إعجاب العلماء ورجال الأعمال. ولا بأس من الإشارة إلى أن فرنكلين لم يكن عالماً فقط، بل خدم العلم وقام بقسط كبير في تقدم الكهرباء، وإليه يرجع الفضل في إنشاء الجمعية الفلسفية الأمريكية وفي تأسيس جامعة بنسلفانيا الشهيرة، وفوق ذلك فقد كان من كبار سياسي زمانه الذين جاهدوا كثيراً في سبيل استقلال بلادهم، ومات وقد تحقق كثير من غاياته السياسية التي من أجلها ضحى وناضل. وهذا المخترع العالم جدير بأن يكون قدوة صالحة ومثلاً عالياً لعلمائنا الذين يقبعون في بيوتهم أو في معاهدهم ولا يبذلون شيئاً من مجهوداتهم وتفكيرهم لخير بلادهم.
وليت الأمر يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى أنهم لا يسيرون في ميادينهم العلمية سيراً قومياً، فلست ترى إلا نادراً من خصص بعضاً من وقته في ناحية الكشف عن مآثر أمته في الطب مثلاً أو التاريخ أو الرياضيات أو الآداب أو الطبيعيات أو الفلسفة أو في أي فرع من فروع المعرفة الأخرى وأثرها (أثر الأمة) في تقدم المدينة وسير الحضارة؛ وقد غرب عن بالهم أن علماء الأمم في هذا الزمان وفي الأزمنة السابقة قد خصصوا (ويخصصون) جانباً كبيراً من وقتهم وتفكيرهم في ناحية بعث الثقافة القومية وتبيان آثار أممهم في ميادين العلوم والفنون. نحن لا نقول بألا يواصل علماؤنا بحوثهم وألا يهتموا بالتنقيب، ولكننا نقول بأن يخصصوا جانباً من وقتهم للاشتغال في تحرير بلادهم من النير الأجنبي ولتوجيه بعض بحوثهم توجيهاً قومياً يخلق في النشء روح الاعتزاز والاعتقاد بالقابلية، وفي هذا قوى تدفع بالأمة المستعمَرة إلى ما تتمناه من رفعة وسؤدد واستقلال.
ولنرجع الآن إلى مانعة الصواعق فنقول إنها تتركب من ساق وموصل، فالساق يتركب من قضيب حديدي مدبب في نهايته العليا لا يقل طوله عن خمسة أمتار ولا تقل مساحة مقطعه عن 25 سنتيمتراً مربعاً يوضع في أعلى البناء المراد تسليحه، ويغطى طرفه الأعلى عادة بطبقة من البلاتين لكي تمنع تراكم الصدأ، وبذلك يبقى القضيب جيد التوصيل؛ أما الموصل فهو سلك من حديد أو عدة أسلاك تمتد من نهاية الساق إلى الأرض، ومن الضروري ملاحظة هذه النقطة - نقطة الاتصال الأرضي - إذ يجب أن يكون الاتصال (بالأرض) محكماً، وإلا لما كان للمانعة فائدة عملية، ويستحسن أن تكون نهاية الموصل في أرض مبللة أو في بئر، وإذا لم يمكن ذلك فمن الضروري عمل حفرة في الأرض تدخل فيها نهاية الموصل، ويراعى في هذه الحفرة أن تكون دائماً رطبة وذلك بتسليط مجرى مائي عليها، أو باستعمال طرق يمكن بواسطتها حفظ رطوبتها؛ ولكي يضمن الإنسان الفائدة العملية من المانعة يجب عليه أن يجعل لنهاية الموصل شعبتين أو ثلاثة. . وهناك طرق أخرى اخترعت لحفظ المباني من الصواعق وأضرارها يمكن لمن يريد الاطلاع على تفاصيلها أن يراجع الكتب الخاصة بذلك.
ولمانعة الصواعق عملان: الأول أنها تمنع تراكم الكهربائية على سطح الأرض؛ والثاني أنها ترجع السحب المكهربة إلى حالة التعادل؛ وهذان العملان يحولان دون حدوث الصاعقة ويحفظان الأبنية من آثارها؛ وقد تكون المانعة غير قادرة على منع حدوث الصاعقة، فحينئذ يحدث التفريغ وينتج عنه البرق، ولكن يقع التأثير كله وتقع الصدمة كلها على المانعة لأنها جيدة التوصيل، وبهذه الطريقة يصان البناء ويبقى سالماً.
لقد تكلمنا بإيجاز عن البرق والرعد والصاعقة، وعن كيفية حدوثها، ومن أراد زيادة البحث والاستقصاء فعليه أن يرجع إلى الكتب الموضوعة في علم الطبيعة وغيرها، ففيها الكفاية والتفصيل.
ويظهر لنا مما مر أن هذه الظواهر كغيرها تسير على قانون ونظام لا تخرج عنهما، وترتكز على أسس ومبادئ يسعى الإنسان للتعرف عليها والوقوف على دقائقها؛ وإن في تعرف الإنسان عليها ووقوفه على دقائقها لما يقوى فيه الاعتقاد بوجود قوة الله المدبرة الحكيمة المنظمة التي تشرف على هذا الكون وتسيطر على حركاته. أليس في البرق
والرعد والصاعقة وفي كيفية حدوثها، وفي المبادئ الطبيعية التي تسودها ما يزيد المرء اعتقاداً بضآلته؟ أليس في عدم استطاعته اكتشاف كثير من القوانين التي تسود الكون، وفي عدم وصوله إلى نتائج حاسمة في الوقوف على أسرار بعض الظواهر الجوية ما يزيد الإنسان اعتقاداً بأنه لا يزال على عتبة اليقظة العقلية؟
أليس في معرفة شئ عن حقيقة هذه الظواهر الجوية ما يزيد في وداعة الإنسان وفي تواضعه، ويسمو به إلى عالم أسمى من عالمنا؟
أليست هذه الظواهر الجوية دلائل قاطعة على عظمة الله المبدعة وقدرته الخارقة؟
وأخيراً أليست هذه الظواهر من آياته فيها عبرة وعظة للذين يتفكرون في خلق السموات والأرض وما بينهما؟
نابلس
قدري حافظ طوقان
بين الأدب والسياسة
للأديب أحمد الطاهر
نقصد بتاريخ الأدب - هنا - كل ما يتناول الحياة الأدبية للأمة، مما يطرأ عليها من القوة أو الضعف، والصعود أو الهبوط، وأسباب ذلك، وما ينتجه أصحاب البيان في مختلف مناحي القول، ودراسة حياة أولئك المنتجين، وأثر ما انتضحت به قرائحهم في اللغة.
ونقصد بالتاريخ السياسي والاجتماعي - هنا أيضاً - ما يطرأ على الأمة من أحداث وتغيير في نظامها السياسي وعلاقة الحاكم بالمحكوم ونظام الحكم فيها، وعلاقة الأمة بغيرها من الأمم، وكذا حالتها الاقتصادية والمالية، وعلاقة ذلك بمرافقها.
وما سقنا هذا التعريف - وهو غير جامع ولا مانع - إلا لنحد به موضع البحث في الصلة بين التاريخين، وهي صلة وثيقة واشجة. فقلّ أن يتأثر أحدهما بعامل من العوامل دون أن يبدو لذلك أثر في الآخر يبدل وجهته ويغير ديباجته - ذلك مالا خلاف فيه. أما ما اشتجر فيه الرأي وظهر الخلف: فأيهما يسبق الآخر فيمهد له الطريق ويعبد له المسلك؟ وأيهما أبلغ أثراً في الآخر؟ وفي هذا نسوق الحديث:
فجمهرة الأدباء على أن التاريخ الأدبي يسبق السياسي والاجتماعي: فينهج له السبيل، ويمهد له المنبت: فينشأ قوياً أو ضعيفاً، منتجاً أو عقيماً، حسبما تهيأ له.
وأغلب الظن أن هذا القول على إطلاقه لا يقصد به أن يكون قاعدة يعتبر ما شذ عنها استثناءً؛ ذلك بأن استقصاء تواريخ الأمم وتقريه يقف بنا في مراحل عدة نجد فيها التاريخ السياسي والاجتماعي سابقاً للتاريخ الأدبي، مؤثراً فيه أثراً عليه طابع السياسة وسمتها. بحيث لا يسع مؤرخ الأدب إلا أن يعترف بفعل السياسة فيه، وأثرها في أكثر مظاهره ونواحيه؛ ونزول الأدب على حكم السياسة، وكثرة هذه المراحل لا نطمئن معها إلى القول بأنها استثناء للقاعدة، ولعل من الخير ألا نقرر قاعدة بعينها في تحديد هذه العلاقة.
فالأمم الحية القوية التي نالت حظاً من الحضارة والحرية، إذا وقع فيها انقلاب سياسي أو اجتماعي، أو قلبت صفحة جديدة في سجل حياتها السياسية قل أن يحدث فيها هذا الانقلاب دون أن تسبقه نهضة أدبية تهيئه للوجود، وتعده للنهوض بما تفعل في الشعب من إيقاظ الشعور حتى الإحساس بضرورة التغيير، وحفز الهمم حتى تصدق العزائم على المضي إلى
الغاية، وتمحيص الرأي حتى لا يتعثر في درجه مع سيل الحوادث.
ذلك فضل الأدباء والشعراء والخطباء والكتاب، وموضع الأدب هنا موضع السابق من المسبوق، والمتبوع من التابع.
ولا نغفل هنا أن الأدب لا يكتفي بالسبق، ولا يقنع بالقيادة: بل إنه ليلقى الانقلاب السياسي في الميدان بعد أن أفسح له الطريق فيدارجه ويرعاه بما يقويه، ويبعث النشاط في نواحيه، ويهدي الأمة في جهادها فيه، ويقف التاريخ السياسي والاجتماعي حيث قدر له أو حيث أراد، ولكن التاريخ الأدبي لا يقف عند هذه الغاية. بل يسير بعد ذلك ويمتد أثره: فما يزال أهل الأدب بعد الحدث السياسي أو الاجتماعي يحبُون الأمة بفضلهم، ويتعهدونها ببرهم، ويخرجون لها جميل آثارهم، ونتاج قرائحهم: يتحدثون عن الماضي وما كان فيه، ويذكرون الحاضر، ويستشرفون بالأمل في المستقبل، فتربو ثروة الأدب وتنمو. ويتسع مجال القول، وتخلد للأمة آثار تبقي ما شاء الله على تطاول الزمن.
ولا نُغفل كذلك أن الأدب في هذا الوضع يفضل السياسة من حيث ما تفيد الأمة من كليهما: ذلك بأن الانقلاب السياسي أو الاجتماعي غير مأمون العاقبة: فالأمة في سبيلها إلى الغاية السياسية أو الاجتماعية التي تقصد إليها يعرض لها ما يعرض للضاعن في طريقه: فقد تعيا فلا تصل إلى الغاية، أو تتكاءدها عقبات تحول دون الفوز بالمقصد؛ وقد تهب عليها من أية ناحية إعصار وأنواء تصدف بها عن المحجة، وتلوي بها عن القصد، وتضلها عن السمت، فلا تبوء الأمة بعد جهادها الطويل أو القصير إلا بالفشل فيما قصدت إليه، وخسران الأنفس والأموال فيما سمعت له، بَلْهَ جزيرة ذلك على حاضرها ومستقبلها.
أما النهضة الأدبية فقاعدتها بقاء الأصلح. وحكمها فناء السقيم: فمتى نهض أهل الأدب وبرزوا للناس بفضل أقلامهم فذلك هو الخير الذي لا سبيل إلى التشكك فيه من حيث هو ثروة وعتاد في الأدب. والبقاء مكفول لهذه الثروة ما بقي في الدنيا أدباء ومؤرخون؛ ولا بقاء للأدب الرخيص فإنه يذهب جفاء في اللحظة التي يظهر فيها للوجود. ومهما تكن النتائج السياسية أو الاجتماعية التي مهدت لها النهضة الأدبية أو كانت سبباً فيها فهذه النهضة الأدبية لها قيمتها في ذاتها وفيها خيرها من ساعة ميلادها: لا يغض من شأنها، ولا ينقص من قدرها، ولا تمتد إليها يد غاصب، ولا تعبث بها يد ظالم. ولا نقصد بقولنا إن
الأدب الرخيص أو السقيم لا يقوى على الحياة أن أدب الأمة ما بقي لا يكون إلا قيماً ثميناً، إنما قصدنا إلى أن الأدب في فضله وما يتروى الناس منه كالكنز يخرج من بطن الأرض له قيمته وقدره، وقد يكون الكنز ذهباً أو فضة أو معدناً دون الذهب والفضة، ومهما يكن من شئ فهو ثروة لها قدرها ووزنها.
ولكن هناك شروطاً لا بد من وفائها حتى يفيض الأدب فضلاً على أمته، ويبلغ القصد من محجته، في هذا الوضع الذي بيَّنا: أولها أن تكون في الأمة حياة أدبية تثبت وجودها قبل الأحداث السياسية، وتستطيع أن تشق طريقها في ظلمات الانقلاب، وتسلك نهجها تحت عواصف الثورة، وتقوى على البقاء بعد أن تهدأ العاصفة؛ وثانيها أن تكون الأمة موفورة الحق في المتعة بحرية القول والبيان عن جدارة واستحقاق فلا تكتم عن الحق أفواه الخطباء، ولا تكتم عن الصدق أنفاس الشعراء، ولا تزم عن الكتابة أنامل الكتاب. وثالثها: أن يكون سواد الأمة مثقفاً ثقافة أدبية؛ فبغير هذا لا ينبت لأهل الأدب زرع، ولا يدر لهم ضرع، ولا يصيخ لهم سمع. وأقرب المثل لهذا الوضع وهذه النتائج الثورة الفرنسية ونهضة الأدباء قبلها وأثناءها وبعدها. وذلك مالا يحتاج إلى بيان.
أما الأمم الواهنة المستضعفة فالعلاقة بين تاريخها السياسي والاجتماعي وتاريخها الأدبي مضطربة متبلبلة، لا تسير على نهج واضح، وتنقطع حيناً وتتصل حيناً، وتضعف وتقوى؛ ذلك بأنها لضعفها واستكانتها وفرط ما كرثتها الحوادث تسلم سجل تاريخها السياسي للقدر، أو لمن بيده أمرها؛ يقلب صحافته كما يشاء، ويمحو ويثبت فيه ما يشاء. فلا موضع للقول بأن لأدبائها أو لتاريخها الأدبي أثراً في خلق انقلاب سياسي فيها، أو التمهيد له، أو تقويته، أو تعهده. فإذا حدث فيها انقلاب سياسي فهو في أغلب الأحيان مقطوع الصلة بحالتها الأدبية؛ على أنه إذا جد الجد، وقويت حركة الانقلاب السياسي وغلت مراجله حتى تنفست عن ثورة حادة، أو ما يشبه الثورة الحادة، فقد يؤثر ذلك في تاريخ الأمة الأدبي، فيطلق الألسنة من عقالها، ويمد القرائح بغذائها، فتنطلق في الجو صيحات تكون خافتة في مبدئها، وتستسلم بعد ذلك للأقدار، فأما أن تقوى وتشتد، وأما أن تضعف وترتد.
وهنا نرى للأدب فضلاً آخر لا يجوز إغفاله: ذلك بأن الأمة التي وصفنا قد تعوزها في جهادها السياسي وسائله وعدته، أو يقعد بها ضعفها عن النهوض له فتستخذى وتستسلم
لضعفها أو قوة غلبها. أما أهل الأدب فلا ينضب لهم معين، ولا يقفر بهم منبت، فهذه الظلمات المحيطة بالأمة ينسجون من خيوطها شعراً، وهذه صخور الظلم والاستعباد يفتتونها بأسنة الأقلام ويبسطونها للناس نثراً، ومن هذا يحاولون إحياء شعور أماته الظلم، وإثارة همم قعد بها الخنوع. وقد يفلحون فيصلون بالأمة إلى غاية سياسية محمودة، وقد يخفقون ولكن بعد أن يتركوا للأمة ثروة أدبية؛ ولا تنس أن جهادهم شاق وعسير، وأن بلاءهم مرهق ومرير.
وهنا نجد التاريخ السياسي سابقاً ومتبوعاً، والتاريخ الأدبي لاحقاً وتابعاً؛ والأول مؤثر في الثاني أثراً قوياً أو ضعيفاً، وقد يبرز الأول في الميدان فلا يتبعه الثاني ولا يجاريه، وإن تبعه ففي تؤدة ووناء. على أنه يشترط أيضاً في هذه الحالة أن تكون الأمة مثقفة إلى حد معين حتى تستطيع في وسط هذا المضطرب أن ترى قبس النور ينبعث من قصبات الأقلام فتمشي على هداه، وأن تسمع صوت الحق من الخطباء فتلبي نداه. ذلك أن أتيح للأديب أن يكتب، وللخطيب أن يخطب.
ولا يتداخلنا العجب من أن يسبق التاريخ السياسي ويتقدم والمثل أمامنا واضحة بينة. فتاريخ الأدب الإسلامي إنما تأثر بما سبقه من عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية كان من مظاهرها نشوء الأحزاب السياسية وما فتح الله للمسلمين من بقاع الأرض؛ ذلك أثر في العقلية العربية فغير في أسلوب الشعر والخطابة والكتابة وموضوعاتها تغييراً ظاهراً. وأقرب من هذا المثل تلك الحرب الأوربية التي اندلعت نارها في الغرب، وامتد لهيبها إلى الشرق، فحركت النفوس وحفزت الهمم، وأثارت المطامع، وأبرزت في الشرق طبقةصالحة من الكتاب والأدباء، ما زالوا يعملون وما زال الشرق يرجو من غيثهم خيراً في الأدب وفي السياسة؛ أليست هذه نهضة أدبية قامت على أثر حركة سياسية؟
وليس سبق التاريخ السياسي على الأدبي قاصراً على الأمم الضعيفة أو المستضعفة، فقد يقع هذا في الأمم القوية كما يتضح من أثر تلك الحرب في الغرب، وأكثر أممه قوية متحررة، فقد تقدمت الحرب وأحداثها، ثم تبعها تغيير في الآداب من حيث الأسلوب ونظام القصة وطريقة التفكير، وكان تغييراً مستوياً كاملاً قوياً، بل كان نهضة حادة فتية.
أليس من الخير بعد هذا ألا نلتزم قاعدة بعينها نجري على سننها الأدب والسياسة ونقيد بها
موضع أحدهما من الآخر وأثره فيه؟
ذلك ما أراه في هذا البحث، فإن رأى أئمة البيان وأهل الأدب غيره وجلوا لي وجه الصواب وبصروني مساقط الرأي فإنني لشاكر وسعيد.
اليوزباشي أحمد الطاهر
2 - عمرو بن العاص
بقلم حسين مؤنس
ثم انظر كيف فهم الرسول صلى الله عليه وسلم نفس عمرو: لقد قال: (أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص) لقد أسلم الناس حباً في الإسلام وقد دفعتهم عواطفهم وهدتهم طبائعهم، أما عمرو فقد حسب لأمر حسابه، ووزن ربحه وخسارته، حتى إذا اطمأن فقد آمن. وقد أقبل واثقاً. . هكذا أصاب الرسول الكريم في فهم الرجل الجليل. وأن الرسول ليعرف أن عمراً كان تاجراً داهية ومساوماً ماهراً. . . وأنه قد بذل الثمن وينتظر الربح، فهو لا يضن عليه بما يريد فيؤمره على سرية ذات السلاسل، ويؤمره على المدد الذي أرسله إليه وفيه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ونفر من الأنصار والمهاجرين. . . إن الرسول ليعرف أن هؤلاء كلهم لا ينظرون إلى ولاية أو إمارة. . . لأنهم لا يلقون جزاءهم عن الأيمان إلا عند الله. . . أما عمرو فيجادل أبا عبيدة على الإمارة. . . ويقول له:(إنما قدمت على مدد، وأنا الأمير ولا أمارة لك. . .) فينزل له أبو عبيدة عن الأمارة وكفاه شرف الجهاد. . . ثم انظر كيف يفهم أبو بكر نفس عمرو. . . إنه ليفرده بفتح فلسطين. . . إنه ينقده ثمن ما سيبذل من جهد في الفتح ومهارة في القتال. . . ولو قد طلب إليه أن يكون مكان يزيد بن أبي سفيان مثلاً على جيش دمشق. . . لربما كره عمر. . . وربما لم يبد من المهارة ما أبدى في أجنادين، ولكنه خليفة رسول الله، كان يعرف عمراً خير المعرفة. . . فنزل له عما يريد. ولم يقصر الفاروق في هذا فتركه حراً في فلسطين، لم يعزله كما عزل خالداً. . . وكان عمر يعرف كذلك أن عمراً مغامر. . . وأي تاجر لا يغامر؟ وأي رجال المال لا يرتاح إلى المضاربة والمغامرة والتعرض للغنم العظيم أو الغرم الذي يقصم الظهر. . . ولكنه كان يعرف فيه حذق المضاربة. . . وأنه لا ينزل السوق إلا كاسباً، ولهذا. . . أقره على فتح مصر ولم يفرغ بعد من فتح الشام. . . وكان عمرو في ذلك مساوماً ماهراً ومقنعاً ذا حجة ودهاء. . . فلم تثبت اعتراضات عمر الثبت الحصيف الدقيق الذي يضن بمسلم واحد على أن يجازف به وإنما اقتنع سريعاً. . . كان عمرو ماهراً لسناً بارعاً حين خلا بابن الخطاب وهما عائدان من فتح فلسطين. . . وكان أمهر حين انساب في جنح الليل يسعى إلى مصر سعياً. . . لقد خشي أن يعود أمير المؤمنين فيقبض يده. . . وقد خشي أن يراجع عمر
نفسه. . . أو خشي أن يثنيه أحد عن عزمه. . . وما أخطأ عمرو في ذلك. . . فها هي ساعات لا تنقضي على مسيرة عمرو حتى يقبل عثمان فيعلن إليه عمر نبأ غزاة مصر. . . فما يكاد عثمان يسمع الأمر حتى يراع ويصيح به: (يا أمير المؤمنين: إن عمراً لمجرَّؤ وفيه إقدام وحب للأمارة، فأخشى أن يخرج من غير ثقة ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا. . .) فيشفق عمر على المسلمين إشفاقاً شديداً. . . وتحدثه نفسه أن يستوقف عمراً، ولكن عمراً قد مضى من أيام. . . ولعله قد دخل حدود مصر، ولعل الرسول لا يبلغه إلا وقد دخلها. . . وما ينبغي لجيش إسلامي أن يدخل بلاداً ثم يبارحها من غير فتح. . . تلك إذن هزيمة لا تليق بجند الإسلام.
. . . إذن فليسرع بالكتابة إليه، فإن أدركه الرسول قبل أن يدخل حدود مصر فليرجع، وما في ذلك حرج. . . وإذا كان قد دخلها. . . فليمض على بركة الله، وليبعث إليه الإمداد سراعاً تباعاً. . . كأنما كان عمرو يقرأ ذلك لكنه من كتاب! وكأني به وقد قدر أن الخليفة لا بد أن يستدعيه، وأن أحداً لا بد لائمه في ذلك الأمر. . . فها هو ذا يقرأ كتاب الخليفة دون أن يفتحه!. . . وها هو ذا يحتال حتى يدخل أرض مصر. . . لا لأنه يعلم أن الخليفة قد قال ذلك. . . بل لكي يقول للخليفة إذا أمره بالرجوع:(وكيف أنسحب وقد دخلت أرض مصر. . . فكأني بالروم تقول: خافتنا العرب. . .)
إلى هذا الحد بلغ ذكاء هذا الرجل وحسن تقديره ودقة بصره. . . حتى عمر نفسه على ما عرف عنه من الذكاء الخارق لم يدرك شأو ابن العاص في فن الحساب والتقدير!. . . . . . . . .
وأي صفقة هذه. . . لقد ربحها ابن العاص. . . إنها مصر التربة الغبراء. . . والشجرة الخضراء. . . (طولها شهر وعرضها عشر) كما يقول في وصفه البليغ لعمر. . . ثم انظر كيف يعرف الرجل سبيل استغلال (هذه اللقمة) السائغة. . . إنه يقول: (ألا يتأذى خراج ثمرة إلا في أوانها. . . وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها. . . . فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال. . . تضاعف ارتفاع المال. . .)
وتلك هي سبيل التاجر الذي يحسب مكسبه وطرق الفائدة منه. . . ثم استمع إلى ما يوصي به الناس غداة الفتح. . . إنه لا يقف كثيراً عن حض الناس على الصلاة والصيام. . .
فتلك أمور بينهم وبين ربهم. . . أما هو فحسبه أن يقول (يا معشر الناس! إياكم وخلالا أربعة فإنها تدعو إلى التعب بعد الراحة. وإلى الضيق بع السعة. . . وإلى الذلة بعد العزة. . . إياكم وكثرة العيال. . . واخفاض الحال، وتضييع المال، والقيل والقال بعد ذلك في غير نوال، ثم يوصي الناس بالخيل ويطيل في ذلك. . . لأنها (رأس مال العربي) في الفتح والزرع!. . . وهكذا. . . كان الرجل يعرف قدر الصفقة التي كسبها من عمر، ويعرف سبيل الفائدة منها. . . وإحسان القيامة عليها، وإلى هنا ويبدأ الخلاف بينه وبين غيره. . . حتى عمر نفسه لا يداني ابن العاص في مسائل المال والاستثمار. . . فها هو ذا يكتب إليه يقول:(أما بعد فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة قد أعطى الله أهلها عدداً وجلداً. . . وقوة في بر وبحر، وأنها قد عالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملاً محكماً مع شدة عتوهم وكفرهم. . . فعجبت من ذلك. . . وأعجب ما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحط ولا جدب!) فيرد عليه عمرو الرد الحكيم فيقول: (ولعمري. . . للخراج يومئذ (أي أيام الفراعنة) أوفر وأكثر، والأرض أعمر، ولأنهم كانوا على كفرهم وعتوهم، أرغب في عمارة أرضهم منا مذ كان الإسلام. . .).
هنا نلمس الفرق بين عمرو وغيره من ساسة الإسلام، إنه يجيد الاستثمار، ويحسن القيام على المال. . . . . . وهل كان الولاة الأولون يعرفون من هذه الأمور كثيراً أو قليلاً؟ أترك الجواب على ذلك لابن خلدون فله من ذلك شكوى لا تنقطع. . .! وهنا سر الخلاف بين عمر وعمرو، ومبعث هذه المراسلات التي كانت تشتد وربما وصلت إلى التعريض. . . فهذا عمر يقول:(وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق المبين، ولم أقدمك مصر أجعلها لك طعمة!. . .) ثم يقول له في كتاب آخر: (إنه قد فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم تكن حين وليت مصر!).
إن ابن الخطاب يعرف أساليب عمرو بن العاص، إنه يخشى أن يدخر المال. . . إنه ليبعث إليه محمد بن مسلمة (ليقاسمه ماله) في ظاهر الأمر، وليكون عليه رقيباً حسيباً!. . . في باطنه؛ كان عمر يعرف في ابن العاص صفة التاجر المغامر. . . فعامله على حذر، وأفاد منه ولكن في حذق. ولكن عثمان قد عزله عن مصر. . . فأي خطأ هذا. . . وأي
جهل بطبيعته. . . لو أنه وجه إليه كلاماً أفعل من كلام عمر لسكت. . . لو أنه فعل به أي شئ آخر لما أهاجه ذلك هذا الهياج. . . ولكن (الصفقة) ضاعت من يده؛ لقد عزل عمر بن الخطاب خالد ابن الوليد عن إمرة صد الشام فلم يحزن ولم يبتئس، ولكن ابن العاص لا يسكت. . . إنه يعرض بعثمان حيث جلس. . . إنه يخف إلى المدينة مسرعاً وإن الثورة على عثمان لتضطرب بين جوانحه. . . وأي ثورة هي أشد من هذا الحديث البديع الذي رواه لنا الطبري كاملاً:
قال عثمان: يا ابن النابغة!. . . أتطعن علي وتأتيني بوجه وتذهب عني بوجه آخر؟
عمرو - إن كثيراً مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل، فاتق الله يا أمير المؤمنين في رعيتك.
عثمان - استعملتك على ظلعك وكثرة القالة فيك.
عمرو - قد كنت عاملاً لعمر بن الخطاب ففارقني وهو عني راض.
عثمان - لو آخذتك بما آخذك به عمر لاستقمت، ولكني لنت عليك فاجترأت، أما والله لأنا أعزمنك نفراً في الجاهلية، وقبل أن ألي هذا السلطان.
عمرو - دع هذا، فالحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وهدانا به، قد رأيت العاص بن وائل ورأيت أباك عفان، فو الله للعاص أشرف من أبيك.
عثمان - ما لنا ولذكر الجاهلية!
هكذا تنتهي المحاورة بين الخليفة وعمرو. . . ويخرج هذا الأخير وقد دبر في نفسه أمراً. . . إنه ليثير الناس على الخليفة ويقضي وقته متنقلاً من مجلس إلى مجلس يبسط للناس أخطاء عثمان. . . ويحرضهم على الثورة عليه. . . فإذا وفق إلى إثارة الناس وأنذرت الفتنة فقد انحاز إلى قصره (العميلان) بفلسطين. . . حيث وجدناه في أول هذا الحديث. . . فإذا بلغه مقتل عثمان فقد طرب لذلك ولم يكتم فرحه به. . . وصاح يقول: (أنا عبد الله. . . إذا حككت قرحة أدميتها، أنى كنت لأحرض عليه، حتى لأحرض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل.
والآن! (قد خرج الحق من خاصره الباطل، وأصبح الناس في الحق شرعاً سواء!. مات ولي الأمر وأصبحت دولة الإسلام كلها (صفقة واحدة) تحسن المساومة فيها جملة، ولهذا
أرق عمرو وسيأرق طويلاً، إنه ليتدبر الأمر تدبيراً، وإنه ليقلبه على وجوهه ويحسب مكسبه منه، وخسارته فيه، ثم يمضي على حذر، وسنرى.
للبحث بقية
حسين مؤنس
في الأدب الإنكليزي
5 -
الكائنات الغيبية في شعر شكسبير
بقلم خيري حماد
الأحلام:
إن اهتمام شكسبير بالأحلام ليفوق اكتراثه للعفاريت، فقد جعل منها في كثير من الأحيان قسماً من أقسام الرواية الأساسية بحيث تشكل ما نسميه موضوع الرواية. وهناك عدد من الأحلام في رواياته كان له أثر غير قليل في مجرى الرواية وسياقها التمثيلي. فحلم كلوسستر في القسم الثاني من رواية هنري السادس، وحلم كلارنيس في رواية ريشارد الثالث، وحلم كلبورنيا في رواية يوليوس قيصر، وحلم العرّاف في سمبالين، كلها تكون جزءاً غير قليل من هيكل الرواية التي ذكرت فيها.
وجميع هذه الأحلام التي ذكرتها عدا حلم العراف سمبالين تنبئ عن الموت والخراب؛ فكلوسستر يرى في نومه غلاماً قد لدغته أفعى سامة فقتلته على الفور؛ وكلارنس يحلم أن أخاه قد رمي به في بحر خضم فأغرقه حيث لا رجعة له بعد ذلك؛ وكلبورنيا أبصرت في نومها زوجها قتيلاً بين أيدي مغتاليه ورأت جسده يسيل الدم من جوانبه وقد اجتمع جميع الرومانيين حوله ليرشفوا من دمائه.
وكان الناس على اختلافهم يعتقدون أن الملكة ماب تبعث هذه الأحلام في الصدور؛ وتتجلى لنا هذه الفكرة من أجابه مركونيو لرفيقه روميو إذ يقول: (وإني لأظن أن الملكة ماب قد لازمتك ليلة البارحة)
لقد تحققت جميع الأحلام التي وردت في روايات شكسبير؛ ومن هذا يظهر لنا أن الشاعر كان يعتقد اعتقاداً جازماً في الأحلام وتأثيرها على المجتمع البشري، وهذا الاعتقاد هو ما نسميه اليوم بعلم تفسير الأحلام.
التنبؤ والتنجيم:
تحتوي روايات شكسبير على عدد كبير من النبوءات التي تختلف بحسب أهميتها وكونها
قسماً رئيسياً من أقسام الرواية. وأهم هذه النبوءات التي يطالعنا بها شكسبير هي نبوءة مرجريت في رواية ريشارد الثالث. فهي تتنبأ للملكة اليصابات بقدوم وقت قريب تحتاج في أثنائه لمعونة كل إنسان، وهي تنبئ كلوسستر بقرب ذلك اليوم الذي تقطع فيه الأحزان نياط قلبه؛ وإن من الغريب أن كلتا هاتين النبوءتين تتحقق في سياق الرواية.
وأما النبوءات التي فاهت بها الساحرات في رواية مكبث، فقد تحققت كذلك في نهاية الرواية. وهذه النبوءات كما ذكرنا سالفاً كانت على نوعين: أحدهما حدث قبل أن يكون ملكاً على اسكتلندة، والآخر بعد رُقيه العرش، وقد تحققت هذه النبوءات كما تحققت سالفتها.
وفي رواية (ترويلس وكريسييدا نرى هناك عدداً آخر من النبوءات التي تصدر عن أميرة حمقاء تدعى الكسندره، فقد تنبأت بقتل هكتور ودمار طروادة، وهذا ما حدث حقيقة في نهاية الرواية؛ وترى في بعض الروايات عرافين يتكهنون بحدوث الأمور قبل وقوعها؛ ففي رواية يوليوس قيصر يتكهن العراف يقتل قيصر، وهذا ما يتم فعلاً لننتقل الآن قليلاً إلى البحث في التنجيم والفلك، ونرى هل اهتم شكسبير بهذا النوع من المغيبات. لقد وردت إشارات عدة في كثير من رواياته إلى التنجيم وقدرته على حل رموز الغيب والمستقبل؛ فنرى في كل من هملت، ويوليوس قيصر، وكوريولانوس، والعاصفة، وهنري السابع، ومكبث، وقصة الشتاء ' ' عدداً من الظواهر الطبيعية التي تحدث عادة قبل وقوع أمر جلل.
سيطول بنا البحث كثيراً إذا أسهبت في وصف كل من هذه الظاهر الطبيعية وشرح أسبابها ونتائجها، ولذلك اقتصرت على ذكرها دون شرح أو تفسير، فمن هذه الظاهر الكثيرة ظاهرة سقوط المذنبات وارتفاع أمواج البحر وقدوم بعض الطيور وسخط الطبيعة وانتقال بعض أنواع الحيوانات من مكان إلى آخر، كلها كانت أموراً خارقة للمادة تنبئ عن حدث جلل ومصاب عظيم.
الملاك الحارس
يعرّف جونسون هذا النوع من المغيبات بأنه القوة السماوية التي تحفظ الإنسان من الشرور والآلام؛ وبولكير في كتابه (العقائد الإنكليزية) يقدم لنا تعريفاً أوسع وأكثر شمولاً، فهو يقول:(يكون الملاك الحارس ملاكاً خيراً أو شيطاناً مريداً).
وقد ذكر شكسبير هذا النوع من المغيّبات في سبعة مواضع، وفي كل واحدة منها اتخذها عنواناً للفضيلة ومعنى من معاني الخير والصلاح إلا في روايته العاصفة عندما يصف فردناند هذا النوع من المغيّبات قائلاً:(إن شيطاني الحارس لن يكون قادراً على إيداع شرفي في الرغام، ولن يكون في استطاعته قط أن يغير معالم السرور التي تحيط بي الآن).
من هذه الفقرة يظهر لنا أن للإنسان ملاكاً وشيطاناً حارسين. يؤكد هذه النظرية خطاب فلستاف إلى بونيز قائلاً: (إن لهذا الغلام ملاكاً حارساً بعثه، ولكن له في نفس الوقت شيطاناً يعمي بصائره ويقوده إلى ما فيه شره ومضرته).
ولا يظهر هذا الملاك الحارس للملأ إلا بعد وفاة صاحبه، فيظهر في كل شبح من الأشباح يرتدي نفس الملابس التي كان صاحبها يرتديها قبل وفاته. ولننظر إلى حالة الذهول التي تستولي على الناس عند نهاية الرواية (مهزلة الغلطات فيرون رجلين متشابهين لا يمكن تمييز أحدهما من الآخر. اسمعهم يتهامسون (إن أحد هذين الرجلين ملاك للآخر أو صورة مطابقة له).
وهذا الملاك يلازم صاحبه تمام الملازمة في غدواته وروحاته وفي نومه ويقظته، وهنالك لا يحدث نزاع بين رجلين إلا ويصحبه نزاع آخر بين ملاكيهما الحارسين. ولنستمع إلى مكبث يقول عن بانكو:(إنه الشخص الوحيد الذي أخافه وأرهبه. إن ملاكي الحارس لا يستطيع القيام بأي أمر من الأمور مخافة غضبه وسخطه، كما كان ملاك أنطونيوس خاضعاً تمام الخضوع لملاك بروتس).
مما تقدم يتجلى لنا أن شكسبير عني بالملاك الحارس شيئاً غير الروح وغير الشبح. فما الملاك إلا باعث من بواعث الخير وداعٍ من دعاة الفضيلة بقي صاحبه ويحفظه من كل ما يهاجمه ويناوئه.
(للبحث بقية)
خيري حماد
من تراثنا الأدبي
4 -
أبو العَيْناء
للأستاذ محمود محمود خليل
تتمة
قلت أن أبا العيناء اتسع أمامه الميدان أيام المتوكل، وظهر نجمه، وسعدت أيامه، فلم يقتصر الأمر على اتصاله بالخليفة، بل اتصل بوزيره الفتح وأخيه عبيد الله ابني يحيى بن خاقان واستفاد من عطاياهم وسخائهم مالاً كثيراً؛ ولقد مدح عبيد الله لدى المتوكل حينما سأله عنه فقال:(نعم العبد لله ولك، مقسَّم بين طاعته وخدمتك، يؤثر رضاك على كل فائدة، وما عادَلَ بصلاح ملكك كل لذة). وله كتاب طويل كتبه إلى عبيد الله يستوهبه دابة يركب عليها حينما وهب له ابنه محمداً دابة، فزعم أنها غير فاره. وهذا الكتاب تستطيع أن تجده في كتب الأدب، وهو يدل على التلطف في المسألة، والاحتيال على هؤلاء الرؤساء بتلك الأحاديث الحلوة الفكهة، مما حبب أبا العيناء إليهم، وجعلهم يغضون عن بذاءته ويلبسونه على علاته.
انقضت دولة المتوكل ووزيريه الفتح وأخيه عبيد الله، واضطربت الأمور من بعده، حتى استتب الأمن، ورجعت المياه إلى مجراها، وتولى الوزارة عبيد الله بن سليمان بن وهب في خلافة (المنتصر، المستعين، المعتز، المهتدي) فاتصل به أبو العيناء وحضر مجالسه؛ وطالما حدثنا الرواة عن كثير من حوادثه معه. دخل عليه ذات يوم فقال: أقرب مني يا أبا عبد الله. فقال أعز الله الوزير! تقريب الأولياء، وحرمان الأعداء. قال: تقريبك غنم وحرمانك ظلم، وأنا ناظر في أمرك نظراً يصلح من شأنك إن شاء الله. وقال له يوماً: اعذرني فإني مشغول. فقال: إذا فرغت من شغلك لم نحتج إليك، وأنشده:
فلا تعتذر بالشغل عنا فإنما
…
تناط بك الآمال ما اتصل الشغل
ثم قال يا سيدي قد عذرتك، فإنه لا يصلح لشكرك من لا يصلح لعذرك. ودخل عليه يوماً فقال من أين يا أبا عبد الله؟ قال من مطارح الجفاء. وأقبل يوماً إليه، فشكا سوء حاله، فقال له أليس قد كتبنا إلى إبراهيم بن المدبر في أمرك؟ فقال: كتبت إلى رجل قد قصَّر من همته
طول الفقر، وذل الأسر، ومعاناة محن الدهر، فأخفق سعيي، وخابت طلبتي. فقال أنت اخترته قال: وما علىَّ أعز الله الوزير في ذلك، وقد اختار موسى قومه سبعين رجلاً، فما كان فيهم رجل رشيد، واختار النبي (ص) عبد الله بن سعد بن أبي سرح كاتباً فرجع إلى المشركين مرتداً، واختار علي بن أبي طالب (ض) حكماً له فحكم عليه؟! وإنما قال أبو العيناء ذل الأسر لأن إبراهيم المذكور كان قد أسره صاحب الزنج بالبصرة وسجنه فنقب السجن وهرب.
ولما نكب الخليفة المعتمد على الله عبيد الله بن سليمان وولي الوزارة صاعد بن مخلد حصل خصام بين الوزير وبين أبي الصقر إسماعيل بن بلبل الكاتب، فانضم أبو العيناء إلى حزب أبي الصقر ولكن ذلك الموقف الذي وقفه من صاعد لم يمنعه من أخذ عطاياه واستجدائه، وحضور مجالسه. وقد عادى أبو العيناء رجلاً يقال له أبو العباس بن ثوابة لمعاداته لأبي الصقر، حتى إن الرجلين اجتمعا في مجلس صاعد يوماً، وكان ابن ثوابة قد سبّ أبا الصقر قبل ذلك بيوم، فقال ابن ثوابة لأبي العيناء: أما تعرفني؟ فقال: بلى أعرفك: ضيق العطن، كثير الوسن، خاراً على الذقن، وقد بلغني تعديك على أبي الصقر، وإنما حلم عنك لأنه لم يجد لك عزاً فيذله، ولا علوا فيضعه، ولا مجداً فيهدمه، فعاف لحمك أن يأكله وينهكه، ودمك أن يسفكه. فقال ابن ثوابة: ما تسابّ إنسانان إلا غلب آلامهما. فقال: لهذا غلبت أمس أبا الصقر!
ولقد كان من جزاء أبي العيناء من أبي الصقر على وقوفه منه هذا الموقف في سبيله أنه عندما تولى الوزارة خيّره فيما يحبه حتى يفعله به، فقال أريد أن تكتب إلى أحمد بن محمد الطائي تعرفه مكاني، وتلزمه قضاء حق مثلي من خدمة، فكتب إليه كتاباً بخطه فوصله إلى الطائي، فسبب له في مدة شهر واحد مقدار ألف دينار وعشرة أجمل، فانصرف بجميع ما يحبه. وله أحاديث كثيرة، ومجالس طريفة مع الوزير أبي الصقر. ويظهر أن هذا آخر وزير اتصل به أبو العيناء من وزراء الدولة العباسية فإنه لم يعش بعد ما نكب الموفق أبا الصقر إلا قليلاً، وتوفي سنة 282 أو سنة 283هـ.
مهاترته مع كاتبين في عصره
على أننا نرى من الواجب علينا أن نأتي بشيء مما جرى بين أبي العيناء وبين كاتبين
قديرين في عصره، هما محمد بن مكرم، وأبي علي بن جعفر الضرير؛ أما مكرم فكانت له معه مداعبات، وكان يهاتره كثيراً؛ كتب إليه ابن مكرم يوماً: قد ابتعت لك غلاماً من بني ناشر ثم من بني ناعظ ثم من بني نهد. فكتب إليه: فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. وولد لأبي العيناء ولد، فأتى ابن مكرم فسلم عليه، ووضع حجراً بين يديه وانصرف، فأحس به فقال: من وضع هذا؟ فقيل ابن مكرم، فقال: لعنه الله إنما عرض بقول النبي (ص): الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقال لابن مكرم وقد قدم من سفر: مالك لم تهد إلينا هدية؟ قال: لم آت بشيء، وإنما قدمت في خِف، قال: لو قدمت في خف لخفت روحك. وقال له ابن مكرم يوماً يعرض به: كم عدد المكذبين بالبصرة؟ فقال: مثل عدد البغائين ببغداد!
وأما أخباره مع أبي علي الضرير فكثيرة، وكم أتمنى أن يتيح لي الزمن فرصة الموازنة بين هذين الرجلين، فإن بينهما شبهاً قوياً، وقد وجدا في عصر واحد، وكانا في البلاغة نسيج وحدهما، ولكن كانت بينهما منافسة قوية أدت إلى أن تجري بينَهما مساجلات ومفاخرات كثيرة، حتى إن فتى من أبناء الكتاب في بعض الدواوين تعرض لأبي العيناء، وكان فيه جرأة فقال: كل الناس يا أبا العيناء زوجة، وأنت زوجة أبي علي البصير. فقال له أبو العيناء: قد ملكنا عصمتك بيقين فحواك، ثم ننظر في شكوك دعواك، وقد طلقت الناس كلهم سواك، ذلك أدنى ألا نعول، وفيك ما يروي الفحول، ويتجاوز السول. ففضحه بهذا الكلام ولم يجبه.
وهذا الحديث يدل على أنه قد كان بين الرجلين تصادم؛ وإن شئت فسمه مشاكسة وجدلاً عنيفاً وصراعاً قوياً بالألسن وأنه كثيراً ما يكون الغلب في جانب أبي علي الضرير.
أدب أبي العيناء
ونقصد بهذا الأدب الشعر والنثر؛ أما الشعر فلا نستطيع أن نعد أبا العيناء شاعراً مكثراً من فحول الشعراء لأننا لم نجد له في كتب الأدب والتراجم التي بأيدينا شعراً كثيراً؛ إنما الذي نقدر أن نحكم له به أنه كان من شعراء الكتاب أضراب أحمد ابن يوسف الكاتب والوزير للمأمون فيما بعد، وقد تقدم له بضعة أبيات مدمجة في أحاديثه تؤيدنا في حكمنا هذا.
وأما النثر فقد كان أبو العيناء سباقاً فيه، وتمتاز كتابته بأنها تارة تكون مفرغة في قالب
فكاهي مضحك، تقرؤها فلا تكاد تملك نفسك من الضحك، ولكنه إذا أفرغها في قالب الجد أتى بالفقر القصيرة حيناً والطويلة حيناً آخر؛ وكثيراً ما تكون مرسلة، وقد يقيدها بالسجع. فأسلوبه من السهل الممتنع كما يقولون، ويكفيه في منزلته من البلاغة تعجب المتوكل منه، إذ سأله: أكان أبوك في البلاغة مثلك؟ فأجابه بقوله: لو رأى أمير المؤمنين أبى لرأي عبداً له لا يرضاني عبداً له. ونرى كاتباً معاصراً له يشهد له شهادة قيمة وهو محمد بن مكرم الكاتب قال: من زعم أن عبد الحميد أكتب من أبي العيناء إذا أحس بكرم أو شرع في طمع فقد ظلم. ونحن إن كنا نعتقد أن في كلامه غلواً مراعاة للصداقة المحكمة الأواصر بينهما، إلا أن الحال التي وصف فيها أبا العيناء بالإجادة خليقة بتقدير النقد الأدبي لها. فإننا نرى الرجل يأتي برسائل ممتعة حقاً نعجب كيف صدرت عنه، ولكننا لو علمنا أن الدافع له إحساسه بالكرم، أو شروعه في الطمع كما يقول ابن مكرم لا نستغرب هذا.
وإني أريد أن أؤيد كلامي بنماذج من رسائله، ولقد كنت في غنى عن هذا لما تقدم من أحاديثه وكتاباته، ولكني لم أر بداً من الإتيان بنبذ يسيرة منها، فمن رسائله الفكاهية: ما كتبه إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان حينما أهدى إليه ابنه محمد دابة زعم أنها غير فاره:
أعلم الوزير أعزه الله أن أبا علي محمداً أراد أن يبرني فعقني، وأن يربكني فأرجلني: أمر لي بدابة تقف للنبرة، وتعثر بالبعرة، كالقضيب اليابس عَجَفاً، وكالعاشق المجهود دنفاً، قد أذكرت الرواة عذرة العذرى، والمجنون العامري. يساعد أعلاه لأسفله،. . . مقرون بسعاله، فلو أمسك لترجيت، أو أفرد لتعزيت، ولكنه يجمعهما في الطريق المعمور، والمجلس المشهور، كأنه خطيب مرشد، أو شاعر منشد، تضحك من فعله النسوان، وتتناغى من أجله الصبيان، فمن صائح يصيح داوه بالطباشير، ومن قائل يقول نقّ له من الشعير، قد حفظ الأشعار، وروى الأخبار، ولحق العلماء في الأمصار، فلو أعين بنطق، لروى بحق وصدق، عن جابر الجعفي، وعامر الشعبي، وإنما أتيت به من كاتبه الأعور، الذي إذا اختار لنفسه أطاب وأكثر، وإذا اختار لغيره أخبث وأنزر. فإن رأى الوزير أن يبدلني ويريحني بمركوب يضحكني كما ضحك مني، يمحو بحسنه وفراهته، ما سطره العيب بقبحه ودمامته، ولست أرد كرامة، سرجه ولجامه، لأن الوزير أكرم من أن يسلب ما يُهديه، أو ينقض ما يمضيه.
فوجه إليه الوزير برذونا من براذينه بسرجه ولجامه؛ ثم اجتمع مع محمد بن عبيد الله عند أبيه، فقال الوزير شكوت دابة محمد، وقد أخبرني الآن أنه يشتريه منك بمائة دينار، وما هذا ثمنه لا يشتكي. فقال أعز الله الوزير لو لم أكذب مستزيداً لم أنصرف مستفيداً، وإني وإياه لكما قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه، وإنه لمن الصادقين، فضحك الوزير وقال: حجتك الداحضة بملاحتك وظرفك أبلغ من حجة غيرك البالغة.
ومن رسائله الجدية ما كتبه إلى عبيد الله بن سليمان بن وهب: أنا أعزك الله وولدي وعيالي زرع من زرعك، إن سقيته راع وزكا، وإن جفوته ذبل وذوى، وقد مسني منك جفاء بعد بر، وإغفال بعد تعاهد، حتى تكلم عدوّ، وشمت حاسد، ولعبت بي ظنون رجال كنت بهم لاعباً، ولهم مجرّساً. ولله درّ أبي الأسود في قوله: -
لا تهني بعد إكرامك لي
…
فشديد عادة منتزعه
وتلك الرسالة كانت كافية في أن تطلق يد عبيد الله بالعطاء فوقع في رقعته: أنا أسعدك الله على الحال التي عهدت، وميلي إليك كما علمت، وليس من أنسأناه أهملناه، ولا من أخرناه تركناه، وقد وقعت لك برزق شهرين، لتعرفني مبلغ استحقاقك، لأطلق لك باقي أرزاقك، إن شاء الله والسلام.
وكتب إلى الوزير أبي الصقر يشكوه: أنا أعزك الله طليقك من الفقر، ونقيذك من البؤس، أخذت بيدي عند عثرة الدهر، وكبوة الكبر، وعلى أية حال حين فقدت الأولياء والأشكال، والإخوان والأمثال الذين يفهمون في غير تعب، وهم الناس الذين كانوا غياثاً للناس فحللت عقدة الخلة، ورددت إلى بعد النفور النعمة، فأحسن الله جزاك، وأعظم حماك، وقدمني أمامك، وأعاذني من فقدك، فقد أنفقت علي مما ملكك الله، وأنفقت من الشكر ما يسره الله لي، والله عز وجل يقول لينفق ذو سعة من سعته، فالحمد لله الذي جعل لك اليد العالية، والرتبة الشريفة، لا أزال الله عن هذه الأمة ما بسط فيها من عدلك، وبث فيها من رفدك والسلام.
الزقازيق
محمود محمود خليل
وداع والد
للأستاذ محمود خيرت
أخوان ما آب المسافر منهما
…
حتى استطاب أخوه هجران الحمى
فالقلب بينهما الغداةَ موزَّع
…
حيرانُ يخفق نشوةً وتألُّماَ
ولشدّ ما يجد المُفارِقُ ما انتهى
…
مِن جنة اللّقيا إليه جهنما
يا أكبر الأبناء خلّف بعده
…
صبراً تقطّع حبلُه وتصرّما
لم تَدْرِ يوم البين ما فعَل الأسى
…
بأبيك لما أن دنوتَ وسَلّما
عقد الذهولُ عن الكلام لِسَانَه
…
فتكلَّم الدمع العَصِيُّ وترجما
ومشى إليك مشرّداً متخاذلاً
…
يأبى عليه الهول أن يتقدّما
حتى إذا نأتِ السفِين بركبها
…
وغدوتَ بالبُعد الطويل ملثَّما
بَدَتِ الحقيقة كالخيال فها أنا
…
إما أراك غداً أراك توهّما
والدار تنعى أُنسها الماضي وقد
…
أمسى على ظَمْأَى النفوس محرّما
يا من كساها مِن بشاشته سَنىً
…
عكسَت جوانبُها صداه تبسّما
للدور أرواح تحِنّ لأهلها
…
وتطوف مِن خَلل الحواجِز حُوّما
وضّاءة بهمُ الزمانَ فإِن هُمو
…
نزحوا تغشاها الظلام وخيّما
كم كنت ترعاني وتأسُو علَّق
…
وتحولُ دون الدّاء أن يتحكَّما
ولكَم سهرتَ عليّ فيه ليالياً
…
لا عابساً فيها ولا متبرِّما
وتخِذتُ منك وأنتَ منّي عدّة
…
عند الزمان إذا الزمان تجهّما
فالبعد أقسى ما يمُرُّ به أبٌ
…
ثقُلت عليه همومُه فتهدّما
لكنْ رحلتَ ونصبُ عينك غايةٌ
…
كانت أعزّ من البقاء وأكرما
وطَّنتَ نفسك في أمانيها على
…
أن تركب الأخطار كي تتعلّما
محمود خيرت
سليل الأكابر
بقلم رفيق فاخوري
حَسِبَ الدنَى قيدتْ له
…
والكونَ مخلوقاً معهْ
يحيا له ويموتُ إذ
…
تطوي الليالي أجمعَهْ
لم يبك من حظٍ يجدِّ
…
د للفقير على المدَى
بؤساً ويرسم في محيّ
…
اه اكتئاباً سرمداً
فإذا أصاب الدمعُ في
…
عين الشجيّ مسيلَهُ
رقصتْ بكفيه المنَى
…
فشفى بهنَّ غليله
ورثَ الجهالة فاستعا
…
نَ على الجهالة بالغنَى
ويُرَى وضيعاً وهو في
…
عُرْف الدراهم فوقنا
أبداً تواكبه وفو
…
دُ السعد أنىَّ يمما
وتصوغ أحلامُ الفرا
…
غِ له المكارة أنعُما
يمسي ويصبح سادراً
…
يأتيه سعياً رزقُهُ
ونظل نطلب ما حَيي
…
نا والمطالبُ حقهُ
تُفْدَى سلامته بأرْ
…
واح لنا لا تفتدى
الويلُ للخَوَلِ الأصا
…
غرِ إن أضاعوا السيدا
إنا بنو الفقر ابتني
…
نا بالمساعي مجدنا
وشروا بماء الوج
…
هـ حظاً خاسراً لا يقتنَى
ليس الغنَى ما أورثَ ال
…
آباءُ أو ما خَلَّفوا
فاشحذْ قواكَ لغَدوةٍ
…
تُندي الجبينَ وتُرْعف
يا ويحَ للقوم النيا
…
مِ على تصاريف الزمن
الوادعينَ الآكلي
…
ن جَنَى العِباد بلا ثمن
يغدو النعيمُ جسومَهمْ
…
أبداً فتعتلُّ النُّهَى
لكأنهم إبِلٌ هوا
…
ملُ غفلةً أو دونها
جمعوا فما أغناهمُ
…
مالٌ عصارتُه الندمْ
إن لم تكن بالنفس ذا
…
مالٍ فأنت أخو العدم
حمص
رفيق فاخوري
أسمى
[مهداة إلى الأستاذ الكبير المازني]
للأستاذ الياس قنصل
يروق له اصطداميَ بالصعابِ
…
ويعجبُه اتصاليَ بالعذابِ
فيغريني حديثٌ منه خافٍ
…
يخدّرُني بآمالٍ عِذابِ
ويدفعُني إلى بحر الرزايا
…
أصارع منه أمواج العباب
إذا سلّمت نفسي من بلاءٍ
…
أشارَ على سواه باطّلابي
أريد البعد عن كل اضطرابٍ
…
ويأبى أن أكون بلا اضطرابِ
وقفتُ على كرامته حياتي
…
وصنتُ علاءه من كلّ ناب
وفضّلتُ الكفاف على ثراءٍ
…
يلطّخُ عزَّه برشاشِ عاب
وشدتُ له بآي الفنّ قصراً
…
متين الأُسّ مرفوع القباب
تذيع قصائدي منه دوياً
…
ستصحبه إلى يوم الحساب
نصيبيَ أن أهيئ وهو يحبني
…
وينعم من جهادي بالثواب
فإن أنشرْ مقالاً أو كتاباً
…
تخايلَ في مقالي أو كتابي
وإن أسعفْ صديقاً مستجيراً
…
تبختر بين أفواهِ الصحاب
وإن أبعثْ إلى أحد خطاباً
…
تخطّر في الخطابِ وفي الجوابِ
وإن أرحلْ وإن البثْ مكاني
…
تمايل في المجيء وفي الذهاب
فلستُ حياله إلاّ خيالاً
…
يجدُّ - متى يجدّ - إلى سراب
نكبت بشرِّهِ وأنا وليد
…
ورافقني أذاه في شبابي
وسوف يظلُّ مرصوداً لرزئي
…
إلى ما بعد درجي في التراب. .
(عاصمة الأرجنتين)
إلياس قنصل
القصص
صور من هوميروس
14 -
حُروب طَرْوَادَة
أخيل يبكي بتروكلوس
للأستاذ دريني خشبة
قتل بتروكلوس!
وانقلب هذا النصر المؤزّر إلى ذهول استولى على أفئدة الميرميدون، صيرته الصدمة الهائلة أشبه شئ بالهزيمة المؤكدة!
وبينما كانت أبصارهم زائغةً تنظر إلى ما حل بمولاهم، وبينما كانوا ينظرون إلى أشباح المنايا ترف فوق الساحة، وتُدَوّم على رؤوسهم، تكاد تخطفهم، كان هكتور وملؤه ينزعون عدة أخيل، دون أن يلقوا أقل معارضة!. . . . . . . .
ثم أفاق الميرميدون بصيحةٍ من منالايوس العظيم، اقتحم الحلبة نحو زعيمهم قُدُماً، وناضل وحده عن الجثمان العزيز، الذي كان هكتور يمني نفسه بحمله إلى طروادة ليجعله مَعْرِضاً هنالك، يشهد له بالشجاعة المغتصبة، والجراءة المزوّرة، والبطولة التي لم يكن لها أهل؛ ثم ينبذه بعدها بالعراء فتنوشه الطير، وتغتذي بلحمه المر سباع طروادة وكلابها!. . . . . .
وانقض الميرميدون يذودون عن الجثة مع منالايوس، ولكنه انقضاض المهموم المحزون، وهجمة المرَزّأ المكدود؛ فلم تكن ضرباتهم الواهية تخيف الطرواديين بعد إذ أُنقذوا من بتروكلوس الداهية، ولم تكن صيحاتهم الوانية تهز بضعة من قلوب أعدائهم الذين أصبحت لهم الكرة عليهم. . . . . . . . . .
واستطاع منالايوس، بعد لأي شديد وجهد أن يحمل الجثة، يساعده مريونيس الكبير، وأن يقتحما بها المعترك المصطخب إلى الصفوف الخلفية، يحمي ظهورهما أجاكس وجنوده وذعر قادة الهيلانيين حين رأوا شدة هجمات الطرواديين بعد مقتل بتروكلوس، وحين نظروا فوجدوا الميرميدون يشتغلون عن المعركة بالبكاء على مولاهم، والرثاء لما حل بهم من بعده، والفزع الأكبر للقاء أخيل. . . . لا يتقدمهم إليه قائدهم. . . .
ولجأ منالايوس إلى الحيلة، وفكر من فوره في إثارة النخوة في قلب أخيل، عسى أن يقدم فيقود أجناده، ويتم النصر للهيلانيين، فأرسل إليه أنتيلوخوس يحمل النبأ العظيم، ويزلزل من تحته الأرض حين يقص عليه ما لغط به هكتور.
ولو قد علم أنتيلوخوس ما يثيره هذا النعي في قلب أخيل، ما آثر أن ينفذ إليه به! فلقد صرخ ابن ذيتيس صرخة اضطرب لها البحر، وماد الشاطئ، وتجاوبت لها جنبات الجبال، ثم بكى، فاربد أديم السماء واعتكر، واحتلك الضحى وبسر، وشاعت في العالم ظلمه أهول من ظلمة القبور!
(بتروكلوس!. . . . . . . . . . . .)
أفي الحق يا أعز الأصدقاء أنك أوديت! وا حرباً! أإذا لقيتك الآن فأنت ما تحرك شفتيك لتكلمني، وما تفتح عينيك لترى إلى أخيل؟! ألا ينبض قلبك بعد اليوم يا بتروكلوس، حتى ولا بحبي؟!. . . . . .
أإلى حتفك كنت تستأذنني إذن؟. . . . . . . .
ويلي عليك يا بتروكلوس! ويلي عليك يا أعز الأحباب. . .
ولم يُطق، فطفق يحثو التراب على رأسه، ويشد شعره، فيكاد ينزعه، ويرسل في السماء وفي الأرض والبحر صرخاته الداويات.
وانتفض الموج، وفار الماء؛ وكأنما اتصل قلب أخيل باليم فاضطرب بما فيه من وجد، واصطخب بما يؤوده من كمد، وشاعت فيه أشجانه وأحزانه، حتى وصلت إلى الأعماق. . . . حيث تأوي ذيتيس إلى زوجها، رب البحار السفلية، فشعرت الأم المحزونة بما ينتاب ولدها في أسطوله الراسي على هامش طروادة، وأحست بما يأخذه من ألم، ويمزق حشاه من عناء؛ فصرخت ثمة صرخةً اجتمع لها كل عرائس البحر، وعذارى الماء، من حوريات نريوس، وأخذن يلطمن خدودهن الوردية تحت الثبج، ويذرين من نرجس عيونهن فيضاً من الدمع الدري، ثم انتظمن صفوفاً صفوفاً، ورحن يتاهدين وراء ذيتيس، مرسلاتٍ في الأعماق أناشيد الحَزَن، طاوياتٍ ذلك الرحب الذي يفصل بين مملكة مولاهن، وبين شطئان اليوم؛ حتى إذا كُنّ عند الأسطول الهيلاني طفون فوق الماء، فانقلبت اللجة بجمعهن جنة، وارتد البحر بربربهن فردوس نعيم!!
وبرزت ذيتيس فَرَقَت سفينة ابنها أخيل الباكي الآنَّ الحزين؛ وتقدمت فضمته إلى صدرها الحنون، وجعلت تُهوِّن عليه أمر صاحبه، وتصرفه عن هذه الحرب التي يفرق من هولها قلبها الخفَّاق أشد الفَرَق، لما تعلمه منذ قديم من القتلة التي تخترم ولدها تحت أسوار طروادة، كما أنبأتها بها ساحرات الماء. .
وأن أخيل أنة شديدة، وقال لأمه: (أماه! هكذا قدر لنا أن نلقي ما حتمه القضاء علينا، وهكذا شاء سيد الأولمب الكبير المتعال، ولكن خبريني بربك ما قيمة هذه الحياة ما لم يعد بتروكلوس ينضرها ويزين حواشيها، وما دام أعز أحبابي وأودائي ملقى هذه الساحة النكراء، ذبيحاً بين أشقى الخصوم الألداء!!
أه يا بتروكلوس! لقد شفي هكتور غلة قلبه حين سفك دمك غادراً، وحين انتزع عدتك غادراً، وحين يفاخر بكل أولئك غادراً!
وهذه العدة يا أماه! أيلبسها هذا الشقي وهي هدية الآلهة إلى بليوس، أبي، رب الأعماق، وهدية من أبي إلي؟!
أبداً لن أعود معك إلى حيث العار الأبدي ينتظرني، ما لم أثأر لأوفى أحبائي بتروكلوس، من هذا النذل، هكتور، وما لم أرو هذه الصعدة الظامئة من دمه النجس، وأقذف في وجهه بمفاخراته الكاذبة وإهاناته للقتيل الكريم. . .
لا. لا، لا تتحدثي إلي عن أوية تصمنا بالذل إلى الأبد يا أماه، وإني لأقسم بالسماء ومن فوقها، لن أبرح الأرض حتى ينفذ هذا السنان في صدر هكتور!)
وصمتت ذيتيس قليلاً، ثم لم تطق أن تخفي ما تخشاه على ولدها من ذلك القضاء المحتوم، فأخبرته بما تحدثت به العرافات عام ولُد؛ وما تخافه من أمر هذه النهاية المحزنة، والفجيعة التي لا تكون مثلها فجيعة.
ولكن أخيل تبسم ابتسامة محزونة، وتحدث إلى أمه عن المجد الخالد الذي سيحمله اسمه آخر الدهر:(واستبشار الهيلانيين بعودتي لمناصرتهم ووضوح الحق وجلائه لأجاممنون إنني روح الجيش وحماسة الجند، والقوة المذخورة لدحر الطرواديين! صه يا أماه! فلن تزعجني مخاوفك، ولن تلقي في روعي أقل الجزع. . . لأنه إن كان حقاً ما تحدثن إليك به، فأين يهرب أحدنا من القضاء!؟!)
وبهتت الأم مما صمم عليه ولدها؛ ولما أيقنت أن لا سبيل لها إلى قلبه الجريء، بدا لها أن تعاهده على ألا يخوض الكريهة حتى تعود إليه من عند فلكان، الإله الحداد؛ الذي ستذهب هي إليه تكلفه بعمل درع وخوذة تحملهما إليه، ليحمياه في كل يوم روع!! وعاهدها أخيل.
وأمرت ذيتيس عذارى الماء فانثنين إلى مملكة بليوس، يحملن إليه أنباء ولده. أما هي، فانطلقت إلى فلكان. . . هناك. . . هناك فوق ذروة جبل إطنة، حيث وجدته ينفخ في لظى كيره الضخم. . . يصنع الدروع والعُدد. . .
ولقيها الإله الحداد بالترحاب، وشرع من فوره يصنع عدة لم تر العين مثلها، ولم يأبه أن يصنع مثلها حتى للآلهة!!. . . (وكيف لا، وأخيل الحبيب سيدّرع بها وتحميه من أوشاب الطرواديين، وأوغاد هذا الأخ اللئيم مارس، الذي تعلمين مما كان من أمره مع فينوس ما تعلمين. . لقد فضحني السافل فضحته المقادير. . . . . .)
ولكن الساحة كانت تضطرب، وجموع الطرواديين تأخذ الهيلانيين من كل فج؛ وكانت حيرا، ملكية الأولمب، تطلع من عليائها فتأخذها الرهبة لما يحيق بعبادها من تصريع وتقتيل؛ وكانت مينرفا كذلك تهلع عليهم هلعاً شديداً. . .
وتشاور الرّبتان، واتفقتا على أن تُنفذا إيرليس إلى أخيل، تأمر أنه يخوض الكريهة في جانب الهيلانيين. ولكنه قص على الرسول ما عاهد أمه عليه فعاد الرسول إلى الأولمب يحمل نبأ هذه المعاهدة. . .
بيد أن حيرا أشارت على مينرفا أن تنفذ الرسول إلى أخيل يحمل إليه درعها، وكان لمينرفا درع اسمه ايجيس لم يَصْنع مثله لأحد من قبلُ فلكان؛ وأن يَنهي إليه أنهما تأمرانه بالتوجه إلى الساحة فيطلع عليها ليراه الطرواديون، فإنه بحسبهم أن يروه فيولوا الأدبار!!
وانطلق إيرليس برسالته إلى أخيل؛ فاهتز البطل من نشوة الطرب، وشاعت الكبرياء في أعطافه لأنه سينال شرفاً لم ينله أحد من قبل، وذلك بأنه سيدّرع بقميص مينرفا، المسرودة من حديد!!
وعندما نهض ليلبس الدرع رأى مينرفا نفسها تساعده بيديها الطاهرتين النقيتين كالبلور وتضع فوق جبينه إكليلاً وضاءً من الذهب، ثم تقوده إلى الساحة!!
وهناك، وقف أخيل العظيم فوق ربوة عالية تشرف على الساحة كلها، ثم أرسل في الآفاق
صيحةً داوية، كانت تنفخ فيها مينرفا فتزيدها قوة وعنفواناً، فزلزل قلوب الطرواديين وجعلها تدق في صدور ذويها كالنواقيس!!
وما كاد الأعداء يستيقنون أن الصيحة صيحة أخيل، وما كادوا ينظرون إلى هذه الآراد المُنتشَّرة فوق رأسه، والأضواء المتلألئة من إكليله، حتى سقُط في أيديهم وارتعدت فرائصهم وولوا على أعقابهم مدبرين! وكانت خيولهم المذعورة تولي هي الأخرى فتطأ الفرسان هنا وهناك، وتسقط في الخنادق المحيطة بطروادة، فتلقي فيها حتفها بمن عليها!!
وتوارت الشمس بالحجاب.
فتحاجز الجمعان وذهب كل ليستريح من هذا اليوم العصيب وكانت صيحة أخيل أكبر عون لمنالايوس وزميله في الإسراع بجثة بتروكلوس إلى مؤخرة الجيش، حيث الأمان والاطمئنان؛ فلما عاد أخيل كانت جثة صديقه أول ما وقع بصره عليه. . . فبكى. . . وبكى. . . واجتمع حوله الميرميدون يبكون.
ثم رثاه بكلمة دامعة، ترجمت عن نفس مكلومة؛ وأمر فأوقدت نار كبيرة وضع عليها دست ماء كبير؛ وأخذوا جميعاً في غسل الجثة المعفرة بالتراب، ودهنها بالطيوب ثم تحنيطها بالأفاوية والبهار والقرنفل، ولفوها في مدارج طويلة من الحبر الغاليات البيض.
واجتمع قادة الطرواديين يتشاورون في هدأة الليل، فخطب بعضهم ناصحاً بوجوب التحرز داخل الأسوار في غد، مخافة أن يبطش بهم أخيل وشياطينه، لا سيما وهم سيخوضون الوغى بقلوب جرحها مصرع بتروكلوس، وهم لا بد مثئرون له، مهما كلفهم الأثئار من أرواح ودماء!
ولكن هكتور أبى إلا أن يخرج للقوم، وكأن قتله بتروكلوس غيلة قد خدعه عن شجاعة أخيل، وما قدر له مما سيلقاه من بطشة أخيل. . . وهل غد بعيد!!؟؟
وفي اللحظة أيضاً، كان زيوس يتحدث إلى حيرا حديث الذي أُظفر بأعدائه وكأنما أطرب الإله الأكبر أن أخيل يعود إلى المعركة بعد أن أديل له من الهيلانيين ومن الطرواديين على السواء.
وكانت حيرا تسمع إليه وهي تطفر فرحاً! كيف لا؟ وهذا أخيل يعود إلى أعدائها في الغد، فيصليهم عذاباً، ويجرعهم غصصاً ما ذاقوا مذ ترك الحلبة أمثالها!؟ ولتحزن فينوس!
وليحل غضب السماء على باريس، ولتذهب التفاحة المشئومة إلى الجحيم. . .
وأشرقت شمس الغد.
ولاحت ذيتيس تتهادى فوق الزبد في الأفق الغربي، تحمل الدرع التي لم يصنع مثلها فلكان.
حتى ولا للآلهة أنفسهم!
والويل لك يا هكتور!!
(لها بقية)
دريني خشبة
غريب
بقلم حبيب الزحلاوي
لم يكن باقياً من سنة 1913 سوى شهر واحد وبضعة أيام وقتما وصلت مصر قادماً من دمشق هرباً من مطاردة الحكومة إياي.
الليلة عيد، وأجراس الكنائس تدق، والناس بين داخل البَيع بوجوه تعلوها سيماء الرضى والإيمان، وبين خارج منها مسرع الخطى إلى الفنادق الكبرى والمنتديات الخاصة تطلعاً إلى الاشتراك في حفلات العيد.
كنت مع الماشين إلى النادي الشرقي وكأني منساق معهم إليه؛ ولما دخلته حسبت الناس ينظرون إلي نظرات الاستيحاش والاستغراب.
أهاجت فرحة الناس نفسي فتذكرت والدتي وأهلي وإخواني وقد خلفتهم في غير هذا البلد الذي كل ما فيه يناديني: (غريب)
تركت صحبي ومواطني هناك؛ تركت قلباً وذريات تتأجج نارها كلما طال البعاد، وما أحراها بالاضطرام ليلة العيد إذ ذهبت وحدي إلى ذلك النادي أقضي ساعات مع أناس يعرفونني ولا أعرفهم من أبناء الجالية السورية.
كان كل ما في النادي في تلك الليلة ينم عن المرح والحبور، وكنت الصامت المستوحش الساهم وحدي بين الجمع، لأني (غريب).
انقضت سنوات عدة كنت خلالها لا أنقطع عن زيارة النادي، إذ أصبح لي فيه إخوان وأصدقاء لا يقلون حباً لي ولا يقل تعلقي بهم وإخلاصي لهم عن أولئك الأصدقاء والأخوان الذين خلفتهم في دمشق.
زرت النادي في ليلة الأحد وأنا متأبط ذراع فتاة عرفتها فيه، وقد صارت لي زوجة، وصرت لها بكليتي، وعقدت حظها بحياتي، ووقفت على إسعادها وجودي، وأحسب أني كنت في تلك الليلة من أسعد الناس، وأوفرهم غبطة، وأحرصهم على تكييف كل شيء بالهناء المرفوف على نفسي؛ وحينما كان يطوف بذهني خيال والدتي وأنا وحيدها، وصورة شقيقتي المحبوبة كنت أحاول استهواء ذاتي وإقناعها بأن قد صار لي في امرأتي حنان كحنان الأم، وألفة كألفة الأخت، فوق حب الزوج لزوجه، بحيث أضحى محالاً أن يطوف
بخاطري طيف (الغريب) أو وحشة البعيد عن أهله ووطنه.
طوتني مصر كما طوت الآلاف من الناس الذين وفدوا مثلي عليها، فأقلمتني بإقليمها، ونفخت فيّ روحها، وألهمتني وحي بيئتها، فصيرتني كأحد أبنائها أقوم بالواجب المفروض بمثل ما يقوم به كل مصري مخلص حرّ، ولما كنت أعود بذاكرتي صوب الشام، مسقط رأسي ومهد حداثتي، كنت أحس بالحرمان يمزقني ويكبت روحي، وأشعر بالواقع يسترضيني ويتودد إليّ. .
حقاً لقد علمتني مصر أن أرى فيها وطني وأهلي، ولقد تعلمت منها كيف أبادلها الجميل بجميل والوفاء بوفاء؛ لقد علمتني كيف أحبها وكيف أحافظ على حبي مسقط رأسي ومهد ذكرياتي، وكنت أصيخ بسمعي دائماً إلى أنات قومي وأوجاعهم، وأسعى جهدي إلى مزجها بأنات إخواني المصريين الموجعين؛ وكنت أعمل، وسأعمل على أن أجعل من تفاعلات تمازج الأنات المؤلمة ما يزيل العلة الموجعة.
انقضت سنوات أخرى كنت لا أنفك خلالها عن المجيء إلى النادي الشرقي؛ وحدث في عصر يوم من أيام الشتاء أن ذهبت إليه، وكنت متعب الجسم، مكدود القوى، موزع الخاطر، مشرد الفكر، فرحت تواً إلى صالة الرقص وانتحيت ناحية فيها أرفه عن خاطري بقدح من الشراب.
ما كنت لأعبأ بالراقصات والراقصين رغم ما فيهم من رشاقة ودلال جذابين؛ وما كنت لأحس ضربات (الجازبند) العنيفة المؤذية للنفس لأني كنت في شاغل عن كل ذلك.
طال بي الجلوس؛ هممت بالنهوض؛ رفعت رأسي عفواً وإذا بي ألمح سيدة جالسة قبالتي على قيد أمتار مني، ما كدت أتبينها حتى نهضت مسرعاً لتحيتها.
عرّفتني السيدة إلى زوجها، واكتفت بقولها عني:(صديقنا) وذكرت اسمي، فكان هذا التعارف على ما فيه من بساطة واقتضاب كافياً لاستذكار الزوج، فنهض مسلماً سلام مودة وصداقة، داعياً إياي إلى مجالستهما. . . . . . . . انطلقت ألسنتنا بالحديث، تارة عن الحياة الزوجية وسعادتها القائمة على التضحية، والتفاهم، والطمأنينة، وطوراً على الأبناء وعناء تربيتهم، وعما يضحي الآباء في سبيلهم من عواطف زوجية يستغرقها الحنان الوالدي. كنا نتكلم عن كل شئ، وعن كل إنسان نعرفه في لبنان بسرور، ولم ننس الغدير
وأحراج الصنوبر، ودير (القرقفة) في قرية كفر شيما مسقط رأس السيدة حيث عرفتها هناك، وكنت أُلمح من طرف خفي إلى حوادث الشباب، ولم يصدنا عن الاسترسال في التنقل بالكلام كالأطفال من موضوع إلى آخر إلا دعوة الزوج زوجه إلى الرقص معه، واعتذارها بلطف إليه بحجة الرغبة في الرقص معي رقصة (التانجو).
رقصنا. . . . . . وكنت إبان الرقص كالساهم الغارق في حلم لذيذ؛ كنت أنعم بالراحة كلها في مخاصرة هذه السيدة التي تنبعث منها الطمأنينة إلى أعماق نفسي؛ لم أكلمها؛ لم أجتل محياها؛ كنت نشوان بها؛ لم أسمع كلمة منها، بل شعرت بجسمها اللين البض يسترخي شيئاً فشيئاً بين ذراعي. كنا سوية كنبرة وتر مزدوجة عزفها موسيقى ماهر، فصدرت كأنها من وتر واحد، يدفع خطانا وينقلها نقلاً إيقاعياً متناسقاً. . . . . . . . . . وقبل الانصراف تواعدنا على اللقاء في النادي في الليلة القادمة.
طافت بي الخواطر، ثم ألحت عليّ، فآثرت العودة إلى البيت ماشياً لأطلقها في أوسع مجالات الفكر.
رجعت بي الذكريات إلى دمشق يوم بارحتها ويوم لذت بلبنان بقرية صغيرة رابضة فوق ربوة تطل على سهول (الشويفات) ثم البحر، تكتنفها أحراج الصنوبر وقد انتشر منها أرج الأصماغ؛ ذكرت ذلك الدير المهيب الشاهق الرابض فوق الربوة أشبه بقلعة شيدت لحماية الخيالات والأحلام!! وتراءت لي أطياف سكان القرية وهي تحج إليه متسلقة الربوة بهمة ونشاط، يتهادون في ابتسام الفجر الساحر المغبر تحية الصباح.
ذكرت إقبال رجال القرية للسلام عليّ ودعواتهم إياي إلى زيارتهم. ذكرت الساعات الطوال التي كنت أقضيها بين الأحراج أفترش الأرض، وأناجي الشجر، وأملأ من جمال الطبيعة قلبي وروحي؛ تراءت أمام عيني صور شيوخ القرية جالسين في القهوة يدخنون النارجيلة ويحلمون، والشباب يلعبون الورق أو يشربون ويغنون؛ كنت أطرب لسماع أغنيتهم المستمدة من وحي روح الطبيعة الساذجة الهادئة، والمعبرة عن دوافع الغريزة بأبسط الكلمات والإشارات.
ذكرت تلك الفتاة القروية عائدة من الكنيسة بثيابها الفضفاضة، وضفائرها المنسدلة على كتفيها، ووجهها الحري الزاهر بنفحات الربيع، وصدرها الناهد، وقدها الممشوق،
وخطواتها المتزنة الحازمة.
كم كانت رائعة صبغة الخجل الوردية التي اصطبغت بها أذناها لما سألتها عن اسمها، وهل فكرت في صلاتها في غير أهلها ممن تعرف من الناس!؟ لقد حيرها سؤالي فارتبكت وسكتت عن الجواب؛ وذكرت أيضاً زيارتي لها في بيت أهلها وكيف اعترفت لها بحبي وعاهدتها على الزواج، وتلك الأوقات الحلوة التي كنا نقضيها تارة في النقاش وقراءة الكتب، وطوراً في التطلع إلى المستقبل والتمهيد لبناء عش سعادتنا.
تمثلت يوم عودتي إلى دمشق، والاضطهاد الذي أصابني من حكومتها، وفراري من السجن والتجائي إلى مصر بعد الحكم علي وعلى زملائي بالنفي المؤبد، لا لشيء إلا لأننا من دعاة الاستقلال الظامئين إلى الحرية.
ذكرت كل هذا والطريق يمتد أمامي؛ كانت ظلمته تبعث في نفسي رؤيا تلك الأيام التي ودعتها منذ سنين في أرض الوطن وطويتها بين ضلوعي، وبدا لي كأن ماضي يبعث من جديد وينشر فجأة؛ تجسمت أمامي الحوادث كأنما لم يمر عليها ساعات، ذلك العهد الباسم الذي أمضيته وإياها، خيل إلي أن هذا الماضي الماثل القريب قد ضاع مني كله، كأن بيني وبينه برزخاً. . . فجوة الزمن، والحنث بالعهد، تفصل بيننا!!!
ارتدت بي الذكرى فجأة إلى النادي الشرقي، فاستشعرت تلك الذراع الغضة منبسطة فوق كتفي، والصدر المليء ما برح يتموج مختلجاً بين ذراعي؛ جاشت نفسي بالذكرى، وعضضت شفتي ندماً وقلت: ليتني، ليتني ما حنثت باليمين. . . . . . . .
ما كنت أحسبني استعيد مرح الصبا ونشوة الرقص، وقد أرهقني الزواج المبكر بأحمال من الرزانة، وبأثقال من الوقار، وبكل ما تفتعله أكاذيب العادات ونفاق التقاليد.
لم أكن أنشد في الرقص ما ينشده شبان ينتقلون كالنحلة من زهرة إلى زهرة، يرتشفون من ندى زهرات الحياة ما يرتشفون. . . لم أكن كعقلاء العزّاب أو جهالهم أبحث عن فتاة فيها من أوصاف الجمال الجثماني، أو طيش الطباع النزاعة إلى العبث واللهو، أو وفرة المال للزواج، بل كنت مكبوت النفس بحب قديم لم تقو صروف الزمان ومناسباته ولا تطورات الفكر على خنقه؛ لا غرابة في خمود ذلك الحب طوال السنين، بل الغرابة لو لم يستيقظ ويستنهض فيّ دوافع الميول المستقرة في أعماق قلبي بكامل ما فيها من قوى الحياة تهليلاً
للحب البكر البريء.
لقد كنت والسيدة أحرص ما نكون على إخفاء أمارات الحب في عيوننا؛ لم يكن في مظاهرنا ما يلهم غريزة المرأة استشعار الواقع بدليل أن امرأتي لم تدرك شيئاً منه؛ أما زوجها فقد كان له من أقداح الوسكي وأحاديث البورصة والمضاربات ما يشغله عنا، فلم يع شيئا من ذلك أيضاً؛ وهكذا كانت تنقضي ليالي الاجتماع بمظهرين: مظهر النفس المتأججة بلاعج من حب باطني، ومظهر السكوت الدال على الاندماج الكلي في وحدانية الحب المقدس، وعلى التجاوب الروحي والتفاهم الجسدي حين المخاصرة.
لم يعد طبيعياً أن تطاوعنا عناصر الوجود على استدامة هذه الحال، فلما همست أخفتَ همسة في أذن (حبيبتي) أطلب منها لقاء على انفراد، أومأت بهدب جفنها إيماءة الرضى وأتبعتها بلمحة من بسمة ارتسمت على جانب شفتها، ونظرت إلي نظرة طويلة. . . ثم فتحت فاها كأنها تريد أن تقول شيئاً، ولكنها أحجمت وأطبقت شفتيها. . . ثم عادت فاشترطت أن يكون اللقاء في الريف على ضفاف النيل، وألا يرى أحدنا الآخر إلا في الموعد المضروب؛ رضيت بهذا الشرط الصارم وحرماني منها طيلة عشرة أيام.
عبثاً كنت أحاول إخماد حدة الأزمة النفسية التي ساورتني ففزعت إلى (الأقصر) أستمد السكون والهدوء من مشاهدة آثار العصور الخوالي في وادي الملوك، ولكن متى كانت صور الفن تصرف الذهن عن الصور الحية، وكيف يهدأ قلب استفاق من هجعة الحب الأول على صراخ تأنيب الضمير؟
عجباً! لم جعلت اللقاء بعد عشرة أيام ودعمته ألا يرى أحدنا الآخر خلالها؟ هل رمت من وراء هذا التباعد إلى إثارة قوى الدفع والجذب التي تكون وليدة الآمال المرتجاة؟ هل شاءت بباعث من غرائزها التي يعمل عقل الرجل مجتهداً في حل رموزها أن تمتحن الفوارق بين اللقاء المكظوم في صالة الرقص وبين اللقاء الموعود في الريف؟ هل أرادت أن نستجم للقاء كما يستجم الشاعر لإبداع قصيدة، والعابد لتمتمة صلاة غير مسطورة في كتاب، والصوفي للاندماج في وحدانية الله؟ وإنما رغبت في أن يكون لقانا اللقاء الأخير وموقف الوداع قبل السفر!!
. . . . . . دنا الموعد، اقتربت ساعة اللقاء، وقفت أنتظر قدوم سيارتها وأرقب دقائق
الساعة بضجر ملحّ، وأعدّ الثواني باضطراب. تمضي الثواني والدقائق والساعات، بل العمر كله يمضي في طريق الزمن والزمن لا ينفك منذ الأزل وسيبقى مدى الآباد يسير بنظام محكم الضبط إلا أنا، أنا الشاذ المضطرب، الصاخب الهادئ، المفكر المبلبل، أنا السعيد الحزين، والباكي الضاحك، أنا الذي أعيش في أرض يلوح لي الآن أنها تدور دورة معكوسة!!!
لمحت سيارتها مطلة من بعيد فشعرت بدمي يندفع حاراً في عروقي وسمعت بأذني وجيب قلبي. . . وقفت السيارة، وإذ فتح بابها رأيت السيدة جالسة وإلى جانبها صبي صغير، وكانت مرتدية ثوباً أزرق وقد أمالت رأسها إلى جانب من السيارة، رأيت في عينيها الحالمتين فتوراً ساحراً غريباً؛ وقفت زهاء نصف دقيقة ذاهلاً مبهوتاً لم أستطع النطق حتى بالتحية؛ خيل إلي أني قد استجمعت في هذه الفترة كل ماضينا. . . والتفت فوقعت عيناي على الصبي. . . وانقبض قلبي؛ غام الضوء في نظري وشعرت بحزن طارئ يستولي علي، كبحت جماح عواطفي، وتعملت الابتسام، وكانت قد أفسحت لي مجالاً فوثبت إلى المقعد ورأيتني بالقرب منها.
لم أدر السبب الذي حدا بي كي أستجيب وأصعد إلى السيارة؛ لقد غمرني مرأى الصبي بإحساس مؤلم قوي لم أكن أتوقعه حتى لقد وددت أن أفر بنفسي.
وكأنما قد أشفقت علي، فلم تتكلم، بل مدت بأطراف الأنامل يدها وتلاقت يدانا في مصافحة صامتة، وكانت يدي باردة كالثلج بينما كان الدفء يسري من كفها. ثم قربت يدها شيئاً فشيئاً حتى احتوتها يدي، فضغطت عليها ضغطة قوية كأنما أردت أن أهرب من برودة قارسة إلى حرارة الحياة.
استأنسنا بالصمت، ثم تلاقت عينانا؛ كان في نظراتي شبه استعتاب لمجيء الصبي معها، وكأنها فهمت ذلك بالنظرة الخاطفة فشاءت أن تعدل عنها، وتبسمت واهتزت يدها في يدي تريد أن تذكرني بأني أضغط في عنف عليها، وتألق في عينيها لمعان. . . هذا اللمعان الذي أبصرته في مقلتيها الكستنائيتين أول مرة عرفتها، لمعان قوي كضوء باهر في ليلة شتاء يسطع بين السحب ثم يختفي. . . أجل؛ بدا لي أنني أعثر في تلك السيدة على أشياء ما رأيت قط مثلها في امرأة من قبل، وكان هذا محور حياتي معها وتاريخ حبي لها. . .
فيها أشياء كالنور حيناً والحرارة حيناً؛ فيها صمت لا أدري قراره. . . شممت عطرها القديم الذي طالما ملأت منه رئتي، فاسترحت.
السيارة ماضية بنا تنهب الطريق الممتد بين حقول القطن تظلله غصون الشجر، لم أكن لأستطيع في هذا الحين جمع خواطري لأنها كانت تتناثر كالشرر، إنما كنت أحس كأني انفصلت عن العالم وانقطعت صلتي بالناس، بالحياة وبالواجب أيضاً.
هاهي إلى جانبي، المرأة التي كنت ركزت عليها آمال الشباب، هاهي مبعث الحلم البعيد الذي يصطخب في قرارة تصوراتي، هاهي الومضة الخاطفة التي بإشاعتها تنير أجواء التفاؤل في حياتي، لقد حققت بوجودها جميع صور الخيال وأطياف الأحلام، هاهي بروحها وجسمها إلى جانبي لا يحتجزها عن الالتصاق بي سوى طفلها الجالس في هدوء كأنه يحلم مثلنا.
. . . علام أتجاهل حياتها الواقعة، بل لم أتغافل عن الأمر الواقع الصارخ؟ إن قوانين الحياة وتقاليدها البغيضة تسري علينا سوياً، فلماذا أحاول أن أبعث في نفسها أنانية متمردة شرهة كالتي تعج بها نفسي؟ كلنا أسرى العواطف، عبيد الشهوات، أفلا يليق بنا وقد ولجنا عالم الإنسانية من أبواب الشعر أن نقيم لسيول الشهوة العمياء سدوداً تحول دون اجترافنا؟ أجل، إني لأنزه الحب عن أن يكون مجرد مادة، كما أني أتبرم به متى كان حرماناً صرفاً. يسمو الحب على الحقائق ولكنه لا يستطيع أن ينكرها أو يستهين بها؛ فلماذا تتألم نفسي من وجود الصبي بيننا؟
يسمو الحب على الحقائق، ولكنه متى نما واكتمل وازدهر، وتسنم ذروته العليا فقد يخضع لهذه الحقائق عن رضى لأن سر عظمته في اللين والخضوع!!
لماذا أفزع من وجود الصبي؟ لقد جاءت به لتفصلني عنها، لتضع سداً بيني وبينها، لتنقذ حبي من التردي في مهاوي الواقع والفناء في ظلمة الحقيقة. . . إنها تحبني، أشعر بهذا من رعشات يدها، ورجفات جفنيها، من شفتيها المختلجتين وعينيها المتقدتين شهوة وحسرة، تحبني ولكنها لا تريد الاستسلام، تحبني وتخشى إن هي استسلمت ثم افترقنا على مضض، كما يقضي بذلك الواجب، أن تعذبني الحسرة وتشقيها اللوعة، وأن تترك من شخصها في خيالي صورة بشعة ملوثة تهبط بهذا الحب الرائع القدسي إلى درك الحيوانية الأولى!!
إنها تريد أن تكون بكليتها لي، أولا تكون لي أبداً، وما دامت سترحل في الغد، عائدة إلى لبنان، فهي تؤثر أن تحرمني كل شئ على أن تسقيني من كأس بدنها الشهي جرعة واحدة لا تنقع غلتي ولا بد أن تسمم في المستقبل كل حياتي.
أواه! لقد أدركت ما يجول بخاطري، هاهي تتفرس في وتتأملني وتشفق علي منذ الآن، ويكاد الدمع يطفر من عينيها.
لماذا؟ لماذا تبكين يا حبيبتي؟! أخذت رأسها بين ذراعي ألاطف شعرها بينما كانت تنتفض ودموعها الحارة تتساقط على يدي.
تجاه هذه الدموع لم أجد بداً من الإذعان لها، أشفقت عليها كما أشفقت علي، سموت بحبي كما أرادت أن تسمو بحبها، عولت على ألا أعترض القدر، وأن أنزل ما استطعت على حكم هذه المرأة التي علمتني أن في وسع الإنسان أن يعيش بالروح أكثر مما يعيش بالجسد، وأن الحب الكبير قد يستطيع أن ينتصر لا على المادة فقط، بل على الزمن أيضاً.
أرسلت نفساً طويلاً فرّج عن صدري، وضاعف أعصابي صلابة وقوة، فتنحيت قليلاً ومددت رأسي إلى حيث سائق السيارة وغمغمت بهذه الكلمات:(عد من حيث أتيت).
حدَّقت فيّ وأشرق وجهها بغتة، ثم أطرقت برأسها وتلمست يدي ورفعتها برفق إلى شفتيها، فشعرت بالقبلة الهادئة تجمع بيننا إلى الأبد.
عادت بنا السيارة تنهب الأرض، والأشجار تتعاقب، والهواء يصفر، والصبي يضحك، وأنا أردد في نفسي هذه الكلمات: غريب! غريب! غريب!
حبيب الزحلاوي
البَريد الأدَبيّ
أسبوع المتنبي في الجامعة المصرية
اعتزمت كلية الآداب أن تقيم أسبوعاً حافلاً للمتنبي بمناسبة انقضاء ألف سنة على وفاته في أوائل العشرة الثانية من شهر رمضان سنة 1354 في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية، وسيلقي أساتذة الكلية محاضراتهم على الترتيب الآتي:
الدكتور طه حسين: المتنبي في شبابه (من مولده إلى اتصاله بسيف الدولة)
الأستاذ عبد الحميد العبادي: سيف الدولة
الأستاذ أحمد أمين: المتنبي وسيف الدولة
الدكتور حسن إبراهيم: كافور الأخشيدي
الأستاذ أحمد الشايب: المتنبي في مصر
الدكتور عبد الوهاب عزام: المتنبي من لدن خروجه من مصر إلى وفاته
الأستاذ إبراهيم مصطفى: المتنبي والنحاة
الأستاذ عبد الوهاب حمودة: أسلوب المتنبي
الأستاذ مصطفى عبد الرزاق: فلسفة المتنبي
وسيتخلل هذه المحاضرات إنشاد بعض قصائد المتنبي وغناء قطع من شعره
سيلفان ليفي حجة التاريخ والحضارات الهندية
نعى إلينا من باريس العلامة والمؤرخ الفرنسي الكبير الأستاذ سيلفان ليفي أستاذ التاريخ الهندي وحضارات الشرق الأقصى بالكوليج ده فرانس. توفي في الثانية والسبعين من عمره بعد أن قطع زهاء نصف قرن يدرس الحضارات الهندية والصينية، وكان مولده سنة 1863 من أسرة يهودية؛ وكان سيلفان ليفي علامة واسع الثقافة، ولغويا ضليعاً، وحجة في شؤون الحضارات الهندية والصينية واليابانية، وفي حل المخطوطات والرموز الهندية والصينية القديمة. وقد ظهر منذ شبابه بميله إلى هذه الدراسة الفريدة، فكتب (رسالته) لنيل العالمية عن (المسرح الهندي) وتاريخه وتطوراته وخواصه، ودرس الديانة البوذية دراسة واسعة، وكذلك الفلسفة البوذية والبرهمية ووضع عنها رسائل وبحوثاً عديدة؛ وقام الأستاذ ليفي بعدة رحلات علمية واستكشافية في بلاد الهند والهند الصينية واليابان وجاوة، وفي
بلاد التبت وسيبريا، وكتب على أثر رحلاته الهندية كتاباً عن بلاد (نيبال) والتبت، وهو يعتبر من أعظم كتبه إن لم يكن أعظمها. ثم نشر بعد ذلك مؤلفاً ضخماً عن (الهند والعالم) شرح فيه الدور الذي قامت به الحضارة الهندية في تكوين الفكر الإنساني والحضارة الإنسانية.
وقد كان سيلفان ليفي أستاذاً في معهد الدراسات العليا، ثم أستاذاً في الكوليج ده فرانس منذ سنة 1894؛ ثم تولى رئاسة قسم العلوم الدينية في معهد الدراسات العليا. وكان عضواً عاملاً ومراسلاً في معظم الجمعيات العلمية الكبرى التي تعنى بالمشرقيات، وكان منذ سنة 1828 رئيساً (للجمعية الأسيوية).
ومنذ نحو أربعين عاماً يشغل سيلفان ليفي بين علماء المشرقيات مركزاً فريداً، فهو الحجة الثقة، وهو المرجع المفرد في أخص المسائل التاريخية والاجتماعية والأثرية الهندية والصينية؛ وفي قراءة اللغات الهندية القديمة ولا سيما السنسكريتية التي كان من أعلامها والتي تلقاها على أستاذه بورجيني أشهر علمائها في القرن الماضي.
وكان لسيلفان ليفي أكبر الفضل في إحياء كثير من اللهجات الأسيوية القديمة، وكان لمباحثه وجهوده الدراسية والأثرية أكبر الفضل في إلقاء ضوء كبير على الدور الخطير الذي قام به التفكير الهندي القديم في توجيه التفكير الأوربي وفي تكوين الحضارة الحديثة. وأخيراً كان سيلفان ليفي حجة الشؤون الاستعمارية في الشرق الأقصى، ترجع إليه وزارة الخارجية الفرنسية فيما يمس الشؤون الاجتماعية والنفسية لشعوب الهند الصينية، وفيما تقوم به من المشروعات الإصلاحية والعمرانية.
وكان يتمتع بحيوية مدهشة، فقد لبث حتى أواخر أيامه منكباً على مباحثه ودراساته؛ وقد حضر مؤتمر المستشرقين الأخير في رومة وألقى فيه خطبه باللاتينية كانت موضع التقدير والإعجاب؛ وكانت وفاته فجأة وفي ذروة القوة والنشاط.
حول قبر الصفدي - إلى الأستاذ علي الطنطاوي
أذكر حين زيارة المرحوم زكي باشا لقبر الصلاح الصفدي في حارة يهود صفد أن مؤرخ فلسطين الأستاذ عبد الله مخلص ذكّر الباشا أن الصلاح الصفدي، خليل بن أيبك مرموس في دمشق؛ وكأن هذا التذكير لم يرق للباشا الذي يريد أن يزرع كل أقطاب الإسلام في
فلسطين فلعل فيهم سياجاً يدرأ ما ينتابها من المحن رحمه الله! ولما لحظ عليه الأستاذ المخلص هذا ساق إليه حديثاً آخر، وهو أن عالماً دمشقياً قبر في صفد، وكان معاصراً لابن أيبك، وبعد مدة نقل ذووه رفاقه إلى دمشق؛ وأضاف: لعل عادة الرفات كانت أمراً شائعاً في ذلك الزمان، ولا يستبعد أن يكون أهل الصلاح نقلوه من دمشق إلى صفد وقبروه في هذا المنزل الذي كان عامراً بذكر لا إله إلا الله!! فضحك الباشا وقال بلهجته لمصرية الحلوة: أيوه جبوه! جبوه؟ لقد فرجت عني والله!
وكان من مساعي شيخ العروبة أن بنت جمعية الشبان المسلمين قاعة كبرى في موقع ممتاز في البلد لتكون غرفة مطالعة باسم (مكتبة الصلاح الصفدي)، وعلى أن تضاف إليها غرفة مقببة تنقل إليها رفات هذا القبر المهين، فتكون مزاراً لعارفي فضل ابن أيبك ولكن (الله يعمرك يا صفد) والسلام
صفدي آخر
نظريات الجنس والسلالة
صدر أخيراً في إنكلترا كتاب تثير قراءته كثيراً من الاهتمام وعنوانه: (نحن الأوربيين) وضعه كاتبان عالمان هما جوليان هكسلي وا. هادون، وموضوعه استعراض نظرية الجنس والسلالة التي تثير اليوم كثيراً من الجدل. وهو على صغر حجمه بفيض مادة ووضوحها؛ وقد استعرضت فيه النظرية الحديثة الخاصة بالوراثة البيولوجية وظروف تطبيقها على الإنسان وما يكتنف تكوين الأمم الأوربية من العوامل؛ وفيه شرح شائق لنظرية السلالة المزعومة التي اتخذت في ألمانيا ستاراً لأغراض السياسة. ويذهب المؤلفان إلى أن البيولوجيا لم تبق بعد داروينية النزعة (نسبة إلى داروين) بل غدت مندلية النزعة (نسبة إلى مندل صاحب مذهب الوراثة). والمعروف أن الوراثة البيولوجية تحدث خلال آلاف الوحدات، ولكن الخواص العقلية والجسمية تتأثر أيضاً بمؤثرات المحيط والطبيعة والتربة، ومن الممكن أن يصقل العقل والخلق بالمران؛ ويدلل المؤلفان بطريقة بديعة على أن معظم الخواص التي يزعم هتلر ودعاته أنها جنسية ترجع إلى فعل السلالة، إن هي في الحقيقة إلا خواص ثقافية محضة. فإن الإنسان له وراثة اجتماعية كما أن له وراثة بيولوجية، ومن الصعب علينا أن نستخرج الخواص القومية من غيرها؛ بيد أننا نستطيع
أن نعين المؤثرات الاجتماعية بطريقة حاسمة. ويدلل المؤلفان على نظريتها بأمثلة جنسية وقومية واضحة غير اليهود الذين هم اليوم هدف لمطاعن الجنس والسلالة. ويذهب المؤلفان أيضاً إلى أنه لا توجد ثمة أجناس نقية، ذلك أن الإنسان يتأثر خلال الأجيال بمئات الأجداد والأسلاف، ويشتق منهم جميعاً؛ والواقع أن كلمة (الجنس) قد فقدت معناها بالنسبة للجماعات الإنسانية. وأما هذه المزاعم الحديثة التي تنسب إلى الجنس والسلالة فليست سوى (علم مزعوم) ينظم لتستتر وراءه غايات السياسة.
وفاة شاعر روسي
توفي أخيراً في باريس شاعر روسي فتي هو بوريس بوبلافسكي. وباريس هي كما نعلم مهجر الروس البيض الذين يخاصمون البلشفية ويمقتونها، وفي باريس يترعرع أدب روسي ناشئ هو أدب المهجر، يتأثر تأثيراً كبيراً بالأدب الفرنسي؛ وقد كان بوريس بوبلافسكي من أعلام هذه الحركة الأدبية ومن أقوى ممثليها، وفد باريس حدثاً، وتكون فيها تحت تأثير الأدب الفرنسي، فنشأ يمثل مزيجاً بديعاً من الأدبين الروسي والفرنسي وظهر بنظمه القوي المؤثر حتى شبهه بعضهم ببعض أكابر الشعر المعاصر مثل رمبو وأبولنير.
وكان بوبلافسكي ينشر قصائده ومقطوعاته في بعض المجلات التي يصدرها الروس المهاجرون مثل مجلة (الأخبار المعاصرة) ومجلة (تفينو) ومجلة (تسسلي)؛ وكان علماً بارزاً بين أدباء المهجر على رغم حداثته. وفي سنة 1931 نشر مجموعة شعرية بالفرنسية عنوانها (الأعلام) وقد ترك عند وفاته مجموعة شعرية أخرى لم تنشر، وكذلك قصتين. وكان بوبلافسكي أيضاً كاتباً مجيداً وباحثاً؛ وكان حركة مضطرمة، وقد توفي في أوج قوته وعنفوان شاعريته، وأحدث موته فزعاً كبيراً في أدب المهجر. وأثار بين مواطنيه في المهجر أيما حزن وأسى.
جائزة نوبل
منحت الجائزة الأولى من جوائز نوبل هذا العام، وهي جائزة الفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) لعالم ألماني هو الأستاذ هانز شييمان من أساتذة جامعة فريبورج: ومما يجدر ذكره أن هذه هي المدة الرابعة التي يرشح فيها الأستاذ شبيمان نفسه لنيل هذه الجائزة
الشهيرة.
والأستاذ شبيمان في نحو السبعين من عمره؛ وهو يخصص حياته منذ ثلاثين عاماً للعمل في سبيل التكوينات الميكروسكيبية، وقد نجح أثناء مباحثه في نقل بعض الأعضاء الحيوية إلى (الأجنة) وجعل فيها مخلوقات جديدة، وهذا ما يسمى في اللغة العلمية (بالخياليات).
وقد انتهت مباحثه في هذه (الخياليات) إلى نتائج تلفت الأنظار؛ وكان أن أستحق معها جائزة نوبل وقدرها نحو سبعمائة ألف فرنك فرنسي (أعني نحو عشرة آلاف جنيه)، وبذلك تنتهي هذه الحياة الباهرة بحياة رغد وثراء.
ومما يذكر بهذه المناسبة أن العلماء الألمان والنمسويين هم أكثر العلماء نيلاً لجوائز نوبل وخصوصاً في النواحي العلمية المحضة مثل الطب والكيمياء والعلوم الطبيعية والرياضة؛ ولم يمر عام لم يظفر فيه واحد منهم أو أكثر بجوائز نوبل. أما جوائز نوبل الأدبية فأكثر ما يظفر بها الكتاب الإنكليز أو الأمم اللاتينية.
الكتب
(1)
المختار للأستاذ عبد العزيز البشري
(2)
المرشد العربي للسيد سهيل للسيد
للأستاذ محمد كرد علي
- 1 -
خُصَّ الأستاذ البشري بالإجادة البالغة في ضروب الكلام. وكتابه (في المرآة) شاهد بتفوقه في الصناعة، وأنه نسيج وحده في أسلوب الجد في الهزل والهزل في الجد، ساعده على هذا الإبداع والإمتاع تمكنه من ناصية اللغة، وقبضه على قياد الآداب، إلى ما فُطر عليه من ظرف شفاف، إذا تنادر وإذا تهكم، وأتى يودع الآن كتابه (المختار) بعض ما أبدع فيه من المقالات والمسامرات والمحاضرات، فكان له المنّة على أبناء هذه اللغة بما ينوّع لها من أصناف القول، وبما يحمل إلى مختلف الطبقات من ألفاظ ومعان وتراكيب لا يكادون يقعون عليها إلا في كلام نبغاء البلغاء.
البشريّ كالجاحظ إذا عرضت له النكتة قالها لا يبالي، وإذا اقتضته الحال أن يتهكم تهكم، يدخل السرور على قلب قارئه ويعلمه ولا يشقُّ عليه، وقليل جداً في فصحاء جيلنا من تهيأت له الذرائع إلى إتقان فنه هذا الإتقان، وقليل مثله من عرفوا الحياة ولابسوها كما أرادت ثم قابلوها بالضحك والسخرية، وقليل جداً من خبروا المجتمع المصري خبرته، فكتب ما توقع منه نفعاً في رفع مستواه الأدبي.
أحسن الأستاذ خليل بك مطران بقوله في تقدمه كتاب البشري إنه متحف حافل بالمفاخر، وإن كل طرفة من طرفه جديرة بأن تطالع في تدبر وروية وقد كسر كتابه هذا على ثلاثة أبواب (الأدب) و (الوصف) و (التراجم). فعالج في الأدب فصولاً في القصص، والنقد الأدبي، والأدب بين القديم والجديد، والأدب القومي وغير ذلك، وفي باب الوصف جوّد في مقالة (الراديو)، كما يصفه أعرابي قادم من البادية و (في الطيارة بين الماظة والدخيلة) وفي غيرها من الفصول. وفي التراجم ترجم لحسين رشدي باشا من رجال السياسة وللشيخ علي يوسف من أرباب الصحافة ولمحمد بك المويلحي من أهل الأدب. ترجم بروح جدّ فكانت ترجمته على مثال التراجم المتعارفة. أما يوم ترجم (في المرآة) مثلاً للشيخ أبي
الفضل الجيزاوي ولأحمد مظلوم باشا وللدكتور محجوب ثابت فإنه أتى بالمرقص المطرب، وربما لم يكتب لأحد من المحدثين إن وُفّق إلى مثل هذه الإجادة في تصوير الصفات والحركات بهذه الطريقة.
وبعد فإن أدب الشيخ البشري لا يتذوقه كما قال شاعر العرب مطران إلا من يدرسه ويعاود دراسته بروية وتبصر. وصاحبه واحد من بضعة المنشئين في هذا العصر، يحاولون بأسلوبهم - ولكل واحد منهم أسلوبه على حياله - أن يعيدوا إلى العربية رونقها القديم من الجزالة والسلاسة، والبعد عن السجع إلا إذا جاء عفو الخاطر.
ولعلهم موفقون إلى بلوغ الغرض الذي سددوا سهام أقلامهم إليه.
- 2 -
أعجبني من هذا الدليل في القسم الإسرائيلي منه وصف عمال اليهود في فلسطين و (لعل أرفه حياة يعيشها عامل في العالم كله هي حياة العامل اليهودي في فلسطين) بفضل (الهستدروت) أي النقابة العامة لعمال اليهود. وهي جمعية توزع العمل على العمال وتدافع عن حقوقها وتكره أصحاب الأعمال على التقيد بأنظمتها وتؤمن حياة العمال وتجد لهم عملاً وتوزع العمل بينهم في الأزمات وعند تكاثر العمال وهبوط الأعمال. وللهستدروت شركات تعاون وقرى يعيش ساكنوها عيشة اشتراكية. قال إن الفلاحين في القرى الاشتراكية يعيشون حياة غريبة الشكل بالنسبة للشعوب الأخرى. خصوصاً الشعوب العربية. فهم لا يتناولون أجراً ولا يعرفون قيمة الدراهم. بل يعملون في قراهم بدون أجر، يأكلون ويشربون ويلبسون وينامون ويتنزهون ويتطببون ويتزوجون ويتناسلون، من غير أن يكلفوا بدفع فلس واحد، لا يعترفون برئيس ولا زعيم، ولا يجعلون للأديان السماوية سلطاناً كبيراً عليهم، وكلهم في نظر إخوانهم يتساوون في الحقوق والواجبات؛ وقد لاحظ الكاتب أنه يصعب على كل إنسان أن يعيش عيشاً اشتراكياً كما يعيش هؤلاء إلا إذا كان على جانب من العلم والثقافة، ويميل بفطرته إلى الحرية المطلقة، على ألا يستعمل هذه الحرية في خرق الأنظمة والقوانين؛ ومن أهم شركات التعاون شركة المساكن، ولها بنايات ضخمة في البلدان التي ينزل فيها العمال مثل حيفا وتل أبيب، وتتألف هذه البنايات من 150 بيتاً، ولا يختلف بعضها عن بعض إلا بالسعة، وكلها مبنية على طراز واحد استكمل شروط
الصحة والفن.
ويعيش الأولاد في القرى الاشتراكية حياة مستقلة تختلف عن حياة الكبار، فلهم بيوت ومطاعم خاصة ومطبخ مستقل ومربيات خصوصيات، قال: والإنسان الاشتراكي لا يعيش هنا لنفسه فقط، بل للمجموع، وعليه أن يجدّ لسعادة المجموعة الاشتراكية أو الأخوية الاشتراكية التي يعيشها، ولا يحاول أن يعتلي على زملائه أو يتحكم فيهم، فهو عامل وشريك، ورأس مالي وفقير معدم في وقت واحد؛ والأغرب أن على هذا الإنسان الذي يعيش بدون أمل في الرفعة والسؤدد الشخصي أن يجد ويجتهد، ويعمل بهمة ونشاط كما لو كان يعمل لمستقبله ومستقبل أولاده وأحفاده؛ وإذا لاحظ إخوانه في الاشتراكية أنه كسول خامل، يعمل أقل مما يقدر على عمله، لا يتوانون عن إفهامه بلطف وجوب مغادرتهم، فإن تجاهل أفهموه صراحة وحكموا بطرده؛ ومتى زهد في الحياة الاشتراكية تقدم له الجمعية نفقات سفره إلى المكان الذي يقصده، وإن رغب أحد الاشتراكيين في زيارة أهله نقدوه نفقات سفره ذهاباً وإياباً إلى أقصى الأرض ليعود إليهم بعد انقضاء مدة الأذن، ومن كان له فقراء من أهله في مدن أخرى، تقدم له المجموعة الاشتراكية مبلغاَ شهرياً لا يتجاوز الجنيهين، وفي هذا الدليل فوائد كثيرة ينبغي للفلاح المصري والشامي والعراقي أن يتعلموها، وينسجوا على منوالها بما يلائم طباعهم وعاداتهم.
محمد كرد علي