المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 125 - بتاريخ: 25 - 11 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ١٢٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 125

- بتاريخ: 25 - 11 - 1935

ص: -1

‌على هامش الموضوع السابق أيضاً

عطف جميل. . .

وجَّه الكاتب الفرنسي النابه فكتور مرجريت نداء صارخاً إلى (الضمير البشري والعالَم الحر)، أهاب فيه بذوي الوجدان من بني الإنسان أن يتعاونوا على دفع الظلم وكف الأذى عنمصر التي كابدت أضرار الرق، وعالجت آصار الذل، ثلاثاً وخمسين سنة لم يفتُر لصَرْخاها استغاثة، ولم يكن لصرعاها أنين؛ ثم ناشد أعلام الذكاء الفرنسي أن يظاهروه على هذا النداء، فأمضاه منهم خمسمائة وثمانية آلاف من العلماء والأدباء والفنانين من بينهم جول رومان، واندريه جيد، ورومان رولان، وهادامار.

عَرَض الكاتب الشكور في ندائه المحَن التي انفجرت على ضرب مصر منذ توقح على ضرب الإسكندرية ذلك الأسطول الذي يتقلب اليوم بين شواطئها ومرافئها تقلب العزيز المقتدر والمختال المملك؛ ثم عَرَّض بتلك الوعود الفواجر التي جرت على لسان غلادستون وغرفيل وسالسبورى وأضرابهم من الَمذَّاعين الذين بنوا هذا الملك الضخم على مراوغة اللسان ومماطلة الزمان ومغافلة الناس؛ ثم ذكر اضطراب مصر في الأصفاد، واستشهاد شبابها في الجهاد، وذياد الحلفاء وفْدَها المختار عن مكانه في مؤتمر السلام؛ وعجب أن يتسع إنجيل وِلْسُنَ لحرية الحجاز وأرمينية وألبانيا، ثم يضيق عن تحرير مصر وهي ما هي في وحدة الأرض وقوة الدولة وتجانس الأمة، فيذرها معلقة على رغمها بين حق حليم الطبع وباطل سفيه السلاح، ثم أعاد إلى الذاكرة قول الكاتب الخالد اناطول فرانس:(أن ساستنا أنقذوا من يد العدم انشروا من طوايا القبور عشرين أمة، فانتهت إلى الحرية بولونيا وعادة إلى الحياة أرمينية؛ ولكن العدل الإنساني يأبى أن يبرأ من تناقضه ونقصه، فكان من نقص هذا العدل، ومن حمق المدعين للحزم والعقل، أن صارت مصر وحدها هي الضحية الكبرى لأكذوبة السلام).

غضبة سامية، وصرخة داوية، ودعوة كريمة وصدورها عن حفدة الذين أعلنوا بأقلامهم حقوق الإنسان، وأطلقوا بأسيافهم حرية العالم، أمر جار على مألوف الطبع والعادة؛ ولكن الأستاذ فكتور ينادي غير سميع، ويخاطب غير واع! لقد هوى ذلك الضمير الإنساني صريعأ أمام الجشع، وجثت حرية العالم ضارعة إلى الحرص، واستحال الإنسان الجديد

ص: 1

إلى معدة مسحوتة هائلة لا تكف عن القضم، ولا تعيا عن الهضم، ولا ترسل الميول والعواطف إلا في نواحي المنفعة. أين كان ذلك الضمير الحر حين رجفت باسمه الرجفة الكبرى، وأصاخت إلى صوته الهدنة العظمى، ثم جلس على أقدار الشعوب لويد جورج وكليمنصو وويلسن، وأيديهم على منضدة الصلح فوق أعواد الزيتون وأغصان الغار، يتقاسمون الحقوق الممزقة، ويتهادون الحريات المسلوبة، ويقيمون أنفسهم أوصياء على فرائس اقتطعوها، ثم عجزوا أن يبلعوها، فقدموها إلى الوصي كما تقدم الشاة إلى الأفعوان، يزدردها في سكون،؟ ويهتضمها على مهل أين كان ذلك الضمير الإنساني الحر حين تجاوبت بالأنين ضحايا السلام في تركية ومصر وفلسطين وسوريا والعراق؟ تستغيث بالولاء للحلفاء فلا تغاث، وتُلوِّح بالوثائق والوعود فلا تبالَي، وما ذنبها أنها ضعيفة، ففيهم أضعف منها وإنما ذنبها أنها مسلمة؟ أين كان ذلك الضمير الإنساني الحر وصرخات مصر الشهيدة تتعاقب على أسماع المدينة من غير فترة، فتمزق أغلفة الأذهان بالحجة، وتلمس لفائف القلوب بالرجاء، ثم لا ترتد أصداؤها إلا بالخيبة؟ أين كان ذلك الضمير الإنساني الحر والوعود الستون بالجلاء تتساقط من فوق المنبر الدستوري العريق تساقط الشهب، يخطف البصر سناها في جو السماء، ثم تكون حجارة باردة على الأرض؟ هؤلاء أبناؤنا الأعزة يا مسيو فكتور كما سمعت هناك ورأى إخوانك هنا: يشترون بأنفسهم الغالية الهتاف للحرية، لعلهم ينبِّهون العامِهَ، فيبصر، ويرشدون المبطل فيُقصر ويُسمعون المخطئ فيصيب. ولكن الطوائر، تئز والبواخر تصفِر، والمصانع تضج، والمناورات الحربية ترعد، والخطب الخداعة تهدر، فكيف تجد الأصوات الرقيقة العذبة سبيلها في هذه الضوضاء العنيفة إلى آذان هي بطبيعتها موقورة عن مثل هذا النغم؟ ولو كان الضمير الإنساني لا يزال حياً لرأى من خلال الحجب، وسمع من وراء الآفاق، ثم وخز النفوس وخزته الإلهية، فيشعر القوي أنه زل، ويدرك الغوي أنه ضل، ويفطن الإنسان أنه إنسان.

لقد كنت أود يا مسيو فكتور أن ينبسط عطفك حتى يشمل أخواناً وجيراناً يعانون من الذكاء الفرنسي مثل ما نعاني من الدهاء الإنجليزي، ولكننا سئمنا الكلام وأنفنا الاسترحام واحتقرنا الحجج.

لقد بلُد الشعور حتى لا يحس ألا ذبابَ السيف، وثقل السمع حتى لا يدرك ألا قصفة المدفع،

ص: 2

وكَلَّ الذهن حتى لا يفهم إلا كثافة المادة؛ فأين يقع من ذلك بيان الأدب ومنطق العلم وخيال الفنان يا مسيو فكتور؟؟

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌المجنون

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

جاء يمشي هادئاً يتخيَّلُ في مِشْيته، يَرْجُفُ بين الخُطوة والخطوة كأنه من كِبره يُشعرك أن الأرض مُدركة أنه يمشي فوقها. . . . ولا ينقلُ قدمَه إذا خَطَا حتى يَنْهضَ برأسه يُحركه إلى الأعلى، فما تدري أهو يريد أن يطمئنَّ إلى أن رأسَه معه. . . . أم يُخَيَّل إليه أن هذا الرأس العظيم قد وضع على جسمه في موضع راية الدولة فهو يهزُّه هزَّ الراية. . . .

وأخذته عيني وليس بيني وبينه إلا طولُ غرفةٍ وعرضها - فهو إذا زائغُ البصر كأنما واقع في صحراء يقلَّب عينه في جهاتها متحيَّراً متردِّداً، ثم كأنما رُفِعَ له في أقصاها جبَلٌ فأخذ إلى ناحيته. . . . .

ورحبتُ به، وأجلستهُ إلى جانبي، فأخذ يَسْتَعَرِفُ إليَّ بذكر أسمه وجماعته وبلده، لا يزيد على ذلك شيئاً كأنه عنترةُ بني عَبسٍ، لأرضه من طبيعتها جغرافياً، ومن أسمه جغرافياً على حدة. فلما رآني لا أُنْبِتُه معرفة قال: أن بك نسياناً قلت: وكثيراً ما أنسى، غير أن أسمك غير من ذلك الأسماء التي تذكّر بتاريخ.

قال: هذه غلطة الجرائد. . . ومهما تنسَ من شيء فلا تنسَ أنك أستاذاً (نابغة القرن العشرين). . .

فسرَّحتُ فيه نظري، فإذا أنا بمجنونٍ ظريفٍ أمردَ أهيفَ، يكاد برخاوته وتفككه لا يكون رجلاً، ويكاد يبدو امرأة بجمال عينيه وفتورهما.

وتوسمتُ فإذا وجه ساكن منبسطُ الأسارير ممسوح المعاني، ينبئ بانقطاع صاحبه مما حوله، كأن الدنيا ليست دنيا الناس، ولكنها دنيا رأسه.

وتأملت فإذا طفولة متلبدة قد ثبتت في هذا الوجه لتخرج من بين الرجل والطفل مجنوناً لا هو طفل ولا رجل.

وتفرَّستُ فإذا آثارُ معركةٍ باديةٍ في هذه الصَّفحة قَتْلاها أفكارُ المسكينِ وعواطفُه.

وتبَّينتُ فإذا رجلٌ مُستَرْخٍ، مُتفتّرُ البدن، خائرُ النفس، وكأنه قائم لِتَوَّه من النوم فلا تزال في عينه سِنَةٌ، وكأنه يتكلم من بقايا حُلُم كان يراه. . .

وخُيِّل إليَّ من هذا الخُمول في هذا الشاب أن عليه جوَّا من تثاؤبه وان المكان كله يتثاءبُ،

ص: 4

فتثاءبت.

فلما رأى ذلك مني ضحك وقال: أن (نابغة القرن العشرين) رجلٌ مغناطيسيّ عظيم؛ فها هو ذا قد ألقى عليك النوم. . . وحسبُكَ فخراً أن تكون أستاذَه وأخاه وثقتَه، (فليس على ظهرها اليوم أديبٌ غيري وغيرك. . .).

قلت في نفسي: إ تا لله، ما يعتقد الرجلُ أن على ظهرها مجنوناً غيره وغيري، وكأنما ألمَّ بذلك فقال: لستُ مجنوناً، ولكني كنت في البيمارستان. . .

قلت: أهو البيمارستان الذي يسمى مستشفى المجاذيب؟

قال: لا. إن هذا الذي تسميه أنت هو مستشفى المجاذيب، أما الذي سميتُه أنا فهو مستشفى فقط. . .

وذكرتُ عندئذٍ أن من المجانين قوماً ظُرفاء يَدخُلُهم الفسادُ في عقولهم من ناحية فكرة ملازمة لا تبرح، فلا يكون جنونُهم جنوناً إلا من هذا الوجه، وسائر أحوالهم كأحوال العقلاء، غير انهم بذلك طيَّاشون متقلبون، إذا ازْدُهِىَ أحدُهم لم يُطقْهُ الناس من زهوه وكبريائه وتنطُّعِه، كأنه واحدُ الدنيا في هذه الفكرة وكأن بينه وبين الله أسراراً؛ ويظن عند نفسه انه اعقلُالناس في أرقى طبقات عقله، وما جنونُه إلا في هذه الطبقة وحدها.

ومثل هذا لا بد له ممن يستجيبُ لهذَيانه كيما يحركَ فيه خفتَه وطيشَه وزهوه وليكونَ عنده الشاهدَ على هذا الوجود الخياليِّ المُبدَع الذي لا يوجد إلا في عقله المختل. فإذا هو ظفر بمن يُحاسنُه، أو يصانعُه، أو يجاريه حَسبَِه مُذْعِناً مؤمناً مصدِّقاً، فلا يَدَعُه من بعدها ويتعلق به اشد التعلق، ويراه كأنه في ملكه. . . فيتخذه صفيَّاً وهو يعتقد انه رقيق؛ وقد يَزُعمُه أستاذَه لِيُفهِمَه من ذلك بحساب عقله. . . أنه تلميذُه.

وخشيتُ أن يكون (نابغة القرن العشرين) لم يُسمِّني أستاذَه إلا بحسابٍ من هذا الحساب، فهو سيُعطى الأستاذيةَ حقَّها، ولكن كما هو حقّها في لغة جنونه. . . فأصبح في رأيه تلميذه وصنيعتَه، ومحدِّثَ هذيانه، وثقتَه وملجأه، والمحاميَ من ورائه؛ قلت في نفسي: إذا أنا تركتَه جالساً كان هذا المجلسُ مَثابَتَه من بعد فلا يعرف له محلاً غيره ويصبح كما يقال في تعبير القانون (محلّه المختار)، فَيتَطَرَّأُّ إليَّ لسبب ولغير سبب، ويقعُ في أوقاتي وقوعَ السَّهوِ لا حسابَ عليه ويضيعُ فيه ما يضيع. فأجمعتُ أن أصرفَه راضياً باليأس وقد انتهت

ص: 5

نفسُه من معرفتي وانتهى عقله إلى الرأي أني لا اصلح له أستاذاً، لا بحسابه هو ولا بحساب الناس.

فقلت له: ظني بك انك أستاذ نفسك، ولا يحسن بنابغة القرن العشرين أن يكون له في القرن العشرين أستاذ، واراك قد فرغتَ للأدب، أما أنا فمشغول بأعمال وظيفتي، وقد جاء من العمل ما تراه وتكاد لا تفي به الساعاتُ الباقيةُ من الوقت و. . فقطع عليّ وقال: أن الوقت ليس في الساعة، والدليل أني أعطلها فيتعطل الوقت ولا يكون فيها يوم ولا ساعة ولا ثانية ولا دقيقة.

فقلت: ولكنك إذا عطلتها لم تتعطل الشمسُ التي تعيّن منازلَ النهار، فسيمرُّ الظهر ويحينُ العصر و. . .

قال: ويأتي غد، وإنما أنا معك اليوم فقط. . . ويجب أن تغتبط بأنك أستاذ (نابغة القرن العشرين)، فقد قرأت الكثير في الأدب وقرأتك، فما كان لي رأي إلا رايتّه لك، ولا صحَّت عندي نظرية إلا رايتك قد أبديتَها، وأنا لا اعتقد أدباً في مصر إلا ما توافَيْنا عليه معاً (ولا أسلّم جدَلاً، ولا جدَلاً أسلّم أن في مصر أدباء ينالون مني شيئا، فهو أنا وأنا هو)، ولئن لم يذعنوا (لنابغة القرن العشرين) فلَيعلمُنَّ انهم (وقعوا مني موقعَ نملةٍ على صخرة). هذا من جهة، ومن جهة أريد سجائر وليس معي ثمنها). . .

فتهللْتُ واستبشرتُ، وقلتُ له: هذا قرش فهلمَّ فأشتر به دخانك، وفي رعاية الله. ثم استويت للقيام، ولكنه لم يقم، بل تمكَّن في مجلسه. . .

وكرهتُ أن أتَغَير له وما اشك انه في هذا صحيحُ التمييز؛ فما أسرعَ ما قال: أن (نابغة القرن العشرين) فتى قويُّ الإرادة، فإذا هو لم يصبر عن التدخين ساعاتٍ فما هو بصبور. . . . وإذا لم يُثْبتْ لك هذا الأمرَ عن مُعَايَنَة. . . . فما أعطيتَه حقَّه.

فقلت في نفسي: لقد غرستُ الرجلَ من حيث أردتُ اقتلاعَه، وأيقنت انه من عقلاء المجانين الذين تتغير فيهم العاطفة أحياناً فتُلهمهم آياتٍ من الذكاء لا يتفق مثلها إلا لنوابغ المنطق؛ وذكرت (بهلول) المجنون الذي حكوا عنه أن إبراهيم الشيباني مرَّ به وهو يأكل خبيصاً فقال له: أطعمني. قال: ليس هو لي، إنما هو لعاتكة بنت الخليفة بعثته أليَّ لآكله لها. . .

ص: 6

وقالوا: انه مر بسوق البزَّازين فرأى قوماً مجتمعين على باب وكان قد نُقِب، فنظر فيه وقال: أتعلمون من عمل هذا؟ قالوا: لا. قال: فأنا اعلم

فقالوا هذا مجنون يراهم بالليل ولا يتحاشَونه فالْطِفُوا به لعله يخبركم. ثم قالوا: اخبرنا. قال: أنا جائع. فجاءوه بطعام سَنيّ وحلواء، فلما شبع قام فنظر في النقْب وقال: هذا عمل اللصوص. . . . .

وكانت مجلة (الرسالة) في يد (نابغة القرن العشرين)، فصل الكلامَ بها وقال: أنه يقرأ كل مقالاتي وأنه وأنه، وإنها وإنها. قلت: فما استحسنتَ منها؟ قال: (مقالة السيما). . .

فقلت: متى كان آخر عهدك برؤية السيما؟ قال: أمس

قلت: فأنا لم اكتب مقالاً عن السيما، ولكنك أعجبت بما رأيت أمس فتحول ما رأيته حلماً في مقالة

فأعجبه هذا التأويل وقال: بمثل هذا أنا (نابغة القرن العشرين) فاقرأ مقالتك في العيب من قبل أن تكتبها. . . .

قلت: انك تكثر أن تقول عن نفسك (نابغة القرن العشرين) وهذا يحصر نبوغك في قرن بعينه، فلو قطعتَ الكلمة وقلت (نابغة القرن) لصحّ أن تكون نابغة القرن التاسع عشر والثامن عشر وما قبلهما وما بعدهما.

فرأيت به شَدْهَةً كأنه يفكر في جنونه، ثم أفاق وقال: لا. لا. وان هاهنا موضع نظر، فلو رضيت بنابغة القرن فقط، لجاء من يقول إني نابغة قرن خروف. . . .

فقلت في نفسي: حمأةٌ مُدَّتْ بماء. وان هذه الوساوسَ لا تنفك تعرو هذا المسكين ما وجد من يكلمه، والأفكار في ذهنه مجتمعة مختلطةٌ مسترسلةٌ كأنها ثورة من الكلام لا نظام لها، فلأسكت عنه ولأتشاغل بما بين يدي.

وسكتُّ وأعرضت عنه فجعل طائفة يعتريه، وكان السكوت قد سلَّط أفكاره عليه، وكأنها أخذت تصيح به في رأسه كما يصيح غلمانُ الطرق بالمجنون لا يزالون به حتى يُجْردُوه ويفقدوه البقيةَ من صبره وعقله معاً. فغضب (نابغة القرن العشرين) ونقله الغضبُ إلى حالة زَمْهَرَتْ فيها عيناه وكلَحَ وجهه حتى خفتُ أن يثور به الجنون، فأقبلت عليه وتعلّلتُ بسؤاله ألك اخوة؟ ألم ينبغ فيهم نابغة. . .؟

ص: 7

قال: أن له أخاً يعذبه ويُوقِعُ به ضرباً ويغلله بالسلاسل ويشدُّه (بأمراس كَتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدل) وأنه أنزل به من العذاب ما لو أنزله بحجر لتألم

قلت: فأنت في حاجة إلى راحة ويحسن بك أن تأوي إلى مكان تتمدد فيه

قال: أني منصرف وسأجلس في نديّ كذا (هذا من جهة، ومن جهة ليس معي ثمن القهوة)

قلت: فهذا قرش تدفعه ثمناً لها فاذهب فاستمتع بها وبالتدخين وبالراحة في ذلك الندىّ فالمكان هاهنا كثير الضجيج والحركة.

واستُوفزت للقيام، ولكنه لم يَتَحَلْحَلْ من مجلسه

ثم قال: أراك الآن مُسْتَبْصِرا أني (نابغة القرن العشرين) بعينه

قلت: بل بعينيه اليمنى واليسرى معاً. . .

قال: لا. لا. أنك نسيت أن العرب تقول في التوكيد: عينهُ ونفسهُ وذاتهُ. (أي أنا نابغة القرن العشرين بعينهِ ونفسهِ وذاتهِ، فليس غيري نابغة القرن العشرين)

وكادت نفسي تخرج غيظا ولكني رأيت الحلم على مثل هذا يجري مجرى الصَّدقة، وقلت أن أدباء المجانين كثيرا ما يتفق لهم الإبداع الظريف إذا علَّلوا شيئا كذلك القاصّ الذي كان يقصُّ على العامة سيرة يوسف عليه السلام، فقال لهم فيما قال: إن الذئب الذي أكل يوسف كان اسمه كذا، فردوا عليه: إن يوسف لم يأكله الذئب. قال: فهذا هو اسمُ الذئب الذي لم يأكل يوسف. . .

فقلب للمجنون: فما العلةُ عندك في أن العرب لم يقولوا في التوكيد: عينه وأذنه وانفه وفمه ويده ورجله؟

فنظر نظرةً في الفضاء ثم قال: ليسوا مجانين فيخلطوا هذا الخلط، وإلا وجب أن يقولوا مع ذلك: وعمامته وثوبه ونعله وبعيره وشاتهُ ودراهمهُ. (هذا من جهة، ومن جهة ليس معي أجرة السيارة إلى بلدي وهي قرشان).

قلت: هذه هي أجرة السيارة وصَحِبتك السلامة، ونهضتُ واقفا، ولكنه لم يتحرك.

ثم قال: انك لم تعرف بعدُ (أنى أقول الشعر في الغزل والنسيب والمدح والهجاء والفخر، أني في الخطابة قُسُّ بن ساعدة أو أكثم بن صيفي، أني صخر لا ينفجر. . . يابس لا ينعصر، لست كالحجَّاج بل كعمر).

ص: 8

قلت: هذا شئ يطول بيننا ولا حاجة لك بهذه البراهين كلها فقد آمنت انك نابغة القرن العشرين في الأدب والشعر والخطابة والترسُّل.

قال: والفلسفة وكل معقول ومنقول. وقد انتهينا على ذلك

قال: ولكنك تحسبني مجنونا أو ممروراً (كما حسبتني الجرائد التي زعمت أن اختفائي في البيمارستان كان لجنوني الفكريّ أو لذكائي الطبيعي وهو الأصح. . . فبّين لهذه الجرائد أني خرجت أني سأطبع الأدب بطابع جديد).

قلت: ولكني لست مراسل جرائد. قال (فاجعلني رسالةً وراسلها عني أو اكتب لك أنا ما ترسله، وما جئتك إلا لهذا؛ ويجب أن تلحقني بجريدة كبيرة، وهذه الجرائد تعرفني كلها، وقد تناولتني من جميع النواحي الأدبية، فضلا عن أنى كاتب فذ، وخطيب فذ، وشاعر فذ. وهذا قليل من كثير، فهل أعوّل عليك في صلتي بالجرائد أولا؟)

قلت: انك تعرفهم ويعرفونك وقد بَلَوتهم وَبَلَوْا منك فلست في حاجة إلى عندهم.

قال: (انهم يخشون بآسي وقد حسبوني مجنونا استهوته الشياطين، وما علموا أن شيطان الشعر هو الذي استهواني كما أن شيطان الحب هو الذي استهواك. . . هذا من جهة، ومن جهة ليس معي ثمن الغداء ولا أكلفك شيئا. . .).

قلت: فهذا قرش للغداء في مطعم الشعب. وهم الآن يتعدون ويوشك إذا أبطأتَ أن توافقهم وقد استنفذوا الطعام، وأنت لا تجهل أن القرش في مطعم الشعب هو قرشان في القيمة.

قال: صدقت؛ يوشك أن أوافقهم وقد فرغوا من طعامهم وغسلوا الآنية. فلا بْقِِ هذا للعَشاء وسأطوي إلى الليل. . .

قلت: فمعك الآن ثمن الدخان، والقهوة، والغداء، وأجرة السيارة إلى بلدك. وقد كان نابغة القرن الثالث للهجرة واسمه (طاق البصل) يغني بقيراط ولا يسكت إلا بدانق. هذا من جهة، ومن جهة فخذ هذا القرش ثمناً لسكوتك وانصرف.

فشقَّ ذلك عليه وقام مُغْضَباً، وتنفسَّتُ بعده الصعداء الطويلة. . . . وفتحتُ النافذة واستقبلتُ الهواء النقيَّ أخذت في رياضة التنفس العميق، ثم زاغت عيني إلى الباب فإذا (نابغة القرن العشرين) مقبلٌ مع نابغة قرنٍ آخر. . . . . . .

(لها بقية)

ص: 9

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 10

‌في مائة عام

الصراع بين الطغيان والديموقراطية ومحنة الديموقراطية

المعاصرة

بقلم مؤرخ كبير

منذ نحو قرن ونصف كانت ريح الثورة الفرنسية الكبرى تهب على الملوكية الفرنسية، فلما انفجر بركان الثورة بعد ذلك بنحو عامين أو ثلاثة، سقطت الملوكية الفرنسية وكل صروحها ونظمها القديمة صرعى الفورة المضطرمة، ولكن الثورة الفرنسية لم تقف عند حدود فرنسا، ولم تقف عند سحق الملوكية الفرنسية، ولم تلبث أن غدت ثورة عالمية ترتجف لها كل العروش والنظم في أوربا القديمة، وتتحد جيوش أوربا القديمة قلى مقاومتها وإخمادها. ولكن جيوش أوربا القديمة ارتدت منهزمة أمام القوى المعنوية الجديدة الني تضطرم بها جيوش الثورة؛ ولم تسحق الثورة أمام العدو الخارجي، ولكنها سحقت في غمر من المعارك الداخلية على يد قادتها وزعمائها أنفسهم، ولم تلبث أن استحالت إلى حركة خانعة ذلول تحملها موجة من الطغيان العسكري لتحقيق نفس الشهوات القومية والمبادئ المطلقة التي قامت لسحقها.

غير أن الثورة الفرنسية تبقى مع ذلك حركة تحرير عالمية، بل هي من بين الثورات التحريرية الكبرى أوسعها مدى وأبعدها أثراً في تاريخ الإنسانية؛ ذلك أنها قامت قي الأصل على حقوق الإنسان، وجعلت غايتها تحرير الحقوق والحريات العامة من أصفادها، وسحق كل النظم الطاغية، وتقديس الفرد وحقوقه، واعتبار الدولة خادم الأمة في مجموعها، وخادم الفرد والأمينة على حقوقه ومصالحه؛ ولهذا كان ظفرها عظيما، وأثرها عميقا في بث المبادئ الديمقراطية والتحريرية في أمم أوربا القديمة؛ ومنذ فاتحة القرن التاسع عشر نجد معظم الأمم الأوربية التي تسودها النظم المطلقة مثل روسيا القيصرية، وإمبراطورية النمسا والمجر تجيش بفورات تحريرية متوالية، وتطالب بإقامة النظم والدساتير الحرة، ونجد الملوكيات القديمة المطلقة تجد بكل ما وسعت في قمع هذه الحركات التحريرية.

وقد تجلى هذا الصراع بين الطغيان والديمقراطية على اثر سقوط نابوليون وسحق الفورة

ص: 11

العسكرية البونابارتية التي شغلت أوربا مدى خمسة عشر عاما، وقامت الملوكيات الطاغية القديمة تأتمر وتتحد على قمع المبادئ والحركات التحريرية التي اتسع نطاقها وسرت إلى معظم الأمم الأوربية، واضطرت معظم الحكومات المطلقة أن تنزل عند ضغطها ووعيدها وان تبذل بعض المنح الدستورية؛ وأسفرت هذه الحركة الرجعية التي نظمها ودبرها إسكندري الأول قيصر روسيا عند عقد (المحالفة المقدسة) الشهيرة بين روسيا وبروسيا والنمسا (سنة 1815)، وكان غرضها الظاهر أن تنظم الدول الثلاث شؤونها الداخلية والخارجية طبق التعاليم المسيحية، وان يحكم الملوك الثلاثة بين شعوبهم بالعدل والمساواة، وان يقوموا بتأييد السلام، ولكن كان غرضها الحقيقي أن تتهاون الملوكيات الثلاث على قمع الحركات التحريرية التي تضطرم بها أمم القارة، وعلى تأييد الحقوق الملوكية المطلقة، وعلى مقاومة الروح الدستورية الحقيقة وإخضاعها لهوى العرش وأرادته؛ وقد انضمت معظم الدول الأوربية الأخرى إلى هذه المحالفة الشهيرة، عدا إنكلترا التي كانت تمثل النزعة الديموقراطية الخصيمة.

ولكن الروح الدستورية كانت قد نفذت إلى الأعماق وحمل تيار الحركة التحريرية أمامه كل شئ، فلم تنجح حركات القمع إلا قدر ما يؤيدها العنف؛ وكان العنف كالعادة يغذي هذه الوثبات الشعبية ويذكيها؛ فلم تلبث عير بعيد حتى عادت إلى الاضطرام؛ ومنذ سنة 1830 نرى الثورات الشعبية تتفجر هنا وهنالك في أوربا. ثم كانت سنة 1848، التي يمكن أن تسمى بحق عام الثورة الديموقراطية، وفيها سقطت الملوكية في فرنسا أمام إرادة الشعب مرة أخرى، وقامت الجمهورية الفرنسية الثانية؛ وفيها اضطرمت الثورات التحريرية في ألمانيا، وفي معظم أنحاء الإمبراطورية النمسوية، وفي كثير من الدول الإيطالية، واجتاحت أوربا من أقصاها إلى أقصاها ريح تحريرية قوية اهتزت لها كل النظم الطاغية والعروش القديمة المطلقة؛ ولم يلبث أن لاح فجر الديموقراطية الحديثة في الأفق قوياً ساطعاً.

وبلغت الديموقراطية ذروة ظفرها عقب الحرب الكبرى، فانهارت القيصرية الروسية، وانهارت الإمبراطورية النمسوية، والإمبراطورية الألمانية، والسلطنة العثمانية، وقامت جمهوريات فتية، في روسيا وألمانيا والنمسا وبولونيا وتركيا، وفي عدة أخر من الدول الجديدة الناشئة التي خلقتها معاهدة الصلح لأغراض عسكرية وسياسية؛ ثم قامت الجمهورية

ص: 12

أخيراً في أسبانياٍ بعد أن سقطت ملوكيتها القديمة التالدة أمام الفورة العامة.

ولكن هذا الظفر الذي أحرزته الديمقراطية عقب الحرب الكبرى كان خليا، ولم يقم على أسس أو روح ديمقراطية حقيقية، بل استمد من الفوضى العامة التي أحدثتها الحرب؛ هذا إلى أن هذه الديمقراطية الظافرة لم تكن رزينة عاقلة، بل انساقت غير بعيد إلى ألوان خطرة من العنف والتطرف والفوضى. ومن جهة أخرى فقد كانت الديمقراطية قناعا للطغيان المطلق في روسيا السوفيتية وفي تركيا. وقد أدى تطرف الديمقراطية وتفرق كلمتها ووهن جبهتها غير بعيد إلى انهيار صروحها في إيطاليا حيث قام الطغيان المطلق باسم الفاشستية، ثم إلى انهيار صروحها في ألمانيا حيث قام الطغيان المطلق باسم الاشتراكية الوطنية، وانهارت الديمقراطية أيضا في بولونيا وفي النمسا وفي دول أخرى حيث قامت أنظمة قومية أو عسكرية طاغية بألوان وأسماء مختلفة، وهكذا لقيت الديمقراطية في بضعة الأعوام الأخيرة من ضروب الفشل والمحن ما لم تلقه قط في حياتها القصيرة الظافرة؛ والديمقراطية اليوم تناضل عن مبادئها وعن كيانها، ولكنها تناضل في غمر من الصعاب واليأس لأنها لا تناضل فقط أنظمة ومبادئ خصيمة، وإنما تناضل أيضا قوى عسكرية طاغية هي التي تعمل باسم المبادئ والنظم الجديدة.

غير أن الديمقراطية ما زالت تحتفظ بميزتها الكبرى، وهي أنها ما زالت تعتبر قانون الحكم العام، وما زالت مبادئها هي المبادئ الشعبية الخالدة، وهي المبادئ التي ترتكز إليها الحقوق والحريات العامة في كل الأمم المتمدنة؛ وهذا هو سر بقائها وسر قوتها، وهذا ملاذ آمالها ومستقبلها.

أما هذه النظم الطاغية التي تقوم اليوم باسم الشعب أو باسم القومية في دول مثل روسيا وتركيا وإيطاليا وألمانيا، فهي في الواقع نظم عنف وإرهاب محض؛ وهي ابعد النظم عن المبادئ الحرة والمبادئ الإنسانية: ذلك لأنها تمثل النزعة الفردية الحزبية قبل كل شئ، وفي هذه النزعة الفردية الحزبية تذوب فكرة الدولة والأمة والحقوق العامة؛ وقد قامت البلشفية في روسيا باسم الكتلة العاملة واسم سيادتها مناقضة لسيادة الرأسمالية في الدول الأخرى؛ بيد أن هذه السيادة المزعومة للكتلة العامة في روسيا، ليست سوى سيادة الحزب البلشفي، بل هي في الواقع سيادة عصبة من الزعماء والساسة يحكمون تلك الكتلة الشعبية

ص: 13

الهائلة بوسائل العنف والإرهاب. نعم تزعم البلشفية أن لها غاية عالمية هي بث مبادئ الثورة العالمية وتحطيم النظم الرأسمالية كلها؛ وتعمل على البلشفية منذ أعوام طويلة لبث مبادئها ودعايتها في معظم أنحاء العالم،

ولكن البلشفية ما زالت وقفا على روسيا وحدها حيث تؤيدها القوة الطاغية العنيفة وحيث تتصرف حفنة من الطغاة الدمويين في مصائر الشعب الروسي وفي عقوله وأرواحه. ولقد نسجت الفاشستية في إيطاليا على هذا المنوال في تمكين قبضتها من الشعب الإيطالي، مع فارق في الأسس التي تقوم عليها فهي تقوم على فكرة السيادة القومية والعسكرية، بيد أنها كالبلشفية سيادة حفنة من الرجال، (بل رجل واحد) يؤيدهم حزب وجيش، ويفرضون أرادتهم على الشعب بوسائل العنف؛ وليس في الفاشستية ما يميزها إلا أنها من حيث التنظيم السياسي تقوم على الفكرة النقابية. وقد كانت الاشتراكية الوطنية (النازية أو الهتلرية) في ألمانيا احدث ألوان الطغيان المعاصر، بيد أنها من اشدها إمعانا في العنف وسحق الحريات والحقوق العامة؛ واهم مميزاتها وقواعدها الفكرة الجنسية أو فكرة السلالة والدم؛ وهي تذهب في تطبيق هذه النظرية التي تتخذها ستارا لغايات السياسة مذهب الإغراق المثير، وتصدر باسمها اغرب القوانين التعسفية وترتكب أشنع ألوان الاضطهاد والمطاردة؛ ومع أنها تتظاهر بأنها بطارد اليهودية في الواقع وتعمل على سحق نفوذها العنصري والاجتماعي في ألمانيا، فأنها في الحقيقة تذهب بعيدا في تأكيد النعرة الجنسية وتتخذها مثارا لعاطفة من التعصب الجنسي والقومي الشنيع، وهي بذلك من اخطر الحركات القومية التي تنذر بالانفجار المسلح؛ وللاشتراكية الوطنية خاصة أخرى، هي أنها تمعن في التسلط على شخص الفرد وعقله وروحه، فتسلبه كل إرادة وكل حق في التفكير أو التصرف المستقل، وربما كانت في ذلك اكثر إمعانا من البلشفية ذاتها؛ فالفرد لا وجود له في نظر الاشتراكية الوطنية؛ والدولة هي كل شئ. بيد أن الدولة والحكومة والزعامة ومصدر السلطات كلها ليست سوى العصبة الهتلرية ومن ورائها القوات النازية المسلحة؛ وهذا الإمعان في تطبيق الفكرة الحزبية لا يقتصر على الدولة والتشريع، بل يمتد إلى الاقتصاد والثقافة وكل ما هنالك مما له مساس بتكوين الفرد أو توجيهه، سواء في جسمه أو عقله وروحه

ص: 14

وكما أن البلشفية تزعم أنها حركة ومبادئ عالمية لإصلاح الدولة والمجتمع، فكذلك تزعم الفاشستية الإيطالية والنازية الألمانية. بيد أن الفاشستية لم تنجح كحركة عالمية، وان كانت قد ظهرت آثار يسيرة منها في بعض الدول الأخرى ويمكن القول بأنها لقيت وما زالت تلقى في جميع أنحاء العالم المتمدين اشد صنوف المعارضة، بل ما زالت رغم كل ما عملته لإصلاح شؤون إيطاليا الداخلية تثير بوسائلها عواطف الاشمئزاز والمقت؛ كذلك الدعاية الهتلرية لم تجاوز حدود ألمانيا، ولم تلق مزاعمها الجنسية بالأخص صدى، وقد وصفت نزعاتها بأنها وثنية بربرية؛ والخلاصة أن هذه الحركات الطاغية التي قامت بالعنف والإرهاب وما زال يسندها العنف والإرهاب بقيت حركات محلية، ومن المحقق أن مصائرها ترتبط بمصائر زعمائها ومصائر القوى العنيفة التي تسندها، ومن المرجح أنها ستنهار عند حدوث أول انفجار عام. على انه لا ريب أن هذا الطغيان الشامل الذي يسحق شعوبا عريقة بأسرها، وذلك التطور المدهش في شؤون الزعامة والحكم وهو تطور ترتب عليه أن تثب أحط العناصر والطبقات إلى أسمى الزعامات السياسية والقومية؛ وذلك الاستعباد المزري لكرامة الفرد ولشخصه وعقله وروحه؛ وتلك الوسائل البربرية لتدعيم الشهوات الحزبية والمذهبية، وهي وسائل تذكرنا بالعصور الوسطى؛ وتلك الأحقاد القومية والجنسية التي تثيرها أذهان متعصبة منحطة: نقول لا ريب أن هذه الخواص التي تلازم نظم الطغيان الحاضرة، والتي هي ملاذ قوتها وحياتها، هي في الواقع دلائل واضحة على انحلال المدنية الغريبة الحاضرة، وعلى قرب انحدارها إلى غمر جديدة من الاضطراب والفوضى

(مؤرخ)

ص: 15

‌الفلسفة

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

كلمة تثير في النفس ما تثير من غموض وإبهام، وتؤذن بشيء من الغرابة والخفاء. يقال: تفلسف فلان إذا ظن انه يمعن في الغريب ولا يأتي بما ألفه الناس. وقد يرمى الفلاسفة بأنهم (يعيشون مع الملائكة) ويسبحون في عالم الخيال، لا يشعرون بما يشعر به من حولهم، ولا يقيسون الأمور بما توارد عليه العرف المألوف. يقال: هذا فيلسوف، وما لنا ولهذه الفلسفة، إذا أريد عد المحدث عنه وحديثه في عالم النظريات حيث لا تنال الحقيقة الواقعة ما تستحق من تقدير. لذلك انتبذت الفلسفة، وانصرف الناس عنها، ونظروا إليها نظرة ازدراء واحتقار، أو توجس وخيفة. فالعصريون والمتحضرون ينتقصون الفيلسوف مدعين انه لا يعيش في عصره، ولا يأخذ بقسط وافر من شؤون الحياة، والجامدون والمتأخرون يرمونه بالإلحاد والزندقة والخروج على الأديان.

والفلسفة في بلدنا بوجه خاص غريبة عديمة النصير والأعوان، لا تكاد تجد من يتحبب إليها، ويأخذ بيدها، ولا من يصورها للناس في شكلها الواضح ومظهرها الصحيح. فالنظم التعليمية العامة لا تعمل على نشرها، ولا تقف النام على حقائقها؛ والجمهور يفر منها، ولا يحاول أن يتفهمها ليؤمن بما لها من اثر في تهذيب الأفراد والجماعات ورفع مستواهم العقلي والخلقي؛ والخاصة يتبادلون منها أفكاراً بالية وأراء عتيقة قل أن تُعرض عرضاً مستقيما، وكأن الفلسفة في نظرهم ما جاء به أفلاطون وأرسطو دون أن يكون للقرون الوسطى والعصور الحديثة أبحاث يعتد بها أو نظريات يقام لها وزن. وهناك طائفة أخرى جنت على الفلسفة جنايات شنعاء، وزادت الناس فيها بغضا وكراهية، وهي جماعة أدعياء الفلسفة الذين يتهجمون عليها، ويكتبون فيها وينشرون، ويناقشون ويعترضون، دون أن ينفذوا إلى صميمها ويدركوا كنهها؛ وفي الصحف اليومية والأسبوعية من أمثلة هذه الجرأة العظيمة الشيء الكثير. وكان العلوم الفلسفية في هذا البلد حمى مباح، وسلعة تعرض في مختلف الأسواق، ومتاع يستخدمه من عرف ومن لم يعرف قدره. بل نلاحظ فوق هذا انه كثيراً ما كتب في الفلسفة من لم يجد السبيل إلى الكتابة في موضوع آخر؛ وبذا انعكست

ص: 16

الآية وأصبحت الأبحاث الدقيقة مجال من لا طاقة لهم بها، وظهرت الفلسفة في ثوب مشوه منقوص؛ وإذا كنا نعيب على هؤلاء الأدعياء جرأتهم فلا يفوتنا أن نأخذ على الفلاسفة المختصين تقصيرهم في التعريف عن أنفسهم وتهاونهم في الدفاع عن فنونهم وعلومهم.

ليست الفلسفة غريبة بالقدر الذي يدعيه المعرضون عنها، ولا خيالية بدرجة تباعد بينها وبين الحياة وشؤونها. فللزارع فلسفته في حقله، وللرجل فلسفته مع زوجه، وللزوجة فلسفتها مع بنيها. لكل من هؤلاء وهؤلاء طريقة خاصة في تفهم الأمور المحيطة به والحكم عليها ووزنها بميزانها الصحيح؛ وتلك ولا شك فلسفة ذات مغزى عظيم. وما اصدق أرسطو إذ يقول: الإنسان حيوان فيلسوف. على أن الفلسفة بمعناها الدقيق لا تخرج عن دائرة الحياة العملية والتجارب اليومية؛ وكل همها أن تشرح هذه التجارب وتفسرها تفسيرا يرتضيه العقل ويطابق الواقع. فظواهر سرورنا، وألمنا، وقواعد سلوكنا، ومعاملتنا وآراؤنا ومعتقداتنا، هي في جملتها موضوع الدراسات الفلسفية، ومن منا يمر عليه يوم - بل ساعة - دون أن يحكم على شئ بأنه خير أو شر، وعلى آخر بأنه صواب أو خطا، وعلى ثالث بأنه جميل أو قبيح؟ وهذه الأحكام الثلاثة هي شغل الفيلسوف الشاغل وعمله الدائم، يعنيه أن يدرس ظواهرها، ويضبط قوانينها، ويبين للناس كيف يكونونها التكوين الصحيح. فالفلسفة إذن من الحياة في صميمها، أو إن شئت هي الحياة كلها؛ وكيف لا وفي دراسة للإنسان في مختلف أحواله الفردية والجمعية، الفكرية والخلقية.

وإذا كانت هذه منزلة الفلسفة فمن العبث أن نهملها؛ أو أن نضعها في الصف الأخير من أبحاثنا، وهل حاجتنا إلى تعرف المادة في تمددها وانكماشها، والجسام في مغناطيسيتها وجذبها، أمس من حاجتنا إلى تعرف أنفسنا في ميولهما ومشاعرها، وتنافرها وتآلفها؟ نعم أن دراسة الإنسان عسيرة ودقيقة، غير أنها لهذا السبب نفسه ضرورية ولازمة؛ ولا أظنها اقل تشويقا من أية دراسة أخرى. فعناصر الثقافة العامة التي تشغل الأذهان الآن لا يصح أن تقصر على الجغرافيا الإقليمية، والاقتصادية، والهندسة النظرية والفراغية، والكيمياء، والطبيعة وما إليها دون أن يكون للفلسفة فيها نصيب كبير. على أن هذه العلوم نفسها نشأت في حجر الفلسفة وتربي في كنفها؛ فقد كان الإغريق الأول يطلقون كلمة فلسفة على أية معرفة كيفما كان نوعها، وكان العلم والفلسفة متآخيين ومتآزرين، وكثيرا ما كان الفيلسوف

ص: 17

عالما يقنن القوانين العلمية ويوضحها، وكثيرا ما اهتدى إلى نظريات علمية على ضوء الدراسات الفلسفية. فطاليس وفيثاغورس الفيلسوفان الإغريقيان كانا رياضيين وعالمين في الطبيعة، وقد كتب أفلاطون على باب مدرسته:(لا يدخل هنا أحد ممن لم يلموا بأصول الهندسة)، وإذا جاوزنا العصور القديمة وجدنا أن ديكارات أبا الفلسفة الحديثة هو مخترع الهندسة التحليلية، وان ليبنتز كبير فلاسفة الألمان في القرن السابع عشر هو مبتكر حساب الجزئيات. ولئن كانت العلوم قد انفصلت عن الفلسفة الواحد بعد الآخر وكونت دراسات مستقلة لا تزال جمعها مسودة بلهجة وروح فلسفية، وفلسفة العلم النوم هي النقطة الحساسة والرئيسية كل مادة من مواد الدراسة الإنسانية. فالعلم ينزع ثانية إلى أن يكون فلسفيا وان يعود أيضاً إلى كنف أم غذته بلبانها من قديم، والأدب أيضا يتأثر بالفلسفة في أسلوبه ومعانيه، وغاياته ومراميه، وربما كان السر في نجاح كثير من الأدباء المعاصرين تلك النزعة الفلسفية التي رق بها شعورهم، ودق تفكيرهم، وسمت عبارتهم.

فليس ثمة بد من أن نتذوق الفلسفة ونذيقها للناس ما دامت الحياة تملي علينا درسها، والعلم الصحيح يعتمد عليها، والأدب الراقي ينهل من حياضها؛ ومن العار أن نبقى إلى اليوم وليس في لغتنا أبحاث فلسفية سهلة يجد فيها العامة سلوتهم، ولا دراسات عميقة يشحذ فيها الخاصة أذهانهم. أن البحث الفلسفي، ككل الأبحاث الأخرى، ضرب من التثقيف لا يصح أن تحرم منه أمة من الأمم؛ هذا إلى انه يجدر بنا أن تكون لنا فلسفة متميزة ذات لون خاص ومبادئ خاصة، وان ينقل الغرب عنا كما ننقل عنه، وبذا تنتظم دورة الفلك، ويعود التاريخ إلى مجراه، وتتصل الفلسفة العربية الحديثة بالفلسفة الإسلامية القديمة، وإذا كان الناس يتحدثون عن فلسفة إنجليزية وأخرى فرنسية وثالثة ألمانية، فلم لا يتحدثون عن فلسفة مصرية وشامية وعراقية؟

إبراهيم بيومي مدكور

ص: 18

‌قصة المكروب كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور احمد زكي وكيل كلية العلوم

رابع غزاة المكروب

طبيب القرية الذي ضجر بالطب لجهله أسباب الداء ثم ادعائه علاجه؛ الذي شغله البحث في أصول الأمراض في مداواة أربابها؛ الذي حقق أحلام بستور واثبت أن المكروب ينتج الأمراض، وان لكل مرض مكروبا يخصه، ويخصه وحده؛ الذي علم الدنيا كيف تصطاد النوع الواحد من المكروبات، وتصطاده خالصا خاليا من الأخلاط؛ الذي كشف مكروب الجمرة الخبيثة، قاتلة الماشية والإنسان، ومكروب السل قاتل الإنسان والحيوان؛ الرجل الذي كشف مكروب الكوليرا على ارض مصر في أجسام ضحاياها. البطل الذي نزل بساحات الموت فأظلته فيها ارفع بنوده، وقاتلته على أرضها افتك جنوده، فأسر منها على هواه، وخرج عنها سالما قد أخطأته سهامها قضاء وقدرا.

المترجم

في السنوات ذات الأحداث العجيبة والمفاجآت الغريبة من عام 1860 إلى عام 1870، بينا بستور يخلص صناعة الخل ويكشف عما دهى دود القز فيدهش الملوك ويرضى الأمم، كان شاب قصير القامة قصير البصر، تبدو عليه ملامح الجد، يدرس الطب في جامعة (جوتنجن) وكان اسم هذا الشاب روبرت كوخ وكان طالبا مجتهدا. إلا أنه بينما كان يجري بمشار يطه في جثث الموتى فيقطعها إربا، كان يحلم بغابات إفريقيا وبصيد الأنمار فيها. بينما كان يحفظ في رغبة واجتهاد أسماء المئات من عضلات الإنسان وعظامه، كانت صفارات السفن الذاهبة للشرع ترن في أذنه فتذهب من رأسه بكل تلك الأسماء اللاتينية والرطانات الإغريقية.

كان كوخ يود أن يضرب في الأرض ليكشف عي مجاهلها، أو أن يكون جراحاً في الجيش ليكسب الشارات والأوسمة، أو ينال منصب طبيب في سفينة تمخر به عباب البحار الواسعة فيذهب فيها إلى حيث لم يذهب قبله إنسان. ولكن القدر خيب آماله، فانه لم يكد يتم دراسته عام 1866 حتى وجد نفسه في مدينة هامبرج في مستشفى للمجاذيب يتولى فيه منصب طبيب مقيم؛ وفي هذا المستشفى للمجاذيب يتولى فيه منصب طبيب مقيم؛ وفي هذا

ص: 19

المستشفى امتلأ سمعه بصراخ المجانين وأحاديث البلهاء فلم تكد أذنه تسمع أصداء بستور ونبوءاته بوجود مكروبات فظيعة تفتك شر فتك بالإنسان؛ وظل ينصت لصفير السفن، وفي الأمساء كان يطلب المشي للرياضة فيصطحب صديقة له كانت تسمى:(ايمي فراتس) وكان يهبط بها إلى شاطئ البحر حيث السفائن تغدو وتروح، وسألها الزواج منها، وخال أن يغريها بالقبول فذكر لها أمله في طوافه حول الأرض ومسيره إلى الشرق ورؤية البلاد والشعوب، فقالت له إنها تتزوجه على شريطة أن يصحو عن أحلامه وينسى الشرق ومغامراته ويفتح لنفسه عيادة في بلد ألماني فينفع أهله وبلاده وأنصت كوخ إلى ايمي والى صوتها الساحر ساعة، وازدحمت في خياله صور شتى من سعادة خمسين عاماً يقضيها في العيش الهنيء معها، فطردت هذه الصور صور الفيلة والأنمار من رأسه، واستجاب نداء عروسه فاستقر لممارسة الطب، وفي سبيله اخذ ينتقل من قرية بروسية إلى أخرى على يمط من الحياة لا يختلف - حياة رتيبة ليس فيها صخبات الحياة وما تتضمنه من متع ولذائذ وفي هذه الفترة من الزمان، حين كان كوخ يكتب الوصفات للمرضى وينتقل في سبيل صناعته بين ديارهم المتباعدة على ظهر حصانه، يستقبل وكْفات المطر من فوقه، ويشق لنفسه طريقا في الوحل من دونه، ويسهر الليالي في ديار النُّفساء من أهل الريف، في هذه الفترة من الزمان كان (لستر) بأسكتلندا آخذاً في إنقاذ حياة الكثيرات من النساء عيد الوضع بدفع غائلة المكروب عنهن، وكان أساتذة الطب وطلابه في أوروبا اخذين في الإصغاء إلى ما يقول به بستور من نظريات، وما يعزوه إلى المكروب من أمراض، واختلفوا في الذي يقول واشتجروا، وقام من بينهم رجال يجرون تجارب أعوزها حذق المجربين وذكاء الباحثين، وكان كوخ بمعزل عن كل هذا، كان منقطعاً عي بيئة العلم انقطاع (لوفن هوك) عنها قبل ذلك بمائتي عام، عام قام لأول مرة في مدينة دلفت بهولاندا ينحت العدس بيد ما عرفت من قبل للعدس نحتاً: وخيل للناظر إلى (كوخ) أن القدر قسم له أن يكون طبيباً عادياً متواضعاً يواسي المرضى ويحاول ما استطاع تخليصهم من الموت، وعزَّ ذلك مطلباً عليه وعلى أطباء ذلك الزمان، ورضيت ايمي بقسمة القدر، وفخرت بزوجها لما كسب خمسة وعشرين مركاً في يوم كثير العمل وفير المرضى ولكن كوخ كان غير راض، وانتقل في منصبه من قرية بليدة إلى قرية اكثر بلادة، حتى أدى به المطاف

ص: 20

إلى قرية فُلِشْتين في بروسيا الشرقية، وفي هذه القرية أتم عامه الثامن والعشرين، فأهدت إليه زوجته في عيد ميلاده مكرسكوباً يلهو به ويتسلى.

وكأني بهذه المرأة الطيبة تقول في نفسها عن إهداء هذا المجهر إياه: (لعل هذا المجهر يبعد فكره عن عمله الذي لا يرضاه. . . لعله يروح عن نفسه قليلاً ويكسبها شيئاً من الرضاء. . . إنه دائم التحديق إلى كل شئ بعدسة جيبه الصغيرة العتيقة. . .).

وا بؤسى لهذا المرأة الطيبة الساذجة! لقد أهدت إليه هذا المكرسكوب غير عالمة أنها بهذا الإهداء إنما فتحت له باب مغامرة تتضاءل إلى جانبها مغامرات كانت كان يحلم بها في أقطار الهند وجزائر الأقيانوس السفلي. فتلك الرؤى التي رآها بستور جاءت كوخ على يأس تتأوّل عند بابه وفي نفس تلك الغرفة التي أستقبل فيها مرضاه تلك الغرفة المليئة بالدواء تلك الغرفة التي ضاق بها وضاق بها وبدوائها تلك الغرفة التي عاف بها الطبَّ حتى كاد يصبح داء نعم في تلك الغرفة استحالت أحلام بستور حقائق أرتاها كوخ في جثث الأبقار ورِمَم الأغنام من خلال عدسات ذلك المجهر الذي أهدته زوجته إياه للهو والسلوى كأني بكوخ يقول لزوجته: (أنا أكره هذه الخدعة التي يُسْمونها طبّاً. . . وليس ذلك لأني أكره تبرئة الأطفال من الدفتيريا. . . ولكن الأمهات يأتينني صارخات مستغيثات يطلبن النجاة لأبنائهن وبناتهن. . . فماذا أنا صانعه لهن؟ أتحسس لهن في الظلماء أطمئن وأرجّيهن حين لا طُمَأنينة ولا رجاء وكيف لي بعلاج الدفتيريا وأنا أجهل حتى أسبابها وأكثر أطباء ألمانيا يجهلون أسبابها كذلك). يَبُثّ صاحبنا شكواه المرّة لأيمى فتضيق نفساً وتحتار فكراً وتغتاظ من هذا الزوج الذي لا يرضى أبداً لأنها كانت تعتقد أن واجب الطبيب الشاب يَتَأدَّى وينتهي إذا هو بذل كل ما في وسعه استعان بعلمه الكثير الذي حصله في مدرسة الطب يوم كان طالباً.

وعلى الرغم من هذا فكوخ كان لا شك على حق. فما الذي كانت الأطباء تعلمه من أسباب الأمراض الوبيئة؟ لا شئ. نعم قام بستور بتجارب رائعة ولكنها لم تثبت شيئاً من سبب اقتباس الإنسان الوباءَ ولا من كيفية اقتباسه رفع بستور بيمناه مشعلاً وضاء كبيراً وسبق به إلى تلك الظلمات صارخاً بالأمل داعياً للنصر يحدث الناس عالياً بانهزام الأوبئة قريباً ومحو الأمراض من سطح الأرض وشيكاً ولكن الأوبئة لم تكن بدأت تتخاذل والأمراض لم

ص: 21

تكن أخذت تتزايل والفلاحون في قرى روسيا التي خرَّبتها الجائحات بقوا على أسلوبهم في دفعها وظلوا على عادتها يربطون أربعاً من أراملهم إلى محراث ثم يدورون بهن في سكون الليل وراء القرية يرسمون حولها أخدوداً هو في حسبانهم خير نطاق يدفعون به شر الوباء وهل كان لدى الأطباء أسلوب في دفعه خير من هذا!

كأني بمدام كوخ تحاول أن تجد لزوجها مخرجاً مما هو فيه: (ولكن يا روبرت أن أساتذة برلين وكبار أطبائها لابد عالمون أسباب هذه الأدواء التي لا تستطيع أنت علاجها) كان هذا من خمسين عاما أو تزيد ولكني أعود فأقول أن أكبر الأطباء في هذا الزمان لم يكن يدرون عن الوباء أكثر مما درى هؤلاء الريفيون الذين ربطوا الأرامل جهلاً إلى المحاريث. قام بستور في باريس يتنبأ بأن البحث لا بد كاشف عن قريب تلك المكروبات التي هي لاشك سبب السل وحتف المسلولين فنهض له رجال الطب أجمع يتقدمهم بيدو ذو المقام الرفيع والأزرة البارقة الصفراء يدفعون خرف هذا النبيَّ المأفون.

صرخ بيدو كالرعد يقول: (أجرثومة خاصة تحدث السل وتقضي على المسلولين! خرافة مؤذية وخاطرة مخطرة! أن السل مفرد وجمع في آن. غايته موت الأنسجة في عضو بالعدوى وذلك عن طرقات عدة من واجب الطبيب وخبير الصحة محاولة سدّها) بمثل هذا الهُراء وهذا الكِلم الفارغ الذي لا معنى له يدفع الأطباء تنبؤات بستور.

- 1 -

أخذ كوخ يقضي أمساءه يلهو بمجهره الجديد ويتعرّف كيف يحرك مرآته ليعكس بها على منظوراته من الضياء على القدر الذي يريده ويتعلم ضرورة تنظيف صفائح الزجاج وتلميعها قبل أن يضع عليها قطرة الدم من أجسام الخراف والأبقار التي قضى عليها مرض الجمرة

وكان هذا المرض الخفي الغريب قد أخذ يقلق بال المزارعين في جميع أقطار أوربا فكان تارة ينزل على المزارع صاحب الألف من الأغنام فيقضي عليها بالهلاك وعليه بالخراب وقد ينزل على الأرملة الفقيرة وبقرتها الوحيدة فيصّبحها وقد عزّها الرزق وساءت مصيراً. لم يكن لهذا المرض أسباب معروفة أو خطة مرسومة يجري عليها في تخيّر ضحاياه. فقد يُصْبح الصباح على القطيع من الغنم فتأخذ عينَك منه شاةٌ سمينة صحيحة جميلة لا تكاد

ص: 22

يستقر على أرجلها نشاطاً مرحاً فلا يأتي عليها المساء حتى تعاف الطعام وتميل برأسها بعض الميل ولا تشرق عليها شمس الغد حتى تلقاها باردة هامدة متصلّبة وقد استحال دمها إلى دم أسود كالليل ثم يعود فيحدث نفس هذا لشاة ثانية فثالثة فسادسة فسابعة لا يقف عند حد ثم يأتي دور الفلاح ودور الراعي ودور فرّاز الأصواف ودور تاجر الجلود فتتفجر جلودهم عن خراجات مؤلمة قبيحة أو يلفظون آخر أنفاسهم من التهاب رئوي لا يُمهلهم طويلاً.

بدأ كوخ، كما بدأ من قبله لوفن هوك، بدأ يستخدم مجهره لغير غاية معروفة وغير قصد محدود. فأخذ ينظر به كل شئ، ويحدق من خلاله في كل ما يلقى، حتى وقع على دك الأغنام التي قتلها داء الجمرة وعندئذ أخذ يتجمع فكرة على غاية، ويقف جهده على قصد، وعندئذ أخذ يتناقص نصيب مرضاه من هم نفسه، فقد يقصد إلى مريض فيلقى في طريقه بين الحقول شاة نافقة فينسى المريض وعيادته إياه، واخذ يساور الجزارين يسألهم عن الضياع التي بها تقتل الجمرة الشياه. ولم يكن لكوخ من فراغ الوقت مثل الذي كان للوفن هوك فكان يتحين الفرص بين تطبيبه لطفل يصرخ من وجع بطنه وبين خلعه ضرس قرويّ جاء يفزع إليه من ألمه ففي فترة من تلك الفترات جاء بدم أسود من بقرة ماتت بالجمرة فوضع منه قطرات بين رقيقتين من رقاق الزجاج النظيف البارق ونظر إليها بمكرسكوبه فوجد بين كُرَيات هذا الدم المخضرَّة السابحة أشياء أخرى غريبة تراءت كأنها عصيّ صغيرة وكانت هذه العصيّ أحياناً قصيرة وأحياناً قليلة العدد تسبح في ارتعاد قليل بين كريات الدم وتراءت له كذلك عصيّ أخرى تعلق بعضها في أطراف بعض من غير مفصل يجمعها وقد يتشابك العدد الكثير منها حتى تصير خيطاً طويلاً أرفع ألف مرة من خيط الحرير.

(ما هذه العصيّ؟. . . أهي مكروبات. . أهي حيّة. . . أنها لا تتحرك. . أم هو الدم السقيم في هذه الحيوانات المرزوءة يستحيل إلى هذه العصي والخيوط؟). على هذا النحو دار فكر كوخ في الذي رآه. وكان رجال العلم قبله فد رأوا ما رآه. فدافان ورايان في فرنسا أبصروا نفس هذه الأجسام في دم الأغنام النافقة وأعلنا أن هذه العصي بَشِلّات وأنها مكروبات حيّة وأنها لاشك سبب الجمرة الذي لا مراء فيه - ولكنهما لم يثبتا ذلك بالدليل

ص: 23

ولم يصدقهما فيما زعما أحد في أوربا غير بستور. على أن صاحبنا كوخ لم يكن ينصت كثيراً إلى ما يقوله الناس ولم يكن يهتم كثيرا بما يرتئيه البحاث كان الأطباء من حوله يرتابون في الذي يراه، ويضحكون منه في الذي يأتيه فلا يصغي لارتيابهم ولا يهتز لضحكهم، حتى حماس بستور لم يُغره يوماً بالوثوب إلى نتائج لم ينضجها البحث ويمحصها التجريب؛ ومن حسن حظ كوخ أنه لم يكن سمع به أحد فلم ترتفع إلى ظهره سواعد الأشياع والمريدين تدفعه قُدُما إلى فتوحات في عالم المكروب عاجله غير ناضجة كان في خمول ذكره رب نفسه ومالك أمرها.

حدث كوخ نفسه قال: (أنا لا أستطيع الآن الاهتداء إلى طريقة اعرف بها أهذه العصيّ والخيوط حيّة ام ميتة، فلأدع هذا مؤقتاً ولأدرس خواصها الأخرى. . .) ولم يلبث أن أوقف دراسته للأغنام المريضة، واتجه يدرس الأغنام الصحيحة، فذهب إلى مذابحها، وزار الجزارين وخالط تجار اللحوم ونادمهم، ورجع بدم كثير من عشرات البهائم السليمة، واسترق من زمن مرضاه ليفرغ لمكرسكوبه، فكان يجلس إليه ساعات متصلة طويلة ينظر منه إلى هذا الدم الكثير الصحيح الذي جمع، فقلقت زوجه من إهماله عيادته.

قال كوخ: (إني لا أجد في دم هذه الحيوانات الصحيحة تلك العصي والخيوط أبداً، وهذا حسن جميل، ولكنه لا يدلني أهذه الأجسام بَشِلاّت أم لا، لا ينبئني أهي حية في استطاعتها النمو والتوالد والتكاثر، أم هي كبعض الجمادات؟)

ولكن كيف السبيل إلى معرفة ذلك؟ كيف السبيل إلى إثبات أن هذه العصي حية؟ أخذ هذا السؤال يملأ نفسه ويملك عليه حسه، وطلبه المسلولون الذين أعيا الأطباء داؤهم، وطلبه الأطفال وقد سدت الدفتريا عليهم منافس الهواء، وطلبته العجائز استشفاء من مرض موهوم غير كائن، ولكن اشتغال صاحبنا بأمر هذه العصي لم يبق منه غير فضلة قليلة لمرضاه، حتى لنسي أن يكتب اسمع على وصفاته لهم. وآنست فيه زوجه الهم والغمّ وكسوف البال. ودعا النجّار يوما وسأله أن يقيم في حجرة العيادة حاجزا خشبيا. وقضى الدماء السوداء وفئران بيضاء بمرح وتلعب في أقفاص اخذ عددها يزيد على الأيام.

وكأني بك تنظر إلى هذا الحاجز الخشبي فتجد على جانب منه مريضة انتظرت طويلاً فأخذت تحط الأرض بنعلها ساماً وقلقاً، وتجد على الجانب الآخر طبيبنا الفاضل يتمتم

ص: 24

لنفسه فيقول: ليس لي من المال ما اشتري به أغناماً وأبقاراً لتجاربي. ولو كان لي هذا المال لكان من المتعذر إحضارها إلى هذا المكتب الصغير. أما هذه الفئران فصغيرة رخيصة، وهي لا تشغل حيزاً كبيراً، ولعلي أستطيع أن أعطيها مرض الجمرة. . . ولعلي إذن اثبت أن هذه العصي تنمو حقاً فيها. . .)

يتبع

احمد زكي

ص: 25

‌مذاهب الفلسفة

- 3 - المذهب الطبيعي

للأستاذ زكي نجيب محمود

ولكن مهلا! فلأنصار الروحية من البراهين على وجود الله ما يقوض هذا المذهب ويدكه من أساسه دكاً، لأنه إذا ثبت وجود الله فقد نهض الدليل على صدق العقائد الدينية قوياً دافعاً، وبطل هذا الهراءُ الذي يهرف به الطبيعيون، ونحن نتخير من تلك البراهين ما يلي:

(1)

أن ما في الطبيعة من نظام دقيق وجمال خلاب يستحيل عقلاً أن يكون قد جاء عرضاً بغير تقدير وتدبير، فإذا كانت الظواهر المادية تسير وفق طائفة من القوانين الثابتة المطردة، فلابد أن يكون هنالك من صاغ لها هذه القوانين واكسبها ما لها من قوة وثبات. كذلك يستحيل أن يكون جمال الطبيعة وتناسق أجزائها مصادفة طارئة، وإلا كنا كمن يزعم أن الساعة إذا تحطمت عُددها وانتثرت أجزاؤها، أمكنها أن تلتئم من تلقاء نفسها، وان تبدأ السير والحركة من جديد!

(2)

أن مجرد وجود فكرة الله في أذهاننا دليل على حقيقة وجودها في الخارج؛ وذلك لأننا نتصور بعقولنا كمالاً مطلقاً، وهذا الكمال لا يتم إطلاقه إلا إذا وجد وجوداً فعلياً، فإن لم يوجد كانت فكرتنا عن الكمال ناقصة صفة الوجود، وفن هذه الحالة - أي في حالة اقتصار فكرة الكمال على مجرد التصور الذهني - نناقض أنفسنا، فنكون كمن يقول:(أني أتصور كمالاً مطلقاً ولكنه ناقص!) مع أن الكمال والنقص لا يجتمعان.

وهنالك من الأدلة الأخرى على وجود الله ما هو شائع معروف.

وبعد هذا كله فهل ترى هذا المذهب الطبيعي قد فسر لنا شيئاً؟ إن قضيته باختصار هي أن الكون كله مادة يسيرها القانون، وأن العقل الإنساني كسائر الظواهر قطعة من المادة تتبع في سيرها نفس القوانين التي تسيطر على قطعة من الحجر!

(1)

أما أن الكون مادة فقط، فلا يقدم ذلك في القضية ولا يؤخر، لأنه قول لا يقلل شيئاً تعد أن خلصت الأبحاث العلمية الحديثة إلى أن الذرة المادية ليست كائناً بسيطاً، بل أن كل واحدة منها عالم دقيق على جانب عظيم من التركب والتعقد وأنها قادرة من تلقاء نفسها على التكون والانحلال والتحول، كذلك لم يعد الحد الفاصل بين المادة والقوة محدداً واضحاً

ص: 26

كما كان من قبل، فقد يظهر أنهما درجتان من حقيقة واحدة، وأن ذرة أو الذرة إلى قوة، وإذن فلا يكفي في تعليل الكون أن نقول إنه مؤلف من مادة، لأن في هذه المادة نفسها ما يحتاج إلى التعليل.

(2)

وأما زعم الماديين بأن العقل ظاهرة مادية، وأن حقيقة الإحساس كما يقول هوبز إن هي إلا حركة في الجهاز العصبي، وإن الفكر سلسلة من الاحساسات الماضية، أي أنه مجموعة حركات متعاقبة، فيكفي لهدمه أن نطالبهم مثلا بشرح هذه العبارة:(أنا أحب هذه الوردة الجميلة) إنها حقيقة فكرية أحس بها ولا شك في وجودها؛ فهل يقول الماديون أن هذا الحب هو هزة الأعصاب على نحو معين؟ خذ مجهرك وانظر إلى الأعصاب فسترى قطعة من المادة تهتز وتتحرك حقاً، ولكنك لن ترى (حباً) ولو حدقت في مجهرك عاماً كاملاً!! هذا، وان لنا أن نسائل الماديين: لماذا لا تنتج الحركة في كل ظواهر الوجود المادي إلا حركة مثلها، ثم هي في الإنسان تنتج إحساساً وفكراً؟ وما احسبنا ظافرين منهم بالجواب! وإذن فقد عجز هذا المذهب الطبيعي عن تفسير ظاهرة عن ظاهرة العقل كما فشل في شرح المادة نفسها.

(3)

وأخيراً، يقول أنصار هذا المذهب أن حوادث الكون يمكن تفسيرها بما يسيرها من القوانين العلمية، ولكن أي عقل يكفيه هذا التفسير؟ أني أرى مثلاً هذه القطعة من الحديد تتمدد نهاراً وتتقلص ليلاً، فلماذا؟ سيقولون أنه قانون الحرارة المعروف الذي تتمدد نهاراً وتتقلص ليلاً، فلماذا؟ سيقولون إنه قانون الحرارة الذي تتمدد المادة على سننه وقواعده، ولكن لماذا تمدِّدُ الحرارة الجسام؟ فإن أجبت عن هذا السؤال بما يجيب به أرباب العلم من أن ذلك ناشئ عن تصادم الذرات أثناء تحركها، فسأعود إلى استجابتك: ولماذا يحدث هذا، حتى تقر معي بأن هنالك آخر المر ما يتعذر تعليله بأصول هذا المذهب، وإن القوانين التي يلجأون إليها لتعليل ظواهر الكون هي بدورها تحتاج إلى التعليل.

مذهب الذرائع

لقد لبثت الفلسفة دهراً طويلاً تسبح في سماء الفكر المجرد، فلا تصغي بآذانها إلى الحياة العملية التي تعج بأصدائها أرجاء الأرض جميعاً. ولا تحفل بالواقع الذي تراه الأبصار إلا قليلا، فقد قصرت مجهودها - في الأعم الأغلب - على جوهر الأشياء في ذاتها، وأخذت

ص: 27

تسائل: ما المادة وما الروح وما مبعثهما؟ ولكنها باءت بعد طول الكدح والعناء بالفشل والإفلاس. . . حتى جاء الفكر الأمريكي الحديث الذي يقدس العمل ويمقت البحث النظري المجدب العقيم، وأراد أن ينحو بالفكر نحواً جديداً، فلا يكون من شأنه كنه الشيء ومصدره، بل نتيجته وعقباه. ولقد كان أول من صاغ هذا المذهب وليام جيمس (1842 - 1910) الذي اعترف أنه قد استمد أصوله وقواعده من أشتات قديمة، وانّ له فضل الصياغة والتعبير. أما رسالته التي قصد إلى أدائها بمذهبه فهي في أوجز عبارة: أن يتخذ الإنسان من أفكاره وآرائه ذرائع يستعين بها على حفظ بقائه أولاً ثم على السير بالحياة نحو السمو والكمال ثانياً.

أنه لمن الغفلة والشطط أن نُؤتى هذه القوة العقلية فنبددها في البحث عما وراء الطبيعة، من قوى مما لا غناء فيه للإنسان ولا رجاء؛ أن العقل إنما خلق ليكون أداة للحياة ووسيلة لحفظها وكمالها، فلينصرف إلى أداء واجبه، وليضرب في معمعان الحياة العملية الواقعة، فليست مهمته أن يصور بريشته عالم الغيب المجهول، الذي لا يكاد يربطه بحياة الإنسان سبب من الأسباب. . وليكن مقياسه الذي يفصل به بين الحق والباطل هو مقدرة الفكرة المعينة على إنجاز أغراض الإنسان في حياته العلمية، فإن تضاربت الآراء وتعارضت، كان أحقها وأصدقها هو أنفعها وأجداها، الذي تنهض التجربة العملية دليلاً على فائدته. وكل شئ يؤثر في الحياة أثراً منتجاً يجب أن يكون في اعتبارنا هو الحقيقة، بغض النظر عن مطابقته أو عدم مطابقته لما يخلقه الفكر المجرد من معايير، إذ لا يُعَوِّل مذهب الذرائع إلا على النتائج وحدها؛ فإن كان الرأي مثمراً نافعاً قبلناه حقيقة، وإلا أسقطناه من حسابنا وهما باطلاً.

والواقع أن معظم الناس يتبعون في حياتهم العلمية أصول هذا المذهب، فهم ينتقون لأنفسهم من الآراء ما يعين على تحقيق أغراضهم التي يقصدون إليها، أو ما يعمل إلى رقي الإنسانية وتقدم البشر بصفة عامة. خذ العقيدة في الله مثلاً، فالأكثرية العظمى تأخذ بها لا لأن الدليل قاطع بوجوده، (فذلك ابعد عن متناول الدهماء) ولكن لأنها ترى أن هذه العقيدة تبث في حياة الناس روحاً قوية، وتفسح أمامهم في الأمل الجميل الذي تزدهر به الحياة وتبتسم، والذي لولاه لضقنا ذرعا بفداحة عبئها. . . فليس منا من لا يقيس الآراء بظروف

ص: 28

عَيشْه ثم يختار منها انسبها له وافعلها في أداء مهمته، فسلوكنا العمليُّ هو في الواقع الذي يوجه أفكارنا. وليست أفكارنا هي التي توجه أعمالنا. ولقد قال موسوليني يوماً أنه يدين لوليام جيمس بكثير من آرائه السياسية، وانه بتأثيره لا يحتكم في سياسته إلى نظريات العقل المجرد، إنما يسلك من السبل ما يراه أقوم وأدنى إنتاجاً.

وأن نيتشه ليذهب في هذا الاتجاه إلى أقصاه فيقرر أن البطل إذا كان وسيلة ناجعة لحفظ الحياة كان خيراً من الحقيقة؛ فبطلان الرأي لا يمنع قبوله ما دام عملاً من عوامل بقاء الفرد وحفظ النوع، فلرب أكذوبة أو أسطورة تدفع الحياة إلى الأمام بما تعجز عنه الحقيقة المجردة العارية. انظر كيف تفعل الوطنية في رأس الجندي فيطوح بنفسه بين براثن الموت، ولو حكم عقله المجرد لما فعل؛ بل انظر كم يبدل الآباء والأمهات من مجهود في سبيل أبنائهم، ولو استرشدوا العقل وحده لآثروا أشخاصهم ولضنوا على الأبناء بأي بذل أو عطاء، ولكننا لحسن الطالع ذرائعيون بالفطرة، فنعتنق من الآراء احفظها للحياة، ولولا ذلك لظلت الإنسانية في حيوانيتها الأولى لا تتقدم ولا تسير.

ولا يقتصر الأمر في ذلك عامة الناس، بل أرباب العلم أنفسهم ليأخذون بطائفة كبيرة من الآراء التي تعين على المضي في بحثهم، دون أن ينهض الدليل العقلي على صحة تلك الآراء التي اتخذوها أساساً لأبحاثهم، فلا يدري العلم ما الأثير وما الجاذبية وما المادة وما الطاقة وما الكهرباء، ولكنه يفرضها لأنها تعينه على أداء مهمته، وهذا بعينه ما يدعو إليه مذهب الذرائع، فيكفي لان تكون تلك الآراء صحيحة إنها توجهنا في حياتنا توجيهاً صحيحاً، فلا يعنينا في كثير ولا قليل أن نعلم ما هي الكهرباء في ذاتها ما دمنا نستطيع أن نستخدمها، فحسبنا من معناها آثارها، وليكن معنى الكهرباء هو ما تعمله وما تؤديه. وعلى هذا النحو يمكننا أن نتخلص من أعوص المشاكل الفكرية التي أرهقت الفلسفة بغير طائل؛ فلندع جانباً كل بحث عن ماهية القوة أو ماهية المادة أو ماهية الله وما إلى ذلك، وحسبنا منها أن نبحث عن الآثار التي تنشأ عنها في حياتنا اليومية العملية، فان لم يكن لها آثار فيما نصادف من تجارب وجب اعتبارها ألفاظاً جوفاء لا تحمل من المعنى شيئاً.

يتبع

زكي نجيب محمود

ص: 29

‌أندلسيات:

1 -

قصة الفتح بن خاقان

للأستاذ عبد الحمن البرقوقي

تمهيد:

آما وقد خطت (الرسالة) هذه الخطى الرغيبة الموفقة، وبلغت المبالغ في الفخامة والضخامة والطرافة والإحسان، والحشد والاحتفال، والعناية بالدراسات الدبية الممتعة الموفقة، والترحيب بكل ما يقدم إليها من الموضوعات القيمة الفائقة، فلماذا لا أُلقي دَلوي أنا الآخر في الدلاء، وانشر في (الرسالة) من الآن شيئاً مما تنطوي عليه أضابيري الأندلسية الزاخرة بشتى الموضوعات في هذا الفردوس الإسلامي المفقود - كما كان يسميه فقيد العروبة صديقنا المرحوم احمد زكي باشا - فمن ترجمة أديب إلى قصة شاعر إلى تاريخ فيلسوف إلى حياة علام إلى طرفة أدبية إلى نبذة فلسفية إلى تحفة علمية إلى شطحة صوفية، إلى ما شئت مما تهيأ لي أن اكف على دراسته منذ نيف وثلاثين عاماً حتى صرتُ أطول له عِشرة، وأبطن به خِبرة. . . ولا تسلني لماذا تولعت هذا التولع بدراسة الأندلس وكل ما يمت إلى الأندلس بسبب، فذلك ما اجهل أنا أيضاً علته. . وقد جفت الأقلام وطويت الصحف وقضى الله أن أكون ممن شغفه حباً هذا الفردوس الذي إذا أنت حاولت أن تنزه نفسك بين رياضه النضرة المهرة المثمرة، تجتلي أنوارها، وتجتني من أَمَمٍ أثمارها، وتستمع إلى تغريد بلابلها، وتتروّى من رحيق جداولها، ألفيت ما ينبعث له عجبك وإعجابك، وتشتهي مذاقه حتى يسيل له لعابك، ويتأرجح عبيرهُ المفعَّم فيملأ خياشيمه طيباً، ويستخفّك تغريده المغم فتترنح له تطريباً؛ بيد أنك إذا أنت حاولت هذا الإمتاع من طريق الأسفار التي وضعت في الأندلس قديماً للقيتَ من الألاقى ما لقيت مما لا يكاد ينهض به إلا الأفراد أوتوا من الشوق ما يجلدهم على معاناة البحث والتنقيب والارتياض بتذليل كل صعب عسير. ومن ثم استخلصت لك من نادرة الأسفار، ومغرِّبة الأخبار، باقة جمعت مختلف الأزهار، وسفطاً يحتوي شتى الأثمار، وحاكياً يسمعك احسنَ النغم، وناجوداً تحتسى منه شراباً لا إثم فيه ولا لمم.

ص: 31

أوّه لقد شط القلم، وسجعت ثم سجعت، وتلك التي تستك منها المسامع. . . ومن عذيري من الفتح بن خاقان إذا هو أعداني بسجعه، وتأثر طبعي بطبعه، وان لم يدرك الظالع شأو الضليع؟ ولكن لا تُرَع فسوف أتجنب السجع ما أمكنني تجنبه، وكذلك لا تتوقع ما دمت بصدد هذا الفتح أن ستسمع سجعاً أندلسياً كثيرا قد يضجرك ويسلمك إلى السأم والملال. فسوف أشعشع كل أولئك بما يلطفه ويسيغه أن شاء الله. . .

وإذا كنت اقدم بين يدي كلماتي قصة الفتح بن خاقان فليس ذلك عن قصد قاصد، ولعل الذي وجّه الذهن إليه الآن هو ما أخذته عيني أخيراً في بعض التواليف الحديثة الموضوعة في بلاغة العرب في الأندلس لبعض أصدقائنا من أساتيذ الجامعة إذ يقول: انه لم يترجم للفتح بن خاقان غير ابن خلكان، وإن المقَّري لم يترجم له في نفح واحد. . . واليك بعد ذلك قصة هذا الأديب الأندلسي:

الفتح بن خاقان

ظهر أبو نصر الفتح بن محمد بن محمد بن عبيد الله بن خاقان عبد الله القبيسي الإشبيلي في عصر هو من خير العصور ومن شر العصور في وقت معا: كان عصراً ذهبياً من ناحية الثقافة، إذ كان عصرا يفقه بكل أنواع المعارف، من علم وأدب وفلسفة، وكان في الوقت ذاته عصر اضطراب سياسي مزعج. . وبَينا الأندلسيون زمَن ملوك الطوائف متمتعون بحرية لاحد لها، يتبجحون فيها ما شاء لهم التبجح، ويلاقي مُثَقَّفُوهم من ملوكهم أقصى غايات الأريحية والإكرام يعيشون في إذرائهم عيشاً تلين لهم مثانيه ومعاطفه، وتدنو عليهم مجانيه ومقاطفه، إذ أنملوكهم كانوا كذل أدباء أفاضل، وعلماء أماثل، أثرت فيهم الحضارة لأندلسية أثرها، فرققت من حواشيهم، وألانت من جوانبهم - بيْناهم كذلك، وجفون الخطوب عنهم نيام، إذ قلب لهم الدهر الخؤون ظهر المجن، وليس لهم جلد النِمر، فكلب عليهم الإسبانيون من الشمال، وطمع فيهم برابربَرٌ العُدوة - مراكش - من الجنوب، فغزاهم المرابطون الخشنون وأزالوا ملكهم، فاستحالت حال الأندلسيين ولا سيما في زمن علي بي يوسف بن تاشفين ذلك الملك الذي كان إلى أن يعد في الزهاد والمتبتلين اقرب منه إلى أن يعد في الملوك والمتغلبين كما يقول المراكشي صاحب المغرب، ويقول عنه أيضاً: واشتد إيثاره - أي إيثار علي بن يوسف بن تاسفين ملك مراكش والأندلس - لأهل الفقه

ص: 32

والدين فكان لا يقطع أمراً في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، وكان إذا ولي أحداً من قضاتِه كان فيما يعهد إليه إلا يقطع أمراً ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغاً عظيماً لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس، ولم يزل الفقهاء على ذلك وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها موقوفة عليهم طول مدته، فمعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت لذلك أموالهم واتسعت مكاسبهم. وفي ذلك يقول ابن البنّي - شاعر أندلسي سنترجم له: -

أهل الرياء لبستمو ناموسكم

كالذئب أدلج في الظلام العاتم

فملكتمو الدنيا بمذهب مالك

وقسمتو الأموال بابن القاسم

وركبتمو شهب الدواب بأشهب

وبأصبغ صبغت لكم في العالم

(ابن القاسم وأشهب واصبغ هم من أئمة مذهب الأمام مالك الذي كان المذهب الوحيد المعمول به في المغرب والأندلس إلى أن يقول: (ولم يكن يُقرَّبُ من أمير المسلمين ويحظى عنده إلا من عَلِمَ عِلْمَ الفروع أعني فروع مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب وعمل بمقتضاها ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسي النظر في كتاب الله وَحديث رسول الله (صلعم) فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء. ودانَ أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شئ من علوم الكلام - التوحيد - وقرّر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام وكراهة السلف له وهجرهم من ظهر عليه شئ منه، وانه بدعة في الدين وربما أدى أكثره إلى اختلال في العقائد، في أشباه لهذه الأقوال، حتى استحكم في نفسه بغض علم الكلام وأهله، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شئ منه، وتوعد من وجد عنده شئ من كتبه. ولما دخلت كتب أبي حامد الغزالي رحمه الله أمر أمير المسلمين بإحراقها، وتقدم بالوعيد الشديد حتى سفك الدم واستئصال المال إلى من وجد عنده شئ منها. وأشتد الأمر في ذلك؛ ثم قال: ولم يزل أمير المسلمين من أول إمارته يستدعي أعيان الكتاب من جزيرة الأندلس حتى اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك، كأبي القاسم بن الجد، وأبي بكر محمد المعروف بابن القَيْطُرْنه، وأبي عبد الله محمد بن أبي الخصال وأخيه أبي مروان، وأبي محمد عبد المجيد

ص: 33

بن عبدون - صاحب القصيدة المشهورة التي يرثى بها بني الأفطس من ملوك الطوائف والتي مطلعها:

الدهر يفجع بعد العين بالأثر

فما البكاء على الأشباح والصوَر

(وسترى تراجم هؤلاء الأفاضل قريباً) في جماعة يكثر ذكرهم. إلى أن قال: ولم يزل أبو عبد الله بن أبي الخصال وأخوه أبو مروان كاتبين لأمير المسلمين إلى أن أخّرَ أمير المسلمين أبا مروان عن الكتابة لموجدة كانت منه عليه سببها انه أمره وأخاه أبا عبد الله أن يكتبا عنه إلى جند بلنسية حين تخاذلوا وتواكلوا حتى هزمهم ابن ردمير هزيمة قبيحة، فكتب أبو عبد الله رسالته المشهورة في ذلك وهي رسالة كاد أهل الأندلس قاطبة أن يحفظوها احسن فيها ما شاء، منعني من إيرادها ما فيها من الطول: وكتب أبو مروان رسالة في ذلك الغرض افحش فيها على المرابطين واغلظ لهم في القول اكثر من الحاجة؛ فمن فصولها قوله: أي بني اللئيمة، وأعيار الهزيمة، آلام يزيفكم الناقد، ويردكم الفارس الواحد؛ فليت لكم بارتباط الخيول ضأناً لها حالب قاعد، لقد آن أن نوسعكم عقابا، وألا تَلُوثوا على وجه نقاباً، وان نعيدكم إلى صحرائكم، ونطهر الجزيرة من رحضائكم. . . في أمثال لهذا القول فاحنق ذلك أمير المسلمين وأخره عن كتابته وقال لأبي عبد الله أخيه: كنا في شك من بغض أبي مروان المرابطين والآن قد صح عندنا. فلما رأى ذلك أبو عبد الله استعفاه فأعفاه، ورجع إلى قرطبة بعد ما مات أخوه أبو مروان بمراكش وأقام هو بقرطبة، ثم قال: واختلت حال أمير المسلمين بعد الخمسمائة اختلالا شديدا فظهرت في بلاده مناكر كثيرة، وذلك لاستيلاء أكابر المرابطين على البلاد ودعواهم الاستبداد وانتهوا في ذلك إلى التصريح فصار كل منهم يصرح بأنه خير من علي أمير المسلمين وأحق بالأمر منه. . . وأمير المسلمين في ذلك كله يتزيد تغفله ويقوى ضعفه، وقنع باسم إمرة المسلمين وبما يرفع إليه من الخراج وعكف على العبادة والتبتل فكان يقوم الليل ويصوم النهار مشتهراً عنه ذلك وأهمل أمور الرعية غاية الإهمال فاختل لذلك عليه كثير من بلاد الأندلس.

نجم أبو نصر الفتح بن خاقان في هذا العصر الذي هو كما أسلفنا من خير العصور لأندلسية من ناحية الثقافة واكتظاظ الأندلس بالعلماء والأدباء والفلاسفة والشعراء، وفي الوقت ذاته هو من شر العصور إذ كان عصرا سياسيا سخيفا كما ترى.

ص: 34

ولد الفتح بن خاقان سنة 480هـ - 1087م، أي قبل أن يدال للمرابطين من ملوك الطوائف بسنتين. أما وفاته فقد اضطربت فيها كلمة المؤرخين فحكى ابن خلكان إنها كانت سنة خمس وثلاثين وخمسمائة - 1140م - وقال ابن الأبار القضاعي في معجم أصحاب الصدفي انه توفي ليلة عيد الفطر من سنة ثمان وعشرين وخمسمائة قال: وقرأت ذلك بخط من يوثق به، وقال الوزير الخطير لسان الدين بن الخطيب أن وفاته كانت ليلة الأحد لثمان بقين من محرم من عام 529 والفرق بين ما رواه ابن الأبار وبين ما رواه لسان الدين بن الخطيب هو قريب من أربعة اشهر كما ترى. على أن ابن خلكان حكى ما رواه لسان الدين بن الخطيب أيضاً. . . وقال لسان الدين بن الخطيب: وأبو نصر الفتح بن خاقان من قرية بعرف بقلعة الواد من قرى يحصِب. وبضم كلام لسان الدين هذا إلى قول الحجاري في المسهب في حق الفتح: طلع من الأفق الاشبيلي شمسا طبق الآفاق ضياؤها، وعمّ الشرق والغرب سناها وسناؤها - يبدو لنا ان قرى يحصب هذه من كورة اشبيلية، وقد تكون من كورة أخرى من كور الأندلس نزح منها الفتح إلى إشبيلية واتخذها مقاماً له؛ وقد يريدلسان الدين بن الخطيب أن اصل الفتح من هذه القرية، آما هو فقد ولد بإشبيلية بعد أن نهد إليها آباؤه الأقربون وأقاموا بها؛ وأياً كان مسقط رأسه فقد نشأ في أشبيلية وفيها كما يظهر اخذ الأدب - كما يحدثنا لسان الدين بن الخطيب - عن أبي بكر بن سليمان بن القصيرة - أحد مشهوري الكتاب وسترى ترجمته - وأبن اللبانة من كبار شعراء الأندلس، وابن محمد بن عبدون الشاعر الكاتب صاحب قصيدة: الدهر يفجع بعد العين بالأثر، وابن دريد الكاتب وأبي جعفر بن سعدون الكاتب، وأبي الحسن بن سراج، وأبي خالد بن تستغير، وأبي عبد الرحمن بن طاهر، وأبي عامر بن سرور وأبي الوليد بن حجاج. هكذا سرد مشيخته لسان الدين بن الخطيب.

نشأ الفتح بن خاقان نشأة أدبية كما ترى، ومن ثم غلب عليه الأدب حتى انصرف إليه فن كلما عداه ولم يؤثر عنه من المعارف سواه، قال ابن خاتمة: انه لم يعرف من المعارف بغير الكتابة، والشعر، والآداب. أقول: وقلما ترى أديباً أندلسياً إلا وله مشاركة في كثير من العلوم الدينية وغير الدينية. على أن قارئ الفتح بن خاقان يرى انه واسع الاطلاع إلى أقصى حد، وانه أديب كل الأديب وان معارفه العامة وثقافته الشاملة التي لا بد منها للأديب

ص: 35

في تلك العصور متوافرة. واليك أقوال مترجميه: قال لسان الدين بن الخطيب: كان آية من آيات البلاغة لا يشق غباره ولا يدرك شأوه، عذب الألفاظ ناصعها، أصيل المعاني وثيقَها، لعوباً بأطراف الكلام، معجزا في باب الحلي والصفات. وقال في موضع آخر: وشعره وسط، وكتابته فائقة. وقال ابن سعيد في المغرب: فخر أدباء أشبيلية بل الأندلس ذكره الحِجَاري في المسهب، الدهر من رواة قلائده، وحملة فرائده. طلع من الأفق الاشبيلي شمسا طبق الآفاق ضياؤها، وعم الشرق والغرب سناها وسناؤها، وكان في الأدب ارفعالأعلام، وحسنة الأيام، إلى أن قال: وهو وأبو الحسن علي بن بسام الشنتمري مؤلف الذخيرة فارسا هذا الأوان، وكلاهما قس وسحبان، والتفضيل بينهما عسير، إلا أن ابن بسام أكثر تقييدا، وعلما مفيدا، وإطناباً في الأخبار، وإمتاعاً للأسماع والأبصار، والفتح أقدر على البلاغة من غير تكلف، وكلامه أكثر تعلقاً وتعشقاً بالأنفس، ولولا ما اتسم به مما عرف من أجله بابن خاقان لكان أحد كتاب الحضرة المرابطية بل مجليها المتولي على الرهان، وإنما أخلّ به ما ذكرناه مع كونه اشتهر بذم أولي الأحساب، والتمرين بالطعن على الأدباء والكتاب، وقد رماه الله بما رمى به إمام علماء الأندلس أبا بكر بن ماجه فوجد في فندق بحضرة مراكش قد ذبحه عبد اسود خلا معه بما اشتهر عنه بتركه مقتولاً. .

نرجئ القول على قتله ولماذا قتل ونمضي الكلام على منزلته الأدبية والمفاضلة بينه وبين معاصره وتوأمه أبي الحسن علي بن بسام صاحب الذخيرة.

(يتبع)

عبد الرحمن البرقوقي

ص: 36

‌إلى الأستاذ الفاضل مصطفى صادق الرافعي

المشكلة

للأديب أحمد الطاهر

لا فضل لي فيما اعرض من رأي في هذه المشكلة التي عرضت في (الرسالة) يوم الاثنين ليلة النصف من شعبان، بل الفضل لصاحبة (الجمال البائس) فيما أوحت به إليك من رأي في رجولة الرجل.

فإذا استوت للرجل رجولته فسبيل الحياة له يكون كما أراده الله أن يكون: خيراً، ويسراً. أما ما يلقى الرجال فيه مما يسمونه بأسماء تضاد الخير واليسر فمرجعه في أكثر الأحوال إلى أن الرجل لم تستو رجولته ولم تكمل. والنقص في الرجولة زيادة في الشقاء، وإذا لقي الرجل في سبيل الحياة نتوءاً يتعثر فيه ففي وجولته ثغرة قد قدت على قدر هذا النتوء.

ونعود إلى صاحب المشكلة - وفقه الله - فنمتحن رجولته فنجدها ناقصة من بعض نواحيها، سقيمة في بعضها الآخر؛ ولكن نقصها ليس مما يستعصي على الكمال، وسقمها ليس مما يحمل على اليأس في أي حال، فمشكلته ليست عسيرة والحمد لله شهد الفتى على نفسه فقال أن الرجل الجاثم في عقله هو غروره - يومئذ - وكبرياؤه يقع في الخطأ بعد الخطأ، ويأتي الحماقة بعد الحماقة؛ ونشأ صلب الرأي، معتداً بنفسه، إذا هم مضى، وإذا مضى لا يلوى، وما هو إلا أن يخطر له الخاطر فيركب رأسه. . .)

اللهم غفراً ورحمة لهذا الفتى!!

انه قد عرف عيب نفسه، ومن عرف عيبها وأصحر به فقد نهج السبيل إلى علاجها، وانه لواصل إلى غايته عاجلا أو آجلا، لا ينقصه إلا أن يذيقها مرارة الحق لتشفى بعد أن استساغت حلاوة الباطل فسقمت.

البلاء الذي لا يشبهه بلاء، والسقم الذي لا يرجى منه شفاء، هو أن يجهل الرجل عيب نفسه، أو يعلمه ناقصا يلتمس فيه الأسباب والعلل المبررة.

آما صاحبنا فكما نعلم من القصة: رجل فاضل مهذب ذو ميسرة، وبيته بيت فيه الدين والخلق والشهامة والنجدة؛ وبعض هذا فيما أرى كفيل بتيسير العلاج له برعاية الله التي لا تتخلى عن بيت فيه الدين. فان ضل واحد من أفراد هذا البيت، ففي قلبه من أثر الدين الذي

ص: 37

بسط سلطانه على البيت منذ نشأته بقية صالحة يكشف عنها غطاؤها فتقود هذا القلب إلى الخير في عجلة أو وناء. فلندع رجل المشكلة الآن ولننظر إلى فتاتها.

هذه الفتاة التي سميت للفتى - سامحها الله - لِمَ أغلقت الباب في وجهه؟ لم يذكر لنا عارض المشكلة سبباً صريحاً لهذه الفعلة. على أن إدراك السبب ليس بعسير، فلقد نستطيع أن ندركه (بالاستنتاج والمقارنة)؛ فالفتاة الثانية التي عرفها صاحب المشكلة فاحبها لم تغلق في وجهه الباب لأنها كانت فتاة جذابة (أمسكت بإحدى يديها عنانه) فمضى قدما، فإذا التفت إلى الوراء قرأفي عينيها كلمات:((أتستطيع فرارا مني؟) فيقول: (لا) ويمضي. . . (ثم يلتصق بجسمها) فتسرى منها إلى قلبه رسالة يقرؤها بقلبه المريض، فإذا هي:(الدنيا كلها هنا). . . .

هذا شانها، وما احسب أن من ظالم الأحكام أن نصف الفتاة بان في حياتها لينا ورخاوة، ولذا لم تغلق في وجهه الباب وهي لم تصبح زوجا له بعد. ولا أحسب أن الفتاة الأولى قد أغلقت الباب إلا لان في حياتها شدة واستمساكا.

إلا فاعلم يا صاحب المشكلة، أن حياء المرأة إذا أصيب باللين والرخاوة ثغر فيه الشيطان ثغرة يجلس على بابها ويصيح:(هلموا أيها الفتيان!) وسرعان ما يستجيب الفتيان لصيحة الشيطان. واعلم وقاك الله أن هذه الفتاة التي فتحت لك الباب أن تزوجتها فستتزوج معها الشيطان الجاثم على ثغرة حيائها وسينضم إلى شيطانك فتصبح بين ثلاثة: امرأة وشيطانين! وأنت واحد! وستكون بين أمرين أحلاهما مر: آما أن يأتمر بك الشيطانان فيوسعا في ثغرة حياتها حتى يدخل فيها غيرك من الفتيان. وإما أن تضيق أنت بما وسع الشيطانين أن يفعلا فتلجأ إلى ابغض الحلال إلى الله - الطلاق! وأدعو لك مرة أخرى: وقاك الله. على أن الشيطانين أن أعياهما صبرك أو سعة في حلمك دارا بوجهيهما إلى المرأة فصوراك لها بصورة بشعة قبيحة، وبذرا في قلبها حبا مراً اسود ينبت في القلوب المريضة فيثمر ثمراً مراً اسود يسمى البغضاء ويسمى الكراهية ويسمى المقت: ولا يزال هذا الثمر ينمو ويربو حتى ينضج ويستوي فلا يتسع له قلب المرأة فتحاول أن تجتثه من اصله فلا تستطيع، فتعمد إلى الزوج تحاول أن تجتثه، فان أفلحت فذلك ما أرادت وتستريح ويشقى الرجل شقاء المحروم من أهله، وإن لم تصبه أصابت شرفه ويشقى الرجل شقاء

ص: 38

المثلوم في عرضه؛ أقبل أيها الرجل على تلك التي أغلقت الباب في وجهك: -

أتدري لم أغلقته؟

لأنك لم تكن وحدك حين طرقت بابها! لقد رأت معك شيطانك وما يتسع بابها لدخول إنسان وشيطان. لقد رأت معك الشيطان متمثلا في (غرورك وشبابك وكبريائك وعنادك) فأشفقت عليك وعلى نفسها من ثالث يدخل بينكما. ولو أفسد الشيطان وأنتما لم تصبحا زوجين بعد فيا للشقاء ويا للعار!

إنها أغلقت الباب في وجهك وأنت خطيبها المسمى لها وأحكمت إغلاقه من الداخل حتى لا تستطيع أنت أن تدخل عليها، فكان الأجدر برجولتك أن تحكم إغلاقه من الخارج حتى لا يستطيع غيرك أن يدخل أليها.

حتى إذا حان موعد الزواج فضضتما الإغلاق في وقت واحد وفي حضرة نفر من الأهل وذوي القربى، وعسير على الشيطان يومئذ أن يندس بينكما.

ما عليك أيها الرجل إلا أن تفتح قلبك لهذه المرأة الحيية الخفرة فتصل ما بينها وبينك، وتغمض عينيك عن كل ما يصوره لك غرورك ونزقك وكبرياؤك وصلفك، ولن تلبث طويلا حتى ترى هذه الفتاة جندا من جنودك يحارب معك أعداء نفسك ويعالج معك أدوَاءَها، وستصلان إلى الحب الزوجي النقي وفيه منك العطف والحنان، وفيه منها الوفاء والإخلاص.

ستجد في هذا عناء ونصبا، وسوف تتمثل لك الفتاة التي أحببت بين حين وآخر وأنا أدلك على ما يجب أن تعمل:

انظر بعقلك الذي تبرأ منك حين صدت عنك الفتاة:

تلك الفتاة التي قد أحببت وضَعَتْ جمالها ورقتها وفتنتها وذكاءها في إناء ولم تحبسه عن الناس ولم تتخذ لصيانته سببا من الأسباب. وهذه الفتاة التي كرهت لقد وضعت عفتها ووفاءها وشرفها وحياءها في إناء وأغلقت دونه الأبواب. فأيهما أبقى على الزمن؟ وآيهما أخلص لك؟ وأيهما لا يعبث به نزق الفتيان؟

وان كان في صدرك حرج مما لا تجد في زوجتك الخفرة من جمال ورقة وفتنة وذكاء وما يتراءى لك في الفتاة الجذابة فخذ واحدة مما زُيِّنَ لك من صفاتها وضَعْها إلى جوار واحدة

ص: 39

مما ترى من صفات زوجتك: خذ الجمال من تلك وضعه إلى جوار الشرف من هذه: وانظر في نصيبك من الاثنين:

ألست ترى جمال الجميلة ملكا لها تجود منه بما تشاء ومتى تشاء ولمن تشاء؟ وشرف الشريفة لك ولزوجتك تنعمان بفضله ما بقى، وتستظلان بفيئه ما كان؛ لا يستأثر به واحد منكما وحده، ولا يبخل بخيره أحدكما على الآخر؟ إلا تجد الجمال متاعا تستهلكه أنوثة المرأة، والشرف متاعا تستبقيه رجولة الرجل؟

ثم خذ الذكاء من الحبيبة إليك وضعه إلى جوار الحياء من البغيضة إليك وانظر إلى حظك من الاثنين:

إلا تجد الذكاء سلاحا في يد الأولى تحارب به كل الناس وزوجها: والحياء سلاحا في يد الثانية تحارب به كل الناس إلا زوجها؟

خذ الفتنة من تلك والوفاء من هذه إلا ترى الفتانة تنادي بفتنتها: هلموا إلي أيها الناس، وترى الوفية تنادي بوفائها: هلم ألي أيها الزوج؟

وبعد، فهاتان اثنتان إحداهما وقفت بالباب، والأخرى أغلقت الباب

آما التي وقفت بالباب فأنها تستقبل الدنيا وتستدبر الدار، وأما التي أغلقت على نفسها الباب فأنها تستقبل الدار وتستدبر الدنيا. والدنيا للناس جميعاً، والدار لك وحدك.

فانظر أيتهما الصالحة لك، الجديرة بحبك، الأمينة على بيتك، الحفيظة على شرفك.

سترى في زوجتك عيوباً ونقصاً، وستتجسم هذه العيوب، لأنك تنظر إليها بغير عين الرضا؛ وخير لك ألا تفكر في هذه العيوب حين تبدو لك إلا بمقدار ما تحاول إصلاحها، وأن تروض نفسك على اليقين بأن المرأة الكاملة لم تخلق بعد، ولن تخلق بعد، فلو خلقت الزوجة الكاملة خلُقاً وخلْقاً لتعطل في الرجل كثير من صفات الرجولة، ولما شعر الرجل بما مازه الله به على المرأة، ولخرجت المرأة من أنوثتها، ولتزحزح الرجل عن رجولته؛ ولما كان الرجال قوامين على النساء.

ولا أجد في الرد على ما تدعيه لنفسك من الحرية أبلغ مما أجابك به عمك حين قال: (إن كنت حرا كما تزعم فهل تستطيع أن تختار غير التي أحببتها)، وحين يسائلك:(إلا تكون حرا إلا فينا نحن وفي هدم أسرتنا؟).

ص: 40

وان كنت تبيح لنفسك تحت ظل هذه الحرية أن تحب غير امرأتك لا لسبب إلا لأنك رأيت فتاة غيرها تفوق زوجتك جمالا ورقة وعذوبة منطق، فبم سينتهي بك هذا؟

إلا تدري انك أن وثبت إلى الفتاة تراها فتعجبك فتتخذها زوجة دون زوجتك أو تضمها إليها فما زالت في الدنيا وما زال فيها من هي أجمل وأذكى وأدعى للفتنة من تلك التي أعجبتك: أتثب إليها أيضاً وتتخذها زوجة ثالثة، أم تطلق الاثنتين وتتزوج الثالثة؟ ألاتعلم أن هذا لا ينتهي بك إلى نهاية، ولا يقف بك عند غاية، ولو أباح الناس جميعاً لأنفسهم هذه الفعلة لما قامت زوجية صالحة، ولا نعم الأولاد بالحنان الممتزج من الأبوة والأمومة، ولأفضى الحال بالناس إلى أن يتواثب الرجال والنساء بعضهم إلى بعض، ولفسدت بذلك الأرض؟

يا أخي: إن المتزوج الذي يشتهي جمالا اكمل من جمال زوجته أو فضلاً لم يجده في زوجته فيثب إليه إنما هو رجل قد اسقط مروءته وأهدر رجولته وظلم زوجته أشد الظلم، وكفر بأنعم الله أشد الكفران، وديث شرفه بالصغار. وحسبك لتقدر هذا أن تزن الفعلة وزنها لو انعكس الوضع فأباحت الزوجة لنفسها ما يبيح الرجل لنفسه؛ لا تقل أن الله أباح للرجل أن يتزوج بأكثر منواحدة إلى أربع دون المرأة، فلذلك حكمة وقيود لا يسقط بها حق المرأة على الرجل وواجب الرجل قبل المرأة.

ما أحسبك إلا فهمت هذا وأحسنت تقديره، وأنت القائل لعمك انك تقدر الرجولة والثواب والمروءة

اتق الله في الزوجة، وأشعر نفسك قوة الرجولة، وانظر إلى ضعف الأنوثة؛ وليكن لك على قلبك السلطان القوي، وهيئ بالقطف والحنان مهادا للحب الزوجي تجد أن زوجتك احب الناس إليك، وأقدرهم على إسعادك.

اليوزباشي أحمد الطاهر

ص: 41

‌عمرو بن العاص

بقلم حسين مؤنس

والآن، فيم طول التفكير وبعد التقدير، وقد صار الأمر لعلي، واستقامت البيعة له في الحجاز، وترامى سلطانه إلى العراق، وامتدت خلافته فشملت مصر، وأولئك هم ولاته تَرْدِى بهم الإبل خفافاً إلى ولاياتهم، وهؤلاء صحابه وأنصاره يبعثون في النفوس ظلالاً من الخوف والرعب بعد الذي كان من قتلهم عثمان، وان عمراًليحس مطالع هذه الخلافة الجديدة في الشك وقلة التقدير، وانه ليجد انقباض نفسه عن طاعتها ورغبتها عن العمل في ظلها. . . بل إنه ليعمل الفكر ليجد من سلطانها مخرجاً ومن طاعتها مهرباً. . . ولعله يستوي في هذا مع أترابه من الصحابة والقادة. . . ولعله كان يرجو أن يتصل ببعضهم ليستطلع فكره وليبادله الرأي. . . وربما ود لو يتصل بعلي نفسه، إذن لأقنعه بالتخلي عن هذه الطوائف القلقة التي وصل حباله بحبالها، والتي تضر بقضيته كل الضرر. . . فإن في هذه الطوائف لنفراً لا زال دم عثمان يجري على أيديهم، وان فيهم لأوباشاً لا يليق بالخلافة أن تتصل بهم ويكونوا عدتها في الفتح والجهاد، وان فيهم لأحداثاً لا يستقيم بهم الأمر، ولا يحسن أن تكون بأيديهم أمور العباد؛ وماذا عسى ابن العاص أن يفعل مع هؤلاء وهو يرجو أن يكون سيداً لا مسوداً، وقائداً لا مقوداً، ثم هو يريد قبل ذلك (أن يشترط)، فما ينبغي لمثله أن يخطو دون أن يقدر للخطو موضعه. . . أو يمضي دون أن يعلم أين يؤدي به السير، أو يعمل دون أن يقدر ربحه وخسارته من هذا العمل الذي هو مقبل عليه. . . أليس هو القائل:(الكرار في الحرب، وإنني الصبور على غير الدهر، لا أنام عن طلب؛ كأنما أنا الأفعى عند أصل الشجرة؛ ولعمري لست بالواني أو الضعيف، بل أنا مثل الحية الصماء، لا شفاء لمن عضته، ولا يرقد من لسعته، وأني ما ضربت إلا فريت، ولا يخبو ما شببت. . .)

أليس هو الفاتح النابغة، والسائس الذي لا يشق له غبار. . . فما باله يبذل قياده طائعاً، ويقدم نفسه مختاراً. . . كلا. . . وليكن له في الميدان الجديد شأن عظيم. . . فما هؤلاء الذين يتولون الأمور إلا أترابه ولداته الذين لا يفضلونه في ماض ولا في حسب ولا مقام. . . والذين لا يساوونه في مكر ولا سياسة ولا تدبير. . . ففيم يكون ذنباً والرؤوس لا تزيد

ص: 42

عليه شيئاً؟ وفيم يؤمر وهو من طبيعة الآمرين؟. . ولو أن علياً بعث إليه يستعين برأيه ويستنير بفكره؛ إذن لقام إلى جانبه وأخلص له المودة، وأفاده الفائدة العظيمة، فانه (شيخ يضر وينفع) كما يقولون في بعض ما يدس عليه من الشعر؛ ولكن علياً منصرف عنه لا يكاد يذكره، وهذه شهور تنطوي على خلافته وهو مستقل بنفسه بصحابه، ما يلقي إلى أحد من الصحابة بالاً. . . بل ها هو ذا يؤدب العصاة منهم وينهض لهم بالسيف. . . وهذه الأخبار تترامى عن الهزيمة النكراء التي منيت بها عائشة، والقتلة القاسية التي صار إليها الصحابيان طلحة والزبير. . . وماذا بعد؟. . . أغلب الظن أن دوره مقبل ولا ريب، وأنه مخير بين الطاعة أو الحرب عن قريب فمادا تراه فاعلا؟. . . هنا كان الرجل يحس قلقاً شديداً. . . فيقلب فكره ويتأمل حاله، عله ينتهي إلى رأي يستقر أليه. . . ثم خطر بباله فسأل نفسه: ومعاوية؟. . . كيف ترى حال معاوية. . . أغلب الظن أن أبن أبي طالب لن يعفيه، وهو وال على الشام وما حواليه. . . وانه لمرسل إليه بالطاعة أو عازله. . . ثم بدا له خاطر جديد فابتسم. . . وهم من مجلسه ومضى يذرع الغرفة جيئة وذهاباً. . . انه يفكر في معاوية. . . ويحسب الأمر حساباً دقيقاً؛ أن لمعاوية جندا كثيفاً، ونفرا أقوياء. . . وانه لفي منعة بأهل الشام ومال الشام. . . ومن يعرف فضل جند الشام كعمرو الفاتح المجرب الخبير؟ أن فيهم لخيرا، وان عليهم لمعتمداً. . . وأنهم ليفضلون جند العراق وجند الجزيرة. . . وانهم ليثبتون في الحرب ثباتاً عظيماً. . . فلم لا يعتمد عليهم ويستفيد منهم؟ ولم لا تكون جبهة قوية من جند الشام وقدرة معاوية وحيلة عمرو. . . فما عسى أن يفعل جند العراق وشجاعة علي وتهور أنصاره أمام هؤلاء. . . فإذا فرغ من ذلك الحساب والتقدير فقد هم يريد ليذهب لمعاوية ليرى رأيه في ذلك الأمر، وانه لكذلك إذا طارق قد اقبل، وإذا به رسول من معاوية!. . . يحمل إلى عمرو كتاباً. . . ويبتسم ابن العاص، فقد فهم ما في الكتاب؛ وما يقصر مثله عن ذلك وقد قدر الأمر كله كما رأينا. . . ثم يتناول الكتاب، فإذا به يقول:(آما بعد فانه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد قدم علىّ جرير بن عبد الله في بيعة علي، وحبست نفسي عليك حتى تأتيني، فأقدم على بركة الله تعالى).

الآن يستطيع ابن العاص أن يمضي عن ثقة، فقد عرف ابن أبي سفيان قدره واستنجد به، وفي استطاعته الآن (أن يشترط)، وأن يطلب ما يريد من أجر وجزاء. . . وهل هو يرجو

ص: 43

إلا مصر وخيرها وأمنها. . . وهل هو واجد في مناصب الدولة منصباً هو آمنأو احسن من ولاية مصر الفياضة بالخير والبركات. . . بلى وإنها لأجدى على صاحبها من الخلافة نفسها. . . فما يغنم الخليفة إلا التعب والجهد في غير طائل. . . وما جزاؤه من ملكه الواسع إلا أن يتوسد الغبراء، فذا رق ومال إلى الدنيا كان نصيبه القتل دون رحمة ولا غفران. ثم أي مكان هو اعز من هذا الركن الأمين الذي لا يصله الجند إلا بمشقة، ولا يقصر في أمر يطلبه الخلفاء. . . الخير الخير إذن في المبادرة إلى جانب معاوية والانضمام لرايته، والحزم الحزم في الإسراع إليه والوقوف في صفه فما في هذا خطر ولا خوف. . . وليزود نفسه من رأيه باستشارة ابنيه محمد وعبد الله. . . فقد عود نفسه أن يدقق الحساب جداً. . . وألا يترك ناحية من نواحي الرأي ولا مذهباً من مذاهب الفكر إلا بحثه ووزنه وزناً دقيقاً؛ وها هو ذا يستمع إلى ابنه عبد الله. . . انه يلومه في ذلك لوماً شديداً، ويرده عن هذا الجشع الذي تحدثهنفسه به:(أيها الشيخ، أن رسول الله قد ذهب وهو عنك راض، ومات أبو بكر وعمر وهما عنك راضيان، فلا تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيبها مع معاوية). . . وان محمداً ليسخر من أخيه، ويريد لأبيه مكانا ممتازاًفي عالم السياسة العربية، ويقول:(بادر إلى هذا الأمر فكن فيه رأساً قبل ان تكون ذنباً. . .).

بلى لقد قال محمد الصدق، ومس شغاف قلب أبيه. . وماذا احب إلى ابن العاص من أن يكون رأسا في كل خطوة يقوم بها وألا يأتمر برأي أحد وان يكون حراً، فلا تؤذيه مضايقة مثل عمرو، وان معاوية لقادره قدره ورافعه في درجات الرياسة والامارة، ولا يعدم ابن العاص بفكره أن يتسلط بعد ذلك فيكون صاحب الرأي في الجماعة دون معاوية. . وما عسى تفعل (الحية في أصل الشجرة) إلا ذاك. . نعم وليمض على بركة الله.

وكان معاوية في حيرة من أمره لا يدري ما يفعل؛ كان رأيه قد استقر على حرب علي، ولكنه لم يدر كيف يمضي إلى ذلك، وقد بدأت دعوة علي تتسرب إلى الشام، وانشأ المسلمون يتحدثون في سر سكوت معاوية عن طاعة الخليفة الجديد، وكان هو نفسه يسكتهم ويهدئهم بما له من المكانة في نفوسهم والقدر في أعينهم، ولكنه كان يحس أن لذلك آخراً وانهم منفضون من حوله أن لم ينته في هذا الموقف إلى رأي، وهل هو إلا وال من الولاة عليه أن يطيع، وقد وصلت دعوة علي وتحدث بها البعض ومال إليها البعض الآخر، وبدأ

ص: 44

القلق يساور معاوية، وانتهى به الأمر إلى الاستنجاد بابن العاص، وكان يعرف فيه ميلاً عن بني هاشم وكرها لهم، وكان يقدر أنه لابد كاره لأمر علي فبعث إليه يتعجل حضوره فخف إليه كما رأينا. . وجلس الرجلان يتبادلان الرأي، وربما أحس عمرو من حديث معاوية انه اخطأ في هذه المغامرة التي أقدم عليها، وان هذه (الصفقة الجديدة) ربما كان فيها بعض الخطر. . ورأى أن ما كان قدره من الاعتماد على جند الشام كان فيه كثير من الوهم وسوء التقدير. . وكيف يمكن إقناع هؤلاء بمناهضة الخليفة وحربه وهم مسلمون مؤمنون يرون طاعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضاً واجباً؟ وكيف يمكن التعويل عليهم، وهذه طاعة علي تكاد تبدو على ألسنتهم؟ ولكنه اطمأن إلى أن لا خطر على مركزه في هذا الأمر الذي انضم إليه. . فإنما هو صاحب الرأي المسموع والكلمة النافذة. . وها هو ذا يستطيع أن يشترط (أخذ مصر كلها أو مصر ومعها غيرها). وقد تقدم فما ينبغي له أن يتأخر. . وقد ألقى يده في يد معاوية ولن يخلص له على بعد ذلك أبدا.

ثم انه مضى يفكر في الأمر تفكيرا طويلا، وقلبه على وجوهه. . حتى هداه الرأي إلى حيلة ربما أفلحت في إقناع جند الشام بعدالة قضية معاوية. . فان هؤلاء الناس لا بد أن يكون قد ساءهم مقتل عثمان، ولا بد أن يكونوا ساخطين على قتلته راغبين في الثأر والاقتصاص منهم؛ وقد ترامى إلى سمع ابن العاص أن عليا يأوي هؤلاء المجرمين ويمد لهم في نعمته ويضعهم من حزبه موضع القادة والرؤساء. . فلم لا يقال للشاميين أن معاوية يقبض يده عن علي لأن عليا يعين قتلة عثمان ويدعهم أحراراًطلقاء، بل لم لا يقال لهم أن مقتل عثمان قد صادف من نفس علي موقعاً طيباً؟. . بل لم لا يقال لهم أن علياً نفسه عمل على هذا القتل وعاون عليه لكي يصير الأمر إليه أخيراً؟. . ولم لا تلتمس البراهين على ذلك، وقد كان علي في المدينة ساعة قتل عثمان، وكان في ميسوره أن يمضي لنجدته فلم يمض. . . وكان الأمر لا يكلفه إلا مشية من داره إلى دار عثمان عطشان يجهده العطش. . . وعلي في داره روِىٌّ مسرور. . . بلى. . . وهذا ابن أبي بكر قاتل عثمان بيده مكرم من علي، أثير عنده، مقام على مصر واليا. . . بلى، والحق ابلج لا تنقصه البينة ولا يعوزه البرهان!

للبحث بقية

ص: 45

حسين مؤنس

ص: 46

‌في الأدب الإنجليزي

6 -

الكائنات الغيبية في شعر

بقلم خيري حماد

تتمة البحث

فلسفة الدينية:

أن من الصعب علينا أن نرجع إحدى رواياته العديدة إلى أصل ديني صريح، ولكن هناك عدداً غير قليل من العقائد الدينية أودعها شكسبير ثنايا شعره ومؤلفاته، وتختلف هذه العقائد باختلاف الروايات التي ورد ذكرها فيها.

ففي رواية الملك هنري الخامس نرى فكرتين دينيتين أودعهما الشاعر في روايته. وأولى هذه العقائد هي عقيدته في أصل خطأ الإنسان، وثانيتهما هي عقيدته في المعمودية. آما خطأ الإنسان فكان منشؤه تلك الخطيئة العظيمة التي اقترفها آدم أبو البشر. اجترم ذلك الجرم فتلوثت نفسه بتلك الخطيئة وكان جديراً بعد ذلك أن تتطهر نفسه مما لحق بها من الأدران، فأرسل الله إليه أحد الملائكة واخرج منه تلك الروح الطائشة ووضع بدلاً منها روحاً طاهرة نقية، وما اقتراف الناس للآثام إلا سير على السنن الذي اختطه والدهم من قبل واحتذاء لحذوه.

وهناك عقيدة ثالثة أدرجها شكسبير في رواية هملت، فهو يعتقد أن الدعاء والابتهال إلى الله لا يصل إلى السماء إلا إذا كان صادراً عن نفس طاهرة وقلب صادق الإخلاص، وهذه حقيقة دينية تثبت أن شكسبير كان رجلاً ورعاً تقياً يؤمن بصدق النية وخلوصها من الرياء والنفاق.

نظر شكسبير إلى هذا العالم الملئ بالشرور والموبقات نظرة احتقار وازدراء فكان دائم التوق إلى الخلاص منها والانتقال إلى حياة أروع منها وأطهر، وقد ذكر عقيدته هذه على لسان بطله هملت الذي كان يقصد الترفع عن الأمور التافهة الشريرة والسمو بنفسه في عالم أرقى، عالم ملؤه التقى والصلاح والسعي إلى ما فيه خير الناس.

وفي رواية الملك يوحنا نرى شكا في عالم آخر يلقى الناس فيه أبنائهم وأصدقاءهم، ذلكم

ص: 47

هو يوم البعث والحساب، وشكه هذا يظهر على لسان الأميرة كنستانس عندما تخاطب الكردينال قائلة:(أن كان حقا ما تقول عن وجود حياة أخرى مجتمع فيها بأصدقائنا فأني لا شك واجدة ولدي الذي فقدته في المهد صبياً).

آما اعتقاد شكسبير في وجود الإله فكان عقيدة ثابتة لا شك فيها ولا مراء. فهو دائما يذكر الإله في عدد من رواياته وعندما يقصد إظهار أمر عظيم يقسم بالإله الأعظم الذي تطأطئ له جباه البشر؛ فهو يقول على لسان بانكو: (أني لأقسم إمام الإله القدير أن أحارب جميع المكائد التي يقصد منها خراب الأمة والبلاد).

وفي رواية روميو وجولييت تظهر لنا عقيدته في المعمودية، فالإنسان إذا اقترف أمراً منكرا وجب عليه أن يتعمد مرة أخرى فيصبح كأنه حديث النشأة والولادة ويتخلص بواسطة ذلك مما لحقه من ذنوب ومعاص.

واهم هذه العقائد الدينية الكثيرة التي ضمنها شكسبير رواياته عقيدتان: أولاهما حق الملك الآلهي، وثانيتهما عقيدة تناسخ الأرواح؛ وقد ذكرت العقيدة الأولى في موضعين من روايات شكسبير: أحدهما في رواية الملك ريشارد الثاني عندما يهتف الملك قائلا: (أن جميع مياه المحيطات لعاجزة عن أن تمحو الزيت المقدس عن الملك المنصب من قبل الآلهة). والآخر في رواية مكبث عندما يتقدم الطبيب إلى مالكولم بقوله واصفا الملك القديس: (ولمسة من يده التي وضع فيها الإله قدسية وطهارة لم يضعهما في غيره كانت كافية لان تشفى المرضى والمصابين).

من هاتين الفقرتين يتبين أن شكسبير كان يؤمن بحق الملك الآلهي، وانهم نفر من الناس اختارهم الله لإدارة شعوبه، فعليهم طاعتهم وتنفيذ أوامرهم. وليس من العجيب أن يعتقد هذا الاعتقاد وقد وجد في عصر سادت فيه هذه العقيدة وآمن بها الناس على اختلاف ملكهم ونحلهم، ولم تكن لأفكار الحرّة قد انتشرت بعد، بل كان الناس يفضلون كل ما هو قديم موجود.

وأما العقيدة الثانية كما ذكرنا فهي عقيدة تناسخ الأرواح، وهذه تؤلف قسما من النظرية المعروفة لدينا بنظرية فيثاغورس التي تقول بانتقال بعض الأرواح من أجسادها إلى أجساد أخرى، فروح الرجل التقى الورع تنتقل إلى جسد كريم تحل فيه وتتخذ منه مكاناً لأقامتها،

ص: 48

وأما روح الرجل الشرير فتحل في جسد أحد الحيوانات الشريرة؛ وقد ذكر شكسبير هذه العقيدة في (الليلة الثانية وفي تاجر البندقية، وفي كل من هذين الموضعين ينظر شكسبير إلى هذه العقيدةنظرة استخفاف وازدراء، فهو يقول على لسان كراشيانو في الرواية الثانية: (انك لتجعل من عقيدتي موضعاً دائماً للشك فيسهل علي حينئذ الاعتقاد بنظرية فيثاغورس التي تقول بانتقال أرواح الحيوانات إلى أجساد البشر).

وفي رواية (الليلة الثانية عشرة) نرى حواراً بين المهرج وبين مالفوليو. واليك نصه:

المهرج: (ما هي نظرية فيثاغورس؟)

مالفوليو: (أنها تعني انتقال روح جدتي إلى جسد أحد الطيور)

المهرج: (ماذا تعتقد في هذه الفكرة؟)

مالفوليو: (أني للأنزَّه الروح أن تنزل إلى هذا المستوى ولذلك فآني اعتقد بأنها نظرية خاطئة)

المهرج: (وداعاً يا صاح! لتبق على جهلك، وستعتقد بهذه العقيدة قبل أن أعيد إليك عقلك، وعندئذ ستتردد في ذبح أحد الطيور مخافة أن تحل روحه محل روح جدتك)

من هذا الحوار يتبين أن شكسبير كان يستهزئ بهذه العقيدة وينظر إليها نظرةاحتقار وازدراء؛ فعقائده الدينية لا تسمح له بهذا التفكير، ولذلك كان جديراً به أن يوليها ظهره وألا يهتم اهتماماً جدياً.

وقبل أن اختم هذا البحث في فلسفة شكسبير الدينية أورد ما قاله جبسن عنه: (إن الاحترام الزائد الذي أبداه شكسبير في رواياته نحو الديانة المسيحية الأساسية لتجعلنا أميل إلى الاعتقاد في نصرا نيته لولا عدم وجود أحد الأدلة لنثبت لنا انه كان مسيحياً صادقاً) ولكنه لم يكن يوماً ما معتقداً بجميع الاعتقادات التي آمن بها أهل عصره. نعم لقد عاش مسيحياً ومات مسيحياً، ولكنه اظهر في بعض الأمور شكا وتساؤلاً عن صحتها وصدقها. نعم كان شديد الاحترام للكنيسة وعقائدها ولكنه خالفها في كثير من المواضع.

خاتمة:

لو تتبعنا نظريات شكسبير في الأمور المغيبة التي ذكرناها سابقاً لرأينا الاهتمام الذي أبداه نحوها، نعم عاش في عصر سادت فيه الخرافات والأوهام، ولكنه تطلع بعين ثاقبة فرأى

ص: 49

أشياء كثيرة يعجز الرجل العادي عن رؤيتها. كانت له القدرة الكافية على تفهم الأشياء المغيبة ففهمها بطريقة تخالف الطريقة التي فهمها الغير.

ولم تكن العقائد الشائعة المصدر الوحيد الذي اعتمده شاعرنا في أبحاثه عن المغيبات، بل كانت هناك مصادر أخرى من الفلسفة الرومانية والإغريقية القديمة مضافا إليها الابتكار الذي أوجده شكسبير دون أن ينقل عن غيره. سمع بأذنه ما يدور بين الناس من هواجس وأوهام فجمعها في شعره إلى ما نقله عن مخلفات السلف وأخرج منها روائع تعد من أعظم مبتكرات الأدب، وأخص بالذكر منها رواية (حلم منتصف ليلة من ليالي الصيف).

وأما الشبح في رواية هملت فيحوي نوعين من الأشباح أحدهما كان من ابتكار الشاعر العبقري والآخر مما نقله عن سابقيه من الكتاب الذين رووا حادثة الأمير هملت بشكل قصصي.

وأما ساحرات مكبث فقد اقتبسها شكسبير عن ويتبين لنا هذا مما قال في هولنشد: (بينما كان مكبث راجعاً إلى العاصمة إذا به يصادف ثلاثاً من النسوة وقد ارتدين ألبسة تشبه ما كان يرتديه النساء في ذلك العصر)؛ وأما شبح بانكو فهو ابتكار ابتدعه الشاعر العظيم؛ وأما رواية العاصفة فيغلب على الظن أنها الأولى من نوعها، وذلك لعدم وجود من كتب في موضوعها من الشعراء والكتاب الذين دونت كتبهم في السجلات وكتب القصص والتاريخ.

تقع حياة شكسبير بالنسبة إلى بحثه في المغيبات في أربعة أطوار: الطور الأول منها هو طور ظهور روايته (حلم في منتصف ليلة من ليالي الصيف) فاستعماله للجنيات مبتكر ومحدث. . وهو سلس في كتابته بعيد كل البعد عما يرهق الذاكرة ويمل القارئ. وقد وصف كلارك كتابه هذا بقوله: (أن استعمال شكسبير المغيبات لأول مرة لمما يدل على سروره ومرحه: فكل روايته هذه ملأى بالبهجة والحبور، ويندر أن تجد هنالك ما يكدرك إلا ما يقع في الأسطر القليلة التي بحثت في الأشباح).

وأما الطور الثاني من أطوار تأليفه فهوة الدور الذي ظهرت فيه روايته الثانية هملت؛ وفي هذه الرواية التمثيلية نشعر بالأرواح والأشباح تتصل ببني البشر اتصالاً لا يكاد يكون تاما، فان هذه القوى الخفية لا تستطيع أن تؤثر في مجرى حياة الإنسان وتحوله في الجهة التي تريدها، ولا يقوم الشبح في هذه الرواية بأي عمل من الأعمال إلا إذا كان بطريق وسيطه؛

ص: 50

وكان شكسبير في هذا الطور قد بلغ الثلاثين من سنه وبدأت نظرته في الحياة تتحول من تفاؤل إلى تشاؤم وأخذت الأفكار والظنون تنتابه فتجعل منه عرضةً دائمة للتفكير والتخيل، فاعتقد أن وراء الإنسان قدر يسيره حسبما يريد، وما الإنسان إلا فريسة لهذا القدر الغاشم.

والطور الثالث ينتهي بإخراج مكبث. ازدادت هذه المخلوقات المغيبة ولكها عاجزة عن إيقاع الضرر بالناس مباشرة ودون أية واسطة، ولم تكن كلمات الساحرات الحقيقة إلا صدى يردد ما كان يدور في خلد بطل الرواية، وكان شكسبير يشعر بالشرور والموبقات تحيط به من كل جانب فأظلم أفكاره وتناوبته الهواجس المختلفة، واصبح في خوف مستمر من هذه القوى الخفية التي تقوم بأعمالها تحت ستار من الظلم والخفاء. وهنا يصل إيمانه بالخرافات إلى القمة ويصبح شكسبير مؤمنا مصدقاً لكل ما يقال له عن هذه الأمور المخيفة المرعبة.

وفي الطور الرابع أو الأخير نراه يخرج للناس رواية العاصفة وفيها يسترد رباطة جأشه وقوة عقيدته فيرجع إلى أفكاره المرحة الطلقة مرةً ثانية. فما الأرواح والقوى الخفية إلا عبيد يستخدمها الإنسان في مهامه وأغراضه، وليس لها من القوة والسلطة على شئ؛ وفي هذه السنوات الأخيرة يصل خياله الابتداعي أقصى غايته. فيشعر بحقيقة الوجود وطبيعة الأمور دون أي ستار أو غطاء.

وقد تخلص شكسبير من هواجسه ومخاوفه وعاد مرة ثانية إلى مرحه وسروره الذي أظهره في صورته التي صورها للجنيات فانطلقت مخيلته في الفضاء مجتازة جميع العوائق من عقائد وأفكار رجعية. وسجلت في روايته الأخيرة نتيجة عبقريته ونبوغه.

وفي كل من هذه الأطوار الأربعة رأينا شكسبير يتخذ مواضيعه مما كان يدور في خلده من المسائل والمشاغل العقلية، فهي مفكر واسع التفكير، مصور حسن التصوير، وشاعر خصب الخيال؛ تجلى تفكيره في كل هذه الأمور العقلية التي بحثها، وظهر تصويره في هذه الرسوم الرائعة التي رسمها لمخلوقات خيالية بأبدع تكوين واحسن تصوير.

نابلس - فلسطين

خيري حماد

ص: 51

‌14 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

تتمة

محاسنه ومآخذه:

إذا كان لأبي العتاهية ذلك الفضل في الشعر العربي بطريقته الجديدة التي أحدثها فيه، وتوخيه فيه السهولة التي تجعله قريب النفع، وتجعل منه أداة صالحة لتقويم الشعب، فانه كان أحياناً يفرط في هذه السهولة، فينزل فيها إلى اللغة الدارجة، والواجب أن يتوسط في ذلك ويسلك في الشعر لغة بين هذه اللغة ولغته القديمة الجافة؛ ومما يؤخذ عليه من ذلك قوله:

إلا يا عُتْبَةُ الساعَهْ

أموتُ الساعَةَ الساعَهْ

وقد قيل لأبي برزة الأعرابي أحد بني قيس بن ثعلبة: أيعجبك هذا الشعر؟ فقال: لا والله ما يعجبني، ولكن يعجبني قول الآخر:

جاء شقِيقٌ عارضا رُمحَهُ

أن بني عمك فيهم رماحْ

هل احدَثَ الدهرُ لنا نكبةً

أم هل رَقتْ أمُّ شقيق سلاح

أي نفثت فيه حتى لا يعمل شيئاً. ولا يفوتنا أن نأخذ على هذا الأعرابي أن هذا الشعر لا يصح أن يذكر مع ذلك الشعر، ولكن يجب أن يذكر معه غزل من نوعه، وفي معنى يمت بسبب إلى معناه، لتكون الموازنة صحيحة بينهما، وتظهر الفروق بين الشعرين تمام الظهور.

وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وكان ممن ينكر على أبي العتاهية: أنكر الرشيد علي طعني على أبي العتاهية في شعره، فقلت يا أمير المؤمنين هو أطبع الناس، ولكن ربما تحرف، أي شئ من الشعر قوله:

هُوَ الله هُوَ الله

ولَكِن يغفر الله

وقال أبو عبيد الله المرزباني: ومما أنكر على أبي العتاهية من سفساف شعره قوله في عتبة:

ص: 53

ولَّهَني حبُّها وصيرني

مثل جُحى شهرة ومشخلَبَهْ

وقوله:

يا وَاهَا لذكر الل

هـ ياوَاهَا ويا وَاهَا

لقد طَيَّبَ ذكر الل

هـ بالتسبيح أفواها

أرى قوماً يتيهونَ

حُشوشاً رزقوا جاها

فما أنْتنَ من حُش

على حُش إذا تاها

وقال علي بن أبي المنذر العروضي: لما مات سعيد بن وهب الشاعر حضر أبي جنازته، وحضرها الفضل بن الربيع، وكان قد ظهر أيام المأمون، فلما دفن أثنى عليه الفضل، وأقبل على أبي العتاهية يحدثه انه أودع القضاة والعدول أموالا فما وفوا له، وانه أودع سعيد بن وهب مالا فوفى به، فقال أبي لأبي العتاهية: ألا ترثيه؟ قال: بلى، قال أبي: ثم صرت بعد أيام إلى الفضل ابن الربيع فأخرج إليّ رقعة، فقال: اقرأ مرثية أبي العتاهية لسعيد بن وهب، فإذا فيها:

مات والله سعيدُ بن وهب

رحم الله سعيَد بن وهب

يا أبا عثمان أبكيتَ عيني

يا أبا عثمان أوجعت قلبي

فقلت ما ادري ما أقول؟ فقال الفضل: أبو العتاهية بأن يرثى في حياته أولى من سعيد بعد موته، قال الصولي: وله شبيه بهذا في محمد بن يزيد المسلمي:

قد مات خِلي وأُنسي

محمد بن يَزِيدِ

ما الموتُ والله منا

خلافه ببعيد

قال أبو عبيد الله المرزباني: وقوله في مرثية عيسى بن جعفر أشبه بقوله في سعيد بن وهب مما ذكره الصولي وهو:

بكت عيني على عيسى بن جعفر

عفا الرحمن عن عيسى بن جعفر

ويمكن أن يعتذر عن هذا وأشباهه بأنه مما كان يقوله أبو العتاهية في حديثه السائر ولا يريد به الشعر، وقد روى أبو الفرج رثاءه لسعيد بن وهب بطريق آخر فقال: اخبرني علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن مزيد، فال: حدثت عن بعض أصحاب أبي العتاهية، قال: جاء رجل إلى أبي العتاهية ونحن عنده فساره في شئ فبكى أبو العتاهية، فقلنا له: ما قال

ص: 54

لك هذا الرجل يا أبا اسحاق فأبكاك؟ فقال وهو يحدثنا لا يريد أن يقول شعراً:

قال لي مات سعيد بن وهب

رحم الله سعيد بن وهب

يا أبا عثمان أبكيت عيني

يا أبا عثمان أوجعت قلبي

قال فعجبنا من طبعه، وانه يحدث فكان حديثه شعراً موزونا، وإنا نرجح هذه الرواية بورودها عمن شاهد هذا الشعر حين يقال وعاينه بنفسه، ولعل الفضل غير فيه هذا التغيير، ثم رواه بذلك الشكل ليزري به على أبي العتاهية بعد أن فسد ما بينهما على ما ذكرنا

ومما أنكر على أبي العتاهية قوله:

حلاوةُ عيشك ممزوجةٌ

فما تأكل الشهد إلا بسَم

فالمعنى صحيح لأنه جعله مثلا لبؤس الدنيا الممازج لنعيمها، والعبارة غير مرضية، لأنا لم نر أحداً أكل شهدا بسم، وأجود من قوله لفظاً، وأصح معنى، قول ابن الرومي:

وهل خُلةٌ معسول الطعم تجْتَنى

من البيض إلا حيثُ واشٍ يكيدُهَا

مع الواصل الواشي وهل تجْتَنِى يَدٌ

جَنَى النحل إلا حيثُ نحْلٌ يذُودُها

وأنكر عليه أيضاً قوله:

يا ذا الذي في الحب يَلحَى أمَا

والله لو كُلِّفتَ منه كما

كلفتُ من حبْ رخيم لَمَا

لمتَ على الحب فذرني وما

ألقى فإني لستُ أدري بما

بُلِيتُ إلا أنني بينما

أنا بباب القصر في بعض ما

أطوف في قصرهم إذ رَمَى

قلبي غزالٌ بسهام فما

أخْطَأ بها قلبي ولكنما

سهماه عينان له كلما

أراد قتلي بهما سَلمَّا

فانه من الشعر المضمن، والتضمين عندهم عيب شديد في الشعر، وخير الشعر عندهم ما قام بنفسه، وخير الأبيات ما كفى بعضه دون بعض، مثل قول النابغة:

ولست بمستبق أخاً لا تَلمهُ

على شعثٍ أيُّ الرجال المهذَّبُ

فلو تمثل إنسان ببعضه لكفاه، إن قال (أي الرجال المهذب) كفاه، وان قال (ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث) كفاه، وقد سبق أني لا أرى رأيهم في عيب هذا التضمين، ولست

ص: 55

أدري لماذا لا نجيز في الأسلوب تفصصي هذه القطعة الشعرية البارعة المتماسكة، فيكون لنا من تماسكها وحدة شعرية ملائمة لوحدة قصتها، كما يكون لنا في الحكم ونحوها أبيات مستقلة، فيها يقوم كل بيت منها حكمة قائمة برأسها.

أما محاسنه وعيون شعره فنذكر منها ما اثر عنهم، واستحق به التقديم عندهم، قال موسى بن صالح الشهرزوري: أتيت الخاسر فقلت له أنشدني لنفسك، قال لا ولكن أنشدك لأشعار الجن والإنس، لأبي العتاهية، ثم أنشدني قوله:

سكنٌ يبقى له سَكنُ

ما بهذا يؤذن الزَّمَنُ

نحن في دار يُخَبّرُنا

ببَلاهَا ناطق لَسِنُ

في سبيل الله أنفسُنَا

كلنَا بالموت مُرْتهَنُ

كلُّ نفس عند ميتها

حَظُّها من مالها الكفن

أن مَالَ المرء ليس له

منه إلا ذكرُهُ الحسن

وقال بشار لأبي العتاهية: أنا والله استحسن اعتذارك من دمعك حيث تقول:

كم مِنْ صديق لي أُسَا

رِقُهُ البكاَء من الحياءِ

فإذا تأمل لامَنِي

فأقول ما بي من بكاء

لكن ذهبتُ لأرتدي

فطرفتُ عيني بالرداء

فقال له أبو العتاهية: لا والله يا أبا معاذ ما لذت إلا بمعناك ولا اجتنيت إلا من غرسك حيث تقول:

شكوت إلى الغواني ما ألاقي

وقلت لهن ما يومي بَعِيد

فقلن بكيتَ قلتُ لهن كلا

وقد يبكي من الشوق الجَلِيد

ولكني أصابَ سوادَ عيني

عُوَيْدُ قَذَى له طَرفٌ حديد

فقلن فما لدمعهما سواء

أكِلْتَا مقلتيك أصاب عود

وقال أبو سلمة الباذغيسي: قلت لأبي العتاهية في أي شعر أنت أشعر: قال قولي:

الناسُ في غَفَلاتِهمْ

وَرَحا المنية تَطَحنُ

وقال الفضل بن البيع لأبي العتاهية: يا أبا إسحاق ما أحسن بيتين لك وأصدقهما! قال قولك:

ص: 56

ما الناس إلا للكثير المال أو

لَمُسَلُّطٍ ما دام في سلطانه

فإذا الزمان رماهما بِبَلِيَّةٍ

كان الثِّقَاتُ هناك من اعوانه

وقال عبد الله بن الحسن بن سهل الكاتب: قلت لأبي العتاهية أنشدني من شعرك ما يستحسن فأنشدني:

ما أسْرَع الأيام في الشَهْرِ

وأسرع الاشهُرَ في الْعُمْر

ليس لمن ليست له حيلةٌ

موجودةٌ خير من الصبر

فاخْط مع الدهر إذا ما خَطا

واجْر مع الدهر كما يجري

من سَابَقَ الدهر كَبَا كبوة

لم يُستَقُلْها آخر الدهر

وقال أبو تمام الطائي: لأبي العتاهية خمسة أبيات ما شركه فيها أحد، ولا قدر على مثلها متقدم ولا متأخر، وهي قوله:

الناسُ في غَفَلاتِهمْ=ورحا المنية تطحنُ

وقوله لأحمد بن يوسف:

ألم تر أن الفقر يُرجَى له الغنى

وأن الغني يخْشَى عليه من الفقر

وقوله في موسى الهادي:

ولما اسْتَقَلوا بأثقالِهمْ

وقد أزمعوا للذي أزمعوا

قرنتُ التفاتي بآثارهم

وأتبعتهم مُقْلةً تدمع

وقوله:

هب الدنيا تصير إليك عَفْواً

أليس مصير ذاك إلى زَوَال

وقال العتبي: رؤى مروان بن أبي حفصة واقفا بباب الجسر كئيباً آسفاً ينكت بسوطه في معرفة دابته، فقيل له يا أبا السمط ما الذي تراه بك؟ قال أخبركم بالعجب: مدحت أمير المؤمنين فوصفت له ناقتي من خطامها إلى خفيها، ووصفت الفيافي من اليمامة إلى بابه أرضاً أرضاً، ورملة رملة، حتى إذا أشفيت منه على غناء الدهر، جاء ابن بياعة النخاخير - يعني أبا العتاهية - فانشده بيتين فضعضع بهما شعري، وسواه في الجائزة بي، فقيل وما البيتان؟ فأنشد:

إن المطايا تشتكيك لأنها

تطوى اليك سباسباً ورمالا

ص: 57

فإذا رحلن بنا رحلن مخفَّة

وإذا رجعن بنا رجعن ثقالا

وهذا قليل من كثير من عيون شعر أبي العتاهية، وديوان شعره في جزأين كبيرين أولهما في الزهد، وثانيهما في الأغراض الأخرى، وقد جمعه أحد القسوس اليسوعيين نقلا عن رواية النمري وكتب مشاهير الأدباء كالأصفهاني والمبرد وابن عبد ربه والمسعودي والماوردي والغزالي وغيرهم، وهو مطبوع في بيروت سنة 1305هـ سنة 1886م.

وليس في هذا الديوان كل شعر أبي العتاهية، لأنه كان أحد ثلاثة لم تمكن الإحاطة بشعرهم لكثرته، وهم بشار والسيد الحميري وأبو العتاهية، وكان في هذا أكثرهم شعرا، ولعلنا بما كتبناه في حياته وشعره نكون قد قربناه لمن يجهله أو يجحد به، وقدمنا للأدباء مثلا من الشعر لنبيل الذي يجب أن ينسجوا على منواله.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 58

‌الرأي

للشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين

سأحمل في الرأي مَضَّ الألم

واصبر للخطب إما ألمّ

واحمل نفسي على مُرّها

إذا ضامها ما يضيم الكرم

ولا اشتري كل هذا الوجود

ولا العيش فيه ببعض الشمم

وازهد فيما بناه الرياء

واصدع بالرأي مهما هدم

فأهونْ عليّ بدنيا النفاق

وجاه يُنال ببيع الذمم

هو الرأي روحك فاحرص عليه

فما بعد روحك غير العدم

وحكم القلوب بإلهامها

وما اصدق القلب فيما حكم

فلا تطلبن وداد الصديق

بمدح تزوِّره أو بذمّ

فإن اللسان رسول القلوب

يحدّث عنها بلا أو نعم

وإن العقيدة عِرضٌ فصنه

إذا كنت ممن يصون الحُرَم

سَرت في فؤادك مسرى الدماء

فلا تبذل الدم إلاّ بدم

أمانة ربك في خلقه

فمن كتم الحق فيها ظلم

وميثاقه قبل خلق الجسوم

تلقّته أرواحنا في القِدم

بها رفع الله تلك النفوس

وميّزها عن سوام النَّعم

فلا تغبطنَّ أخا حظوة

فما نالها برخيص القيم

ولكنه باع فيها الضمير

وألقى العقيدة تحت القَدم

وساوم بالنفس فعل البغيّ

رمت بالحياء ابتغاء اللقم

وكم اسخط الحق في موطن

وكم البس النور ثوب الظلم

تكاد مظاهره الخالبات

تشف لعينيك عما طوى من تُهَم

ويوشك منظره المجتلي

يحدّث عما طوى من تُهَم

فلا تغترر ببهاء الوضيع

فكم من حذاء صقيل الأدم

وعش العقيدة عيش الكرام

ومت رجلا تحت هذا العلم

ولا تعتدد بالأُولى خالفوك

وكن أمماً أن عصتك الأمم

ص: 59

أحمد الزين

ص: 60

‌الجبل

(ذكرى)

للأستاذ عبد الرحمي شكري

جلالك أهدى من ضياء المناثر

ومنبرك الأعلى اجل المنابر

لقد كنتَ عرشَ المجد في الأرض عزة

ومسكن أرباب الدهور الغوابر

فيامعبداً سقف السماء غطاؤه

وعمدانه الدوحات ملء النواظر

جلالك يُلْهِي المرَء عن كل زائل

فيخشع مسحور النهى والضمائر

توحدت كالرهبان يا رُبَّ راهب

رأى عصمةَ الأطواد طهرَ السرائر

تُطِلُّ على السهل الفسيح كأنما

تُفَكِّرُ في عيش القرى والعمائر

أَلَا أنِّ للأهرام مجداً وروعةً

ولكنها أنْ لُحْتَ لهْو الأصاغر

فأنت بِنَاءُ الله لم يبنِ مثلَه

قديرٌ ولم تعبث به يدُ جائر

ومعتصم في معقل منك مانع

كما اعتصم الملاَّح بين الجزائر

عَلَوْتَ براسٍ في السماءِ مُبَاعِدٍ

أَكَيمْا تناجي السحب أم كبر قادر؟

وينساب فيك الماء جذلان لاهياً

وآناً له روع كروعة هادر

عليك اعتراكٌ للعواصف رائع

وبرقٌ ورعدٌ طيَّ سُحْبٍ مواطر

وأنت وَقُورٌ لم تُرَعْ من رعودها

ولم تتهَّيبْ دورةً للدوائر

يُغَيِّر مَرُّ الدهر حياً وهامداً

سواك فهل أوقفت خطو المقادر

فيا مَلِكاً بُرْدُ الجليد كساؤه

ومِنْ فوقه تاج النجوم الزواهر

تشاهد جيلاً بعد جيل كأنما

تمر بك الأجيال مَرَّ العساكر

ترى مولد الدولات ثم مماتها

وتبصر مجد اليوم بعد الغوابر

خلطتُ بك النفسَ الطَّموحَ إلى العلا

ومرأى جلالٍ منك ملءُ الخواطر

عبد الرحمن شكري

ص: 61

‌عذراء الهوى

بقلم سليم الزركلي

هدأ الشاعر في خلوته

وانثنى يقرأ أسفار الحياةِ

فتجلّى الشك في صورَتِه

كوميض البرق بين الظلماتِ

زهرة لم تتفتح للهوى

كالملاك الطفل في مهد الدلال

لمست وجنتها بنت الندى

فأضاء النور مصباح الخيال

بسم النور على أجفانها

فتجلى في معانيها الأمل

وارتمى البشر على أحضانها

غارقاً في أغاريد القبل

قبلتها الشمس في وجنتها

فنما في ِدفئها وَرد العفاف

وحنا البدر على طلعتها

فحلا للعين والقلب المطاف

يا ملاك الحب في المهد ويا

شعلة الإلهام والوحي المصون

يا ضياء النفس في النفس ويا

غاية الحسن وتمثال الفنون

منية منيتها القلب اللهيف

فغدا في صبره يلقى العذاب

بسمةً واحدة يهْدَ الوجيف

وافتراراً عن ثناياك العِذاب

في حنايا النفس آمال جسام

تتلوى كأفاعي الهاجره

أطفئِي غلتها بالابتسام

وبإغضاء الجفون الساحره

ما لهذا الكون معمور الجناب

وفؤادي في سراه حائر

فإذا ما مزّق الدهر الإهاب

ماالهوى؟ ما العيش؟ جَدٌّ عاثر!

عاشق الزهر في ميعتها

يحتسي في الكأس معسول الرُّضاب

إنه يقطف في صورتها

بهجة الدنيا وأحلام الشباب

فإذا قبل خدّ الزهَرات

وهي سكرى كالعيون الناعسه

سمع القلب شجيّ النغمات

فهفا وهي تغني هامسه:

(أنت لاتبصرني بعد غدِ

سوف يجلوني عن الغصن القدر

فتمتع من جمالي وأسدد

ولتمثلني خيالات الفكَر

لاتُضع أيامك الغرّ سدى

واتخذني مثلَا تنشده

ص: 62

يذهب العمر هباَء بَدَداَ

أن تولى عنه من يسعده

يا نسيم الروض خفف وطأتك

لم اعد أستطيع حمل النغمات

سر على مهل وخفِّف حدتك

أصبحت تؤذَي خدودي النسمات

واحنُ يا طيف على أحلامنا

وابتسم تشرق أزاهير السعود

واسر ممراحاَ على أيامنا

بنشيد من أناشيد الخلود)

فانحنى يغمرها بالقبلات

ويواري في حناياه دموعهْ

وَدَّ لو ينفحها روح الحياة

حانياً فوق أمانيها ضلوعه

طهِّري القلب بحب وغرام

ودعي الأيام في غفلتها

أنت أن أيقظتها جَدَّ الخصام

وتداعى العمر في يقظتها

واغنمي اللذات في أوقاتها

وارتعى مثل فراشات الربيع

واعطفي القلب على باقتها

إنها تحنو على الطفل الوديع

دمشق سليم الزركلي

ص: 63

‌الزَّوَاجُ

رَأَيْتُ زَوَاجَ الْمَرْءِ أَسْعَدَ حاَلَة

مِنَ الْمُكْثِ بَيْن النَّاس وَهْوَ فَرِيد

شَرِيك الْفَتَى فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ زَوْجُهُ

فَكَيْفَ يَعِيشُ الْمَرْءُ وَهْوَ وَحِيدُ

وَلَوْلَا زَوَاجُ النَّاسِ في الْكَوْنِ لانْقَضَى

وَلَا كانَ للإنْسَانِ فِيهِ وُجُودُ

يُخَلدُ ذِكْرَ الْمَرْءِ فِي الدَّهْرِ نَسْلُهُ

وَمَا لامْرِئٍ فِيهِ سِوَاهُ خُلُودُ

(بيبان)

عبد الهادي الطويل

ص: 64

‌الوداع

بقلم الياس قنصل

يا قلبُ لا تجنحْ إلى الش

شَكوى فتؤلمك الكِلامْ

ودع الكآبةَ فالشبا

ب إذا انقضى لا يرجع

وتأمّل الدنيا، فقد

أبدى هناها الابتسام

والناس ترفل بالمسر

رة والطبيعة تسمعٌ

لحناً أثيريّ الجما - ل يعيد أنباض الأمَلْ

أن كان أحزنك التأه

بللوداع فما العمل

والدهر لا يرثى واح

كام القضا ليست تُرَدُّ؟

أنا لا ألومك يا فؤا

د إذا عراك الاضطرابْ

فقد جرعتَ - وانتفي

عهد الصبى - كأس النوى

وخبرت أدواَء البعا

دِ وما تجرّ من العذابْ

فاصبر على جور الزما

ن، ولا تهبْ منهم الجوى

فالصبر ينفث في الحيا

ة الانشراح والابتهاجْ

لا تيأسنَّ، فقد يرو

ق البحر من بعد الهياجْ

ولربما انجلت الغيو

م عن السما وبدا القمرْ. . .

(عاصمة الأرجنتين)

الياس قنصل

ص: 65

‌القصص

صور من هوميروس

15 -

حُروب طَرْوَادَة

صلح. . .

للأستاذ دريني خشبة

أشرقت الشمس أو كادت، وبدت ذيتيس تتهاوى في الأفق الغربي فوق الشبح، وهرعت عرائس الماء وعذارى البحر تحييها وتنشد لها الحان الفجر، ظلّها الندى. . .

وكانت تتأوّد تحت حملها الثقيل، فما إن بلغت سفينة أخيل حتى ألقت بالدرع المسرودة، وحتى هب ولدها يحييها بعين شَكْري، ومهجة حَري، وقلبٍ مُوجع حزين.

ما يزال جالساً أمام جثة بتروكلوس يبكيها، ويكلم فيها الإخاء والوفاء، ويناجي في لفائفها الود والولاء، وكان ما يزداد إلا لوعة، وكان ما يزداد إلا أنيناً!

وحنت عليه أمه تواسيه؛ ثم لفتته إلى الدرع والخوْذة، فحدجهما بنظرة قاتمة، وشكر لها هدية فلكان، ثم أوصاها بالجثة خير ما يوصى به الصديق. . . (ذودي الذباب فلا يمسها يا أماه، وارفعي عنها أذى أسرابه، واسقيها من المعتقة الصفراء، حتى تأذن الآهة فأعود إلي بتروكلوس بثأره. . . . . .)

وانطلق في غبشة الصبح يطوف بمعسكر الهيلانيين، داعياً إلى مجلس حربي.

وكان يهتف بالجند النائم هُتافاً عالياً، فينتفض المقاتلون وقد خفقت قلوبهم، واهتزت جوانحهم، وفاضت عبراتهم من الفرح للقاء أخيل!

وكان أجمل ذلك جميعاً أن ينهض اوليسيز متهالكا إلى نفسه، وديوميد مترنحاً في عطفه، ونسطور مرتجفاً كأنه في يوم حشر،. . . و. . . اجممنون، كان الحياء والحجل يصبغانه بحمرة الجحيم!!. . . . . . .

لقد كانت جروح القادة انطق برهان على ما جرّت تلك الخصومة الوضيعة بين اجاممنون وأخيل من هزيمة للجيش، وضياع للجهود، وعبث بآمال أمة ترقب أبناءها من وراء البحار! وانتظم عقد القادة، ووقف أخيل يتكلم، فأرهفت الآذان، وصغت القلوب، وتحركت

ص: 66

الألسن تبحث عن بلل من الريق تبتلعه:

(أين أتريوس العظيم)

(أخي في الوطن)

(يا أمير هذه الجيوش الغازية)

أرأيت؟! أي جدوى عادت عليّ أو عليك من هذه القطيعة التي أججت نارها، واندلع بيني وبينك أوارها، وأي غنم أفدت من شحناء لم تكن بعظيم بن عظيم، بل سليل آلهة عظماء؟!

ألا ليتها أودت تلك الفتاة التي أثارت كل تلك العداوة، وأغرت جميع تلك البغضاء بيننا! أي وأرباب الأولمب، ليتها أودت يوم غنمناها من مدينة ليرناسوس، حتى لا تفرح طروادة بما تم لها من نصر، وما حاق بجحافلنا من خذلان، لم يكن شئ منه يقع لولا ما أثارته بريسيز بيننا!

ولكن لا! فالفتاة نقية وطاهرة وبريئة، لأنها لا تزر وازرة وزر أخرى؛ ولكننا، معشر الهيلانيين، ينبغي أن نذكر أبداً أن لنا ثأراً عند هؤلاء الطرواديين، لا محيص لهم من أن نأخذهم به، وان نطلبه عندهم، فلا نرتد عينهم حتى يُدال لنا منهم، وتكون لنا الكرة عليهم حين يظفرنا اتحادنا بهم. . .

لنكبح جماح نفوسنا إذن! وليطفئ كل من غيظه في سبيل هيلاس؛ ولتندمل تلك الجراح التي تفثأ قلوبنا فتكاد تقضي على آمال أمة؛ وتطيح بأماني الوطن!

اجاممنون! بن أتريوس العظيم!

تلك يدي أضعها في يدك، عهداً مخفوراً وذمةً وفيةً، ألا ندع أهواءنا تهدم ما طمحت إليه نفوسنا من قبل، وان نكون من الساعة يدا على عدونا، وإلباً واحداً. . . . . . . . . . . . . . .

والويل بعدها لمن يجرؤ من جند طروادة أن يتصدى لنا، أو يجازف بنفسه أمامنا. . . . . هذا رمحي! وتلك قناتي! ويا طالما قد ظمئت آلي الدماء. . . . . . . . . .!)

وتدفقت الدماء في عروق القادة، وشعروا كأن السماء ترفعهم إليها فتطهرهم وتزكيهم، وتعود بهم إلى الثرى قوماً آخرين!

ونهض أجاممنون من مكانه، ولم يستطع أن يتقدم إلي مكان الخطابة، فقال: (أيها الأصدقاء!

ص: 67

يا أبطال هيلاس! يا وزراء مارس!

لست ادري ما أقول ردّاً على أخيل العظيم، بيد أنني سأفتح له قلبي، واكشف لكم أمامه عن سريرتي، وسيد الأولمب على ما أقول وكيل!

أبداً والله ما كنت سبب هذه المأساة التي أغرت بيننا العداوة، وأججت نيران هذه البغضاء! وأبداً والله ما آثرت أن يكون بيننا ونحن في هذا الأمر ما نحن، شئ من تلك القطيعة التي دفعنا ثمنها غاليا: أرواحاً مطهرة ودما زكياً وشبابا أنظر الشباب!!

أبداً والله ما أثرت من ذلك شيئاً قط؛ ولكنها المقادير، ومشيئة سيد الأولمب، وهذه الربات الغالبات (ارينيس) اللائي تحالفن علي، فغشّين بصيرتي، وأذهلنني عن نفسي، فأتيت ما أتيت على غير وعي مني، ولا هدى ولا برهان مبين!. . . ولقد ثاب إلى رشدي، وارتفع الحجاب عن بصيرتي، ساعة إذ أبصرت هكتور يأخذ جموعنا فيحصرهم بينه وبين البحر، كأشد ما يكون حصار بين موتين! عندها، ذكرت أخيل! وذكرت أنني آثم في حق أخيل، وان أخيل لو كان في هذه الحلبة لما ملك هكتور رشاده، وما ملكت رجلاه أن تحملاه! فزاغت عيناي، واستبنت ضلالتي، واستغفرت الآهة من أجل آثامى!

أخيل:

ما أعظمك حين نسيت غضبتك، وسعيت إلى خصمك، ومددت إليه بيمينك من اجل الوطن! مرحبا بك يا أخي؟ ومرحبا بصلح يغسل الضغن، ويذهب بالجفوة، ويرأب ما أنصدع من شملنا جميعا!

على أنى أرى أن أمهر صلحي وأؤكد محبتي، ياللهي الغالية، والهدايا العالية، وبكل مذخور ثمين؛ فهلم يا ابن بليوس هلم؛ هيئ الصفوف وجيّش الفرق، حتى أعود إليك بتذكاراتي. . .)

وأبى أخيل أن يلهو أحد في تلك الساعة، أو يشتغل إلا بالحرب. والاستعداد ليوم الفصل؛ فشكر اجاممنون، ورجاه أن يلبث معه حتى يأخذ كل عدته؛ ولكن اوليسيز الجريح يتدخل، ويرجو أن ينطلق اجاممنون فيأتي بالعطايا واللهى،. . . وبالغادة المفتان، بريسيز، فتنة الفتن، ونادرة الجمال؛ نقية كما هي، أخيلية كما فَصَلت من خِدْر مولاها يوم الخصام الأكبر. وأنا اقسم لأخي على ذلك ويقسم عليه ويؤكده اجاممنون).

ص: 68

ويقسم عليه ويؤكده اجاممنون، ويغسل أقسامه بالدمع السخين؛ ثم يأمر خادمه (تلثبيوس) فينطلق إلى حيث يأتي بخنزير سمين يذبحه ويطعم القادة منه. . . ويحلف أخيل لا يذوقن من طعام حتى يعود بثأر صديقه واعز الناس عليه:(بتروكلوس!).

ويلح عليه اوليسيز في أن يأكل: (لان الحرب شاقة، ويومها دهر بأكمله، ومقارعة الأقران مجهدة للأبدان. . .) وما يزيد أخيل إلا إباء!

وعاد اجاممنون

وكان اوليسيز نفسه يتقدم الراكب الذي اقبل من سفينة القائد العام يحمل هداياه لأخيل. ونهض اجاممنون فأشهد الآهة على نقاء القلب وصفاء النفس، ورضاء الضمير، ثم قدم الهدايا إلى ابن بليوس الذي كان يشهدها ويبكي!

وفي الحق، لقد كانت لُهىً أحسن اللُّهى، وهدايا على قدر مُهديها!

فهذه صناديق سبعة مقفلة، ملئت بالدر واليواقيت والزبرجد وبكل ما غلت قيمته من كتان مصر، وخز الهند، وحبر الشام. . . وهذه اثنا عشر من صافنات الجياد كأنما ولدت في ليلة واحدة ولوَّنتها الآلهة بألوان واحدة، وأضفت عليها عرائس الفنون من سحرها، فكانت كخيل أورورا!

وهذه أيضا عشرون دستاَ من النحاس المزركش، حليت سطوحها بالميناء والفُسيْفِسَاء، وتبارت في حفرها كل يد صناع وفكر عتيد. وفيها من أصناف الجوهر ما يبهر اللب ويشده القلب، ويذهب سنا برقه بالأبصار!

وهذه بدَرٌ عَشْر من الذهب الخالص يحملها اوليسيز ويتقدم بها أبكاراً سبعاً من جملة اللَّهى، كل منهن كأنها فينوس حقيقة، تميس كأنها بانة، وتبسم كأنها أقحوانة، وتبدي عن الدر النضيد!!

ثم. . .

هذه بريسيز! بريسيز الهيفاء، واصل هذا البلاء؛ الدمية التي أترعت بالمفاتن، وفاضت عيناها بسحر الهوى!

هذه بريسيز تبرز فتخطف الأبصار، وتتقدم فثب القلوب، تود لو تغمرها لمحة من جمالها النضر، وشبابها الفينان!

ص: 69

فهل رأيت إلى العاصفة تقتلع الدوح، وتطيح بالأيك، وتهب على اليم النائم فيصطخب، والبحر الوادع فيضطرب. . . و. . . على الغدير ذي الخرير فيرقص من رعشة كان به مسّاً من الخَدَر!!

تلك هي بريسيز حين تبدت للقوم!

لقد هتف اوليسيز هتفةً ضاعت في إنذهال الملأ بما يرى، على ما تعرف من جبروت اوليسيز، وشدة أيده. . . . . . ثم هتف فتلفَّت الناس، وراح الرجل يكرر ما قيل من نقاء بريسيز وتمام طهرها؛ أخيل مطرق ساهم، لا يكاد يعي مما يقال شيئا!. . .

واستل اتريديس خنجره، وأهوى به على عنق الخنزير يذبحه، وهو في ذلك كله يصلي لأربابه، ويسبح بحمد السماء، ويشكر لسيد الأولمب ما أتم من صلح شريف بين سليلي الآهة. . . ونهض اجاممنون فقدم بريسيز إلى سيدها، وعقَّب بكلمة طيبة، ثم أشار أخيل إلى المرميدون فحملوا الهدايا، وانطلقوا إلى أسطولهم بها، ومعهم فتاة مولاهم في صفوف موسيقية، وفي موكب رهيب!

وانصرف القادة إلى زادهم، والجنود إلى ميرتهم، ولا حديث لهم إلا أخيل وفتاة أخيل، والصلح الذي باركته السماء، وكسبوا منه أن يكون فيهم أخيل!

أما بريسيز فقد وصلت إلى سفينة مولاها؛ فشدها أن ترى إلى جثة بتروكلوس في لفائفها وأكفانها، والى هذه الأم البارة، ذيتيس، جالسة عندها تبكي، وتدفع أسراب الذباب، وتسقي القتيل خمراً!!

لقد كانت بريسيز تعجب بالبطل منذ قريب، ولقد تركته ممتلئاً صحة، موفوراً شباباً؛ نضر الصبى، ريّانَ الأهداب! ثم عادت فكان اشق عليها أن تراه مُسَجَّى هكذا! لا نأمة! لا حركة! لا نَفَس! قتيلاً كأدنى من كان يقتل كل يوم روع، طعيناً كأقل من كان يطعن كل يوم نزال!!

ودارت الدنيا بالفتاة، فراحت تملؤها ندبة وبكاء!. . . واجتمع لديها الفتيات الأخريات يندبن ويبكين. . .

فما كان أروعه منظراً، وما كان أحره إخلاصاً!!

واقبل فونيكس على أخيل يواسيه

ولكن أخيل ما يرقأ له دمع، ولا ينقطع له نحيب. . . واطلعت أرباب الأولمب، فشهدت ما

ص: 70

يأخذ البطل مت ن رُحَضَاء الحزن، وبُرَحاء الأسى، فأشار زيوس إلى مينرفا، فهبت إلى أخيل ترعاه، وتخفف عنه من بلواه. فلما كانت قاب قوسين من ابن بليوس، هالها أن ترى إليه يعصف به الحزن، ويوهنه الجزع، والجند مع ذاك قد بُوَّئُوا مواقف للقتال! فما هي إلا أن أمرت فونيكس بأن يصب الخمر المعتقة على صدر صديقه لينقذه من ضيقه، وليخفف عنه من وطأة الجوع. ويصدع فونيكس، فيتقدم إلى أخيل كاشفاً عن صدره، وصب السلافة الأولمبية فيشربها الجسم الضاوي، ويسترجع بها ما فقد من قوة. . . وما يفتأ فونيكس فوينكس يصب الخمر، وما يفتأ أخيل ينظر إليه مشدوها، حتى يكون في كل قوته من اثر الخمر، فيصيح صيحة الحرب. . . التي تهتز لها أبراج طروادة!. . .

فانظر إليه مُقَنَّعاً في حديد فلكان، وانظر إليه تحت تلك الخوذة التي لم تصنع مثلها يد الإله الحداد، وانظر إليه يداعب حربة شيرون، أستاذه السنتور العظيم؛ ثم انظر إليه كالبركان المضطرب يقذف النار من عينيه المغْضَبَتيْن، ومن حوله الميرميدون يملؤون الرحب ويسدون الشَّعاب. . .

ويل لك يا هكتور!

(لها بقية)

دريني خشبة

ص: 71

‌البريد الأدبي

اللغة السيوية بربرية

إلى الرحالة الأستاذ محمد ثابت، سلام واحترام:

ذكرتم يا سيدي في العدد 121 من (الرسالة الغراء) أن لأهل سيوة لغة خاصة يتكلمونها في رطانة هي ابعد من اللهجات الأوربية عنا، وأنكم تسمعتم إليها فلم تهتدوا إلى كلمة واحدة تمت إلى العربية أو اللاتينية بسبب؛ وبعد أن ذكرتم أمثلة من هذه اللغة الغريبة الشاذة قلتم:(ويقال إن اصل تلك اللغة بربري مازجته العربية ثم الرومانية).

والأمثلة التي ذكرتموها تدل دلالة قاطعة على أن هذه اللغة هي بربرية لا شك فيها، وهذه الألفاظ التي استغربتموها هي نفسها لا تزال مستعملة في أفواه البربر في هذه البلاد إلى الآن.

والذي انتهيت إليه - بعد البحث الطويل في اصل هذه اللغة وفي علاقتها بالعربية - هو أنها إن لم تكن لهجة من العربية الأولى بعدت عن اصلها بتراخي الزمن وطول الأمد حتى صارت كأنها لغة مستقلة، فما لا شك فيه أنها لغة سامية (انظر بحثنا (هل البربر عرب؟ وهل لغتهم لغة ضاد أخرى؟) في مقتطف يوليو 1934).

وأما أن العربية المدونة في القواميس قد مازجت البربرية بعد الفتح الإسلامي لبلاد البربر، فهذا أمر واقع لا شك فيه، فكلمة (تَلَشْلَشَتْ) التي قلتم إنها من أسماء الأعلام عند السيوويين هي كلمة عربية من (لشْلَشَ) إذ تردد واضطرب (بُرْبرَتْ) بادْخالِ علامة التأنيث في اللغة البربرية عليها وهي التاءان معا في أولها وفي آخرها؛ وترجمة هذه الكلمة (اللشلشة أو اللشلاشة) وكلمة (لشلاش) من أسماء الأعلام هنا في الجزائر بين العرب.

ولقد وجدت وأنا انظر في اللغة البربرية أن القاف المعقودة فيها ينطقها بعض البربر جيما مصرية، وينطقها بعضهم جيما عربية، وينطقها آخرون منهم عربية تارة ومصرية تارة أخرى، فقلت في نفسي: من يدري فلعل الجيم المصرية جاءت من هنا.

وبرابرة برقة كما يحدثنا التاريخ أغاروا على مصر أقاموا بها واثروا في لغتها، وجئتم اليوم أيها الأستاذ الرحالة فرويتم لنا أن نفس اللغة البربرية لا تزال مستعملة كلغة منزلية إلى الآن في بعض زوايا مصر، ونشرتم صورة فتاة سيوية عليها مسحة من الجمال

ص: 72

المغربي، فافدنا منكم ما لم نكن من قبل نعلمه ولا ندريه، فلكم الفضل والشكر على ما وليتم.

وهران (الجزائر)

محمد السعيد الزاهري

قصة رائعة وفلم مبتذل

عرض أخيراًفي بعض دور السينما بالقاهرة شريط مصور (فلم) عنوانه (الشيطان امرأة) وقيل في مدحه والترغيب في رؤيته أن النجمة الألمانية الشهيرة مرلين ديتريش هي صاحبة الدور الأول فيه، وهي التي تقوم بتمثيل هذه (المرأة الشيطان)؛ ولكن الذي لم يقل في شان هذا الفلم ولم ينوه به هو انه مأخوذ من قصة بيير لوئيس الشهيرة المسماة (المرأة وقراقوز) أي الرجل الذي لا إرادة له.

وقد أذيع أخيراً أن الحكومة الأسبانية أمرت بمنع عرض هذا الشريط في جميع أنحاء أسبانيا لأنه يعرض سمعة الضباط الأسبان - وبطله الرجل هو ضابط أسباني - إلى المهانة والسخرية ويعرض سمعة المرأة الأسبانية - وبطلته هي فتاة أسبانية راقصة - إلى الزراية، وذلك أنها تبدو في الفلم في شخص الفنانة الحسناء امرأة عاهرا مبتذلة تعرض اخطر ضروب الإغراء النسوي وأسفلها بصورة مثيرة ملهبة، تلك هي (كونشيتا) بطلة هذه القصة الشهيرة.

بيد أن الحكومة الأسبانية لم تقف عند هذا المنع المحلي بل تقدمت بمذكرة احتجاج سياسي إلى الحكومة الأمريكية، فتدخلت في الأمر ونصحت إلى شركة بارامونت التي أخرجت الفلم بسحبه من جميع أنحاء العالم؛ فلم يسع الشركة إلا النزول عند هذه الرغبة وتنفيذها، وبذا يختفي أحدث مخرجات مرلين ديتلايش عن الأنظار، ولكن تبقى بعد ذلك القصة الأصلية التي تعتبر من أبدع ما كتب بيير لوئيس؛ بل هي في سحر أسلوبها ورائع عرضها لا تقل اضطراما وحياة عن الشريط المصور ذاته؛ وهكذا يستطيع من حرم مشاهدة هذا الشريط (العاهر المبتذل) أن يقرا في بيير لوئيس، ما يرفع روجه إلى ذروة الفن والخيال الرائع.

ص: 73

وفاة لاوردس برون

قرأنا في البريد الألماني الأخير نعى الكاتب القصصي الدنمركي الشهير لاوردس برون توفي في الحادية والسبعين من عمره، وكان برون سليل هذه المدرسة القصصية الدنمركية الزاهرة التي اشتهرت بروعة خيالها وسحر أسلوبها وخفة روحها، والتي أنجبت هانز آندرسن معبود الطفولة والحداثة، وكان مثل مواطنه وسلفه الكبير اندرسن يكتب للشباب قصصاً رائعاً ممتعاً؛ واشتهر على الأخص بسلسة من القصص التي تصور الحياة في البحار الجنوبية، واسم بطلها فان سانتن؛ واخرج منها ثلاثة مجلدات عنوان أولها (فان سانتن في أيام سعده) وعنوانه الثاني (جزيرة السعادة لفان سانتن) وعنوانه الثالث (الأرمل المحزونة)؛ وتدور القصة كلها حول حياة تاجر ورحالة، وهو فان سانتن، يجوب البحار الجنوبية، وينزل بإحدى جزرها، ويتزوج إحدى نسائها وهي ابنة ملك هذه الجزيرة، ويعيش معها سعيداً؛ ويصف برون هذه الحياة وصفاً رائعاً ساحراً؛ وعبرة القصة تذهب إلى عكس ما ذهب إليه دانيل ديفوني في قصته (روبنصن كروزي)، وهي أن الحياة البدوية في هذه البقاع النائية اسعد مما يتصور الناس.

وكتب لاوردس برون أيضاً عدة مجموعات من القصص الصغير منها مجموعة: (إلى الوطن)، وأسلوبه بسيط ساحر، ويمتاز بمقدرة فائقة على تصوير الحياة والصور الطبيعية فيما وراء البحار، وذلك في ألوان شعرية بديعة؛ وهو يذهب في كتابته مذهب الدعوة إلى الحياة الطبيعية، والطبيعة احب الأشياء والناظر إليه، وهي أروع ميادين قلمه وخياله.

الأستاذ الزنجاني

من أخبار طهران أن وزارة المعارف الإيرانية عينت الأستاذ أبا عبد الله الزنجاني مؤلف كتاب (تاريخ القرآن) أستإذا للفلسفة الإسلامية وتفسير القرآن الكريم في جامعة (سبهالار) في طهران

أسبوع المتنبي في دمشق

تألفت في دمشق لجنة من العلماء والأدباء برياسة الأستاذ المغربي رئيس المجمع العلمي العربي لإعداد الأهبة لإقامة مهرجان شعبي عظيم تحت رعاية وزارة المعارف السورية

ص: 74

يستمر أسبوعا بدمشق في فصل الربيع، وسيقام في المعرض الصناعي السوري الذي يفتتح في شهر أبريل سنة 1936. وقد أرسلت لجنة المهرجان الدعوة إلى علماء العرب وشعرائهم في مختلف الأقطار، وكذلك إلى أفاضل المستشرقين ليساهموا في هذا المهرجان ببحث ناحية من نواحي أبى الطيب، وستنشر اللجنة كل ما يقال في هذا الاحتفال في كتاب خاص.

وفاة فنان كبير وانتحار كاتب شهير

توفي أخيراً في فينا المؤلف الموسيقي الشهير الأستاذ بيلا لازكي؛ وكان لازكي مدى الثلاثين عاما الأخيرة من أعلام التأليف الغنائي والموسيقي؛ وهو مجرى المولد، ولد سنة 1867، وتلقى علومه في فينا عاصمة الفن الزاهر في ظل الإمبراطورية القديمة، وعاش فيها منذ شبابه؛ وظهر في التأليف الموسيقي، فوضع مئات الأناشيد والمقطوعات والغاني الألمانية، وامتاز بالبراعة في نوع خاص منها هو القطع الغرامية والشعبية التي تعزف وتلقى في النوادي الليلية (الكابريه)؛ وكانت تعاونه في فنه زوجته الفنانة والمغنية الحسناء ميلا مارس التي لبثت مدى حين تخلب الباب المجتمع النمساوي الرفيع؛ ولكنها توفيت شابة ومضى لازكي يطوي ذلك حياته الفنية وحيداً، ويخرج كل عام عدداً كبيراً من المقطوعات والأناشيد التي تذاع في جميع أنحاء العالم، وفي أواخر أعوامه عرف لازكي متاعب البؤس والمرض، إذ خسر معظم أمواله مضاربات عقيمة، وداهمته أوصاب الشيخوخة، فقطع أيامه الأخيرة محزوناً بائساً، وتوفي في الثامنة والستين من عمره.

ووقفنا في أنباء فينا الأخيرة أيضاً على حادث محزن هو وفاة الكاتب النمساوي الأشهر الدكتور فكتور درزتي وزوجه البارونة كلارا؛ وقد وجدا منتحرين بالغاز في منزلهما في شارع بليز في ضواحي فينا؛ ولم تتضح أسباب المأساة تماماً، ولكن المعتقد أن الحادث يرجع إلى مرض عصبي شديد كانت تعانيه البارونة؛ وكان الدكتور درزتي من النبلاء، وكان أديباً وكاتباً كبيراً، واشتهر بمقالاته الاجتماعية والنقدية، وله مؤلفات وكتب قصصية ذائعة.

شهادة لله

ص: 75

سيدي الأستاذ الفاضل (صاحب الرسالة)

سلام عليك

ربك العظيم يقول في كتابه القديم:

(ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فانه آثم قلبه)

صدق الله العظيم

وإني أعيذ نفسي برحمة الله من آثام القلب، فضلا عن تأثم القلوب

سيدي الأستاذ:

هي شهادة لا أبتغي منك عليها جزاء ولا شكوراً

لقد كنت يا أستاذ الزيات بليغاً دائماً، بليغاً علم الله فوق ما نسمع ونقرا من بلاغات سحبان وأكثم بن صيفي وعبد الحميد وإخوانهم من كرام البلغاء الأقدمين.

أما في مقالك الأخير في عدد (الرسالة) الأخير، لمعنون (في الجمال)(على هامش الموضوع) فلقد كنت أبلغ من نفسك بكثير.

أتدرى لماذا يا سيدي الزيات؟

لان موقف اليوم، الذي أرسل قلمك، بعد إرساله شجنك، بمقال اليوم، موقف من ابلغ مواقف التاريخ. لشد ما قال لنا التاريخ والزمن في أنفسنا قولا بليغاً.

وليس للمواقف البليغة في الأمم والشعوب إلا قلوب البلغاء، بل إلا القلوب البليغة، ودعني لا أقول هنا: السنة البلغاء، فطالما والله أودت السنة البلغاء بحقوق وكرامات وأوطان!

ولعل هذا ما يثبت في قلبك البليغ، فوق تثبيته في قلمك البليغ، أنك حقاً قبل أن تحمل في وطنك أو في وطن العربية قلما، فانك تؤدي فيها (رسالة).

رسالة لا تكذب الناس، وهي تتسمى إلى الناس باسم (الرسالة)، وكثيرا ما تسمت الأشياء على هذه الأرض بغير أسمائها، وهي الأرض التي قام عليها يوما مسيلمة يقول: أنا نبي! وقام من قبله فرعون من فراعنة مصر يقول:

أنا ربكم الأعلى!

هذه شهادتي إليك. كما ويسرني كما يشرفني، بل استحلفك بالله أن تجعلها شهادتي إلى الناس، لأنها أيضاً شهادتي إلى الله، ألقى بها الله فيما ألقي به وجهه (الذي أشرقت له

ص: 76

الظلمات، وصلح عليه آمر الدنيا والآخرة) كما دعاه يوماً اعظم مخلوقاته، لأنه أخلص المخلوقات: محمد بن عبد الله، عليه صلوات الله.

وهذه والله شهادتي، ولو أنى لا انفي أن لي عندك عتابا قديماً، لعلك كنت لا تصغي إليه لو أنى كتبته إليك قبل اليوم، أو بادهتك به وجهاً لوجه، لأننا لم نتعارف قلوباً، بيد أنا تعارفنا وجوها، مرة واحدة أو مرتين، في يومين فقط من الأيام.

فارفع بيدك (رسالتك) يا أستاذ، فهي من رسالات الله، لأنها من رسالات الحق والوطن والقوة والجمال.

ارفع بيدك هذه (الرسالة) من النور، تخدم وطنك فوق ما يخدمه كثير من دعاته وأدعيائه البارزين فوق المسرح هنا وهناك لن تفلح هذه الأمة في نهضتها الوطنية، حتى تفلح أولا في نهضتها الأدبية، أو قل نهضتها الأخلاقية، نهضة النفوس والأرواح في أعماقها لا على سطوحها التي يراها أو يسمع بها الناس. . . . .

إبراهيم إبراهيم علي

المحامي بقليوب

ص: 77

‌الكتب

خيوط العنكبوت

تأليف الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

للأستاذ محمد سعيد العريان

الأستاذ المازني أديب من أدبائنا المعارف، يجري اسمه في ابتسام عذب على شفتي كل من يتحدث عنه حين يذكر الأدباء، وقل من لا يتحدث عنه حين يعرض ذكر أدبائنا الذين انشئوا في الأدب وزاد بهم. وان له فيما يكتب لطابعاً وروحاً يتميز بهما ويعرف؛ وما الأديب إذا لم يتميز بطابعه وروحه، ويبرز اسمه وصورته وراء كل سطر مما يكتب؟

على أن للأستاذ المازني غير ذلك فناً وحده، تفرد به، واقتصر عليه أو كاد؛ فما يستطيع أن يجاريه فيه أديب من أدباء العربية؛ يرسم لك به الصورة الملموسة، فيضيف إليها فنا من فنه، ويخلق لك فيها الجديد الذي لم تبصره عيناك، ولم تتناوله حواسك؛ على انك لا تستطيع إلى ذلك أن تنكر انك ترى شيئا مما يرى ويحس، وان أعجزك أن تراه وتحسه كما رآه المازني وأحسه، أو كما جلاه عليك من صور، هي هذه النواحي الضاحكة المضمرة وراء ما يبدو لك من عبوس المناظر والصور والأشكال؛ فهو حين ينظر، وحين يفكر وحين يكتب، يستطيع أن يريك موضع الابتسامة من كل معنى كئيب، وإشراقة السرور من وراء كل ظل عابس؛ وله من ذلك في كل أليم تأخذه عيناه روح من السرور مضمرة مستخفية، لا تدري اهو يخلع عليها من فنه فتضحك من عبوس، وتنبسط من تقطيب؛ أم أن له عينا انفذ بصيرة إلى ما وراء المحسوسات، هي تكشف له عن حقيقتها وسرها، فما هو إلا أن يجلوها عليك كما رآه ببصيرته وإحساسه العميق؟

وكما تجد للمازني فنه الخاص به، تجد له كذلك أسلوبه ولغته؛ واحسبه لا يفكر في اللفظ والعبارة عندما يهم أن يكتب، اكثر مما يفكر في المعنى والموضوع؛ فهو هنا وهناك لا يكلف نفسه الغوص والتعمق، واستخراج المعنى من المعنى، وتوليد الفكرة من الفكرة؛ بل تراه أسلوباً متساوقاً مطرداً، وفكراً قريباً من قريب، وموضوعاً مما يقع عليه الحس وتألفه النفس. واحسبه أيضاًً يلتمس فيما يكتب أن يرضى قراءه ويسرهم، أكثر مما يلتمس أن

ص: 78

يكون إنشاء يخلد به في الأدب، واختراعا يزيد ثروة اللغة معنىً أو موضوعا أو فكرة. وما حاجة المازني إلى الخلود وهو لا يراه إلا خرافة، اخترعها الإنسان ليضل بها نفسه ويرضى ناحية من غروره وكبريائه؟

على انه - من حيث يريد، أو من حيث لا يريد - قد كتب لنفسه في تاريخ الأدب صفحة، وأثبت صورة، سيخلد بها وتخلد به.

وأنت حين توازن بين ما يكتبه المازني الآن، وما كان يكتبه أو يحرره منذ بضع عشرة سنة - لا تجد فرقاً كبيرا، إلا أن ذلك الأديب الطموح الذي كان يكتب ليقول الناس:(ما اجمل ما كتب. . .!) قد قست عليه الحياة ونالته أحداث الزمن، حتى عاد يكتب، لأنه مطلوب منه أن يكتب؛ ولكنه هو المازني الذي يعجب القراء به ويجتمعون إليه، وإن لم يعنه هو اجتمعوا أم تفرقوا إلا بمقدار ما يعني صاحت الصحيفة الذي يطلب إليه أن يكتب!

والمازني حريص على سلامة لغته، حرصه على أن تكون اسهل على آذان القراء وأطوع لألسنتهم؛ وهو بسبيل ذلك كثيراً ما يحاول تصحيح الكثير من لغة العامة وأساليبهم، فيخطئ في ذلك ويصيب، وما على المجتهد في أن يخطئ باس؛ وقد يمر القارئ العادي على ما يكتب المازني، فيراه بعض أولئك الضُلاَّل الذين يدعون إلى العامية ويرجون لها؛ ويمر الأديب المطلع، فيرى لغة أن لم تكن إلى لغة القدماء فهي منها، وان كان فيها من لغة العامة، فهو الجديد الذي تتقبله العربية ولا يأبه البيان الصحيح، لأنه يزيدهما ثروة إلى ثروة، ويفتح الباب إلى الأدب القومي في لغته التي يتحدث بها أهله، غير نابية ولا مستكرهة ولا أعجمية ولكنك إذ ترى المازني يحرص على هذه الناحية القومية في اللغة، قل أن تراه كذلك في الموضوع الذي يحاوله؛ وما اكثر ما يشطح خياله إلى قصة أو حادثة، فيصورها بأسلوبه الساحر، على أنها مصرية وقعت في مصر، وجرت في الجو المصري، وتحدثت بها ألسنة مصرية، وكان حقها أن تكون مما يقع في لندن، أو برلين! أتكون مما يقعمطالعات المازني في مصر هي بعض الجو المصري الذي يراه وينقل عنه. . .؟ على أنه أدب جديد في العربية على كل حال سواء أكان من إيحاء الجو المصري إلى فكر المازني، أم من إيحاء جو غريب.

وبعد، فهذا كتاب المازني الجديد (خيوط العنكبوت)، فمن لم يكن يعرف المازني فليعرفه

ص: 79

فيه، ولعله أن يرى هناك ما رأيت وأسلفت وصفه. تبدو لك فكاهة المازني لأول صفحة من الكتاب، حيث يهديه إلى ولديه:(اعترافاً بفضلهما، وشكراً لمعونتهما. . فلولا عبقريتهما لظهر هذا الكتاب قبل عامين!) وتقرأ فاتحة الكتاب فلا تدلك أي كتاب هو، ولكن سِرْ إلى نهايتها ثم اقرأ:(وبعد، فقد لا يكون هذا الكلام اصلح ما يكتب على سبيل التمهيد لمجموعة من الصور والقصص، ولكن ما يكتب على روح الفاتحة من روح الكتاب، وهذا شفيعها عندي فعسى أن يكون شفيعها عند القراء. . .!).

ولقد قرأت المقدمة، وقرأت الكتاب؛ ولكني لم استطع أن افهم قوله (. . . . روح المقدمة من روح الكتاب) أما المقدمة ففضل اجتماعي ما كنت أقدّر أن يكتب المازني مثله، لا عجزاً منه، فانه لقدير؛ ولكني أعرفه أكثر اعتزازاً بقوميته، وافخر بمصريّته، فما كان ينبغي أن يتهكم بمصر ويزرى بها، كل هذا التهكم وهذه الزراية في فاتحة الكتاب! وقد يكون فيما عاب على المصريين واخذ عليهم محقّا بعض الحق، وقد يكون بعض ما قاله أو اكثر ما قاله صحيحا بعض الصحة، ولكن، أما كان ينبغي أن يستر على قومه؟ والجمود والبلادة، والضعف - عيوب طالما رُميتْ بها مصر من أعدائها، ومن بنيها أنفسهم، ولكن هذا على ما قد يكون فيه من رغبة الإصلاح، يؤثر أثره في القراء، ويكون أشبه بالإيحاء يستقر في الواعية الباطنة فيعمل عمله، فلا يكون من ورائه إلا الجمود والبلادة والضعف حقا وصدقا لا تهمة بغير دليل. ويحاول الأستاذ المازني في ختام الفاتحة أن يعتذر وان ينفي التهمة؛ أفتراه قد بلغ في اعتذاره بمقدار ما بلغ في تجريحه؟

وان القارئ ليعجب لذاك يصدر عن المازني المصري الفخور بقوميته، ولكن، أرأيت إلى المازني إذ يكتب فلا يتحرج أن يسخر من نفسه، وأهله، وولده؟ فها هو ذاك يسخر أيضاً من مصر. . .!

أما الكتاب، فكل شئ فيه جميل، إلا الفاتحة: وهو قسمان: (صور من الأمس)، و (صور من اليوم) هما مجموعة صور وأقاصيص، لا تجد لها شبيها مما كُتب في العربية، جمعت إلى الرقة في الوصف، حُسْنَ الأداء وسلامة التعبير، إلا قليلا احسبه من اثر السرعة التي يكتب بها المازني. وأنت ترى فيما تقرا من هذا الكتاب صورة المازني الطفل، والمازني العابث، والمازني الأديب الذي يسحر قراءه بسلامة الفكر وحُسْنَ الأداء؛ فحياته منشورة في

ص: 80

كتابه مصورة، على حين يحاول اكثر كتابنا أن يكون ما يتصل بشخصه ابعد ما يكون عن قرائه. وقد تجد المازني يجنح أحياناً إلى المبالغة في تصويره وفي عباراته، وقدتجده يسترسل في الكلام فيكتب في القصة ما لا يطلبه موضوع القصة؛ ولكن هذا وذاك لا يعيبانه ولا ينقصان من مقدرته القصصية وفنه البارع.

وبعد، فمن أراد أن يمتع نفسه ساعات من فراغ، ويلذ نفسه، فحسبه أن يقرأ (خيوط العنكبوت)؛ ولو أن أحدا طلب أليّ أن أدله على خير ما قرأت في هذا الأسبوع فلذني وأمتعني؛ فليقرأ فيما يقرأ من الكتاب (الراعيان)، (سيرة من السير)، (التدخين)، (الشيخ قفّه)، (ساسة المرأة)، فسيجد فيها ما وجدت من متاع ولذة، ألذًّ متاع وأمتعَ لذة.

محمد سعيد العريان

ص: 81