المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 126 - بتاريخ: 02 - 12 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ١٢٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 126

- بتاريخ: 02 - 12 - 1935

ص: -1

‌في الجمال.

. .

- 3 -

إذا عرفت الجوهر الذي يتحقق به الجمال الطبيعي سهل عليك أن تعرف الجوهر الذي يقوم عليه الجمال الصناعي، لأنه إما وحيه وإما نموذجه. فالجمال الصناعي يتعلق بالفكرة التي يوحيها إليك الفن عن الفنان ثم عن الفن نفسه إذا كان ابتكارياً، وبالفكرة التي يوحيها إليك الفن عن الفن نفسه وعن الفنان ثم عن الطبيعة إذا كان تقليديا. ولننظر بادئ الأمر فيم تنشأ منه عاطفة الجمال في الفن الابتكاري كالريازة مثلا. ففي أي بنية من البنايا تجد الوحدة، والتنوع، والترتيب، والتناظر، والتناسب، والتوافق، تؤلف منها كلاًّ منتظما ما في ذلك شك؛ ولكنك لا تجد في ذلك الكل جمالا إذا لم يكن من العظمة أو الوفرة أو الذكاء على درجة تثير في نفسك الإعجاب والدهش. وهل تجد في العمارة البسيطة مهما اتسق بناؤها واتفقت أجزاؤها ما تجد في معابد الفراعين من الجمال والجلال والروعة؟ خذ بنظرك قصراً من قصور القاهرة الحديثة شيد على قدر عادي من العناصر الجمالية الثلاثة، ثم أطل الوقوف أمامه ما شئت، تجد الفن فيه نازلا على حكم القواعد الموضوعة، ولكنه عيي صامت لا يحدثك لا عن نفسه ولا عن صانعه؛ ثم قف تلك الوقفة أمام معبد الكرنك أو هيكل الأقصر أو هرم الجيزة، تجد نفسك المسبوهة المشدوهة موزعة بين سمو الفن في ذاته، وعظمة الفنان في حقيقته. لا جرم أن هذه الأبنية الضخمة الفخمة أقل تناسقاً وتوافقاً من تلك، ولكن القوة التي أقامت هذه الأعمدة، ورفعت تلك الصخور، ونصبت هذه التماثيل، وصنعت تلك المحاريب؛ والوفرة التي تراها في الشكول المختلفة، والصور الناطقة، والرسوم الدقيقة، والكتابة الرمزية، والأصباغ الحية، والمادة العجيبة؛ والذكاء الذي يروعك في ابتكار الوسائل الميكانيكية لنقل هذه الأجرام الهائلة من مناحتها في الجبل، إلى مثابتها في الجو، لتصارع الفناء الذي لا يفتر، وتضارع الدهر الذي لا يبيد؛ هي التي حققت فيها ذلك الجمال، وألقت عليها هذه الروعة، وربطت في ذهنك بين فكرتك عن الصنيع وفكرتك عن الصانع. ولو كانت نسبة الذكاء فيها على مقدار نسبة القوة، لبلغت ما لم تبلغه نواطح السحاب الأمريكية من الغاية التي ينقطع دونها الدرك!

على أن الجمال الطبيعي قد يقوم في بعض مظاهره على القوة والوفرة دون الذكاء، كما

ص: 1

ترى في العواصف والبراكين، ولكن الذكاء إذا أعوز في الفن ذهبت عاطفة الجمال فيه بددا بين التنافر والغرابة، إذ الطبيعة مجهولة الأسرار محجوبة المقاصد؛ وقد استراحت عقولنا منذ النشأة إلى أن تلتمس لجهالتها العلل، وتفترض لسفاهتها الحكمة؛ وليس كذلك الفنان، فأنه مسئول أمام العقل عن العلة التي أجهد من أجلها قوته، والغاية التي بدد في سبيلها ثروته. وحسبه من الذكاء ما ينفي عنه العبث؛ فإذا تيسرت له عظمة القوة في ظاهر من النظام، كفاه ذلك في إنشاء الإعجاب واتقاء النقد، لأن القوة والوفرة هما المصدران الأولان لنشأة الجمال في الفن

على أن فكرة القوة تختلف اختلافا شديدا عن فكرة الجهد؛ فكلما قلت الدلائل على هذه، كثرت الدلائل على تلك. فالخفة والظرافة والأناقة والسراح من صفات الجمال، لأنها تظهر من القوة أكثر مما تظهر من الجهد؛ ولكن إنشاء مقامة من الحروف المعجمة أو الحروف المهملة كما صنع الحريري، أو كتابة سورة من القرآن على حبة من الرز كما يصنع الخطاط السوري، عمل لا يحدث في النفس شعور الجمال، لأنه يدل على الجهد أكثر مما يدل على القوة، ويدعو إلى الرثاء أكثر مما يدعو إلى الدهش. وفي التفصيل المحكم من كلام الله، وفي السهل الممتنع من كلام الناس، كل الفروق بين القوة والجهد

كذلك لا يستعمم الفرق بين الوفرة الصناع وبين الزخرف الأخرق؛ فإن سر الإبداع في الوفرة أنها تضع اللون في مظهره، والحسن في جوهره، والمعنى في لفظه، والشيء في مكانه؛ أما الزخرف الأخرق فترف لا ينبئ عن غنى، ورهق لا يسفر عن قدرة، ولجب لا يبلغك من ورائه نغم! هو كل ما يملك الصانع من ثروة نثرها أمام عينيك في غير لباقة ولا تحفظ، ليخفي بالرياء حقيقة العجز، ويدفع بالزور تهمة العوز

إن ما قلته في الريازة ينطبق على الخطابة والموسيقى وسائر الفنون الابتكارية التي تفصح عن قوى كبيرة ووسائل وفيرة. فالخطيب الذي يبلبل الآراء بقوة كلامه، ويسترقّ الأهواء بسحر بيانه، ويملك على الشعب نوازع القلوب فيرسله على رأيه، ويصرفه على إرادته، قد أوتي من القوة في الفن والعبقرية ما يحمل النفوس على الإعجاب بقدرته والانقياد لأمره. كذلك الموسيقي الذي يصبي المشاعر بسحر أنغامه، والشاعر الذي يسبي العقول بقوة أسلوبه وسمو إلهامه، كلاهما يعلن الجمال في قوة الفن التي يفرضها، ووفرة الوسائل

ص: 2

التي يعرضها، وذكاء الروح الذي يفيض على عمله النظام والانسجام والمناسبة. والقوة والوفرة هما كذلك روح هذا الجمال وسره؛ فإذا كان الانفعال الذي ينشئه الصوت أو القصيدة لطيفا يحدث اللذة، ولكنه ضعيف لا يحدث الطرب، مدحت قريحة الفنان وأطريت عذوبته الفن، ولكن الإطراء شيء آخر غير هتاف الإعجاب يبعثه سمو العبقرية وقوة الإلهام في روائع الموسيقى وبدائع الشعر

ص: 3

‌أمس وغداً

للأستاذ أحمد أمين

قرأت مرة أن سرياَ أمريكياً كان له مصانع ومتاجر، كأفخم ما يكون من مصانع ومتاجر أصابتها النار فاتت عليها وقدرت الخسائر بملايين الدولارات

وكان هذا السري في السابعة والستين من عمره، ليس له قوة الشباب، ولا أمل الشباب، ولا طموح الشباب؛ وكانت ثروته الضائعة ثروة العمر، ومجهود العمر، ونتيجة العمر

أتى إليه (مكاتب) يسأله عن هذه الكارثة وأسبابها ومقدارها فأجابه: (لست أفكر في شيء من ذلك، إنما يملك على كل فكري الآن: ماذا أنا صانع غدا)

يعجبني هذا الاتجاه العملي في التفكير، فانه دليل الحياة، وعنوان القوة، ومبعث النشاط؛ فما دمتَ حيا ففكر دائما في وسائل الحياة؛ وتلك كلها أمامك لا خلفك، وفي الغد لا في الأمس

لقد دل هذا السري بإجابته على أنه يقتني عقلية أقوم مما رعته النار، ونفسية لا تفنى بفناء المال

إن الحياة الناجحة تفكر في الغد، والحياة الفاشلة تبحث في الأمس. وقديما قالوا:(إذا أفلس التاجر فتش في دفاتره القديمة). وقال الشاعر وقد رأى بني تغلب لا يعملون عملا جديدا مجيدا، ويكتفون برواية قصيدة قالها عمرو بن كلثوم التغلبي في مدحهم:

أُلْهي بني تغلب عن كل مكرمةٍ

قصيدةُِ قالها عمرو بن كلثوم

يفاخرون بها مذْ كان أوَّلهم

يا لَلرَّجال لشعر غير مسئوم

ولأمرٍ ما خلق الله الوجه في الأمام ولم يخلقه في الخلف، وجعل العين تنظر إلى الأمام ولا تنظر إلى الخلف، وأراد أن يجعل لنا عقلا ينظر إلى الأمام وإلى الخلف معا، وأن يكون نظره إلى الخلف وسيلة لحسن النظر إلى الأمام؛ فعكس قوم الفطرة الإنسانية ونظروا بعقولهم إلى الخلف وحده، وقلبوا الوضع فجعلوا النظر إلى الخلف غاية لا وسيلة

من هؤلاء الذين نُكّسوا في الخلق من إذا حدثتهم فيما هم صانعون غدا حدثوك عما صنعه آباؤهم الأولون، وكيف حاربوا وكيف انتصروا، وكيف سادوا العالم، وكيف وكيف. وهذا حق لو أتخذ وسيلة لعمل مستقبل، واستحثث به الإرادة لعمل مستقبل، وضرب مثلا لمعالجة مشاكل المستقبل؛ أما أن يكون غرضا في نفسه فحديث العجزة ومن أصيبوا بأنيميا

ص: 4

(الفكر) وضعف الإرادة

وممكن نكسوا في الخلق هؤلاء الذين يثيرون العداوات القديمة والأحقاد القديمة بين رجال الأمة وقادتها؛ فإذا طالبتهم أن ينظروا إلى الأمام، ويتكيفوا بما يتطلبه المستقبل، أبوا إلا أن يذكروا لك تاريخ الأمس، وحزازات الأمس، وسخائم الأمس، وما دروا أنهم بهذا يعطلون مصلحة المستقبل وخير المستقبل، أو دروا ولكنهم الماكرون الخادعون. فليس يصح أن ينظر في الأمس إلا لتجنب أغلاط الأمس في المستقبل، والانتفاع بصواب الأمس وخطئه في المستقبل

وممن نكسوا في الخلق هؤلاء الذين جمدت عقولهم فاعتقدوا أن كل شيء كان خيره في الأمس وشره في الغد؛ فخير النحو ما وضعته سيبويه، وخير البلاغة ما قاله الجاحظ، وخير الفلسفة ما قاله أبن سينا وأبن رشد والفارابي، وخير عصور الدين ما سبق من العصور، وخير الأخلاق أخلاق آبائنا، وأنه لم يبق في هذا الزمن إلا الحثالة من كل علم وأدب ودين وخلق، وأن العالم في ذلك كله سائر إلى التدهور دائما، فأمس خير من اليوم، واليوم خير من الغد. فهذه العقلية لا تنفع للحياة وإنما تنفع للصوامع؛ ولا تنفع للجهاد وإنما تنفع للفناء؛ ولا تنفع لمن أرادوا أن يتبوءوا مكانا في الحياة وإنما تنفع من أرادوا أن يتبوءوا مكانا في القبور. إن النحو الذي ننشده هو في المستقبل لا في الماضي؛ واللغة التي تصلح لنا وتؤدي مطالبنا في الحياة هي في المستقبل لا في الماضي؛ والأدب الذي يمثل نزعاتنا حق تمثيل هو في المستقبل لا في الماضي؛ والأخلاق التي تلائم الموقف الاجتماعي الذي نقفه اليوم هي في المستقبل لا في الماضي؛ وليس لنا من الماضي إلا ما يصلح للمستقبل بعد غربلته وإبعاد ما تعفن منه. إن موقفنا بين الماضي والمستقبل يجب أن يكون كموقف وجهنا فينا؛ وضعه الطبيعي في الأمام؛ ولكن الإنسان قد يلوي عنقه وينظر إلى الوراء إذا دعت الضرورة، ثم يعود سيرته الأولى من النظر إلى الأمام ويسير ويمضي قدما لشأنه؛ ولن ترى إنسانا طبيعيا لوى عنقه، ونظر إلى الخلف دائما

وممن نكسوا في الخلق هؤلاء الذين ينتظرون القدر؛ أولئك لم ينظروا للمستقبل، ولكن ينظرون إلى ما يفعل بهم المستقبل؛ أولئك ينفعلون ولا يفعلون، ويتأثرون ولا يؤثرون؛ وإنما مستقبلك في يدك ولك دخل كثير في صياغته، فان شئت تكن فقيرا، وإن شئت تكن

ص: 5

غنيا إلى حد كبير وإن شئت تكن سعيدا، وإن شئت تكن شقيا؛ وليس يستسلم للقدر إلا من فقد إرادته وأضاع إنسانيته

لقد أتى على الناس زمان كان الاستسلام للقدر عنوان (الولاية) ورمز القداسة، وكلما أمعن الإنسان في التجرد عن الدنيا أمعن الناس في تعظيمه وتبركوا به ولثموا يده؛ ولكن هذا تقدير الماضي أما تقدير اليوم والمستقبل فالولاية والقداسة في العمل، والولي أو القديس المصلح، وهو الذي يبني المجد بعمله لأمته وللإنسانية؛ وهو الذي يواجه العمل في شجاعة وإقدام، لا الذي يفر من الميدان؛ وهو الذي يرسم خطة العمل وينفذها، لا الذي يعزى عن الكوارث ويعود المرضى ويلطف وقع البؤس؛ وهو الذي يشق الطريق لمحو الفقر عن الفقراء والبؤس عن البؤساء، لا الذي يذرف الدمع ويوصي بالصبر على احتمال الفقر من غير حث على العمل، والتفكير في طرق الخلاص من البؤس؛ وليس الولي والقديس من يحلم بل من يعمل

مضى الزمن الذي كنا نرصد فيه النجوم لنتطلب السعادة من سلطانها، ونتجنب الشقاء في أوقات نحسها، وأصبحنا نشعر بان النحس نحس الخلق وموت الإرادة، والسعادة حياة النفس وتفتح الأمل، والمشي في مناكب الأرض، وإعمال اليد والعقل في جلب الرزق، وجلب الخير، ودفع الشر، ودفع البؤس والفقر

خير لك إن كنت في ظلمة أن تأمل طلوع الشمس غدا من أن تذكر طلوعها أمس؛ فلكل من الظاهرتين أثر نفسي معاكس للآخر، ففي ترقبك طلوع الشمس غدا الأمل والطموح إلى ما هو آت، وفي هذا معنى الحياة؛ وفي تذكرك طلوعها أمس حسرة على ما فات، وألم من خير كنت فيه إلى شر صرت فيه، وفي ذلك معنى الفناء

وفرق كبير بين من يُلطَم اللطمة فلا يكون له وسيلة إلا البكاء، وتذكر اللطمة ثم البكاء، ثم تذكر اللطمة ثم البكاء، وبين من يلطم اللطمة فيستجمع قواه للمكافحة. والحياة كلها لطمات، وأعجز الناس من خارت قواه أمام أول لطمة فهرب. ولو أنصف الناس لقوموا الناس بمقدار كفاحهم، لا بمقدار فشلهم ونجاحهم

شر ما ألاحظ في الشرق حنينه الشديد إلى الماضي، لا أمله القوى في المستقبل، واعتقاده أن خير أيامه ما سلفت لا ما قدمت، وإعجابه الشديد بأعمال الماضين وإهمال المعاصرين؛

ص: 6

له منظاران: منضار مكبر يلبسه إذا نضر إلى الماضيومنظار مصغر اسود يضعه إذا نظر إلى الحاضر والمستقبل. يلذه أن يطيل البكاء على الميت، ولا يلذه أن يتدبر فيما يجب أن يفعله الأحياء؛ يستسهل النفقات مهما عظمت على الميت، ويستكثر نفقات الطبيب وأثمان الدواء للمريض. يعجبهم أن يتمثلوا الأمثال تدل على عظم الماضي، ولا يعجبهم أن يتمثلوا الأمثال تبعث الأمل في المستقبل؛ ففي أعماق نفوسهم أن قول القائل:(ما ترك الأول للآخر) خير من القول: (كم ترك الأول للآخر). ويلوكون دائما: (لا جديد تحت الشمس)، ولا يعجبهم أن تقول إن كل ما تحت الشمس في جدة مستمرة، والمستقبل مملوء بالجديد. وإذا رأوا كلمة في كتاب قديم تدل ولو دلالة كاذبة على نظرية جديدة طاروا بها فرحا، لأن ذلك يلائم ما نفوسهم من تعظيم الماضي وتحقير الحاضر والمستقبل. هم يعيشون في أحلام، ولا يريدون أن يعيشوا في حياة واقعة، وحول هذه المعيشة الحالمة ينسجون دائما ما يوافقها ويمازجها ويسايرها؛ يكتفون بالأمل أن ينعموا بالآخرة؛ وماذا عليهم لو عملوا لينعموا في الدنيا والآخرة؟

أحمد أمين

ص: 7

‌2 - المجنون

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

ورأيت المجنونين يدخلان معا فكأنما سدا الباب وسوياه بالبناء، وتركا الغرفة حائطا مصمتا لا باب فيه مما اعتراني من الضيق والحرج؛ وقلت في نفسي: إنه لا مذهب للعقل بين هذين إلا أن يعين كلاهما على صاحبه، فأرى أن أدعهما وأكون أنا أُصرفهما؛ ويا ربما جاء من النوادر في اجتماع مجنونين ما لا يأتي مثله من عقلين يجتمعان على ابتكاره؛ غير أني خشيت أن أكون أنا المجنون بينهما، ثم لا آمن أن يثب أحدهما بالآخر إذا خطرت به الخطرة من شيطانه، فرأيت أن يكون لي ظهير عليهما، إن لم يحق به العون فلا أقل من أن يطول به الصبر. . وكان إلى قريب مني الصديق ا. ش. فأرسلت في طلبه

أما هذا المجنون الثاني الذي جاء به (نابغة القرن العشرين) فقد رأيته من قبل، وهو كالكتاب الذي خلطت صحفه بعضها في بعض فتداخلت وفسد ترتيبها، وانقلب بذلك العلم الذي كان فيها جهلا وتخليطا يثب الكلام بعد كل صفحة إلى صفحة غريبة لا صلة لها بما قبلها ولا ما بعدها

وهو طالب أزهري كان همه أن يصير حافظا كالحفاظ الأقدمين من الرواة الفقهاء، فجعل يستظهر كتابا بعد كتاب ومتنا بعد متن؛ وكانت له أذن واعية فكل ما أفرغ فيها من درس أو حديث أو خبر، نزل منها كالنقر على آلة كاتبة، فينطبع في ذهنه انطباع الكتابة لا تمحى ولا تنسى

ثم التاث هذه اللوثة وهو يحفظ متنا في فقه الشافعي رضي الله عنه، فغبر سنين يتحفظه، كلما انتهى إلى آخره نسيه من أوله؛ فيعود في حفظه وربما أثبت منه الشيء بعد الشيء، ولكنه إذا بلغ الآخر لم يجد معه الأول؛ فلا يزال هذا دأبه لا يمل ولا يجد لهذا العناء معنى، ولا يزال مقبلا على الكتاب يجمعه ثم لا يزال الكتاب يتبدد في ذاكرته.

وترك المعهد الذي هو فيه وتخلى في داره للحفظ وأجمع أن لا يدع هذا المتن أو يحفظه كأن فيه الموضع الذي فارقه عقله عنده، وبذلك رجع المسكين آلة حفظ ليس لها مساك؛ وأصبح كالذي يرفع الماء إلى البحر، ثم يلقيه في البحر، لينزح البحر. . .

وجاء ا. ش فقلت له وأومأت إلى المجنون الأول: هذا نابغة القرن العشرين

ص: 8

قال: وهل انتهى القرن العشرون فيعرف من نابغته؟

فقلت للمجنون: أجبه أنت. فسأله: وهل بدأ القرن الواحد والعشرون؟ قال لا

قال: فان هذا الذي إلى جانبي نابغة القرن الواحد والعشرين. . . فكما جاز أن يكون هو نابغة قرن لم يبدأ، جاز أن أكون أنا نابغة قرن لم ينته

قلت: ولكنك زدت المشكلة تعقيدا من حيث توهمت حلها. فكيف يكون معك في آن وبينك وبينه خمس وستون سنة؟

فنظر نظرة في الفضاء، وهو كلما أراد شيئا عسيرا نظر إلى اللاشيء. . . ثم قال: هذه الأمور لا تشتبه إلا على غير العاقل. . . وكيف لا يكون بيني وبينه خمس وستون سنة وأنا أتقدمه في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة. . .؟

قلت للآخر: أكذلك؟

قال: مما حفظناه عن الحسن: أدركنا قوما لو رأيتموهم لقلتم مجانين، ولو أدركوكم لقالوا شياطين. . .

فضحك الأول وقال: إنه تلميذي

قال الثاني: لقد صدق فهو أستاذي ولكنه حين ينسى لا يذكّره غيري. . .

قلت: لا غرو؛ (فما حفظناه) عن الزهري: إذا أنكرت عقلك فقدحه بعاقل. . .

فغضب نابغة القرن العشرين وقال: ويح لهذا الجاهل، الأحمق، الجاحد للفضل، مع جنونه وخبله. أيذكّرني وهو منذ كذا وكذا سنة يحفظ متنا واحدا لا يمسكه عقله إلا كما يمسك الماء الغرابيل؟ صدق والله من قال: عدو عاقل خير؛ خير؛ خير. فقال الثاني: خير من صديق جاهل، ها أنذا قد ذكرتك من نسيان، وهانت ذا رأيت

فضحك النابغة وقال: ولكني لم أرد أن أقول هذا، بل أريد أن أؤلف كلاما آخر. . . . . . عدوا عاقل خير، خير، خير؛ خير من مجنون جاهل. . . . . .

ورأيت أن في التقاء مجنونين شيئا طريفا غير جنونهما، وصح عندي أن المجنون الواحد هو المجنون؛ أما الاثنان فقد يكون من اجتماعهما وتحاورهما فن ظريف من التمثيل إذا وجدا من يصرفهما في الحديث، ويستخرج ما عندهما، ويستكشف منهما قصتهما العقلية. . . . . . . . . . . .

ص: 9

ولم أكن أعرف أن (نابغة القرن العشرين) من المجانين الذين لهم أذن في غير الأذن، وعين في غير العين، وأنف بغير الأنف؛ إذ تتلقى أدمغتهم أصواتا وأشباحا وروائح من ذات نفسها لا من الوجود، وتدركها بالتوهم لا بالحاسة، فتتخلق هواجسهم خلقا بعد خلق، وتخطر الكلمة من الكلام في ذهن أحدهم فيخرج منها معناها يتكلم في دماغه أو يمشي أو يلاطفه أو يؤذيه أو يفعل أفعالا أخرى

وبينما أنا أدير الرأي في إخراج فصل تمثلي من الحوار بين هذين المجنونين، إذ قال (نابغة القرن العشرين): صه، إن جرس (التلفون) يدق

قال ا. ش: لا أسمع صوتا وليس ههنا تلفون

فاغتاظ المجنون الآخر وقال: إنك تتقتحم على النوابغ ولست من قدرهم، وما عملك إلا أن تنكر، والإنكار، ويلك، أيسر شيء على المجانين وأشباه المجانين، والعامة وأشباه العامة؛ وقد أنكرت نبوغه آنفا وأراك الآن تنكر (تلفونه). . . . .

قال ا. ش: وأين التلفون وهذه هي الغرفة بأعيننا؟

فضحك (نابغة القرن العشرين) وقال: صه ويحك لقد خلطت على؛ إن الجرس يدق مرة أخرى وأنا لا أريد أن أكلملها حتى يطول انتظارها، وحتى تدق ثلاث مرات، وأخشى أن تكون قد دقت الثالثة وذهب رنينها في صوتك ولغطك

قال المجنون الآخر: هي صاحبته التي يهواها وتهواه؛ وقد استهامها وتيمها وحيرها وخبلها حتى لا صبر لها عنه، فوضعت له تلفونا في رأسه. . . . . . . . .

قال (النابغة): وهذا التلفون لا يسمعني صوتها فقط، بل ينشقني عطرها أيضا. وقد تكلمني فيه الملائكة أحيانا، وأنا ساخط هذه الحبيبة فأنها غيور تخشى سطواتها على اللاتي تغار منهن؛ ولولا ذلك لكلمتني في هذا التلفون إحدى الحور العين. . . قلنا: أو تغار منها الحور العين؟

قال المجنون الثاني: بل الأمر فوق ذلك، فان الحور العين يشتمنها ويلعنها؛ (فمما حفظناه) هذا الحديث: لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله؛ فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا

قال (نابغة القرن العشرين): ويلي على المجنون! إنه يريد أن يخلوا له موضعي فهو يتمنى

ص: 10

هلاكي وانتقالي وشيكا من هذه الدنيا. وهو يقول بغير علم لأنه أحمق ليس له عقدة من العقل، فيزعم أنها تؤذيني، ولو هي آذتني لغضبت قبل ذلك، ولو غضبت لرفعت التلفون. صه إن الجرس يدق

قال ا. ش: إن للنوابغ لشأنا عجيبا، ففي مديرية الشرقية رجل نابغة ماتت زوجته وتركت له غلاما فتزوج أخرى وهو يعيش في دار أبيه. فلما كان عيد الأضحى سأل أباه مالا يبتاع به الأضحية فلم يعطه. وهو رجل يحفظ القرآن فذكر قصة إبراهيم عليه السلام ورؤياه في المنام أنه يذبح أبنه، فخيل إليه أن هذا باب النبوة وأن الله قد أوحى إليه، فأخذ الغلام في صبيحة العيد وهم بذبحه. ولولا صرخ الغلام فأدركه الناس فاستنقذوه. . .

قال (نابغة القرن العشرين): هذا مجنون وليس بنابغة؛ بل هذا من جهلاء المجانين؛ بل هو مجنون على حدته. وقد رأيته في البيمارستمان حين كنت أنا في المستشفى. . . فكان يزعم أنه ائتمر في ذبح غلامه بإرادة الله. ولو كانت إرادة الله لنفذت بالذبح، ولو كان الأمر وحيا لنزل عليه من السماء كبش يذبحه. . .

وهكذا أنا في المنطق (نابغة القرن العشرين)

ثم إنه أشار إلى المجنون الثاني وقال: وأنا أتقدم هذا في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة كاملة

قلت: ولكنك ذكرت هذا من قبل فلم عدت فيه الآن؟

قال: إن السبب قد تغير فتغير معنى الكلام؛ وقد بدا إلى أنه يتمنى هلاكي ليكون هو نابغة القرن العشرين. فمعنى الكلام الآن: أنه لو عاش خمسا وستين سنة (يحفظ المتن) لما بلغ مبلغي من العلم. هذا رجل نصفه ميت جنونا موتا حقيقيا، ونصفه الآخر ميت جهلا بالموت المعنوي

قال ا. ش: حسبه أن يقلدك تقليد العامي لإمامه في الصلاة؛ وعسى ألا تستكثر عليه هذا فأنه تلميذك

قال المجنون الثاني (مما حفظناه): لو صُوِّر العقل لأضاء معه الليل، ولو صور الجهل لأظلم معه النهار. . . ونابغة القرن العشرين هذا لا يعرف كيف يصلي، فقد وقف منذ أيام يصلي بالشعر. . . ولما رأيته ناسيا فذكرته ونبهته أن الصلاة لا تجوز بالشعر، التفت إلي

ص: 11

وهو راكع فسبني وشتمني وصرخ في وقال: ما شأنك بي هل أنا أصلي لك أنت. . .

فغضب (النابغة) وقال: والله إن تحسبونني إلا مجنونا فتريدون أن يقلدني هذا الأحمق الذي ليس له رأي يمسكه. ولولا ذلك لما اعتقدتم أن تقليدي من السهل الممكن، ولعرفتم أن نابغة القرن العشرين نفسه لم يستطع تقليد نابغة القرن العشرين

قلنا: هذا عجيب، وكيف كان ذلك؟

فضحك وقال: لا أعدّكم من الأذكياء إلا إذا عقلتم كيف كان ذلك

قال ا. ش: هذا لم يعرف مثله فكيف نعرفه، ولم يتوهمه أحد فكيف نتوهمه؟

وقلت أنا: لعلك رأيت نفسك في الرؤيا

قال: لو لم تكن أستاذ نابغة القرن العشرين لما عرفتها؛ وهذا نصف الصواب؛ وما دمت أستاذي، فلو أننا اختلفنا في رأي لكان لي صوابا لأنه منك، وكان خلافي لك صوابا لأنه مني؛ فأنت (غير مخطئ) وأنا مصيب، وإذا أسقطنا كلمة (غير) أضل أنا مصيبا وتكون أنت مخطئا. . .

أنا لم أر (نابغة القرن العشرين) في الرؤيا ولكني رأيته في المرآة عند الحلاق. . . ورأيته يقلدني في كل شيء حتى في الإشارة والقومة والقعدة، ولكني صرخت فيه وسببته ففتح فمه ثم خافني ولم يتكلم. . .

وأومأ إلى المجنون الآخر وقال: وأنا أتقدم هذا في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة

قال ا. ش: لقد قلتها مرتين كلتاهما بمعنى واحد، فما معناك في هذه الثالثة؟

قال: هذا الغِرّ يزعم أني لا أعرف كيف أصلي، ويستدل بذلك بأني صليت بالشعر وأني شتمته وأنا راكع؛ ولو كان عاقلا لعلم أن شتمي إياه وأنا راكع ثواب له. . . ولو كان نابغة لعلم أن الشعر كان في مدح دولة النحاس باشا وأولى النُّهى

قلنا: ولكن الشعر على كل حال لا تجوز به الصلاة ولو في مدح دولة النحاس باشا

قال: لم أصل به ولكن خطر لي وأنا أصلي أني نسيت القصيدة فأردت أن أتحقق أني لم أنسها. . . فإذا أنا نابغة القرن العشرين في الحفظ وهي ستة أبيات. لا كهذا المعتوه الذي صبر على المتن صبر الغريب على الغربة الطويلة ومع ذلك لم يحفظه

ص: 12

قال ا. ش: فأملِ علينا هذا الشعر. فأملى عليه

يا حليف السُّهْد قل لي

أين مَنْ في الدهر خالْ

إن تكن تهوى غزالا

أكحل العينين مالْ

أنا أهواها ولكن

لا سبيل إلى الوصالْ

منذ ولَّت قلتُ مهلاً

منذ غابت في خيالْ

أنا مجنونٌ بليلى

ليلَ يا ليلى! تعالْ

قلنا ولكن ليس هذا مدحا. فضحك وقال: أردت أن تعرفوا أني أقول في الغزل، أما المديح فهو:

شغفَ الورى بمناصبٍ وأماني

وشَغَفْتَ يا نحاسُ بالأوطان

حسبوا الحياةَ تفاخرا وتنعّما

وحسِبتها للهِ والأوطان

ثم ارتَجّ عليه فسكت. قال المجنون الآخر: إنها ستة أبيات، وقد نسيت أربعة، ولست أريد أن أذكرك

فقال (النابغة): أظنه قد حان وقت الصلاة وأريد أن أصلي. . . ونظر إلى اللاشيء في الفضاء ثم قال. والبيت الأخير:

لا أبتغي في المدح غيرَ أولي النُّهى

أو صادق أو شوقي أو مطران

ثم أمر ا. ش أن يقرأ عليه الشعر فقرأه، فقال: أحسنت، أنظر إلى فوق؛ فنظر، ثم قال انظر إلى تحت؛ فنظر ثم سكت

قال ا. ش: وبعد؟ قال: وبعد فإن الناس ينظرون إما إلى فوق وإما إلى تحت. . .

وكان الضجر قد نال مني، فرجوت ا. ش. أن يلبث معهما وأذنت لنابغة القرن العشرين أن يلقاني في الندى وانصرفت

قال ا. ش وهو يُنبّئني: فما غبت عنا حتى أخذ المجنون يشكو ويتوجع ويقول: لقد حاق بي الظلم، وإن (الرافعي) رجل عسوف ظالم لأني أكتب له كل مقالاته التي ينشرها في (الرسالة). . . وأجمع نفسي لها، واجهد في بيانها، وأذيب عقلي فيها، وهو مستريح وادع، وليس إلا أن ينتحلها ويضع توقيعه عليها ويبعث بها إلى المجلة ثم يقبض هو فيها الذهب وينال الشهرة ولا يدفع لي عن كل مقالة إلا قرشين. . .

ص: 13

قال ا. ش: فما يمنعك أن ترسل أنت هذه المقالات إلى المجلة فتقبض فيها الذهب، قال: إن هناك أسرارا أنا محصنها وكاتمها، ولا ينبغي أن يعلمها أحد فأنها أسرار. . .

قال له فدع (الرافعي) واكتب لي أنا هذه المقالات وأنا أعطيك في كل مقالة ذهبين لا قرشين

قال هذه أسرار ولا أستطيع أن اكتب ' إلا للرافعي، لأن (نابغة القرن العشرين) لا يجوز أن يدعي كلامه إلا أستاذ نابغة القرن العشرين، ولو ادعاه غيره لكان هذا حطا من قدر نابغة القرن العشرين. وهذا بعض الأسرار لا كل الأسرار. . .

قلت ثم جاء المجنونان في العشية إلى الندى

(لها بقية)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 14

‌1 - الصقالبة في الرواية العربية

وفي الدولة الأندلسية

للأستاذ محمد عبد الله عنان

لم يعن العرب في فتوحاتهم الأولى بتعيين الأمم والأجناس الأجنبية تعيينا واضحا، وإذا استثنينا الفرس والروم والقبط والبربر والقوط، فإن هذا التصنيف للأمم والأجناس الأجنبية يتخذ في الرواية الإسلامية صفة التعميم الغامض، فنجد كلمات (الأعاجم) و (النصارى) و (الفرنج) تطلق على أمم وأجناس متباينة لا يمكن تحديدها وتعيينها إلا على ضوء الحوادث والظروف؛ بل نجد كلمة (الروم) ذاتها تطلق في الرواية الإسلامية الأولى على الرومان وعلى سكان الدولة الشرقية (الدولة البيزنطية) اليونانيين أحياناً على سكان المستعمرات الرومانية مثل الشام وطرابلس؛ وتطلق كلمة الفرنج لا على أمة الفرنج (الفرنكيين) وحدها، بل على معظم الأمم والممالك النصرانية التي كانت تعيش يومئذ في غرب أوربا وفي وسطها؛ ولم تعن الرواية الإسلامية بالتصنيف والتحديد في هذا الميدان إلا منذ القرن الثالث الهجري، وفي القرن الرابع نجد هذا التصنيف القومي أكثر وضوحا سواء من حيث اللفظ أو المعنى، فنجد الرواية الإسلامية تحدثنا عن الفرنج والألمان (الألمان) والبلغار والروس والصقالبة، وعن انكبردية (بلاد اللومبارد) والفرنسة وبريطانية؛ وهذا التقدم في تصنيف الأجناس والأمم يرجع إلى تقدم مماثل في الجغرافية الاسلامية، وإلى تقدم العلائق والصلات الدبلوماسية والتجارية بين الأمم الإسلامية والأمم النصرانية

وقد كانت كلمة (الصقالبة) من أغمض الكلمات التي أطلقت في الروايات الإسلامية على الأجناس الأجنبية الدخيلة؛ ولم يبق اليوم ثمة غموض في تعريف البلدان والأمم الصقلبية، فهي تشمل قسما من بلاد البلقان وتشمل صربيا ورومانيا وروسيا حتى الشرق الأقصى وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا وشرق ألمانيا؛ وبعبارة أخرى هي الأمم التي تعرف اليوم بالأمم (السلافية) أو السلافونية ; ولكن كلمة (الصقالبة) في الرواية الإسلامية كانت بعيدة جداً عن أن تشمل مثل هذا التصنيف الواسع، ومع أننا نراها مستعملة في الرواية الإسلامية منذ القرن الثاني للهجرة، فأنها لبثت دائما لفظا غامضا متباين المعنى. فمثلا يستعملها البلاذري، وهو من أقدم رواة الفتوح الإسلامية في أكثر من مناسبة؛ فيقول لنا إن المنصور (نقل

ص: 15

الخصوص وهم فرس وصقالبة وأنباط ونصارى من المصيصة وكان مروان أسكنهم إياها)؛ ومن الصعب أن نضبط المعنى الذي ينصرف إليه لفظ (الصقالبة) في هذا العصر المتقدم. بيد أنه يلوح لنا أن الكلمة كانت تطلق حتى القرن الثالث على سكان بلاد الخزر (قزوين) والقوقاز وما إليها، ثم اتسع معناها نوعا وأطلقت على سكان البلقان المتاخمين للدولة البزنطية مثل البلغار؛ وقد كان الصقالبة في الواقع يستعمرون هذه الأنحاء في تلك العصور، وكانت لهم في بلغاريا مملكة (صقلبية) حقيقية. وكان معنى الكلمة أوضح وأدق في الغرب الإسلامي في الأندلس وصقلية والمغرب، حيث كانت تطلق على الأجناس الصقلبية الحقيقية التي تسكن حوض الدانوب الشرقي والأوسط وألمانيا وضفاف الادرياتيك، ويؤتى منها إلى الأندلس والمغرب بالخصيان والأسرى؛ ويعرف الشريف الإدريسي بلاد الصقالبة بأنها هي شبه جزيرة البلقان، وهو في الواقع معنى أقدم من عصر الإدريسي، بيد أن الإدريسي يشير على ما يظهر إلى التحديد السياسي حيث كانت مملكة الصقالبة (بلغاريا) تسود يومئذ بلاد البلقان

وعرف الصقالبة وعرفتهم القصور الإسلامية في عصر مبكر جدا، فمنذ الدولة الأموية نجدهم في بلاط الخليفة وفي الجيش؛ ولكن نفوذهم الحقيقي في القصور الإسلامية يبدأ منذ القرن الرابع الهجري، فنراهم عندئذ يتقلبون في الوظائف والمهام العليا بعد أن كانوا يقتصرون على تقلد الوظائف والمهام الصغرى في البلاط وداخل القصر، مثل وظائف الخدمة السلطانية والنظر على الشؤون المنزلية المحضة كشؤون المائدة والثياب والرياش، ونراهم يسيطرون على شؤون الدولة العليا، فيتولون الوزارة والقيادة والوصاية أحيانا ويسود نفوذهم في القصر وفي الحكومة. وقد كان هذا النفوذ يرجع في الغالب إلى سياسة الدول والأسر، تعمل لرعايته وإيثاره لبواعث سياسية واجتماعية؛ وسنقتصر هنا على معالجة مركز الصقالبة ونفوذهم في الأندلس حيث كانت لهم دولة وكان لهم أيما نفوذ

- 2 -

كانت سياسة الدولة الأموية بالأندلس تقوم منذ البداية على اصطناع الموالي والصقالبة واتخاذهم أداة وبطانة؛ وكانت الظروف العصيبة التي أحاطت بقيام الدولة الأموية في الأندلس، والخطوب والثورات الجمة التي تفجرت حول عبد الرحمن الداخل والتي أثارها

ص: 16

خصومه ومنافسوه من زعماء القبائل العربية، هي التي حملته على الاسترابة بالعرب وعلى اصطفاء البربر والموالي الذين آزروه وقت المحنة ومكنوه من توطيد زعامته وإمارته؛ وقد حافظ خلفاء الداخل على هذه السياسة في جوهرها منذ البداية لشعورهم بأهميتها وضرورتها لمقاومة نفوذ القبائل الخصيمة التي كانت تتقاسم السلطان والنفوذ قبل قيام الدولة الأموية؛ وظهر الصقالبة بكثرة لأول مرة في البلاط الأندلسي في عهد الحكم المنتصر حفيد عبد الرحمن الداخل (188 - 206هـ)؛ وكان الحكم يعشق مظاهر الفخامة والملك فغص البلاط الأموي في عصره بالخدم والحشم من المماليك والصقالبة حتى بلغ عددهم زهاء خمسة آلاف وأخذ نفوذ أولئك الصقالبة يقوى شيئا فشيئا داخل القصر والبطانة. بيد أنه لبث مدى حين بعيدا عن الشؤون الدولة العليا قاصرا على شؤون القصر والخاص

وفي عهد الناصر قوى نفوذ الصقالبة وازدهر؛ وكان الناصر يجري على سنة سلفة عبد الرحمن الداخل في الاسترابة بالقبائل العربية ذات العصبية والبأس وفي إقصاء زعمائها عن مناصب النفوذ والثقة؛ وكان يمعن في الاستئثار حتى لقد ألغى وظيفة الحاجب، وجمع مقاليد الحكم كلها في يده؛ وعهد بالمناصب الكبيرة إلى رجال وضيعي المنبت من الصقالبة والموالي المعتقين أو الأرقاء؛ وهم رجال لا إرادة لهم يوجههم كيفما شاء؛ وكان يثق بالصقالبة بنوع خاص ويوليهم من النفوذ مالا يوليه سواهم

ومنذ أواسط عهد الناصر يبدأ نفوذ الصقالبة الحقيقي في بلاط قرطبة. وقد كانت كلمة الصقالبة تطلق في الأندلس كما قدمنا على الأسرى والخصيان من الأجناس الصقلبية الحقيقة؛ ولكنها غدت تطلق بمضي الزمن على جميع الأجانب الذين يخدمون في البطانة وفي الجيش؛ ولما استحكم نفوذ الصقالبة واستأثروا بحماية الخليفة والقصر، أضحت الكلمة تطلق منذ عهد الحكم المستنصر على الحرس الخلافي وقد انتهت إلينا عن صقالبة الأندلس في العصر رواية شاهد عيان هو الرحالة البغدادي أبن حوقل الذي زار قرطبة والزهراء في أواخر عهد الناصر أو أوائل عهد أبنه الحكم المستنصر وبحث أحوال الصقالبة وكتب عنهم في رحلته ما يأتي:

(وبالأندلس سلاح كثيرة ترد إلى مصر والمغرب، وأكثر جهازهم الرقيق من الجواري

ص: 17

والغلمان من سبي فرنجة وجليقية. والخدم الصقالبة وجميع من على وجه الأرض من الصقالبة الخصيان من جلب الأندلس، لأنهم بها يخصون، ويفعل ذلك بهم تجار اليهود عند قرب البلد؛ وجميع ما يسبى إلى خراسان من الصقالبة فباقي على حالته، ومقر على صورته. وذلك أن بلد الصقالبة طويل فسيح، والخليج الآخذ من بحر الروم ممتد على القسطنطينية واطرابذنده يشق بلدهم بالعرض، فنصف بلدهم بالطول يسبيه الخراسانيون ويصلون، والنصف الشمالي يسبيه الأندلسيون من جهة جليقية وأفرنجة وانكبرده وقلورية، وبهذه الديار من سبيهم الكثير الباقي على حاله)، ومعنى ذلك أن الصقالبة الأندلسين كانوا مزيجا من الجليقيين (النصارى الأسبان) والألمان والفرنسيين (أهل افرنجة) واللومبارديين (أهل انكبردة) والايطاليين من (قلورية) وكذلك الروس وهم أهل القسم الأول من بلاد الصقالبة. وكان معظم هؤلاء الصقالبة يؤتى بهم أطفالا من الجنسين بواسطة خوارج البحر (القرصان) وتجار الرقيق، وتحملهم سفن القرصان أو سفن البنادقة إلى مختلف ثغور البحر الأبيض؛ وكانت الكنيسة تقاوم هذه التجارة المثيرة وتحرمها؛ بيد أنها كانت تجري في روما عاصمة النصرانية ذاتها؛ وفي معظم الثغور الإيطالية. وكانت الحرب مصدرا آخر لجلب هؤلاء الصقالبة، ففي كثير من الغزوات الإسلامية المنظمة لأمم النصرانية؛ وفي الحملات والغزوات البحرية الناهبة كان المسلمون يغنمون كثيرا من السبي والأسرى صغارا وكبارا، ومنهم الصقالبة الذين يخدمون جندا مرتزقة في معظم الجيوش النصرانية؛ هذا عدا الرقيق والأسرى من مختلف الجنسيات والأمم يتدفقون على الثغور والعواصم الإسلامية عقب كل فتح أو غزوة ناجحة وكان الصقالبة يختارون في الغالب أطفالا من الجنسين، ويربون منذ الحداثة تربية عربية حسنة، ويلقنون مبادئ الإسلام؛ وقد بلغ بعضهم في النثر والنظم وصنفوا الكتب والقصائد، وبلغوا في عهد الناصر قسطا وافرا من السلطان والنفوذ، واحتلوا الوظائف الكبرى في القصر وفي الإدارة والجيش، وأحرزوا الضياع والأموال الوفيرة؛ وفاق عددهم في عهد الناصر أي عهد آخر حتى قدر بعض المؤرخين عددهم يومئذ في القصر والبطانة بثلاثة عشر ألفا وسبعمائة وخمسين، وبلغوا في رواية أخرى ستة آلاف وثمانين، وفي رواية ثالثة ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسين؛ وعلى أي حال فقد كان منهم الحرس الخلافي، ورجال الخاص والحشم، وكان الناصر يمد لهم في السلطان والنفوذ

ص: 18

ويرغم أشراف العرب وزعماء القبائل على الخضوع لهم ليذل بذلك أنوفهم ويسحق هيبتهم بل كان كل منهم في الناصر قائد الجيش الأعلى نجدة، ومعظم أكابر القادة والضباط، وكان منهم أفلح صاحب الخيل ودرى صاحب الشرطة؛ ومنهم ياسر وتمام صاحبا النظر على الخاص وكان لهذه السياسة غير بعيد أسوأ الأثر في انحلال الجيش وفتور قواه المعنوية لما جاشت به صدور الضباط والجند العرب من الحفيظة والسخط على هذه السياسة المهينة؛ وكانت هزيمة الناصر في موقعة الخندق الشهيرة (الانديجا) أمام نصارى الشمال (327هـ - 939م) ترجع من وجوه كثيرة إلى هذا الانحلال المعنوي الذي سرى إلى الجيش من جراء الأحقاد القومية والطائفية

للبحث بقية

(النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان

ص: 19

‌من ذكريات لبنان

الحذاء الذهبي

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(استيقظت!)

وكانت قد أغفت، وهي قاعدة على دكة تحت شجرة صنوبر، وذراعها على سور النافورة، ويسراها على حجرها، ثم فركت عينيها فقلت:

(والآن أرجو أن يلهمها الله ألا تغير جلستها، فإنها هكذا أحلى!)

فحطت ساقا عن ساق، وتناولت حقيبتها الصغيرة وفتحتها ونظرت في المرآة، ثم أخرجت منديلا، وجعلت تلمس به وجهها في مواضع فقلت:

(ولها جيد جميل أيضا - وأناملها مخضبة. . . الآن صرت لا أرى عيبا في قول من يقول إن هذا من دم العشاق!)

فابتسمت وقالت - كأنها تحدث نفسها - (ماذا يقول هذا الرجل؟)

فقلت، وأنا أنكث الأرض بعود صغير في يدي:(إنه يسأل: أتراك زوجته؟)

فزوت ما بين عينيها وقالت: (زوجته؟ زوجة من؟)

قلت: (زوجتي أنا!)

فصاحت: (إيه؟)

قلت: (زوجتي. . . تعرفين الكلمة؟. . يتهجونها هنا بالزاي والواو والجيم، أتهجاها أنا بالحاء والباء و. . .)

وكانت تنظر إلي مبهوتة، ثم ابتسمت وسألتني:

(هل تعني أنك لا تستطيع أن تعرف زوجتك حين تراها؟)

فأهملت السؤال وقلت: وأنا أشير بالعود الذي في يدي:

(إنك هي. . . أو أنت عيناها، وجيدها وساقاها. . .)

فخيل إليها أنها فهمت وقالت: (أوووه! ألك زمان طويل لم ترها؟)

قلت: (طويل جدا. . . ربع ساعة!)

فصدمها هذا فقطبت وقالت: (إنك تسخر مني) ومدت يدها إلى الحقيبة

ص: 20

فقلت: (لا تعجلي! ألم أقل إنك هكذا أحلى؟ وعلى ذكر ذلك أسألك: كيف يمكن أن تأكلي بهذا الفم الصغير؟)

فقالت: (إني ذاهبة. . . اسمح لي)

قلت: (إنها ذاهبة؟؟ هل سمع أحد بمثل هذا؟ ليت شعري كيف تستطيع أن تمشي بمثل هذا الحذاء الدقيق؟ ثم تجيء زوجتي فتوسعني تأنيبا!)

وكانت تهم بالقيام، فترددت، ثم سألتني:

(من أنت؟ أني أريد أن أعرف)

فقلت، وعيني إلى الأرض:(إنها تسأل؟ بداية حسنة على كل حال - خطوة في الطريق القويم - ومتى رأيت امرأة تعنى بأن تسأل من يكون الرجل، فاعلم بأن الأمل في. . . .)

فانتفضت ئمة وقالت وهي عابسة: (سأذهب)

ولكنها لم تكد تخطو خطوة واحدة حتى صرخت وارتدت فانحطت على الدكة، وانحنت فمدت يديها إلى قدمها اليمنى، فأسرعت إليها أسألها ما الخبر، وكانت قد خلعت الحذاء ودست فيه إصبعين تتحسس بهما، فقالت:(مسمار! ماذا أصنع؟)

فأخذت الحذاء ونظرت فيه ثم قلت: (من كان يتصور أن هذا الحذاء الصغير يمكن أن يسكنه مسمار ضخم كهذا؟ والآن هل يمكن أن يكون في حقيبتك عتلة أو معول أو فأس أو أي شيء أصغر أو أكبر ندق به هذا المسمار الملعون؟)

فقالت وهي تضحك: (لا تمزح من فضلك!)

قلت: (هذا أحسن - نعم يجب أن نضحك إذا لم نستطع أن نفعل ما هو خير من ذلك؟)

فقالت: (ولكن ألا تستطيع شيئا؟)

وتلفتت وقلت، أستطيع أن أضع النعل على وجهي، وأقبض على رأس المسمار بأسناني، وأشد. . . هكذا)

فصاحت بي وهي تتلوى من الضحك (أرجو. . أرجو. .)

فقلت: (أعرف ما تريدين بغير حاجة إلى رجاء. . . أن أحملك إلى حيث تقصدين)

فغاض الابتسام، واعتدلت في جلستها وقالت:(أتظن أني أسمح لك بذلك؟ مستحيل!)

قلت: (ولما لا؟ إنك أخف من الريشة، وفي وسعي - بعد قليل من التدريب - أن أظهر بك

ص: 21

على المسرح، وأمشي بك على الحبل، محمولة على أسناني)

فضحكت ثم قالت: (إنك فظيع!)

قلت: (بالعكس. . . إني لطيف جدا. . .)

فقاطعتني ضاحكة وقالت: (دع لطفك الآن. . .)

- قبل أن تعترفي به؟ هذا مطلب بعيد!

- وقل لي ما العمل؟

فقلت: (العمل أن تجلسي حيث أنت - وإن كنت سأحرم منظرك الفاتن وأعود إلى (القهوة) ثم أكر إليك بالحذاء في يدي - لا في رجلي - بعد أن نطرد هذا الطفيلي)

وانحدرت إلى حيث (القهوة) وعثرت مرتين أو ثلاثا، فآمنت أن العجلة من الشيطان، ولكني مع ذلك، وعلى الرغم مما أصابني، ظللت أعدو كأن ورائي ألف كلب من كلاب الصيد، وحرت بين أشجار القهوة فوقفت أنادي (يا حاج الياس! يا حاج الياس!)

فأقبل علي اثنان من أعوانه؛ فأشرت إليهم بالحذاء وطلبت شيئا أخرج به المسمار

وكانت زوجتي - مع أولادنا - على مقربة مني، وكانت تراني ولا أراها، فقالت:(ما هذا؟)

فدرت حتى واجهتها وقلت، وأنا أمشي إليها:

(هذا؟ آه! هذا حذاء جميل. . . . . .)

فدهشت وسألتني: (من أين جئت به؟ أين وجدته؟)

قلت: (لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم. . . صدق الله العظيم. . . خذي جربيه! اخلعي هذا. . .)

وانتزعت حذاءها الأيمن، وذهبت أعدو به

(ولكن هذا ليس حذائي؟)

قلت: (يا فتاتي المتبطرة. . هو حذاء والسلام. . تستطيعين أن تلبسيه وتمشي به وتقطعي أربع مائة متر، ثم تخلعيه لا شاكرة ولا مشكورة، ثم تلبسي حذاءك الجميل، وتقعدي به كما أنت الآن. . . رشيقة أنيقة. . . فاتنة الجيد. . . ساحرة العينين. . . وتروحي تهذري مع زوجتي التي تصب على رأسي الآن أحر اللعنات. . . ومن يدري؟ إذ لم تعجلي قبل أن

ص: 22

يطغي بها الحنق والسخط، فقد تلقي بحذائك في البركة. . . إن النساء هكذا. . . حذاؤك جميل، ولكن كل امرأة تعتقد أن حذاءها هي أجمل وأنفس. . . هيا بنا!)

فوقفت وهي تقول: (ولكني لا أستطيع أن أمشي به. . . واسع. . .)

قلت: (لا تذمي زوجتي - أعني قدمها، فأنها جميلة. . . ثم إن المشي في الحذاء واسع خير من المشي في حذاء في جوفه مسمار. . . تعالي بالله قبل أن يغرق في البركة)

فتوقفت وصوبت عينها إلى قدميها وقالت: (ولكنه فضي وحذائي ذهبي؟)

قلت: (قوس قزح. . . تعالي. . . أترانا في معرض أزياء هنا؟ نحن في الجنة المغروسة على جبال (الشوير) ولا أحد معنا ولا ثالث لنا إلا. . . . إلا الهوى. . . كآدم وحواء. . . وعلى ذكر ذلك أظن أن حواء كانت تلف ذراعها بذراع آدم إذ يسيران في الجنة)

وقالت زوجتي ونحن مقبلان عليها:

(لم أر مثلك أبدا في الدنيا!)

قلت: (صدقت يا امرأة! وأين تجدين في هذه الدنيا نظيري)

قالت محتجة: (تخطف حذائي وترمي إلي هذا الـ. . .)

وأشارت بازدراء إلى حذاء الفتاة، وكان ملقى على الأرض

فقلت: (هس! إن اللص معي، أعني المسئولة عن الجريمة والمحرضة على ارتكابها)

فصاحت الفتاة وضربت بكفها على صدرها: (أنا؟)

ونظرت زوجتي إلى قدمي الفتاة ثم نهضت وأقبلت عليها وقالت، وهي تمد إليها يديها:

(أوه! لم أكن أعرف؟ ولكن كيف استطعت أن تمشي فيه؟ أنه واسع. . . ورجلك أصغر. . . وأجمل أيضا؟)

فالتفت إلى الفتاة وقلت: (أتسمعين يا هذه؟ إنها تقر لرجلك بالمزية! وجيدها؟ أليس ساحرا يا امرأة؟ ألست معذورا إذا اشتهيت أن آكله؟ وعيناها؟ وهذا الفم العجيب الذي لا أدري كيف يتسع للكلام، وأن كان يتسع جدا الذم حذائك يا امرأة!)

فريعت الفتاة وصاحت: (أنا ذممته؟ حرام عليك!)

فقلت: نعم. . . جدا. . . قلت أنه واسع عظيم، وأنه يذكرك بالباخرة تايتانك، وأنه يسع جيشا عرمرما من الأقدام الكبيرة الغليظة، وأنه. . .

ص: 23

وكانت زوجتي تضحك، أما الفتاة فقد خيل إلي أنها ستسقط على الأرض

وقالت زوجتي: (فظيع! ألا تقفل هذه البوابة! لا تعبأي به يا حبيبتي ولا تلفتي إليه. . . أنه هكذا دائما. . . والآن خذي هذا المسمار واحتفظي به للذكرى)

فقلت: (وأنا؟ ما أجري على التعب؟ لقد قطعت كيلو مترا في الذهاب والإياب - قطعته عدوا. . . وهذه الأحذية على راحتي الطاهرة. . . .)

فقالت زوجتي: (جزاؤك أن تقعد مع الأولاد، ونذهب نحن نتمشى. . . .)

قلت: (هذا جزاء سنمار. . لا بأس! مجنون من يصنع معروفا في بنت من بنات حواء. . . .)

فقالت زوجتي: (هذا رأيك؟ إذن لن أدعوها إلى العشاء معنا!)

فصحت: (لا لا لا. . . إنما أعني بنت من بنات آدم)

فضحكت الفتاة، ورمتني زوجتي بفستقة. . . .

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 24

‌قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم

كوخ رابع غزاة المكروب

طبيب القرية الذي ضجر بالطب لجهله أسباب الداء ثم ادعائه علاجه؛ الذي شغله البحث في أصول الأمراض عن مداواة أربابها؛ الذي حقق أحلام بستور وأثبت أن المكروب ينتج الأمراض، وأن لكل مرض مكروبا يخصه، ويخصه وحده؛ الذي علم الدنيا كيف تصطاد النوع الواحد من المكروبات، وتصطاده خالصا خاليا من الأخلاط؛ الذي كشف مكروب الجمرة الخبيثة، قاتلة الماشية والإنسان، ومكروب السل قاتل الإنسان والحيوان؛ الرجل الذي كشف مكروب الكوليرا على أرض مصر في أجسام ضحاياها. البطل الذي نزل بساحات الموت فأظلته فيها أرفع بنوده، وقاتلته على أرضها أفتك جنوده، فأسر منها على هواه، وخرج عنها سالما قد أخطأته سهامها قضاء وقدرا

المترجم

كان كوخ قد أعتزم أن يسيح في الأرض ويضرب في مجاهلها ضربا، ثم خاب، وهاهو ذا يبدأ سياحات غريبة في مجاهل أشد غرابة. إني أحيانا أقرن كوخ بلوفن هوك فأجد الأول أعجب وأغرب في صيادته المكروب وأكثر إبهاما، وأجد كليهما على السواء عصاميا في كسب العلم. كان كوخ رجلا فقيرا يرتزق من صناعة الطب، وكل ما عرف من العلم هو ما تضمنته مقررات الطب في مدارسه، وعلم الله ما كان في هذه الدراسة شيء يعلم ممارسة التجارب ويدرب في فن التجريب. ولم يكن لدى كوخ من أدوات التجربة غير ذلك المكرسكوب الذي أهدته إليه زوجه المخلصة إيمي في عيد ميلاده، أما عدا هذا من الأدوات فكان عليه أن يحتال لتدبيره وتصميمه وأن يصنع بيده من قطع الخشب وخيوط القنب وشمع الأختام. وترك يوما مكرسكوبه وفئرانه وجاء زوجه يخبرها في تحمس بالجديد المعجب الذي وجد، فما كان من السيدة الطيبة إلا أن قلصت قصبة انفها في اشمئزاز ظاهر وقالت له: ولكن يا روبرت، إنك كريه الرائحة جدا

ص: 25

بعدئذ وجد طريقة أكيدة ينقل بها مرض الجمرة إلى الفئران. لم يكن لديه محقن يحقن به الدم القاتل فيها في سهولة، ولكن بعد خيبات ولعنات وخسارة عدد طيب من الفئران السليمة، اهتدى إلى أن يأخذ فلقاً من الخشب فينظفها جيدا ثم يسخنها في الفرن ليقتل ما قد يكون عليها المكروبات العادية، ثم يغمسها في قطرات من دم الأغنام التي قتلتها الجمرة، ثم يدخل أطرافها بما عليها من الدم في جرح جرحه بمشرط نظيف في أذناب تلك الفئران. ولا تسألني كيف قبض عليها فسكنها وهي تترعص وتلتوي بين يديه. وكان يضع هذه الفئران في أقفاص وحدها ثم يغسل يديه، ويخرج ليعود طفلا مريضا في سبيل تخليص الذمة، ورأسه لا يزال مليئا بالأشتات من كل شيء:(أيموت هذا الفأر بداء الجمرة. . . . . نعم يا مدام اشميت، يستطيع أبنك أن يعود إلى المدرسة في الأسبوع القادم. . . . . أرجو ألا يكون هذا الدم الملوث بالجمرة دخل إصبعي من الجرح الذي فيه. . .). هكذا كانت حياة كوخ موزعة بين بحثه وطبه

وأصبح الصباح، وجاء كوخ إلى المعمل البيتي الذي صنعه بيده، فوجد الفأر ملقى على ظهره وأرجله إلى السماء، وقد تصلب جسمه وأنتفش شعره ووقف على جلده وكان بالأمس منبسطا على ظهره في ملامسة ونعومة. وبعد أن كان أبيض صار أزرق رصاصيا، فأحمى كوخ سكاكينه في النار، وربط الفأر المسكين على شريحة من الخشب، وشق بطنه فكشف عن رئتيه وكبده، وشرحه حتى وصل إلى كل ركن من جسمه وحدق فيه:(نعم. نعم. إن باطنه يشبه باطن الشاة المجمورة. . . . وهذا طحاله، ما أسوده وما أضخمه!. . . ' نه يكاد يملأ كل بطنه. . . .) وأسرع كوخ وشق الطحال المتضخم فجرى منه الدم الأسود، فأخذ منه قطرات ووضعها تحت مجهره، وتمتم أخيرا لنفسه: (ها هي العصي وها هي الخيوط بعينها. . . . إنها تكاد تملأ دم الفأر كما ملأت دم الشاة (وفرح كوخ فرحا شديدا لأنه أيقن أنه بذلك يستطيع أن ينقل إلى الفئران أمراض الشياة والأبقار والإنسان، والفئران قليلة الثمن، صغيرة في اليد، سهل تناولها عند التجريب. وفي الشهر الذي جاء من بعد ذلك لم يكن لكوخ عمل إلا حقن فأر حي من بعد فأر ميت. يأخذ قطرة الدم من طحال الفأر الميت فيحقناها في ذيل فأر حي صحيح. ثم يصبح الصباح فيجد هذا الفار قد مات من داء الجمرة، فيمتحن دمه فيجد به الملايين من تلك الخيوط المتخالطة والعصي المتكاثرة يجدها

ص: 26

ساكنة لا حراك بها، صغيرة متضائلة لا يزيد طولها على جزء من ألفين من الملليمتر الواحد

وأخذ كوخ يتفكر: (هذه العصي لا حركة فيها، ولكن مع هذا لا بد أن تكون حية. إن قطرة الدم التي أحقن بها الفأر ليس بها غير مئات من هذه العصي، ولكنها لا تلبث في دمه أربعا وعشرين ساعة حتى تكون قد تكاثرت فبلغت البلايين، ويكون الفأر قد مرض بها ومات. . . . ولكن كيف السبيل إلى رؤيتها وهي تتكاثر!؟ كيف السبيل وجلد الفأر لا يشف عما تحته؟!

وأخذ هذا السؤال يرن في أذنه وهو يجس نبض مرضاه وينظر في ألسنتهم. فإذا جاء العشاء أكل عشاه سريعا، وغمغم لزوجته تحية المساء لتنام، وذهب هو إلى تلك الغرفة الصغيرة قد ملأتها رائحة الفئران والمطهرات الكيميائية وأغلقها على نفسه، ثم أخذ يفكر يكثر تلك العصي خارج جسم الفأر. وكان كوخ في هذه الوقت لا يدري شيء عن إحساء الخمائر التي صنعها بستور ولا عن قباباته، أو أن هو درى، فالنزر القليل منها؛ لذلك كانت تجاربه لتكثير تلك العصي تجارب المبتكر الأول، فيها التواء وفيها تعقد؛ كانت كتجارب الرجل الأول يريد أن يصنع لنفسه نارا

قال كوخ: (سأحاول أن أكثر هذه الخيوط في سائل أقرب ما يكون إلى سوائل الجسم، سائل مصنوع من مادة الأجسام نفسها). وأتى بعين ثور وأخرج منها بعض مائها، ووضع في هذا الماء فتيتة كسن الدبوس من طحال فأر قتله المرض. ثم قال:(هذا غذاء لا شك مستطاب لهذه الخيوط، ولكن لعلها تتطلب غير الغذاء الطيب حرارة أجسام الفئران كذلك) وصنع بيديه مدفئا غير جميل وسخنه بمصباح زيت، ثم وضع في هذا المدفأ المرتجل شريحتين متلاصقتين من الزجاج الرقيق كان قد وضع بينهما سائل عين الثور وفتيتة الطحال. وذهب لينام. ولكنه لم ينم. ففي منتصف الليل قام ليخفض فتيلة المصباح بمدفئه، وكان قد ملأه منها الدخان. وبدل أن يعود فينام، أخذ ينظر العصي بين شريحتي الزجاج مرة بعد أخرى. وخال أحيانا أنه يرآها تتكاثر، ولكنه لم يكن على يقين من ذلك، لأن مكروبات أخرى من التي تسبح وتثب وجدت سبيلها بين الشريحتين على عادتها، وزادت في تكاثرها على عصي صاحبنا الدقيقة المهلكة وطغت عليها

ص: 27

قال كوخ لنفسه: (هذا عمل غير نافع! هذه العصي لابد من تكثيرها هي وحدها خالصة نقية من كل مكروب آخر) وأخذ يفكر في الوصول إلى هذا حتى أكده الفكر. وأخذ يحتال ويتدبر حتى صار الاحتيال هما والتدبر غما

وذات يوم تراءت له طريقة يروض بها عصيه وهو يراقبها. طريقة غاية في البساطة غاية في السهولة لا تحتاج للفكر الكثير قال كوخ: (سأضع تلك العصي في، قطرة عالقة، فلا يصلها من المكروبات الغريبة شيء). ثم جاء بقطعة صغيرة رقيقة مفرطحة من الزجاج الرائق، وسخنها حتى يقتل ما قد يكون عليها من المكروب، ثم وضع عليها قطرة من سائل عين ثور سليم قضى عليه الجزار حديثا، ثم غمس في هذه القطرة قطعة غاية في الصغر من طحال فأر مات من داء الجمرة حديثا. وبعد ذلك جاء بشريحة غليظة مستطيلة من الزجاج، كان قد نقر في وسطها نقرة عميقة واسعة، ودهن سطحها مما يلي حافة النقرة بشيء من الفزلين ثم قلب هذه الشريحة الكبيرة السميكة على الأخرى الصغيرة الرقيقة التي عليها سائل العين وطحال الفأر بحيث تقع النقرة فوق القطرة ولا تمسها، فالتصقت الزجاجتين بالفزلين فكانتا كقطعة واحدة. ثم عاد فقلبهما معا في سرعة وحذق فصارت قطعة الزجاج الصغرى هي العليا وتعلقت منها قطرة السائل بما فيها من الطحال وعصيه الكثيرة، وقد انحبست في تلك النقرة انحباسا كاملا فلا تستطيع المكروبات الأخرى الدخول إليها. تلك هي (قطرته العالقة). ولعل كوخا لم يقدر كل التقدير هذه الطريقة الجديدة، ولم يدرك كل الإدراك مكانها من تاريخ بحث المكروب ومحاربة الإنسان أسباب الموت. وسواء قدرها أو فاته تقديرها فقد كانت ساعة من أخطر الساعات تلك التي أخطرت هذه الفكرة على باله، ساعة لا يعدلها إلا تلك التي رأى فيها لوفن هوك أحياءه الصغيرة في ماء المطر أول مرة

ووضع كوخ (قطرته العالقة) تحت مكرسكوبه وجر كرسيه وجلس وهو مضطرب ينظر ما تكشف له العدسة وهو يقول لنفسه: (لا يستطيع شيء أن يدخل إلى تلك القطرة، وهي ليس بها إلا العصي، فلأرقبها علي أعلم من أمر نموها شيئا، فكشفت له العدسة عن مجال أغبر لم يجد فيه غير قطع الطحال وقد نسلت وتقطعت وتراءت ضخمة تحت المجهر، وغير عصية هنا وعصية هناك طافية بين نسائل الطحال؛ وظل ينظر ساعتين، وينظر في

ص: 28

الساعة الواحدة وخمسين دقيقة، ولكن لم يحدث شيء. وأخيرا بدأت الرواية التي اصطبر لمرآها طويلة، وأخذت صورة المجال تحت بصره تتغير وتتبدل كأنما امتدت لها بالسحر يد الساحر، واهتز صاحبنا واضطرب، وجرت في ظهره رعدة بعد أخرى كلما اختلفت صورة المجال تحت عينه. إن العصي الطافية القليلة أخذت فعلا في التكاثر! ففي هذا المكان توجد الآن اثنتان حيث كانت واحدة. وتلك عصية أخرى تطول بطيئة ولكنها تطول كثيرا، وهي في استطالتها تنثني كالأفعى وتنال أطراف المجال. ولم تمض ساعتان حتى كثرت تلك العصي كثرة غطت على قطع الطحال فاختفت وبلغت أعدادها الملايين فأصبحت في اختلاطها وتداخلها وتلبدها ككرة من غزل، انحل فاختلط فلا رجاء في تسليكه إلا أنه غزل حي، غزل صامت قاتل

وتنفس كوخ الصعداء: (الآن أعلم أن هذه العصي حية والآن أعلم أنها تتكاثر بالملايين في فئراني الصغيرة المسكينة، وفي الشياه، وفي الأبقار. فالعصية الواحدة (البشلة الواحدة) أصغر من الثور بلايين المرات، فإذا دخلت الثور نمت وتعددت وصارت ألوفا تنسل ألوفا تنتشر في نواحي الحيوان الكبير فتتحشى بها رئته ويكتظ بها مخه وينسد بها دمه، لا عن ثأر لها عنده، أو كراهة لها فيه

أصبح كوخ لا يعي الزمن، ولا يهتم لواجباته، ولا يصغي لمرضاه إذ ينتظرونه طويلا فيملون فيشكون. فكل هذه الأمور فقدت حقيقتها من نفسه، وأصبح رأس كوخ لا يعي إلا صورا مخيفة من خيوط الجمرة وهي في اختلافها واختلاطها. وأخذ يعيد تلك التجربة التي يخلق فيها من البشلة الواحدة ألوف الألوف من البشلات. فأعادها ثماني مرات في ثمانية أيام متابعات. فبدأ بأن أخذ غمسة يسيرة جدا من (قطرته العالقة) وهي تعج بتلك العصيات فزرعها في قطرات نقية جاء بها من سائل عين ثور سليم. فوجد بكل قطرة من هذه ألوفا من هذه العصيات. ثم أخذ من هذه القطرات الحادثة ليزرع في قطرات جديدة نقية من عين ثور. وهلم جرا حتى أستتم له من ذلك ثماني زرعات قال كوخ: (لقد نسلت هذه البشلات ثماني ذريات متعاقبات، كلها خالصة من مكروب غريب، خالصة من طحال الفأر الذي اختلطت به أولا. وهذه البشلات في هذه الذرية الأخيرة هي أحفاد البشلات الأولى التي قتلت الفأر. فهل يا ترى تقتل هذه البشلات الأخيرة الفأر والشاة كما كانت تفعل أمهاتها

ص: 29

الأولى؟. . . . . . أفتنمو يا ترى هذه البشلات في الفئران وفي الشياه إذا حقنتها فيها؟ أهي يا ترى سبب الجمرة الذي لا مرية فيه؟)

وأخذ كوخ قطيرة يسيرة من (قطرته العالقة) - وكانت تتراءى للعين العادية عكرة بما تعج به من المكروب - ونشرها على فلقة من الخشب صغيرة، ثم غرس هذه الفلقة تحت جلد فأر صحيح ونجا هو فلم يمسسه سوء. نجاه منه تلك العناية الإلهية التي تقوم إلى جانب البحاث الجريئين المتهورين وتحرسهم وتدفع عنهم بمشيئة الله شر ما هم فيه

وفي اليوم التالي كان كوخ قائما على هذا المخلوق الصغير وقد دبسه إلى لوحة تشريحه، وقد انحنى عليه عن قصر في البصر ليراه من قريب. ثم أخذ يحمي مشارطه في النار وقد ملأه الرجاء. ولم تمض دقائق ثلاث حتى كان جالسا إلى مكرسكوبه ينظر منه قطعة صغيرة من طحال الفأر قد وضعها بين رقيقتين من الزجاج ثم تمتم لنفسه:(لقد تحقق المأمول، فها هي الخيوط، هاهي العصيات وتلك البشلات الصغيرة التي في قطراتي العالقة، تلك البشلات التي أوجدتها بالتنسيل سلالات متعاقبة ثمان، لها من القدرة على القتل مقدار ما تلك التي يأخذها الآخذ مباشرة من طحال الشاة النافقة من داء الجمرة)

رأى كوخ هذه البشلات أول ما رأى في دم تلك البقرة التي نفقت من داء الجمرة زمانا مضى، يوم كان مجهره جديدا ويده تضطرب عليه من قلة التجربة والمران، واليوم يرى نفس هذا المكروب دم الفأر المسكين، وهو هو نفسه المكروب الذي رباه في سلسلة طويلة من الفئران، وفي عدد كثير متعاقب من قطراته العالقة

هاهو ذا كوخ يثبت أول مثبت أن النوع الواحد من بعض المكروب يسبب نوعا واحدا من الأمراض، وأن هذه المخلوقات الصغيرة قد تعتدي في حقارتها على مخلوقات كبيرة عظيمة في ضخامتها فتوردها موارد الموت سريعا. سبق كوخ كل الرجال في إثبات هذا، وسبق فيه بستور كذلك، وهو الذي على سننه جرى وبهديه اهتدى. رمي كوخ بخيطه وصنارته ليصطاد تلك الأسماك الضئيلة في المحيط الأعظم وهو واسع بهيم. وتقفاها وتجسس بها وهو لا يعلم من صفاتها شيئا، ولا من عاداتها شيئا، وهو لا يدري من جرأتها وشراستها شيئا وهو لا يعرف متى ولا بأي سهولة تثب عليه من مراصدها ومخابئها؛ والشيء إذا دق هذه الدقة فكل مكان مخبأ وكل طريق مرصد

ص: 30

يتبع

أحمد زكي

ص: 31

‌أندلسيات:

2 -

قصة الفتح بن خاقان

للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي

يتشابه الفتح بن خاقان وأبو الحسن بن بسام في أنهما كانا متعاصرين، وفي أنهما تصديا للكلام على أدباء الأندلس من العلماء والشعراء والكتاب والوزراء والملوك ممن عاصرهما ومن كان قبل عصرهما، وفي أنهما كانا يرسلان إلى معاصريهما يعرفانهم عزمهما ويسألانهم إنفاذ شيء من منثورهم ومنظومهم ليذكراه في كتابيهما: الأول في قلائد العقيان ومطمع الأنفس، والثاني في الذخيرة. قال العماد الكاتب صاحب خريدة القصر: حدثني الصاحب الكبير العالم جمال الدين بن أكرم قال: لما عزم أبن خاقان على تصنيف كتاب قلائد العقيان جعل يرسل إلى كل واحد من ملوك الأندلس ووزرائها وأعيانها من أهل الأدب والشعر والبلاغة ويعرفه عزمه ويسأله إنفاذ شيء من شعره ونظمه ونثره ليذكره في كتابه. وكانوا يعرفون شره وثلبه فكانوا يخافونه وينفذون إليه ذلك وصرر الدنانير، فكل من أرضته صلته، أحسن في كتابه وصفه وصفته. وكل من تغافل عن بره هجاه وثلبه. وكان ممن تصدى له وأرسل إليه أبو بكر بن باجه المعروف بابن الصائغ، وكان وزير أبن فلويت صاحب المرية. وهو - أي أبن الصائغ - أحد الأعيان وأركان العلم والبيان. شديد العناية بعلم الأوائل، مستول على أهل الأشعار والرسائل، وكانوا يشبهونه في المغرب بابن سينا بالمشرق، وله تصانيف في المنطق وغيره، فلما وصلته رسالته تهاون بها ولم يعرها طرفه، ولا لوي نحوها عطفه، وذكر أبن خاقان بسوء بلغه، فجعله ختم كتابه، وصيره مقطع خطابه، وقال: هو رمد جفن الدين الخ وبلغ ذلك أبن الصائغ، فأنفذ له مالا استكفه به واستصلحه؛ وصنف أبن خاقان كتاب آخر سماه مطمح الأنفس وصله بقلائد العقيان افتتحه بذكر أبن الصائغ وأثنى عليه فيه ثناء جميلا الخ وكذلك نرجئ الكلام على ما كان بين أبن خاقان وبين الفيلسوف أبن باجه أو أبن الصائغ إلى ما بعد الفراغ من الموازنة بين أبن خاقان وبين أبن بسام. . . وقد ظهر لك مما أوردناه هنا من كلام العماد أن أبن خاقان كان يرسل إلى أعيان الأندلس ليرسلوا إليه آثارهم، وكذلك كان يفعل أبن بسام صاحب الذخيرة. . . قال المراكشي صاحب المعجب: فمما أختار له - أي لأبي عبد الله محمد بن أبي

ص: 32

الخصال أحد كتاب الأندلس البلغاء النابهين - فصول من رسالة كتب بها مراجعا لبعض إخوانه عن رسالة وردت عليه منه يستدعي فيها منه شيئا من كلامه، وهذا الرجل صاحب الرسالة هو أبو الحسن علي بن بسام صاحب كتاب الذخيرة. . . وهذا هو محل الشاهد. . . ودونك الآن فصولا من هذه الرسالة - أي رسالة أبن أبي الخصال إلى أبن بسام فأنها من طرف الأندلسيين. قال: وصل من السيد المسترق، والمالك المستحق، وصل الله إنعامه لديه، كما قصر الفضل، كتابه البليغ، واستدراجه المريغ. فلولا أن يصلد زند اقتداحه، ويرقد طرف افتتاحه، وتقبض يد انبساطه، وتغبن صفقة اغتباطه، للزمت معه قدري، وصنت سريرة صدري. ولكنه بنفثات سحره يسمع الصم، ويستنزل العصم، ويقتاد الصعب فيصحب، ويستدر الصخور فتحلب، ولما فجأني ابتداؤه، وقرع مسمعي نداؤه. فزعت إلى الفكر، وخفق القلب بين الأمن والحذر، فطاردت من الفقر أوابد قفر، وشوارد عفر، تغبر في وجه سائقها، ولا يتوجه اللحاق لوجيهها ولا حقها، فعلمت أنها الاهابة والمهابة، والإصابة والاسترابة، حتى أيأستني الخواطر، وأخلفتني المواطر، إلا زبرجا يعقب جوادا، وبهرجا لا يحتمل انتقادا. وأنى لمثلي والقريحة مرجاة، والبضاعة مزجاة ببراعة الخطاب، وبزاعة الكتاب. ولولا دروس معالم البيان، واستيلاء العفاء على هذا الشان، لما فاز لمثلي فيه قدح، ولا تحصل لي في سوقه ربح. . . وأنا أعزك الله أربأ بقدر الذخيرة، عن هذه النتف الأخيرة. وأرى إنها قد بلغت مداها، واستوفت حلاها، وأنا أخشى القدح في اختيارك، والإخلال بمختارك. . . إلى أن يقول: وعذرا أعزك الله فأني خططت ما خططته والنوم مغازل، والقر منازل، والريح تلعب بالسراج، وتصول صولة الحجاج، فطورا تسدده سنانا، وتارة تحركه لسانا، وآونة تطويه حبابه، وأخرى تنشره ذؤابه، وتقيمه إبرة لهب، وتعطفه برة ذهب. أو حمة عقرب. وتقوسه حاجب فتاة، ذات غمزات، وتسلطه على سليطه، وتزيله عن خليطه، وتخلعه نجما، وتمده رجما، وتسل روحه من ذباله، وتعيده إلى حاله، وربما نصبته أذن جواد، ومسخته حدق جراد. ومشقته حروف برق، بكف ودق، ولثمت بسناه قنديله، وألقت على أعطافه منديله، فلا حظ منه للعين، ولا هداية في الطرس لليدين، والليل زنجي الأديم، تبرى النجوم، قد جللنا ساجه، وأغرقنا أمواجه، فلا مجال للحظ، ولا تعارف إلا بلفظ، لو نظرت فيه الزرقاء لاكتحلت، أو خضبت به الشيبة لما نصلت،

ص: 33

والكلب قد صافح خيشومه ذنبه، وأنكر البيت وطنبه. والتوى التواء الحباب، واستدار استدارة الحباب، وجلده الجليد، وصعد أنفاسه الصعيد، فحماه مباح، ولا هرير ولا نباح، والنار كالرحيق، أو كالصديق، كلاهما عنقاء مغرب، أو نجم مغرب، استوى الفصل، ولك في الإغضاء الفضل، والسلام. . .

وقد حدثنا الفتح في قلائده أنه هو الآخر كتب إلى أبي عبد الله محمد بن أبي الخصال مستدعيا من كلامه ما يثبته في الديوان - يريد قلائد العقيان - وينبته في زهر البستان، فكتب إليه أبن أبي الخصال رقعة يقول فيها: الحذر - أعزك الله - يؤتي من الثقة، والحبيب يؤذى من المقة؛ وقد كنت أرضى من ودك وهو الصحيح بلمحة، وأقنع من ثنائك وهو المسك بنفحة، فما زلت تعرضني للامتحان، وتطالبني بالبرهان، وتأخذني بالبيان، وأنا بنفسي أعلم، وعلى مقداري أحوط وأحزم، والمعيدي يسمع به لا أن يرى، وإن وردت أخباره تترى فشخصه مقتحم مزدرى، ولا سيما من لا يجلى ناطقا، ولا يبرز سابقا، فتركه والظنون ترجمه، والقال والقيل يقسمه، والأوهام تحله وتحرمه، وتخفيه وتخترمه، أولى به من كشف القناع، والتخلف عن منزله الامتناع، وفي الوقت من فرسان، هذا الشان، وأذمار هذا المضمار، وقطان هذه المناهل، وهداة تلك المجاهل، من تحسد فقره الكواكب، ويترجل إليه منها الراكب، فأما الأزاهر فملقاة في رباها، ولو حلت عن المسك حباها، وصيغت من الشمس حلاها، فهي من الوجد تنظر بكل عين شكرى، لا نكرى، وإذا كانت أنفاس هؤلاء الأفراد مبثوثة، وبدائعهم منثوثة، وخواطرهم على محاسن الكلام مبعوثة، فما غادرت متردما، ولا استبقت لمتأخر متقدما، فعندها يقف الاختيار، وبها يقع المختار، وأنا أنزه ديوانه النزيه، وتوجيهه الوجيه، عن سقط من المتاع، قليل الإمتاع، ثقيل روح السرد، مهلك صر البرد، إلا أن يعود به جماله، ويحرس نقصه كماله، وهبه أعزه الله قد استسهل استلحاقه، وطامن له أخلاقه، أتراني أعطي الكاشحين في اتبابه يدا، وأترك عقلي لهم سدى، وما أخالك ترضاها مع الود خطة خسف، ومهواة حتف، لا يستغل غبينها ولا يبل طعينها. . . الخ الخ فهي رسالة طويلة وإن كانت على طولها ممتعة جميلة. . . .

موازنة ومفاضلة

والآن فلنعرض للموازنة بين الفتح وبين أبن بسام ما دام بينهما هذا التشابه الذي ذكرنا. . .

ص: 34

قال الحجاري صاحب المسهب: وهو - الفتح - وأبو الحسن بن بسام الشتتمري مؤلف الذخيرة فارسا هذا الأوان، وكلاهما قس وسحبان، والتفضيل بينهما عسير، إلا أن أبن بسام أكثر تقييدا، وعلما مفيدا، وإطنابا في الأخبار، وإمتاعا للأسماع والأبصار، والفتح أقدر على البلاغة من غير تكلف، وكلامه أكثر تعلقا وتعشقا بالأنفس. . . هذا هو كل ما عثرنا عليه للمتقدمين من مفاضلة بين هذين الفاضلين، ونحن فنقول: إن المتفقد لكتاب الذخيرة لأبن بسام، وكتابي القلائد والمطمح لأبن خاقان، يتبن له أن الفتح في الحق أضخم عبارة، وأجزل أسلوبا، وأقدر على التنميق والتزويق والتهويل، ويغلب ذلك على أكثر تراجمه؛ وقد يتعمل حتى يرى أثر التقعر محسا ملموسا، وهو مع هذه الجزالة والضخامة، أقل تقييدا وعلما مفيدا، دع تقصيره في تراجمه من ناحية التحقيق التاريخي فلا يذكر أسم المترجم كاملا ولا نسبه ولا بلده ومنشأه، ولا تاريخ مولده ووفاته، فكأنه يترجم مترجمة لناس يعرفونهم كل المعرفة، وإنما الذي ينقصهم هو أن يلموا ببعض آثار أولئك المترجمين المعروفين، وأن يقفوا على بلاغة الفتح وبراعته، وحذقه ومهارته، وكيف يرفع من يبغي أن يرفعه ويخفض من يريد أن يضعه، ومن هنا لا تعد كتب الفتح كتب تراجم بالمعنى المعروف، وإنما هي بكتب المختارات أشبه. أما أبن بسام صاحب الذخيرة فهو وإن كان أكثر تقييدا وعلما مفيدا، وإطنابا في الأخبار، وإمتاعا - من هذه الناحية - للأسماع والأبصار - كما يقول الحجاري - وإن كان أقل تزويقا وتهويلا وإن كان أعف لسانا، وأنزه بيانا، إلا أنه هو الآخر يقارب الفتح في أغفاله تاريخ من ترجم له مولدا ووفاة ونسبا ومنشأ، ومثل الاثنين في ذلك مثل الثعالبي صاحب يتيمة الدهر، ومثل الثلاثة العماد الكاتب صاحب خريدة القصر وجريدة أهل العصر والباخرزي صاحب دمية العصر وعصرة أهل العصر، كل أولئك يجتزئون ببلاغتهم عن تحقيقاتهم، فكانت كتبهم لذلك نوعا غريبا بين أسفار الأدب في لغة العرب، فلا هي بالمختارات المحضة ول هي بالتراجم الوافية، ولا هي من قبيل العقد والكامل وما إليهما. ولعل أول من ابتكر هذا النوع هو الثعالبي

(للقصة بقية)

عبد الرحمن البرقوقي

ص: 35

‌5 - معركة عدوى

للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي

رئيس أركان حرب الجيش العراقي

أسباب الحرب

لقد ظهر لنا من المباحث السابقة أن الطليان اعتبروا الحبشة مستعمرة طليانية، وحملوا الدول الأوربية على الاعتراف بذلك بعد نشرهم المعاهدة وذيولها، واستفادوا من حاجة البريطانيين إليهم فتقدموا إلى كاسيلا واستولوا قبل ذلك على عدوى

ومع أن منليك كان يتظاهر بعدائهم عند منحه امتياز السكة الحديدية للفرنسيين وإذابته العملة النقدية التي ضربها الطليان في بلادهم لم يتمكن الطليان من التضييق عليه لأنهم كانوا مكلفين بمساعدة البريطانيين في قتالهم المهدي، ولم يرض البريطانيون بان يترك الطليان جبهة السودان ويتقدموا بقواتهم على الأحباش

والحقيقة أن السياسة البريطانية من حيث أهدافها العامة لم ترغب البتة في توسع نفوذ الطليان في الحبشة وتوطيد كلمتهم فيها لأنها كانت ترمي إلى احتلال مصر والسودان والمحافظة عليهما بترك حراسة جبال الحبشة بيد أهل الأحباش

أما النجاشي منليك فكان يرمي إلى توحيد المملكة وتقويتها ثم إعلان استقلالها للعالم. ولا شك في أن رغبة الطليان في توطيد نفوذهم في الحبشة وسعي نجاشي الحبشة لاستقلال البلاد أديا حتما إلى الاختلاف بين إيطاليا والحبشة برغم المعاهدة وذيولها

وسترى كيف حدث هذا الاختلاف فأدى إلى الحرب بينهما. والحقيقة هي أن بريطانيا لم تكد تقض على حركة المهدي فتبقي إيطاليا حرة في العمل إلا وشرع الطليان بحشد قواتهم في مستعمرة أريترة للتوغل في بلاد الحبشة

ولما تأكد منليك من قدرة جيشه البالغ عدده زهاء 145000 أعلن استقلال الحبشة إلى جميع الدول. ولمجاملة إيطاليا طلبت ألمانيا وفرنسا من النجاشي أن يرسل هذا البلاغ بواسطة إيطاليا

فبلغ منليك ملك إيطاليا أن المادة السابعة عشرة من معاهدة أوكسالي لا ترغمه على توسيط

ص: 37

إيطاليا في جميع علاقته بالدول الأوربية، والنص الحبشي من المعاهدة صريح في هذا الباب، فهو يخول للنجاشي حق طلب التوسيط إذا أراد ذلك. لذلك رجا من ملك إيطاليا أن يخبر الدول الأوربية بذلك لكي لا يحدث سوء تفاهم في المستقبل

والواقع أن المعاهدة كانت مكتوبة باللغة الأمحرية والمادة السابعة عشرة منها تنص على ما يلي: (جلالة إمبراطور الحبشة مختار في استخدام الوكلاء الطليان). أما الطليان فلما ترجموا المعاهدة إلى لغتهم وضعوا كلمة (الإجبار) بدلا من كلمة (الاختيار) فجاء النص الطلياني كما يلي: (جلالة إمبراطور الحبشة مكلف باستخدام الوكلاء الطليان)

فانتبه الساسة الطليان إلى خطئهم، فلما تيقنوا أن القلم لم يجد نفعا في الحصول على رغبتهم في بلاد الحبشة قرروا استخدام السيف، مع أن منليك لم يرغب في الحرب في تثبيت علاقاته بإيطاليا. فتظاهر الفرنسيون بالولاء للطليان، بينما كانوا في الخفاء يؤيدون النجاشي، لأن توسع نفوذ الطليان في بلاد الحبشة يخالف مرماهم. وكان الحكم الفرنسي في المستعمرة الصومالية همزة الوصل بين الحكومة الفرنسية والحكومة الحبشية، أما الحكومة الروسية فلم تعترف بالمعاهدة وكانت تساعد الحبشة بإرسال الضباط وأصحاب المهن والرهبان والسلاح إليهم

فرأى رئيس الحكومة الطليانية (كريسبي) إرسال رجل محنك إلى بلاط النجاشي عسى أن يقنعه ويزيل الخلاف. فأرسل الكونت (انطونلي) إلا أن هذا لم يتمكن (رغم ذلاقة لسانه ووعيده) من إقناع منليك الذي كان جوابه للوزير الطلياني ما يلي:

(ما دام قد حدث غلط في نص المادة السابعة عشرة فالأولى أن نلغيها تماما، ولنتذاكر من جديد على نص المعاهدة؛ ثم إن بلادي تحتاج إلى منفذ إلى البحر فلنقرر هذا أيضا)

ولم يغير منليك رأيه ولم يحد عن فكره. فكان في جميع مذاكراته مع الوزير المفوض يؤيد هذا الطلب عينه. وأخيرا بلغ الحكومة أن المادة السابعة عشرة من المعاهدة ملغاة. وفي الوقت عينه أعاد الأربعة ملايين فرنك إليها. وكان من نتيجة ذلك أن توترت العلاقات بين إيطاليا والحبشة وانتهت إلى الحرب

ساحة الحركات

تقرب سلسة الجبال من مصوع وتسيطر على سهلها الضيق وفي امتدادها إلى الشمال تكون

ص: 38

موازية للشاطئ. أما في امتدادها إلى الجنوب فتبعد عنه، وتتكون منها الصحراء الدنا التي تشح المياه فيها، وهذه الصحراء وعرة ذات مفازات ووديان ورواب

وهذه السلسلة ذاتها تتصل بالسلاسل الأخرى التي تتكون منها معاقل الحبشة الداخلية

جرت الحركات على طرفي الحدود في جنوبي (أسمرة) عاصمة أريترة بعد مصوع. والأرض في هذه المنطقة جبلية وهي واقعة على سفوح السلسلة الأولى التي تؤلف الضلع الغربي للمثلث، والارتفاعات فيها تتفاوت بين 1500و2500 متر. والانحدارات في السفوح الشرقية على ما نعلم مائلة شديدة الوعورة، وتسلقها صعب، والأرض متقطعة بوديان وفيها وهاد ومضايق. والروابي يعلو بعضها بعضا، والكثير منها مكسو بالغابات والأحراش. أما الطرق فمسالك وعرة يصعب على الحيوانات المحملة السير فيها

والمنطقة بأجمعها تصلح للدفاع أكثر منها للهجوم. ولا تمكن الحركة فيها بقوات كبيرة ما لم يكن السير فيها بأرتال مختلفة متباعدة تفرقها الودن والمضايق عن بعضها فتصعب المواصلة بينها. وفضلا عن ذلك فالمياه فيها شحيحة وموارد الإعاشة قليلة، الأمر الذي يقتضي تجهيز القوات بوسائل النقل الكثيرة والسير فيها يقتضي بطبيعة الحال اتخاذ تدابير الحماية. لذلك كان لا يجوز أبدا تطويل الارتال لأنها تمسي أهدافا ملائمة للمباغتة. والخلاصة أنها من أفضل الأراضي الصالحة للحروب الصغرى بالكمين والمباغتة فهي من هذه الوجهة تفيد الأحباش الذين يعرفونها حق المعرفة ويعلمون بنجدها وغورها فضلا عن تعودهم على إقليمها

والطرق التي تربط مستعمرة إريترية بهذه الساحة تبدأ من ساحل البحر وتمتد إلى الجنوب الغربي فإلى الجنوب، منها طريق شمالي يبدأ من مصوع ويمر بأسمرة بعد أن يتسلق الجبال ويدخل الهضبة. وارتفاع أسمرة 2372 مترا. وقبل أن يقطع نهر مأرب الفاصل للحدود يمر بقرية (غوندت) ثم يصل إلى عدوة وارتفاعها 1965 مترا وهي واقعة بالقرب من أكسوم وإلى شرقيها

والطريق الثاني يبدأ من زولا على خليج عدولى. وبعد أن يمر بقريتي (حلبى) و (كواتيت) يقطع الحدود إلى جنوبي سنافة ويصل إلى قلعة ادجرات وهي من المراكز الحبشية الخطيرة، فيتوجه الطريق بعد ذلك إلى الجنوب ويمر بقلعة (مكا) إلى أن يصل إلى (هرر)

ص: 39

ويجري في هذه الساحة تابعا نهر عطبرة وهما مأرب وتكاسه

ومن جملة الأهداف التي كان يتوخاها الطليان في حركاتهم استمالة الرؤوس إلى جانبهم وإثارة الحروب الداخلية في الحبشة لكي يسهل عليهم التغلب على العدو

فكانوا على اتصال برأس مقاطعة تيجري، وبعد هذه المقاطعة تأتي مقاطعة أمحرة الداخلية، وفي جنوبيها مقاطعة شوعا المختصة بالنجاشي، وهي خلف مقاطعة غوجام الداخلية، وفي جنوبي هذه المقاطعات أرض الغالا في منتهى البلاد الحبشية

فيتضح من ذلك أن الحركة يجب أن تجري بمراحل لاحتلال المقاطعات على التوالي، وهذه المقاطعات جميعا وعرة منيعة

قوات الفريقين - الجيش الحبشي

استخدم الطليان رئيسا لتجسس أحوال الحبشة وبالنظر إلى المعلومات التي توصل إليها هذا الضابط من أن أنفس مقاطعات تيجري وأمحرة وغوجام زهاء 2 ، 500 ، 000 نسمة. أما أنفس مقاطعة شوعا وحدها فتبلغ 2 ، 000 ، 000 نسمة وهذا مما يجعل لهذه المقاطعة مركزا خطيرا يتجلى بحكمها على المقاطعات الأخرى

ولما لم يكن للحبشة جيش منظم فمن البديهي أن تقدر القوات بالرجال المسلحين الذين تجهزهم المقاطعات المذكورة وعلى هذا الأساس تبلغ قوة الجيش ما يلي:

رجل

20 ، 000جيش تيجري

35 ، 000جيش أمحرة

20 ، 000 جيش غوجام

70 ، 000 جيش شوعا

ـــــ

145 ، 000المجموع

ونقصد بالجيش القوة الجاهزة التي يستطيع أن يستخدمها الرأس أو ملك المقاطعة، متى شاء بمعنى أنها مستعدة للعمل في كل وقت. أما عند الاقتضاء فيمكن إخراج قوات أخرى بكل سهولة لأن الأحباش جميعا جنود بالطبع لا فرق بين شابهم وشيخهم.

ص: 40

أضف إلى ذلك مقاطعة الغالا وعاصمتها هرر التي تبلغ نفوسها زهاء 3 ، 000 ، 000 نسمة ومع أنها بعيدة عن ساحة الحركات إلا أنها تستطيع أن تجهز جيش النجاشي بالخيالة.

ولدى الجيش الحبشي أربعون مدفعا على أنواع مختلفة. والأحباش جنود بالطبع فيتحملون السير الطويل دون تعب، ويعسكرون ويسيرون بلا جلبة ولا ضوضاء، ويحصلون على معيشتهم بالتكاليف الحربية ولا يستخدمون وسائل لذلك. فالجندي يحمل أرزاقه معه وهي مقدار قليل من الذرة. والأرزاق التي تكفي الجندي الأوربي ثلاثة أشهر يعيش بها الحبشي سنة كاملة. فالحبشي من هذه الجهة قانع بما يتيسر له.

والوحدة السوقية في الجيش الحبشي هي الفرقة أو القوة التي يخرجها الرأس أو الملك. وهذه القوة تختلف باختلاف مساحة مقاطعة الرأس أو الملك فيتفاوت مقدارها بين 5000 و10 ، 000 رجل أو أكثر

واملك أو الرأس يجهز جنوده بالسلاح والحكومة تمده بالسلاح والعتاد عند الاقتضاء. ومع ذلك نرى بعض جنود الأحباش يدبر بنفسه أمر سلاحه وعتاده.

وقد علمنا أن الطليان دون أن يحسبوا حساب المستقبل جهزوا النجاشي بأسلحة حديثة فمنحوه 5000 بندقية و200 ، 000 طلقة في المرة الأولى و38000 بندقية و8 مدفعا في المرة الثانية. أما البريطانيون فكانوا قد أهدوا إلى رأس تيجري 900 بندقية. وإذا أضفنا إلى ذلك السلاح الذي استطاع أن يشتريه منليك في المدة الأخيرة علمنا أن لدى الأحباش عدد كبير من البنادق الصالحة للاستعمال

ومن عادة النساء الحبشيات أن يرافقن الجيش فيحملن مواد الإعاشة والماء لرجالهن ويهيئن الطعام في المعسكر ويداوين الجرحى ويشجعن الجنود على القتال

أسلوب التعبئة عند الأحباش

يمتاز الأحباش بالهجوم السريع وبالشدة. ويحسن المشاة الرمي فلا يطلقون النار إلا من مسافات قريبة حرصا على ذخيرتهم وعندما يقتربون من أعدائهم يحملون عليهم صارخين فيستعملوا سيوفهم العريضة في الحملة وجها لوجه، وبرغم وعورة الأرض يحسن الأحباش الركوب. وإذا ما وقع في أيديهم بغل أو جواد ينقلب المشاة حالا إلى خيالة، ويسير المشاة بسرعة ويستخدم الأحباش في الأغلب الخيالة في المجنبة، وذلك للالتفاف حول العدو وقطع

ص: 41

خط الاتصال عليه وإذا ما انتصروا عليه قضوا عليه القضاء المبرم بقتل رجاله جميعا. أما في الدفاع فيحسن الأحباش الاستفادة من الأرض ويعمدون إلى الكمون والمباغتة بنجاح

الجيش الطلياني

يتألف الجيش الطلياني من القوات الطليانية والأهلية المرابطة في مستعمرة إريترية والقوات التي يمكن جلبها من إيطاليا

واستخدم الطليان في بادئ الأمر السودانيين والصوماليين وبقايا الجنود المصريين في المستعمرة بعد أن جعلوا نواة القوة من الطليان

وكانت القوة بعد الاحتلال بثلاث سنوات مؤلفة من ألف جندي، وفي سنة 1894 نسق الطليان جيش المستعمرات بتأليف من وحدات طليانية ووحدات أهلية بقيادة الضباط وبعض ضباط الصف الطليان

وكانت القوة الطليانية في بادئ الأمر مؤلفة من فوج مشاة وفصيل مدفعية. أما القوات الأهلية المختلطة فكانت مؤلفة من بطارية وفصيل هندسة ووحدة درك وجنود نقلية

(يتبع)

طه الهاشمي

ص: 42

‌المشكلة.

. .!

للأستاذ كامل محمود حبيب

دخل الشاب مستأذنا؛ فخلع طربوشه، وألقى عصاه، ثم جلس مبهوراًتتتابع أنفاسه، ويزدحم الكلام على شفتيه، لا يكاد يبين معنى من معنى، أو يستقر خاطره على شيء؛ فما استبنت إلا قوله يختتم الحديث بكلمات متقطعة منهوكة:(نعم، وقعت المشكلة! وقعت المشكلة! فأين أجد الخلاص؟)، وكنت وقفت عند قول أستاذنا الرافعي في مقاله بمجلة (الرسالة الغراء)(ووقعت المشكلة. . .) فعرفت ما يعني صاحبي، وهو كان صاحب هذا الحديث، ومحور رحاه، على أن الرحى لم تطحن إلا قلبه هو، وكان قد كتب إلى أستاذنا يطلب الخلاص، فأين رأى الخلاص من نصح طبيبه. . ما أمر الدواء لو يجدي، وما أقسى الطبيب. .! وقلت في نفسي:(وا أسفاه لهذا الشاب!! أثقل عليه أن صفحة من صفحات قلبه قد نشرت، وهو كان يحمل الهم كله في صدره فما يثقل عليه؟ ويل للشاب من الشيخ، فذلك يتكلم بوجدانه وعاطفته وقلبه، وذاك بعقله وتجاربه وفلسفته. فأين يلتقيان؟)

ثم استوى الشاب في مجلسه وقد اطمأن قليلا وسرى عنه بعض ما كان فيه من اضطراب وقلق، ثم قال: (أترى ما فعل بي أستاذنا؟ لقد كنت - بادئ الرأي - في عينه مهذبا، متعلما. ذا رأي وبصر؛ فما هي إلا دورة الكلام فإذا أنا ساقط، مرذول، ضعيف الرأي! أفترى على الشاب من حرج أن يحلق في سمائه، يفتش عن قلبه الطائر حتى يرى ضالته. .؟ والطائر الغريد - يا صديقي - ينقب عن أنثاه التي تساكنه عشه، وترعى أفراخه. أفيكون لأبيه أن ينتقي له أنثاه من بين عصافير الغاب، أم تراه هو. .! أو تحسبها هي تستقر إليه إذا لم تر في ظل جناحه الرأفة والحنان والحب! أرأيت يا صديقي؟ أرأيت هذا الطير، يطير عن أنثاه إلى غيرها، وهو نفسه الذي تعلقها، وفتنه ما فيها من أنوثة وجمال؛ وهو نفسه الذي اختارها لتشاركه حياة الطير، وزقها وزقته، وبادلها وبادلته الحب والحنان؛ أم كان ينتقص من حريته، ويسلب رأيه لو كان تعلم. . .؟

إن الذي تعلم منا، قد تعلم ليمسك بمفتاح القيد الذي ضمت به إحدى رجليه إلى الأخرى، وشدت إحدى يديه إلى الثانية، وماذا يكون وراء العلم إن لم يكن هذا؟. وإذا كان الرجل يقول:(هذا أبي، وتلك أمي، وهؤلاء أهلي) لينتسب إليهم، أفيخرج عن أهله إن هو قال:

ص: 43

(وهذه زوجتي؟) وإذا كنت رجلا تنفذ إليه المرأة بين الشيطان والحيوان منه، ويصده عنها الرجل الذي في عقله، أفكنت غير الرجل الذي يريد أن يتمم القصة التي أتمها الله لآدم بحواء؟ وهل قال الله لآدم:(هذه متسماة عليك؟) أم قال لملك الحب: (ضع سحرك، وابذر لغرسك؟) فهم آدم ليعانق حواء، وهمت هي لتعانقه، فبدت الطبيعة أجمل ما تكون في عين رجل وامرأة، ورأى بعين الحب التي تشع نظراتها من القلب، وهو كان يرى بعين الجسد فما وراء نظرته معنى ولا عاطفة. ثم خلق من حبهما شاعرا، وأديبا، وفيلسوفا، وعبقريا و. . . وعاشقا وعاشقة

قلت: وي! كأنك طرت من الدنيا فلم تهبط إلا في الفردوس؛ كأنك لا ترى أنك في حجرة إن لم تكن ضيقة فهي ليست بالواسعة!

واندفع الشاب في خياله، وكأنه أراد أن يجمع إلى كتبه التي يطالعها؛ ويرى الجمال في صفحاتها، صفحة أخرى من جمال الطبيعة، وثالثة من جمال المرأة؛ وظن الجمال في عقله عند الكتاب، وفي نظرة تحت ظل شجرة وارفة على ضفاف الوادي، في قلبه عند امرأة جميلة يميل إليها ويحبها ويرافقها إلى حيث يشبه الطائر الذي تحدث عنه؛ وفي أذنه عند زقزقة العصافير، وفي حديث هذه الفتاة التي يزعم عندها الجمال والرقة والعقل؛ وفي شمه عند نسيم الصباح وشذى هذه المحبوبة التي عرفها وهيمها وهيمته، وخيل إلي أن تعاويذها قد فعلت فيه، وأن قارها قد نالت منه، وأنه قد أسلس لها وانقاد، فقلت: أما أنت منها فكالذي نوم فهو يسير على غير إرادته، أو سحر فهو ينظر بغير عينيه، أو التاث فهو يمشي في غير طريقه؛ وأن كان أستاذنا قد قال: فما يملك أن يرفع السحر عنك، ولكن في كلماته سحرا من نوع آخر. . .

قال: والذي يذهب بعقلي أن يقول الناس: إنك مسحور أو بك لوثة؛ وقد تعلمت - فيما تعلمت من حياتي - أن أفكر بعقل الفيلسوف، وأن أطير في سماء الخيال إلى حيث أقع؛ ولئن كان الخيال قد أضر بي قليلا، إنه لقد شب معي مقدار ما شب عقلي معي، فكان عقلي وخيالي، ثم كانت حياتي وكلها دراسة عميقة فلسفية - فحجب عقلي خيالي حينا، ثم عاد خيالي للظهور مع هذه، ولكنه لم يحجب عقلي، وكانت هي عقلا إلى عقلي، وليست خيالا إلى خيالي؛ فكان عقلي أولاً ثم خيالي الصغير، وكانت تقول: (أنا لك بعد عملك ومستقبلك،

ص: 44

ولست لك إلا أن تكون رجلا فذا) فتدفعني بكلماتها وقلبها وعقلها إلى المثل الأعلى. فيا ضيعة الأمل إن خاب هذا المثل، ورددت إلى منزلي لأرى فيه مصيبتي!! ويا خيبة الرجاء إن صرت كذلك الحداد أو النجار أو الحوذي، أو. . . أو غيرهم ممن لا يرون في الحياة إلا أنها اللقمة والثوب والمأوى، ثم. . . ثم ذلك الضجيج البيتي الذي يصبح فيه هو وزوجته ويمسي، والذي يشب عليه أبناؤهما فيأخذون من سوء الخلق، وضعة الأخلاق، وسفالة الطبع، والشقاق، والتنابذ، مما رأوا عليه أبويهم

إن أستاذنا ليقول: إنها فتاة الشعر والخيال، وما هي كذلك، وما قابلتها مرة، أو حاولت ذلك إلا بعد أن خلع عني خيالي، لأخاطبها بلسان الفيلسوف، وعقل الحكيم، وكم أردت أن أقول لها:(أي فتاتي. . . . . .) لأندفع في غزل رقيق، فكانت تنظر إلي بعين تقول منها:(ليست هذه لغتنا. . .) فأرتد لأقول: (ولقد قرأت. . . . . .) ثم أخلو لنفسي لأشبع رغبتي في الحديث الآخر. . . بيني وبين نفسي. . .!

قلت: أفترى أن الفيلسوفة العالمة تستطيع أن تكون زوجا وربة دار، وأن تكون أما ومديرة بيت؟ وهل تراها تنشئ لك الحياة التي قدرتها في خيالك؟ إن الحياة - يا صديقي - شيء غير هذا كله، وإنك لمن بيت فيه الدين والاحتشام والشهامة؛ أفليس من ذلك كله أن تمسك عليك زوجك التي اختار أبوك، وأن تمنحها من نفسك ما يمنح الزوج؟

قال: إنك تنحو منحى أستاذك. أفتريد أن تضيف إلى همومي هماً آخر، وأنا جئتك أستعينك على همي. . .! لقد كان أستاذك في مقاله كالذي ينزع سكينا هو أغمدها في صدري ليداوي جرحا هو الذي بلغ به هذا العمق العميق، حتى إذا ما التأم أو كاد، عاد فنكأه، ثم عاد ثالثة ليداويه. . .! وصاحبتي التي اصطلحتما عليها لم تكن مني إلا بمنزلة المنظار من عين الأعشى ينظر من خلاله إلى هذا العالم فيرى ما يراه ذو العين الصحيحة؛ ولم تكن من قلبي إلا بمنزلة الاطمئنان من قلب مضطرب، ولم تكن من عقلي إلا بمنزلة الطبيعة تفتح فيه طرقا معبدة؛ ولم تكن من حياتي إلا بمنزلة الصديق الوفي. ولعلك تذكر يوم أن كتبت إليك وكنت بعيدا:(لقد أبللت من مرضي. . .) كان أخي في منأى عني، ووقفت زوجتي جوار سريري، لا تعرف كيف تصب الدواء في فنجانه، ولا متى يكون. وهفت نفسي إلى التي أحبها حين خيل إلي أني أموت فكتبت إليها وألححت؛ فزارتني على استحياء، ثم ألححت

ص: 45

فوقفت مني موقف الطبيب من مريضه. . . ثم كتبت إلى أهلي تقول: (إن أبنكم يحتاج إلى من يقوم عليه. . .) كتبت ذلك حين رأت أن في زيارتها شيئا، ثم. . . ثم لم تعد

ولم أبللت وخرجت للقائها قالت: لقد كنت قاسيا، وما استطعت أن أرفض حين رأيت الخطر. وما كان أجدر بي وبك ألا نقطع هذه المرحلة. يا لشقائي بك! ويا لشقاء زوجك بك! لقد أصبت قلبين بسهم.

وقالت لي وقلت لها، ثم افترقنا، وأردت أن أهب إلى التي في داري بعض نفسي فأشعرها بأننا أنثى ورجل؛ فارتد قلبي عنها، ثم أرغمته فارتد أخرى، وأظلم منزلي من بهجة العزوبة ومن جمال الزواج معا. وأصبحت الدار التي جعلتها لسكناي هي جحيمي، ففررت إلى الشارع وإلى عملي؛ وشعرت الأخرى أنها لا تملك في هذا المنزل ما تملكه الزوجة ففرت إلى حجرتها وإلى خادمتها؛ واعتزلتها، واعتزلتني؛ ورجعنا إلى ما كان، حين كان بيننا (الباب المغلق) سنوات تسعا

قلت أن أولى الناس بإحسان المحسن، هو القريب، فالجار الجنب، فالصاحب بالجنب؛ وقد عرفتك محسنا، وهذه من ذوي قرابتك، وأقرب إليك من جارك؛ أفلا تكون محسنا معها؟

قال: لقد كنت أستطيعه لو وجدت النور. إنها لظلام وظلام وظلام. . . أما الظلام الأول ففي منزلي، وأما الظلام الثاني ففي قلبي، وأما الظلام الثالث ففي عقلي. . .!

وصمت وصمت؛ وكان كأنه يسترجع الذكرى، ذكرى أيام خلت، ذاق فيها حلاوة العيش، وسعادة الرضى، وكأن حياته بماضيها ومستقبلها قد جمعت في أشهر كانا فيها. . .

ثم التفت إلي كالمذعور وقال: أما أنني كنت معها غير الرجل الذي فيه الرجولة فقط، وأما أنها كانت معي غير الأنثى التي فيها الأنوثة فقط - فلا. إلا أنها كانت توحي إلي بكلام هو من لغة السماء، وتصب في حياة هي حياة أهل الخلد؛ وكنت إلى ذلك مطمئنا وقد اطمأنت هي أيضا إليه. وقنعت وقنعت. والناس يرون في الحب الفاحشة ولا يرون فيه المجد. والذي يعيش في حياته بلا حب كالشجرة العانس. ليس إلا هي في الحديقة، ولا سبيل إلى أن تجد الشجرة الأخرى. . . فلا هي بالذابلة الجافة، ولا هي بالمثمرة؛ ولكنها بارتفاعها وفقرها تقول:(أنا. . . أنا الموجود الذي لا وجود له.) فما أسرع ما تمتد إليها يد لتقتلعها، وحين ترى نفسها وقد نالتها فأس الحطاب تقول (. . أنا. . ويلي!. . أنا الضائعة). أن

ص: 46

الذي لا يحب الجمال ولا يلتمسه في امرأة؛ ثم يفاخر غيره بذلك، إنه لا يقول للناس (أنا لا أحب ولا أقدر الحب.) بل يقول (أنا. . ما أنا في الأحياء!. . أنا. . أنا ميت الأحياء) والضعف الذي يراه في الذين عرفوا الحب وآمنوا به، إنما هو ضعف في إنسانيته هو لا في إنسانيتهم، والذي لا يدرك الجمال في المرأة لا يدركه في الطبيعة؛ لأن المرأة هي المنظار المكبر الذي ينظر الرجل من ورائه إلى ما حوله. وإلا فهو لا يرى موضعه من الأحياء. .)

أنا. . أنا إنسان ولا أستطيع أن أقول إن كل شيء جميل، وإن كان القبح جمال فقد يكون الجمال قبح؛ ولكن هذه التي يقولون عنها إنها جميلة. . . ثم أرغموني عليها وأرغموها على لا أرى في قبحها جمالا ولا في بؤس الحياة معها فنا. . .

قلت: ويك: لقد اصطرعت في نفسك عوامل رانت على بصرك وتركتك في بيداء من الوهم والخيال، كأنك تريد أن تخلع ثوبك؛ وقد يكون في الذي تخلعه جمال!

قال: أما أن أظل شريدا، فلا. وأما أن أحتمل مع عبئ عبئا آخر، فلا. وأما أنني أهتم بنفسي، فنعم. وماذا يضيرني ويضير هذا العالم بما فيه أهلي وأهلها إذا لبست فوقي ثوبي القديم ثوبا آخر، فيخفي عن عيني وعين الناس هذا القبيح الذي كنت ألبس؟

ثم تركني، وأنا أقول: وا أسفا لهذا الشاب!! أثقل عليه أن صفحة من صفحات قلبه قد نشرت وهو كان يحمل الهم كله في صدره فما يثقل عليه؟ ويل للشاب من الشيخ فذلك يتكلم بوجدانه وعاطفته وقلبه، وذاك يتكلم بعقله وتجاربه وفلسفته. فأين يلتقيان!

كامل محمود حبيب

ص: 47

‌4 - عمرو بن العاص

بقلم حسين مؤنس

تتمة

وانتظمت جيوش معاوية واتخذت سبيلها إلى الشام لتثأر لعثمان الشهيد. . . ولم يعد في نفس أحد منهم شك في أن عليا هو قاتل عثمان. . . وأن حربه والانتقام منه فرض واجب على المسلم الصادق الأمين، ومضى معاوية وعمرو على حصانيهما يتحدثان في الطريق وإن معاوية ليحس خطر هذا الرجل الصامت إلى جانبه. . . إنه ليعجب من هذا العقل الكبير الذي لا يقصر عن غاية ولا يعجز عن أمر. . . وإنه ليخشاه ويرى سلطانه مهددا بوجوده. . . ولكنه يحتاج إليه ولا يكاد يستغني عنه في هذه الملحمة المقبلة. . . ولم يكن عمرو ليفكر في غير ذلك! ولكنه لم يكن منصرفا إليه هذا الانصراف كله. . . فهو يعرف حاجة معاوية إليه ولا يخشى منه أمرا. . . بل هو يفكر في أمر آخر، إنه ليفكر في علي وقوته. . . ويحسب حسابها ويسأل نفسه، ترى ماذا افعل لو أنتصر عليَّ علي وهو أمر معقول جدا. . . وإن عليا لفارس العرب وسيف الله البتار؛ وإنه لصاحب الأيام البيض الخوالد والغزوات الزهر الباقيات، وأن معه لنفراً من الفرسان الصناديد الذين يخشى منهم أي خشية. . . فيهم الأشتر النخمي وفيهم من أصحاب الرأي أبن عباس، وإن في هؤلاء لغناء ومنعة من الفشل. . . فما ترى أبن العاص فاعلا والأمر خطر والبلاء شديد؟

وانتهت الجيوش إلى ضفاف الفرات، واقتربت من طلائع علي وعسكرت في موضع سهل ومنعت الماء من علي. . . وباتت قوات علي عطشى حتى عيل صبرها فحملت على الشآميين فأجلتهم عن موضع الماء. . . وبات الشآميون عطشى فندبوا من يسأل عليا الماء فأجاب!. . . وتلك كانت علة الرجل التي انتهت به إلى الهزيمة في ذلك الميدان، فكيف يثبت الطيب للخبيث، والرقيق للقاسي، والأيمان للحيلة والدهاء! وزاد الأمر بلاء أن عمرا أدرك موضع الضعف من علي، وسنراه سباقا إلى الاستفادة من إيمان علي وشهامته. . . انظر إليه قبيل صفين. . . إنه يدور بعينيه في معسكر علي ليختار الدهاة والخبثاء ويتصل بهم ويشككهم في أمرهم. . . هذا الأشعث بن قيس يتفاهم مع عمرو، وهذا أبو موسى يبدأ يشك في حق علي. . . ثم تبدأ الدعاية القوية في جيش علي نفسه فتقعد همم الناس وتفتر

ص: 48

عزماتهم. . . ويرون قتال أعداء علي تعبا لا طائل وراءه، وإن عليا ليلزم جنوده شدة لا يطيقونها، وإنه ليمنيهم بالجنة دون الغنائم والأسلاب؛ وهؤلاء جنود الشام عليهم النعمة ظاهرة والخير وافر: وذلك عدل معاوية، وكياسة عمرو! ثم انظر إلى ميدان صفين: كيف تهم طائفة من أصحاب علي فتكتسح العدو اكتساحا وتكاد تأتي على معاوية، وكيف تتقاعس طائفة أخرى تكاد تفر من الميدان، وكيف يلقى علي مقاومة من أنصاره ومعارضة من قواده. لقد تغيروا. لقد داخل نفوسهم الشك في عدالة قضيته؛ وإنهم ليرون ظل عثمان ملقى على خلافة على ثقيلا رهيبا. بلى وهذا الأشعث يقعد عن المضي، وهذا الأشتر يمضي، حتى تكاد الهزيمة تحيق بمعاوية. ويشتد الأمر بجند الشام وينظر عمرو حواليه، فإذا الأمر مقضي، وإذا الهزيمة قاضية، فينحى على معاوية ويلومه لوما شديدا. لقد بدا له أنه (خسر الصفقة) وأن السوق قد أتت بغير ما كان يقدر. إنه لثائر مغضب يلوم معاوية، فيشتد في لومه، وإنه ليعتبره مسئولا عن الخسارة التي حاقت به، وإنه ليصارحه برأيه وبمكنون سره ويقول له:(يا معاوية: أحرقت قلبي بغصصك؛ ما أرى أننا خالفنا عليا لفضل منا عليه! لا والله، إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وايم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك أو لأنا بذنك).

وإنه ليندم على ما أتى من انضمامه، وقد نسي قدر علي وقوة جنوده؛ ولآن اتضح له الحق فهو يلوم ويندم، ولكن ماذا يجدي، ، عن الخطر ليقترب، وإن جنود علي لتكاد تمس جفاء معاوية؛ وإنه ليركب حصانه، ويهيب بعمرو:(الله. . . الله. . . في الحرمات والنساء والبنات: هلم مخبآتك يا أبن العاص فقد هلكنا)، ولكن كيف يسرع أبن العاص إلى مخبآته، ويطوي خيامه ويلوي هاربا، وما بعد؟. . . إنه لينظر بعيدا، وإنه ليرى عليا متعقبا إياهم حتى يقبض عليهم في عقر دارهم. . . كان هذا أمرا يخيف أبن العاص. . . فانظر كيف يستغيث وكيف يحتمي بكتاب الله. . . لقد عرف أن في بعض رجال علي ميلا إلى المهادنة وترك القتال. فرأى الاستفادة منهم. . . ثم أخذ يسأل نفسه قائلا: ترى أي شيء يجله هؤلاء القوم في هذه اللحظة التي تنكروا فيها لكل شيء؛ فتجيبه نفسه: كتاب الله. . . فيجيبها: فلنعتصم منهم بكتاب الله، ولنرفع المصاحف على الرماح؛ فيجب نفسه. . . بلى. . . هو الرأي الصواب. فترفع المصاحف على الأسنة ويراها أصحاب علي، وكأنما كانوا يترقبون فرصة يكفون فيها عن القتال فيرون في هذه حجة كافية، ويكفون ويحتجون بكتاب الله،

ص: 49

ويدور علي بعينه في معسكر عدوه ليرى مطلع هذه البدعة فيجد انه عمرو. وهنا ينكشف لعينه سرها. . إنها خدعة. . إنها حياة، ولكن قومه لا يسمعون. وهاهي صفين تنفض، والأشتر يؤمر بالرجوع، وينجو معاوية، ويحول أبن العاص المعركة من حرب السيوف لحرب الفكر واللسان لكي يشل قوة علي، ولكي يكون هو في ميدانه الصالح له. ثم انظر إليه يتدخل حتى في اختيار علي لمندوبه. . . إنه ليتصل بالخونة من أنصار علي ويوعز إليهم فيرفضون عبد الله بن عباس لأنه فتى ذكي مخلص لقضية علي. ثم يرفضون الأشتر لأنه متفان في خدمة أبن أبي طالب، ولكنهم يؤيدون الأشعري لأن عمرا يعرف أن بينه وبين علي شيئا، وأن التفاهم قد يجدي معه كثيرا، وينفض الجمع ليلتقي في دومة الجندل

ترى فيما يفكر أبن العاص في هذه الفترة. . . في مصر وأمورها. . . لأنها ستعود إليه بعد قليل. . إنه يكيد لواليها الجديد قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فيشيع في حزب علي أن قيس قد أنضم لحزب معاوية، فيعزله علي ويضع مكانه الأشتر النخمي فيموت الأشتر مسموما عند (مسروره) بالقلزم في 5 رجب 37. . . أترى لعمرو يد في ذلك؟

ثم يكون التحكيم الذي لم يرو التاريخ مثله أبدا، والذي لم يوفق مؤرخ في روايته على أصله أبدا، والذي يرفض العقل أن يقبله في صورته التي وصلت إلينا. . . ولكننا نستطيع أن نفهم منه كيف كان الناس ينظرون إلى عمرو! وكيف اعتبرته الأجيال اشد الناس لؤما وأكثرهم خبثا. . . لقد وفق عمرو توفيقا عظيما. . . ولم يكن توفيقه راجعا إلى مهارته في الكيد وحدها، بل إلى وجود الضعاف والخونة في صفوف خصمه وحسن استفادته من هؤلاء. . . هذا هو يتدخل في انتخاب مندوب علي ويرضى أخيرا عن أبن موسى الأشعري لا لأنه أبله أو شيخ كما يزعم الرواة، بل لأنه غير راض الرضى كله عن علي. . . ولأنه قابل للفتنة مستعد للمساومة؛ وهذا عمرو يخلو به ساعات طوالا يتحدث إليه في الأمر: ويتفنن في إقناعه. . . وينفذ إليه من شتى السبل حتى يوفق إلى تشكيك الرجل في عدالة قضية علي، بل إلى اتهامه بمقتل عثمان. . . فإذا خلص من هذا فقد أفهمه أن لعثمان أولياء يطلبون ثأره من القاتلين. . . وأن الأولياء هم معاوية وعامة آل أمية. . . فإذا خلص إلى هذا فقد أقنع خصمه بعدالة ثورة معاوية. . . ثم يسأله: فماذا يا ترى؟. . فيصمت الشيخ فيقول عمرو: أننا نرضى بتنازل علي ثمنا لدم عثمان؛ فلا يرى أبو موسى

ص: 50

حرجا في ذلك. . . ويطرب لذلك عمرو، فقد خسر منافسه الخلافة ولم يخسر هو شيئا. . . وهو إنما يرجو أن يخلع الخلافة عن علي ليصير هو ومعاوية صنوين. . . ثم إنه يعرف أن أنصار علي ملتفون حوله لأنه خليفة، فإذا زالت عنه هذه الخلافة تفرقوا. . . وقد أفلح. . . بل أن أنصار علي ليتفرقون قبل خلعه في التحكيم. . . ويصبح معسكره فوضى. . . وينفض الخوارج ويتفرقون ويحاربهم في النهروان. . . كل هذا يرضي عمرا لآن فيه أضعافاً للخصم، فإذا تم الأمر ونزعت الخلافة لم يصبح لعلي بعد ذلك شيء ويذهب أمره هباء

ثم يعلن الحكمان ما وصلا إليه: لقد رأينا خلع علي. . . لقد ثارت الفتنة واضطرب الأمر وأسقط في يد علي وأنصاره. . . وقد كسب عمرو كل شيء وأصبح علي عاجزا عن استنهاض همم جنوده لحرب معاوية. . . وقد قوى أنصار هذا الأخير فخافهم الناس واتحد جند معاوية وقوى أمرهم واشتد ساعده بهم، واستطاع أن يفصل عن علي بلاده جزءا جزءا حتى إذا قتل سنة 40هـ لم يكن قد بقي في يده من الأمر شيء

هكذا فعل عمرو: فرق الصفوف وأشاع الفتنة وأقام هذه الفوضى التي لم يخلص الإسلام منها إلى أواخر أيامه. . . لكي يصل إلى شيء واحد. . مصر. . لقد باع الحق وارتهن الفضيلة، وساوم على طمأنينة الدولة الإسلامية ليكسب شيئا واحدا، هو مصر بخيرها وبركاتها

وانظر إليه لقد أسرع إلى مصر ستة آلاف مقاتل، يقطع بهم سيناء على عجل سنة 38هـ، فإذا أشرف عليها فقد أرسل يهدد محمد بن أبي بكر الصديق ليخلي بينه وبين ما يريد. ولكن محمدا رفض، ولم يدر أن غريمه قد باع الدنيا والآخرة بهذا الذي يعارضه فيه؛ والتقى الجمعان، وفر محمد وتبعه معاوية بن حديج وقتله في المنشأة

ثم انظر صراعه مع معاوية على مصر. إن الأول ليستكثر عليه هذا البلد الغني الطيب، وإنه ليراه غير أهل لتلك النعمة الوارفة. فإنه لجالس ذات يوم في نفر من صحبه وفيهم عمرو فيقول:

- ما أعجب الأشياء؟ فيجيب يزيد أبنه:

- أعجب الأشياء هذا السحاب الراكد بين السماء والأرض. . . وقال آخر:

ص: 51

- حظ يناله جاهل، وحرمان يناله عاقل. وقال عمرو:

أعجب الأشياء أن المبطل يغلب المحق. فيسرع معاوية ويقول:

- بل أعجب الأشياء أن يعطى الإنسان ما لا يستحق إذا كان لا يخاف

بلى فهو أعجب الأشياء. . . وهل يستحق عمرو مصر وهولا يخاف (الله)

ذلك رأي معاوية في عمرو. . . ثم انظر إلى معاوية يحترس من عمرو في كتاب توليته فيكتب: (على ألا ينقض شرط طاعة. . .) فيمسك عمرو بالقلم ويبدلها: (على ألا تنقض طاعة شرطا)

وعاش عمرو بعد ذلك ما شاء الله له أن يعيش، وأنجاه الله من يد قاتله لكي ينعم قليلا بالشجرة الخضراء التي خسر في سبيلها كل شيء. وتردد بين الشام كثيرا، ليجلس إلى معاوية. . ثم ليخلو إلى أولاده، وكانت مصر قد صارت له طعمة، فاطمأن باله وترك الكفاح والجلاد، ولكنه لم ينس الكسب والخسارة إلى آخر أيامه؛ فإنه لجالس مع معاوية يوما إذ سأله هذا ما بقي منك يا عمرو؟ فيجيب. مال أغرسه فأصيب من ثمرته وغلته. . .)

أجل لازال في سن السبعين يفكر في غرس المال والإصابة من ثمرته وغلته؛ وهكذا ينبغي أن يفهمه الناس، فأن اجتهاده في السياسة ونبوغه في الحرب كان مصدرهما شيئا واحدا: الرغبة في الكسب والربح. . وقد انتهت جهوده إلى شيء واحد، لا هو الملك ولا هو الثواب. . بل ليست هي الآخرة نفسها وإنما هي مصر. . أغنى ولايات الدولة وأوفرها مالا. وقد مات وخلف ألف ألف درهم كما يقول المسعودي ودورا عديدة كان يمتلكها في مصر والشام.

(تم البحث)

حسين مؤنس

ص: 52

‌الصحراء

للأستاذ عبد الرحمن شكري

أرُحبُكِ أم صمتٌ الأرض على غالب

غدا مُصحِرٌ من روعه وهو هائب

كصمت الخشوع المطرقين تروعهم

مقابرُ صرعى للردى وخرائب

وصمتٍ لِذِي المحراب في بيت ربه

يقاربه في صمته ويخاطب

توَقَّعَ من قد غاله الصمت هاتفاً

يكلمه من فرط ما الصمت راعب

كمخترق الظلماء لاح لعينه

إذا جال فيها اللحظُ ما هو غائب

حَرّي أن يناجي النفس فيك أخو الحجا

ويخشع صمتاً راكب فيك ذاهب

ويخشع من رُحبٍ كأن لا مدى له

حكى أبداً ما حَدَّهُ الدهرَ حاسب

ويخشع أَن لا شيَء إلا مجانسٌ

فلم يُلفَ إلا مُشبِهٌ أو مناسب

وكم راع رأى العين إِن كان لا ُيرَى

سوى الشَّبهِ يتلوه الشبيه المصاقب

حكى خدعة الآمال آلك رافعاً

على الأُفق بُشرّى كذبتها العواقب

سراب الأماني في الحياة خديعةٌ

وقد تُهلِكُ المرَء المنى والرغائب

ومن ضل في خرق من العيش لبه

كمن خذلته في الفيافي المذاهب

تَفَتَّحُ أبواب الجحيم عن اللظى

كأن شواظ القيظ يسفيه دائب

سموم كَدُفَّاعِ البراكين أو لظى ال - حرائق يصلاه الحصا والنجائب

ويصلاه ركبٌ خال دنيا تقلَّصت

عن النار لو يسعى جحيمٌ مقارب

ويَسوَدُّ وجه الأفق حتى كأنما

ذُكاءُ دجت أو يكسف الشَّمسَ حاجب

وكم حار ركبٌ من فجاءة صحوة

كما راعَ مرأى الحسن والعُرى سالب

إذا الجو كالِبلَّورِ أُخِلصَ لونه

وصب عليه من سنا الشمس ساكب

كذلك غب الغيث ريعان بهجة

كأن طلاءً قطره وهو صائب

كأن ضياءً في سواد سَحَابةٍ

تكاثر حتى ثَقَّبَ الدجنَ ثاقب

تَفَجُّرَ ينبوع من النور غامر

كما غمر الأرضَ المياه السوارب

ضياءٌ ترى المألوفَ من كل منظرٍ

به فإذا المألوف منه الغرائب

وما فرحة الولهان عاد حبيبه

بأصدق منها فرحةً وهو آيب

ص: 53

نهارك أم ليل الدارىِّ نائل

من اللب نيلاً لم تنله الكواعب

أديم سماءٍ يُبْرِزُ الشهبَ صَفْوُه

فأحسبها تدنو به وتقارب

أما يخشع السُّمَّار من كثرة الدنى

ويذهل من رحب الفضاء المراقب

يبيت يناجي النجم والنجم سامر

فتُفْضي إليه بالحِوارِ الكواكب

كأن لحاظ النجم من لحظ عاقل

وأن رقيباً في السماء يراقب

يسائله عن عيشه أين سره

كأن وراء النجم ما هو طالب

إذا خط فيك الدهر سطراً محوته

كذا اليم، لا يقوى على اليم كاتب

وتُرْقل فيك اليعملات وإنما

سفائن لج البيد تلك الركائب

وللبحر أمواج وللبيد مثلها

إذا هب إعصارٌ على الركب كارب

فيغرق في لجٍ من الترب حائن

كما احتشدت فوق السفين السوارب

ورحبك رُحْبُ البحر يطويك هائب=ويركبه ذو مطلب وهو هائب

بافقكما للشهب رهب وروعة

جلالكما شِبْهٌ وشبهٌ مقارب

وذي دولة في اليم قد دال أمره

وآخر أردته لديك المطالب

ويصغر عيش المرء في اليم مثلما

تضاءل فيك عيشه والرغائب

لِمَحْلِكِ يلقى مكرم الضيف ضيفه

بخير، وأما خصمه فهو سالب

وتشحذه الأخطار حتى كأنما

بنوك سيوف ينتضيها المحارب

لقد صقلتها نار قَيْنٍ وصيقل

كما صقلتهم في الحياة النوائب

تَنَسَّكْتِ في بُرْدِ التقشف لم يَلِنْ

معاشٌ ولا ترجى لديك الأطايب

عبد الرحمن شكري

ص: 54

‌لُبْنَان

(تهدى إلى أخي الأستاذ علي طنطاوي)

لشاعر الشباب السوري أنور العطار

غاَبَ لُبْنَانُ في رَقيقٍ من الغَي

مِ كما غَابَ في مَدَى اليَمّ زَوْرَقْ

ضَفَرَ الثَّلْجَ والسَّحَائِبَ تَاجاً

وَاخْتَفَى في الضَّباَبِ ثُمَّ تَعَلَّقْ

الهِضَابُ الشمُّ اكتَسَتْ وَرَقَ الخُلْ

د وَطَافَ الرَّبيعُ فيها وَأحْدَقْ

والرَّوَابي تَوَسَّدَتْ رَاحة السُّحْ

بِ ونَامَتْ على وِشَاحٍ مُرَقَّق

والذُّرَى البيِضُ في العَلاءِ نُسُورٌ

حَوَّمتَ تَكشِف الخَفيَُّ المُغَلَّقْ

نَشَرَت في الفَضاءِ أَجنُحَها الزُّه

رَ فأَسنى بها الوجودُ وأشرَقْ

والقُرَى غلغلَتْ بأَخبيِةِ الغيْ

بِ وَضاعت بين الغَمامِ المنمَّقْ

غَرَقٌ ملؤُهُ فُتُونٌ وسَحرٌ

ونعيمٌ ضافٍ وحُلمٌ مزوَّقْ

والينابيعُ ضاحكاتٌ من الزَّهْ

وِ ترامى فيها السَّنا وتأَلقْ

سردتْ قِصَّةً من النَّغمِ الحُلْ

وِ ومنْ سجعةِ الحَمامِ المُطوقْ

ضَجَّتِ الرَّبوةُ الأنِيسةُ بالشَّدْ

وِ وغنَّى السفحُ الحَبِيبُ وزقزَقْ

وتَمَشَّتْ بالغابِ موجةُ أُنَسٍ

فَشَدا الأَرزُ والصَنوبرُ صفقْ

وتَرَاَءى البحرُ البَعيدُ كَحُلمٍ

مُبهمٍ راجِفِ الخيالِ مُلفَّقْ

سَرَقَتهُ في السماء الأُفقِ النَّا

ئي فمن أَبصرَ الخضمَّاتِ تُسْرَقْ

حَبّذا في رِباعِ (زَحْلَةَ) وادٍ

برعمَ الحبُّ في حِماهُ وأورَقْ

وبِأفْياَئِهِ اللِّطافِ الحَوَاني

سَرَبَ النَّهرُ كاللَّجينِ المُطرَّقْ

وترامى الصَّفصافُ في مائِهِ الرَّق

راقِ يَسجُوا على الضَّفافِ ويغرَقْ

وعلى السّفحِ تَسترِيحُ الدَّوالي

في نِظامٍ حلوٍ ونهجٍ مُنسَّقْ

والعناقيدُ بينهُنَّ نَشَاوى

ثَمِلاتٌ مِنَ الرَّحيقِِ المُعتَّقْ

رَنَّتِ الخَمرُ في ظُرُوفٍ من النُّو

رِ وَكادَ الشذا يُشمُّ وينشَقْ

ذاكَ (صِنِّينُ) فَيلَقٌ في السموَا

تِ وفي الأرضِ جاثمٌ منه فيلقْ

هوَ جارُ النُّسورِ حَطَّ على الغي

مِ وَأَسرى إلى العَلاءِ وحَلقْ

ص: 55

والسُّهولُ الفِساحُ دُنيا من الإلْ

هامِ تَندَى مِنَ الطُيوبِ وتعبَقْ

والمساءُ السَّاجي البهيُّ رُسُومٌ

وَرُؤىٌ كلها تحبَّ وتُعشَقْ

والقطيعُ المِمرَاحُ غَنَّاهُ راعيِ

هِ فأصغى مستمهِلاً وتشوَّقْ

هَدهَدَتهُ الرَّبابُ فَانسَابَ كالنْه

رِ وأهوى من الرُّبى يتَدَفَّقْ

ملأَ الكونَ بالثُّغاءِ فما تَس

مَعُ إلاَّ صدى يطِنُّ وَيزعَقْ

عَادَ واللَّيلُ مُتعَبٌ هبطَا لأَر

ضَ وأَغيا على الجِبَالِ وَأَطبَقْ

إِيهِ لُبنَانُ يا نَشيدَ الأَناشي

دِ ويا صُورَةَ النّعِيمِ المُحَقّقْ

عَالَمٌ أَنتَ للهَوَى والأَماني

يُشتَهَى السَّحرُ في حِماكَ فيُخلَقْ

دَرَجَ الحُبُّ في ثَرَاكَ نَقِيَّا

ولهُ فتنةٌ تَرُوعُ وَرَونقْ

وبِأعطافِكَ الرَّقاقِ الحَوَاشِي

وَقفَ الحُسنُ خاشِعا ًثُمَّ أَطرقْ

. . . وتطَلعتُ مِنْ مشارفِ لُبْناَ

نَ أُناجي منْ صفحةِ الغَيْبِ جلّقْ

تلكَ مأْوَى رَغَادَتِي وَخَيالِي

وبها قَلْبَي اللهيفُ مُعَلقْ

أنور العطار

ص: 56

‌جنازة السلام

بمناسبة الحرب بين إيطاليا والحبشة

للأستاذ محمود غنيم

أرأيت إذ وُلِدَ السلامْ

فنَعَوْهُ من قبل الفطامْ

وضعته (أُورُبَّا) لنا

يا ليت (أوربا) عُقَام

طفلٌ بريءٌ ذاق مِنْ

يد أمهََّ كأسَ الحِمام

نحروا الغلامَ ضحيةً

في عيد ميلاد الغلام

لهفي عليه ممزَّقَ الْ

أوصال مُنْتَثِرَ العظام

عصفت به ريحُ الوغى

عصفاً وغطّاه القتام

فمضى شهيداً ما له

قبرٌ يُزارّ ولا مقام

ليس السلامُ بسائد

مادام في الدنيا حُطام

ما الناسُ إلا الناسُ في

عصر الضياء أو الظلام

سيَّان مَنْ سكن القصو

رَ الشمَّ أو سكن الخيام

بِسوَى الدمّ المسفوح لا

يُرْوَى لظامئهم أوام

وأحبُّ ما وقعت علي

هـ عيونُهم جُثَثٌ وهام

وهو ابنُ آدمَ ينتشي

من حُمْرَة الدم والمدام

الذئب كالإنسان لو

يتعلم الذئبُ النظام

فكلاهما وحشٌ حد

يد النّاب يلتمس الطعام

سِيَّان عند الفتكِ نا

بُ الليث أو حدُّ الحسام

قالوا السلامُ فقلت ما

أقوى اللسانَ على الكلام

وتعاهدوا فسألتُهم

ما حَدُّ مَنْ خَفَرَ الذمام

أبغصن زيتون يُجا

زى أم بصارم الانتقام

قالوا السلامُ فقلتُ كم=قد حارب الرُّسُلُ الكرام

لا (الفاتيكانُ) من الحرو

بِ نجا ولا البيتُ الحرام

قد كانت الخلفاء تُص

لَبُ بين زمزمَ وَالمقام

ص: 57

كلٌّ يُشيرُ إلى السلا

مِ بعين ذئبٍ لا تنام

وأمامهُ أُسطولهُ

ووراَءه الجيشُ اللُّهام

فَقَدَ المهنّدُ عرشَه

والمُلكُ ليس له دوام

نارٌ وغازٌ فاتكٌ

بدلَ الأَسنة والسَهام

شبح المنَّية جاثمٌ

فوقَ المياهِ أو الرغام

أو في الفضاء مرفرفٌ

بجناحه مثلَ الحمام

جبَّارَ رُوماَ سوف تَلْ

بَسُ تاج قَيْصَرَ في المنام

أتريدُ ويحك أن تُؤَ

خِّر أهْلَ جيلِك ألفَ عام

ولّى زمانُ القيصر

يَّةِ والقياصرةِ العِظام

أوَ ما رأيتَ الحكم با

ت الآن في أيدي الطّغام

ولقد مشَيتَ القهقَرى

ومشى الزمانُ إلى الأمام

أإذا صفا جوُّ السلا

مِ زَفَرْتَ فانتشر الغمام

رُحماك هل تشكو إلي

ك الأرضُ من هول الزحام

لم تَخْبُ نارُ الفتنة ال

كبرى وجُرْحُ الكون دام

ولقد تحديْتَ الأنا

مَ فكنت سخريةَ الأنام

أسرفتَ ويحك فاتئد

ماذا جنى أبناءُ حام

لا تحسبَنَّ مرابضَ الْ

آسادِ سهلَةَ الاقتحام

هذي معاقلُهم فمن

لك بالبواذخ من شمام

هاهم خصومُك حول شَ

طَّ المَنْشِ إن شئتَ الخصام

القابضون على جني_فَ ورهطهِا مثلَ السوام

قالوا الحصارُ فأذعنت

(والقول ما قالت حذام)

أخذوا على روما المسا

لكَ فهْي في ضيق المسام

عَجَبي على باغٍ يقو

لُ لمن بغى: هذا حرام

استَعْمَرُوا فتلثّموا

وخرجتَ مكشوفَ اللثام

رمتَ التّنَمُّرَ مثلَهم

فظهرت في ريش النّعام

ص: 58

شررٌ بروما طار يو

شِكُ أَن يكون له ضِرام

الشعبُ هُدَِّدَ بالطّوى

والجيشُ بالموت الزؤام

يتساءل الأقوامُ هل

(نيرونُ) بعد الموت قام

زعزعتَ أركان السلا

مِ فَذُقْ مرارة الانهزام

كوم حماده

محمود غنيم

ص: 59

‌القصص

أقصوصة عراقية:

أبو جاسم

للأستاذ محمود. ا. السيد

- 1 -

حدثني صديقي إبراهيم والذكرى تؤلمه، قال:

(كنت في المدرسة الثانوية - السلطانية العثمانية - قبل احتلال الجيش البريطاني بغداد بسنة أو أقل، أصاحب طالبا من ذوي الذكاء الواعد والخلق الجميل. كنت في السادسة عشرة من العمر. وكان هذا الصديق - وأسمه علي بن حسن - خير عون لي في المدرسة. وكنت أعجب بذكائه. . وكان طليقا جريئا يسمو على أقرانه بكثير من المزايا والصفات

وكان إلى جانبنا طالب آخر يكمل لنا (ثالوثا) مقدسا بالإخاء والود أسمه عبد العزيز. وهو من أبناء الطبقة العاملة. وكان أكبرنا سنا وأقلنا تهذيبا، وأجرانا قلبا، يقلدني وعليا في الاعتزاز برجال التاريخ الإسلامي العربي: أجدادنا الأولين. وذلكم كان ديدننا في ذلك العهد: فجر الحرب العالمية الاستعمارية الكبرى وضحاها

وكان أكثرنا حبا لبغدادنا وإيغالا فيها. . . يعاشر خارج المدرسة فتية من أبناء طبقته المكدودة فيشاركهم فيما يعتقدون من باطل العقائد والخرافات. وكان يرى - فيما يرى من غريب الآراء - أن القبعة العسكرية (الأنورية) التي ابتدعتها الحكومة الاتحادية إبان الحرب لرجالها ولطلبة المدارس، قبعة إفرنجية، حرام على المسلمين لبسها، أن رباط العنق رمز للصليب. ولم يلبس القبعة حتى أخر يوم من أيامه في المدرسة، فكان الطالب الوحيد البارز من بين الطلبة بطربوشه الأحمر القديم. أما أنا وعلي فقد لبسنا القبعة تلك لأننا لم نستطيع أن نشذ عن الجماعة شذوذه.

وكان هذا الصديق الجريء، يقضي أغلب أوقاته في منازعة الطلبة وتحديهم، فكنت أنصحه راجيا منه أن ينصرف عنهم وعن منازعاتهم إلى التوفر على دروسه فما كان النصح يجدي

وكان يؤسفني أنه عرف آخر الأمر بأنه شكس سيئ الخلق، وإن كان في الحقيقة طيب

ص: 60

السريرة خيرا. ولعلهم كانوا يعيبون عليه كرهه للبس القبعة (الأنورية) لغير ما سبب معقول. وكانوا يتخذونه وطربوشه القديم الذي أوشك أن يبلى هزوا؛ وهذا ما كان يهيجه. ولم يزده عقاب المدرسة إياه على شغبه إلا جرأة واستمرارا في الشغب والنزاع والخروج على (النظام)

وكما كان يكره القبعة، كان يكره الحكومة - الاتحادية - أشد الكره، لأنها حين اضطرمت نار الحرب جندت أخاه الكبير وأرسلته مع من أرسلت من أبناء العراق إلى سوح الوغى في القوقاز، ففقدت بذلك أسرته قوامها وسبب حياتها، كان قائما مقام أبيه الشيخ الكبير الذي لا يستطيع عملا، وكان يحسب أنه لاحق به في العاجل القريب

وظاهر أن هذا المسلك الذي سلكه عبد العزيز يومئذ كان يجب أن يؤدي إلى الشر. وكان يجب أن يكون مصيره (الطرد) من المدرسة والحرمان من العلم. وكان متوقعا كذلك أن ينالني بعض الأذى من أجله، فقد كان المدرسون والطلبة - إلا القليل منهم - يناوئوننا معا ويكرهوننا ويعادوننا أشد عداء. . .

واشتدت الحرب في العراق. وطغى سيل الغزاة الفاتحين. غلب البريطانيون، وأصبحوا على أبواب بغداد، فتنكرت الأيام للناس، وجندت الحكومة طلبة الصفوف العالية، وأكبت على طلبة الصفوف التالية الأخرى تعلمهم كما تعلم الجند فنون الحرب والضرب وتقحمهم في أشق الرياضات العسكرية لتلحقهم بهم. وهنا كان صحبنا الطلبة جميعا - في مدرستنا - جبناء، يملأ قلوبهم الرعب والخوف

أما عبد العزيز فقد استيقظ في نفسه من جراء ذلك شعور بغض للمدرسة، بغض للخروج مع الطلبة - على ما كانوا يفعلون في كثير من الأحيان - إلى استقبال القواد وحضور الحفلات الحكومية، بغض لمدرس الرياضة الذي أرسل إلينا آنئذ من الجيش، وهو ضابط فظ بدين، ذو شاربين غليظين منتصبين كالصياصي. . . وكان يخشاه

وكان - من بعد - حين يخرج من بيته صبحا يتلكأ في الذهاب إلى المدرسة، ويحاول أن يتمارض لكي ينقطع عنها أياما قليلة أو كثيرة. كان يغادر البيت كل صبح، وكأنه - كما كان يقول لي - يساق إلى سجن لا إلى دار علم وعرفان

وجاءنا إذ ذاك مدير المدرسة جديد. وهو رجل عنيد، كان يحسبنا مجموع دمى من الشمع

ص: 61

يسهل عليه إذابتها ثم صنعها ثانية على الغرار الذي يريد. وكان أول من لفت نظره إليه من الطلبة: عبد العزيز؛ فقد أعار سلوكه اهتمامه وعنايته، وراح يرهبه ويعالج تأديبه وتهذيبه بالعصا. وأذكر أن طالبا من أبناء الضباط الذين جاءوا بغداد في أواخر أيام الحرب من البلاد الشمالية، سفهه ذات يوم ثم عيره بالعامية والفقر، فقابله بالصفع والضرب الموجع المهين، فما كان نصيبه من المدير إلا الإهانة و (الطرد). وبذلك أسدل الستار على حياته المدرسية، وألجئ إلى التشرد والعطلة! وا أسفاه!!

ولقيته بعد ذلك فألفيته جزعا، وقص علي قصة النزاع بينه وبين ذلك الطالب - ولا أذكر أسمه الآن - قال:

(غادرت البيت صبحا وأنا كئيب محزون، لأن أمي التي لا تفتأ تذكر أخي الجندي ليلا ونهارا بالحسرات والدموع، وأبي المقبل على أخرته غير آسف على شيء في الدنيا، وهو يحبه حبا جما، لم يصل إليهما كتاب منه منذ شهر وبعض شهر. فأفرغ ذلك صبرهما بل أفقدهما الرشد. وإذ كنت أمشي في الشارع فاجأني خمسة من الشرط يعدون وراء رجل علمت من بعد أنه جندي هارب. وصرخ أحدهم قائلا: (خائن! قف!) ثم أطلقوا عليه الرصاص من بنادقهم فأردوه. وسقط تعبا جريحا يلهث وعيناه تنظران إلى السماء. ووقفت على مقربة منه أنظر إليه في لهفة وفرق؛ وهو ملقى وقد اصفر لونه وجللت وجهه سحابة من قتر الطريق، وتشنجت أعصابه من الخوف، وأقبل الشرط يتراطنون يريدون أن يحملوه. . . أعرضت عن هذا المشهد الذي آلمني أشد إيلام وانصرفت صامتا، ولحظت أن الشمس تملأ الأرجاء نورا، فعرفت أنني تأخرت عن موعد الدرس الأول. وكنت أمشي متباطئا ذاهلا، فما انتبهت إلا وأنا على باب غرفة صفي. . . طرقت الباب طرقا خفيفا مرة فمرتين وحاولت الدخول فجابهني المعلم ناهرا إياي بقوله:(أخرج، أخرج، اندفع يا حمار!) أو كنت حمارا فيإسطبل أبيه؟! وكنت حتى حين خروج الطلبة في الصف إثر الفراغ من الدرس ثائرا مهتاجا، فلقيني ذلك النذل فلاغاني فلكمته، وماذا كان يجب على أن أفعل؟ وسحقا للمدرسة بعد أن ينالني من هؤلاء فيها أذى)

وقال صديقي إبراهيم وقد حدثني بحديثه هذا بعد انتهاء الحرب ومرور سبعة أعوام على نهايتها:

ص: 62

(ثم احتل البريطانيون بغداد، وفرقت صروف الزمن بيننا - بعد ذلك - إذ رحل بي أبي وأسرتنا كلها إلى الحلة، فأقمنا فيها قرابة سنين أربع، فلما عدنا إليها لم أسمع لصاحبي عبد العزيز ذكرا)

- 2 -

وكتبت هذا الحديث لطرافته عام 1929. ثم مضى على ذلك أعوام ثلاثة، فبدا لي يوماً أن أسأل إبراهيم!

(هلا بحثت في هذه المدة الطويلة الماضية عن رفيقك القديم؟ رفيق المدرسة وطريدها عبد العزيز؟)

فأجابني وهو شاعر بما يتضمنه سؤالي من ملامة:

(لقد بحثت عنه في الأيام الأخيرة، فبلغني من أنبائه، أنه كان هاجر قبل مدة غير محدودة بالضبط إلى البصرة، ليتكسب فيها ويعيش عاملا لدى إحدى الشركات الأجنبية، فأنه أضحى في عنفوان شبابه، وبلغ السن الذي يستقل فيها المرء بالكفاح والجهاد في سبيل الحياة، وإن أخاه الجندي المحارب لما يعد، وهلكت أمه ومات أبوه فقيرا معدما، لم يترك له إلا ديونا ودارا، بل كوخا باعه الدائنون؛ ولم يف ثمنه بعشر معشار تلك الديون. ولم يكن متعلما حرفة، ونسي ما تعلمه في المدرسة العثمانية من مبادئ العلوم. وكان يزاول بعض الأعمال الشاقة التافهة التي يزاولها العمال الذين من أدنى الدرجات؛ ولا يأخذون عليها أجرا يستحق ذكرا. هذا كل ما سمعته عنه. ولا يعلم أحد على التحقيق أذهب إلى البصرة أم إلى جهة أخرى)

قلت:

(أو لا ترى من واجب الوفاء إتمام البحث عنه لاستئناف الصلة به والوقوف بجانبه في معترك الحياة، في هذا المجتمع الذي طغت فيه المادية والأنانية والفردية، المجتمع الجائر القاسي الذي لا يرحم الفقير، وأن تنفعه وتعينه على اكتساب الرزق، فأنك موسر بعض اليسر.)

قال:

(وهل تحسب عبد العزيز المشاغب في المدرسة، الذي لم يعرف سوى عزة النفس والأباء

ص: 63

في أيامه الماضية عدة وخلقا، والذي لم يستعن أحدا من صحبه يوما لو وجدته الآن لمد لي ولأمثالي يده في إبداء حاجة واستعانة مهما كان معسرا تنقض ظهره الشدة والفاقة؟ كلا. أنا لا أحسب ذلك؛ بل أحسب أن تلك الفترة من أيام مراهقته وفاتحة شبابه، كانت مقدمة وعنوانا لما كان مقبلا عليه من أيام شبابه ورجولته)

ثم سكت وسكت

وبعد شهرين أو ثلاثة أقبل علي يزورني في داري، وما عتم أن راح يحدثني عن رفيق صباه عبد العزيز الذي عثر به آخر الأمر فقال:

(ولقد وجدته آخر الأمر وصافحته. . . ولكن أين؟ احزر أين وجدته؟ في السجن! ولا تستغرب؛ فقد ذهبت يوم الجمعة - أمس - إلى هناك لأزور صديقي الصحافي عبد الصمد الذي سجن متهما بنشر ما لا تجيز الحكومة نشره، وإذ كنت أدخل الحجرة التي يسمح بمقابلة السجناء فيها ألفيتني أمامه وجها لوجه. وكان يكلم زائرا غريبا يرتدي بزة العامة، ربما كان صديقا له. ولم أعرفه إلا بعد تأمل فيه قليل، لأن سحنته قد غيرتها السنون؛ وحييته فحياني وبسم لي، ثم سألني (أو قد نسيتني يا إبراهيم يا حبيبي؟ يا رفيق الأيام الحلوة التي لن تعود! وهل نسيني علي كذلك؟ وكيف هو؟. . . الخ) ودمعت عيناه من شدة الفرح بلقياي، وكان طليقا جريئا، كما كان في المدرسة، في محادثته السجانين وصاحبي الصحافي عبد الصمد الذي لم يكن يعرفه من قبل، ورأيت أن لهجته في الكلام أصبحت عامية سوقية خالصة، تميزها التعابير والألفاظ التي تجري - عادة - على ألسنة هؤلاء الذين عرفوا بفعال (الشقاوة) - كما نسميها - التي تظهر فيها، في أغلب الأحيان، شجاعة نادرة في غيرهم و (أريحية) ونجدة وكرم على فقر، وجرأة في احترام الجرائم، وكراهية شديدة لكل من يمت إلى الأجنبي الغاصب بصلة باقية من عهد الاحتلال المظلم، على ما تعرف. ولا أدري كيف أدركت أنه محكوم عليه بعقاب السجن لإجرامه جريمة قد لا يفخر المرء بها عندنا، فلم أشأ أن أسأله عما أدى به إلى حاله تلك. ومن الغريب أنه لم يكن يرى في أمره غرابة؛ وكأنه كان معلوما عندي ما اجترم فلم يخبرني به؛ وسرعان ما راح يودعني، إذ كانت الفرصة المسموح بها لزيارة المسجونين ضيقة جدا، متمنيا أن يلاقيني عقب خروجه من السجن، و (أن يكون تحت النظر) على حد تعبيره الشعبي الرمزي

ص: 64

الجميل، (فأنه لا يزال على وده القديم، وذلك الصاحب الذي لا ينسى الصحب على طول الزمان، ولا يرضى عن الوفاء بديلا). وترك المجلس لي ولصاحبي منصرفا عنا في لباقة وحسن أدب، كما ينصرف الواحد منا عن أثنين لديهما سر، ولم يكن لدينا - في الحقيقة - سر غير أمره. فأنني كنت في أشد الشوق إلى سماع قصته، وبتعبير أوضح أحجمت عن سؤاله عما أدخله السجن ساعة لقيته لكي لا أجرح منه شعورا طالما كنت أقدره، بل أقدسه في أيامنا التي خلت، في أزهى زمان وأحلاه، زمان الدرس والتحصيل. وقال لي عبد الصمد:(هذا فتى باهر الخصال يا أخي، ولا أرى فائدة في أن أقص قصته عليك في إسهاب وتفصيل، فهو الآن مجرم محكوم عليه بالسجن ثلاث سنين لأنه جرح رجلا من الأجانب، كان يحترف عملا فنيا لدى شركة أجنبية في البصرة؛ وكان عبد العزيز (يشتغل) هناك بيده كعامل لا شأن له، ورئيسه ذلك الأجنبي، على أنه كان شخصا مخيفا بين العمال، خشن الطباع، شرسا، كذلك قالوا عنه. وليس في حادثته التي طوحت به إلى السجن ما يستغرب منه ومن أمثاله في العراق اليوم، فقد انتهره الأجنبي ذات يوم، وشتمه وأهانه، لأنه أخطأ في عمله بعض الخطأ، فما كان منه إلا أن قابل إهانته إياه بطعنه بمديته، فجرحه، ولم يصب منه مقتلا. انتهت قصته. أما هو فما يزال يذكر الحادثة غير مكترث به صار إليه من جرائها، فهو يرى لها سببا من أسباب التفاخر بالجرأة والشجاعة، ولا سيما أن المجني عليه أجنبي من بقايا الذين جاءوا في الحرب في (الحملة) على العراق، وهو يقول لنا عنه في سذاجة ويكرر قوله مرارا:(ليته كان من أبناء أمتنا أمثالي، إذن والله لما جرحته، لما جرحته)، فانظر إلى رقة شعوره وشدة كرهه للأجانب الذين أرهقوا البلاد في الحرب الاستعمارية الكبرى وبعدها. . . والعبرة ليست فيما حدثتك، بل فيما أرى عند هذا العبد العزيز الذي لقبوه في السجن بأبي جاسم كما يلقب العراقيون عادة فتيانهم ذوي (الأريحية) والنجدة والشجاعة، مجرمين كانوا أو غير مجرمين، من فلسفة القوة والأمل والتفاؤل والاستهزاء بصروف الحياة، فأنني - وقد خصني بصداقته وترحابه منذ أن دخلت السجن - قد أسفت على حالي كثيرا، وطالما اسودت الدنيا في وجهي يأسا وتشاؤما، فلا أكاد أسمع نصائحه الساذجة في ظاهرها، وضحكاته ذات الرنين العالي، وأغانيه الشعبية التي يرسلها من نفس زاخرة بالأحلام والآمال، حتى تتفرج نفسي من اليأس، وتبدد عني

ص: 65

سحب التشاؤم والأسى؛ فو الله ما نفعتني في هذه الأيام العابسة الكتب وفلسفاتها المهذبة المصقولة، بقدر ما نفعتني نصائح وضحكات وأغاني هذا الصديق الجديد في السجن، بل في مدرسة الرجال والأبطال، على ما يسميه؛ وأنا ناقل لقوله فما علي من لوم، فالناس تسمي السجن مدرسة المجرمين)

قال محدثي إبراهيم:

ثم زايلت السجن وكلي أسف على حياة صاحبي القديم، التي أحسبها ضائعة بعد هذه الحال التي صار إليها؛ وهذا ما كنت أتوقعه منذ طرد من المدرسة السلطانية العثمانية. تلك مقدمة هذه نتيجتها. . . وفي نيتي أن أزوره يوم الجمعة القادم)

قلت وأنا مصغ له في غير أسف:

(ولكن عبد العزيز أبا جاسم، وهو جدير بلقبه هذا، كان شريفا من بعد؛ ورب مجرم معذور؛ فأما أنه كان فقيرا وسوف يغدو كما كان، فما في الفقر من عيب. وما ضاعت حياة من كان مثله إباء وعزة نفس. . . .)

العراق - الأعظمية

محمود. أ. السيد

ص: 66

‌البريد الأدبي

تولستوي لمناسبة الاحتفال بذكرى وفاته

تحتفل روسيا السوفيتية خلال شهر ديسمبر بإحياء ذكرى كاتب روسيا وفيلسوفها الكبير ليون تولستوي، وذلك لمناسبة مرور خمس وعشرين سنة على وفاته. ولقد محت الثورة البلشفية كثيرا من معالم روسيا وذكرياتها وتقاليدها القديمة، ولكن روسيا السوفيتية ما زالت تحرص على رعاية الآداب والعلوم والفنون، وما زال هذا الحرص يتجلى في كل موقف ومناسبة، وذكرى تولستوي تتبوأ في الأدب الروسي بل وفي الأدب العالمي أسمى مكانة، وما زالت الثورة البلشفية تنحني إجلالا لذكرى هذا الذي رفع الأدب الروسي إلى السماكين، واتشح بنوع من القدسية تجعل ذكراه وتراثه فوق كل ثورة وانقلاب

توفي تولستوي منذ خمسة وعشرين عاما، وفي 20 نوفمبر سنة 1910؛ وكان مولده سنة 1828 في قرية باسينا بوليانا من أعمال مقاطعة تولا في أسرة قديمة عريقة في النبل؛ وتوفيت والدته وهو في الثانية من عمره، ثم توفي أبوه في التاسعة من عمره؛ فكفلته وأخوته إحدى عماته، وتلقى معهم تربية خاصة على يد معلم فرنسي؛ وفي سنة 1843 أرسل إلى جامعة فازان ليدرس فيها؛ ولكنه لم يبد براعة خاصة في الدرس، فقضى بها حينا، وغادرها ملولا، وانكب على اللهو بضعة أعوام؛ ولما بلغ الثالثة والعشرين من عمره انتظم في سلك الجيش في قسم المدفعية وأرسل إلى القوقاز، واشترك في حرب القرم تحت إمرة البرنس جور نشاكوف، وقاتل في موقعة سلستريا سنة 1854، وفي موقعة سباستبول سنة 1855. وكان تولستوي قد ظهر في عالم الأدب قبل ذلك ببضعة أعوام، فكتب في بعض المجلات الكبرى، وكتب كتبه الثلاث الأولى وهي (الطفولة) (سنة 1852) ثم (الحداثة) (سنة 1853) ثم (الشباب). كتبها في القوقاز قبل أن ينزح إلى ميدان الحرب، ووصف فيها طفولته وحداثته وشبابه في صورة مؤثرة. وفي أثناء الحرب، وتحت قصف المدافع كتب تولستوي عدة صور وقطع حربية قوية أسماها (قصص سباستبول) وفيها ظهرت روعة مواهبه الأدبية، فطارت شهرته وكان بدء مجده الخالد. وفي (قصص سباستبول) تبدو شخصية تولستوي قوية، ويبدو إجلاله للحقيقة والشمائل الإنسانية والحب الأخوي؛ ويبدو مقته لكل مظاهر الطغيان والعنف. ولما انتهت الحرب عاد إلى بطرسبرج

ص: 67

تسبقه شهرته، واتصل فيها بكل مجتمع رفيع وشخصية بارزة؛ واتصل بأقطاب الكتابة والأدب، ولا سيما تورجنيف وجوتشاروف وتكراسوف، وتوثقت علائقه بتورجنيف مدى حين، ولكنها لم تلبث أن فترت لاختلافهما في كثير من الآراء والمبادئ. ذلك أنٍ تولستوي كان ثوري المبدأ والعقيدة، يحرر العبيد في ضيعته، ويغدق العطاء للفقراء؛ ولكنه كان في أعماق نفسه (انفراديا) وكان بعيدا عن الحركة الاشتراكية التي كانت تجرف روسيا يومئذ ويتزعمها جناح قوي من الكتاب والأدباء. هذا إلى أن تولستوي كان عبد الحقيقة يصورها في تفكيره وكتابته؛ بينما كان أولئك الكتاب يكتبون غيرها ما يعتقدون، ويفعلون غير ما يقولون. وقد كانت كتب تولستوي صورة صادقة لشخصه ومبادئه، وكل ما فيها مستمد من حياته ومن نفسه؛ وهذا ما يقرره تولستوي نفسه في بعض كتاباته إذ يقول:(إن الحقيقة هي بطلة مؤلفاتي، وهي دائما نفثه روحي وكل جوارحي)

وفي سنة 1862 تزوج تولستوي من صوفيا بيرس؛ ولم يمض قليل على هذه الحياة الهادئة حتى كتب تولستوي أعظم كتبه قصة (الحرب والسلام) وظهرت لأول مرة سنة 1869 ثم كتب قصته الخالدة (حنه كارنينا) وظهرت سنة 1877؛ وفي هذين الكتابين يصل تولستوي إلى ذروة قوته وروعته. وفي القصة الأولى أعني (الحرب والسلام) يصف تولستوي حوادث الغزوة النابليونية لروسيا؛ ومما يلفت النظر أنه يصف فيها والدته في شخص الأميرة ماري. وقد رأينا أن تولستوي فقد والدته وهو في الثانية، ولكنه مع ذلك يؤكد لنا أنها تركت في ذهنه صورة قوية وأنه احتفظ في ذهنه الفتي بكثير من ذكرياتها وصورها. وأما قصة حنا كارنينا، وهي فيما يرى النقدّه أعظم كتب تولستوي، فهي القصة الخالدة لزواج نكد، وما يترتب على ذلك الزواج من المحن؛ وهي القصة الخالدة لزواج عادي وما يحيط به من العوامل والظروف. هي قصة فتاة تزوجت في سن العشرين رجلا يكبرها بعشرين عاما، وعاشت معه ردحا من الزمن أمينة مخلصة؛ ولكنها في الثلاثين اضطرمت بفورة من الهوى فأحبت ضابطا فتى جميلا واستسلمت إليه؛ ولما ارتاب زوجها في الأمر اعترفت له لأول وهلة؛ وأدرك الزوج بعد التفكير أنه يحمل تبعة هذه الجناية، لأنه جنى على امرأة شابة فتزوجها وهوليس أهلا لحبها، وكأنه اختلسها اختلاسا وارتكب بذلك جرما يعاقب عليه؛ وعلى ذلك فقد شعر أنه يستحق ما أصابه، وترك زوجته الفتية (حنه)

ص: 68

وفارقها، وعاش بلا أسرة. ولكن هل كانت حنه سعيدة بهذه الحرية؟ كلا فقد شعرت هي الأخرى باثمها؛ وسرعان ما دب الفتور إلى حبيبها، وأضحت تشعر أنها غدت عبئا ثقيلا عليه، وهكذا حطمت حياتها. وأما العاشق (فرونسكي) فقد كان فتى جم العبث والأهواء، وكان يهوى حنه هوى الفورة والساعة؛ ولكنه شعر أنه أثم أيضا وأن إثمه يوجب عليه أن يبقى إلى جانب تلك التي حطم حياتها ففر معها إلى الخارج وقضى بذلك على مستقبل زاهر كان في انتظاره، ثم كانت خاتمة المأساة ذات يوم في حلبة السباق إذ سقط المحب القديم من فوق ظهر جواد كان يمتطيه فقتل لساعته.

تلك هي الفلسفة الإنسانية الرائعة التي يبسطها لنا تولستوي في أعظم كتبه. وفي سنة 1880 نشر تولستوي كتابه (اعترافي) وفيه يبسط لنا آراءه ونظرياته الدينية. وفي هذا الميدان كما في غيره يبدو تولستوي في صور مختلفة متناقضة، فبينا نراه الرجل المؤمن العريق في الإيمان إذا بنا نراه ملحدا منكرا، وإذا بنا نراه وثنيا وطائفيا. وكتب تولستوي بعد ذلك كتب عدة ورسائل أخرى يغلب عليها طابع التصوف، منها (ايفان ايليتش) و (الكورتيس سوناتا) و (مملكة الله في قلبك) و (ما هو الدين). وساح تولستوي في ألمانيا وسويسرا وغيرهما وكتب صور سياحته في كتابين: أحدهما يسمى (لوسره) ولآخر (مذكرات نخليودو) وغدا تولستوي في كهولته فيلسوفا ومصلحا اجتماعيا يحرر عبيد ضيعته، ويقسم أرضه بين الفلاحين ويعنى بتربيتهم وإرشادهم، ويغيث البؤساء والمنكوبين؛ ومن أثر ذلك أنه نزل عن أملاكه لزوجه وأولاده، وحاول أن يعيش عيشة الزهد والتقشف مثل ما يعيش أفقر أبناء الريف. وكان ذلك سببا في تنغيص حياته العائلية، وفي تسميم علائقه بزوجته. ولما شعر في أواخر حياته أنه غدا بين أسرته كالغريب المنبوذ، فر من منزله سرا. وكان قد تبوأ ذروة مجده منذ أعوام طويلة وغدا يكنفه نوع من القداسة، وكان قد أشرف على نهاية حياته الحافلة فتوفي بعد ذلك بقليل في بلدة استابوفو في 20 نوفمبر سنة 1910، واختفت بذلك شخصية من أعظم شخصيات الأدب الحديث

وكان تولستوي شاعرا وفيلسوفا وناقدا وفنانا، وكانت حياته كلها حياة كفاح واضطراب، ولكنها متناقضات مدهشة؛ فمن أرستقراطية عريقة، إلى ديمقراطية ساذجة؛ ومن إيمان مؤثر إلى الحاد مطبق؛ ومن شغف بالنساء إلى احتقار لهن؛ ومن إنسانية فياضة إلى انانية

ص: 69

عميقة. بيد أن تولستوي كان يسمو بروحه ومشاعره إلى أنبل ما يمكن أن تسمو إليه النفس الإنسانية؛ وقد كان لفلسفته وكتبه أثر عميق في تطور المشاعر الروسية، وفي تكوين النفس الروسية الحديثة

وقد بلغت مؤلفات تولستوي في الطبعة الروسية زهاء مائة مجلد، وترجمت إلى كثير من اللغات الحية؛ وترجم له كثيرون من أكابر الكتاب في مختلف الأمم

رسالة ملوكية ضخمة

من أنباء استنبول الأخيرة أن السلطات المختصة قد وجدت في محفوظات متحف الدولة رسالة ملوكية ضخمة من الورق المشمع وطولها تسعة أمتار وعرضها سبعة؛ وظهر من البحث أنها رسالة أرسلها شاه الفرس في القرن السادس عشر إلى السلطان سليمان الأكبر. وقد تقرر أن تعرض لأنظار الجمهور

موت زعيم كريم، إبراهيم بك هنانو

وا أسفاه!! في الساعة التي اشتبهت فيها معالم السياسة في سورية، فتدسست الأماني الخوادع إلى الشعب، وتفرقت السبل الجوامع بالزعامة، يغيب القطب الهادئ، ويهدم المنار الدال، ويخبو الضرام المذكى، ويخفت الصوت المجمع، ويموت الزعيم هنانو؟! روعت سورية من شمالها إلى جنوبها بنعي هذا الزعيم الكبير، ونالها من خطبه ما غلب على الصبر ومنع من القرار، فهبت كلها تندبه وتريثه، وتبكي بطلها وأملها ودليلها فيه. والحق أن الفقيد العظيم كان مثلا نادرا في الزعامة البريئة الجريئة المخلصة: كان صلبا في الرأي على قدر إيمانه، ومتمردا على الباطل على سواء حقه، ومهيمنا على الشعب بقوة نفسه ونبل غرضه. جرد على الواغل الدخيل جيشا من الوطنية الصابرة والحمية الثائرة والعروبة الغضبى، ثم صمد له بالعدد القليل بعد سقوط دمشق سنة كاملة لم يلن لمغمز ولم ينكل عن خطة، حتى آل أمره إلى فلسطين فسلمته حكومتها إلى فرنسا فحوكم وبرئ؛ ومن ذلك اليوم كان معقد آمال السوريين يفزعون إليه في المعضلات، ويستنيرون برأيه في المشكلات، وينضوون إلى رايته في المواقع. كان رحمه الله على خلق الزعماء أولى العزم والرسالة: نظر إلى أمته نظر الحكيم المصلح فألف بين قلوبها ووفق بين ميولها وقرب بين

ص: 70

عقائدها، ثم دافع عن مرافقها دفاع المؤمن النزيه، فلم يسف إلى دنيء المطامع، ولم يغتر بمظاهر الجاه، ولم يطمح إلى عزة السلطة، وإنما ظل جنديا يقود، ومحاميا يذود، وخطيبا يرأب بلسانه صدوع الفرقة، حتى أضناه الجهاد المستمر، وأقعده المرض المخامر، فكان زعيما بالفكرة، قائدا بالمبدأ، مرشدا بالقدوة. ثم قبضة الله إليه فأحدث ذلك الفراغ المخيف، وهز أمته تلك الهزة العنيفة، لأن الزعماء الذين يصوغهم الله على هذا الطراز يكونون في النهضات الاجتماعية من أممهم مكان السماط من حبات العقد، ينظمون وحدتها، ويجمعون كلمتها، ويمسكون نظامها، ويعقدون أمانيها؛ فإذا قطعت المنون ذلك الخيط ذهب العقد بداد ما لم يكن له من الله ناظم وعاصم - سقى الله بصيب الرحمة ثراه، وعزى فيه الأمة العربية خير العزاء

الاحتفال بالجاحظ

في السنة القادمة (1355هـ) يتم أحد عشر قرنا لوفاة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ البصري المتوفى سنة 255هـ؛ ويا حبذا لو تقدم علماء العراق وأدباؤه إلى الاحتفال بذكراه في مدينة البصرة، واشتركت الأقطار العربية كلها بتعديد مناقب أعظم رجل جمع بين علوم الدين والدنيا في الإسلام.

محمد كرد علي

جوائز نوبل

ذكرنا في العدد الماضي أن جائزة نوبل للطب والفسلجة قد منحت عن هذا العام إلى العلامة الألماني الدكتور هنز شبيمان من أساتذة كلية فريبورج. ونضيف اليوم أن جائزة نوبل للكيمياء قد منحت للأستاذ جوليو الفرنسي من أساتذة جامعة باريس ولزوجته السيدة كوري جوليو، وهي ابنة مدام كوري الكيميائية البارعة التي اشتهرت بمباحثها واكتشافاتها في الراديوم وخواصه. ومنحت جائزة نوبل للطبيعيات للأستاذ جيمس سادويك الإنكليزي ومن أساتذة جامعة كمبردج اعترافاً بفضله في اكتشاف (النوترون). وقيمة كل جائزة من هذه الجوائز الشهيرة كما أسلفنا سبعمائة ألف فرنك (نحو تسعة آلاف جنيه).

وأما جائزة نوبل عن الآداب فلم يتقرر منحها هذا العام، وتقرر أن يعاد النظر في أمر

ص: 71

منحها في العام القادم. وقد سبق أن عطل منح هذه الجائزة زهاء خمس عشرة سنة من 1901 إلى سنة 1914، ثم استؤنف منحها بعد ذلك.

ص: 72

‌النقد

1 -

تاريخ الإسلام السياسي

تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن

بعض مآخذ تاريخية

لأستاذ كبير

الدكتور حسن إبراهيم حسن من الشبان المصريين الذين يحملون في مادة التاريخ الإسلامي طائفة غير قليلة من الألقاب العلمية الضخمة ما بين مصرية وأجنبية، ثم هو قد زاول تدريس التاريخ الإسلامي في الجامعتين المصرية والأزهرية سنين طوالاً أخرج فيها من الآثار المؤلفة والمترجمة شيئاً كثيراً؛ وقد طلع على الناس في هذه الأيام بسفر ضخم في تاريخ الإسلام السياسي تناول الكلام فيه على عصر الجاهلية، وعصر النبوة، وعصر الخلفاء الأربعة، وعصر بني أمية.

تلقاء هذه الألقاب الضخمة، والخبرة الواسعة؛ وتلقاء جلال العصر الإسلامي القديم، استشرفت نفسي لمطالعة كتاب الدكتور الأخير منذ علمت بظهوره؛ ولم أكد أصل إلى نسخة منه حتى عكفت على قراءته؛ وقد قرأته من أوله إلى آخره. وإني مع اعترافي بالمجهود الكبير الذي أنفقه الدكتور في كتابه، قد تبين لي في الكتاب من السقط والزلل مالا يحسن السكوت عليه، لذلك عمدت إلى نشر ما تيسر لي نشره من الاستدراك خدمة لمادة ناشئة في معاهدنا العلمية، هي مادة التاريخ الإسلامي، واستحثاثاً للمؤلف على تدارك أمره في مادة هو متخصص فيها، وضناً بما لمصر من حسن السمعة العلمية في الأقطار الشرقية أن يتطرق إليه ضعف أو وهن. وإني قاصر كلمتي اليوم على إيراد شيء من مآخذ الكتاب التاريخية تاركاً بقية المآخذ لكلمات أخرى أنشرها تباعاً على صفحات (الرسالة) الغراء.

يطلق المؤلف في ص 34 كلمة (أقيال) على ملوك العرب وساداتهم، مع أن هذا اللقب خاص بملوك اليمن أو من دونهم من أمراء المخاليف اليمنية.

يقول المؤلف في ص 36: (وكان للعرب نظام ثابت للزواج: فكان جمهورهم يقترن بالزوجة بعد رضاء أهلها، كما كان كثير منهم يستشيرون البنات في أمر زواجهن. وينبغي

ص: 73

ألا نخلط بين هذا الارتباط بالزواج وبين غيره مما عرف عن بعض العرب من اجتماع الرجل بالمرأة بغير هذه الطريقة) ولو قصر المؤلف هذه الحال على الحجاز لاستقام قوله؛ أما وهو يعمم الحكم فكلامه لا يطابق الواقع؛ والدليل على ذلك حديث البخاري المنسوب إلى عائشة، والذي يبين الأنحاء الأربعة للأنكحة في الجاهلية (البخاري جـ7 ص 15).

يذكر المؤلف في ص 45 أخذاً بظاهر الرواية العربية، أن الفرس كانوا زاهدين في ملك اليمن؛ والصحيح الثابت أنهم كانوا حراصاً عليه ليحدوا من نفوذ خصومهم الروم والأحباش في تلك البلاد.

يقول المؤلف في ص 45 في وصف وهرز قائد الحملة الفارسية على اليمن: (ويصفه المؤرخون - ومنهم المستشرق نولدكه - بأنه قد بلغ من الكبر عتياً لدرجة أن جفنيه انطبقا أحدهما على الآخر) والوارد في الروايات أن حاجبيه هما اللذان كانا قد سقطا على عينيه لكبره فكان يعصب له حاجباه ليحسن الإبصار (الطبري جـ2 ص 119).

يقول في ص 58 (ويستفاد من أخبار العرب أن بني جفنة استولوا على سورية)، ولو استبدل (بادية الشام) بسورية لاستقام قوله.

يقول المؤلف في ص 61 - 62 (وكان لكل قبيلة رئيس منهم حسب نظام القبيلة المسمى الذي كان مألوفاً لدى العرب في جاهليتهم، وكان لهذا النظام مثيل بجزيرة قرسقة (كورسيكا) واستعمال لفظ أجنبي لنظام عربي لا محل له هنا كما أن التنظير بين بلاد العرب وبين قورشقة خاصة يبدو غريباً ونابياً في هذا المقام.

يزعم المؤلف في ص 63 أن الحجاز (ظل محافظاً على استقلاله أيام الإسكندر المقدوني الذي صده العرب حين أغار على ملك الفرس) فمتى، وأين، وكيف صد العرب الإسكندر المقدوني الكبير؟ لاشك أنك إن فصلت ما أجملت في عبارتك تكشف عن ناحية خطيرة مجهولة من تاريخ الفاتح المقدوني الكبير.

يقول المؤلف في ص 68 في سياق كلامه على قريش (واتخذوا جزءاً من الأرض المجاورة أولوه احترامهم، واعتبروه مقدساً، وبنوا به بيتاً حراماً لا يحل فيه القتال وأخذوا على عاتقهم حمايته) وهذا كلام يضر قائله ولا ينفعه، وإني أنصح للدكتور أن يبادر إلى التبرؤ منه وإلقاء تبعيته على قائله الأصلي. فالدكتور لاشك يعرف أن إبراهيم الخليل هو

ص: 74

الباني للكعبة، وأن قريشاً كانت تحتمي بالبيت والحرم، بدلاً من أن تحميهما، بدليل قوله تعالى (أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم). (سورة العنكبوت)

يقول المؤلف في ص 87 في صدد الكلام على الحنيفية ببلاد العرب: (ويطلق على هذه النزعة التحنف، وعلى أصحابها الحنفاء أو التائبون المعترفون) وهنا أيضاً أنصح للمؤلف أن يبرأ من هذا القول فليس معنى التحنف (التوبة والاعتراف).

ويقول في ص 97 بعد أن يورد أسماء السابقين الأولين إلى الإسلام: (وقد سموا السابقين الأولين كما سمى من أسلم بعدهم بالمستضعفين) وظاهر أن ليس التأخر في الإسلام هو السبب في وصف المستضعفين بالاستضعاف إنما السبب في ذلك أمر آخر يعرفه من يقرأ الجزء الأول من سيرة ابن هشام بشيء من الروية والتفكير.

ويقول في ص 129 - 130: (ولم يكد الرسول يفرغ من بناء السجد حتى أخذ يبث الدين في نفوس أصدقائه وأتباعه ويحثهم على الخضوع والإذعان لإرادة الله، ومن ثم سمى هذا الدين بالإسلام لما فيه من الانقياد والخضوع المطلق لإرادة الله تعالى. والذين يدينون به يسمون المسلمين، أي الذين يخضعون لأمر الله ورسوله) وعلى فرض صحة هذا القول ماذا كان يسمى الإسلام والمسلمون قبل بناء المسجد وطوال العصر المكي؟

ويقول في ص 131: (وأحل (الإسلام) الدعوة الدينية محل الوحدة القومية) ثم يقول بعد: (وهكذا أصبح الدين دون الجنس المرجع الوحيد في تحديد العلاقات بين الحكومة والرعية) والظاهر أن المؤلف ينقل هنا عن أصل أجنبي، وأن المراد بالوحدة القومية والجنس هنا إنما هو (القبيلة).

ويقول في ص 134: (فقد تزوج (الرسول). . . صفية بنت حُيَيٍّ سيد بني النضير ليتم له إسلام قومها، لا لتأثير جمالها كما يقولون فهو أعلى نفساً من أن يتأثر بذلك) وهذا الكلام إن دل على شيء فإنما يدل على قلة الاطلاع الصحيح وعلى سذاجة التفكير وإلا فهل كان الرسول لا يزال يطمع في إسلام اليهود بعد الذي جرى بينه وبينهم من الأحداث الجسام بالمدينة وخيبر؟ ثم متى كان التأثر البريء بالجمال دليلاً على نزول النفس وعدم سموها؟

ويقول المؤلف في صفحة 154: (سرية بني الرجيع) ويعيد ذلك القول في هامش صفحة 174 ظناً منه أن هناك قبيلة تسمى (بني الرجيع) والواقع أنه إنما يريد (بني لحيان) الذين

ص: 75

كان لهم ماء يسمى (الرجيع) وقعت عنده الحادثة المعروفة في كتب السيرة.

ويقول في صفحة 170: (وصفوة القول أن معاملة الرسول إياهم (اليهود) كانت أيسر وأخف من معاملته قريشاً وغيرها) ولو عكس المعنى فقال: (كانت أحزم وأشد) لكان كلامه منطبقاً على الواقع من غير نزاع.

ويقول في صفحة 183 في صدد الكلام على غزوة الطائف: (وأقام الرسول على حصارهم (ثقيف) حتى إذا دنا شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم فك الحصار عنهم ليرجع إليهم بعد انقضاء الأشهر الحرم) ومع أن الأشهر الحرم لا تمنع من مباشرة القتال في الإسلام فإن الرسول لما رأى أن الحرب طالت بينه وبين ثقيف علم أنه لم يؤذن له فيها وأسر ذلك إلى أبي بكر وعمر ثم ارتحل عن الطائف تاركاً أمر إسلامها للزمن. وقد صحت فراسته فقد جاءه وفد ثقيف بإسلامها في رمضان سنة 9هـ.

ويسمي المؤلف في صفحة 211 نابليون بـ (الفتى الطلياني) وذلك تعبير لا يليق صدوره ممن يتخصص في التاريخ.

في صفحة 240 - 241 يزعم المؤلف أن القصيدة التي مطلعها:

إن بالشعب الذي دون سلع

لقتيلاً دمه ما يطل

قالها قائلها في رثاء عمه، والصحيح الثابت من سياق القصيدة نفسها أنها قيلت في رثاء خال الناظم لا عمه وذلك بدليل قول الشاعر:

فاسقنيها يا سواد بن عمرو

إن جسمي بعد خالي لخل

والظاهر أن المؤلف شغل بنقل شرح التبريزي على القصيدة عن تفهمها وتبين من قيلت فيه.

ويقول في صفحة 247 في كلامه على أبي بكر الصديق: (وكنى بأبي بكر لمبادرته إلى الإسلام) ولست أدري ما الذي أبقاه المؤلف بعد هذا القول لجهلة المبشرين ومتعسفي المستشرقين؟

ويقول في ص 278: (لقد رحب الفرس بالعرب حباً في الخلاص من ظلم الحكام أولاً ورغبة في معافاتهم من الخدمة العسكرية ثانياً. .) وهو كلام بعيد عن الواقع بعد السماء عن الأرض.

ص: 76

يظهر المؤلف في هامش ص 295 ضجره من اضطراب تاريخ فتح العرب الشام ويقول (وعلى كل حال فليس غرضنا ترتيب الوقائع لأن ذلك ليس من شأننا) فهل ترى يا دكتور أن من شأنك أن تنقل شرح التبريزي على قصيدة تأبط شراً، وأن ليس من شأنك أن ترتب وقائع فتح العرب للشام؟

ويقول في ص 310 عند كلامه على فتح عمرو الإسكندرية: (وهزم الروم براً وبحراً) وقد أخطأ هنا من وجهين. فإن عمراً أو غيره من العرب لم يهزم الروم براً وبحراً عند الإسكندرية، وإنما استولى عليها بمعاهدة نابليون التي تمت بينه وبين المقوقس (أنظر كتاب فتح العرب مصر لبطلر) ثم كيف استطاع عمرو أن يهزم الروم بحراً؟ هل كان معه أسطول يا ترى؟

يزعم المؤلف في صفحة 314 أن المؤرخين لم يجزموا برأي في أمر حريق مكتبة الإسكندرية. والصحيح أنهم فعلوا. فقد جزم بطلر بأن العرب لم يحرقوها، وجزم جورجي زيدان في تاريخه بأنهم أحرقوها.

يقول في ص 330 ضمن كلامه على عثمان بن عفان: (وكان يصوم الدهر)، والعقل الناقد يرفض هذا القول وإن كان وارداً في كتاب قديم. هذا فوق ما ورد في الأثر من النهي عن صوم الدهر.

يقول في ص 341 أن عثمان ترك للأغنياء أمر الزكاة يدفعونها كما يشاءون، وتلك دعوى لا يقوم على صحتها دليل.

يقول في ص 353 أن قتلة عثمان ضربوا عنقه وأن بعضهم قطع بالسيف إصبع نائلة زوج عثمان، والخليفة المظلوم قتل دون أن يضرب عنقه، وأن أصابع يد نائلة أطنت بالسيف لا إصبع واحدة.

يقول في ص 365: (ولما توفي عمر انتخب عثمان بمقتضى قانون الشورى الذي سنه عمر) وعمر لم يسن قانوناً للشورى وإنما عين ستة نفر يختار المسلمون من بينهم خليفتهم.

في ص 398 يتابع المؤلف المستشرق الإنجليزي نيكلسن في قوله في انتصار معاوية في أمر الخلافة: (اعتبر المسلمون انتصار بني أمية وعلى رأسهم معاوية انتصاراً للأرستقراطية الوثنية التي ناصبت الرسول وأصحابه العداء) والأمر هنا ليس أمر وثنية

ص: 77

وإسلام إنما هو أمر أحزاب سياسية تتنافس في الحكم وفاز بعضها في النهاية.

وهو يتابع في ص 425 السيد أمير علي في قوله في وقعة الحرة (ولا غرو فقد حول جند الشام المسجد الجامع إلى إسطبل لخيولهم وهدموا الحرم والأماكن المقدسة لسلب ما فيها من أثاث ومتاع) وهذا كله غير ثابت.

يقول في ص 507 عند كلامه على المرجئة: (وقد ظهر من بينهم أبو حنيفة صاحب هذا المذهب المشهور الذي لا يزال باقياً إلى اليوم) واتهام الإمام الأعظم بالإرجاء أمر قديم وقد كفانا مؤنة تفنيده السلطان أبو المظفر عيسى الأيوبي في رده على الخطيب البغدادي.

(يتبع)

مؤرخ

ص: 78