المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 127 - بتاريخ: 09 - 12 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ١٢٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 127

- بتاريخ: 09 - 12 - 1935

ص: -1

‌في الجمال.

. .

- 4 -

ذلك إجمال القول في الفن الصناعي المرتجَل؛ أما الصناعي المنقول فالسر فيه أن يبعث في ذهنك فكرتين: عن الطبيعة المقلَّدة، وفكرة عن الفنان المقلِّد. فتماثيل فِدْ وصور رفائيل، تجمع بين الجمالين: جمال المثال في أصله، الفن في تقليده. وكذلك في وصف مغرب الشمس لابن نجد الإعجاب الناشئ عن القوة والوفرة والذكاء موزعاً الصورة الناطقة التي أبدعتها الطبيعة، وبين المحاكاة الصورية التي أخرجتها القريحة.

إن روعة الجمال الطبيعي آتية من ناحية الحرية في الطبيعة وحرية الطبيعة هي قانونها العام، لا تقوم عظمتها إلا به، ولا فخامتها إلا فيه؛ فالغيضة اللّفّاء أجل مظهراً في النفس من الحياة المنمنمة، وشلالات النيل أجمل منظراً في العين من النوافير المنضمة لأن الجمال المطلق يملأ خيالك بالتأمل الحالم، وذهنك بالتفكير الرفيع، وشعورك بالطرب الباسط؛ ومظنة العبودية في الجمال أو في الجماد تضيف إليه معنى من الحقارة والقبح يحطه ويشوهه. ولكن الجمال الصناعي لا بدَ أن يتقيد بالقواعد ويتحدد بالأصول؛ فإذا لم يكن الفنان من البراعة بحيث يخفي تلك القيود، ويحجب هذه الحدود، ويظهر السمة الدالة على الطبع المرسل والإلهام الحر، همدت في فنه الحياة، وخبا في جماله السحر، وضاقت في عمله الفكرة.

ليس الجمال في الفن المعنوي أو الحسي أن تحاكي الطبيعة محاكاة الصدى، وتمثلها تمثيل المرآة، وتنقلها نقل الآلة؛ تلك هي التبعية التي تنفي الذكاء، والعبودية التي تسلب القوة؛ إنما عظمة الفن أن يفوق الطبيعة؛ وإنما براعة الفنان أن يزيد في ترتيب صورها بالذكاء، وفي تنويع تفاصيلها بالوفرة، وفي توجيه مقاصدها بالعظمة، وفي بيان تعبيرها بالحياة، وفي سلطان تأثيرها بالقوة، وفي حقيقة وقائعها بالسحر الموهم والوشي الخادع.

انظر إلى تعاجيب الطبيعة وتهاويل الفلك، من العواصف والصواعق والبراكين، تجدها في ذاتها جليلة رائعة، ولكنك تجدها في فن الشعراء والمصورين والمثَّالين أجل وأروع. لقد فيها شهوات النفوس، وسلطوا عليها تصادم الأهواء، وصوروها للأذهان في عالم من الآلهة الكَمَلَةِ في قواها المختلفة، تتنافس في العجائب، وتتصارع بالأهوال، وتتفانى على اللذة.

ص: 1

وسحر الفن الإغريقي في صمته وفي نطقه قائم على تجميل الظواهر المروعة في الطبيعة، بالنوازع المتضاربة في النفس.

ومن المعلوم في بدائه العقل أن يكون ما يقلده الفنان في الطبيعة حقيقاً بالتقليد، حتى يمكن الجمع بين جمال الشيء في أصله، وبين جماله في نقله؛ فالمصور الذي يرسم وضعاً من أوضاع الرأس، أو معنى من معاني الوجه، أو لوناً من ألوان الحياة، يكون أسمى في الفن من المصور الذي يتحامل على براعته حتى يصور أرنباً تكاد من دقة التقليد أن تلحظ وثبته وتعد وبره. والشاعر الذي يصف عاطفة من عواطف القلب، أو ظاهرة من ظواهر الكون، يكون أبلغ في فنه من الشاعر الذي يجهد قريحته في وصف حادثة من هَنَوات الحوادث لا تقوم في ذاتها على فائدة ولا لذة.

قد يكون الشيء المنقول في حقيقته قبيحاً، ولكن صدق التعبير عنه، ودقة التصوير فيه، والتماس المنفعة منه، تجعل تقليده جميلاً، كالوجه الشتيم يرسمه المصور المبدع بريشته، والخلق الذميم يصوره الشاعر المفلق بقلمه؛ والملهاة المسرحية موضوعها رذائل الناس ونقائص المجتمع، ولكنها ارتفعت إلى أوج الفن الجميل بتحليلها العميق، وتصويرها الدقيق، وغايتها النبيلة. كذلك الحوادث المؤلمة والمناظر المحزنة والمواقف المؤثرة ليس فيها من الجمال شئ. ولكن استبطان الفنان لدخيلة البائس، وتصويره الفاجعة ماثلة مثول الواقع، وإعانته الحقيقة على التأثير بالجمل النفاذة، والصور الأخاذة، والظلال الرهيبة، يجعل تقليدها من أجمل الأشياء، ويضع المأساة من الفن موضع الواسطة من العقد.

فأنت ترى أن التقليد لا يثير الإعجاب في نفسك، ولا يُشيع اللذة في شعورك، إلا باعتماده على الفن؛ والفن لا يتحقق جماله إلا بالعظمة في عمله، والسعة في وسائله، والحكمة في غايته؛ فإذا قلدت أصوات الطبيعة من غير تأليف ولا تنسيق ولا معنى، وأقمت شلالاً من الماء والحجر تضارع به شلال أسوان، وسردت بالكلام الموزون حادثة عادية من حوادث اليوم، أخطأك الفن وانزوى عنك الجمال؛ لأنك صغرت الطبيعة، وحقرت الواقع، وتعلقت بالتافه، واستعنت بالمادة، من غير قوة ولا ثروة ولا علة. ولو أنك رحت تستقري مفاتن الجمال في الطبيعة، أو في الفن، أو في الأثر الذي ينشأ من ائتلاف الطبيعة والفن، لما وجدتها في غير ما يعلن القوة والوفرة والذكاء مجتمعة أو متفرقة.

ص: 2

ولعلك واجد ما يدعم هذه الفكرة عن الجمال في قول (شيشرون): (إن الطبيعة أبدعت الأشياء على صورة تجعل ما يكون منها جَمَّ المنفعة يكون كذلك جليل المكانة موفور الجمال.

إن جلالة هذا المعبد نتيجة لازمة لمنفعته؛ فلو أنك تخيلت (الكابتول) قائماً في السماء على هام السحب، لما وجدت له جلالاً في نفسك ما لم يكن قيامه هناك علة لسقوط المطر).

وهل المنفعة التي أرادها شيشرون في صنع الطبيعة وفي نتاج الفن إلا الذكاء الذي أردناه في الجمال وقصدنا به حكمة الغرض وانتظام الخطة؟

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌3 - المجنون

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وكنا في النَّديِّ ثلاثة: أنا وأ. ش وس. ع؛ وقد هيَّأت تدبيراً تَوافَقْنا عليه لتحريك هذين المجنونين وتدوين ما يجئ منهما. فلما أقبلا تحفَّينا بهما وألْطَفْنَاهما، وقمنا ثلاثتُنا ببسطهما وإكرامِهما، حتى حسبا أن في كلمة (مجنون) معنى كلمة أمير أو أميرة. . . . . ورأيت في عيني (نابغة القرن العشرين) - وهو أعْيَنُ أنجَل - ما لو ترجمتُه لما كانت العبارةُ عنه إلا أنه يعتقد أن له نفساً أنثى أعشقها أنا. . . . فكان مُسَدَّدا فكِهِ اللسان تُسْتَملَحُ له النادرة وتُستظرف منه الحركة.

ولما تمكن منه الغرور واحتاج الجنون كما يحتاج الجمال إلى كبريائه إذا حاطته الأعين - أدار بَصره في المكان ثم قال: أُفٍ لكم ولما تصبرون عليه من هذا الندىَّ في ضوضائه ورعاعه وغوغائه. إن هؤلاء إلا أخلاطُ وأوشابُ وحثالة. هذا الجالس هناك. هذا الواقف هنالك. هذا المستوفِز. هذان المتقابلان. هؤلاء المتجمعون. هذا كله خيال حقيقة في رأسي. ما هي؟ ما هي؟

هذا التصايح المنكر. هذا الصرب بحجارة النرد. هذه الزحمة التي انغمسنا فيها. هذا المكان الهائج من حولنا. هذا كله خيال حقيقة في رأسي. هي، هي، هي.

فانزعج المجنون الآخر، ووقع في تهاويل خياله. ونظر إلينا تدور عيناه، وتوجَّس شراً، ثم زاغ بصره إلى الباب، واستْوفَزَ وجمع نفسَه للقيام؛ فلما رأى صاحبه ما نزل به، قهْقه وأمعن في الضحك وقال: إنما خوَّفتُه الصبيان والضرب ليثبت لكم أنه مجنون. . .

فَحردَ الآخر واغتاظ وجعل يتمتم بينه وبين نفسه.

قال (النابغة) ما كلامٌ تطن به طنينَ الذبابة أيها الخبيث؟

قال: (مما حفظناه) أن من علامات الأحمق أنه إذا استنطق تجلَّفَ، وإذا بكى خار، وإذا ضحك نهق. . كما فعلت أنت الساعة تقول هاء، هوء، هيء. . .

فتغير وجه (النابغة)، ونظر إليه نظرة منكرة، وهم أن يقتحم عليه وقال: أيها المجنون. لماذا تضطرني إلى أن أجيبك جواب مجنون. . . لا نجوت إن نجوت مني.

فأسرع أ. ش. وأمسك به واعترض من دونه س. ع. وقال له: أنت بدأته والبادئ أظلم.

ص: 4

قال: ولكن ويحه كيف قال هذا؟ كيف لم يقل إلا هذا كيف لم يجد إلا هذا يقوله؟ أنابغة القرن العشرين أحمق وقد أوْحدَهُ الله في القرن العشرين؟ لهممْتُ والله أن أكسر الذي فيه عيناه فما يقول إلا أني أحمق القرن العشرين.

قلتُ: إن كان هذا هو الذي أغضبك منه، ففي الحديث الشريف: ليس من أحد إلا وفيه حَمْقَةٌ، فبها يعيش. والحياة نفسها حماقة منظمة تنظيماً عاقلاً؛ وما يُقبِلُ الإنسان على شئ من لذتها إلا وهو مقبل على شئ من حماقاته؛ وأمتع اللذات ما طاش فيه العقل وخرج من قانونه؛ ولولا هذا الحمق في طبيعة الإنسان لما احتمل طبيعة الحياة. أليس يخيَّل إليك أن أكثرك غائب عن الدنيا وأقلك حاضرٌ فيها، وأن يقظتك الحقيقية إنما هي في الحلم وما يشبه الحلم، كأنك خُلقت في كوكب وهبطت إلى كوكبنا هذا، فما فيك له ولا فيه لك إلا القليل يلتئم بعضه ببعضه، وأكثركما متنافر أو متناقض أو متراجع؟ قال: بلى.

قلت: فهذا القليل هو الحمْقَةُ التي تعيش، وهي أرضية الأرض فيك. أو سماوية السماء فبعيدةٌ لا تحتملها طبيعة الأرض. ولهذا يعيش أهل الحقيقة عيش المجانين في رأي المغرورين الذين غرتهم الحياة الفانية، أو المخدوعين الذين خدعتهم الظواهر الكاذبة؛ فكلما أتوا عملا من الأعمال السامية انتهى إلى الحمقى معكوساً أو محوّلاً أو معدولاً به. ولعل هذا أصحَُ تفسير للحديث الشريف: أكثر أهلِ الجنةِ البُله.

قال المجنون الآخر: (مما حفظناه) أكثر أهل الجنة البُله.

فقال (النابغة): المصيبة فيك أنك أنت هو أنت. ألا فلتعلم أنك من بلهاء البيمارستان لا من بُلْه الجنة.

قلت: ثم إن الموت لا بد آت على الناس جميعاً فيسلبهم كل ما نالوه من الدنيا ويُلحق من نال بمن لم ينل؛ فمنذا الذي يُسرُّ بأن ينال ما لا يبقى له إلا أن يكون سروره من حماقته؛ ومنذ الذي يحزن على أن يفوته ما لا يبقى له إلا أن يكون حزنه حماقة أخرى؟ وأي شئ في الحب بعد أن ينقضي الحبُّ إلا أنه كان حماقةً ضربت في الحواس كلها حتى ملأت النفس؛ ثم ملأت النفس حتى فاضت على الزمن. ثم فاضت على الزمن حتى خبَّلت العاشق تخبيلاً لذيذاً تصغر فيه الأشياء وتكبر ويجعل الواقع في النفس غير الواقع في دنياها؟ يُشبِّه كلُّ عاشقٍ حبيبته بالقمر: فهب القمر سمع هذا وفهمه وعناه أن يجيب عنه، فماذا عساه

ص: 5

يقول إلا أن يعجب من هذا الحمق في هذا التشبيه؟

فهدأ (النابغة) وسكن غضبه وقال: صدقت ولهذا أنا لا أشبه حبيبتي بالقمر.

قلت: فبماذا تشبهها؟

قال: لا أقول لك حتى أعلم بماذا تشبّه أنت حبيبتك.

قلت: وأنا كذلك لا أشبهها بالقمر.

قال: فبماذا تشبهها؟ قلت: حتى أعلم بماذا تشبه أنت. . .

قال: هذا لا يُرضي منك وأنت أستاذ (نابغة القرن العشرين) ولك حبائبُ كثيراتٌ عدد كتبك، وقد أعجبتني منهن تلك التي في (أوراق الورد) وأظنك أحببتها في شهر مايو من سنة. . . من سنة. . .

قال المجنون الآخر: من سنة 1935؛ هاأنذا قد نبهتك.

قال: يا ويلك! إن (أوراق الورد) ظهرت من بضع سنين، إنما أنت من بُلهاء البيمارستان لا من بله أوراق الورد. . . ماذا كنت أقول؟

قال أ. ش. كنت تقول: هذا لا يرضي منك ولك حبائب كثيرات.

قال: نعم لأنك إذا شبهت واحدة منهن بالقمر انتهى القمر وفرغ التشبيه فيظل الأخريات بلا قمر. . . ثم إن كلمة القمر لا تعجبني، فلونها أدكن مغبر يضرب أحياناً إلى السواد. . .

فإذا عشقتُ زنجية فههنا محلُّ التشبيه بالقمر. . . أما البيض الرعابيب فتشبيههن بالقمر من فساد الذوق.

قال س. ع.: وللألفاظ ألوان عندك؟ قال: لو كنت نابغة لأبصرت في داخلك أخيلةً من الجنة. ألم يقل أستاذنا آنفاً عن (نابغة القرن العشرين) إنه هبط من كوكب إلى كوكب؟ فقي كوكبنا الأول يكون لنا سمع ملوَّن وحسٌ ملوَّن، نسمع قرع الطبل أزرق، ونفخ البوق أحمر، ورنين النغم الحلو أخضر، والوجود كله صورٌ ملونةٌ سواءٌ منه ما يرى وما يحس وما هو مستخفٍ وما هو ظاهر.

ثم أومأ إلى المجنون الآخر وقال: واسم هذا الأبله كلفظ الحبر لا أسمعه إلا أسود. . .

وسكت (النابغة) وسكتنا؛ فقال له س. ع. مالك لا تتكلم؟ قال: لأني أريد السكوت. قال: فلماذا تريد السكوت؟ قال: لأني لا أريد أن أتكلم. . .

ص: 6

وتحرك في نفسه الغيظ من المجنون الآخر فرمى بعينه الفضاء ينظر اللاشئ وقال: إذا أصبح كلُّ النساء ذوات لحى أصبح هذا عاقلاً. . . فدقَّ الآخر برجله دقاتٍ معدودة؛ فثار (النابغة) وقال: من هذا يشتمني؟

قال س. ع؟ لم يشتمك أحد، هذا خفقُ رِجلٍ على الأرض.

قال: بل شتمني هذا الخبيث وسمعي لا يكذُبني أبداً، وأنا رجل ظنونٌ أسيء الظن بكل أحد، وعلامة الحازم العاقل سوء ظنه بالناس. فهبه كما قلت قد خفق بنعله أو خبط برجله فهو يعلم ما يعني من ذلك وأنا أسمع ما يعنيه. لقد طفح الشعر على قلبي فلا بد لي من هجائه، ولا بد أن أذبحه ولو بالكلام، فإني إذا هجوته رأيت دمه في كلماتي، وأريد أن أجعله كالعنز التي كانت عندنا وذبحناها.

ثم انتزع قلم س. ع. وقال: هذه هي السكين. ولكن أسألك يا أستاذي أن تذبحه أنت بكلمتين وتصف له جنونه فقد عزَب عني الشعر. إن خفْقَة رجلٍ على الأرض تستطير الأرانب فزعاً فينفرن إلى أحجارهن ويتهاربن، وما كانت أبيات الشعر في ذهني إلا أرانب. . .

أنتم لا تعرفون أن من كان حصيفاً ثبيتاً مثلي كان دقيق الحس، ومن كان فدماً غبياً مثل هذا كان بليد الحس غليظاً كثيفاً. فإذا أنا استشعرت البرد رأيتني قد سافرت إلى القطب الشمالي؛ أما هذا المجنون فهو إذا استشعر برداً سافر إلى عباءته أو لحافه. . . .

إذ هو لا يعرف جغرافياً ولا يدري ما طحاها.

قلت: هذا منك أظرف من نادرة أبي الحارث. قال: وما نادرةُ أبي الحارث؟ وهل هو نابغة؟

قلت: جلس يتغذى مع الرشيد وعيسى بن جعفر، فأتى بخوان عليه ثلاثة أرغفة، فأكل أبو الحارث رغيفه قبلها، والرشيد ملك عظيم لا يأكل أكل الجائع وإنما هو التشعيث من هنا وهناك. فكان رغيفه لا يزال باقياً. فصاح أبو الحارث فجأة: يا غلام، فَرَسي. ففزع الرشيد وقال: ويلك ما لك؟ قال: أريد أن أركب إلى هذا الرغيف الذي بين يديك. .

قال (النابغة): ولكن فرقاً بين أبي الحارث وبين (نابغة القرن العشرين)، فإن من العجائب أني ربما نظرت إلى الرجل وهو يأكل فأجد الشبع حتى كأنه يأكل ببطني لا ببطنه. ولكن من العجائب أن هذا لا يتفق لي أبداً حين أكون جائعاً.

ص: 7

أما هذا المجنون الذي أمامنا فربما أبصر الحمار على ظهره الحمل فيشعر كأن الحمل على ظهره هو لا على ظهرالحمار. .

قال الآخر: (مما حفظناه) أنه سرق لأعرابي حمار، فقيل أسُرِق حمارك؟ قال نعم وأحمد الله. فقيل له على ماذا تحمده؟ قال على أني لم أكن عليه حين سرق. . فأنا إذا رأيت حماراً مثقَلَ الظهر حمدت الله على أن الحمل لم يكن علىّ، لا كما يقول هذا. ثم دقّ برجله دقات. .

فاستشاط (النابغة) وقال: أسمعتم كيف يقول إني مجنون، ثم لا يكتفي بهذا بل يقول إني حمار على ظهره الحمل؟

قلت: ينبغي أن تتكافأ وهذا لا يعيبك منه ولا يعيبه منك، فإن من تواضع النوابغ أن يشعروا ببؤس الحيوان، فإذا شعروا ببؤسه دخلتهم الرقة له، فإذا دخلتهم الرقةُ صار خيالُ الحمل حملاً على قلوبهم الرقيقة؛ وقد يصنعون أكثر من ذلك. حكى الجاحظ عن ثمامة قال: كان (نابغة) يأتي ساقيةً لنا سحراً فلا يزال يمشي مع دابتها ذاهباً وراجعاً في شدة الحر أيام الحر، وفي البرد أيام البرد، فإذا أمسى توضأ وقال: اللهم اجعل لنا من هذا الهم فرجاً ومخرجاً؛ فكان كذلك إلى أن مات.

قال المجنون الآخر: (مما حفظناه) ثمرةُ الدنيا السرور ولا سرور للعقلاء، فلو لم يكن هذا أعقل العقلاء لما مُحق سروره في الدنيا هذا المحق إلى أن مات غماً رحمه الله.

قال س. ع. فاعف الآن عن صاحبك ولا تذبحه بالهجاء.

قال: لقد ذكرتني من نسيان، وهذا المجنون يرى نسياني من مرض عقلي، وكان الوجه لو تهَدَّى إلى الحقيقة أن يراه شذوذاً في العقل أي نبوغاً عظيماً كنبوغ ذلك الفيلسوف الذي أراد أن يعرف في كم من الزمن تسلق البيضة؛ فأخذ بيده الساعة وبيده الأخرى بيضة ثم نسي نسيان النبوغ فألقى الساعة في الماء على النار، وثبتت عينه على البيضة ينظر فيها على أنها هي الساعة. ولو قد رآه هذا الأبله لزعمه مجنوناً كما يزعمني، فإن المجانين يرون العقلاء مرضى بمواهبهم وأعمالهم التي يعملونها.

وأنا فليس يهيجني شيء ما تهيجني كلمات ثلاث: أن يقال لي مجنون، أو أبله، أو أحمق. فمن رغب في صحبتي فليتجنب هذه الثلاث كما يتجنب الكفر والكفر والكفر. . .

ص: 8

قال أ. ش. فإذا قيل لك مثلاً مثلاً. أي على التمثيل: مغفَّل. . .

فحك رأسه قليلاً وقال: لا، هذه ليست من قدري. . .

قلت: فبعض الكلمات إذا قطعت عندك غيرت الحقائق، كذلك القرن الذي قُطع فَرَد البقرة فرساً؟

قال وكيف كان ذلك؟ قلت: زعموا أن أعرابياً خرج أخوته يشترون خيلاً، فخرج معهم فجاء بعجل يقوده. فقيل له ما هذا؟ قال فرس اشتريته. قالوا: يا مائق هذه بقرة أما ترى قرنيها؟

فرجع إلى منزله فقطع قرنيها ثم قادها إليهم وقال لهم: قد أعدتها فرساً كما تريدون. . .

قال (النابغة) هذا غير بعيد، فقد رأيتُنا حين ذبحنا العَنز وكسرنا قرنيها أعدناها كلبة سوداء، فتقذَّرتها وعفتُ لحمها ولم أطعم منها.

ثم أومأ إلى الآخر وقال: هذا لا يدري ما طَحاها، وهو مثل العنز تحسب قرنيها للقتال والنِّطاح ومنهما تمسك للذبح. فقل في هذا يا أستاذ (نابغة القرن العشرين).

قلت للآخر: أيرضيك أن أقول في المعنى لا فيك أنت. . .؟ قال نعم، فكتبت هذه الأبيات على ما يريد النابغة:

قل لعَنز ناطِحَاها

لقتالٍ سلَّحَاها

مالها قد طَرَحاهَا

في يَدَين ذَبَحَاها

شِيمةٌ مني نحَاهَا

عقلُ غر فلحَاهَا

ليس يدري ما طحاها

بل يرى شمسَ ضُحَاها

حَجَرا مثلَ رَحَاهَا

ويرى الليل مَحَاها

ظُلماً طالت لِحَاها

وسر (النابغة) وازدهى وجعل يقول طالت لحاها، طالت لحاها؛ وما كان هذا إلا السرور الأصغر؛ أما سروره الأكبر فمجيء ساعي (البريد المستعجل) إلى النديّ وفي يده رسالة عنوانها: نابغة القرن العشرين فلان بنديّ كذا.

وجعل الرجل يهتف بالعنوان يسأل عن صاحبه؛ فتطاولت أعناق الناس ورفعوا أبصارهم ينظرون إلى (نابغة القرن العشرين) وقد مدَّ يده يتناول الرسالة وكأنه ملك من القدماء أسقط

ص: 9

له كتابٌ بالفتح العظيم وبضم دولة إلى دولته.

ثم ترك الرسالة بين أصابعه يقلبها ولا يفضُّها ونحن في دهشة من أمره؛ فنظر فيها المجنون الآخر وقال له: هذا عجيب يا أخي كيف هذا؟ إن هذا لا يصدَّق. إنك لم تُلقِها في صندوق البريد إلا منذ ساعة. . . . . . . . . . . .

(لها بقية)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 10

‌2 - الصقالبة في الرواية العربية وفي الدولة

‌الأندلسية

للأستاذ محمد عبد الله عنان

ونلاحظ أنه بينما كان نفوذ الصقالبة يقوى ويشتد في بلاط قرطبة وفي الدولة الأموية في الأندلس، إذا بنفوذ الصقالبة يغزو بلاطاً إسلامياً آخر ودولة إسلامية أخرى هي الدولة الفاطمية؛ ومما يدعو إلى التأمل أن يزدهر النفوذ الصقلي في البلاط الفاطمي في نفس العصر، أعني في أواسط القرن الرابع الهجري، وفي ظروف مماثلة؛ وقد قامت الدولة الفاطمية في المغرب بمؤازرة القبائل المغربية القوية، واستأثر زعماؤها مدى حين بمناصب الثقة والنفوذ؛ ولكن تطوراً وقع في السياسة الفاطمية؛ ومنذ عهد المعز لدين الله يغزو نفوذ الصقالبة البلاط الفاطمي ويغالب نفوذ المغاربة؛ وقد كان جوهر الصقلي أعظم أعوان المعز وكبير قادته من أصل صقلبي، وكان له في الدولة وفي الجيش أعظم نفوذ؛ وفي عهد العزيز سما نفوذ الصقالبة وساد في القصر وفي الوزارة؛ وبلغ ذروة قوته في أوائل عهد الحاكم بأمر الله الذي تولى الملك صبياً وتولى الوصاية عليه صقلبي هو برجوان؛ وفي عهد وصايته القصير سيطر الصقالبة على القصر والدولة، واستأثر بمناصب النفوذ والحكم نفر من الفتيان الصقالبة مثل يانس وميسور ويمن وغيرهم؛ ولكن الحاكم لم يلبث أن تخلص من هذا النفوذ الخطر بمقتل برجوان ونكبة الفتيان الصقالبة، وبذلك انهار نفوذ الصقالبة في البلاط الفاطمي.

وكان ذلك في أواسط القرن الرابع وفي أواخره حيث كان يزدهر نفوذ الصقالبة في بلاط قرطبة في عهد الناصر حسبما بينا، ثم في عهد ولده الحكم المستنصر من بعده. ولما توفي الناصر كان نفوذ الصقالبة أشد ما يكون بسطة في القصر وفي الحكومة؛ وكان فتيان القصر الصقالبة وهم المعروفون بالخلفاء الأكابر أول من أخذ البيعة للحكم المستنصر؛ وكان حاجب الحكم، جعفر بن عبد الرحمن الصقلي أقوى وأعظم رجل في الدولة؛ وكان الحرس الخلافي المكون من الفتيان الصقالبة سياج البيعة الخلافية وأبرز مظاهرها؛ وكان من وزراء الحكم أيضاً زياد ومحمد ابنا أفلح الصقلبي صاحب الخيل في عهد الناصر؛ وفي عهد الحكم غدا الحرس الخلافي كل شيء في القصر، وغدا عصمة الخلافة والخليفة يسهر

ص: 11

على سلامة عرشه وشخصه، ويحميه من المؤامرات والدسائس الخارجية؛ وكان أولئك الجند الصقالبة يعتدون بقوتهم وسلطانهم ويمرحون في العاصمة ويسيئون أحياناً إلى أهلها، وكان الحكم يخشى بأسهم ويغضي عن تصرفهم وسوء سلوكهم؛ وكان عدد الحرس الخاص من الفتيان الصقالبة يبلغ زهاء ألفن، بيد أنهم كانوا يتمتعون بوفرة في الوجاهة والثراء، ويملكون الضياع الشاسعة، ويسيطرون على كثير من الأتباع والحاشية.

وهكذا أصبح الحرس الخلافي أو الفتيان الصقالبة في بلاط قرطبة أصحاب الحول والقوة، وغدوا عاملاً يحسب العرش حسابه، بل غدوا قبل بعيد حكماً في مسألة العرش وولاية العهد، مثلما غدا الحرس التركي في بلاط بغداد. وما توفي الحكم (سنة 366هـ - 976م) كان الصقالبة هم سادة الموقف وأصحاب الكلمة في ولاية العرش والخلافة. وكانت زعامتهم بيد فائق النظامي صاحب البرد والطراز، وجوذر صاحب الصاغة والبيازرة، وإليهما كان أيضاً أمر الغلمان الفحول خارج القصر. وكان رأي الصقالبة أن يصرف النظر عن تولية ولي العهد هشام بن الحكم، وهو يومئذ غلام في نحو الحادية عشرة حتى لا يفقدوا نفوذهم في ظل وصاية جديدة، وأن يولى الخلافة أخو الحكم المغيرة بن عبد الرحمن الناصر فيكون لهم بذلك فضل يمكنهم من توطيد نفوذهم وسلطانهم عليه؛ ولكن الحاجب جعفراً المصحفى أدرك ما يضمره الصقالبة من وراء هذا المشروع ولم يقرهم على ائتمارهم بولي العهد؛ ونظم البيعة لهشام ولي العهد بمعاونة الوزير محمد بن أبي عامر؛ ودبر الاثنان مقتل المغيرة بن الناصر خشية مناوأته، وتولى ابن أبي عامر تنفيذ الجريمة، وبذا استقر هشام المؤيد في العرش الخلافي، وانهار مشروع الصقالبة؛ ودبت الوحشة على أثر ذلك بين الصقالبة والحاجب جعفر، فأخذ يتحين الفرصة لسحقهم؛ وكان ابن أبي عامر يستميل الصقالبة ويداريهم بادئ ذي بدء حتى تمكن نفوذه في القصر وفي الجيش؛ وعندئذ اتفق مع الحاجب على نكبة الصقالبة وتشريدهم، ولم يدخر في ذلك وسيلة ظاهرة أو مستترة حتى شرد زعماؤهم واستصفيت أموالهم وأخمدت شوكتهم، ونفي زعيمهم فائق إلى الجزائر الشرقية (جزائر البليار)، وفي ذلك يقول شاعر معاصر هو سعيد الشنتريني:

أخرِج من قصر أمام الهدى

كل فتى منبسط جائر

ص: 12

فمن رأينا منهم قال لا

مساس قبل الناس بالشاكر

فخف ظهر الملك المرتضي

قد خف من ثقلهم الظاهر

وسال ماء العلم من وجهه

مذ مال عن حبلهم الخاثر

فلازم الميدان في قصره

مع الوزير الخير الطاهر

ولما سما أمر ابن أبي عامر وسحق كل خصومه ومنافسيه واستبد بالسلطة، رأى أن يتخذ من البربر بطانة له وخولا وأن يستعين بهم على العرب، فقدمهم في الحكومة والجيش، وعمل على تمزيق القبائل العربية؛ وكانت العصبية العربية قد اضمحلت منذ بعيد، فلم تلق السياسة الجديدة معارضة تذكر؛ وهكذا حل البربر مكان الصقالبة في الالتفاف حول السلطة العليا والتمتع برعايتها، بيد أن الصقالبة لم يفقدوا كل نفوذ بعد، فقد استمر عدد كبير منهم يشغل وظائف الخاص بالقصر؛ ولما أنشأ ابن أبي عامر حاضرته المعروفة بالزاهرة، واتخذ سمة الملك وتسمى بالحاجب المنصور، عاد إلى اصطناع الصقالبة، واتخذ منهم إلى جانب البربر حاشية وبطانة؛ وحشد منهم كثيراً في الجيش؛ والظاهر أن هذه الطائفة أعني الصقالبة كانت تتمتع بصفات وخلال خاصة تجعلها أداة لينة صالحة في يد السياسة القوية الحازمة، وإذا كان الصقالبة قد بدوا في أحيان كثيرة خطراً على الدولة والعرش فقد كان من أثر السياسة التي تمد لهم في السلطة وتسمح لهم باستغلالها، وتغضي عن صلفهم وتمردهم؛ وقد كانت هذه حال الصقالبة في عهد الحكم المستنصر وحين وفاته، فقد بلغ من سلطانهم ونفوذهم أن اعتزموا التصرف في أمر العرش طبق أهوائهم، ولولا أن سحقتهم يد ابن أبي عامر القوية لاستمر سلطانهم المطلق. بيد أن ابن أبي عامر لم يجد بأساً بعد أن أخمد شوكتهم وشرد زعماءهم من أن يستخدمهم أداة لتنفيذ إرادته، بل لم يجد بأساً من أن يرفع بعضهم إلى أسمى المناصب، كما حدث في شأن مولاه الفتى واضح الصقلبي، فقد منحه حكم الولايات الجنوبية وولاه قيادة الجيش الذي بعثه لمحاربة أقوى وأخطر خصومه زيري بن عطية البربري حاكم المغرب الأقصى؛ وقد كان لواضح هذا وعصبته الصقالبة شأن عظيم فيما تلا من الحوادث والخطوب.

ولم يستطع الصقالبة في ظل حكومة المنصور القوية أن يتدخلوا في شؤون الدولة أو يؤثروا في سيرها وتوجيهها؛ فلما توفي الحاجب المنصور (393هـ - 1002م)،

ص: 13

وانهارت الدولة العامرية بعدئذ بقليل، رأى الصقالبة الفرصة سانحة للعمل، فانضموا إلى الحزب الأموي الذي عمل لإسقاط الدولة العامرية وسحق البربر الذين آزروها ومكنوا لها؛ ولما ظفر محمد بن هشام زعيم هذا الحزب ببغيته واستولى على قرطبة وتلقب بالمهدي، انضم إليه الفتى واضح وعصبته الصقالبة واتخذ واضحاً لحجابته وانضم فريق آخر من الصقالبة بزعامة خيران العامري وزميله عنبر إلى سليمان المستعين خصيم المهدي ومنافسه، وجرت بين الفريقين مواقع جمة، واستتب الأمر للمهدي؛ ولكن الصقالبة لم يخلدوا إلى السكينة ورأوا صالحهم في إبعاد المهدي عن العرش، فتفاهم الصقالبة من الحزبين وائتمر واضح وخيران بالمهدي فقتله الصقالبة، في الحمام (سنة 400هـ) وأخرج واضح الخليفة المؤيد هشام المحجور عليه، وكان سجيناً بالقصر منذ أيام المنصور، وأجلسه على العرش؛ وتولى واضح حجابته، واستأثر بكل رأي وسلطة؛ وقبض على ناصية الأمور في قرطبة مدى حين؛ ولكن سليمان المستعين لم يلبث أن هاجم قرطبة في مجموعة البربر ثم دخلها رغم كل ما اتخذه له واضح من الأهبة لمقاومته، وفتك جنده بالسكان أيما فتك، واقتحموا مدينة الزهراء وخربوها (401هـ)؛ فعندئذ رأى واضح السلامة في خيانة المؤيد واللحاق بالمستعين؛ ولكن الجند الصقالبة وقفوا على نيته في الوقت المناسب فقتلوه؛ واستمر الصقالبة في الدفاع عن قرطبة وعن المؤيد وعرشه، والمستعين يحاول استمالتهم عبثاً، واضطرمت الحرب بين الفريقين مدى حين، وانتهت باستيلاء سليمان على قرطبة في مناظر هائلة من السفك والعيث (403هـ) وانهار سلطان الصقالبة بانهيار عرش المؤيد؛ وبدأ سلطان البربر، واستأثروا بحكم الثغور والنواحي، وانتثر عقد الخلافة وانقسمت الأندلس إلى دويلات وإمارات صغيرة، وبدأ عهد الطوائف.

بيد أن الصقالبة لم ينسحبوا نهائيا من الميدان، ولم يختفوا نهائياً كعامل يؤثر في سير الحوادث فقد اجتمع فلهم حول زعيم منهم، من صنائع الدولة العامرية، هو خيران العامري؛ واستقر خيران بعصبته ومن لحق به من خصوم المستعين والبربر إلى المرية بعد أن أستخلصها من يد البربر؛ وفي الوقت نفسه عبر علي بن حمود حاكم سبتة في جيش من البربر إلى الأندلس محاولاً أن يشق له خلال الاضطراب طريقاً، وتفاهم مع خيران العامري والصقالبة وتحالفا على محاربة المستعين، ثم زحفا بجموعهما على قرطبة،

ص: 14

ونشبت بين الفريقين حرب رائعة هزم فيها سليمان وأسر ثم قتل مع أفراد أسرته؛ وجلس علي بن حمود على العرش وتلقب بالمتوكل (407هـ). ولجأ في الحال إلى سياسة الإرهاب والشدة، ولم يترك أي مجال أو سلطة للصقالبة، فسخط عليه خيران وتركه، وأظهر الخلاف عليه. وأثار المتوكل ببطشه وشدته زعماء العرب، واشتدت عليه النقمة، ولم يلبث أن قتله الصقالبة في الحمام (أواخر سنة 407هـ) وبذلك استطاعوا أن يؤثروا في سير الحوادث كرة أخرى.

ولما توفي المتوكل خلفه أخوه القاسم بن حمود وتلقب بالمأمون، وعدل عن سياسته الشدة إلى اللين والمسالمة، واستمال خيران العامري الذي استعصم بالمرية، وأقطع زميله زهير العامري ولاية جيان؛ وكانت الحوادث تتطور بسرعة، وكان الخلاف يضطرم فيما بين آل حمود؛ فانتهز الزعماء العرب تلك الفرصة وتفاهموا مع الصقالبة ضد أل حمود والبربر، واستخلصوا قرطبة من يد المتغلبين عليها؛ بيد أن نجم الصقالبة كان بدأ بالأفول، ولم يكن يسطع يومئذ إلا غرارا؛ وكانت دولتهم قد انهارت في الواقع وتفرقوا بين مختلف الصفوف والأحزاب؛ وكانت آخر مظاهر سلطتهم أن تولوا الحجابة لإدريس بن حمود الذي استقر في مالقة وتلقب بالمتأيد بالله، فتولى حجابته نجا الصقلبي مدى حين، ولكن دون عصبية ظاهرة.

وكان هذا آخر العهد بتدخل الصقالبة في سير الحوادث الأندلسية بصورة بارزة. ومن ذلك الحين يختفون من ميدان الشؤون الأندلسية كقوة فعالة لها أثرها الحاسم في توجيه الحوادث، ومن ذلك الحين يبزغ نجم البربر؛ وتتحول المعركة الداخلية إلى نضال مزدوج، نضال ملوك الطوائف فيما بين أنفسهم، ثم نضالهم ضد العدو المشترك أعني أسبانيا النصرانية؛ ثم يجيء دور البربر في السيادة المطلقة بسرعة، فتنهار دول الطوائف الصغيرة تحت ضرباتهم القوية، وتسقط الأندلس في يد المرابطين ثم يفتتحها الموحدون، فتستمر سيادة البربر عصراً آخر؛ ثم تنهض مملكة غرناطة في تلك الغمار والخطوب العصيبة فتسطع في الأندلس حتى يحل الصراع الأخير.

تم البحث

محمد عبد الله عنان

ص: 15

‌مذاهب الفلسفة

مذهب الذرائع

للأستاذ زكي نجيب محمود

لقد لبثت الفلسفة دهراً طويلاً تسبح في سماء الفكر المجرد فلا تصغي بآذانها إلى الحياة العملية التي تعج بأصدائها أرجاء الأرض جميعاً. ولا نحفل بالواقع الذي تراه الأبصار إلا قليلاً فقد قصرت مجهودها - في الأعم الأغلب - على جوهر الأشياء في ذاتها، وأخذت تسائل: ما المادة وما الروح وما مبعثها ولكنها باءت بعد طول الكدح والعناء بالفشل والإفلاس. . حتى جاء الفكر الأمريكي الحديث الذي يقدس العمل ويمقت البحث النظري المجدب العقيم، وأراد أن ينجو بالفكر نحو جديداً، فلا يكون من شأنه كنه الشيء ومصدره، بل نتيجته وعقباه. ولقد كان أول من صاغ هذا المذهب وليام جيمس (1842 - 1910) الذي اعترف أنه قد استمد أصوله وقواعده من أشتات قديمة. وأن له فضل الصياغة والتعبير. أما رسالته التي قصد إلى أدائها بمذهبه فهي في أوجز عبارة: أن يتخذ الإنسان من أفكاره وآرائه ذرائع يستعين بها على حفظ بقائه أولاً، ثم على السير بالحياة نحو السمو والكمال ثانياً.

إنه لمن الغفلة والشطط أن نُؤتى هذه القوة العقلية فنبددها في البحث عما وراء الطبيعة من قوى مما لا غناء فيه للإنسان ولا رجاء؛ إن العقل إنما خلق ليكون أداة للحياة ووسيلة لحفظها وكمالها، فلينصرف إلى أداء واجبه، وليضرب في معمعان الحياة العملية الواقعة، فليست مهمته أن يصور بريشته عالم الغيب المجهول، الذي لا يكاد يربطه بحياة الإنسان سبب من الأسباب، وليكن مقياسه الذي يفصل به بين الحق والباطل هو مقدرة الفكرة المعينة على إنجاز أغراض الإنسان في حياته العلمية، فإن تضاربت الآراء وتعارضت، كان أحقها وأصدقها هو أنفعها وأجداها، ذلك الذي تنهض التجربة العملية دليلاً على فائدته. وكل شيء يؤثر في الحياة تأثيراً منتجاً يجب أن يكون في اعتبارنا هو الحقيقة، بغض النظر عن مطابقته أو عدم مطابقته لما يخلقه الفكر المجرد من معايير، إذ لا يُعَوّل مذهب الذرائع إلا على النتائج وحدها؛ فإن كان الرأي مثمراً نافعاً قبلناه حقيقة، وإلا أسقطناه من حسابنا وهما باطلاً.

ص: 17

والواقع أن معظم الناس يتبعون في حياتهم العملية أصول هذا المذهب، فهم ينتقون لأنفسهم من الآراء ما يعين على تحقيق أغراضهم التي يقصدون إليها، أو ما يعمل على رقي الإنسانية وتقدم البشر بصفة عامة. خذ العقيدة في الله مثلاً، فالأكثرية العظمى تأخذ بها لا لأن الدليل قاطع بوجوده، (فذلك أبعد عن متناول الدهماء) ولكن لأنها ترى أن هذه العقيدة تبث في حياة الناس روحاً قوية، وتفسح أمامهم في الأمل الجميل الذي تزدهر به الحياة وتبتسم، والذي لولاه لضقنا ذرعاً بفداحة عبئها. . فليس منا من لا يقيس الآراء بظروف عيشه ثم يختار منها أنسبها له وأفعلها في أداء مهمته؛ فسلوكها العملي هو في الواقع الذي يوجه أفكارنا، وليست أفكارنا هي التي توجه أعمالنا. ولقد قال موسوليني يوماً إنه يدين لوليام جيمس بكثير من آرائه السياسية، وإنه بتأثيره لا يحتكم في سياسته إلى نظريات العقل المجرد، إنما يسلك من السبل ما يراه أقوم وأدنى إنتاجاً.

وإن نيتشه ليذهب في هذا الاتجاه إلى أقصاه، فيقرر أن الباطل إذا كان وسيلة ناجحة لحفظ الحياة كان خيراً من الحقيقة؛ فبطلان الرأي لا يمنع قبوله ما دام عاملاً من عوامل بقاء الفرد وحفظ النوع؛ فلرب أكذوبة أو أسطورة تدفع الحياة إلى الأمام بما تعجز عنه الحقيقة المجردة العارية. أنظر كيف تفعل الوطنية في رأس الجندي فيطوح بنفسه بين براثن الموت، ولو حكم عقله المجرد لما فعل؛ بل أنظر كم يبذل الآباء والأمهات من مجهود في سبيل أبنائهم، ولو استرشدوا العقل وحده لآثروا أشخاصهم ولضنوا على لأبناء بأي بذل أو عطاء، ولكننا لحسن الطالع ذرائعيون بالفطرة، فنعتنق من الآراء أحفظها للحياة، ولولا ذلك لظلت الإنسانية في حيوانيتها الأولى لا تتقدم ولا تسير.

ولا يقتصر الأمر في ذلك على عامة الناس، بل إن أرباب العلم أنفسهم ليأخذون بطائفة كبيرة من الآراء التي تعين على المضي في بحثهم، دون أم ينهض الدليل العقلي على صحة تلك الآراء التي اتخذوها أساساً لأبحاثهم، فلا يدري العلم ما الأثير وما الجاذبية وما المادة وما الكهرباء، ولكنه يفرضها لأنها تعينه على أداء مهمته؛ وهذا بعينه ما يدعو إليه مذهب الذرائع، فيكفي لأن تكون تلك الآراء صحيحة أنها توجهنا في حياتنا توجيها صحيحاً، فلا يعنينا في كثير أو قليل أن نعلم ما هي الكهرباء في ذاتها ما دمنا نستطيع أن نستخدمها، فحسبنا من معناها آثارها، وليكن معنى الكهرباء هو ما تعمله وما تؤديه، وعلى

ص: 18

هذا النحو يمكننا أن نتخلص من أعوص المسائل الفكرية التي أرهقت الفلسفة بغير طائل؛ فلندع جانباً كل بحث عن ماهية القوة أو ماهية المادة أو ماهية الله وما إلى ذلك، وحسبنا منها أن نبحث عن الآثار التي تنشأ عنها في حياتنا اليومية العملية، فإن لم يكن لها آثار فيما نصادف من تجارب وجب اعتبارها ألفاظاً جوفاء لا تحمل من المعنى شيئاً.

وهكذا يريد مذهب الذرائع أن تكون كل فكرة وسيلة لسلوك عملي معين، أعني أن تكون الفكرة تصميماً لعمل يقوم به الإنسان، أو لا تكون على الإطلاق؛ فالفكرة التي تحيا في الذهن وحده ليست جديرة بهذا الاسم، ولا خير فيها إلا أن كانت مرشداً للإنسان في حياته وسلوكه، فيكون مثلها مثل اللون الأحمر أو الأخضر على السكة الحديدية يراهما سائق القطار فيوجهان تصرفه توجيهاً معيناً، أو كالعلامات الموسيقية كل قيمتها في توجيه حركات الموسيقيِّ، فإن لم تُفد ذلك كانت عبثاً صبيانياً لا يعني شيئاً؛ فيجب على هذا الأساس أن تكون كل فكرة في أذهاننا مرشداً عملياً يرسم لنا سلوكنا ويضع لنا القواعد التي ينبغي أن نسير على مقتضاها في حياتنا اليومية. أو بمعنى آخر تكون أساساً لعادة معينة. ففكرة الجاذبية مثلاً معناها محصور في تكوين عادات أستعين بها في سلوكي، فأعرف كيف أنظم علاقاتي بالأشياء تنظيماً ملائماً، فأحمل كوب الماء مثلاً وفمه إلى أعلى حتى لا ينسكب الماء بفعل الجاذبية؛ وأمشي معتدل القامة خشية السقوط بفعل الجاذبية، وأشيد مسكني مستقيم الجدار لئلا ينهار بفعل الجاذبية، وهلم جرا. أما إن كانت حياتي لا تتأثر بهذه الفكرة، وكنت لا أصادف لها آثارا فيما أصادف من تجارب، كانت في اعتباري وهما وخطأ، بغض النظر عن حقيقة وجودها في العالم الخارجي أو عدم وجودها؛ فالرأي الصحيح هو ما ييسر لي سبيل الحياة ويعمل على توفيقها ونجاحها، والرأي الخاطئ هو ما يفعل عكس ذلك، أو ما لا أرى له أثراً في الحياة.

وظاهر أن نظرية التطور تؤيد هذا المذهب وتدعمه، لأن العقل عندها ليس إلا عضواً كسائر الأعضاء يتذرع به الإنسان في تنازع البقاء، وأنه لو لم يكن العقل أداة من أدوات البقاء لما وجد أصلاً؛ وإذن فالفكرة التي تنشأ فيه لا تكون صادقة بمقدار مماثلتها للحقيقة الواقعة في الخارج، كلا، بل مقياس صدقها هو في مقدرتها على إجابة الظروف المحيطة بنا على النحو الذي يمكن لنا في البقاء. ولتوضيح ذلك نقول إنه من المعلوم أن الأشياء

ص: 19

الخارجية في ذاتها لها ألوان، إنما الألوان من صنع أعيننا، ولكني ما دمت أستطيع بفكرة اللون التي في ذهني (وإن لم تكن موجودة في الخارج) أن أميز الأشياء فأعرف التفاحة الناضجة مثلاً باحمرارها؛ والفجة باخضرارها، ففكرة اللون صحيحة صادقة. كذلك قل في الصوت، فليس للأصوات وجود في الخارج، إنما هي أمواج تقصر حيناً وتطول حيناً، حتى إذا ما قرعت الأذن، ترجمتها هذه بما نعهد من أصوات، ولكن ماذا يعنيني من عدم مماثلة فكرة الصوت في ذهني للأمواج الخارجية في الهواء، ما دمت أعرف أن هذا الصوت المعين يدل على سيارة قادمة فأنجو بحياتي من الخطر؟ إن فكرة الصوت حقيقة ما دامت تعمل على نجاح الحياة وبقائها. . . إن الحياة كما يعرفها سبنسر هي ملاءمة حالات الإنسان الداخلية بالظروف الخارجية، وإذن فالعقل الصالح للحياة هو ذلك الذي يدرك اختلاف الظروف الخارجية لنعدل من سلوكنا بما يلائم الموقف الجديد، وليس يعنينا بعد ذلك في كثير ولا قليل أن تكون الصورة الذهنية التي رسمها لنا العقل من الأشياء الخارجية، مطابقة لأصلها أو مشوهة محرفة، فالحقيقة العليا في الوجود هي الاحتفاظ بالبقاء أولاً، ثم الارتفاع بالحياة نحو الكمال. فكل ما يؤدي ذلك هو حق صريح. وفي ذلك يقول (ديوي) العالم الأمريكي المعروف: إن الفكر أداة لترقية الحياة وليس وسيلة إلى معرفة الأشياء في ذاتها. ويقول (شلر): إن الحقيقة هي ما تخدم الإنسان وحده. وكلا الرجلين من دعاة هذا المذهب.

ونحن نجمل فيما يلي ثلاثة الشروط التي يضعها مذهب الذرائع لصدق فكرة ما:

1 -

فأولاً يجب أن يكون للفكرة قيمة فورية - ومعناها أن الإنسان يجب أن يشاهد صحة رأيه أو خطأه في تجربته العلمية، فإن جاءت هذه التجربة العلمية موافقة للفكرة كانت الفكرة صحيحة وإلا فهي خاطئة.

2 -

وثانياً أن تكون الفكرة منسجمة مع سائر أفكاري وآرائي. فلا يكفي أن تكون كل فكرة صحيحة على حدة بالنسبة لقيمتها الفورية، ولكنها يجب كذلك ألا تناقض الأفكار الأخرى. فلا يجوز مثلاً أن أفرض نوعاً من الذرات في علم الطبيعة، ثم أفرض نوعاً آخر منها في علم الكيمياء، حتى ولو كان كل منهما صحيحاً في ميدانه الخاص - فإذا وجدنا أمامنا فكرتين عن شئ ما، كل منهما صحيح بالنسبة لقيمته الفورية، وجب أن نختار إحداهما على

ص: 20

أساس البساطة، فأبسط الفكرتين أصحهما؛ فمثلاً لما أتى كوبرنيك برأيه الجديد عن الكون يعارض به رأي بطليموس القديم، كانت كلتا الفكرتين صادقة إذا قيستا إلى ما ينجم عنهما من النتائج العملية في حياة الناس، ولكن ما دامت فكرة كوبرنيك أقل تعقيداً من الأولى، كان لزاماً أن يقع عليها اختيارنا.

3 -

ولا بد للفكرة بعد هذا وهذا أن تطمئن لها نفس الإنسان وترضى ما دام لا يتعارض مع القيمة العملية. فالعقيدة الدينية مثلاً، على الرغم من أن ليس لها قيمة فورية في حياتنا إلا بمقدار ضئيل، إلا أنها واجبة، لأنها تخلع على حياتي صبغة من التفاؤل، وهي في الوقت نفسه تنسجم مع الأفكار الأخرى ولا تتعارض معها. ومعنى ذلك أنه إذا تساوت ظروف فكرتين، ثم كانت إحداهما تبعث التفاؤل والأخرى تبعث التشاؤم، كانت الأولى بالنسبة لنا أصدق وأصح. فالمؤمن والملحد كلاهما لا تؤثر عقيدته في شؤون حياته! ولكن الأول متفائل يرجو الآخرة، والثاني متشائم لا يرجو شيئاً؛ إذن فالإيمان أصدق من الإلحاد وأحق، لأنه أجدى على الإنسان وأنفع.

تلك هي الحقيقة في عرف هذا المذهب؛ ولقد يعترض بحق أنها قد تؤدي إلى التنافر بين الناس، وإلى عدم انسجامهم في سلك المجتمع، لأن كل فرد سينتقي لنفسه الرأي الذي ينفعه بغض النظر عما يتخذه سواه من آراء؛ وإذن ففلسفة الإنسان ستعتمد على مزاجه وظروفه، ولكننا نسارع فنقول إن مذهب الذرائع قد أحس في نفسه بهذا النقص، فحاول أن يوفق بين قواعده وبين مصلحة الجماعة لا الفرد، فقرر أن الرأي الصحيح هو الذي يكون له فائدة عملية لأكبر عدد ممكن من الناس، بل ويحسن أن تشمل نتائجه النافعة الإنسانية بأسرها، وإذن فلا ينبغي أن نحكم على رأي بالصواب أو بالخطأ إلا بعد تجربة اجتماعية طويلة الأمد. ولكن يؤخذ على مذهب الذرائع وجوه أخرى من النقص نرجو أن نعرضها في مقال تال.

زكي نجيب محمود

ص: 21

‌قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

وكيل كلية العلوم

كوخ

رابع غزاة المكروب

طبيب القرية الذي ضجر بالطب لجهله أسباب الداء ثم ادعائه علاجه؛ الذي شغله البحث في أصول الأمراض عن مداواة أربابها؛ الذي حقق أحلام بستور وأثبت أن المكروب ينتج الأمراض، وأن لكل مرض مكروباً يخصه، ويخصه وحده؛ الذي علم الدنيا كيف تصطاد النوع الواحد من المكروبات، وتصطاده خالصاً خالياً من الأخلاط؛ الذي كشف مكروب الجمرة الخبيثة، قاتلة الماشية والإنسان، ومكروب السل قاتل الإنسان والحيوان؛ الرجل الذي كشف مكروب الكوليرا على أرض مصروفي أجسام ضحاياها. البطل الذي نزل بساحات الموت فأظلته فيها أرفع بنوده، وقاتلته على أرضها أفتك جنوده، فأسر منها على هواه، وخرج عنها سالماً قد أخطأته سهامها قضاء وقدراً.

المترجم

- 3 -

كان كوخ مستقرّ النفس، بارد العاطفة؛ فلما نجا من هذه المخاطر بسلام، وأصاب بها ما أمّل من نجاح، لم يَدُرْ بخلده أنه أصبح في عداد الأبطال، ولم يخطر بباله أن ينشر أبحاثه في الناس. واليوم إذا أنجز الرجل الباحث عملاً بارعاً كهذا، وكشف عن أسرار لها مثل هذه الخطورة، استحال عليه أن يعقد لسانه فلا يتحدث بها.

وظل يسخّر نفسه في العمل تسخيراً، ويذلها فيه تذليلاً، وهو في ذلك ساكت صامت، حتى ليكاد المرء يتهم هذا الطبيب الريفيّ الألماني العبقريّ بأنه لم يدرك مقدار الجمال والخطر الذي كان في تلك التجارب التي أجراها وحيداً في عزلته وانزوائه.

ص: 22

نعم تابع العمل وصابره، فلا بد له أن يعلم فوق الذي علمه؛ فأخذ يحقن الخنازير الغينية والأرانب، والشياه أخيراً، بذلك السائل ذي المظهر الطاهر والمخبر القاتل من قطراته العالقة. ولم تكد تدخل هذه الآلاف القليلة من المكروب إلى دم هذه الحيوانات حتى يتضاعف عددها بلايين المرات بسرعة واحدة، وبفظاعة واحدة، في الفأر الصغير والشاة الكبيرة على السواء؛ ولا تمضي ساعات حتى تعج بها أنسجة كانت سليمة تزدحم في الشرايين الصغيرة والأوردة الرفيعة حتى تختنق بها، وحتى يستحيل الدم الأحمر القاني إلى دم رهيب أسود - فتنفق الشياه، وتفنى الخنازير والأرانب.

كان كوخ في الأطباء واحداً من سوادٍ كثير، فلم يكن له اسم، ولم يكن لحاله ذكر، ولكنه فارق هذا السواد بغتة، وارتفع مصعداً إلى صفوف الأمجاد الخالدين من الباحثين؛ وكان كلما مهر في اصطياد المكروب ساءت عنايته بمرضاه بقدر ذلك؛ صاحت أطفالٌ رُضّعٌ في ضياع بعيدة، ولكن الطبيب لم يحضر؛ واحتد الألم في أضراس فلاحين، فاصطبروا على أوجاعهم ساعات مضنيات، ولكن دون جدوى؛ واضطُرّ كوخ أخيراً أن يحول نصيباً من مرضاه على طبيب آخر؛ وقل حظ زوجته من رؤيته وزاد همها، وودت إليه ألا يخرج إلى مرضاه وبه رائحة كيميائياته وحيواناته. أما هو فلم تصله شكوى زوجه، ولا صوت مرضاه، فلو أنهم وهم القريبون منه صاحوا له من وراء النصف الأبعد للقمر ما زادوا ولا نقصوا في أسماعهم إياه - ذلك أن قضية خفية جديدة ساورت رأسه، وملكت لبه، وأسهرته الليالي، قال لنفسه:

هذه البشلات تموت وشيكاً على قطعة الزجاج تحت المجهر، فأنى لها وهي بهذا الضعف أن تنتقل في الطبيعة من حيوان مريض بالجمرة إلى الحيوان جدّ سليم؟

وكان فلاحوا أوربا والبيطريين فيها يؤمنون بخرافات غريبة عن أسباب هذا المرض، وعن تلك القوة الخفية لهذا الوباء، وقد أُصلِت كالسيف فوق رقاب أغنامهم وأبقارهم لا يدرون متى يهبط عليها بالقتل المروع الذريع. أما هذه البشلات الصغيرة الضئيلة التي لا يبلغ طول الواحدة منها جزءاً من ألف من المليمتر، فلن يتصور عاقل أنها سبب هذا المرض الفظيع.

قال البقارون والغنامون لكوخ: (يا سيدنا الدكتور، هب أن مكروباتك الصغيرة تقتل أبقارنا

ص: 23

وأغنامنا، فقل لنا بالله إن كان هذا حقاً، كيف أن القطيع يكون سليماً في مرتع، يأكل ويشرب، ويثب ويلعب، فإذا نقلناه إلى مرتع آخر، كثير العشب، وافر النعمة، امتنع أكله، وذهب لعبه، وتساقطت وحداته، وماتت سريعاً كأنها الذباب).

كان كوخ يعلم أن هذه الوقائع حقاً لا كذب فيها، كان يعلم أن في أوفرن بفرنسا جبالاً خضراء لا تذهب إليها قطعان الأغنام حتى يأخذها الموت واحدة واحدة، أو عشرة عشرة، حتى ومائة مائة، بسبب هذا الداء الأسود داء الجمرة؛ واجتمع الفلاحون حول نيرانهم في ليالي الشتاء الباردة وأخذوا يتهامسون:(إن حقولنا ملعونة مسكونة).

وحار كوخ في أمره - وكيف تقوى هذه البشلات الدقيقة على العيش سنوات عديدة في مثل هذا الشتاء، فوق هذه الحقول، وعلى تلك الجبال؟ كيف يكون هذا؟ وهو حين أخذ شيئاً من طحال فأر وبئ، ونشره على شريحة من الزجاج، وأخذ ينظر إليه من المجهر، وجد المكروب قد عجز عن الحياة، فانبهمت حدوده، وانتشر جرمه، واختفت صورته اختفاء؛ نعم كيف يكون، وهو لّما وضع من بعد هذا على المكروب فوق شريحة الزجاج سائلاً من عين ثور، وهو نعم الغذاء الطيب، لم ينم المكروب، ولم يتكاثر، وهل تتكاثر الأموات؟ ثم هو لما جفف هذا الدم الوبئ وحقنه في فئران، ظلت في أقفاصها تلهو وتمرح ناعمة بالحياة؛ إذن هذه المكروبات ماتت؛ نعم ماتت هذه المكروبات التي كانت تقتل الشاة السمينة والبقرة الضخمة الكبيرة على السواء.

وتسائل كوخ: (هذه المكروبات تموت على زجاجاتي النظيفة اللامعة في يومين اثنين، فكيف استطاعت أن تواصل الحياة على الحقول زماناً طويلاً؟).

وذات يوم وقع بصره على حَدَث غريب تحت مجهره - تحولٍ عجيب أدى به إلى حل الطلسم الذي أعجزه. وجلس كوخ على كرسيه بمعمله الصغير في بروسيا الشرقية وكشف السر المخبوء في حقول فرنسا وجبالها؛ وحكاية ذلك أنه جاء بقطرة من قطراته العالقة، وهي حبيسةٌ في نقرتها الضيقة من شريحة الزجاج، وتركها في مدفأ درجة حرارته كدرجة جسم الفأر، وخلفها هناك أربعاً وعشرين ساعة، فلما عاد قال:(لا بد أن يكون المكروب قد نما في القطرة واستطال خيوطاً طويلة كطول تلك التي تنمو في أجسام الفئران). ونظر في المكرسكوب فوجد غير الذي أمّله. وجد أن الخيوط بعد أن استكملت طولها، أخذت حدودها

ص: 24

تنبهم، وتنقط الخيط بأجسام بيضاوية لمعت كحبات الزجاج، وانتظمت على طوله كعقد اللؤلؤ، بَرَق واستقام.

استاء كوخ أول الأمر، فسخط ولعن، وحسب أن غريباً من المكروب دخل إلى مكروبه فأفسده، ولكنه لما أعاد النظرة وجد حُسبانه الأول خاطئاً، فالحبات اللامعة كانت في داخل خيوط المكروب، وهذه الخيوط نفسها هي التي تحولت إلى تلك الحبات. وجفف كوخ قطرته العالقة، وحفظ ما بقي منها على الزجاج شهراً أو بعض شهر. ثم شاء القدر أن يعود فينظر إليها من خلال عدسته، فوجد العقود لا تزال على لمعانها؛ فخطر له أن يجري شيئاً من التجارب عليها. فأتى بقطرة صافية من عين ثور، فأسقطها على تلك المكروبات التي استحالت عقوداً، وأخذ ينظر إليها فإذا بالحبّات تنمو فتصير إلى بشلات، ثم إلى خيوط طويلة مرة أخرى. عام رأس كوخ اختلاطاً واندهاشاً.

قال: (إن هذه الحبات البارقة الغريبة قد عادت فاستحالت بشلات تارة أخرى، فهذه بذور المكروب، صوره الأمتن التي تصمد للحر الشديد والبرد القارص والجاف القاتل. . . . . . لا بد أن المكروب على هذه الصورة يستطيع البقاء طويلاً في الحقول، لا بد أن البشلات تستحيل إلى هذه البذور).

وقام كوخ عندئذ بجملة من التجارب الدقيقة البارعة، أجراها ليمتحن صحة ظنه في هذه البذور، فاستخرج طحالات من فئران مجمورة، استخرجها الآن بحذق ظاهر بعد الخبرة والمران، ورفع هذه الأطحلة، وفيها الموت، على مشارط وبملاقط طهرت في النار، واحتاط ما استطاع الحيطة ألا تمسها مكروبات من التي تسبح على ضلال في الهواء، وحفظها يومياً في درجة حرارة كالتي لجسم الفأر. فلم يكذب ظنه، فخيوط المكروب استحالت إلى حبات من البذور بارقة كالزجاج، وتلا هذه بتجارب عديدة حبسته طويلاً في حجرته الصغيرة القذرة، خرج منها على أن هذه البذور تبقى حية أشهراً كثيرة، وأنها من بعد ذلك تنفقص على التو عن تلك البشلات القاتلة إذا هي وضعت في قطرة من سائل عين ثور، أو إذا هي أُدخلت على فلقة خشب في قاعدة ذنب فأر.

قال كوخ: (إن هذه البزور لا تتكون في حيوان وهو حي أبدا، وإنما تظهر فيه بعد وفاته إذا احتُفِظ بجسمه حاراً).

ص: 25

وأثبت ذلك إثباتاً جميلاً بأن وضع أطحلة وبيئة في ثلاجة، ثم عاد إليها بعد أيام فأخذ منها وحقن الفئران، فلم يصيبها سوء، فكأنما حقن فيها لحماً طازجاً سليماً.

وكان العام عام 1876، وكان كوخ قد بلغ الرابعة والثلاثين فخرج لأول مرة من عُشّه، من قرية فُلِشْتَين ليخبر الدنيا في شئ من الفأفأة، أنه قد ثبت ثبوتاً قاطعاً بعد طول الشك أن المكروبات أسباب الأدواء. لبس كوخ أفخر ثيابه، ووضع على عينيه نظاراته وقد تأطر الذهب حولها، وحزم مجهره، وعدداً من القطرات العالقة في محابسها من الزجاج وقد تنغشت بمكروب الجمرة القاتل، وأضاف إلى متاعه قفصاً أخذ يهتز ببضع عشرات من الفئران البيض الصحيحة، وركب القطار ووجهته بلدة برسلاوة ليعرض فيها مكروب الجمرة الذي كشفه، وليبين للأشهاد كيف يقتل هذا المكروب فئرانه، وكيف أنه يستحيل تلك الاستحالة الغريبة فيصير عقوداً كالُّسبَح - وأراد بخاصة أن يطلع الأستاذ كُون على كل هذا، وهو أستاذ النبات بجامعة برسلاوة، وكان يكتب أحياناً إلى كوخ مشجعاً حامداً.

أعجب الأستاذ كون بتجارب كوخ التي أجراها وحيداً لا يسمع به أحد، وعلم أنها ذات خطر كبير لم يفطن له كوخ نفسه، وتصور في ابتسام وخبث ما يكون من أثرها في نفوس جهابذة الجامعة وأعلامها، وهم ما هم من رفعة القدر وشيوع الذكر، وكوخ هو ما هو من الضعة والخمول، فبعث إليهم يدعوهم لحضور الليلة الأولى للمعرض الذي يقيمه طبيب القرية الصغير.

ولبوا الدعوة، نعم لبوها ليستمعوا إلى هذا الذي جاء من أقصى الريف يحدثهم عن العلم؛ ولعلهم جاءوا رعاية لحرمة الأستاذ الشيخ كون. ولقيهم كوخ، ولم يحاضرهم في الذي أتى له، فلم يكن قط ممن يحسن صناعة الكلام. انعقد لسانه، ولكن يده انطلقت ثلاثة أيام ولياليها ترى هؤلاء السفسطائيين ما كان من أبحاثه طوال تلك السنين، وما كان فيها من تلمس في الظلام، وتحسس في دياجير المجهول، وما كان فيها من عثرات تبعتها نهضات، ومن نهضات تلتها عثرات؛ فلم ينزل أحد من كبريائه، ولم يهدئ من ادعائه، نزول هؤلاء الجهابذة وهدوءهم، وقد كانوا في كثرتهم يستمعون لرجلنا القليل، وقد كانوا طامنوا أنفسهم على التسامح، وألا يأخذوا عليه المآخذ، بل يدعونه يرسل القول إرسالاً، فما عند مثله يطلب الجدل، ولا لمن هم في منزلته يثار النقاش. ولم يجادل كوخ قط ولم يتفيهق قط، ولم

ص: 26

يحلم الأحلام، ولم ينطق عند الغد بصنوف النبوءات، وإنما ظل يضرب فِلَق الخشب في ذيول الفئران فكانت كالسهام سرعة ودقة، وفتح أساتذة البثلجة عيونهم وسعها لما رأوه يتناول تلك البشلات والبزور والمكرسكوب بيد صناع لا تكون لعالم إلا في ستّينه. كان انتصاراً رائعاً روعة الصباح الضاحي.

وكان من بين هؤلاء الأساتذة الأستاذ كون هايم وكان من أمهر علماء أوربا في دراسة الأمراض، فلم يستطيع صبراً على الذي سمع ورأى، وخرج ثائراً من صالة العرض وذهب إلى معمله واندفع على التو إلى حيث يعمل الشباب من مساعديه في أبحاثه، فصاح فيهم:(أبنائي، دعوا ما بأيديكم وانصرفوا فاستمعوا إلى الدكتور كوخ، فإن هذا الرجل كشف كشفاً عظيماً) واسترجع الأستاذ أنفاسه.

قال الطلاب: (ولكن يا سيدنا الأستاذ منْ كوخ هذا فما لنا به من علم؟).

قال الأستاذ: (مهما يكن من أمره، فالكشف الذي أتاه عظيم، كشفٌ غاية في الدقة، غايةٌ في البساطة، غايةٌ في العجب. وكوخ هذا ليس أستاذاً. . . ولم يتعلم قط كيف يجري الأبحاث. . . وإنما تعلمه من ذات نفسه، وصنع كل ما صنع بمجهوده وحده).

قال الطلاب: (ولكن ما هذا الكشف يا سيدنا الأستاذ؟).

قال الأستاذ: (أقول لكم اذهبوا، واذهبوا جميعاً، وانظروا بأعينكم، واسمعوا بآذانكم، فإنه عَلِم الله أخطر كشف في عالم المكروب. . . كشف نتضاءل جميعاً إلى جانبه. . . .

اذهبوا. اذهبوا. .)

ولم يتم الأستاذ قوله إلى التلاميذ حتى كانوا قد خرجوا من الباب واختفوا عن بصره فلم يسمعوا آخر نبراته، وكان من بينهم بول إرليس

قال بستور قبل هذا اليوم بسبع سنوات: (إن الإنسان في مقدوره محو الأمراض المعدية من على ظهر البسيطة)؛ وعندئذ قال أحكم أطباء ذلك العصر: (إنه رجل مأفون)؛ ولكن في هذه الليلة خطا كوخ بالدنيا أول خطوة في تأويل الحلم الذي أرتاه بستور. وختم كوخ حديثه إلى الأساتذة الأمجاد قال: (إن أنسجة الحيوانات التي تموت بداء الجمرة لا تعدي بهذا الداء إلا إذا هي حملت بشلاته أو بزور هذه البشلات، سواء أكانت هذه الأنسجة صالحة أو فاسدة، متعفنة أو جفت أو مضى عليها عام. وفي وجه هذه الحقيقة يجب أن يزول كل ظلّ

ص: 27

من شك في أن هذه البشلات هي سبب هذا الداء) ختم حديثه إلى الأساتذة بهذا القول حتى لكأن تجاربه التي أراها إياهم لم يكن بها كفاية من إقناع؛ وزاد على ما قال بأن أبان لمستمعيه، وقد أخذتهم الدهشة، طريقاً لمكافحة هذا الوباء، طريقاً أرته تجاربه إياه لمحو هذا الداء، قال:(إن كل حيوان يموت بالجمرة يجب إعدام جثته في الحال، فإذا لم يكن في الإمكان حرقها، فلا أقل من دفنها عميقة في الأرض حيث البرودة شديدة فلا تأذن للبشلات أن تستحيل إلى بزور تقاوم شدة الحياة وجبروتها طويلاً. . . . .).

وهكذا علم كوخ الناس في هذه الثلاثة الأيام كيف يبدأون في محاربة المكروب ويدفعون عن أنفسهم أسباب المهالك التي تكمن لهم خفية في الظلام؛ وهكذا بدأ في حمله الأطباء على الإقلاع عن اللعب الهازل بالحبوب والعلق في مدافعه الأدواء، وإحلال العلم والمنطق محل السحر والخرافات.

وقع كوخ بذهابه إلى المدينة برسلاوة في زمرة من رجال أمناء كرماء مخلصين، بذلوا له من صداقتهم ومن عونهم الشيء الكثير، نخص بالذكر منهم الأستاذين كون وكون هايم ذلك لأنهما أولاً لم يسرقا أبحاثه، ولصوص العلم ليسوا أقل عدداً من اللصوص في مناشط الحياة الأخرى. وثانياً لأنهما صّيحا له وهتفا هُتافاً ترددُ أصداؤه في أوربا، حتى لأوجس بستور خيفة على مكانه سيدا لبُحّاث المكروب، وأخذ هذان الرجلان يرسلان الكتاب تلو الكتاب إلى مصلحة الصحة الإمبراطورية ببرلين يعرفانها بأمر هذا الرجل الجديد، مفخرة ألمانيا؛ وصنعا ما صنعاه ليمكناه من ترك عيادته، وهي لا تكسبه غير البلادة، وتيسير الرزق والمال له ليفرغ لدرس المكروب ودفع أدوائه. ومن يدري ماذا يكون من أمر كوخ لو أنه جاء برسلاوة فلم يجد بها غير الزجر والمهانة والصدود، إذن لعاد إلى قريته واكتفى بمعاودة صناعته من جس النبض والنظر في السنة المرضى، ولما كان من أمره الذي كان. إن رجل العلم لا ينجح إلا أن يكون فيه بعض خُلُق الدلالين وأرباب المعارض - وهكذا كان اسبلنزاني الفخم العظيم، وهكذا كان بستور الحساس الصخاب - وإلا أن يكون له من أرباب الجاه وذوي السلطان من يحميه بجاهه، ويدفعه ويزجه في معترك الحياة.

يتبع

أحمد زكي

ص: 28

‌نظرية النسبية الخصوصية

البحث الأول

الزمان ونسبيته

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

عضو أكاديمية العلوم الروسية

- 1 -

لنتصور قطاراً يتحرك من محطة القاهرة الساعة الثامنة، فما معنى تحركه الساعة الثامنة؟ لا خلاف في أن معناه أن آونة تحرك القطار وحادثة وقوف العقرب الكبير في الساعة على الرقم (12) والصغير على الرقم (8) متوافقان.

ولقد يجول بخاطر الكثيرين أن في هذا البيان الكشف عن حقيقة الزمان. وهذا ظن صحيح فيه من الوثوق الشيء الكثير لو كان العالم كله الساعة وما حولها. ولكن مثل هذه الفكرة هل تنطبق على حادثتين: الأولى حدثت في مكان قصي عن مكان الأخرى؟ فمثلاً لو فرضنا حادثة مثل الحادثة (أ) حدثت في الشمس، وحادثة أخرى مثل الحادثة (ب) حدثت على الأرض؛ فهل في الإمكان النظر في تواقُتِهما؟

إن الإجابة على مثل هذه الأسئلة تتطلب منا أن نذكر أن مسألة التواقت مسألة ترجع لتساوي سير حركة الساعات في مختلف الأمكنة، وهذا الأمر يرجعنا إلى واسطة التعيين.

لنفرض كرة مثل (ك) بها نقطتان ثابتتان، الأولى (أ) والثانية (ب) وبكل نقطة من هاتين النقطتين توجد ساعة، ولنرمز لساعة النقطة الأولى بالرمز (سأ)، ولساعة النقطة الثانية بالرمز (سب)، ولنفرض أن المسافة بين هاتين النقطتين هي (م)؛ فلكي نوحّد سير الساعتين نجد أمامنا إحدى طريقتين نسلك إحداهما لتوحيد سير ساعتي النقطتين: الطريقة الأولى تنحصر في نقل الساعة (سأ) والساعة (سب) إلى مكان واحد، ثم ضبطهما هنالك على زمان واحد، ثم إعادة كل ساعة إلى المكان الأول. والطريقة الثانية تستند على إشارة ضوئية من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) مثلاً، فتضبط بناء عليها الساعة (سب) زمانها حسب زمان الساعة (سأ).

ص: 30

وهاتان الطريقتان لا زالتا مستعملتين إلى يومنا الحاضر في حياتنا العملية؛ فالسفن تتبع الطريقة الأولى عندما تضبط وقت ساعاتها حسب أزمنة الموانئ التي ترسو عليها؛ وتتبع الطريقة الثانية بمراجعتها أزمنة ساعاتها وكرونومتراتها خلال سيرها بإشارات التليفون اللاسلكي لتصحح الفروق الناشئة في الزمن من اختلاف خطوط الطول والعرض على سطح الكرة الأرضية. ويمكننا استناداً إلى هذه الظاهرة تقرير اختلاف الزمان؛ غير أن هذا التقرير لا تكون له قيمة علمية إلا بعد تعميمه على الأكوان.

فلنفرض في كون مثل (ك) ساعة مثل (س)، فهل في الإمكان جعل ساعتين مثل (س1) و (س2) في كونين مثل (ك1) و (ك2) تتحركان حركة انتقالية مستقيمة متساوية في الزمان مع زمان الكون (ك)؟

الإجابة عن هذه المسألة خارجة عن نطاق علم الطبيعة ما دامت هذه الأكوان يتحرك بعضها إزاء بعض حركات انتقالية؛ ومهما كانت هذه الفروق المتولدة من هذه الحركات ضئيلة فمسألة تساوي الزمان في هذه الأكوان أو عدم تساويه لا يمكن معرفتها إلا بالرجوع إلى الإشارات الضوئية. والاستناد على الأمواج النورية في تقرير تواقت الزمان قائم على ثبات سرعة النور، وهي وإن كانت سرعة محدودة إلا أنها سرعة فوق كل سرعة.

وقضية ثبات سرعة النور تجرنا إلى معرفة حركات الأكوان المطلقة خلال الفضاء الأثيري.

إذا أرسلنا شعاعة نور في اتجاه سرعة الأرض فستكون سرعة هذه الشعاعة بالنسبة للمشاهد الذي أرسلها من فوق الأرض: (300 ، 000 كم - سرعة الأرض في الفضاء الأثيري).

وفي حالة إرسال شعاعة النور في عكس اتجاه سرعة الأرض فستكون سرعة الشعاعة متضخمة بسرعة الأرض بالنسبة لمرسلها (300 ، 000 كم + سرعة الأرض في الفضاء الأثيري).

وكل التجارب التي أجريت في هذا الصدد أسفرت عن نتيجة سلبية.

- 2 -

لنفرض شعاعة نور مثل (س) تقع على مرآة نرمز لها بالرمز (م)، وهذه المرآة نصف

ص: 31

عاكسة، فتشق شعاعة النور (س) شعاعتين: المعكوسة (س1) والمكسورة (س2)، وقد وضعت المرآة (م) بالنسبة لاتجاه الشعاعة (س) بحيث تجعل الشعاعتين (س1) و (س2) متعامدتين إحداهما على الأخرى؛ ولنفرض أنه قد وضع في خط سير هاتين الشعاعتين وعلى بعد ثابت من المرآة (م) مرآتان أخريان، الأولى (م1) والثانية (م2) بحيث تردان الشعاعتين (س1) و (س2) إلى المرآة (م)؛ وهناك عند التقائهما ثانية تعكسان عكساً نصفياً فيتحد الجزء المعكوس من الشعاعة (س2) مع الجزء المكسور من الشعاعة (س1) في الشعاعة الأخيرة (س3)، فإذا ما سارت الشعاعتان مسافة واحدة من نقطة افتراقهما إلى نقطة التقائهما ثانية: أعني إذا كانت المسافة من (م) إلى (م3) تعادل المسافة من (م) إلى (م1) تعادلاً تاماً، فإنك إذا ما وضعت عينيك في الوضع (د) شاهدت الشعاعة (س3) كاملة لا نقص فيها؛ أما إذا كانت المسافة (م - م1) تنقص أو تزيد على المسافة (م - م2) بما يعادل نصف موجة النور أو حاصلاً صحيحاً لنصف موجة النور، فإن الشعاعتين تكونان قد سارتا منذ انفراجهما إلى اتحادهما ثانية غير متعادلتين، فينجم عن ذلك تداخل نوري بين حركة الموجتين يشف عن نظام تداخلي يتظاهر في شكل حلقات من النور والظلمة.

ولو فرض وأزحنا (م1) أو (م2) قليلاً بمعنى أننا غيرنا تعادل المسافتين (م - م1) و (م - م2) ألفينا هذه الحلقات تتحرك، أو قل تتقلص شيئاً فشيئاً إلى أن تختفي في الوسط المشترك بينهما، ثم تظهر حلقات جديدة من خارج النظام، ويكون عدد ما يختفي معادلاً عدد ما يظهر من الحلقات؛ ومن مقدار تغير (م - م1) أو (م - م2) نستطيع حساب الحلقات الواجب اختفاؤها على هذا المنوال. لهذا لو كان هنالك راصد مشاهد لهذا النظام، وطفقت حلقاته تتقلص بغتة، أمكنك أن تحكم يقيناً إن كانت المسافة (م - م1) أو (م - م2) قد شرعت في التغير؛ وإذا حسبت عدد الحلقات المختفية استطعت التنبؤ بمقدار تغير المسافتين.

أجرى الدكتور ميكلصون والأستاذ مورلي تجربتهما بحيث كانت حركة الشعاعة موازية لحركة الأرض (ح) حول محورها مثلاً، أي وضعت (م1) بحيث تكون المسافة (م - م1) ممتدة شرقاً غرباً، فتكون لذلك الشعاعة (س1) متعامدة على اتجاه حركة الأرض حول محورها، أي تكون ممتدة شمالاً جنوباً في الاتجاه (ح).

ص: 32

ولكن عندما تنفصل الشعاعتان (س1) و (س2) عند النقطة (ن) تسير كلتاهما بسرعة واحدة بالنسبة للفضاء الأثيري، لأنهما كلتيهما تموّج أثيري، والاختلاف لا يكون إلا بإسنادهما إلى شيء آخر، وليكن الجهاز:(جهاز ميكلصون - مورلي) فتكون سرعة (س1) بالنسبة للجهاز غير سرعة (س2) بالنسبة له، لأن هذه الآلة تدور مع الأرض في دورانها حول محورها، والشعاعة (س1) متعامدة على السير بينما الشعاعة (س2) موازية له؛ فمن هذا الاعتبار ينتج أن سرعة (س2) بالنسبة لجهاز ميكلصون عندما تكون الشعاعة (س2) سائرة نحو (م2) هي:

ص - ح. . . . . . . . . (معادلة 1)

حيث أن (ص) رمز لسرعة الضوء المنطلقة خلال الأثير، و (ح) رمز لسرعة الأرض حول محورها. وعندما تنعكس الشعاعة (س2) عن (م1) تصبح سرعتها بالنسبة للجهاز هكذا:

ص + ح. . . . . . . . . (معادلة 2)

أما الشعاعة (س1) فلها نفس السرعة في سيرها نحو (م2) لأنها مركبة من سرعتين متعامدتين مثلاً، ولكنها في ذهابها وإيابها في كلتا الحالتين ستكون متعامدة على اتجاه سير الآلة أو الجهاز، وستكون مقدار هذه السرعة:

. . . . . . . . . (معادلة 3)

. . . . . . . . . (معادلة 3)

وذلك لأنها مركبة من سرعتين.

على هذا الأساس رتب الدكتور ميكلصون وزميله الأستاذ مورلي جهازهما في الأوضاع السابق ذكرها، وأخذا يرقبان الشعاعة (س3) من النقطة (د) فارتسم أمامهما نظام متداخل ناجم عن تداخل الشعاعتين في بعض، وعندما أديرت الآلة بكامل أجزائها حول المحور (ن) بحيث أصبحت (م - م1) متعامدة على اتجاه حركة الأرض بعد أن كانت موازية، واتخذت الشعاعة (م - م2) وضعاً موازياً لحركة الأرض بعد أن كانت متعامدة. فكان المنتظر أن هذا التغيير يسفر عن تغير سرعة الشعاعتين بالنسبة للآلة في الزمن الذي تستغرقه كل من الشعاعتين في سيرها من المركز (ن) إلى المرايا المعاكسة ورجوعها إلى

ص: 33

(ن) ثانية. ومن البديهي أن الزمن الذي تستغرقه الشعاعة (س2) في وضعها الجديد أقل من الزمن الذي استغرقته وهي في وضعها القديم؛ أعني أن شعاعة النور في سيرها في اتجاه متعامد - بشرط أن تعكس الشعاعتان وتردا إلى مصدرهما، وإدارة الجهاز حول محوره تسعون درجة - لابد وأن تسفر عن إبطاء الشعاعة الواحدة في رجوعها إلى (ن) وإسراع الشعاعة الأخرى في هذا الرجوع.

هذا الإبطاء والإسراع يؤثران في النظام الداخلي، إذ تنقص بعض الحلقات وتختفي حلقات الوسط وتبدو حلقات جديدة تتسرب للنظام من طرفه الخارجي. ذلك لأن تباطؤ الموجة الواحدة في رجوعها يفضي إلى تداخل جديد مع حركة الموجة الثانية التي أسرعت في الرجوع.

ولما كانت سرعة الأرض حول محورها معلومة، وسرعة النور في الفضاء الأثيري معلومة كذلك، فمن المستطاع قياس الفاصلتين (م - م1) و (م - م2) واستخراج طول موجة النور، وبذلك يصبح من الممكن حساب التأخير اللازم حدوثه إذا ما أديرت الآلة ومقدار التغير اللازم طروؤه على عدد الحلقات من تقلص واحتجاب.

على مثل هذا الأساس العلمي الدقيق أجريت تجربة ميكلصون، ولكنها أسفرت عن نتيجة سلبية إذ لم تتغير الحلقات ووصلت الشعاعتان معاً. ثم أعيدت التجربة مع الدقة الشديدة ولكن لم تسفر عن نتيجة.

(بقية البحث في العدد القادم)

إسماعيل أحمد أدهم

ص: 34

‌أندلسيات

3 -

قصة الفتح بن خاقان

للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي

أخلاق الفتح

نقول إن ابن بسام كان أعفّ لساناً، وأنزه بياناً. أمّا الفتح ابن خاقان فقد كان مقذعاً هجاء إلى أنه كان مداحاً فصالاً، فمن أرضاه وألهاه، مدحه وفتح لهاه؛ ومن لا يرضخ له من ماله بما يرضيه، هجاه وأقذع وولغَ فيه. وربما دسّ له لدى أولى الأمر وضرّاهم عليه. ومن ذلك ما كان منه مع فيلسوف الأندلس أبي بكر بن الصائغ وطبيبها الأكبر أبي العلاء بن زهر كما سيمر بك قريباً. . . وقد كان مع ذلك سكيراً معربداً إلى هنوات أخرى لقد يندى لها جبين الأدب، وقعدت به عن بلوغ المراتب التي بلغها أمثاله ومن هو دونه. قال الوزير لسان الدين بن الخطيب في حق الفتح: كان آية من آيات البلاغة لا يُشَق غباره، ولا يدرك شأوه، عذب الألفاظ ناصعها، أصيل المعاني وثيقها، لعوباً بأطراف الكلام، معجزاً في باب الحلي والصفات، إلا أنه كان مجازفاً مقدوراً عليه، لا يملّ من المعاقرة والقصف حتى هان قدره، وابتذلت نفسه، وساء ذكره، ولم يدع بلداً من بلاد الأندلس إلا دخله مسترفداً أميره. وأغلا في عليته. . . وقال ابن بشكوال في الصلة: وكان - الفتح - معاصراً للكاتب أبي عبد الله بن أبي الخصال، إلا أن بطالته أخلدت به عن مرتبته. وجاء في النفح أن الفتح قصد يوماً إلى مجلس قضاء أبي الفضل عياض - صاحب الشفاء - مخمّراً، فتنسم بعض حاضري المجلس رائحة الخمر، فأعلم القاضي بذلك، فاستثبتوحدّه حداً تاماً. وبعث إليه بعد أن أقام عليه الحد بثمانية دنانير وعمامة. . . فقال الفتح حينئذ لبعض من أصحابه: عزمت على إسقاط القاضي أبي الفضل من كتابي الموسوم بقلائد العقيان، قال: فقلت له: لا تفعل، وهي نصيحة، فقال: وكيف ذلك؟ فقلت له: قصتك معه من الجائز أن تنسى وأنت تريد أن تتركها مؤرخة، إذ كل من ينظر في كتابك يجدك قد ذكرت فيه من هو مثله ودونه في العلم والصيت، فيسأل عن ذلك فيقال له، فيتوارث العلمَ عن الأكابرِ الأصاغرُ؛ قال: فتبين ذلك وعلم صحته وأقرّ اسمه في (القلائد).

ص: 35

ولقد أزلفنا أنه هجا الفيلسوف ابن الصائغ وأقذع في ترجمته له في القلائد، ثم مدحه وأثنى عليه في المطمح؛ وقد حدثنا الوزير لسان الدين بن الخطيب عن سبب هجائه إياه أولاً، قال: وحدثني بعض الشيوخ أن سبب حقده على ابن باجه أبي بكر آخر فلاسفة الإسلام بجزيرة الأندلس ما كان من إزرائه به في تكذيبه إياه في مجلس إقرائه إذ جعل يكثر ذكر ما وصله به أمراء الأندلس، ووصف حلياً، - وكان يبدو من أنفه فضلة خضراء اللون، فقال له: فمن تلك الجواهر إذن الزُمرّدة التي على شاربك. . . فثلبه في كتابه بما هو معروف. . .

أما مدحه إياه بعد إذ هجاه فقد ذكر لنا العماد أن ذلك كان منه بعد أن أنفذ إليه مالاً استكفّه به واستصلحه. . . وإليك نُتَفاً مما كتبه في القلائد هاجياً، ثم مما كتبه في المطمح مادحاً: قال في القلائد: (هو - أي ابن الصائغ - رَمَد عين الدين، وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفاً وجنوناً، وهجر مفروضاً ومسنوناً، فما يتشرع، ولا يأخذ في غير الأضاليل ولا يشرع، ناهيك من رجل ما تطَهّر من جنابة، ولا أظهر مخيلة إنابة، ولا استنجى من حدث، ولا أشجى فؤاده بِتَوار في جدث ولا أقر ببارئه ومصوره، ولا قر بتباريه في ميدان تهوره، الإساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة عنده أهدى من الإنسان، نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم العليم. الخ الخ). وقد أورد له متعمداً أبياتاً ليست من جيد شعره. وأين هذا من تحليته له في المطمح بقوله فيه ما هذا بعضه: (نور فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تتوجت بعصره الأعصار، وتأرجت من طيب ذكره الأمصار، وقام وزن المعارف واعتدل، ومال للأفهام فنناً وتهدّل، إذا قدح زند فهمه أورى بشرر للجهل محرق، وإن طما بحر خاطره فهو لكل شيء مغرق، مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفساد من كونها، والتحقيق الذي هو للإيمان شقيق، والجد، الذي يخلق العمر وهو مستجد، وله أدب يود عطارد أن يلتحفه، ومذهب يتمنى المشتري أن يعرفه، ونظم تعشقه اللبات والنحور، وتدعيه مع نفاسة جوهرها البحور، الخ الخ). وأورد له شعراً جيداً. وكل أولئك تراه في ترجمتنا لهذا الفيلسوف الأندلسي العظيم. . . أما ما كان من الفتح من الكيد للفيلسوف الكبير والطبيب النطاسي الأشهر والوزير الخطير أبي العلاء زهر لدى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، فقد جاء في نفح الطيب ما نصه:

ص: 36

(وكان بينه - أي بين أبي العلاء زهر - وبين الفتح صاحب القلائد عداوة، ولذلك كتب في شأنه إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ما صورته:

أطال الله بقاء الأمير الأجل سامعاً للنداء، رافعاً للتطاول والاعتداء، لم ينظم الله الملك بلبتك عقداً، وجعل لك حلاً للأمور وعقداً. وأوطأ لك عقبا، وأصار من الناس لعونك منتظراً ومرتقباً، إلا أن تكون للبرية حائطاً، وللعدل فيهم باسطاً، حتى لا يكون منهم من يضام، ولا ينال أحدهم إهتضام، ولتقصر يد كل مُعتدي في الطلام. وهذا ابن زهر الذي أجررته رَسَنا، وأوضحت له إلى الاستطالة سُنَنا، لم يتعدّى من الأضرار إلا حيث اشتهيته، ولا تمادى على غيّه إلا حين لم تنهه أو ألهيته، ولما علم أنك لا تنكر عليه نكراً، ولا تغير له متى ما مكر في عباد الله مكراً، جرى في ميدان الأذية مِلء عنانه، وسرى إلى ما شاء بعدوانه، ولم يراقب الذي خلقه، وأمد في الحظوة عندك طلقه، وأنت بذلك مرتهن عند الله لأنه مكنك لئلا يتمكن الجور، ولتسكن بك الفلات والغور، فكيف أرسلت زمامه حتى جرى من الباطل في كل طريق، وأخفق به كل فريق، وقد علمت أن خالقك الباطش الشديد يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وما يخفى عليه نجواك، ولا يستتر عنه تقلبك ومثواك، وستقف بين يدي عدل حاكم، يأخذ بيد كل مظلوم من ظالم، قد علم كل قضية قضاها، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فبما تحتج معي لديه، إذا وقفت أنا وأنت بين يديه؟ أترى ابن زهر منجيك في هذا المقام، أو يحميك من الانتقام، قد أوضحت لك المحجة، لتقوم عليك الحجة، والله النصير، وهو بكل خلق بصير، لا رب غيره والسلام. . . هذا جانب من خلائق الفتح: تحوّل وتقلُّب، ونقض لما أبرم، وإبرام لما نقض، وهجاء ثم مدح، ومدح ثم هجاء، ومناوأة للفلاسفة، واستعداد للملوك والأمراء عليهم، إلى ما أشرنا إليه آنفاً من خلعه العذار واستهتاره، وإهماله المعاقرة وفسوقه، حتى كان ذلك سبباً - كما يقول المؤرخون - في تخلفه عن لداته وقعوده عن بلوغ علياً الرتب التي بلغوها. ومن هنا كان حبه المال حباً نال من كرامته ونقص من قيمته وصّيره شهرة لدى العلماء والأمراء وسائر العلية والسروات. ومما يؤخذ عليه أيضاً غروره واعتداده بنفسه إلى أقصى حد؛ ولا أدل على ذلك من قوله في خطبة قلائده: (الحمد لله الذي راض لنا البيان حتى انقاد في أعنتنا، وشاد مثواه في أجنتنا، وذلل لنا من الفصاحة ما تصعب فملكناه، وأوضح لنا من مشكلاتها ما تشعب

ص: 37

فسلكناه، فصار لنا الكلام عبداً يجيب إذا ناديناه، ومهما يصيب الغرض إذا رميناه).

وبعد فقد كان هذا الأديب الألمعي الموهوب من أولئك الأدباء الذين أدركهم داء الانحطاط، ومثله كثير بين أدباء العرب والعجم والمشرق والمغرب قديماً وحديثاً. . . وهذا الصنف من الأدباء والفنانين جدير بالرحمة والرثاء، لأن عبقريتهم هي سر انحطاطهم، إذ العبقرية في الحق شعبة من الجنون كما شرح ذلك لمبروزو وماكس نوردو وغيرهما. وقد كان انحطاط هذا الأديب سبباً في قتله. . . وفي أنفة مؤرخ كبير وأديب نابغ هو ابن الأبار القضاعي من ترجمته والتعرض لذكره، فقد قال هذا ابن الأبار في معجم أصحاب الصدفي: إنه لم يكن مرضياً وحذفه أولى من إثباته. ولذا لم يذكره في التكملة. أما قتله فقد قال ابن سعيد في المغرب - بعد كلام - ما نصه: (وقد رماه الله تعالى بما رمى به إمام علماء الأندلس أبا بكر ابن باجَّه، فوجد في فندق بحضرة مراكش قد ذبحه عبد أسود خلا معه بما اشتهر عنه وتركه مقتولاً. . . . . . . . .). . . وقال ابن دحية إنه قتل ذبحاً بإشارة على بن يوسف بن تاشفين. . .

(يتبع)

عبد الرحمن البرقوقي

ص: 38

‌6 - معركة عدوى

للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي

رئيس أركان حرب الجيش العراقي

كانت القوة مؤلفة من أربعة أفواج وسرية خيالة وبطرية جبلية. وكان لدى كل سرية مشاة يبلغ عددها (200) جندي، أربعة طليان وهم رئيس وملازمان وضابط صف. أما الملازمان الآخران فمن الأهلين. ونظراً إلى التنسيق الجديد بلغت القوة في المستعمرة ما يلي:

171 ضابطاً طليلنياً

1400 جندي طلياني

37 ضابطاً أهلياً

4400 جندي أهلي

-

6 ، 008 المجموع

وفي سنة 1895 أحدث الحاكم العام الجنرال (باراتيري) احتياطاً من الجنود المسرحين يتألف من ثماني سرايا تبلغ قوتها 1700 جندي.

وأطلق الطليان على الجندي الأهلي اسم (عسكري).

ولما توترت العلاقات أنجد الطليان جيش المستعمرة بقوات أخرى جلبوها من إيطاليا. وفي الشهر الأخير من سنة 1895 بلغت النجدة أربعة أفواج قوة كل منها 60 جندياً. ثم جعلوا القوة الأهلية ثمانية أفواج بعد أن كانت أربعة أفواج. وزادوا قوة السرية فيها من 200 إلى 300 جندي، وهكذا بلغت قوة الجيش 14 ، 000، منها 2 ، 800 جندي طلياني.

وبإضافة قوة الاحتياط إلى ذلك أصبحت قوة الجيش 18 ، 000 جندي، وفي معركة عدوى كانت قوة الجيش كما يلي:

لواء الجنرال (البرتونة) وكان مؤلفاً من أربعة أفواج أهلية وبطريتين طليانيتين وبطرية أهلية.

لواء الجنرال (دابورميدا) وكان مؤلفا من ستة أفواج طليانية وفوج أهلي وأربع بطريات

ص: 39

طليانية.

لواء الجنرال (اريموندي) وكان مؤلفاً من خمسة أفواج طليانية وسريتين أهليتين وبطريتين طليانيتين.

لواء الجنرال (اللانا) وكان مؤلفاً من ستة أفواج طليانية وفوج أهلي وبطريتين طليانيتين سريعتي الرمي وسرية هندسة.

فالجيش كان مؤلفاً من ثلاثة وعشرين فوجاً، وسريتي مشاة، واثنتي عشرة بطرية، وسريتي هندسة؛ وكان مجموع القوة:

510 ضباط، و 12 ، 411 جندياً إيطالياً، و 7 ، 330 جندياً أهلياً و 64 مدفعياً، ومجموع رجاله 20 ، 251 رجلاً، وهكذا يصيب كل ألف جندي 311 مدفعاً، وكانت هذه النسبة جيدة في ذلك الزمن.

أسلوب التعبئة الطليانية

كانت كتب التعليم الطليانية شائعة في جيش المستعمرة، إلا أن بعض أحكامها عدل نظراً إلى حالة العدو. وكان بعض هذا التعديل، الحركة في ميدان المعركة بالنظام المنظم، والانتشار بصف واحد، على أن يكون الجنود متجانبين دون فرجات.

وظهر من حركات البريطانيين على المهدي أن هذا الأسلوب لا يفي بالمرام تجاه صولة الأحباش الذين يظهرون شجاعة فائقة في حملاتهم، فاستفادت القيادة الطليانية من حركات البريطانيين وقررت أن تترك قدمات احتياط في الخلف لتنجد الخط الأول عند الحاجة أو لتكون متأهبة للطوارئ. إلا أن الضباط لم يتعودوا هذا الأسلوب تماماً لما وقعت معركة عدوى، ولا سيما أنهم كانوا قد تدربوا على أساس التعبئة الأوربية قبل مجيئهم إلى المستعمرة.

ليس من السهل دخول القتال في مستعمرة بعيدة عن الوطن ما لم تنظم أمور السوقيات؛ والظاهر من تدابير الطليان أنهم لم يضعوا خطة ناجحة لشؤون النقلية ولم يمهروا فيها، فاتخذوا الميناء (مصوع) قاعدة للحركات وأرسلوا إليها القطعات والتجهيزات على التعاقب دون ترتيب. فكانت التجهيزات ومواد الإعاشة تكدس هنا وهناك بصورة يصعب نقلها من الميناء إلى الداخل.

ص: 40

والأغرب من كل ذلك أن الحكومة الطليانية كانت ترغب في إدارة رحى الحرب دون إنفاق المال. ولما طلب الجنرال باراتيري المال أجابه رئيس الحكومة (كريسبي) بأن نابليون الأول كان يحارب حروبه بمال العدو؛ قال هذا ناسياً أن الساحة التي يتحرك الجيش فيها هي أرض قفراء لا ماء ولا أقوات كافية فيها.

الشروع في القتال

توترت العلاقات في مايو 1894. وفي آخر شهر من هذه السنة ظهرت علائم التمرد في جنوبي أسمرة. وكان المحرض على ذلك رأس تيجري (منيغسيا)، ولما سمع الطليان أنه يجمع الجنود طلبوا منه تسريحهم فلم يجب طلبهم.

وعلى أثر ذلك تقدمت القوة السفرية المكلفة بستر أسمرة ومصوع بقيادة الجنرال (باراتيري) إلى شمال نهر مارب وعسكرت هناك.

وفي 13 يناير 1895 عبر (منيغسيا) نهر بلزة فتقدم الجنرال نحوه ونشبت المعركة في كواتيت. ورتب باراتيري ثلثي قوته مع البطرية الجبلية في الخط الأول، وترك باقي القوة في الخط الثاني لحماية جانبه الأيسر.

وكان الأحباش يسعون للالتفاف حول هذا الجانب إلا أن إرسال الوحدات الأهلية للنجدة، وثبات الطليان في الجبهة، واشتراك جميع القوات في القتال على التدريج مما ساعد باراتيري على الاحتفاظ بموقفه، وتوقف القتال بعد الظهر واستمرت المناوشات الخفيفة إلى المساء وانسحب الأحباش ليلاً.

وشرعت القوات الطليانية في المطاردة في 15 يناير 1895 وتقدمت طول النهار ولحقت بالأحباش في سنافة. وبعد إطلاق بضع طلقات انسحب الأحباش، وتقدم الطليان على طريق الهضبة دون أن يضطروا إلى عبور الأنهار، ودخلوا ادجرات في 25 أبريل 1895. وفي شهر مايو بدأ موسم الأمطار الغزيرة فتوقفت الحركات.

أما الأحباش فأخذوا يجمعون قواتهم لمقاتلة الطليان، وكانوا يأملون أن يتم الحشد في الخريف، فشرع الأحباش في الهجوم على الطليان لإخراجهم من البلاد. أما الطليان فأنجزوا تحكيم موقع ادجرات في شهر يونيو. والموقع كما نعلم يرتفع عن سطح البحر 2545 متراً وهو صالح لإقامة الأوربيين من حيث الهواء. وهو أيضاً موقع خطير في حد

ص: 41

ذاته. ففيه تلتقي الطرق الممتدة إلى مقاطعة شوعا ومقاطعة أمحرة، فضلاً عن كونه واقعاً في نقطة ملتقى الجبال، ومنه تتشعب سلسلة عدوى التي تفصل حوض (تكاه) وتوابعه عن حوض (مارب) وتوابعه.

وقرية عدوى عاصمة المقاطعة، وعلى مسافة خمسة وعشرين كيلومتراً منها تقع أكسوم العاصمة الدينية، حيث يتوج عواهل الحبشة. واحتل الطليان عدوى أيضاً في شهر أبريل، وبذلك استولوا على خط (ادجرات - عدوى) فسيطروا على المسالك المؤدية إليه، وجعلوا حوضي النهرين تحت نفوذهم.

واستمروا على التقدم من ادجرات سالكين المرتفعات التي تفصل بين أحواض الماء، ودخلوا قصبة (مكلة) أيضاً وحكموها.

وعلى هذا الأسلوب تحركوا بحذر وشيدوا القلاع على طول الخط بمراحل 3 إلى 5 أيام. وكان من الضروري الاهتمام بالمواصلات التي تربط هذه القلاع بالساحل. ولا شك في أن توسيع دائرة احتلالهم على هذه الصورة جعلهم ضعفاء في كل محل، لأن القوة لم تكن تكفي لحراسة خطوط المواصلات، والدفاع عن هذه القلاع وتهيئة قوة سيارة تتحرك عند الحاجة لضرب الأحباش، لأن القوة لم تزد حينئذ على 18 ، 000 رجل. أما الخط الذي انتشرت عليه القوة فيبدأ من (كسلا) ويمر بخط (كون - اسمرة - ادجرات) وينتهي في (مكلة). وكانت الأخبار تؤيد تأهب الأحباش للمعركة الفاصلة. ولم يكتف الطليان بنشر قواتهم على ذلك الخط الطويل بل أوفدوا قوة ستر مؤلفة من فوج أهلي وفصيلة مدفعية إلى جنوبي (مكلة) في مرحلتين إلى (امبا - الاغى).

وفي نهاية السنة هاجم الأحباش هذا الموقع فدافعت القوة دفاعاً مستميتاً، ولم يتلق آمرها أمر الانسحاب إلا متأخراً بعد أن قضى الأحباش على قوته وغنموا مدفعيته، بينما كان الموقف يتطلب أن يبلغ هذا الآمر واجبه الأصلي وهو الدفاع الرجعي دون دخول قتال فاصل.

وكانت القوة الحبشية مؤلفة من 30 ، 000 رجل يقودها الرأس (ماكونين) والد الرأس (تفري).

وكان الجنرال (اريموندي) بكوكبه (بقسمه الأكبر) في مكلة، ولما تيقن أن الأحباش سوف

ص: 42

يهاجمونه وأنه لا يستطيع الدفاع أمامهم قرر الانسحاب، فانسحب بسرعة إلى (اداجاموس) ثم إلى (ادجرات) وترك في مكلة فوجاً أهلياً مع مدفع جبلي فقط.

أما النجاشي منليك فكان مهتماً بجمع الجيش ليملي إرادته على الطليان ويهيئ سبيل الخلاص لبلاده. وبعد أن جمع المال المطلوب من مقاطعة الغالا، وأنجد جيشه بخياله الغالا، وصل إلى أديس أبابا وأعلن إلى الجميع أن الحبشة لا تحتاج إلى أحد بل تمد يدها إلى الله، فتولى قيادة جبشه بنفسه وجمع جميع الرؤوس في (بروميدا) وصرح لهم ولجميع المشايخ والأشراف برغبته في طرد الطليان من البلاد وإنقاذها من مخالب الاستعمار. فوافقه الرؤوس على ذلك بالإجماع، وكان المشهد مما يثير الحماسة في الصدور، وكانت قوة الجيش الحبشي مع قوة جيش (ماكونين) تبلغ 160 ، 000 رجل. فحاصر ماكونين قلعة مكلة وأخذ يدكها بنار مدافعه، وقطع عليها طرق الماء. فاضطرها إلى التسليم في 25 ديسمبر 1896 ووافق النجاشي على عودة الأسرى الطليان إلى بلادهم لينشروا الرعب في قلوب الطليان الآخرين.

ولما انتشرت أخبار انتصار الأحباش في المستعمرة ساد القلق والرعب في قلوب الناس، وفكر الطليان في الدفاع عن ميناء مصوع أيضاً. وقررت القيادة حشد جميع القوات في ادجرات لصد تقدم الأحباش ما عدا الحاميتين اللتين في كرن وكسلا، وكانت قوة الحامية منها مؤلفة من فوج وسرية خيالة وفصيل مدفعية.

(يتبع)

طه الهاشمي

ص: 43

‌مؤتمر القلوب

للأستاذ السيد محمد زيارة

سألت نفسي بعد تأمل وتفكير: (ماذا يكون لو أمكن كلُّ إنسان أن ينكمش حتى يختفي في قلبه، وأمكن قلبه أن يتسع حتى يحويه؛ فيظهر للناس عارياً لا يكسوه إلا الشغاف، ويصبح الشخصُ المنطوي على قلب قلباً منطوياً على شخص، وتمشي القلوب وتنتقل، وتدب حيث تحب؟ أتنكشف السرائر، وتسفر الخفايا، وتباح الأسرار؛ ويستطيع كل قلب أن يعرف ما له عند الآخر بغير حاجة إلى رسول بينهما قد يصدق وقد يكذب، ويتبين المرء ما يكنُّه له حبيبه أو صديقه خالياً من الزيف والرياء؟).

وكان سؤالا غريباً جديداً، فحيرني الجواب عليه؛ ثم رأيتني في الرؤيا أجرب هذا. . . فانقبضتْ أطرافي إلى بدني، وانحصر بدني في قلبي، فأصبحت قلباً ومضيت لشؤوني في الحياة؛ ووجدتني مقبلاً عليها بتلهف وشوق كما يقبل على الحرية سجين أطلقوه. فهو يندفع إليها بقوة، ويتقلب على رحبها بشغف، كأنه يريد أن يجنح فيها فيملأها. وهي تتلقاه هاشة باشة، وتتفتح له حيث اتجه، وكأنها تريد أن يمتزج بها فيصير منها.

ثم وجدتُني هنا وهناك طلْقاً موزّعا متحيراً لا أستقر، ولا أعرف كيف استقر، ولا أفهم معنى الاستقرار. وزعمت أنني لم أوجد في الحياة إلا لأتحسس الجمال وأتلمس الحب، وخيَّل إلى وهمي أن الجمال في كل لحظة يناديني، وأن الحب في كل بقعة ينتظرني؛ فجننت بالجمال والحب، وحلَّقتُ في سمائها بأجنحة الخيال حتى كدت أتحطم أو تحطمتُ. . بين شقاء يجرُّني إليه الهجر، وشقاء يجرني إليه الوصال.

ورأيت العيون من حولي تلتهمني بنظرات هي التعجب والاستغراب، وكأنها تتخاطب قائلة:(ما لهذا القلب لا يهدأ؟) حتى كادت تشعرني بأنني وحدي أصفق للجمال وأخفق بالحب. ولكني لم أحفل بالنظرات ولم أهب العيون، وسرت في طريقي كما أنا قلباً مهموماً شديد الخفقان.

ثم رأيتني مدعوَّا إلى مؤتمر دعيتْ إليه القلوب جميعاً؛ ففرحتُ بهذه الدعوة ونشطت إلى الائتمار. وتوافدنا نحن القلوب يسابق بعضنا بعضاً، ويحمل كل منا في أعماقه ما يحمل.

فهذا قلب صاف لا رنق فيه ولا غبار عليه؛ وهذا قلب درِنٌ غلب على بعضه الدرنُ وغلب

ص: 44

على بعضه النقاء؛ وهذا قلب أسخمُ لم يبق أثر لطبيعته؛ وهذا قلب كبير؛ وهذا قلب صغير.

ووقفتُ أرنو إلى ذلك الحشد الحافل وأستمتع بما فيه من مشاهد غريبة كانت محجوبة عني أو كنت محجوباً عنها؛ وأخذ كلُّ قلب يتطلع إلى القلوب حوله، ويستمتع استمتاعي وكأنه يحس ما أحسه من دهَش يصحبه فرح، ومن رهَب تصحبه لذة.

ورأيت على بعد غير سحيق من مكاني قلباً تقلص أديمُه، وشاه مظهرُه؛ فدلَّنا على باطن غاسق كالليل؛ والقلوب كلها نافرة منه صادفة عنه، كأنه قتاد يشوك من يقربه، أو مخلوق وحشي يلتهم من يلمسه. وهو في مكانه يوزع عليها نظرات ممتعضة ساخطة ملأى بالتمرد والتوعد. فسألتُ:(ما لهذا القلب لا يجد منا صاحباً ولا نجد فيه أهلاً للصحبة؟) فقالوا: هذا قلب رجل لا يعيش إلا ليبثَّ الفساد بين قلوب عارفيه، ولا يستريح حتى يشي بين صديقين متفقين، أو يعكر ما بين حبيبين ناعمين، أو يسيء إلى أحد ما. فتراه يبتسم لهذا، ويداعب ذاك، ويوسوس إلى ذلك؛ حاسباً أن في ابتسامته ودعابته وريائه ستاراً لحقده وخبثه وخسته؛ ولكن هيهات. . فكلنا يعرف ما في جوفه، وكلنا يحتقره وينبذه ويلعنه، وكلنا يود الآن لو يسحقه فيريح الوجود من وجوده.

ورأيت في ناحية أخرى قلباً شفَّ لونه، وأضاءت سحنته، فدلّتنا على دخيلة بيضاء كالشمس، والقلوب كلها - إلا ذلك القلب الداكن وأمثاله - متهافتة عليه، متوددة إليه، تصافحه وتحييه؛ فيصافحها ويلاقيها بتحيات زكيات ملأى بالبر والقناعة - فسألت:(ما لهذا القلب لا يجد منا قالياً ولا نجد منه داعياً للقلى؟) فقالوا: (هذا قلب رجل تقي كريم يعرف الله ويخشاه، نصب نفسه لهداية الناس، وقضى أيامه يجاهد الرذيلة ليحي الفضيلة، ويكره الشر، ويحب الخير. فطالما سعى ليوفق بين صديقين مختلفين، أو يصلح ما بين حبيبين تاعسين، أو يحسن إلى أحدٍ ما؛ فتراه يرشد هذا، ويعلم ذاك، وينتزع الغواية من ذلك، صادقاً في كل ما قال وكل ما فعل، مصلحاً أينما حل. فكلنا يعرف فضله ويقدره ويحترمه ويود لو يرفعه فيجعله في السماء.

ولفتَ بصري قلبٌ غلا دمه، وتصاعد البخار من فتحاته، وكاد يندلع اللهب من جنباته؛ حتى خلتُه تنُّوراً تنصهر فيه جدرانه جزءاً فجزءاً، ويشتد أزيزه كلما استعر جوفه. يروح ويغدو بين القلوب هائجاً كالمشرّد، حائراً كالنصال، لا تفتر قواه ولا ينقطع خفوقه. فتساءلنا

ص: 45

عما به فوجدناه قلب محب فارقه حبيبه فبرّح به الشوق، وأضناه الألم؛ فهو ظمآن لهفان يبحث عنه بيننا علّه يلقاه فينقع اللقاء غلته، ويبرد لهفته. فقلت: آه!! ما أعظم سلطان الحب. . آمنت بأن في الحياة قلوباً تحار حيرتي وتكابد ما أكابد.

وكان بين القلوب قلبٌ خالٍ كالبيضة إذا أفرخت، سافر كالمرأة إذا تهتكت، باهت كالشمس إذا تنقبتْ بالسحاب. فكان أشبه شيء بالإسفنجة؛ وأعجبني منظره الفاتر الخالي من كل قرائن الحياة، لأنه شاذ بفتوره وخلوه منها، وأخذتُ أراقبه مليا لأقف على سره لو كان لمثل هذا القلب سر؛ فوجدته إمعة يظل ساكنا كالنائم فلا يتحرك حتى يحركه غيره، ولا يتوجه حتى يوجهه غيره، ولا يعمل إلا ما يمليه عليه غيره.

يدنو منه قلب من تلك القلوب السوداء هامساً موسوسا فلا يلبث حتى يسودّ ويتشكل بشكله، ثم يدنو منه قلب من تلك القلوب البيضاء الناصعة محدثاً مبشراً، فلا يلبث حتى يبيضّ ويتشكل بشكله، وهكذا هو في كل أحواله مقود لا إرادة له ولا صفة.

فسألتُ عنه فقيل لي: هذا قلب شاب ساذج أبله مغرور بنفسه، مخدوع بغروره، لم ينكبه الدهر، ولم تكرثه العوادي؛ فعاش كما تراه سليماً من الشر ومن الخير، بعيداً عن الحزن وعن الفرح، وحسب أنه عاش كذلك برغبته وقدرته، وأنه استطاع أن يهزأ بالأحداث لأنه فوق متناولها؛ ولم يعرف أن الله خلقه ضعيفاً فأنكره الدهر، وهزأت بوجوده الأحداث.

ووقع بصري على قلب تراه واقفاً فلا تحسبه واقفاً لدأبه على الدق والتوثب، ولا تفهم من خفقانه المتواصل معنى خفقان القلوب. وإنما تفهم معنى الجبروت والصولة والعربدة!! ينظر إلينا شزرا ويتطلع إلى محيطنا باستخفاف؛ ثم يصرف عنا بصره ويتطلع إلى أبعد من محيطنا باستخفاف؛ كأنه لا يشعر بنا وكأنه يعتبر الكون أضيق من أن يَسَع قوته وعظمته، فلا يروح ولا يغدو إلا في تيه وخيلاء، ولا يقف إلا وقفة المتمرد المتحفز، وهو مع هذا أبكم، أصم، أعمى، كافر، لا يؤمن بالرحمة، قاس لا يعرف الآلام؛ فهو أشبه شئ بكرة من الحديد.

قلت: قلب من هذا القلب القوي المتكبر؟ قالوا: قلب رجل شجاع جبار لا يهاب الصعاب، ولا يرضى الاستكانة، ولا يعرف التسامح، مفطور على الكبر والعظمة واستصغار الكبائر؛ واستضعاف الأقوياء، واستعباد الضعفاء. فهو يعتقد أنه مخلوق للغلبة والانتصار.

ص: 46

ونظرت على يميني فرأيت قلباً استحق مني أن أطيل النظر إليه لما هو فيه من هم وكآبة، وقطعت فترة طويلة من الوقت شاخصاً إليه، متأملاً مشفقاً وأنا أحس أنه بائس وأن بيني وبينه صلة من البؤس مهما يكن بؤسه ثم ملت إليه وسألته: ماذا بك أيها القلب الحزين الباكي، ومالي أراك ساكناً ساكناً. . . تبدو في سكونك كاليائس المقشعر من يأسه، وكأني بك تستكثر على نفسك أن تعيش لأنك برم بالعيش!! إنك منا ولكنك غريب عنا؛ لا تخالطنا كما نتخالط ولا تحادثنا كما نتحادث؛ فما رأيتك منذ رأيتك إلا زافراً تكبت الزفرات، أو مستعبراً تخبأ العبرات، وأحسب أنك نكبتَ في حب فعشت في ذكرياته، وأن تلك الذكريات التي وصلت ما بينك وبين الماضي قطعت ما بينك وبين الحاضر: فماذا بك، وقلب من أنت؟

فانتفخ، ثم صعدت من فوهته زفرة ملتهبة، ثم صمت قليلاً، ثم رنا إليّ طويلاً، ثم قال: دعني لمأساتي فاللهب لا يحرق إلا من ألقي فيه.

قلت: ولكني أريد أن أعرف مأساتك؛ فعسى أن أعينك أو أواسيك أو أتوجع لك.

فصعدت من فوهته زفرة أخرى وقال: أواه. . . هذا شعور جديد في الحياة أو جديد في حياتي أنا فقط، وهذه كلمات لم أسمع مثلها منذ حين. فيالك من قلب طيب!

إن مأساتي هي أنني بحياتي مأساة في الحياة!! لقد كنت محباً واليوم قد مات الحب، بل أنا محب؛ كنت هانئاً، واليوم قد مات الهناء. . . بالأمس كنت قلب فتاة عذراء مؤمنة، واليوم أنا قلب امرأة متخالعة متماجنة. . . امرأة مومس أقدمت على الدعارة مكرهة، ثم مستسلمة، ثم راضية،. . . امرأة ساقطة تبيع عرضها في سوق الفجور (الرسمي) كل يوم لكل من يدفع الثمن. . .

مسكينة هذه البائسة المجروحة التي تحملني بين حناياها بائساً مجروحاً!! إنها تحاول كثيراً أن تسكتني وتخفيني، ولو استطاعت لقطعت ما بيني وبينها من شؤون وصلات، لتخلو لشؤون وصلات ذلك العالم الداعر الكافر الذي تعيش فيه بين ذبّاحي الإنسانية وهدّامي البشرية، وأنا في صدرها ألتاع وأتألم وأبكي وليست لي دموع إلا الدماء أستوردها من بدنها فيهزل قوامها، وهزال قوامها يذبل شبابها، وذبول شبابها يضيع جمالها، وجمالها هو حياتها الفانية التي لا خير فيها.

ص: 47

الرجال يحدثونها دائماً عن مواضع الفتنة ومواطئ اللذات فيها، فلا تسمع رجلاً واحداً يحدثها عن مواطن الحسرة ومدافن الذكريات في أعماق نفسها، ويسألونها كل يوم عن شهوة بعد شهوة، ولا يسألونها: أي حزن دخيل ثقيل تحملين، وكيف تتعذبين!! إنها تضاحكهم وتداعبهم ترويجاً لخلاعتها بينما تباكيني وتناجيني تفريجاً لكآبتي، وهي في ذلك مضطرة إلى التظاهر بأنها امرأة بلا قلب ولا ضمير، وإلا اتهموها بأنها تحمل قلباً حياً وضميراً مستيقظاً، وعدوها بذلك خائنة لحرفتها غير حافظة لنعمتها.

لقد حبستْني وحرَّمتْ علي أن يسمعني أو يشعر بي أحد، وما جئت إلى هنا إلا خلسة منها. فهي الآن في أحط أوقاتها بين أحط الرجال.

ولكني لا ألومها فأنا الجاني الأول عليها،. . . لقد قادني الحب فقدتها أنا إلى معمعة العواطف، ثم قادتها العواطف المطلقة إلى مغانم الشهوات، ثم قادتها الشهوات الغريرة إلى مساقط الفساد، ثم إلى الهاوية التي لا مقيل لها منها إلا الموت.

وبكى وبكيت له ورحت أواسيه بالقول لأن مأساته أكبر من أن أعالجها بالعمل.

(البقية في العدد لقادم)

السيد محمد زيادة

ص: 48

‌عويل الدم

(مهداة إلى الأستاذ الزيات)

من وحي مقالة: (على هامش الموضوع)

بقلم جورج وغريس

(في يوم مشئوم، في بلد مجهول، جرى دم الشهداء على أديم الغبراء، وظل سحابة يومه شاهد الأرض للسماء؛ وفي الصباح الباكر مر عابر السبيل، فألفى الدماء قد استحالت إلى كلمات، فأخذ يلتقطها بيد مرتجفة ويلقيها في سلال حمراء وسوداء. . . وهاؤم اقرءوا تلك الكلمات. . . . . . . . . . . . . . . .)

لقد قالوا للسان اصمت فتكلمنا.

نحن القطرات المتساقطة من عيون الفناء، وحيث سقطنا ستظل الحقيقة قائمة إلى الأبد.

إنما يعيش الإنسان بالدم الذي يجري في عروقه، فإن مات شهيداً عاش الناس بما يلقيه من الدم في عروقهم.

لقد كذبت معاجم اللغة في كلمتين: (قعقعة السلاح) وصوابها (قعقعة الدم).

ليس معنى الموت الموت دائماً، فقد يكون معناه الحياة أحياناً.

أليس غريباً أن نهتف للحق مرتين: مرة في حنايا القلب، ومرة من ثنايا الأرض؟

لو أننا عدنا إلى حيث أتينا ثم خُيرنا في مصيرنا ما اخترنا غير هذا المصير.

لقد فهمنا حاجة الأرض فأطفأنا ما بها من ظمأ. . . .

أيها الثري الجائع. . . . لقد أتخمك الشبع!

لقد قالوا لنا عيشوا في معاقلكم فانطلقنا منها أحراراً لما أحجم القوم تقدمنا، وحين أطفأ الناس أنوارهم أتينا لهم بالمشاعل.

نحن مادة الحياة أينما حللنا. . . . . . عشنا في القلوب فخفقت، ولمسنا الأرض فنبضت. .

ليت الإنسان يفهم أن للحياة معنى غير الذي دارت عليه أيام الأنعام، والحياة بغير هذا المعنى لا معنى لها.

أنصتوا أيها الباكون حولنا واستمعوا، فإن قيثارتنا ترسل أنغامها السحرية.

ص: 49

إن تفجرنا من القلوب أو جمدنا في العروق فنهايتنا واحدة: الأرض مثوانا وهي الأم الرءوم.

أليست تلك أرض الوطن. . .؟ لقد خالطنا حبها فاختلطنا برغامها وتوغلنا في أعماقها وأضفنا إلى تربتها عنصراً جديداً لن يزول إلى الأبد. . . . . . أليس في كيميائها (المادة لا تفنى؟. . .).

للمظالم البشرية سهام مسمومة وللنفس الشريفة دم كريم. . . . . . إن أصاب ذلك الدم سهم من تلك السهام أبت كرامته أن يعيش إلى جواره فيفلت من مكانه ناقماً عليه ثائراً على عدوانه.

جبلت نفس الظالم من صخر لا قلب له ولا دم. فهو ينتقم لتلك الطبيعة الناقصة. فإن صادف قلباً أرهقه، وإن لاقى دماً أهرقه.

لا تقوم في نفس ابن آدم نزعة إلى الشر إلا ويكون مبعثها شيطان فيه. ولا يجئ منه الخير إلا يكون مصدره الإنسانية في الإنسان. ونحن - وا أسفاه - نتيجة صراع بين النزعتين في نفسين مختلفتين.

تضافرت الفضائل فغلبتها التضحية، وتنافرت الرذائل فجمعتها الأنانية.

يا عابر السبيل. . اخلع نعليك، فإن الأرض التي تطؤها مقدسة!

يا عابر السبيل. . . نحن غرباء مثلك، مطاردون مثلك، وقد أحاطتنا الحياة بهوانها حتى زجرتنا عن محيطها، وقذفت بنا الأرض قطرة حارة وزفرة متأججة تحرق الأديم وتلفح الوجوه. فإن بلغتك أنفاسنا المحترقة فخذ من حرارتها قوة لأنشودتك، ومن فيض آلامها املأ أنغامك سحراً وجلالاً وروعة. . . . . .

يا عابر السبيل. . . . . . لا تخش أن يكون سبيلك سبيلنا وطريقك طريقنا. . . فإنما السبيل للمجد وعر والطريق إليه شائك، فلا تكتئب أو تحزن فمن وخزات ألمك تعيش الكرامة، ومن زفرات بكائك يشتق الخلود آيته. . .

نحن الورود الحمراء التي سقتها الدموع وأنبتتها الأهوال. ستعيش جذورنا في أعماق الصخرة وتصمد أعوادنا المخضلة في وجه العاصفة، تتفتح أكمامنا للأجيال فتملأ النسمات بأريج عاطر ينعش الأنف ويغذي القلب ويثير الفؤاد.

ص: 50

لنا في أذن الأجيال همسات، أسمِعوها يا هؤلاء لأولادكم وأحفادكم إن كان لكم ولهم آذان. واكتبوها على شغاف قلوبكم وقلوبهم بحروف من عصارة تلك القلوب. فإن كانت دماً نقياً رفعكم ورفعهم، وإن كانت دماً مارقاً خذلكم وخذلهم.

(إسكندرية)

جورج وغريس

ص: 51

‌أحلام وذكريات

للآنسة فردوس مصطفى

من مشكاة الطفولة اللاهية الغافلة كان قلبي الخلي يطل على قوافل الحياة فيراها ويحس بها غير ما يراها ويحس بها الآن، وكان إحساسه بها حينذاك إحساساً قوي الفطرة جامح الغفلة يبهره من قافلة الحياة تناسقها ومظاهرها غير مدرك سرها وجوهرها. وكان يرقبها طوال الأعوام الثلاثة عشر، حتى إذا ما تحول إحساسه بها إلى بعض إدراكه لها نشأ عن هذا الإدراك الحسي شعور جديد دفع به إلى السير مع القافلة، فاندمج فيها ولم يعد يراها، ولكنه بدأ يعرف سرها ويدرك مداها. وعندما أذكر أحلام الأعوام الثلاثة عشر، وقد كانت كلها أحلاماً، أشعر بالماضي يجذبني نحوه وبالحنين يعاودني إليه؛ فأحلام الصغار وأمانيهم أسباب تصل ما بينهم وبين الحياة بسبائك من الذهب، ولأحلام الكبار وأمانيهم أسباب تصل ما بينهم وبين الحياة بحبائل من النصب، ويا شد ما يهفو القلب إلى القفزات المرحة في رحبة المدرسة، وإلى تلك الدمى المتراصة في الدار من مختلف اللعب، وإلى فساتين الأعياد الزاهية الألوان؛ كل ذلك له أثر في القلب، لأنه بدء علوقه وأول صباباته. فلما شب عن طوقه وبارح مشكاته أصبحت له صبابات غير تلك الصبابات، وأماني وأحلام غير تلك الأماني والأحلام، بذل فيها من دمه ونعيمه الشيء الكثير، فثار على الحياة يثأر لدمه الغالي ونعيمه الذاهب؛ وللقلب حين يثور فلسفة يحتار في غاياتها العقل؛ وللقلب حين يثور أفانين يقصر عن إدراكها الفكر، ولكنها فلسفات وأفانين هي أقرب إلى السماء منها إلى الأرض؛ تدمجه في الروح الخالص فلا يشعر بما على الأرض من مادة طاغية، ولا يحس من بهرج الحياة وظاهرها بسعادة خاوية. فهناؤه فوق المادة، ونعيمه موصول بالسماء، وبين الفينة والفينة يعاوده الحنين إلى ذكريات الطفولة وأحلامها، وإلى المشكاة وأيامها، فيخيل إليه أنه يستطيع أن يطل على الحياة كما كان يطل، وأن يرقب القافلة كما كان يرقب، ولكن هيهات!

فردوس مصطفى

عجز التجارب

ص: 52

للأستاذ عبد الرحمن شكري

ما زاد مَرُّ حياتي غير أشجاني

فَزَوَّدَتْنيَ رجحاناً كنقصان

يا دهر لا تُنْسِني في ضيق عادية

محاسن العيش من صبر وغفران

وقَوِّنِي بتجاريب أزاولها

فإنها لم تزدني غير عرفان

وكيف يُلْهِمُ خُبْرٌ صَبْرَ مصطبر

يَمْرِي له الخُبْرُ عرفاناً بإيهان

يزيده العمر من وَهْيٍ ومن كِبَرٍ

ما زاده العمر من خُبْرٍ بِحِدْثَانِ

فكيف ينفع تجريبٌ ومانحه

يوهي جلادة أعصاب وجثمان

بعض التجارب يُنْسِي بعضها زمناً

إذا تعاور لبَّ المرء ضدان

فإن تيقَّظ في تجريب طارقةٍ

فإنما هو يقظانٌ. كوسنان

ضرورة العيش أن ينسى ليذكر ما

يغدو يعالج من أمرٍ له ثان

فالمرء ما عاش من حال لثانية

مَنَقَّلٌ بين نسيانٍ ونسيان

فإنْ تذكَّرَ أمراً واحداً أبداً

قضى الحياة غريراً جد غفلان

وإن تناسى فلا نَفْعٌ لخبرته

وكيف يُجْديهِ مَنْسِيٌ بغنيان

فإن تذكر منسياً تبادهه

منه فجاءة ما يقضي الجديدان

كأنه مُستَجَدٌّ لم يُلِمّ به

ولم يُحوَّلْ إلى طبع ودَيْدان

ورب طبع بلا خُبْرٍ وتجربةٍ

أسخى على المرء من خبر وعرفان

ذُخْرُ التجارب ذخرٌ لا رواج له

ولم يُخَصّ بأرباح وأثمان

ذخر الأقاصيص مسحوراً ومُخْتَزَناً

فليس للعين منه غير ريعان

إلاَّ تجارب علمٍ يُستَجَدُّ بها

ما يملأ العيش من حسن وإحسان

لولا انتفاعك من عادٍ مُفَضَّلَةٍ

قد تجتبيها مع التجريب في آن

لما خُدِعْتَ بأشباهٍ إذا اختلطت

فعادةُ المرء والتجريبُ أمران

والخُبْرُ ليس بنافٍ عادةً شنأت

ولا يُداوَى به من وهي أبدان

يزيدك الخُبْرُ علماً بالحياة وما

تُغْرِي به الناس من شرٍّ وطغيان

حتى تسير على مجرى سجيتهم

فلا يزيدك فيها غير إمعان

ص: 53

فإن أبيت سجايا الناس من شمم

قضيت عيشك في هم وأحزان

إلاَّ إذا ما لبست الدهْرَ عافيةً

فهيأت لك من صبر وغفران

عبد الرحمن شكري

ص: 54

‌السجينة

للأستاذ فخري أبو السعود

لك الله كم ذا تطمحين وأعزف

وأثنيك عما تبتغين وأصرف

ويا نفس كم أزوّرُّ عما اشتهتِهِ

وأُعنى بما لا تشتهين وأكلف

وأحجم عما رمتني فيه مُقْدماً

وأُقدِمُ فيما تكرهين وأسرِف

وأبدي سوى ما تضمرين مكتِّماً

جوى لك في الجنبين لا يتكشف

تُجِنِّين تهياماً ووجداً ولهفة

وأُظهر أني الزاهد المتعفف

وتخفين إشفاقاً وأُبدي جلادة

وأَغلُظ يا نفسي عليك وأَعنُف

وأكظم غيظاً قد أطاشك فرطه

وأُجمل للباغي المسيء وألطف

كأنك في الجنبين منِّي سجينةٌ

تعذب في ظلمائها وتحَيَّف

وتُكبح عما تشتهيه وتبتغي

وتُقمع أشواقٌ لها وتَشوُّف

ظلمتك لم أظلِم سواك من الورى

وما من خلالي قسوة وتعجرُف

ظلمتك، لا يا نفسُ بل تظلمينني

وأصفح عما تُسلِفين وأصْدِف

أما كلّ يوم مذهبٌ لك شائق؟

أما كل حين مأربٌ بك مُلْحف

أما كل آن غايةٌ إثْرَ غاية

أكلّفُ في إدراكها ما أكلّف

وسيان محمودُ العواقب نافع

لديك ومذمومُ المغبة مُتْلِف

أما تشتهين اليوم ما يُجْتَوى غداً

ويُقْلى لديك اليوم ما كان يشغَف؟

وهل أنا مُسطيعٌ رضاك لو أنني

على العالمين الحاكم المتصرف؟

ولو أنني عمرْي أُجاريك لم أعِشْ

عن النهج إلا حائداً أتعسف

كلانا أيا نفسي بلاءٌ لخدنه

نعم وكلانا ناقم ومعنِّف

نعيش كأنّا اثنان لم يتعارفا

وما لهما في الدهر شمل يُؤَلف

ظلمتكِ خدناً صاحباً وظلمتِني

فَعَلّ فراقاً آتياً هو أنصف

فخري أبو السعود

ص: 55

‌أُغنية

بين يدي الشمس تشرق تحت السحاب

للأستاذ إبراهيم إبراهيم علي

وجهُ من يا فجر هذا ما بدا

من وراء الغيب في الأفق الجميلْ؟!

سحَرَ الطيرَ، فغنّى وشدا

وترامت بهجة الدنيا تسيل

لهبٌ يندى على الكون ندى!

ناضر الجمرة كالخد الأسيل!

وجمالٌ في جمالٍ في جمالْ

ية للحق في عليائها

تختفي في السحب شيئاً وتبين

يقف العقل لديها تائهاً

وهي أم العقل والصبح المبين

غيمة واحدة تلهو بها

تحجب الغرّاء حيناً بعد حين

أفسحْرٌ، ليت شعري، أم دلال؟

أفهزلٌذاك يا أم الحياه؟

لعبٌ في الأفق، لهو في السحاب!

هاهو الكون جميعاً يا فتاه

يرقب الأضواء من خلف الحجاب

يسكب النور، ولكن لا نراه!

ثم يبدو من ثنيّات الضباب

في العلا نورٌ وفي الأرض ظلالْ!

بل هو الجدّ، ولا هزل هنا!

بل هو الحق، ولا حق سواه

بل هو الله، تجلى ودنا

وتباركت قديماً يا إله!

تبعث الشمس كأطياف المنى

كالرؤى يوماً، ويوماً كالمهاه

وجمالاً في جمالٍ في جمالْ

(قليوب)

إبراهيم إبراهيم علي المحامي

ص: 56

‌حَنين

للأستاذ رفيق خوري

واهاً على زمنٍ ما كان أقصرَهُ

فديتُهُ بدمي لو صانه الزمنُ

نفضتُ منه يدي والحرصُ يُمسكه

والمرءُ حيثُ أراد الدهر مرتهَنُ

إن الذين دعتهم نيَّةٌ قذُفٌ

سر الضمير، وقد فارقتهمْ علنُ

لا يستجيبون للمضنَى، فدىً لهمُ

نفسي، وكنتُ إذا ناديتُهمْ أذِنوا

أكلما لاح برقٌ من ديارهمُ

أجابه من دموعي عارضٌ هتن؟

ما حيلةُ المرء في الدنيا بنافعةٍ

إذا أُريد به الترنيقُ والحَزَنُ

ضَلّ الفؤاد الذي طار الفراقُ به

لهفي على هائم ما إنْ له سكن

يا ليت شعري يدانينا السرور كما

كنا، ويجمعنا بعد النوى وطن؟

حمص

رفيق خوري

ص: 57

‌القصص

صور من هوميروس

16 -

حروب طَرْوَادَة

فزع الآلهة. . .

للأستاذ دريني خشبة

قلق زيوس من اعتزام أخيل اقتحام الحرب

وكيف لا يقلق سيد الأولمب وكل من الفريقين يصلي له، ويطلب منه العون، ويتوسل إليه أن يُظفره بعدّوه، فتنجاب هذه الغاشية التي صرّعت الرجال، وضرجت أديم الثرى بدماء الأبطال!!

ودعا إليه أربابه فعقد منهم مجلساً للمشورة، فانتظمهم ديوان الأولمب، وحفلت بهم ذروة جبل إيدا، وطفق الإله الأكبر يقلّب الرأي على جميع وجوهه، ويبحث المسألة من شتى أطرافها، والأرباب فيما بين ذلك يحملق بعضهم في وجوه بعض، وتضطرم في أفئدتهم نيران العداوة والبغضاء؛ لأنهم كانوا جميعاً وقلوبهم شتى! فهذا فريق منهم يعطف على طروادة، ويشيد بذكر طروادة، بل منهم من اشترك في بناء طروادة وأقام أسوارها، وتحصين صياصيها؛ والطرواديون من أجل هذا قد أخلصوا العبادة لهؤلاء، وأقاموا لهم الهياكل المشيدة، والمعابد المنيفة، وهم في طويل الأحقاب والآباد ما يفترون عن عبادتهم والأخبات لهم، وتقديم القرابين والضحايا بأسمائهم.

وفريق آخر من الآلهة يعتبر الشعب الهيلاني شعبه المخلص؛ فهو لذلك يحدب عليه، ويرجو الخير له، وهو أبداً يستأذن سيد الأولمب فيحارب في صفوفهم، ويشد أزرهم، ثم الهيلانيون يخلصون العبادة لهذا الفريق، وهم أبداً يتعلقون بهم، ويقيمون المعابد لهم في كل حنية من جبالهم، وبكل منعرج من شعابهم، ومنهم كل مثّال صناع اليد، مرهف الحس، رفيع الذوق؛ وهم لذلك قد ملأوا المعابد والهياكل بتماثيل الآلهة، حتى ما تقع العين على أجمل منها!

وفريق ثالث لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ينقم على هذه الحرب الشعواء التي سُعِّرت لغير

ص: 58

ما سبب يستأهل كل تلك الضحايا ويستحل كل هذه المهج؛ وهذا الفريق يحنق على طروادة ويحنق على هيلاس على السواء. ويود لو يأذن سيد الأولمب فيزلزل بهما الأرض، أو يرسل عليهما كِسَفاَ من السماء، فلا يبقى على أحد منهم أبداً!!

واتفق الآلهة على أب يذهب فريق منهم فيكون في صفوف الطرواديين يرشدهم، ويدفع عنهم عادية أخيل، ثم يذهب فريق آخر فيكون في صفوف الهيلانيين يفل من نشاطهم، ويكسر من سورتهم، حتى تكون الحرب بين الجمعين سجالاً؛ وإلى أن يرى الآلهة في شؤون خلقهم رأياً آخر.

وانطلقت حيرا مليكة الأولمب، ومينرفا ربة الحكمة، ثم هرمز رسول الآلهة وقائد الأرواح إلى هيدز. وفلكان الحداد وإله النيران، الذي فضحه مارس في زوجه، ونبتيون رب البحار العتيد الذي روّع الطرواديين في هذه الحرب أيما ترويع.

انطلق هؤلاء فكانوا في صفوف الهيلانيين.

وانطلقت فينوس إلى صفوف الطرواديين، وراح في أثرها أبوللو وأمه لاتونا وديان ومارس وإكسانثوس، وفئة غير هؤلاء من عشاق فينوس؟.

وانبث الآلهة ينفخون في أبواق الحرب.

وصاح أخيل في شياطين الميرميدون صيحة داوية. زادتها مينرفا قوة، فما تركت فؤاداً إلا زلزلته، وما غادرت نفساً إلا تركتها ترجف من خوف وفزع.

وكان أبوللو ينظر إلى أخيل فيتميز من الغيظ، ويود لو يبطش به بغدره من غدراته التي أودت بيتروكلوس من قبل، ولكنه أحس بفرائصه ترتعد، وفقاره يندك من الرعب، لما رأى حول أخيل من هذه الأرباب المتعطشة للدماء، لا سيما الإله الوحش نبتيون الذي يرسل من عينيه بركانين من الغضب يضطرمان اضطراماً.

وآثر أبوللو أن يستخفي في زي ليكاون بن بريام وصورته، وأن يذهب من فوره إلى إينياس العظيم مستشار طروادة وأبسل شجعانها بعد هكتور، فيثيره على أخيل، ويلهب فيه نخوة الجاهلية التي سداها التفاخر بالأنساب، ولحمتها التباهل بالأحساب، والتبجح بأنا ابن من سمك السماء، ودحا الأرض، وأنبت فيها من كل زوج بهيج!

واستطاع أبوللو أن يهون على إينياس من شأن أخيل، وأن يحقر في ناظريه خطبه،

ص: 59

واستطاع ببيانه الموسيقي، وطلاقته السحرية، أن يدفعه إلى ناحية أخيل، الذي وقف مكانه يقذف الرعب في قلوب الطرواديين وأحلافهم، باحثاً عن غريمه البغيض، هكتور بن بريام، يود لو يخلي بينه وبينه فيبطش به، ويشفي هذا اللظى الذي يتأجج في جوانحه، بما قتله أعز أصدقائه، وأحب الناس إليه.

ووقف إينياس تلقاء أخيل، فتبسم زعيم الميرميدون، ووعظ المحارب أن ينثني فلا يلقي حتفه، وذكره بما حدث بينهما قديماً، حين ساق أخيل قطعان إينياس السائمة في سفح جبل إبدا؛ وما كان من فرار إينياس، هذا الفرار المضحك، الذي أشمت به الأعداء، وأثار عليه سُخرية الأصدقاء والأوداء!

ولكن إينياس، الذي كان ما يزال مأخوذاً بسحر أبوللو وموسيقاه، أبى واستكبر، وهز أعطافه، ثم أخذته العزة بالأثم، وانطلق يقذف في وجه أخيل بهذا التفاخر الذميم الذي لا يجدي في حلبة الحرب نفعاً، ولا يجر على صاحبه مغنماً، يوم لا حكم إلا للمرهف البتار، ولا قول إلا ما يقول الفيلق الجرار.

والتحم المحاربان العظيمان!

وارتطم الصخر بالصخر، وثار النقع في الميدان وأظلم حتى قد تهاوت كواكبه، ونظر الجمعان نظرة القلق الحيران، وأخذ الذهول يضرب إطنابه على الساحة الحمراء، ونظروا فرأوا إينياس يستجمع كل قوته، ويقذف برمحه العظيم فترده درع فلكان، وإن تكن الطعنة قد شقت منها طبقتين، وفترت، فلم تصل إلى فؤاد أخيل.

وهنا!

اشتعلت نيران الدنيا في عيني زعيم الميرميدون، وذاب في أعصابه حميم من الغضب، وأرسل بدوره رمحه الهائل يرن على درع إينياس فلا يصيبه بأذى، ولكنه، لعظم الطعنة، يصرعه ويطرحه فوق أديم الثرى فريسة رخيصة لغوائل الردى، وضربات الرقاق البيض.

وينحني أخيل من عربته الفخمة، فيتناول حجرا عظيماً، قد يتعب عشرة من صناديد الرجال في حمله، ثم يرفع الحجر ليقد به جمجمة إينياس. . .

ولكن!. . . . . .

ص: 60

لا! ينبغي ألا يقتل إينياس، لأنه ابن زيوس سيد الأولمب، وهو لو قتل لم يرض به أبوه ألف ألف أخيل، وألف ألف ميرميدون كملأ أخيل!. . .

هكذا قدّر نبتيون! وقُتل نبتيون كيف قدر!!

لقد أرسلها إلى حيرا، مليكة الأولمب التي كانت قريبة تشهد الحدث الأعظم، قولة غير صادقة إلا في زعم نبتيون!

وعارضت حيرا في تدخل نبتيون، ولكنه، لشدة حبه أخيل، لم يسعه إلا أن يسرع إليه فينشر أمام ناظريه ضبابةً كثيفة حجبت عنهما هدف إينياس، ثم أنكفأ يحمله بعيداً من أخيل، حتى انتهى إلى صفوف الطرواديين الخلفية، فسجاه على العشب الأخضر، وأخذ في نصحه ألا يجازف بنفسه أمام أخيل كرة أخرى!!

وكان الجمعان ينظران إلى إينياس محمولاً في الهواء. . فيأخذ العجب منهما كل مأخذ!!

وامّحت الضبابة، وبطل السحر، ونظر أخيل فلم يعثر لإينياس على أثر، وشدهه أن ينجو خصمه من قتلة محققة، فيُلقى في روعه أن إينياس سليل الآلهة كما ادعى منذ لحظة؛ ثم يشدهه أكثر تجابن الميرميدون والهيلانيين على السواء، بعد إذ رأوا إلى إينياس محمولاً في الهواء!

ويحضهم أخيل على خوض المعمعة، ويستطيع بحماسياته أن يلهب في صدورهم روح الإقدام. . .

ويكون هكتور في هذه اللحظة قائماً في جنوده يحضهم هو الآخر ويطمئنهم أن الآلهة معهم فلا يخافون ولا يحزنون. ويراه أخيل فيخفق قلبه، ويعلو صدره ويهبط كأنه الخضم الغاضب. ويدفع عربته نحوه، فتندفع الخيل، وكأنه النيران تندلع من عيونها وأنوفها. . . .

وكان أبوللو إلى جانب هكتور، فلم يرض أن يلقى أخيل الذي ما خاض المعمعة إلا ليثأر لصديقه بتروكلوس.

وكاد هكتور لا يأبه لكلام أبوللو، وتقدم فعلاً ليلقى أخيل، ولكن الإله الكبير زجره زجراً شديداً، ثم أمره بالتقهقر في الحال. . . فانسحب بطل طروادة، وترك أخيل يحرق الأرّم مكانه، إذ أفلته هذا الصيد الثمين!!

وانقض أخيل يشفي غيظه بقتل عشرات وعشرات من أبطال طروادة فصرع إيفتيون

ص: 61

العظيم ابن عذراء البحر، ثم ثنّى بالكمىّ الكبير ديموليون، شج رأسه فانبثق الدم يتفجر منه، وبرز المخ، وذهبت روحه إلى هيدز! ثم ثَلّث ببطل الأبطال هبوداماس، شكه شكة فتركه يخور كخوار الثور، مسوقاً إلى مذبح الآلهة. . . ثم انقض على بوليدور بن بريام، ملك طروادة، فطعنه في ظهره طعنة صرعته، ونشرت ظلام الموت في عينيه، فهوى إلى الأرض يئن أنيناً مؤلماً، أبكى الجند. . . وأحزن أخيل نفسه. . .

لقد كان بوليدور أحب صغار بريام إليه، وكان يجري فيسابق الريح، وينازل القروم الصيد فيصرعهم عشراتٍ ووحداناً، فيا حزن أبيه عليه بعد اليوم!!

وكأن ظلام الموت الذي خيّم على عيني بوليدور امتد حتى ظلل عيني هكتور! ولم تكن الحياة رخيصة في نظر بطل طروادة مثلها اليوم، فقد فجعه أخيل في بوليدور، فلا بد أن يفجع ذيتيس وبليوس، والدي أخيل، في أخيل نفسه. . .

وألهب جياده فاندفعت بعربته ناحية أخيل. . .

واستبشر زعيم الميرميدون حين رأى هكتور يسرع ناحيته قدماً، وذكر أنه قاتل بتروكلوس فدارت به الأرض، وذكر أن بتروكلوس ينتظر ثأره ميتاً ولا بد أن يعود أخيل إليه به، فتقدم نحو هكتور وقال له:

(هلم يا بن بريام فتعجل قتلتك، وودع الحياة الحلوة التي لن تهنأ بها بعد اليوم!!) وتجهم هكتور، وكلم أخيل فاعترف أنه أقوى منه، وأطول في مواقف الحرب باعاً، ولكنه حذره من الغرور؛ (ومن يدري؟! هل أوحت إليك السماء أنك تقتل هكتور؟ وهل أخذت على المقادير والأقضية عهداً ألا يصرعك هكتور. . .) ثم انقض بن بريام فأرسل حربته الظامئة إلى صدر أخيل، ولولا أن مينرفا كانت إلى جانبه تحرسه، ولولا أنها زحزحته قليلاً فتفادته الطعنة. . . لكان أخيل حديثاً من الأحاديث.

وبهت أخيل، ثم صاح صيحة رجف لها جانب الجبل، وجاوبتها أسوار طروادة، ورددت أصداءها أجواز السماء؛ وانقض على هكتور يود لو يقتلعه من عربته فيخبط به الأرض، وتذهب روحه بعدها إلى الجحيم!. . .

وكان أبوللو إلى جانب هكتور هذه المرة، كما كان إلى جانبه دائماً؛ وراع الإله الأكبر أن يهجم أخيل تلك الهجمة التي يعجز عن مثلها مارس الجبار نفسه. . .

ص: 62

وذهل أبوللو ماذا يصنع، ليقي بطله من رمح أخيل؟!

ثم ذكر ما صنعه نبتيون من أجل إينياس، فنشر ضبابةً كثيفةً أمام ناظري أخيل، وتقدم إلى هكتور فحمله، وذهب به إلى حيث يكون بنجوة من مصير محزن، كان يوشك أن ينتهي إليه. . . . .

وظل أخيل يطعن الضبابة، مشدوه اللب حيران!!

طعنها مرةً، ثم مرة ثانية، ثم ثالثة، ثم ما كاد يطعنها الرابعة حتى امحت وبطل السحر، وانكشف له الميدان يضج بالجند، ويعج بعدة الحرب، ولكنه مع ذاك، وغير ذاك. . . . خلو من هكتور!!. . . . . . . . . . . .

(جميل يا هكتور!! صل للإله الذي أنقذك اليوم مني! صل لربك أبوللو! لقد أنجاك من قتلة بينة، وموتة محققة. . . صل له يا هكتور! ولكن ثق أننا سنلتقي بعدها، ولا أدري هل ينقذك إلهك عندها؟! إن لي أربابي التي تحميني، والتي إن فوجئت بغادر فهي تنجيني. . . . . سنلتقي يا هكتور. . . . فصل الآن لأبوللو واشكر له. . . . .)

وثار أخيل فكان زوبعة!

وطفق يصرع أبطال طروادة، فطعن دريوبس طعنة اخترمت حياته، ثم جندل ديماخوس وأسرعت روحه إلى أمواج ستيكس المنصهرة، وتقدم فأطاح رأس دردانوس العتيد، وجال جولة هنا وجولة هناك، فكانت المنايا نتعثر أنىّ ذهب، وأيان صار، فهذا تروس البطل ملقى على الأرض والدم ينبثق من كبده، وموليوس الصنديد زائغ العينين يتوجع مما ألم به، وإخكلوس ابن أجينور تساقط نفسه حشاشات، ثم ديكاليون الذي دوخ الجيوش وروع الأبطال، وبث اليتم في كل دار. . . هاهو ذا فوق الثرى صعيداً جرزاً، وجثماناً يتدافق الدم من جرحه. . . نهاية حمراء لحياة حمراء. . . كلها حرب وتقتيل!

ورجموس!!

رجموس بن بريوس! الذي شد رحله من تراقية لينصر الطرواديين على بني وطنه. . . قائداً جموعه التي لا حصر لها؛ مؤلباً القبائل والأفخاذ على الأرض التي أنجبته، والآلهة التي نشّأته. . . . لماذا؟ لا سبب معقول!! ولكنه طيش الملك وغروره وكبرياؤه. . . ولأن الهيلانيين لم يختاروه قائداً لهم في هذه العشوزْنة الزبون!!

ص: 63

لقد امتشق أخيل سيفه، وأصلته على رأس رجموس، ثم أهوى به، فخر الخائن يتشحط في دمه. . . . . . . . وانتهت بموته حياة ذميمة.

وزلزل قلب أريثوذ. . . حارس رجموس وسائسه. . . فود لو فر بعربة سيده، لولا أن عاجله أخيل بضربة قدت أضالعه، وذهبت بروحه إلى حيث ذهبت روح مولاه. . . . . . . .

(لها بقية)

دريني خشبة

ص: 64

‌البريد الأدبي

كتاب عن المسألة الحبشية

أثارت المسألة الحبشية واعتداء الاستعمار الإيطالي على الحبشة نشاط المؤرخين والكتاب كما أثارت اهتمام الساسة والرأي العالمي، وظهرت في الآونة الأخيرة عدة كتب ومباحث تاريخية وسياسية واقتصادية وعسكرية عن إيطاليا والحبشة وكل ما يتعلق بتلك المشكلة الخطيرة التي ما زال يضطرب لها العالم كله منذ أشهر ، وكان مما ظهر أخيراً في ذلك الموضوع كتاب للكاتب الإنكليزي أميل بيرنز عنوانه (الحبشة وإيطاليا) واميل بيرنز كاتب اشتراكي، وكتابه حملة قوية على الاستعمار الغربي، وأحدث فوراته ونزعاته أعني الاستعمار الإيطالي. ويقول الكاتب في مقدمته إنه يقصد بما يكتبأن يبين الأسباب التي تجثم وراء الحوادث ووراء ستار المظاهر الدبلوماسية؛ والحوادث الظاهرة هي اعتداء إيطاليا المسلح على الحبشة، وعمل إنكلترا وفرنسا السياسي في عصبة الأمم أو خارجها، وليس هذا العمل في نظر اميل بيرنز سوى مؤامرة استعمارية.

ويستمد أميل بيرنز أدلته من حوادث التاريخ الحبشي منذ سبعين عاماً؛ فتاريخ الحبشة يحفل خلال هذه الحقبة بمشاريع إنكلترا وفرنسا وإيطاليا ودسائسها المستمرة، وكل تغالب الأخرى في سبيل الحصول على النفوذ الأوفر في الحبشة؛ والرأسمالية الاستعمارية من وراء السياسة تحاول أن تضع قدمها في تلك الأرض الغنية. وليس عمل إيطاليا إلا اعتداء في سبيل الاستغلال والسلب؛ ذلك أن أحداً في العالم لم يصدق أن إقدام إيطاليا على اتخاذ هذه التدابير العسكرية كان من باب الضرورة والتحوط وليست لها صبغة اعتدائية، وأنها ليست إلا ضمانا للسلام والأمن ضد أمة همجية، ولم يدهش إنسان بعد ذلك أن يرى هذه الإجراءات تتخذ فجأة صبغة الغزو المسلح، وأن تتحدى إيطاليا رأي العالم المتمدن كله، ولم تقم الدول الاستعمارية الأخرى بعمل حاسم لمنع هذا الاعتداء، وإذا كانت قد فعلت شيئاً فذلك لأن الموقف النبيل الذي وقفه النجاشي كان مثاراً لإعجاب العالم وعطفه.

وقد كانت الحبشة فريسة الاعتداء المدبر، وكان لإيطاليا أن تحمد الفرصة السانحة من كل وجه وخصوصاً لأن موقف الحكومة القومية الإنكليزية في تأييد سياسة النازي (الهتلريين) في ألمانيا قد دفع فرنسا إلى أحضان إيطاليا وانتهزت إيطاليا هذه الفرصة لتضمن تأييد

ص: 65

فرنسا لها في افتراس الحبشة. بل لقد حاولت إنكلترا أن تعمل على اقتسام الحبشة مع إيطاليا، ومن أجل ذلك قدمت مشروعها بالتنازل عن زيلع إلى الحبشة.

ويتناول المؤلف بعد ذلك العوامل الإقتصادية التي دفعت بالحكومة الفاشستية إلى اعتدائها، ويسرد الأدلة على أن (التمركز المالي) هو الذي يدفع إلى هذه النزعة الإمبراطورية ثم يتحدث بعد ذلك عن (الفاشستية وعصبة الأمم) ويبين لنا كيف أن الرأسمالية من وراء كل حركة وإجراء تعمل باسم الأقليات وباسم الانتدابات؛ وكيف أن الرأسمالية الخصيمة تحاول أن تقضي على أي مشروع للصلح يتضمن أي مغنم للرأسمالية الفاشستية، وهذا بصرف النظر عن قضية الحبشة وعدالتها. والآن تسنح فرصة بديعة لسحق الفاشستية ونظمها الطاغية، ولكن هل تنتهز الدول هذه الفرصة؟ ويقول لنا الكاتب إن الواقع أن حكومة إنكلترا القومية إن هي إلا حكومة فاشستية بمعنى الكلمة لا ينقصها سوى الاسم.

ويعرض المؤلف نظرياته وأدلته بقوة ووضوح ولا سيما فيما يتعلق بالمسألة الإيطالية الحبشية، ويسبغ على عرضه صبغة اشتراكية واضحة ولكن معقولة متزنة، وكتابه يعتبر من خير الكتب التي أخرجت أخيراً في موضوعه، ويمتاز بالنسبة للشعوب الشرقية بأنه حملة قوية منظمة على الاستعمار وأساليبه تثلج صدر كل شرقي يرى أساليب الاستعمار الهمجية تعمل في وطنه وأمته.

ذكرى غزوة بدر الكبرى

تألفت بالقاهرة لجنة من الشباب للاحتفال بذكرى غزوة بدر الكبرى في 17 من رمضان لأنها أول نصر حاسم في تاريخ الإسلام. وستكون الحفلة برياسة الدكتور محمد حسين هيكل. ومن خطبائها الأساتذة الدكتور محمد حسين هيكل، الشيخ عبد المجيد اللبان شيخ كلية أصول الدين، السيد محمد الغنيمي التفتازاني، الدكتور عبد الرحمن شهبندر، محمد أفندي عبد الباقي سرور نعيم، الشيخ أحمد البهي مندوب الأزهر، أحمد أفندي شوقي مندوب كلية الحقوق.

وسيكتب في هذا الموضوع الأساتذة محمد جاد المولى بك، أحمد حسن الزيات، حفني محمود، محمد علي غريب، عبد الحميد المشهدي.

كتاب (محمد) للأستاذ توفيق الحكيم

ص: 66

كتب الأستاذ توفيق الحكيم رسالة إلى أحد أصدقائه الفرنسيين في أكتوبر سنة 1934، جاء فيها عن كتابه (محمد) ما يأتي:(إن كتابي عن محمد (ص) لا يزال في طور التحضير والتهيئة، وعسى أن أتمه في الشتاء المقبل. وسأبرز فيه النبي الكريم متكلماً بكلامه المأثور، في صورة تستوعب حياته المجيدة، كما يتصورها الفنان، لا كما يفهمها العالم والمؤرخ. . .)

الصقالبة في الرواية العربية

إلى الأستاذ المحقق محمد عبد الله عنان

قد قرأت لحضرتكم في عدد الرسالة (رقم 126) مقالاً تحت هذا العنوان، وفيه عبارة لابن حوقل عن صقالبة الأندلس، جاء فيها:(فنصت بلدهم (الصقلب) يسبيه الخراسانيون ويصلون، والنصف الشمالي يسبيه الأندلسيون من جهة جليقة وإفرنجة وانكبردة وفلورية، وبهذه الديار من سبيهم الكثير). ثم استنتجتم من ذلك أن لفظة الصقالبة كانت تطلق على سكان هذه البلاد المذكورة، والذي يغلب على ظني أن هذه العبارة لم يرد بها ذلك، بل المراد وصف الطريق التي كان يسلكها سبي الصقالبة، حتى يصل إلى الأندلس، فهل عند الأستاذ ما ينفي هذا الظن؟

(قنا)

عطية الشيخ

الإنسان والكون - آراء علمية جديدة

ألقى العلامة الطبيعي الإنكليزي الأشهر سير جيمس جينس أخيراً محاضرة عن (الإنسان والكون) حمل فيها بشدة على مادية العلم القديمة، وقال إنه يعتقد أن الإنسان ليس آلة صماء، وأنه يناضل في الواقع من أجل مصيره، وأنه قد أحرز أخيراً نجاحاً لا شك فيه. بيد أنه ما زال عليه أن يناضل من أجل مركزه في المجتمع، فإذا أخفق في هذا النضال فقد يستأصل ويقضى عليه كما قضى على أجناس وفصائل أخرى من قبل، وفي هذه الحالة يكون الإنسان ضحية جنس آخر من صغار المخلوقات، ربما كان هو الميكروبات التي لا

ص: 67

يراها لصغرها.

وإذا نجح الإنسان في هذا الصراع واستطاع أن يظفر بتوطيد مركزه، فإن مواهبه وكفاياته قد تتسع وتزيد تدريجياً حتى يتحول إلى شئ آخر غير ما هو اليوم عليه وربما كان شيئاً أرفع مما هو عليه. وقد تختلف عنا سلالتنا بعد عشرة ملايين سنة كما نختلف نحن عن أسلافنا المنحطين منذ عشرة ملايين سنة. وشر ما يخشاه الجنس الإنساني هو الهزيمة والعدم، وخير ما يؤمله هو أن يغدو قنطرة منسية للطريق إلى أشياء أسمى.

وقد لاح في وقت ما أن نظرية (النسبية) قد وضعت حداً لكل الآمال التي تساور الإنسان في جعل العالم أكثر رفاهة وسعادة وجمالاً وأكثر نبلاً وعدالة طبق مثله الخاصة.

أما الآن فلدينا أسباب كثيرة تحملنا على العودة إلى اعتقادنا في أن الماضي والحاضر والمستقبل لها في الواقع معنى موضوعي وليست هواجس تهجس في عقولنا، وبعبارة أخرى يجب علينا أن نعتقد أن الزمن إنما هو حقيقة مادية.

واستعرض السير جينس بعد ذلك ما وصل إليه العلم في شأن (الذرّة) وما يقال من أنه لا يمكن سير الذرات، وأن سير الطبيعة يقوم على غير نظام وتقرير سابق؛ ومن رأيه أن العلم عاجز عن أن يقدم أي تحديد أو أي تدليل على مسألة (الحير) القديمة؛ وقد يكون الإنسان أو لا يكون آليّاً، ولكن العلم لا يستطيع أن يبرهن على أنه ليس آلياً، ثم هو لا يستطيع أن يبرهن أنه آلي قال؛ وإذا استعرضنا تاريخ العلوم في جملته، فإنا نرى المعارف العلمية ما تزال ترغم الإنسان على أن يخفض من تقدير نفسه ومركزه في الكون حتى بدء القرن الحالي، أما أنا فأرى أن التيار قد أخذ يتطور، وإننا على ضوء المعلومات التي ترتبت على نظرية النسبية والكمية، نستطيع أن ننظر إلى مركزنا في شيء من التفاؤل لم يسمح به العصر الفيكتوري).

شرعية الانتحار

يعرض في القريب العاجل على مجلس اللوردات الإنكليزي مشروع قانون فريد في نوعه، يراد به تقرير شرعية الانتحار، أو بعض أنواع القتل؛ ففي العهد الأخير وقعت في إنكلترا عدة حوادث رنانة مؤثرة؛ قتل فيها الابن أباه، والزوج زوجته، والعاشق حبيبته، ولم يكن قتلاً عادياً أو له صفة الجريمة، بل كان قتلاً مبعثه الإشفاق والحب، وكان في الغالب بناء

ص: 68

على طلب المجني عليه؛ وكان المجني عليه أو القتيل في معظم الأحوال يشكو مرضاً لا يرجى برؤه ويعاني آلاماً مروعة يريد أن يتخلص منها بالخلاص من حياته، فيطلب إلى أحب الناس إليه أن يقوم بهذه المهمة الأليمة. وقد وقعت عدة حوادث من هذا النوع، وقدم (الجناة) أو الذين ارتكبوا القتل بهذه الطريقة إلى القضاء فحكم القضاء في الغالب بالبراءة إزاء الظروف المؤثرة التي وقع فيها القتل، وإزاء انعدام نية الجريمة من جانب المتهم ولكن بعض (الإنسانيين) وأنصار هذا النوع من الإعدام يخشون أن يقسو القضاء فيعامل المتهمين في هذه الحوادث بالشدة وينال قصاصه المؤلم، لأن الانتحار يعتبر في القانون الإنكليزي جريمة ويعاقب كل من اشترك فيه أو ساعد عليه؛ ولذلك رأى بعض اللوردات أن يقدم إلى المجلس مشروع قانون يبيح القتل في مثل هذه الأحوال، وقد روعي في هذا المشروع أنه توجد حالات أليمة يشتد فيها المرض والألم على الفريسة فيتمنى كل من حولها لها الخلاص من هذا العذاب ويعتبرون من واجبهم المقدس أن يلبوا طلبها في الإجهاز عليها وإنقاذها من ذلك الجحيم؛ ولكن روعي من جهة أخرى أنه قد توجد حالات يتمنى فيها أهل المريض المعذب وفاته بسرعة ليحظوا بالإرث والثراء؛ وقد ينتهزون فرصة آلامه، وهذيانه فينتزعون منه إقراراً كتابياً بطلب الموت، ثم يجهزون عليه؛ ويتذرعون بهذا الإقرار للإفلات من العدالة؛ ففي هذه الحالة يتطلب القانون الجديد أن يقع مثل هذا الإقرار على يد موظف عمومي، وذلك بعد أن يصدر الطبيب المختص قراره بأن المريض لا يرجى برؤه وأنه يعاني آلاماً لا يمكن احتمالها مع الحياة؛ ويشترط مشروع القانون أيضاً أن الذي يقوم بعملية الإعدام أو الإجهاز على الفريسة طبيب مرخص له بذلك.

وهكذا يراد أن يشرع حق الانتحار، وأن يمنح حق الإعدام في ظروف معينة؛ وسنرى ما إذا كان مجلس اللوردات يقر هذا القانون المدهش.

معرض الفن الصيني

أفتتح أخيراً في لندن في (برلنجتون هاوس) معرض الفن الصيني الذي كانت تتخذ العدة لافتتاحه منذ أشهر. وقد عرضت في هذا المعرض تحف وآثار صينية نفيسة يرجع الكثير منها إلى نحو ثلاثة آلاف سنة. ومعظم هذه التحف الرائعة ملك للصين ولكن الحكومة

ص: 69

الوطنية الصينية ارتضت أن تعيرها للسلطات الفنية البريطانية بعد مفاوضات طويلة؛ ونقلت المعروضات في طرادة بريطانية مسلحة وأخذت إلى لندن لتعرض هنالك على أنظار العالم المتمدن. وتدل هذه التحف على أن الصين كانت قبل آلاف السنين تتمتع بحضارة رائعة تضارع في ازدهارها وروعتها حضارة مصر القديمة، وتدل على إن الفنون الصينية بلغت مبلغاً عظيماً من الافتنان. وقد كان الابتكار يقترن لدى الفنان الصيني مع الصبر وتخير النماذج الفائقة. وأقدم التحف المعروضة هي آنية للمراسيم الدينية صنعت من البرونز ويرجع صنعها إلى سنة 1766 قبل الميلاد؛ وكان البرونز أول مادة استعملت في الفن الصيني؛ ولم يبدأ النحت البوذي إلا في القرن الرابع أو الخامس الميلادي. وقد كان افتتاح المعرض الصيني حادثاً فنياً عظيماً في إنكلترا، وهرعت الجماهير الحاشدة لرؤيته من أنحاء الجزر البريطانية وأمم القارة الأوربية.

ص: 70

‌الكتب

كتاب التشريح المرضي والجنائي

تأليف الدكتور محمد زكي شافعي

بقلم الدكتور محمد الرافعي

لا أسهل في العلوم من اختصارها، ولا أيسر من إخراج الكتاب الضخم محصلاً في جزء لطيف. وقد كانت هذه طريقة علمائنا المتقدمين؛ فليس من كتاب ذي خطر إلا وقد اختصروه مرة أو مراراً، يريدون إما تقريبه من الأذهان وإما حصر فوائده، وإما جعله كالمذكرات. وقد يعجز بعض العلماء عن التأليف ويريد مع ذلك أن يكون مؤلفاً فيجد مادته من الكتب المطولة يؤلف منها ما يسميه المختصر أو الموجز أو نحو ذلك. وهذا كله سهل، بل بعضه أسهل من العبث إلا في الطب، وخصوصاً حين يكون الاختصار في فرع من فروعه التي اختص بها علماؤها كهذا الكتاب الذي نحن بصدده.

إن وضع كتاب مختصر في فرع من الفروع الطبية وخصوصاً باللغة العربية هو عمل من أشق الأعمال، وأدقها إذا أريد أن يكون الكتاب مع اختصاره وافياً في موضوعه، محققاً لفائدة الأصل المطوَّل، جامعاً لفوائد جديدة تعطي الكتاب حكم التأليف مع تسميته المختصر. وما دام الطب شرحاً للجسم المعجز في تركيبه وأعماله ودقائقه المحيرة للعقول؛ فالتأليف فيه لا ينتهي، واختصار المؤلفات فيه لا يكاد يوفق إليه إلا النوابغ المحيطون أوسع إحاطة، والمتمرنون تمريناً طويلاً، والمتتبعون لكل جديد.

ومن هؤلاء مؤلف كتاب (التشريح المرضي والجنائي) الدكتور محمد زكي شافعي، مدير المكتب الفني بمصلحة الصحة العمومية بمصر. وقد قال في مقدمة كتابه هذا: (لقد اشتغلت حوالي العشرين عاماً بالطب الشرعي، ولا أزال أعمل الآن مراجعة بعض الأعمال الخاصة به، وكثيراً ما استرعى نظري أن الحاجة ماسة أشد مساس إلى كتيب خاص بالتشريح المرضي والجنائي، يرجع إليه الطبيب الكشاف إذا أعوزه الأمر للإطلاع العاجل، فإنه كثيراً ما يجد نفسه في مأزق حرج، إذ يطلب إليه - وهو بعيد عن مراجعه - الفصل في مسائل فنية دقيقة الخطورة، يتوقف على الإجابة عليها مصير متهم قد يكون بريئاً.

ص: 71

ولقد كنت أشعر بهذه الحاجة في أثناء ممارستي التشريح، ولا سيما في الجهات التي أكون فيها بعيداً عن مراجعي، وكل الأطباء يدركون دقة هذا الموقف.

ولقد عرضت على زميلي (الدكتور لبيب شحاته) أن نعمل على سد هذا النقص، فوضعنا معاً هذا الكتاب، وتوخينا فيه أن يكون عملياً أكثر منه نظرياً، وجعلناه واضح العبارة، سهل المأخذ، حتى ينتفع به كل مشتغل بالطب الشرعي، وانتقينا أحدث المعلومات، وأرجحها قبولاً لدى جمهرة الأطباء الشرعيين ولذلك اضطرتنا الحال إلى الإطلاع على مراجع عديدة علاوة على المذكرات الشخصية).

ومع أن الكتاب كما يصفه حضرة مؤلفه فقد وقع في 490 صفحة، وبلغت المراجع التي اعتمد عليها واضعاه عشرين مرجعاً، يضاف إليها اختبار المؤلف وتحقيقه مدة عشرين سنة، وذلك فضلاً عن رجوعه في بعض مسائل كتابه إلى كثير من الأساتذة المختصين، بحيث جاء الكتاب عظيم الفائدة للمشتغل بالطب الشرعي، وللطبيب المشرح، ولمن يتصلون بالحوادث الجنائية من القضاة ورجال النيابة والمحامين فهؤلاء جميعاً يهتدون فيه إلى أدق المسائل الفنية بأيسر طريقة وأسرع وقت، ويصيب كل منهم غرضه الفني أو القضائي. وقلما يحتاج مع هذا الكتاب إلى الأصول المطولة إلا في التدريس، على أنه في التدريس ذو قيمة ثمينة إذا جعل للطالب كالتذكرة التي يدون فيها خلاصة علمه. هذا وإن ضم التشريح المرضي إلى التشريح الجنائي في كتاب واحد عمل فني بديع لم يُسبق إليه.

وأنا وقد درست هذا العلم على الفحول من رجاله في فرنسا، لا يسعني إلا أن أهنئ الدكتور محمد زكي شافعي، ومساعده الفاضل الدكتور لبيب شحاته بكتابهما وبما وفقا فيه، فهو توفيق يستحق التهنئة العلمية.

الدكتور محمد الرافعي

خريج جامعة ليدن بفرنسا

لباب الآداب لابن منقذ

تحقيق وتعليق الأستاذ أحمد محمد شاكر

للأستاذ محمد بك كرد علي

ص: 72

بنو منقذ أصحاب قلعة شيزر من عمل حماة في الشام كانوا معروفين على عهد الحروب الصليبية بالفروسية والسياسة والأدب والأمارة، وقد خلد أسامة بن منقذ (488 - 584 هـ) أحد رجال هذا البيت بأدبه ذكر آله في التاريخ. ولما طبع له العلامة درنبرغ كتاب (الاعتبار) في سنة 1884م بمدينة ليدن في هولاندة اشتهر أسامة بين الأدباء في الشرق والغرب، لما حوى كتابه من أخبار البطولة والشجاعة، ولأنه صُنّف على غير مثال. وقد طبع له درنبرغ أيضاً كتاب العصا وغيره في باريز، وعُني بجمع أخباره بالفرنسية وخدمه وأولع به.

والآن طبع الأديب لويس سركيس في القاهرة كتاب (لباب الآداب) لأسامة أيضاً، وتولى تحقيقه والتعليق عليه الأستاذ أحمد محمد شاكر، وحلاّه بفهارس الأعلام وأيام العرب والأماكن والقوافي، وشكله تقريباً بالشكل الكامل، فقرّب فوائده من يد المستفيد، وأضاف إلى ما طبع من كتب الأدب القديم سفراً آخر قال في وصفه إنه من أجود كتب الأدب، وإن فيه أقوالاً من نثر ونظم لم يجدها في كتاب غيره من الكتب المطبوعة.

قسم المؤلف كتابه إلى عدة أبواب فيها عظة وتعليم وأهداه لابنه الأمير مرْهِف، وجعل أبوابه في الوصايا والسياسة والكرم والشجاعة والآداب وكتمان السر والأمانة والتواضع وحسن الجوار والصمت وحفظ اللسان والقناعة والحياء والصبر والرياء والإصلاح بين الناس والتحذير من الظلم والإحسان وفعل الخير والصبر على الأذى ومداراة الناس وحفظ التجارب وغلبة العبادة والبلاغة. وهناك فصول من كلام رسول الله والصحابة وغيرهم، ومن كلام سليمان الحكيم وبرسين الحكيم وأفلاطون، ونوادر فيثاغورس وسيخانس، ومحاسن شعر الحكماء، وأبواب في المديح والتشبيه ومشي النساء والخفر والشيب والاعتذار والعتاب والمراثي والغزل والحكمة. يبدأ المؤلف كل فصل بآيات كريمة ويشفعها بما ورد من الأثر ثم الشعر ثم أقوال الحكماء في هذا المعنى.

وذكر المعلق على الكتاب أنه وقعت في طبعته هذه بعض أغلاط، مع كل ما عانى في تصحيحه، جاء بعضها سهواً منه، وبعضها من خطأ النظر، وبعضها من الأغلاط المطبعية التي لا يتنزه عنها كتاب. ونحن نقيم من كلامه هذا عذراً لكل من أحيا كتاباً للقدامى؛ وليس من الإنصاف أن يُحمل على كل من ارتكب خطأ من هذا القبيل بعد بذل الجهد، فقد تسرع

ص: 73

الناظر في هذا الكتاب وقال (ص 26) إن كتاب العصا هو كتاب القضاء لا العصا، وليس في جريدة مؤلفات أسامة كتاب في القضاء وإنما هو كتاب العصا المطبوع. وذكر (ص 22)(الأمير معين الدين أنَر وزير شهاب الدين محمود) وليس في التاريخ الإسلامي من اسمه أنر، وإنما هو اتسنر وهي كلمة تركية معناها لا لحم له، أو الرجل الضَرْب الخفيف اللحم غير الجسيم. واتسنر هذا هو مملوك جد مجير الدين أرتق بن محمود ابن بوري بن طغتكين، وكان عاقلاً ديناً محسناً لعسكره (راجع كتابنا (خطط الشام) م2 ص 21). ومن ذلك في صفحة 192 (تباة البلد) قال ولعلها جمع تاب بوزن غاز وغزاة من قولهم تبا إذا غزا وغنم وسبى. ونحن أميل أن تكون (تُنّاة البلد) أي سكانه من تنأ تنوءاً أقام، ويقولون (الطراء والتناء) أي النزلاء والمقيمون وهي الأولى بالمقام.

وتسرع أيضاً (ص 28) ونقل ظن بعض أهل العلم أن كتاب (الأدب والمروءة) الذي نشرناه في مجلة المقتبس، ثم ضممناه إلى الطبعة الثانية من (رسائل البلغاء) في سنة 1331هـ 1913 هو لصالح بن عبد القدوس لا لصالح بن جناح كما ذكر ناشره أستاذنا العلامة الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله؛ قال (ولعله - أي صالح ابن عبد القدوس - أخفى نفسه بهذا الاسم في بعض الأوقات خوف الطلب). والحقيقة أن كتاب الأدب والمروءة هو لصالح بن جناح ترجم له ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق، فقال إنه صالح بن جناح اللّخمي الشاعر أحد الحكماء؛ حكى عنه أبو عثمان الجاحظ أنه ممن أدرك الأتباع بلا شك، وكلامه مستفاد في الحكمة. وقد أخذ عنه الجاحظ في نيسابور وقال عنه دمشقي؛ ونشر ابن عساكر طائفة من شعره الجميل. وبذلك انتفى ظن بعض أهل العلم أن كتاب الأدب والمروءة هو لصالح بن عبد القدوس بل هو لرجل عربي دمشقي ينسب إلى لخم من أتباع التابعين ومن أساتيذ عالم الأمة الجاحظ.

ومثل هاته الهنات المعدودة لا تقدح في كتاب طويل وقع في خمسمائة صفحة، الله أعلم كم قاسى ناشره من المتاعب حتى استخرجه من خطوط قديمة سقيمة. وليس لنا بعد هذا إلا الشكر نقدمه للأستاذ شاكر على عنايته وتجويده.

محمد كرد علي

ص: 74

‌النقد

2 -

تاريخ الإسلام السياسي

تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن

بعض مآخذ تاريخية وجغرافية

لأستاذ كبير

أتيت في كلمتي السابقة على قليل من المآخذ التاريخية التي تورط فيها مؤلف (تاريخ الإسلام السياسي) وقد لحظ بعض الذين قرأوها أنه كان الأفضل ألا أورد هذه المآخذ مسرودة على نحو ما فعلت بل أن أوردها مقرونة بأسبابها الجوهرية. وأجيب عن هذه الملحوظة التي لها وجاهتها العامة بأن من المفيد في نقد كتب التاريخ أن ينصب النقد أولاً على الوقائع مجردة. فإن التاريخ من الناحية التحليلية البحتة يقوم على الوقائع التاريخية التي هي مادته الأولية. وبمقدار تزود المؤرخ من هذه المادة الأولية وتمكنه منها إحاطةً، وتقويماً، وفهماً، تكون متانة أحكامه التي يستنبطها وافتراضاته التي يذهب إليها، والعكس بالعكس. وإذاً فلا بأس أن أمضي في كلمتي هذه في إتمام ما أخذت فيه في كلمتي السابقة من الإتيان على أجسم ما في الكتاب من المآخذ التاريخية، مقفياً على أثر ذلك بإيراد شيء مما وقع فيه المؤلف من الأغلاط الجغرافية، والتاريخ والجغرافيا صنوان مؤتلفان، وهما ظرفا الزمان والمكان لما يسمى بوقائع التاريخ.

قال المؤلف في ص 340 في معرض الكلام على الوقعة البحرية العظيمة المعروفة في كتب العرب بذات الصواري: (وفي سنة 31هـ نشب القتال بين ابن أبي سرح وبين الروم تحت قيادة ملكهم قسطنطين في البحر الأبيض المتوسط، على مقربة من الإسكندرية، وكان النصر للعرب في هذه الحرب، وقد عرفت هذه الموقعة بموقعة السواري أو ذات السواري) والمؤلف يخطئ هنا من حيث زمان الوقعة ومكانها، فأما من حيث الزمان فالوقعة قد ذكر في المصادر العربية أنها كانت سنة 31هـ ولكن هناك رواية أخرى تجعلها في عام 34هـ، وقد ظهر من المصادر اليونانية أنها تؤيد الرواية الثانية، وإذاً يتعين الأخذ بها واطراح الأخرى. وأما من حيث مكان الوقعة فالمصادر اليونانية تعينه فتجعله قريباً من

ص: 75

ساحل آسيا الصغرى الجنوبي لا قريباً من إسكندرية مصر (أنظر تاريخ العصور الوسطى لكمبردج ج2 ص 353) والمؤلف لا شك يتابع في كلامه هنا السير ويليم ميور الذي يأخذ عن المؤرخ الإنجليزي جبون، وكلا هذين المؤرخين أصبح قديماً ولا يصح التعويل عليه بصفة مطلقة.

جاء في ص 370 عن وقعة الجمل المشهورة (ونشب القتال وعائشة راكبة في هودجها على جمل يسمى عسكرا واقتتل الناس حوله سبعة أيام حتى صار كالقنفذ من النشاب) والصحيح أن وقعة الجمل لم تدم أكثر من سحابة يوم واحد. فإن السبئية من أصحاب علي أجمعوا إنشاب القتال حتى لا يتم صلح بين الفريقين. وقد حملوا بالفعل ليلاً على جيش عائشة وما تعالى النهار حتى كان الفريقان قد اشتبكا في وقعة دامية ولم يكد النهار ينصرم حتى كان جمل عائشة قد عقر وأخذت عائشة وانتهت الوقعة. ولعمري إن جيشاً يرشق كله أو بعضه بالسهام جملاً ساعة واحدة لحري بأن يحيل الجمل كالقنفذ، ولا يقتضي الأمر سبعة أيام!

ومن الخطأ الجسيم ما وقع فيه المؤلف عندما أراد أن يبدي رأيه في خروج عائشة وطلحة والزبير على علي، فهو يقول في ص 372 (نرى أنه لا مبرر لعمل طلحة والزبير وعائشة ما دام للأمة إمام ينفذ الأحكام ويقيم الحدود ولاسيما وقد وعدهم علي ابن أبي طالب بالنظر في أمر عثمان والبحث عن قاتليه والقصاص منهم عندما تستقر الأمور. على أننا نرى من جهة أخرى أن مجرد قبول علي في جيشه أعوان ابن سبأ الذين قتلوا عثمان في الوقت الذي يطالب فيه بدمه كاف لأن تحوم الظنون حوله وتبرر اتهامه بالاشتراك في دمه) فالمؤلف ينظر هنا إلى كل من الفريقين من وجهة نظر الآخر، وقد خرج من الموضوع ولا رأي له على التحقيق. والوضع الصحيح للمسألة هو ألا مبرر مطلقاً لخروج عائشة وصاحبيها، وأما علي فلعل أصدق وصف له في الفتن التي اضطر إلى خوض غمارها أنه كان على إخلاصه مغلوباً على أمره.

ويقول المؤلف في هامش ص 450 تعليقاً على كلامه على ضرب الحجاج الكعبة بالمجانيق: (لم يرد عبد الملك بن مروان أن يحط من شأن الكعبة وإنما اضطر إلى قتال ابن الزبير فحدث ما حدث من غير قصد. وذلك أن الحجاج لما نصب المجانيق على الكعبة

ص: 76

جعل هدفه هذه الزيادة التي زادها ابن الزبير في الكعبة، إذ كان الأمويون يعتبرون ذلك بدعاً في الدين) وهذا تخيل عجيب للحال، فإن مجرد استحلال القتال في الحرم فضلاً عن رمي الكعبة بالمجانيق عمل ينطوي في نفسه على حط كثير من شأن الأمكنة المقدسة من غير نزاع. على أن الأمر كان أمر سياسة قبل كل شيء وبنو أمية كانوا إذا تعارضت المصلحة السياسية وأي اعتبار آخر رجحوا جانب المصلحة السياسية كائناً ما كان ذلك الاعتبار الآخر، وتاريخهم كله يشهد بذلك. وقد يكون من المضحك أن يقال إن الحجاج جعل الزيادة التي زادها ابن الزبير في الكعبة هدفاً لمجانيقه! أفما كان من الممكن الانتظار حتى تضع الحرب أوزارها ثم تنقض الكعبة وتبني على أسسها القديمة؟ ثم هل كانت هذه الزيادة متميزة عن سائر بنية الكعبة بحيث يمكن نقضها دون هدم الكعبة؟ كلا ثم كلا! لقد كان الهدف الحقيقي للمجانيق هو ابن الزبير نفسه، ولما جعل ابن الزبير الكعبة حائلاً بينه وبين المجانيق ضربت الكعبة.

ويقول المؤلف في ص 471 وقد استعرض أشهر فرق الخوارج في العصر الأموي: (وإن الناظر إلى مبادئهم ليجد أنهم اشتطوا جميعاً في الحكم على مخالفيهم حتى ساووا بينهم وبين الكفار عبدة الأوثان) وهذا الحكم على إطلاقه غير صحيح فهو إن صدق على بعض فرق الخوارج كالأزارقة لا يصدق على بعضها الآخر كالأباضية.

ومن الخطأ الجسيم الذي وقع فيه المؤلف متابعته مؤرخاً متوسط المكانة التاريخية هو السيد أمير علي الهندي في الكلام على نظام الإمارة على البلدان في العصر الأموي. يقول المؤلف نقلاً عن هذا المؤرخ: (إن هناك نقصاً قد تطرق إلى النظام الإداري في عهد بني أمية وجر إلى أسوأ العواقب فيما بعد. وذلك أنه كان يفرض على ولاة الأقاليم الإقامة في حواضر ولاياتهم. أما في عهد الأمويين فقد أصبحت ولاية الولايات تسند إلى بعض أفراد البيت المالك وإلى كبار رجال البلاط فكانوا يبقون في دمشق ويعينون من قبلهم رجالاً يقومون بحكم الولايات نيابة عنهم. وكان من أهم أغراض هؤلاء الإثراء على حساب بيت المال، وإرضاء هؤلاء الولاة بما كانوا يدرونه عليهم من الأموال) ونبادر إلى القول بأن هذا النقل غير دقيق فالسيد أمير يؤرخ النقص الذي تطرق إلى النظام الإداري من عهد يزيد بن عبد الملك بن مروان أي من عام 101هـ في حين أن كلام الناقل يجعل تطرق

ص: 77

النقص منسحباً على العصر الأموي كله.

ومع ذلك فكلام السيد أمير علي لا ينطبق على الواقع، فإنه إذا كانت الولاية على الأمصار قد أسندت في بعض الأحوال إلى أمراء من بني أمية كمسلمة ومروان بن محمد فإن ذلك إنما كان لما عرفوا به من الكفاية الممتازة لا لقرابتهم من الخلفاء. ثم إنه لم يكن لبني أمية بلاط بالمعنى الصحيح يولي كبار رجاله على الأمصار كما أن الأمراء لم يكونوا يقيمون بالعاصمة ويستنيبوا غيرهم على الأمصار، إنما كانوا يقيمون في حواضر الأقاليم نفسها. هكذا كان خالد القسري أمير العراق، ونصر بن سيار أمير خراسان وحنظلة بن صفوان أمير مصر. وإذا انتفت الاستنابة فلا نيابة ولا إثراء ولا رشوة. ولا شك أن السيد أمير علي كان يفكر وهو يكتب هذا الكلام في نظام الولاية على الأقاليم في العصر العباسي الثاني عندما غلب الأتراك على الدولة العباسية، وهو خلط لا مبرر له.

ويتكلم المؤلف (ص 576) على نظام (العدول) في معرض الكلام على نظام القضاء في عصر الخلفاء الراشدين وبني أمية فيقول (وقد دعت سنة التقدم والارتقاء إلى اتخاذ الشهود (المحلفين) حين فشت شهادة الزور، إذ جرت العادة أن تقبل شهادة من يتقدم لأدائها، سواء أكان ممن عرف بالخير أو بالشر. فقضى النظام الجديد بتعيين شهود عدول، عرفوا بحسن السمعة والفقه، فصاروا من هيئة المحكمة، يعمل برأيهم القاضي فيما له علاقة بالمتقاضيين.

وكان من اختصاصاتهم أيضاً الشهادة على ما يصدره القاضي من الأحكام وأنه غير مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية) لاشك أن المؤلف تناول هذا الموضوع لاعتقاده أن نظام العدول وجد في العصر الذي اتخذه موضوعاً لكتابه. وهو اعتقاد خطأ فأول ما سمع عن نظام العدول إنما كان زمن الرشيد أي في الدولة العباسية (أنظر كتاب تاريخ القضاء في الإسلام ص 132) ثم إن كلام المؤلف لا يجلو هذا النظام على حقيقته وفيه تخليط كثير (راجع الكتاب المذكور).

ويقول المؤلف في ص 627 وهو يتكلم على الجامع الأموي بدمشق: (وقد تأنق الوليد في بناء هذا المسجد حتى قيل أنه أنفق على عمارته خراج دولته سبع سنين وما ذلك إلا ليتقرب إلى الله بهذا العمل الديني الجليل). والمؤلف ينقل هنا عبارة المستشرق فون

ص: 78

كريمر، وفون كريمر يعتمد على ابن الفقيه. ووجه المبالغة غير المعقولة في تقدير نفقات الجامع ظاهر. وكان ينبغي العدول عن رواية ابن الفقيه والأخذ برواية أخرى متواترة قال بها الأصطخري وابن حوقل والمقدسي. ومؤداها أن النفقة استغرقت خراج الشام وحده سبع سنوات.

وبعد فلو أردنا استقصاء الأخلاط التاريخية الواردة في كتاب (تاريخ الإسلام السياسي) لطال الأمر. فنكتفي بهذا القدر. ونختم كلمتنا اليوم بإيراد أغلاط جغرافية جرى بها قلم المؤلف.

فبلدة (صحار) تكتب الصاد المهملة لا بالسين كما كتبت على خريطة جزيرة العرب الواردة في أول الكتاب، وبلدة عينتاب تكتب بالياء المثناة بعد العين (أنظر نفس الخريطة)، وإذا أريد تعيين وادي اوطاس فلا يقال إنه بين مكة والبصرة (ص 31) فالتعيين على هذا النحو وعدمه سواء. ولا يقال في تحديد ملك الغساسنة (إنه كان حول دمشق وتدمر. وكانوا يجولون في الجهات الجنوبية لدمشق وخاصة لبنان وفلسطين والبلقاء وحوران) فماذا بقي للروم من الشام (ص 56). ولا يقال أن الطبيعة وهبت نهر اليرموك أسراراً وألغازاً (ص 289)، وإلا فما تلك الألغاز والأسرار؟ ومن أقبح الخطأ أن يقال ص 335 (وقد أنشأ معاوية أسطولاً حارب البيزنطيين حتى وصل إلى عمورية في آسيا الصغرى كما استولى على جزيرتي قبرص ورودس) فعمورية لا تقع على البحر ولكنها في صميم آسيا الصغرى. كما أن هرقلة ليست واقعة على البحر الأسود ولكنها في شرقي آسيا الصغرى مما يلي منطقة الثغور الإسلامية. (الخريطة ص 274) ثم أن خريطة الأندلس ملأى بالخطأ والتحريف.

مؤرخ

ص: 79