المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 128 - بتاريخ: 16 - 12 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ١٢٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 128

- بتاريخ: 16 - 12 - 1935

ص: -1

‌بين الأمس واليوم

17 رمضان يوم الاتحاد والجهاد والنصر

كان الإسلام المهاجر من مكة الجاهلية لا يزال خافض الجناح في يثرب؛ وكان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لا يزالون تحت البلاء: يمتحن الله صبرهم بالألم، ويختبر إيمانهم بالفتنة، ليمحص الذين يجتبيهم لنشر الدعوة، ويَعْلم الذين يصطفيهم لجهاد الرسالة؛ فالقرشيون يُوَثّبون عليهم القبائل، واليهود ينصبون لهم الحبائل، والمنافقون يدسون لهم الغدر في الملَق. فلما أذن الله لدينه أن يعود ولمجده أن يسود ولنوره أن يتم، أرسل جنوده الثلثمائة إلى وادي بدر، يتعاقبون على سبعين نِضواً من أباعر المدينة، ويستعينون بصبر المجاهد على القلة، وبعزة المؤمن على الذلة، وبعفة الزاهد على الفاقة؛ ويسيرون في استغراق الصوفي المدَلَّه إلى ما وعدهم الله من إحدى الطائفتين: العِير أو النفير، وإحدى الحُسْنَيَيْن: النصر أو الشهادة؛ ولكن العير الذي يفهق بالثراء الضخم نجا به أبو سفيان على الساحل، فلم يبق إلا مكة الغاضبة لثروتها وسطوتها ودينها قد نزلت بالعُدْوة القصوى من الوادي مع أبي جهل! تسعمائة وخمسون من فلذات كبدها أرسلتهم في الخيل والحديد يجيشون على محمد بالغِل، ويفورون على صحبه بالحفيظة، ويرون الإسلام في هذا العدد القليل والمظهر الهزيل قد أمكنهم من نفسه، ودلهم على مصرعه

التقى الجمعان في صبيحة اليوم السابع عشر من شهر رمضان، وكان المسلمون على فقرهم وضرهم ثلث المشركين، وكان المشركون على كثرتهم وعُدَّتهم صفوة قريش، فموقف الإسلام من الشَّرك كان يومئذ موقف محنة. كان بين العُدْوتين في بدر مفرق الطرق، فإما أن يقود محمد زمام البشرية في سبيل الله فتنجو، وإما أن يردها أبو جهل إلى مجاهل التيه والضلال فتهلك. وقفت مدينة الإنسان بأديانها وعلومها وراء محمد على القليب، ووقفت همجية الحيوان بأصنامها وأوهامها وراء أبي جهل على الكثيب!! فكان طريق وعَقبة، ونور وظلمة، وإله وشيطان! فأما أن يتمزق تراث الإنسانية على هذا الصخر، ويتبدد نور الله في هذا القفر؛ وإما أن تتم المعجزة فتفيض الحياة على الناس من هذه البئر، ويتصل الماضي بالمستقبل من هذه الطريق، ويبدأ التاريخ عهده الجديد بهذه الموقعة!

ص: 1

(اللهم هذه قريش قد أتت بخُيلائها تحاول أن تكذب رسولك! اللهم فنصرك الذي وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبَدَ في الأرض!) ذلك كان دعاء الرسول أمام العريش ووجهه إلى القبلة، ويداه إلى السماء، ورداؤه من الذهول في الله يسقط عن منكبيه فيرده الصِّدِّيق ويقول: بعض هذا يا نبي الله فأن ربك منجز وعده! وما هي إلا خفقة من خفقات الوحي حتى نزل الوعد بالنصر، وجاءت البشرى بالجنة، فغاب المسلمون في إشراق عجيب من الإيمان، لا يرسم في أخيلتهم إلا الحُور، ولا يصور في عيونهم إلا الملائكة؛ وقذف الله في قلوب المشركين الرعب فانهار السد الغليظ أمام النبع النابض من صخور بدر، وانجاب القَتَم الكثيف عن النور الوامض من ربوع يثرب، وانكشفت المعجزة الإلهية عن انتصار ثلثمائة على قرابة ألف!!

موقعة بدرٍ الكبرى لا تذَكر بخطتها وعدتها ونفقتها وعديدها في تاريخ الحرب، فلعلها في كل ذلك لا تزيد على معركة بين حيين في المدينة؛ إنما تذكر بنتائجها وآثارها في تاريخ السلم، لأنها كانت حكما قاطعاً من أحكام القدَر غيَّر مجرى التاريخ، وعدَّل وجهة الدنيا، ومكَّن للعرب في دَوْرهم أن يبُلغوا رسالة الله، ويؤدوا أمانة الحضارة، ويصلوا ما انقطع من سلسة العلم

لم يكن النصر فيها ثمرة من ثمار السلاح والكثرة، ولكنه كان ثمرة من ثمار الإيمان والصدق؛ والإيمان الصادق قوة من الله فيها الملائكة والروح، وفيها الأمل والمثَل، وفيها الحب والإيثار، فلا تبالي العَدد ولا ترهب السلاح ولا تعرف الخطر!

بهذا الإيمان الصادق خلق الله من الضعف قوة في بدر والقادسية واليرموك؛ وبهذا الإيمان الصادق جعل الله من البادية الجديبة والعروبة الشتيتة عمرانا طبق الأرض بالخير، وملكا نظَّم الدنيا بالعدل، ودينا ألَّف القلوب بالرحمة

بهذا الشعور القدسي الذي يحس وينهض ويقود، وبهذا اليقين النفسي الذي يجاهد وينتصر ويسود، وقف الشباب المصري الباسل من دخلاء الجيش، موقف البدريين من كفار قريش، يشقون بهتافهم أذن الأصم، ويقرعون باحتجاجهم ضمير المصِرِّ، ويجدعون بثباتهم أنف المستكبر! لا ينكلون أمام الرصاص، ولا يرهبون وحشة السجن، ولا يجزعون عند الفاجعة. وعاطفة الوطنية كعقيدة الدين: فناء في الغيرية، واندماج الجمعية، وتوجيه الأمل

ص: 2

الطموح إلى المقصد الأعلى؛ وأجمل ما في وطنية الشباب المصري اليوم، هو أجمل ما كان في عقيدة الشباب العربي أمس: اتحاد قائم على الألفة، وتضامن مبني على الوحدة، ومزاج مركب من الشعور الدافق والإيمان الصادق والتفكير المنظم

إن اليوم السابع عشر من رمضان سيظل يوماً مشهوداً في تاريخ الأمة العربية بنزول القرآن وغلبة الحق، وفي تاريخ الأمة المصرية بنصرة الشباب ووحدة الأحزاب وعودة الدستور

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌4 - المجنون

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وضاق (نابغةُ القرن العشرين) بحُمق المجنون الآخر؛ ورآه داهية دَوَاهٍ كلما تعاقل أو تحاذق لم يأتِ له ذلك إلا بأن يكشفَ عن جنونه هو؛ فلا يبرَحُ يُجرَّعُه الغيظَ مرةً بعد مرة، ولا يزال كأنه يسُّبه في عقله؛ فأراد أن يحتالَ لصرفه عن المجلس، فدفع إليهالرسالة التي جاء بها (البريد المستعجل)، وقال له: خذ هذه فاذهب فألقِها في دار البريد، فسيجيء بها الساعي مرة أخرى، ثم تذهب الثانية فتلقها، ويعود هو فيجئ بها، وتكونُ أنت تذهب ويكون هو يجئ فنضحك منه ويضحكون. . . . .

قال س. ع: ولكن كم يذهب هذا وكم يجئ ذاك؟

فغمزه (النابغة) بعينه أن اسكت، فتغافل س. ع. وقال: كم تريد أن يجيء الساعي ليهتف بنابغة القرن العشرين؟

قال المجنون الآخر: هذا هو الرأي، فلست قائماً حتى أعرف كم مرةً أذهب، فان الساعي لا يجيء إلا راكباً، وأنا لا أذهب إلا راجلا، وإن لي رجلي إنسان لا رجلي دابة

قال (النابغة): سبحان الله! بقليل من الجنون يخرجُ من الإنسان مجنونٌ كامل مُسْتَلَبُ العقل. بَيْدَ أنه لا يأتي النابغةُ إلا من كثيرٍ وكثير، ومن النبوغ كله بجميع وسائله وأسبابه على تعدُّدها وتفرّقها وصعوبة اجتماعها لإنسان واحد (كنابغة القرن العشرين) فهو الذي توافتْ إليهكلُّ هذه الأسباب، وتوازنت فيه كل تلك الخلال. إنه ليس الشأنُ في العلم ولا في التعليم؛ ولكنما الشأنُ في الموهبة التي تبدع الابتكار كموهبة (نابغة القرن العشرين)؛ فيها تجئ أعماله منسجمةً دالة بنفسها على نفسها؛ ومتميزة مع كونها منسجمة دالة بنفسها على نفسها؛ ومتلائمة مع كونها متميزة دالة بنفسها على نفسها. . هذا س. ع. كان الأولَ بين خرّيجي مدرسة دار العلوم، مدرسة الأدب والعربية والمنطق والتحذلق وبلاغة اللسان وصحة النظر، وهو يعرف أن الكتاب يُلقي في البريد وعليه طابعٌ واحد، فيصل إلى غايته بهذا الطابع؛ ثم يرى بعيني رأسه أربعة طوابع على هذه الرسالة المعنونة باسم (نابغة القرن العشرين) فلا يدرك بعقله أن معنى ذلك أن من حق هذه الرسالة أن تصل إليَّ أنا أربع مرات. . . .

ص: 4

فطرب المجنون الآخر واهتزّ في مجلسه، وصفَّق بيديه، وقال:(مما حفظناه) هذا الحديث: يحاسِبُ الله الناس على قدر عقولهم؛ فلا تؤاخذ س. ع. فان مدرسة دار العلوم تعلمهم (فيها قولان)، وفيها ثلاثة أقوال، وفيها أربعة أوجه؛ ولكنها لا تعلمهم فيها أربعة طوابع. . . . . .

ثم التفت إلى س. ع. وقال له: لا عليك، فأنا صاحبُه وخَليطُه وحاملُ عِلمه وراويةُ أدبه وأكبر دُعاتِه وثقاته، وما علمتُ هذه الحكمة منه إلا في هذه الساعة

قال ا. ش: فإذا كان هذا، فان لقائلٍ أن يقول: لماذا لم يضع على كتابه عشرة من الطوابع فيجيء به الساعي عشر مرات

قال (النابغة): وهذا أيضاً. . .

وما شرُّ الثلاثةِ أُمَّ عمرٍو بصاحبك الذي لا تصحبين؛ إن الشمعة في يد العاقل تكون للضوء فقط، ولكنها في يد المجنون للضوء ولإحراق أصابعه. . . كم الساعة الآن؟

قلنا: هي التاسعة

قال: ومتى ينصرف أهل هذا الندىّ؟

قلنا: لتمام الثانية عشرة

قال: فإذا كان الساعي يتردد في كل ساعة مرة، فهي أربعُ مرات إلى أن ينفضَّ المجتمعون هنا، وبين ذلك ما يكون قد ذهب قومٌ عرفوا (نابغة القرن العشرين)، وجاء قوم غيرهم فيعرفونه، وأما بعد ذلك فلا يجد الساعي هنا أحداً فلا تكون فائدة من مجيئه

فصفَّق المجنون الآخر وقال: هذا وأبيك هو التهدّي إلى وجه الرأي وسداده، وهذا هو الكلامُ الرصينُ الذي يقوم على أصول الحساب والجغرافيا. . . (ومما حفظناه) هذا الحديث: لا مالَ أعودُ من العقل. فأربعة طوابع، لأربع مرات، في أربع ساعات، وما عدا ذلك فإسرافٌ وتبذير، ولا مال أعودُ من العقل. . .

ورضى (النابغة) عن صاحبه وقال له: لئن كانت فيك ضَعْفةٌ إن فيك لبقيةً تعقل بها. . . ثم أخذ منه الرسالة ودسَّها في ثوبه. قلنا: ولكن ألا تفضُّها لنعرف ما فيها؟

فضحك وقال: أئن جارَيتكم في باب المطايبَة والنادرة، وجاريتُ هذا الأبلهَ في باب جنونه وحمقه - تحسبون أن الأمر على ذلك، وأن الرسالة فارغةٌ إلا من عنوانها، وأن نابغة

ص: 5

القرن العشرين هو أرسلها إلى نابغة القرن العشرين كما قال سعد باشا: (جورج الخامس يفاوض جورج الخامس). . .؟ لحقٌ واللهِ أن العقل الكبير الذي يأبى الصغائر هو الذي تأتي منه الصغائر أحياناً لتثبت أنه عقل كبير، وهكذا تسخر الحقيقة من كبار العقول (كنابغة القرن العشرين)

فغضب المجنون الآخر وهمَّ أن يتكلم. فقال له (النابغة): أنت كاذبٌ فيما ستقوله

قلنا: ولكنه لم يقل شيئاً بعد، فكما يجوز أن يكون كاذباً يجوز أن يكون صادقاً

قال: وسيخطئ في رأيه الذي يبديه

قلنا: ولم يبد شيئاً من رأيه

قال: ولا يعرف الحقيقة التي سيتكلم عنها

قلنا: ويحك أدخلت في عقل الرجل أم تعلم الغيب؟

قال: لا هذا ولا ذاك ولكنه قياسٌ منطقيٌّ يتَوهَّم اطرادُه. إنه سيقول إني مجنون. . . فأخرج الآخر لسانه. . . قال (النابغة): تباً لك لقد رأيتُ الكلمةَ في لسانك كأنها مكتوبة بحروف المطبعة. ويحك يا مَرْقعان ألا تعرف أن لك دماغاً مخروقاً تسقط منه أفكارك قبل أن تتكلم بها، ولولا أنه مخروقٌ لحفظت المتن! إن كل تخطئةٍ لي منك بصواب

فنظر إليهالآخر نظرةً كان تفسيرها في حواجبه إذ مطَّ حواجبه ورقَّصها. فقال (النابغة): ونظراُته خبيثةٌ، مِلْحةُ الطعم، مزعوقةٌ كماء البحر المرَّ، أُخذ من البحر وأُضيف إلى ملحه الطبيعي ملح. أكادُ أتهوَّعُ من هذه النظرة فأقئ

الآن فهمتُ معنى قولهم: (ملحةٌ في عين الحسود) فان الملح لا يغلبه إلا الملح، كالحديد بالحديدُ يفْلجْ. هاتوا كأساً من معتقة الخمر لينظرْ فيها الخبيث هذه النظرةَ فان الخمر لابد مستحيلةٌ شربة ملح إنجليزي. . . هذا الأبله ثقيل الدم كأن دمه مأخوذ من مستنقع. . . أهذا الذي لا يستطيع أن يقول لشيء في الدنيا: هو لي، إلا الفقر والجنون والخرافة - يكذّب ما في الرسالة التي جاء بها البريد المستعجل ولا يصدق أنها مرسلة إلى نابغة القرن العشرين من صاحب السمو الأمير؟

هذا الذاهب العقل هو كالجبان المنقطع في وحشة القفر في ظلام الليل، إذا توجَّس حركةً ضعيفة انقلبت في وهمه قصةَ جريمةٍ ملؤها الرعب وفيها القتل والذبح. ولهذا يخشى ما في

ص: 6

الرسالة التي جاءت من صديقي صاحب السمو. هاؤم اقرءوا الرسالة

وفضضنا الغلاف فإذا ورقتان ممهورتان بتوقيع أمير معروف أحدهما صِكً بألف جنيه تُدفع (لنابغة القرن العشرين)، والثانية أمرٌ بالقبض على المجنون الآخر. . . وإرساله إلى المارستان

وذهبتُ أصْلح بينهما فقلت: إن في الحديث الشريف: بينما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ مرّ به رجل، فقال بعض القوم هذا مجنون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مصاب، إنما المجنونُ المقيم على معصية الله

فقال صاحب المتن: (مما حفظناه): إنما المجنون المقيم على معصية الله

قلت: وليس فيكما مقيم على معصية الله. . . .

قال المجنون: (مما حفظناه) وليس فيكما مقيم على معصية الله

قلت: هذا ليس من الحديث ولكنه من كلامي. قال (النابغة) أنبأتكم أن هذا البله يضلّ في داره كما يضلّ الإعرابي في الصحراء؛ وأن الأسطول الإنجليزي لو استقرّ في ساقية يدور فيها ثور، لكان أقرب إلى التصديق من استقرار العقل في رأس هذا الأبله؟

فاحتدَمَ الآخر وهمّ أن يقول (مما حفظناه) ولكني أسكتّه وقلت (للنابغة): إنك دائماً في ذِروة العالم فلا غَرَو أن ترى المحيطَ الأعظم ساقية. والنوابغ هم في أنفسهم نوابغ، ولكنهم في رأي الناس مرْضىَ بمرض الصمود الخياليّ إلى ذروة العالم. ومن هذا يكون المجانين هم المرضى بمرض النزول الحقيقي إلى حضيض الآدمية. فهناك يعملون فتكون أفكارهم من أعمالهم، ثم تكون عقولهم من أفكارهم، فيكون هذا الجنون في عقولهم. وذلك معنى الحديث: إنما المجنون المقيم على معصية الله

قال (النابغة): لَعَمري إن هذا هو الحق. فنبوغُ العقل مرضٌ من أمراض السموّ فيه؛ فالشاعر العظيم مجنون بالكون الذي يتخيّله في فكره، والعاشق مجنون بكون آخر له عينان مكحولتان؛ والفيلسوفُ مجنون بالكون الذي يدأب في معرفته؛ ونابغة القرن العشرين مجنون. . . لا. لا. قد نسينا ا. ش فهو مجنون وس. ع فهو مجنون

وكلُّ الناس مجنونٌ بليلى

وليلى لا تُقرُّ لهم بذاكا

ومن حقّ ليلى ألا تقر لهم إذ هي لا تقر إلا لنابغة القرن العشرين وحده. وما أعجبَ سحرَ

ص: 7

المرأة في الكون النفسانيِّ للرجال؛ أما في الكون الحقيقي فهي أنثى كأناث البهائم ليس غير. وأعقلُ الرجال من كان كالحمار أو الثور أو غيرهما من ذكور البهائم. فالحمار لا يعرف الحمارة إلا إنها حمارة، والثور لا يعرف البقرة إلا إنها بقرة؛ ولا ينظمون شعراً ولا يكتبون (أوراق الورد). . . . . وإناث البهائم أُمَّاتٌ لا غير، ولكن العجيب أن ذكورتها ليست آباءً؛ فهذه الذكورة طفيليةٌ في الدنيا، والطفيليُّ لا يأكل إلا بحيلة يحتال بها فيكون صاحب نوادر وأضاحيك وأكاذيب. ولهذا كان عشق الرجال للنساء ضُروبا من الخداع والأكاذيب والأضاحيك والحيل والغفلة والبلاهة. وإذا نظرنا إليه من أوله فهو عشق، أما آخره فهو آخر الحيلة والأكذوبة، وهو قول الطفيلي قد شبعتُ وقد رويت. . . ويحكم أين أولُ الكلام؟

قلنا: أوله ما أعجب سحر المرأة في الكون النفساني للرجال

قال: نعم هذا هو. إنه سحر لا أعجب منه في هذا الكون النفساني إلا سحر الذهب. فلوُ مسِخت المرأةُ الجميلة شيئاً من الأشياء لكانت سبيكةً ذهبيةً تلمع. ولهذا يُوجدُ الذهبُ اللصوص في الدنيا، وتوجد المرأةُ الجميلة لصوصا آخرين، فيجب أن يصان الذهب وأن تصان المرأة

قلت: ولكن أليس من المال فضة وهي توجد اللصوص كالذهب؟

قال: نعم، وفي النساء كذلك فضة وفيهن النحاس. ولو أنت ألقيت ريالاً في الطريق لأحدثتَ معركة يختصم فيها رجلان ثم لا يذهب بالريال إلا الأقوى. ولو تركت قرشاً لتضارب عليه طفلان ثم لا يفوز به إلا من عض الآخر. . .

ولكن (فورد) الغني الأمريكي العظيم الذي يجمع يَده على أربعمائة مليون جنيه لا يتكلم عن القرش؛ (ونابغة القرن العشرين) الذي يملك (ليلى) لا يتكلم عن غيرها من قروش النساء

قلت: فإني أحسبك أعلمتني أن اسمها فاطمة لا ليلى

قال: هل يستقيم الشعر إذا قلت: وكل الناس مجنون بفاطمة وفاطم لا تقرُّ لهم؟ قلت لا.

قال: إذن فهي (ليلى) ليستقيم الشعر. . . أما حين أقول: أفاطمُ مهلاً بعد هذا التدلّل، فهي فاطمة ليصح الوزن

قلت: يُشبه والله ألا يكون اسمها ليلى ولا فاطمة؛ وإنما هي تسمى حسب الوزن والبحر،

ص: 8

فاسمها فَعُولنْ أو مُفَاعَلتنْ

ثم قلنا له: فما رأيك في الحب، فانه ليقال: إنك أعشقُ الناس وأغزل الناس؟

قال: إن ذلك ليقال (وهو الأصح). ثم أطرق يفكر. وبدا عليه أنه مندهش ذاهب العقل كأنه من قلبه على مسافة أبعد من المسافة التي بينه وبين عقله. وخّيل إلي أن النساء قد حُشِرن جميعاً في رأسه ومرت كل واحدة تعرض مفاتِنها وغَزلَها وتلائم هَذيَانه بهذيان من جمالها، فهو يرى ويسمع ويَعْرض ويَتخيّرْ. ثم اضطرب كالذي يحاول أن يسمك بشيء أفلت منه؛ فلم ينّبهه إلا قول المجنون الآخر:(مما حفظناه) أن أعرابية سئلت عن العشق فقالت: إنه داء وجنون. . .

قال: اسكت يا ويلك لقد أطفأت الأنوار بكلمتك المجنونة. كان في رأسي مرقص عظيم تسطع الأنوار فيه بين الأحمر والأخضر والأبيض؛ وترقص فيه الجميلات من الطويلة والقصيرة والممشوقة والبادنة، فجئتَ بالداء والجنون قبحك الله فأخرجتني عنهن إليك. أحسبُ أنِك لو انتحرت لصلح العالم أو صلحتُ أنا على الأقل، فإذا أردت أن تشنق نفسك فأنا آتيك بالحبل الذي كنتُ مقيدا فيه أي الحبل الذي عندي في الدار. . على أن رأسك الفارغ مشنوقٌ فيك وأنت لا تدري.

قال الآخر: ما أنت مُنذُ اليوم إلا في شنقي وتعذيبي أو في شنق عقلي على الأصح. (ومما حفظناه) قول الأحنف بن قيس: إني لأجالس الأحمق ساعةً فأتَبينُ ذلك في عقلي. .

فلم يَرُعْبنا إلا قيامُ المجنون مسلَّحاً بحذائه في يده. . . وهو حذاء عتيق غليظ يقتل بضربة واحدة؛ فحلنا بينهما وأثبتناه في مكانه. وقلنا: هذا رجل قد غُلِب على عقله فلا يدري ما يقول؟ فإذا هو دل على أنه مجنون، أفلا تدل أنت على أنك عاقل؟ ما سألناك في انتحاره وجنونه، بل سألناك رأيك في الحب؛ وما نشك أنك قد أطلتَ التفكير ليكون الجواب دقيقاً، فانك (نابغة القرن العشرين)، فانظر أن يكون الجوابُ كذلك

قال: نعم إن العاقل إذا ورد عليه السؤال أطال الفكر في الجواب. فأكتب يا فلان (س. ع):

(جلس نابغة القرن العشرين مجلس الإملاء مُرتجلاً فقال: قصةُ الحب هي قصة آدم، خلق الله المرأة من ضلعه. فأول علامات الحب أن يشعر الرجل بالألم كأن المرأة التي أحبها كسرت له ضلعاً. . وكل قديم في الحب هو قديم بمعنى غير معقول، وكل جديد فيه جديد

ص: 9

بمعنى غير مفهوم؛ فغيرُ المعقول وغيرُ المفهوم هو الحب

والجمرةُ الحمراءُ إذا قيل إنها انطفأت وبقيت جمرة فذلك أقرب إلى الصدق من بقاء الحب حياً بمعناه الأول إذا انطفأ أو بَرَدَ

والعاشق مجنون. وجنونه مجنون أيضاً، فهو كالذي يرى الجمرةَ منطفئةً ويرى مع ذلك أنها لا تزال حمراء، ثم يُمْعِنُ في خياله فيراها وردة من الورد. . وإذا سألته أن يصف الجمالَ الذي يهواه كان في ذلك أيضاً مجنونَ الجنون كالذي يرى قمر السماء أنه قد تَفَتَّت وتناثر ووقع في الروضة فكان نِثارُه هو الياسمينَ الأبيض الجميل الذكي. . .

والمجنون يرى الدنيا بجنونه والعاقل يراها بعقله؛ ولكن العاشق المخبول لا ينظر من يهواه إلا ببقية من هذا وبقيةٍ من ذلك فلا يخلُصُ مع حبيبته إلى جنون ولا عقل

(والمجهول) إذا أراد أن يظهر في دماغ بشريّ لم يسمعه إلا أحدُ رأسين: رأسِ المجنون ورأسِ العاشق

ولا صعوبة في الحكم على شيء بأنه خير أو شر إلا حين يكون الخير والشر امرأة معشوقة. أما أوصاف الشعراء والكتاب للجمال والحب فهي كلها تقليد قد توسعوا فيه؛ والأصل أن ثوراً أحب بقرة فكان يقول لها: يا نجمة القطب التي نزلت من السماء لتدور في الساقية كما دارت في الفلك. . .

قال (النابغة): هذا رأيي في حب العاشقين، أما حبي أنا (نابغة القرن العشرين) فيجمعه قولك: فلّ، ورد، زهر. . .

قلنا ما هذه الألغاز، وهل للحب مَنْن كقولهم: حروفُ القَلْقَلة يجمعها قولك (قُطْبُ جَدٍ)، وحروف الزيادة يجمعها قولك (سألتمونيها)؟

فتضاحك (النابغة) وقال: تكاثرت الظباءُ على خَراش، فلكيلا ننسى. . . إن كل حرف هو بدءُ اسم، الفاء فاطمة، واللام ليلى، والواو وردة، والراء رباب، والدال دلال، والزاي زكية، والهاء هند، والراء رباب

قلنا: رباب قد مضت في (ورد). قال: كنا تهاجَرْنا مدةً ثم اصطلحنا بعد هند. .

قلت: هكذا النوابغ فان رجلا أدبياً كانت كنيته (أبا العباس) فلما (نبغ) صيّرها (أبا الِعبر) وفَتَق له نبوغه أن يجعلها تاريخاً يعرف منها عمره. قالوا فكان يزيد فيها كل سنة حرفاً

ص: 10

حتى مات وهي هكذا:

أبو العبر طَرَدْ طيل طَليرِي بَك بَك بَك

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 11

‌حوادث الشرق الأقصى

مشروع اليابان في الاستيلاء على الصين

بقلم باحث دبلوماسي كبير

بينما تشتغل أوربا والعالم بأسره بتطورات المشكلة الإيطالية الحبشية وما يترتب على تفاقمها من أخطار داهمه على سلام أوربا وسلام العالم، إذا بالشرق الأقصى يجيش بحوادث خطيرة قد يكون لها أكبر الأثر في مصير الصين والشرق الأقصى كله، ولكن يحجب عنا خطورتها، نأيهاً وغموضها وانحصارها في ذلك الركن من العالم؛ وهي ليست في جوهرها جديدة أو مستقلة، ولكنها حلقة جديدة في ثبت الحوادث التي يضطرم بها الشرق الأقصى منذ أربعة أعوام، والتي تضرمها وتذكيها السياسة اليابانية كلما آنست فرصة صالحة للعمل

وليس من الصعب أن نتلمس في حوادث الصين الجديدة رغم غموضها، وجه الصلة بينها وبين الحوادث المماثلة التي تقع في الصين بين آونة وأخرى، فالسياسة اليابانية هي التي تنظمها وتوجهها بأساليب متماثلة، وتتذرع لاضرامها بنفس المعاذير: اعتداء على المصالح اليابانية في ناحية من النواحي، أو مقتل أحد الرعايا اليابانيين، أو اضطراب الأمن وعيث العصابات، أو دسائس الشيوعية؛ كذلك ليس من الصعب أن نتحرى العوامل والبواعث الدفينة التي تحمل هذا الغزو الياباني المنظم إلى داخل الصين بين آونة وأخرى تارة بالقوة العنيفة، وتارة بالوسائل السياسية، فاليابان تكاد تفصح عن نياتها ومقاصدها الاستعمارية البعيدة في كل مناسبة، وإن كانت ما تزال تستتر وراء بعض المظاهر والعبارات الخلابة التي يمهر الاستعمار في صوغها

وقد بدأت اليابان منذ بضعة أسابيع في القيام بمحاولة جديدة لبسط نفوذها على مناطق جديدة من الصين؛ ومهد قادة الجيش الياباني في شمال الصين لذلك بمؤتمر عقدوه في دايرين ثغر منشوريا الجنوبي، ووجهوا على أثره بلاغاً نهائياً إلى الحكومة الصينية الوطنية (حكومة نانكين) ضمنوه المطالب الآتية:

1.

قمع الدعوة الشيوعية في الصين، وهي دعوة مهدها ومصدرها منغوليا

2.

قمع أعمال (الكومن تانج)(الحزب الوطني الصيني) وأعمال الجمعية الوطنية الصينية

ص: 12

المسماة بجمعية (ذوي الأقمصة الزرقاء) في شمال الصين

3.

تعهد الحكومة الصينية بأن تتبع منذ الآن سياسة ودية نحو اليابان

وبينما كانت حكومة نانكين تدرس ذلك البلاغ، إذ وقعت عدة حوادث في منطقة الحياد الشمالية في شمال بكين اقتضت تدخل السلطات اليابانية، وقامت ثورات محلية صغيرة في عدة مناطق طولب خلالها بتخفيض الضرائب والاستقلال عن حكومة نانكين؛ ولم يكن أصبع العسكرية اليابانية بعيداً عن هذه الحوادث

ولم تلبث السياسة اليابانية أن أفصحت عن غرضها الحقيقي من القيام بهذه الحركة؛ فقد أبلغت السلطات المحلية في ولايات الصين الشمالية، وأبلغت حكومة نانكين بوجوب إنشاء حكومة إدارية مستقلة في ولايات خمس هي: هوبي، وتشاهار، وشانصي، وسويان، وشانتونج، وتكون عاصمتها بكين، العاصمة الإمبراطورية السابقة؛ وقصد اليابان منذ ذلك أن تقيم دولة متوسطة بين أملاكها الصينية في الشمال أعني منشوكيو وجيهول، وبين وادي النهر الأصفر حيث يبدأ نفوذ حكومة نانكين الحقيقي

وقد أفرغت اليابان مطلبها في صيغة بلاغ نهائي، وأنذرت الحكومة الوطنية الصينية بأنها ستتخذ الإجراءات العسكرية اللازمة إذا لم تحقق رغبتها؛ ولكن حكومة نانكين لم تذعن لهذا الوعيد، وكذلك لم يذعن زعماء الشمال، ولم تنفذ اليابان وعيدها في الحال، ولكنها آثرت أن تعمد مؤقتاً إلى العمل السياسي؛

وفي الأنباء الأخيرة أن الضغط الياباني قد أحدث أثره الأول وذلك بحمل حكومة نانكين على الموافقة على إنشاء إدارة مستقلة في مقاطعتي تشاهار وهوبي يكون مركزها في بكين، ويتولى إدارتها مجلس مؤلف من زعماء الشمال، ويكون لها طابع الاستقلال التام في شئونها الداخلية وعلائقها الخارجية، ما عدا الجمارك والبريد فتحتفظ حكومة نانكين بإيرادها؛ ومعنى ذلك أن اليابان قد فازت بتحقيق الخطوة الأولى في مشروعها لفصل الشمال عن الجنوب ووضعه تحت نفوذها السياسي والاقتصادي

ونظرة بسيطة إلى خريطة الصين توضح لنا فداحة هذا المشروع الياباني، فالولايات الخمس التي يراد فصلها عن الحكومة الوطنية من أهم وأغنى الأقاليم الصينية؛ وفصلها على هذا النحو يشطر الصين إلى شطرين، ويمهد إلى بسط النفوذ الياباني على الأقاليم

ص: 13

الشمالية حتى النهر الأصفر (الينج تسي)؛ وتتظاهر السياسة اليابانية بأنها في هذه المحاولة إنما تعبر عن رغبات سكان هذه الأقاليم، والواقع أنها تعتمد في ذلك على مؤازرة الجنرال (شنج تشي يوان) زعيم الشمال وخصم الحكومة الوطنية، وتعتمد من جهة أخرى على محالفة حكومة (كوانتونج) الجنوبية (حكومة كنتون) وهي أيضاً خصيمة الحكومة الوطنية؛ فالحكومة الوطنية أو حكومة نانكين تجد نفسها بين نارين في هذا الصراع الذي يوشك أن يقوض دعائمها

ويجب أن نذكر إلى جانب أن اليابان قد استولت قبل ذلك بأربعة أعوام على إقليم منشوريا الغني، ولم تعبأ بتدخل عصبة الأمم وقراراتها النظرية؛ وأنشأت فيه جمهورية صورية تحت الحماية اليابانية (منشوكيو)؛ ولبثت بعد ذلك تتحين الفرص للزحف جنوباً متذرعة بمختلف الحجج والأعذار حتى اقتحمت قواتها (السور الكبير) واستولت على قسم كبير من إقليم جيهول، وبسطت نفوذها على جميع الأراضي الواقعة شمال بكين؛ وليست الحركة الانفصالية الجديدة التي تدبرها السياسة اليابانية إلا حركة غزو جديدة، تستأنف بها اليابان نشاطها في سبيل تنفيذ مشروعها الاستعماري الضخم الذي تتحين الفرص لتحقيقه كلما شغلت الدول الغربية بأزماتها الخطيرة

والظاهر أن السياسة اليابانية كانت تعبر عن نيتها ومشاريعها المستقبلية تعبيراً صادقاً حينما ألقت إنذارها الشهير منذ نحو عام ونصف إلى أوربا وأمريكا وهو: (ارفعوا أيديكم عن الصين) أو بعبارة أخرى حينما صرحت بأنها تجري في سياستها الصينية على مبدأ (آسيا للأسيويين) مثلما تجري أمريكا في سياستها على مبدأ (مونرو) الشهير أو على مبدأ (أمريكا للأمريكيين)، وقد كانت اليابان ترقب دائماً مشاريع الدول الغربية وتوغل نفوذها في الصين بمنتهى الاهتمام والتوجس؛ وتعمل على مقاومة نفوذها وامتيازها بالوسائل الاقتصادية والعسكرية ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، ولكنها جرت في الأعوام الأخيرة على سياسة عملية يؤيدها التدخل العسكري، وكان استيلاؤها على منشوريا تحت سمع أوربا وأمريكا ورغم تدخل عصبة الأمم تجربة عملية ناجحة عجمت بها عود الدول الكبرى ذات المصالح في الصين مثل بريطانيا العظمى وروسيا وفرنسا وأمريكا، واستطاعت أن تقف على مدى المقاومة التي يمكن أن تتذرع بها الدول لمعارضتها؛ بيد أن الدول عدا روسيا لم

ص: 14

تبد معارضة نظرية، ومع أن روسيا وأمريكا قدمتا على غزو اليابان للأراضي الصينية احتجاجات شديدة، فان اليابان لم تحفل بأي احتجاج أو معارضة؛ ولما توسعت اليابان في مشروعها وغزت ثغر شنغهاي لترغم الصين على الاعتراف بالحالة الواقعة في منشوريا، احتجت الدول الغربية بنصوص معاهدة الدول التسع (معاهدة سنة 1922) التي تنص على احترام سيادة الصين ووحدتها الإقليمية والإدارية، ولكن اليابان لم تنسحب من شنغهاي إلا أمام المقاومة العنيفة التي استطاعت أن تنظمها حكومة نانكين

والآن تمضي اليابان في تنفيذ مشروعها لاحتلال الصين واستعمارها مرحلة أخرى. وهي تعمل في ظروف صالحة جداً؛ فالدول الغربية وأمريكا مشغولة بالأزمة الدولية الخطيرة التي أثارتها المشكلة الحبشية، والصين في حال من التفرق والتمزق لا تمكنها من أية مقاومة عملية، فحكومة الجنوب أو حكومة كوانتونج (وعاصمتها كنتون) تخاصم الحكومة الوطنية وتناوئها، والحكومة الوطنية (حكومة نانكين) لا تكاد يتعدى سلطانها الأقاليم الوسطى. أما الأقاليم الشمالية وهي مسرح النشاط الياباني، فتكاد تخرج جميعاً عن قبضتها ولا تكاد تتمتع فيها بأية سلطة أو نفوذ يذكر؛ والسلطة فيها موزعة بين جماعة من القادة العسكريين المحليين، أهمهم وأقواهم الجنرال (شنج تشي يوان) زعيم الشمال وهو من أنصار سياسة التفاهم مع اليابان. ويجب أن نذكر أن اليابان تعمل الآن مطمئنة من جانب روسيا التي اضطرت إزاء تطور الحوادث وتفاقمها في أوربا أن تترك ميدان الصراع مع اليابان في الشرق الأقصى، وأن تنسحب نهائياً من منشوريا بعد أن باعت لليابان نصيبها في السكة الحديدية الشرقية؛ وبذلك خفت عوامل الاحتكاك القديمة بين اليابان وروسيا، وهي عوامل كانت تحسب اليابان حسابها كلما أقدمت على عمل جديد في هذا الميدان

أما الدول الغربية فليس من المنتظر أن تقوم في الظرف الحاضر بعمل ذي شأن، وخصوصاً بعد ما تصدعت جبهتها المشتركة، وأضحت كل تعمل بمفردها؛ بيد أن الصين تحاول من جانبها أن تحمل الدول الغربية على التحرك، وذلك بإثارة التمسك بمعاهدة الدول التسع لدى الدول الموقعة عليها، وهي الولايات المتحدة (أمريكا) وبريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا والبرتغال والصين واليابان ذاتها؛ وتنص هذه المعاهدة على احترام سيادة الصين واستقلالها ووحدتها الإدارية والإقليمية، وعلى معاونتها على النهوض

ص: 15

والتقدم بكل الوسائل، واستعمال الدول الموقعة لنفوذها في تأييد مبدأ الفرص المتساوية في النشاط التجاري والصناعي في الصين لجميع الأمم، وعلى عدم انتهاز ظروف الصين للحصول على امتيازات خاصة؛ فهذه المعاهدة هي التي تثير الصين وتثير الدول نصوصها اليوم احتجاجاً على عمل اليابان في شمال الصين، بيد أنه من المشكوك فيه أن يسفر هذا الاحتجاج النظري عن أية نتيجة عملية؛ فاليابان تمضي دائماً في طريقها غير حافلة بالنصوص التي تعرقل مشاريعها

على أن هناك عاملاً يحسب حسابه؛ فان اليابان إذا استمرت في سياسة التوغل في الصين على هذا النحو، فنها تقترب شيئاً فشيئاً من حدود الهند البريطانية، وحدود الهند الصينية الفرنسية؛ وبريطانيا العظمى لا تستطيع السكوت طويلاً على هذه الحركة التي قد تفضي إلى تهديد سيادتها في الهند؛ كذلك تشعر فرنسا بالخوف على مستقبل الهند الصينية، إذا ما اقتربت اليابان من جنوب الصين. والواقع أن بريطانيا رغم انشغالها بالمشكلة الحبشية واحتمالاتها المزعجة، لم تفتر عن العمل لمقاومة التوغل الياباني في الصين، والصراع يضطرم دائماً بين الدولتين وإن كان ما يزال يقتصر على الوسائل المستترة؛ وآخر محاولة بريطانية لمقاومة النفوذ الياباني، هي اتفاق بريطانيا مع حكومة نانكين على القيام بتنظيم المالية الصينية على يد خبير بريطاني، وعقد قرض للصين في إنكلترا، وهي محاولة تفطن لها اليابان وتعمل لمعارضتها؛ وإذا كانت الدلائل تدل على أن أمريكا قد أخذت تبتعد شيئاً فشيئاً عن التمسك بسيادة المحيط الهادي وعن التعرض لسياسة التوسع الياباني في الصين، فأنها من جهة أخرى تدل على أن بريطانيا العظمى ما زالت تعتبر قيام التوازن الدولي في الصين أمراً حيوياً لسلامة الهند وباقي أملاكها في الشرق الأقصى؛ ولم يكن إنشاء إنكلترا لقاعدة سنغافورة البحرية الهائلة بعيداً عن التحوط للزحف الياباني نحو الجنوب

وليس بعيداً أن يكون تقدم التوسع الياباني في الشرق الأقصى على هذا النحو المزعج عاملاً جوهرياً في التقرب بين إنكلترا وروسيا، واتحادهما معا على مقاومة هذا الخطر الياباني الذي تشعر كلتاهما باشتداد وطأته؛ فإذا تم ذلك، فانه يسجل انقلاباً خطيراً في السياسة الدولية، قد يكون له أبعد الأثر في تطور الحوادث في الشرق الأقصى

ص: 16

‌المرأة كما يراها شوبنهور

للأستاذ زكي نجيب محمود

إن المرأة بحكم تكوينها لا تستطيع أن تضطلع بجليل الأعمال - الجسمي منها والعقلي على السواء، وإن رسالتها في الحياة لتنحصر في الانسال وتعهد الأطفال، مع وجوب طاعتها للرجل وخضوعها له؛ فقد شاءت لها الطبيعة أن تسلك في حياتها سبيلا هادئاً مطمئناً وادعاً، لا تصادف فيه ما يصادف الرجل في حياته من التطرف في اللذة والألم كليهما - وإذا كانت الحياة قد ركنت إلى المرأة في أداء هذه الرسالة الكبرى، وأرادت بها أن تكون أداة لتربية النشء في مدرج الطفولة الباكرة، فقد أعدتها إعدادا عقلياً يلائم الغرض من وجودها، فجاءت ضعيفة العقل قصيرة النظر، حتى لكأنها طفل كبير، لكي يتم بينها وبين أطفالها شيء من التناسق والانسجام، أو إن شئت فقل إنها مرحلة عقلية متوسطة بين الطفولة والرجولة، فالرجل هو الكائن البشري الحق الذي قصدت إليهالحياة

عرفت الطبيعة في المرأة ضعفها فوهبتها الجمال تغزو به أفئدة الرجال لينهض هؤلاء بعبئها عن رضى وطواعية، ولكن الطبيعة في عطائها كانت كعهدنا بها مقترة مغلولة اليد، فلم تهب المرأة من الجمال إلا بمقدار ما تستطيع أن تتخذ منه أداة لحفز الرجل على التناسل ليستمر البقاء، حتى إذا ما انقضت مهمتها في ذلك عادت الحياة فسلبتها ما كانت وهبتها من فتنة وجمال، وتركتها ذابلة ذاوية تنعى شبابها المفقود. . . وإن الفتاة مهما اشتعلت حماسة لحريتها، واصطنعت لنفسها مهن الرجال، لَتَشعرُ في أعماق نفسها أنها ما خلقت إلا للمعركة الجنسية، تتوسل لها بالحب وما يتصل به من تزين ودلال

ومما يلاحظ أنه كلما ارتفع الكائن الحي في سلم الكمال كان أبطأ وصولا إلى مرتبة النضوج، فبينما المرأة تكتمل نضوجها العقلي في سن الثامنة عشر، ترى الرجل لا يكاد يبلغ نهاية هذا النضوج إلا بعد الثامنة والعشرين، على أن المرأة لا تدرك من القوة العقلية إلا حدا ضئيلا لا يمكنها من أن تنفذ إلى حقائق الأشياء، ولذا يسهل انخداعها بالظواهر الباطلة، كما أنها كثيرا ما تتعلق بتوافه الأمور دون الهام منها والخطير؛ كذلك تتميز المرأة بأنها تعيش في حاضرها فقط، نظرا لعجزها عن أن تنفذ بفكرها إلى الماضي أو المستقبل، فبالقوة العقلية وحدها يستطيع الرجل أن يحطم حدود الزمن التي تقيد المرأة كما تقيد

ص: 18

الحيوان الأعجم، فيرسل بصره إلى الأفق النائي البعيد، ويضم في نفسه أطراف الزمان من الأزل إلى الأبد؛ ولعل هذه الخاصة هي التي يتميز بها الرجل دون المرأة، وأعني بها النظر الشامل العميق، هي العلة فيما يلاحظ عليه من هم وانقباض كثيرا ما يغلبان عليه حتى ينسياه ما قد يحيط به من عوامل الهناءة والسرور. أما المرأة فهي تنعم بضعفها العقلي لأنها تلهو بلذائذ يومها غير حافلة بما يأتي به الغد من ويلات وكوارث. فهي في ذلك كالحيوان الأجهر (ضعيف البصر) الذي يرى ما هو قريب منه في وضوح وجلاء، ولكن بصره لا يمتد إلى أبعد من أنفه؛ أي أنها قد تستطيع أن ترى الحوادث الحاضرة أدق مما يراها الرجل، ولكنها عاجزة كل العجز عن اجتياز حاضرها إلى ماضيها ومستقبلها، وربما كان هذا النظر الضيق المحدود هو الذي دفع المرأة إلى ما تتصف به عادة من إسراف قد يصل إلى حد الحماقة والجنون؛ فهي تريد أن تنعم (الآن) وليأت بعد ذلك الطوفان! ولكن اشتغال المرأة بحاضرها واستمتاعها بلذائذ يومها لا يخلو من حكمة بالغة، لأن ذلك يكسبها مرحاً وابتهاجاً بالحياة يمكنانها من القيام بواجبها الخطير نحو الرجل، وهو الترويح عن نفسه مما يعانيه من شقاء وعناء، فما أكثر ما تكون المرأة جنة فيحاء تزيل بسحرها عن كاهل الرجل المتعب المضني عبء الهم الثقيل

ولكن لا ينبغي أن يتيه الرجل بما أوتي من العقل فلا يصغي لرأيها ولا يحفل بما تقول، بل خير له إذا ما حزب الأمر واشتد الخطر أن يستشيرها الرأي ويستهديها السبيل، وذلك لأن طريقة المرأة في فهم الأشياء تخالف طريقة الرجل كل المخالفة، فهي تحب بطبعها أن تسلك أقصر الطرق التي تؤدي إلى الغاية المقصودة، هذا فضلاً عن مقدرتها على رؤية القريب بسبب ضعف قواها العقلية الذي أشرنا إليه، فهي بذلك قد تلفت نظر الرجل إلى ما يغفل عن إدراكه لقربه منه، إذ هو كما قدمنا مفطور بطبعه على النظر البعيد؛ أضف إلى ذلك أن المرأة ألصق بالحقائق الواقعة فترى الحوادث كما هي لا تضيف إليها ولا تنقص منها، أما الرجل فإذا ما اضطرمت عواطفه، انطلق خياله يهول في الأمر ويزيد عليه فتضيع الحقيقة في ثنايا الأوهام ويستحيل عليه التفكير السليم

وقد كان هذا الضعف العقلي الذي تتميز به المرأة قيداً حصرها في دائرة الحقائق والوقائع المحسوسة دون أن تكلف نفسها مؤونة التفكير المطلق المجرد، فنتج عن هذا شدة عطفها

ص: 19

على البائسين وحدبها على الأشقياء، لأنها لا تدري من حقائق الكون إلا هذه الحقائق الجزئية التي تراها وتلمسها؛ وليس في مقدورها أن تنظر إلى العالم كله وحدةً متصلة وحقيقة واحدة ينمحي في خضمه المتلاطم كل ما فيه من بؤس الأفراد وشقائهم، ولكن إن كان هذا النظر الواقعي المحدود قد أكسب المرأة عطفها الجميل، فقد جنح بها كذلك إلى ألأم الطباع وأخسها، فهي أبعد ما يكون الإنسان عن العدل والشرف ويقظة الضمير وما إليها من الصفات الخلقية التي لا تستساغ إلا بالنظر المجرد العميق، وقد ألجأها ما أحسته في نفسها من ضعف إلى أساليب المكر والحيل والخداع، فهيهات أن تجد بين النساء امرأة واحدة قد خلص طبعها من الخيانة والغدر والكذب؛ فبهذه هي عدتها التي وهبتها إياها الطبيعة لتدافع بها عن كيانها ووجودها كما امتدت الضواري بالمخالب والأنياب، فليس عند المرأة من عتاد تدرأ به عن نفسها ما يتهددها من خطر إلا المكر والخداع، لا فرق في ذلك بين امرأة وامرأة، وهي تلجأ إلى هذا السلاح الفكري في كل ظرف دون أن تشعر أنها ترتكب بذلك ما يناقض فضيلة أو شرفاً، بل إنها على نقيض ذلك تعتقد أنها إنما تستخدم قوة طبيعة فيها لها كل الحق في استخدامها كما يستعين الأسد بمخالبه ساعة الخطر؛ ولما كان الخداع مفطوراً في دماء النساء كُنَّ أقدر من الرجل على إدراك خداع الناس. ولذلك كان من الغفلة والبلاهة أن يحاول الرجل خداع المرأة لأنها في هذا الميدان فارسة لا يشق لها غبار. ولقد نشأ من هذا الجانب في النساء ميل غريزي إلى العقوق والخيانة ونكران الجميل؛ وما أهون على المرأة أن تحنث في يمينها، وما أيسر عليها أن تمد يدها إلى السرقة حتى ولو لم تكن في حاجة إلى ما تسرقه

لقد اتخذت الحياة من المرأة وسيلة للتعبير عن إرادتها في البقاء، وإن المرأة لتعلم في أعماقها أنها خلقت لحياة النوع قبل أن تخلق لشخصها، ولذا تراها تسعي جهدها لأداء واجبها الأول نحو النوع وإن تعارض ذلك مع واجبها نحو الرجل الذي يتعهدها ويرعاها، فهي تأبى مثلا إلا أن تلد وترضع وتربي مهما كلفها ذلك من عناء؛ وهنا تختلف المرأة عن الرجل اختلافا جوهريا، فبينما هي تتوفر لخدمة النوع وبقائه، ترى الرجل لا ينصرف بمجهوده إلا لبقاء شخصه؛ أعني أن المرأة خلقت وسيلة لبقاء النوع، أما الرجل فهو غاية في حد ذاته - ومن هذا الفارق بين الجنسين تفرع وجه اختلاف آخر بينهما: فالرجال لا

ص: 20

يكاد بعضهم يأبه ببعض، بل كل منهم منصرف إلى سبيله لا يحفل بغيره، وذلك لبعد ما بين أعمالهم من تباين وخلاف؛ أما النساء فبينهن عداوة غريزية فلا يسع الواحدة منهن إلا أن تضمر في نفسها أشد المقت لغيرها من بنات جنسها. وعلة ذلك مدعاة للغيرة والكيد والتنافس؛ فنظر مثلا إلى سيدتين تقابلتا في الطريق كيف تنظر إحداهما إلى الأخرى بعين كلها الغل والكراهية؛ وإنه لما يبعثك على الضحك أن تستمع إلى امرأتين تتعارفان أو تتبدلان تحية اللقاء أو الوداع، فلن ترى إلا سخفاً منشؤه أن التودد والتعاطف والمحبة ليست من طبيعة المرأة نحو المرأة، وأن هذه العداوة الفطرية بينهن لتتضح لك في جلاء إذا رأيت كيف تعامل المرأة الأرستقراطية من هي دونها في المنزلة الاجتماعية من النساء؛ عندئذ ترى صلفا أي صلف وغطرسة وكبرياء، لماذا؟ لأنها تشعر أن الفارق بينهما في حقيقة الأمر جد ضئيل. استغفر الله بل إنه لا فارق البتة بين امرأتين. فهذه تحفظ النوع بنسلها كما تحفظه تلك سواء بسواء؛ ولعمري أن الحياة لم تقصد بهن إلا هذا، وهذا وحده. تشعر المرأة الأرستقراطية بانعدام الفارق في الجوهر بينها وبين المرأة الوضيعة فتلجأ إلى الصناعة والتكلف تخلق بهما ما تريد هي أن يكون بين المرأتين من تفاضل؛ أما الرجل فتراه على النقيض من ذلك: يعامل من دونه بالحسنى، لأنه يعلم أن الطبيعة قد فرقت بينهما في القوة والعمل، فليس به لإظهار منزلته حاجة إلى الصلف والكبرياء

ولشد ما أعجب لهذا الاسم الذي يطلق على النساء جزافاً: (الجنس اللطيف)؛ ولست أشك أن من أطلق هذا اللقب على ذلك الجنس الضئيل القصير الشائه، هم أولئك الذين أفسدت غرائزهم الجنسية عقولهم. فجمال المرأة كله قائم على الغريزة الجنسية وحدها، وإنه لأقرب إلى الصواب أن نسمي النساء بالجنس الذي لا ذوق له ولا فن، إذ ليس في مقدورهن تقدير الجمال في شتى الفنون، ولكنهن كثيراً ما يغالطن في الحقائق فيدعين أنهن ذوات فن جميل، بأن يعزفن على الآلات الموسيقية أو يعالجن التصوير، ولكن ذلك منهن كذب ورياء، فهن لا يُشغفن إلا بما خلقن من أجله: حفظ النوع. . . . . . إن الرجل يجاهد في العلوم والفنون لتتم له السيطرة على الأشياء، إما بفهمها أو بالتحكم فيها، أما المرأة فهي بطبيعتها لا تحب أن تسيطر على الأشياء سيطرة مباشرة، ولكنها دائماً تقصد إلى السيادة على الأشياء عن طريق سيادتها على الرجل، فالرجل وحده هو ما تصبو المرأة إلى التحكم

ص: 21

فيه والسيطرة عليه - ومعنى ذلك بعبارة أخرى - أن المرأة ترى في كل شيء وسيلة فقط لغزو الرجل، فإذا ما تظاهرت بميل إلى الموسيقى أو الشعر مثلاً فليس ذلك ناشئاً عن رغبة طبيعية فيها نحو هذه الفنون، إنما هي تتخذ منها أداة تتجمل بها لتروق في عين الرجل. وما أصدق روسو حين قال:(إن النساء بصفة عامة لا يحببن الفنون ولا يعرفنها، ومحال أن يبلغن فيها حد النبوغ) وهل تريد دليلاً على نفورهن من الفنون الرفيعة أقطع من هذا الذي تراه في دور التمثيل؟ أنظر إليه ن كيف يواصلن الحديث في أتفه الكلام، معرضات عما قد يكون على المسرح من أروع آيات الفن! ولئن صدق ما يقال من أن الإغريق لم يسمحوا لنسائهم بمشاهدة تمثيل المآسي، فو الله لقد أصابوا. . . ثم استعرض التاريخ وحدثني مَنْ من النساء قد أبدع في الفن آية فيها الأصالة والنبوغ؟؟

ولقد شاءت الطبيعة للمرأة أن تثير في الرجل أحط جوانبه، فهي لا تنفذ إلى الرجل من ناحية عقلية وهو مظهر قوته وسيادته ولكنها تأتيه من نواحي ضعفه ومجونه. فيجمل بالرجل أن يتخلص من ضعفها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، أما أن يكرمها ويرفع من قدرها فذلك ما أعجب له أشد العجب! إن إكرامك للمرأة واحترامك لها انحطاط لك في عينها، لأنها تدرك بفطرتها أنها أحط من الرجل وأضعف. فلا يضعها في غير موضعها إلا الضعيف العاجز - المرأة يجب أن تكون أماً فيجب ألا نعد بناتنا إلا لهذا مع تدريبهن على طاعة الرجل وقسرهن على الخضوع؛ وفي ذلك يقول بيرون الشاعر الإنجليزي (على النساء أن يعنين بالمنزل، وعلينا أن نحسن لهن في الطعام واللباس، ولكن لا يجوز لهن مخالطة المجتمع، فان تعلمن شيئاً فليكن ذلك هو الدين، على شريطة ألا يطالعن شعراً ولا سياسة، وألا يقرأن إلا كتب العبادة والطبخ)

إن كل قانون للزواج يعامل المرأة على أساس مساواتها بالرجل باطل من أوله، فإذا أراد القانون أن يسويها في الحقوق بالرجل فليعطها أولاً عقلاً كعقول الرجال! ومع ذلك فتأبى سخرية القدر إلا أن تعاني المرأة نفسها ما وراء المساواة من وخيم العواقب، لأنه كلما جارت القوانين على الرجل وأجحفت بسيادته الطبيعية على المرأة وطالبته بأن يقف منها موقف الند للند، أعرض الرجل ونفر، فليس من الهين عليه أن يقوم على مثل هذه التضحية وأن يطوح بما أوتيه من قوة وسيادة، وبذلك الإعراض يزداد عدد النساء غير

ص: 22

المتزوجات اللواتي قد يدفعهن الفقر والحاجة أما إلى عمل لا يتفق مع طبيعتهن، وإما إلى السقوط في هاوية الفساد، وعندئذ تكون الطامة الكبرى. ويستطرد شوبنهور في استحسان تعدد الزوجات وفي وجوب عدم توريث المرأة مال زوجها لأنها مسرفة بطبعها، وقد نشأ إسرافها من تعلق أطماعها بالأشياء المادية فتراها تبذل بغير حساب في تجملها وزينتها، وهي في ذلك مخالفة للرجل الذي يتوجه بطموحه إلى نواح غير مادية كالعلم والشجاعة وما إليهما، فهو يستنفذ مجهوده فيما لا يحتاج إلى البذل والإسراف

يقول أرسطو في كتاب (السياسة): إنه إذا سمح للمرأة بالزيادة من حقوقها كان ذلك نذيرا بزوال الدولة ودمارها، وهو يستشهد على ذلك بأسبرطة. وقد جاء التاريخ الحديث بأمثلة كثيرة تؤيد ما ذهب إليهالفيلسوف العظيم، فزيادة نفوذ المرأة في فرنسا منذ عهد لويس الثالث عشر أدى إلى تدهور الحكومة والبلاط، وهذا بدوره أنتج الثورة الفرنسية الكبرى وما أعقبها من ثورات

وشهد شاهد من أهلها

لقد عرضت على القراء آراء شوبنهور في المرأة بمناسبة ما قرأته في إحدى الصحف الإنجليزية لسيدة تنكر على المرأة حقها في الحرية، قائلة إن الحرية تستتبع التفكير والمسئولية وهما ضد طبائع المرأة التي خلقت لتستعبد لشخص ما: زوجها أو طفلها. وهي تؤيد قولها بأنصع الأدلة وأقوى الحجج، وتروي لنا أنها كانت تحاضر في ناد نسوي فسألت الحاضرات: لو لم تكوني من بنات هذا القرن فأي زمن تختارين؟ فأجابتها فتاة ذكية: كنت أحب أن أعيش في أي عصر لا يتطلب من المرأة التفكير!!

زكي نجيب محمود

ص: 23

‌قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم

كوخ غزاة المكروب

وانتقل كوخ بزوجه ومتاع بيته إلى برِسْلاوة، وعُيّن فيها طبيبا للبلدية براتب قدره تسعون جنيها في العام، وكان قد افتُرِضَ عند تقدير المرتب أن كوخ لا شك سيضاعفه أضعافا بما يكسبه من مرضاه، وأن المرضى لا شك آتون إليهزرافات ووحدانا إذا شاع في البلد أنه قد حلّ به مثل هذه العبقرية الفذّة. هكذا ظن الأستاذ كوُن، وهكذا ظن الأستاذ كُون هايم؛ وفتح كوخ داره للناس، فلم يقرع بابه طارق واحد. عندئذ تعلم كوخ أن من مساوئ الطبيب أن يكون فِكِّيرا يبحث في علل الأشياء. وعاد أدراجه إلى قرية فُلِشتين عودة حنين بخُفيه، وفيها ظل يقتفي آثار المكروب، ويتجسّس الجراثيم، ويقتنص تلك الخلائق الدنيئة في أجحارها، تلك الموجودات المعدومات في حكم العين، التي تصل إلى جروح الإنسان والحيوان فتبُثّ فيها سمّا قاتلا. وظل يحرز في هذا الميدان السبق بعد السبق من عام 1878 إلى عام 1880، وتعّلم أن يَصْبُغ كل نوع من أنواع البشلاّت صَبْغاتٍ مختلفات لتظهر صُغرها بَيْنة الجرم فيما حولها واضحة الحدود. واقتصد شيئا من المال، ولا يدري إلا الله كيف اقتصده، وأشترى كمِرةً ربط عدستها بمكروسكوبه، وتعلم وحده كيف يصوّر بها تلك الخلائق الصغيرة

قال كوخ: (ليس في استطاعة المرء أن يقنع العالم بحقيقة هذه المكروبات حتى يريهم صُوَرا منها. وفوق هذا فالمجهر الواحد لا يستطيع النظر فيه اثنان في آن، وهما إذا نظرا استحال عليهما أن يَنْقلا عن المكروبة الواحدة صورةً واحدة، وإذَنْ يكون خصام وانقسام. أما الصور الفوتوغرافية فلا تكذب، ويستطيع العشرة من الرجال أن ينظروها معاً، ويدرسوها سوياً، ويخرجوا منها على نتيجة واحدة لا سبيل للخُلف فيها) على هذا النحو أراد كوخ أن يدخل في هذا العلم الوليد شيئاً من النظام والانسجام مكان الهرجلة والتخليط، وشيئاً من الموسيقى والنغم المتسق بعد النشوز الذي آذى الآذان ردحا طويلا من الزمان

ص: 24

وفي هذه الأثناء لم يغب عن بال أصدقائه؛ ففي عام 1880 لم يدر إلا والحكومة تدعوه إلى الحضور إلى برلين ليتعين بها زميلا فوق العادة لمصلحة الصحة الإمبراطورية. وفي منصبه الجديد أعطت له السلطات معملا جميلا، ووفرة كبيرة من الأجهزة لم يكن يحلم بها، ومساعدين، ومالا كافياً فيه غناءٌ عن طلب الرزق، وتمكينٌ له من قضاء ست عشرة ساعة أو ثماني عشرة في اليوم الواحد بين صبغاته وأنابيبه وخنازيره الغينية

وفي هذا الوقت كانت اكتشافات كوخ شاعت في معامل أوربا جميعها، وعبرت المحيط الأطلسي إلى أمريكا، فقام لها أطباؤها وقعدوا، وتحمسوا لها، واتقدوا من جرائها اتقادا؛ ودارت معركة حامية الوطيس واسعة النطاق حول نظرية الجراثيم وبلغت في هذا الأوان أشدها. واتخذ كل طبيب وكل أستاذ في علم الأمراض عرف المكرسكوب وخفاياه، أو خال أنه عرفه وعرف خفاياه، اتخذ عدته وعتاده، وقام بتقفي المكروبات يؤمل اصطياد جديد منها؛ وأخذت تنجلي الأسابيع عن اكتشافات مزعومة فرح الناس لها عن جراثيم خال أصحابها أنها سبب السرطان أو السل أو التيفود. وصرخ صارخ منهم صرخة تردد صداها في القارات الخمس زعم فيها أنه وجد مكروبا واسع الأثر يعطيك من الأمراض على هواك، من التهاب الرئة إلى زكمة الدجاج. وهدأت هذه الصرخة، وتلاشت موجاتها في الهواء، لتَتْبعها أخرى من سخيف آخر يدعي أنه أثبت أن الداء الواحد كالسل مثلا قد تسببه مئات من أنواع مختلفات من المكروبات

ازداد تحمس القوم لفكرة الجراثيم، وزاد تخليطهم فيها، حتى خِيف على اكتشافات كوخ ذاتها أن يضحك الناس منها ضحكهم من هذه الخُزَعْبِلات التي ملأت الكتب والمجلات في هذا السبيل، وأن ينسوها نسيانهم تلك الأباطيل

ولكن قُدّر لأعمال كوخ أن تحيا؛ واليوم صيحة الأمم أقوى في طلب زيادةٍ في المعامل، وزيادة في قنّاص المكروب، وزيادة في أجور البُحّاث الذين يعملون جهدهم في دفع السوء عنا، ولا سبيل إلى التقدم إلا أن يبعث الله لنا رجالا ككوخ ذوي صدق وبصيرة

كان ما كان من هذا الحماس الجاهل المشئوم الذي لا يكون من نتيجته إلا القضاء على علم المكروب وهو وليد ناشئ. ولكن كوخ حفظ اتزانه في وسط هذه الجلبة الضارة، وجلس في هدوء وسكون يتعلم كيف يربي النوع الواحد من المكروب خالصاً من أخلاطه. قال: (أنا

ص: 25

أومن بأن النوع الواحد من الجراثيم يسبب نوعاً واحدا من الأدواء، وأن كل داء له جرثومته الخاصة) آمن بذلك قبل أن يُثبته، فكأنما أُوحي إليه. قال:(. . . . . فلا بد لي أن أجد طريقة أكيدة يسيرة أُكّثر بها الجنس الواحد من المكروب دون أن تختلط به الأجناس الأخرى التي هي دائماً حوله تحاول الدخول إليهخلسة واستراقا)

ولكن كيف السبيل إلى اقتناص جرثومة واحدة بادئ ذي بدء؟ اخترع المخترعون عدة مكنات غريبة لفصل المكروبات، ونصب آخرون منهم أجهزة مركبة معقدة، طويلة لا شك أنهم من طولها وتعقد تركيبها نسوا بعد أن أتموا الغرض الذي من أجله نصبوها. وقام بحاث غير هؤلاء، لا يبالون الموت، فحقنوا المكروب الذي حقنوا في جو سام قتال من الكيميائيات المطهرات ليقتلوا جراثيم الهواء التي تسبح فيه على ضلال كي لا تقع في المكروب الذي يحقنون

- 5 -

وذات يوم نظر كوخ إلى فِلْقة من البطاطس المسلوق تُرِكت عفوا في معمله، نظر إليه اتفاقاً وأقر هو بذلك؛ نظرها فوجدها قد تبقعت بعدة بقع ذات ألوان، فهمس لنفسه قال:(هذه بقعة شقراء، وهذه بقعة حمراء، وهذه ثالثة بنفسجية، ورابعة صفراء. لابد أنها تكوّنت جميعاً من جراثيم الهواء). وأخذ يحدق فيها من قريب لقصر نظره حتى كادت تمتزج بها لحيته الخفيفة، وهّم ينظف عدسات مجهره ويهيئ رقائق الزجاج. وأمسك بعود رقيق من معدن البلاتين فغمسه بخفة في بقعة من البقع الشقراء ورفعه بشيء منها؛ ثم وضع هذا الشيء القليل، ومزاجه كالمخاط، على رقيقة من تلك الرقائق الزجاجية، ودافه بقطرة من الماء، وحدق فيه من خلال المجهر فإذا جماعات البشلات تتهادى في الماء عموماً، وتشاكلت جميعها فلم يكن بها على كثرتها بشلة واحدة غريبة عن أخواتها. وأخذ من البقعة الصفراء ومن البنفسجية ومن الحمراء، فوجد لمكروب في إحداهما مستديرا، وفي الأخرى عصيا عائمة، وفي الثالثة حلزونيات كالبريمات دبت فيها الحياة؛ وليس في هذا جديد، وإنما الجديد أن المكروبات في البقعة الواحدة متشاكلات لا تختلف واحدة عن أختها

وفي سرعة البرق الخاطف تجلى لكوخ جمال هذه التجربة التي اصطنعتها له الطبيعة: (كل بقعة من هذه البقعات زريعة خالصة من نوع واحد من المكروبات. . . الأمر واضح

ص: 26

وتفسيره حاضر! فالمكروبات عندما تقع من الهواء في الأحسية السائلة التي نستخدمها، هي أنواع عدة، تتكاثر جنباً لجنب، وتعوم فتختلط فلا ينتج إلا مزيج من أخلاط عدة. أما اذا هي وقعت على سطح البطاطس، وهو صلب، لصقت وحداتها في المكان الذي وقعت فيه، فتكاثرت الواحدة حيث هي فصارت ألوفاً، ولكن من نوع واحد لا يخالف)

وكان يعين كوخ طبيبان في الجيش، يدعى أحدهما لُفْلار والآخر جفكي فدعاهما كوخ في هدوء وأطلعهما على ما وجد، وأراهما مدى التغيير الذي سيطرأ على دراسة المكروب بسبب التفاتته السانحة إلى قطعة البطاطس المتروكة، نقول التغيير، وما كان إلا الثورة! وبدأ الرجال الثلاثة يدرسون صحة ما خال كوخ بجد لا حد له، وبدقة ألمانية إذا وصفها الفرنسي المتعصب سماها سخفاً. بدأ الثلاثة يعملون فكنت تراهم صفاً واحدا على كراسيهم الثلاثة، منكبين على مجاهرهم الثلاثة ينظرون في ضوء ثلاث نوافذ وقد توسطهم كوخ. ثالوث أي ثالوث! يبذلون الجهد الجاهد لا ليثبتوا الذي ظنوه، بل ليكذبوه، فإذا النتيجة تؤمن على الذي قاله كوخ وقالوه، وكانت طريقتهم في ذلك أنهم خلطوا من المكروبات نوعين أو ثلاثة؛ فتكوّن منها مزيج تعجز الأحسية السائلة عن فصل أنواعه مهما طال زرعها فيها وتكثيرها. ثم جاؤا بقطرة من هذا المزيج ونشروها نشرا واسعاً على سطح مستو لبطاطسة مسلوقة مشقوقة؛ فاستقرت المكروبات من هذا السطح على أبعاد غير متقاربة، وتكاثرت المكروبة الواحدة حيث استقرت فخرج منها الملايين ولكن من نوعها، ومن نوعها فحسب

بشق بطاطسة عتيقة استحدث كوخ طرائق جديدة لاقتناص المكروب، وأرسى هذا العلم على قواعد صحيحة يطمئن إليهاأولو الفكر اطمئنانهم إلى سائر العلوم، من بعد أن كان ظناً ورجماً بالغيب؛ ثم أخذ كوخ يتجهز لاقتناص المكروبات التي تسبب عشرات الأمراض التي تفتك بالناس، ولم يكن كوخ لقي بعد من رجال العلم انتقادا يذكر ولا اعتراضاً كبيرا، ذلك لأنه لم يفتح فمه إلا بعد ذلك أن كان يتم تأكده من نتائجه، ثم لأنه كان اذا تحدث بعد ذلك عن اكتشافاته ذكرها في كثير من التواضع فتخاذل خصومه ونام الشر في قلوبهم، وفوق هذا وهذا لأنه كان دائماً يصوّر لنفسه شتى الاعتراضات الممكنة، والانتقادات الجائزة، ويجيب عليها قبل إخراج عمله للناس

وامتلأ كوخ ثقة بنفسه، فاعتزم أن يلقى الأستاذ رودلف فرشو وما أدراك من هو؟ هو

ص: 27

أشهر بحاث ألمانيا في أصول الأدواء، وأكبر جهابذتها وأعلامها؛ إذا حدثته في موضوعات شتى أراك فيها من العلم ما لا يريك عشرات العلماء، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. كان فرشو عمدة الطب الألماني، درس تجبن الدم وقال آخر كلمة تقال فيه، واخترع ألفاظاً من أروع الألفاظ مثال الهتربوبيا وأجنيسيا والأكرونوسس وكثير غيرها مما يسهر طلاب الطب لياليهم في محاولة تفهمها، ونظر بمكرسكوبه في ستة وعشرين ألف جثة، ووصف فيها حال الأنسجة وقد غيرتها شتى الأمراض، ونشر بلا مبالغة ألوفا من الأبحاث في كل موضع يخطر بالبال، من دراسة أشكال رؤوس الذكور من تلاميذ المدارس الألمانية، وتفحص أصواتهم، إلى قياس الأوعية الدموية، وقد بلغت الغاية في الصغر في أجسام بنات اخضرت وجوههن مرضاً واعتلالا

ذهب كوخ إلى صاحب هذا الصيت الكبير وفي قلبه رعب، فدخل الى حضرته على أطراف قدميه احتراماً وخشية أن يتحرك الهواء فينزعج رب المكان

قال كوخ وهو مطرق: (سيدي الأستاذ! لقد كشفت طريقة لتكثير النوع الواحد من المكروب خالصاً لا شائبة فيه)

فقال الأستاذ: (إذن فقل بالله كيف تصنع، ففي ظني أن هذا لن يكون)

قال كوخ: (بتربيته على طعام جامد. نعم أستطيع أن أولد منه على قطعة من البطاطس مستعمرات لا يسكنها غير نوع واحد منه. . . . فبدل البطاطس أذيب الآن الجلاتين في حساء من لحم البقر، فإذا برد انعقدا جميعاً وصار لمزيجهما سطح جامد، وعندئذ. . . . . .)

لم يتحرك فرشو لهذا الكلام؛ ولما نطق قال في استهزاء الحاقد: (إن منع المكروب من أن تختلط أنواعه عسير جداً، إلا إذا شاء كوخ أن يبني لكل نوع معملا خاصاً. .) واختصاراً لم يجد كوخ عند صاحبنا غير البرود والتثبيط؛ ولا عجب، فالرجل كان قد بلغ من الشيخوخة تلك السن التي عندها يعتقد الرجال أن كل شيء عُرِف، فلم يبق في الدنيا ما يُكتشف؛ وتولى عنه كوخ وفي نفسه شيء من الكآبة، ولكن عزيمته لم تهن، ولم يفعل ما كان غيره فاعله، فلم يجادل فرشو في الذي كان، ولا كتب المقالات، ولا خطب الخطب في النيل منه، ولكنه اتجه بكل ما فيه من حول إلى بحثٍ هو أبدع بحوثه، إلى تقفَّي أثر أخبث

ص: 28

مكروب عرف، إلى كشف ذلك القتال الخفي الذي سبق المكروبات جميعا في حصد أنفس الرجال والنساء والأطفال، فتقاضى روحاً من كل سبع صعدت إلى ربها. شمر كوخ عن ساعديه، ومسح نظارته، وبدأ رحلته الكبرى لاقتناص جرثومة السل المروع

(يتبع)

أحمد زكي

ص: 29

‌في طريق المدينة

للأستاذ علي الطنطاوي

أفاق سحراً - ولا يبدو السحر على أتمه إلاّ في البادية، فلا ليل في الجلال كلَيْلها، ولا صبح في الجمال كصبحها، ولا نهار في الشدة كنهارها - فجلس ينظر إلى هذه الصحراء التي تمتد من حوله؛ يغيب أوْلها في بياض الفجر المقبل، وآخرها في سواد الليل المدبر، وهي ساكنة سكون الموت، واسعة سعة السماء، فأحس في نفسه بشيء لم يحسّ به قط؛ فقال: لا إله إلا الله! فخرجت من أعماق قلبه. . . وأي امرئ تلقيه الأيام في البادية، فيرى ليلها ونهارها، وشمسها ورمالها، ثم لا يكون أشد الناس بالله إيماناً، وعليه اتكالا؟ وهو يرى أبداً من جلال المخلوق ما يخشع منه قلبه لجلال الخالق؛ وهو يعلم أنه ليس بينه وبين أن يموت عطشاً، أو يهلك جوعاً، إلا أن يحيد عن طريقه ذراعاً، أو ينحرف عن وجهته شبراً. . . وكيف يكفر بالذي لا يرجو النجاة إلا منه، ولا قوّة إلاّ به، وليس له من يدعوه إلاّ إياه؟

وكانت تلك صبيحة اليوم السابع عشر من أيام البادية، فطفق يذكر هذه الأيام، وينظر ما أفاده فيها، فإذا هو قد عرف من خبر العرب، في سبعة عشر يوماً، ما لم يعرفه في سبع عشرة سنة، يقرأ فيها أسفار العرب، ويتلو أشعار العرب، ويدرس لغة العرب، وتاريخ العرب، وإذا هو قد سافر ألفاً وثلثمائة سنة في الزمان، لا ألفاً وثلثمائة كيلٍ على الأرض؛ وسلك الطريق التي سلكها الغزاة الأوّلون، فعلم أن سرّ قوةّ العربي الأوّل الذي عمل ما لم تعمله الجن، ولا تقوى عليه المرَدَة، حتى بنى للحضارة هذا الصرح العظيم، فأوت إليه، وتفيأت ظلاله، وإنّ سر عجز العربيّ الأخير، حتى نام عن هذا الصرح، وأباح العدوّ حماه، إنما هو (بعد الإسلام) هذه الصحراء

هذه الصحراء الذي لا يعيش فيها الجبان العاجز، لأن الحياة فيها بين عيني الأسد، لا ينالها إلاّ شجاع مقدام، أخو غمرات، صّبار على النكبات، ضحّاك في الملمّات، وإلاّ ابن الشمس، صديق الرمال، حليف الجوع والعطش، ذو إرادة لا تنثني، وهمة لا تطاول، وعزيمة لا تفلّ

ولا يعيش فيها المريض، لأنها لم تخلق مستشفى للمرضى، ولكنما خلقت ميداناً للأبطال، وأنىّ يأتي البدويّ المرض، ما دام لا يؤتى من قبل معدته (والمعدة بيت الداء)، وما دام كل

ص: 30

طعامه التمر والسّمن واللحم والأقط، وكلّ شرابه اللبن والماء، فإذا مرض يشرب قارورة من شعاع الشمس، وشمس الصحراء أنفع من مجموعة صيدليات باريز! فإذا لم تجده نفعاً، أجداه الكي، وما بعد الكيّ إلا حياة كاملة أو موت كامل، هو خير على كل حال من حياة ناقصة. . . وقديماً قالوا آخر الطب الكيّ!

ولا يعيش فيها الفقير، لأن أهلها كلهم أغنياء. . . وهل الغنى إلاّ أن تنال كل ما تطلب؟ وهل يطلب البدويّ إلاّ ماء له وكلأ لمواشيه؟ فإذا أمحلت الدار أم غيرها:

وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى

وفيها لمن خاف القلى متحول

ولا يعيش فيها المنافق المتملّق الخدّاع، الذي يلبس جلد الحمل على جلد الذئب. . . . لأن الصحراء منبسطة مستوية متكشّفة، ظاهرها كباطنها، وليس فيها سقوف ولا جدران، ولا مغارات ولا سراديب، وكذلك نفس العربيّ ما في قلبه على لسانه؛ فان عاداك فعداوة الشريف، يستقبلك بالشر ولا يستدبرك به؛ ويحمل إليك الموت على شفرة السيف، لا يقدمه في كأس من الذهب، قد خلط فيها السمّ بالدسم؛ وإن صافاك آخاك، فأخوّة الشريف يفديك بنفسه وماله، ولا يرغب عنك حتى ترغب به، وإذا أنت أنكرت من العرب جفاء في الطبع، أو خشونة في المقال، فلن تنكر منهم عَوْضُ تلوّناً ولا تملقاً، ولا تنكر منهم لين الحيّة ولا لطف المستعمر. . . على أنّ الجفاء ليس من شأن العرب، ولا هو في جميعهم، وإن فيهم للطفاً، وإن فيهم لظرفاً، وإن لهم لأحلاما. . .

وطفق يذكر كيف كان يتبرم بهذه الأشعار التي تندب الديار وتبكي الأطلال، ويستثقلها ويراها كأنها الدّمى فيها جمال وليس فيها روح؛ فلما كانت أول ليلة قضاها وأصحابه في البادية، وحطّ الركب في قاع الدغيلة فوقفت السيارات الخمس، ووضعت الأحمال، ونصبت الخيام، وأوقدت النيران، ورفعت القدور، وبسطت البسط، ومدّت الفرش، وكمل المجلس حتى قام المذياع (الراديو) يسمعهم بين الشّيح والقيصوم، أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم

ف. . . باتوا بأنعم ليلة حتى بدا

صبح تلوَّح كالأغرّ الأشقر

فنادى منادي الرحيل؛ فما هي حتى طويت الخيام، ولفّت البسط، وشدّت الأحمال، فإذا كل شيء كأنه حلم، أو كأنه صفحة طويت، ولم يبق إلا الؤى المهدم، وإلاّ موقد النار، فامتلأت نفسه حزناً، وانطلق لسانه يترجم عن أصدق عاطفة، وأعمق شعور، بكلمة النابغة التي

ص: 31

استثقلها، وعدها من القول المعاد، والكلام الفارغ:

عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار. . .

وانطلق يقف إخوانه لحظة، يحيّ فيها هذه البقعة التي ترك فيها ليلة من حياته، وطائفة من ذكرياته، وقطعة من نفسه؛ ثم عاد فسخر منهم كيف يقفون على أحجار قد سوّدتها النار، وحفرة حفروها من حول الخيمة خشية الأمطار. .

ماذا تحيوّن من نؤى وأحجار؟

ويجد القاع بعد أن تقوّضت الخيام، وطويت البسط، وضاع المكان الذي سوّاه لنومه، وأعدّه لجلوسه

أقوى وأقفر من نعم وغّيره

هوج الرياح بهابي الترب موّار

ويطول به الوقوف، وأصحابه يستحثّونه، والسيارات (تصرخ) مستعجلة، فيمشي وهو يفكر في هذا القاع. هل يحفظ هذه الذكريات؟ ويسأل هذا القاع: هل يذكر أبداً هذه الليلة التي قضاها فيه، والعواطف التي استودعه إياها؟ فلا يسمع مجيباً، ولا يجد إلا أحجار الموقد، وإلا هذا الثمام الضعيف الليّن، الذي جمعوا منه فأوقدوا به النار، واتخذوه فراشاً، فينشد قول النابغة:

وقفت فيها سراة اليوم أسألها

عن آل نعم أمواناً عبر أسفار

فاستعجمت دار نعم ما تكلمنا

والدار لو كلمتنا ذات أخبار

فما وجدت بها شيئاً ألوذ به

إلا الثمام وإلا موقد النار

وتعدو به السيارة عدو الظليم، وهو لاهٍ عما حوله، يتمثل الشاعر وقد يممّ الديار، فلم يجد بها سائلاً ولا مجيباً:

ناديت: أين أحبّتي؟

فأِجبت: أين أحبّتي؟

فبرّح به الشوق، واشتعلت في صدره النار، وكواه الهجر فذهب يذكر نعماً، وقد كان يسايرها حتى ينأى بها عن الحيّ، ثم يجلسان حتى تغيب الشمس، ويلفهما الظلام برداء الأمن من الرقباء، ويسبغ عليهما نعمة الحبّ، فلا يكون بينهما إلا كل خير: يبثها حبّه، فتشكو له حبّها، ويكشف لها عن قلبه، فتكشف له عن قلبها، ولا يخفي عنها شيئاً، ولا تكتمه شيئاً:

ص: 32

وقد أراني ونعما لاهيين بها

والدهر والعيش لم يهمم بامرار

أيام تخبرني نعم، وأخبرها

ما أكتم الناس من حاجي وأسراري

وجعل يذكر كيف فهم في تلك الساعة قصيدة النابغة، ونفذ إلى روحها، وقد كان يتلوها، ويدرّسها، ويشرحها، فلا يفهم منها إلا كلماتها وجملها، وعروضها وإعرابها؛ وجعل يذكر ما حفظ من أشعار الديار، فيبصر فيه جمالاً لم يبصره من قبل، فيعلم أنه قد كان منه في ليل مظلم، لا يرى فيه إلا سواداً فطلعت تلك الساعة بدراً، أراه أن وراء الظلام دنيا واسعة، وفتنة وجمالاً، وروضة وأنهاراً. . .

وجعل يذكر كيف كان يقرأ أمثال العرب فلا يفهم من قولهم: (أن ترد الماء بماء أكيس) إلاّ أن ذلك أحزم، فلما خرجوا من القاع وأقبلوا على ماء الهزيم الذي طالما وصفوه لهم وحببوه إليهم، وجده بئراً منتنة خبيثة، تقتل من يشمها، فكيف بمن يشرب منها؟ فعلم أن معنى أكيس: أنك لا تشرب ماء خبيثاً فتمرض!

فلما وردوا ماء الفجر، بعد مسيرة يومين في الشعب لم تر السيارة فيهما كيلين متتابعين على أرض كالأرض، ولكنها كانت تعلو صخرة، أو تهبط حفرة، أو تغوص في رملة، لما وردوا الماء وجدوه جافاً، فعلم أن معنى أكيس: أنك تبقى بلا ماء فتموت

ثم نظر فرأى الفجر قد انبثق، فأيقظ المؤذن، وكان قوي الحنجرة حسن الصوت، فأذن فزلزل البادية بـ (الله أكبر) فلما قال (أشهد أن محمداً رسول الله)، لم يتمالك صاحبنا نفسه أن تضطرب وقلبه أن يخفق، وعينه أن تدمع:

هذا آخر يوم من أيام البادية. لم يبق بيننا وبين المدينة إلاّ نصف مرحلة. . . فهل يكتب لنا أن ندخل من باب السلام ونقوم أمام الحجرة ونسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

علي الطنطاوي

ص: 33

‌نظرية النسبية الخصوصية

بقية البحث الأول

الزمان ونسبيته

للدكتور إسماعيل احمد أدهم عضو أكاديمية العلوم الروسية

- 3 -

علل هذه الظاهرة فتزجرالد بقوله إن المتحركات تتقلص في اتجاه سرعتها، فالأرض تتقلص في اتجاه سرعتها بقدر الفرق النظري بين رحلتي الشعاعتين بحيث تعودان كما هما عمليا في وقت واحد. وقام العلامة لورانتن الهولندي فاستخرج مقدار هذا التقلص في عملية رياضية دقيقة

لو رمزنا بالرمز (ر) لمسافة رحلة الشعاعة (س1)، وبالرمز (ر2) لرحلة الشعاعة (س2)، وبالرمز (ص) لسرعة الضوء، وبالرمز (س) لسرعة الأرض، لكان:

وهذا معناه تقلص الأرض حتى تصير بمقدار:

وبذلك تقرر استحالة استخراج الحركة المطلقة للمتحرك، وبذا صار من المحال معرفة التواقت

- 4 -

لابدّ من فاصلة زمانية لمعرفة سرعة الضوء؛ هذا إلى أن معنى الزمان قائم على معرفة سرعة انتشار النور. هذا التضاد استخدمه العلامة ألبرت اينشتين في سبيل استخلاص مبادئه الأولى في النسبية الخصوصية

لنفرض كوناً مثل (ك) به نقطة مثل (أ) ثابتة، وبهذه النقطة راصد ومعه ساعة؛ ولنفرض أن هذا الراصد يعين حدوث الحادثات في كونه بموجب زمن الساعة التي يحملها، ولكنه بلا شك يفشل في تعيين زمان الحادثات عينها بالنسبة لنقطة ثابتة في كون آخر يتحرك حركة انتقالية ازاءه؛ ما لم يوحّد سير ساعته مع سير الراصد القائم في الكون الآخر

وتوحيد سير الساعتين لا يقوم إلا على إشارة ضوئية؛ والضوء كما قلنا سرعته واحدة في كل الجهات؛ ومعنى هذا أن الفترة التي تستغرقها شعاعة الضوء لقطع المسافة من الكون

ص: 34

الأول إلى الثاني هي عين الفترة التي تستغرقها للعودة من الكون الثاني إلى الأول

هكذا يتحول معنى المسافة الممتدة بين النقطتين (أ) في الكون الأول، و (ب) في الكون الثاني من امتداد الأجسام الصلبة إلى أمواج النور، أعني أنها تتحول من خط امتداد الأجسام الصلبة إلى السافة التي تقطعها أمواج النور في آماد متساوية

هذا التبدل يؤدي إلى تغير موضوع الهندسة الأوقليدية، إذ تتحول الأشكال والخطوط الأوقليدية التي ترسمها الأجسام الصلبة في تحركها إلى الأشكال والخطوط الاينشتينيّة التي يرسمها سير أمواج الضوء

- 5 -

لقد رجع اينشتين بعالم الحادثات إلى الهندسة. ومن المعلوم أن هنالك ضربين من الرياضيات: ضربا ذهنيا محضا، وضربا حسيا. فالضرب الأول هو الذي تقوم عليه مبادئ الرياضة، وخاصة التحليلية منها، والضرب الثاني يتفق والأول في الماهية الرياضية، إلا أنه يختلف في كونه راجعاً إلى الحس والتجربة. والمدرسة الأكسيومانيكية تجد في مكان الرياضة المحض مكان المنطق الصوري والذهن الخالص

على هذا الأساس لو مضينا ندقق موضوع الهندسة الأوقليدية لألفينا هندسة ترجع لخواص الأجسام الصلبة وعلاقتها ببعض، فهي ضرب من الهندسة التجريبية، وبذا تعد ضرباً من الطبيعيات. والهندسة الأوقليدية ليست قضاياها منطقية تحليلية فحسب، بل هي تنطوي على أحكام تجريبية مستمدة من الاختبار والمشاهدة، وبذلك كانت بعيدة عن ساحة الهندسة الصرفة

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال من حول الهندسة الأوقليدية وعمليتها بمعنى: هل هي تلتئم من حول حوادث هذا العالم؟ وللاجابة على هذا السؤال نلجأ للتجربة، فهي الأداة العلمية الوحيدة التي تمكننا من الاجابة على هذا السؤال، فان قياس أي طول في علم الطبيعة يرجع لمبدأ انتشار النور في خطوط مستقيمة، وبذا نلفي الأطوال ترجع ضرب من الرياضة التجريبية؛ وهذه الحقيقة نخرج منها بنتيجة هامة. فالنقطة والخط. . . . . . . . . . . . . . .؛ ليس من المهم أن نقول إن معرفتنا بها عقلية، لأننا في الحقيقة نفرض صحة بعض المبادئ، ومن حول هذا الفرض نقيم هندستنا الصورية التي لا ترجع معرفتنا

ص: 35

بمبادئها إلى التجربة؛ إذ هي مبادئ أوجدها العقل الانساني وصرح بامكانها. غير أنه من المهم أن نقول إننا بارجاعنا الهندسة إلى مبدأ انتشار الضوء نقرر ضمناً ارجاع الهندسة إلى الطبيعيات الحديثة أو العكس، ويكون مقدار ما في الهندسة من الصواب بمقدار ما فيها من المرونة للالتئام من حول حقائق العالم الخارجي، وهكذا نرى الهندسة الأوقليدية تنهار حيث لا تتفق ومبدأ انتشار النور

- 6 -

(موضوع النسبية الخصوصية: تقوم على أساس أولى في تحويل موضوع الهندسة من الأشكال التي ترسمها الأجسام الصلبة اللا متغيرة إلى الأشكال التي ترسمها الأمواج النورية الثابتة)

برتر اندرسل

لنفرض ساعة في نقطة مثل (أ) حيث صدرت منها شعاعة نور في الآونة (أ) إلى النقطة (ب) فوصلتها في الآونة (ب1) ثم رجعت إلى (أ) في الآونة (أ2) فنكون:

(ب1) - (أ1) = (أ2) - (ب1) أو أن:

بمعنى أن الساعة التي في (أ) تكون متساوية في سيرها مع الساعة التي في (ب) ويكون إعلان الساعتين للزمان واحدا. فلو أردنا أن نعين زمان الساعتين في وقت واحد فما علينا إلا أن نرسل إشارة نورية بزمان النقطة (أ) إلى (ب) فتضبط استناداً عليها نقطة (ب) زمنها. وعليه تكون النقطتان متوافقتين في زمنهما، وهنا يوحي التواقت إلى الذهن فكرة أن الزمان ليس أكثر من مجرد الفواصل التعاقبية للحادثات

- 7 -

ما معنى التواقت؟

حدثت حادثة مثل (ح) في (أ) وحادثة أخرى مثل (ح1) في (ب)؛ فما معنى تواقتهما؟

للاجابة على هذا السؤال نفرض أن الحادثة (ح1) حدثت في الزمن (أ2)، كما أن الحادثة (ح) حدثت في الزمان (أ1)، فلو كان سير ساعة النقطة (أ) هو سير ساعة النقطة (ب)، وما تعلنه الساعة الأولى من الوقت هو ما تعلنه الساعة الثانية فالحادثتان متواقتتان.

ص: 36

على هذا الأساس يمكننا أن نعرف الزمان استناداً على إشعارات الساعات؛ ولكن لنا أن نتساءل: هل يصح القول بتواقت حادثتين حدثت احدهما في كون مستقل عن الآخر وهما يتحركان بالنسبة لبعض حركة انتقالية؟

للاجابة على هذا السؤال نرجع لمثالنا السابق فندقق فيه النظر فسنرى أن ساعات كل كون يمكن أن تتساوى في سيرها مع آخر، وعليه يمكننا تعيين زمان حدوث أية حادثة بأية ساعة في هذا الكون لانتشار النور خلاله بسرعة ثابتة؛ أما في أكوان متعددة تتحرك بالنسبة لبعضها حركات انتقالية كما هو جار في العالم الخارجي فلا يمكن القول بالتواقت لانعدام واسطة استخراج الحركة المطلقة. ولبيان هذا نفرض خطاً يمتد من النقطة (م) إلى (م1) طوله 9000 وحدة طولية، وأن هنالك شعاعا من النور يقطع هذا الخط من اتجاه (م) إلى (م) بسرعة 300 وحدة طولية في الساعة، ولنفرض كذلك طيارة بها راصد تتحرك من جهة (م) إلى (م1) مع شعاعة النور بسرعة 75 وحدة طولية في الساعة؛ ولنرمز للراصد الذي بداخل الطيارة بالرمز (ص1)، ولنفرض أن في منتصف المسافة بين (م) و (م1) على بعد 4500 وحدة طولية من كل من النقطتين يقوم راصد مثل (ص2) في النقطة (ن) ومعه جهاز كهربائي يمتد طرفا إلى نهاية الخط من الجهتين، وبكل طرف مصباح كهربائي يبين بإشارة نورية تأتيه من الجهاز الكهربائي الذي مع الراصد (ص2) وبالطبع ستتلاقى الشعاعتان معاً عند (ص2) في آونة واحدة

لنفرض أن الراصد (ص2) ضغط على جهازه الكهربائي فصدرت منه إشارتان كهربائيتان إلى النقطتين (م) و (م) حينما صارت الطيارة براصدها (ص1) أمامه تماماً. فهل تبدو الشعاعتان الواردتان عن المصباحين متواقتتين لكل من الراصدين (ص1) و (ص2) لأن كلا منهما في منتصف المسافة بين (م) و (م1) حينما ضغط (ص2) على الجهاز الكهربائي الذي معه؟

إن الإشارة الكهربائية ستقطع المسافة من (ن) إلى كل من النقطتين (م) و (م1) في 15 ساعةوستقطع الموجة النورية الصادرة من المصباح الذي في (م) المسافة من (م - ن) ومن (م1 - ن) في نفس المدة. فبعد ثلاثين ساعة يشاهد الراصد (ص2) الشعاعتين قد وصلتا أمامه في (ن) في آونة واحدة. هاتان الحادثتان متواقتتان للراصد (ص2)، ولكن هل

ص: 37

هما متواقتتان بالنسبة للراصد (ص1)؟

لا. لأن الراصد (ص1) يكون قد غادر النقطة (ن) عندما ضغط (ص2) على الجهاز، فيأخذ في الاقتراب من نقطة (م) بمعدل 75 وحدة طولية في الساعة، وحينما تتلاقى الشعاعتان عند (ص2) يكون هو قد قطع 2250 وحدة طولية، ويستقبل الشعاعة الواردة من النقطة (م1) قبلما تصل إلى (ن)، فعنده تجري حادثة وقوع شعاعة (م1) قبل أن تجري حادثة وقوع شعاعة (م)؛ أعني أن الحادثتين غير متواقتتين عنده. ونستنتج من هذا أن التواقت نسبي حسب المشاهد وكذلك الزمان

- 8 -

إن التواقت نسبي في أكوان تتحرك بالنسبة لبعضها حركة انتقالية كما هو حاصل في عالمنا هذا. ويصح التواقت بين حوادث كون ساكن؛ أما في أكوان متحركة فلا يصح القول بالتواقت حتى ولو وصلت الحادثات إلى المشاهد متواقتة في وقوعها، إذ يلزم أن تكون الحوادث في وضعها متواقتة؛ ولما كان السبيل إلى ذلك قائماً على معرفة الحركة المطلقة للأكوان، وكانت الحركة المطلقة مستحيلاً استخراجها، كان القول بالتواقت المطلق لغواً، وكان لكل حادثة زمان خاص نسبي لها حسب المشاهد؛ كذلك يكون التواقت نسبياً حسب المشاهد، فما هو متواقت عندك يكون غير متواقت عند غيرك

من هنا نخرج بأن الزمان نسبي، وأن التواقت نسبي، وأن زمان كل حادثة نسبي لمشاهدها

(تم البحث الأول)

إسماعيل أحمد أدهم

ص: 38

‌في الأدب الأمريكي

مارك توين

(بمناسبة انقضاء مائة سنة على ميلاده)

- 1 -

في يوم السبت الماضي 30 من شهر نوفيمبر سنة 1935 احتفل الأدباء في أغلب أقطار الأرض بانقضاء مائة عام على مولد الكاتب العبقري الأمريكي الفكه مارك توين. ومَن من الناس لا يحي ذكرى مؤلف: (مخاطرات توم ساوير)، و (هيلكبري فن)، و (الأمير والشحاذ) وغيرهما من القصص التي استهوت قلوب الصغار لفكاهتها وطرافتها، وعقول الكبار لحكمتها وبلاغتها؟ أن الذين قرأوا مارك توين قد علموا بعض العلم عن الرجل، لأنه انما يتحدث في الغالب عن نفسه او عن ذويه في قصصه؛ وقد روى ذكريات طفولته في تلك المخاطر التي عزاها إلى أولئك الأطفال الذين عاشوا على ضفاف (المسيسبى)؛ وليست العمة الشهيرة (بولي) في قصته (توم ساوير) إلا أمه. ولعلنا نستطيع أن نزيد في هذا العلم شيئاً بحكاية تاريخ حياته المضحكة المبكية المملوءة بالمخاطر والأحداث والطرف، فانها في ذاتها لا تقل امتاعا للقارئ عن سائر كتبه

فى 30 نوفمبر سنة 1835، وفى قرية (فلوريدا) بولاية (ميسوري) ازدادت أسرة المحامي (جون كليمانس) واحدا بولادة طفل خامس سموه (صمويل)، ثم صار بعد حين من الدهر (مارك توين)؛ وكان يؤكد أنه لم يكد يولد حتى وجد له محلا بين عظماء الناس، لأن ولادته زادت في عدد قريته واحدا في المائة، إذ كان تعداد سكانها مائة بالضبط

وفي سنة 1839 عين أبوه العابس القاسي قاضياً في (هانيبال) على شواطئ المسيسبي فلحقت به أسرته، وهناك قضى صمويل شطرا من طفولته. وكانت الطباع في ذلك البلد شرسة، والأخلاق منحلة؛ فالمقامرة والمعاقرة والعراك والقتل أمور مألوفة وحوادث فاشية، وصمويل قد شهد بنفسه أربع حوادث من حوادث القتل، وقد اختزن في ذاكرته جملة من مشاهد هذه الحياة وصفها في مؤلفاته. وكان في هانيبال عدد وفير من العبيد؛ وكان لأسرة كليمانس منهم ثلاثة أعبد جاءت بهم أم صمويل مهراً لأبيه. وكان هؤلاء المساكين يحبون

ص: 39

صمويل حباً جماً لرقته وعطفه؛ ولهم من ذكرياته في مؤلفاته حظ عظيم

كان صمويل في المدرسة شديد الكسل ردئ العمل، يؤثر على درسه وكتبه الاجتماع بطغمة من رفاقه الأشرار الذين أتى وياهم من المنكرات والسيئات ما قرأناه بعدُ في قصصه. وقد يئست أمه من صلاح أمره؛ وكانت سيدة جميلة ذكية متسلطة تؤثره وترعاه، ولها عليه سلطان قوي مدى عمرها الطويل إلا في الجانب الذي يتعلق بدراسته. كان تقويمه من طريق الاقتناع عبثاً، فعمدت أمه إلى تقويمه بالضرب والأذى؛ وفي ذات يوم قالت له وهي تضربه: صدقني يا بني أني حين أضربك أتألم بشدة، فأجابها بقوله: هذا ممكن، ولكنك تألمين في غير الموضع الذي أتألم منه. وهذا الجواب الذي صار مثلا يشهد هو وغيره أن صمويل كان حاضر البديهة سريع الجواب

كان من عادة مارك توين أن يقول: (إن السيد الحقيقي للانسان هو المصادفة). وذلك قول صحيح بالنسبة له، فان المصادفات الطارئات والظروف المفاجآت كثيرا ما غيرت مجرى حياته. فقد كان صمويل لا يزال على مقاعد الدرس حين فجعه الموت في أبيه، فاضطرت أمه أن تخرجه من المدرسة وتجعله (صبياً) عند صاحب جريدة (هانيبال كورييه) يعمل له من غير أجر إلا الطعام والمأوى؛ ولكن الجراية كانت وا أسفاه قليلة لا تسد رمقه. ولما أصدر أخوه الأكبر (جريدة هانيبال) في سنة 1850 ضمه إليهوعمره يومئذ لا يزيد على خمس عشرة سنة؛ ولكن النجاح لم يكن على قدر الأمل فقل عدد الموظفين واضطر صمويل إلى أن يجمع بين صف الحروف وبين ترتيب المواد، وأن يجوب بعد ذلك شوارع المدينة للتحصيل، فيعود مملوء اليدين بالحبوب لأن أغلب المشتركين كانوا يؤدون قيمة اشتراكاتهم عيناً. كان العمل كثيراً، ولكن صمويل مع ذلك كان يجد الفراغ لكتابة مقالة أو أقصوصة تظهر فيها دلائل قريحته الفكهة المنتظرة؛ وكان ينتهز الفرصة في غياب أخيه لبعض أعماله، فينشر في الجريدة ما يكتب؛ وكان أكثر ما يطرق من الموضوعات التعليق اللاذع على الحوادث المحلية، فيؤنبه على ذلك أخوه؛ ولكن الجمهور كان شديد الاعجاب بها، وأكثر القراء كانوا لا يشترون الجريدة إلا ليقرأوها

وفي ذات يوم رأى في غيبة أخيه أن يلهو مع القراء فنشر أقصوصة عن صحافي أمريكي مدع كان مولعاً بالأسفار، فوقع في بعض رحلاته في أواسط أفريقية أسيراً في قبيلة تأكل

ص: 40

لحوم البشر، فكان مصيره الأليم لا شك فيه، إلا أن شيخ القبيلة أراد أن يستجوبه طويلا عن حرفته، وعن الغاية المقصودة من رحلته، فلما سأله في ذلك أجابه المسكين وعيناه الزائغتان تنظران إلى معدات الوليمة: أنا لست إلا صحافياً متواضعاً يا مولاي العظيم. فقال له الشيخ: صحافي؟ تريد أن تقول انك مدير جريدة؟ فأجابه: أوه! كلا يا مولاي القادر ما أنا إلا وكيل حقير، فقال له اطمئن ايها الرجل الأبيض! سترقى بعد أن نصنع منك الحساء إلى مدير!!

كانت هذه النوادر المضحكة تستهوي ألباب القراء، ولكن أخاه (أوريون كليمانس) كان لا يجد لها مذاقاً ويرجو منه ألا يستمر فيها. على أن صمويل لم يحرص على البقاء في الجريدة، فقد كان نزوعاً بطبيعته إلى الاستطلاع والنقلة، ولكن افلاسه كان يحول بينه وبين قضاء هذه النزعة. وقد طلب من أمه أن تقرضه خمسة دولارات فأبت عليه ذلك حتى لا تشجع فيه هذه النزعة التي تحسبها نوعاً من التشرد والصعلكة؛ فاضطر إلى أن يتذرع بالصبر حتى يجمع المبلغ المطلوب بارة فبارة، حتى اذا ظن أنه أصبح غنياً يستطيع مواجهة العالم الفسيح فر في ليلة من الليالي يريد (أن يحيا حياته) على حد تعبيره، فكسبه الترحال والتجوال ثروة في اختباراته، ووفرة في انطباعاته، أفادته كثيراً فيما بعد حين تكتشف مواهبه النادرة عن الكاتب النابه (مارك توين)

- 2 -

على أن من النادر أن تأتي الشهرة والنباهة دفعة واحدة، فقد كان أول الطريق على صمويل وعراً، طوّف في البلاد ما طوّف حتى بلغ نيويورك، فأتقن فن الطباعة، ثم ارتد إلى هانيبال، وكان عمره إذ ذاك ثمانية عشر عاماً؛ وكان أخوه في غضون ذلك قد تزوج وأصبح مديراً لإحدى المطابع، فصار صمويل عاملا من عمالها، ولكنه كان قد تذوق الحرية وقرأ كثيراً من كتب الرحلات، فما كان يحلم إلا بانتجاع أمريكا الجنوبية على ضفاف الأمازون؛ وكان للمصادفة مرة أخرى يد بيضاء في توجيه الشاب الحالم. فقد عثر ذات يوم في الطريق على ورقة مالية من ذات الخمسين دولارا، ولما لم يجد لها طالباً في الصحف احتفظ بها وعاد من جديد يضرب في الأرض. سار على ضفاف المسيسبي منحدرا مع مجراه حتى بلغ بعد خمسة عشر يوما (أوليان الجديدة)، وهنالك أدركته خيبة

ص: 41

الأمل؛ فقد علم أن ليس في البواخر ما يسافر إلى الجنوب، وإذن لا يستطيع أن يبحر كما فكر وقدر. صفرت يده من المال، وهدده الشرط أن يعاملوه معاملة المتشرد، وأخذت حاله تسوء من يوم ليوم. . . ولكن إله المصادفة كان يرعاه، ففي الوقت الذي بلغت فيه حاله من الحرج وحياته من الضيق مبلغا شديدا، ألفى في طريقه بحاراً يدعى (بكسبي) تقدم إليهصمويل ليكون تلميذاً بحرياً في سفينته دون أن يفكر في المصاعب التي يلقاها الملاح في نهر كالمسيسبي طوله اثنا عشر ألف ميل، وبه من التعاريج ما يجب على راكبه أن يعرفها على التفصيل والجملة. ولكن وساطة بعض الأصدقاء ذللت له العقبات وسهلت عليه القبول. قضى المغامر الشاب عهد التعلم الشاق في ثبات وصبر وشجاعة، حتى غدا قائدا ماهرا للسفينة. . . أصبحت حجرة الدفة مأواه، والنهر المتنوع الحي مدرسته، فكانت هذه الحياة العاملة التي قضاها في النهر بعد تلك المقالات التي نشرها في جريدة أخيه مدرسة ناجحة لهذا الصحافي المنتظر؛ ومن مِلاحته في الماء العذب أخذ صمويل اسمه المستعار (مارك توين)، فقد كان في بعض مواضع النهر كثبان من الرمل، فإذا ما اقتربت السفينة منها سبر العامل المختص غور الماء، وقال وهو يلاحظ المسار: ارقم ثلاثة أرقم اثنين وهلم جرا. . . فأعجبت صمويل كلمة مارك توين فاتخذها اسما له. راغ صمويل من حرب الانفصال طول شبوبها، ثم سافر بعد ذلك مع رفيق له يبحثان عن الذهب، ولكن ما معه من المال نفذ سريعاً، فاضطر إلى العمل أجيرا في منجم من مناجم الذهب بعشرة دولارات أسبوعيا، وهي أجرة ساخرة إذا قيست بالعمل المرهق المنهك الذي كان يؤديه هذا المسكين. وذلك كان رأيه، فانه حين ظفر يوماً بمقابلة المدير طلب منه زيادة الأجر فقال له المدير: إنك لا تساوي شيئاً؛ ومع ذلك فأنا أحب أن أعرف ادعاءك. فقال له صمويل بأدب: إني رجل معقول، لذلك أقنع بأربعمائة ألف دولار في الشهر! فما كان جواب المدير إلا أن طرده لتّوه. ولما لقيه بعد ذلك مصادفة سأله ألم تندم على شيء؟ فقال له: بلى (بعد أن علمت ما هو العمل في المنجم كان ينبغي أن أطلب سبعمائة ألف دولار أجرة في الشهر لا أربعمائة ألف كما طلبت)

بعد هذه التجربة القاسية عزم صمويل أن يبحث عن الذهب على حسابه، فاشترك مع رفيق له، وحصل على امتياز ومضى في العمل. ولكنه تعلم على حسابه أن الثروة لا تواتي

ص: 42

الجسورين دائماً. فقد أهمل هو ورفيقه أن يسورا الأرض التي يملكان فيها الامتياز، فنازعهما على ملكها بعض الناس، وأعوزهما الدليل فآلت إلى هؤلاء المنازعين، وبحثوا فيها فعثروا على عروق خصيبة من الذهب. وكانت الصدمة قوية على الشابين. ولكن المصادفة أدركت صمويل في ساعة المحنة. إذ طلب إليهأن يكون وكيلا للإدارة في جريد (انتربريز)، وهذا المنصب في نظر صمويل كان عرقاً ذهبياً من نوع آخر، إذ أدخله على غير انتظار في حلبة الأدب. وكان دخوله في تحرير هذه الجريدة فرصة حسنة تمكنه من ناحية الإنشاء والقصص، فصقل بالتحرير أسلوبه، وهذب بالمران حكاياته، ولكن طبعه الهجَّاء وروحه المداعب الفكه لم يخمدا فيه؛ وأوشك في البداية أن يقع منهما في ورطة شديدة، وذلك أنه نشر في بعض الأيام بيانا عن حادثة قتل وقعت في محطة (دوتش نيكس) أطلق فيه لخياله العنان، فذكر أن القاتل بعد أن طعن زوجته وأطفاله التسعة بالخنجر وضرب نفسه فقطع عنقه من الأذن إلى الأذن، امتطى جوادا عدا به حتى بلغ (كنساس ستي) ثم خر صريعاً هناك. نقلت ذلك الخبر جرائد كليفورنيا كلها ثم حملت في تعليقاتها على وحشية القاتل وفظاعة جرمه، ولكن جرائد بعض الولايات القريبة روت ذلك الحادث الغريب وقالت انه حديث خرافة. فكان ذلك فضيحة طريفة للكاتب أوشكت أن تخرجه من عمله

ثم انتقل إلى (سان فرنسيسكو) واستمر يكتب في الصحف كتابة رفعت شأنه وأذاعت اسمه في ولاية (كليفورنيا)، ولكنه بعد أن نشر كتابه (قصة الضفدعة التي تثب) أصبح نابه الذكر بعيد الصيت في أمريكا أولا، ثم في سائر البلاد بعد ذلك؛ واحتل من الأدب العالمي مكانا ممتازاً لا يتبوؤه إلا القليل. كذلك في هذه المدة نال مارك توين شهرته الذائعة في فن المحاضرة، وأضاف إلى علمه العميق بفن القراءة وقدرته العجيبة على زخرف الحديث، موهبته الساحرة لجذب قلوب السامعين باللهو والضحك. ولما عزم أن يحاضر الجمهور لأول مرة كتب في الإعلان الذي ألصقه على الجدران: (فتح الأبواب في الساعة السابعة والنصف، وابتداء الضجة الفاضحة في الساعة الثامنة تماما. ولما زار إنجلترا ليلقي فيها بعض المحضرات أحس في أول اختلاطه بالجمهور اللندني بعض الفتور وشيئا من عدم الثقة، فعلم أن ليس من اليسير التغلب على الطبع الإنجليزي المتزمت المحتشم، فطفق

ص: 43

يتحدث عن أخبار رحلاته وعن انفعالات نفسه أمام جبل (يبرد الهواء على قمته بردا يجمد له مخ الإنسان في التو، وأثر ذلك في كل من يصعدونه أن يصبحوا عاجزين عن قول الحقيقة) ثم سكت قليلا وقال في لهجة نادمة ساذجة: (إني أعرف شيئا عنه لأني صعدت فوقه!) فانفجرت قاعة المحاضرة بالضحك الغرب، واعتقد ساعتئذ أنه ربح الصفقة واكتسب السامعين

وكان يلقي ذات مرة محاضرة في (بوستن) فقاطعه أحد السامعين وسأله رأيه في الجنة والنار، فأجابه (لا أريد أن أبدي رأيي فيما تسأل، لأني لي أصدقاء كراما في هذه وفي تلك!)

كان مارك توين ذكي القلب متوقد الذهن، ولكنه لم يكن على شيء من حسن السمت وجمال الشارة، فقد كان هندامه مهملاً ولقاؤه فجاً ومعاملته خشنة؛ على أن السنين صقلت هذا الفلاح فاكتسب سمت النبلاء بفضل امرأته (أوليفيا كليمنس) التي بنى عليها في سنة 1870. وكانت هذه السيدة أنيقة مثقفة ذكية، فأثرت تأثيرها الجميل في زوجها، ودامت حياتهما الزوجية خمسا وثلاثين سنة لا يكدر صفاءها حادث، ولا ينغص هناءها خلاف. وقد جاهدت هذه الزوجة الكريمة في إصلاح زوجها، فلمت شعثه وحالت بينه وبين بعض الأمور التي لا تلائم مكانته. كانت ترعاه رعاية الأم لطفلها، فلا تدعه يخرج إلى مكان ما قبل أن تفحص هندامه فحصاً دقيقاً مخافة أن يكون في شكله وزيه ما يخالف العادة

وكانت تنبه إلى كل شيء حتى إلى خلع معطفه في المدخل قبل أن يدخل البهو. فإذا غابت ذات يوم كانت الطامة، فقد اتفق مرة وهما في واشنجطون أن خرجت السيدة كليمنس لبعض شأنها، وكان على مارك توين زيارة لابد أن يؤديها إلى سيدة من سيدات الطبقة العليا. فارتدى ثيابه بنفسه وخرج دون أن يخضع هذه المرة لتفتيش زوجه. أدى الزيارة وعاد إلى مكتبه في زيه الفاخر وطفق يعمل. وكانت زوجته قد عادت في هذهالاثناء فدخلت عليه تلاطفه وتسأله عن الزيارة. ولكنها لم تكد تلقي على السيد نظرة حتى رفعت يدها إلى السماء وصاحت قائلة: يا الله! أفي هذه الهيئة زرت السيدة فلانة؟ فأجابها: وهو قلق يعيد النظر في نفسه خلسة: ماذا؟ ألست في زي أنيق وشارة حسنة؟ فقالت: ولكن أين رباط رقبتك؟ لقد نسيت رباط رقبتك! يا للفضيحة الفظيعة يا عزيزي!! فأجابها بلهجة

ص: 44

مصالحة: (أهذا كل ما هنالك؟ لا تضايقي نفسك فسأسوي الأمر) وما كان أشد دهشة الزوجة حين علمت في اليوم التالي كيف سوى زوجها الأمر! علمت أنه أرسل رباط رقبته مع الخادم إلى السيدة التي زارها مصحوباً ببطاقة كتب عليها: (هذه تكملة زيارتي)

على أن الدهر لم يسالم الكاتب النابغ طويلا، فقد فجعه الموت في ثلاث من بناته قضين صغيرات، وجل الخطب وفدح الرزء بفقد زوجته المحبوبة؛ ولكنه عاد فتصرف على هواه، وقرر بعد موت زوجته ألا يرتدي غير الثياب البيض وقد حرص على اتخاذ هذا اللون بقية عمره

كان مارك توين رقيق القلب شديد العطف على الناس يقابل ضعفهم بالتسامح، وبؤسهم بالرحمة، وجرمهم بالعفو؛ وذلك في شيء من الفكاهة الحلوة والدعابة الخبيثة. دخل اللصوص ذات ليلة في منزله في (إستار مفليد) وسرقوا كل ما وجدوه من الأواني الفضية؛ وكانت هذه السرقة شغل البيت وحديث أهله بالطبع، فأخطروا الشرطة وأذاعوا الخبر وتقاسموا الهم، إلا مارك توين، فقد كان في هذه الضجة هادئاً لا يعبأ بشيء ولا يقوم بحركة؛ فلما هم بالانصراف ليلاً إلى مخدعه علق في مكان ظاهر من مدخل الدار ورقة كبيرة كتب فيها هذه الكلمات

(اعلان للصوص في المستقبل)

ليس في المنزل بعد الآن أوان فضية بل مفضضة، وهي في ركن من أركان قاعة المائدة بجانب السلة التي تنام فيها القطط الصغيرة؛ وإذا احتجتم إلى هذه السلة فلا تنسوا أن تضعوا القطط في درج البوفيه الأسفل. أرجو ألا تحدثوا ضوضاء، وأن تغلقوا الباب وراءكم، وتقبلوا خالص احتراماتي.

(س. كليمانس)

ومن السهل أن نتصور ما قابلت به الأسرة هذا الاعلان من الدهش العظيم والضحك الشديد. وهكذا عاش ممثل الذكاء الأمريكي حتى توافاه الله في 21 ابريل سنة 1910 وهو في أوج مجده

ص: 45

‌حول السنين والشيعة

إلى الأستاذ أحمد أمين

للأستاذ السيد محمد صادق الصدر

يسرني ويسرني جداً أن أقرأك أيها الأستاذ الأمين على صفحات (الرسالة) - صحيفة الأدب الخالدة - حاملاً لواء الوحدة، داعياً إلى الاتحاد والألفة. وإن في لحنك الجديد العالي - يا أستاذ - لذة ومتاعا، وإن فيه كل ما تصبو إليهالنفوس الحساسة الشاعرة، وإن تفسيرك للفظة الشيعية التي وردت في كتابيك الجليلين وسفريك الثمينين: فجر الإسلام وضحاه، وتصريحك بأنك لم تقصد من لفظ الشيعة الأمامية الاثني عشرية منهم، وإنما قصدت المغالي الممعن في غلوه، كل ذلك منك عاطفة مشكورة هذه لدليل أقوى دليل، وبرهان أسطع برهان، على أدب نفسك وطهارة ذاتك، وعظيم أخلاقك وخلالك. وكن على يقين معي بأن تصريحك هذا قد رفع سوء التفاهم وأزال من نفوس إخوانك الشيعة البررة كل ملامة وعتب؛ وإذا قرأت أو سمعت عن مفكريهم شيئاً لا يرضيك، فإنما كان ذلك غيرة على طائفتهم ودفاعاً عن آرائهم ومعتقداتهم، وهذا طبيعي لكل أمة تحتفظ بكرامتها، وتحرص على سمعتها؛ واسمح لي بأن أقول إنهم لم يخطئوا إذ فهموا من لفظ الشيعة أنك عنيتهم ما دام لفظ الشيعة مطلقاً غير مقيد؛ وليس في كتابيك (فجر الإسلام وضحاه) عبارة واحدة على تقييد الشيعة بالغالية لتخرج الاثني عشرية عن لفظ الشيعة المطلق الذي يشمل فرق الشيعة المتعددة؛ ومن المقرر في أصول الفقه أن المطلق إذا لم تقم قرينة تدل على تقييده يحمل على إطلاقه. وقد تكون ثمة قرائن - لا قرينة واحدة - قامت لدى الشيعة على الإطلاق وحملتهم على ما فهموه، فان ذكرك للفظ الشيعة مطلقاً أيضاً في كتابك (ضحى الإسلام) - بعد أن زرت العراق وطفت بمدن الشيعة، واجتمعت برجالاتها، وعرفت الشيء الكثير من عقائدها وآرائها - سوغ لهم هذا الفهم وحملهم على أن يعتقدوا هذا الاعتقاد؛ ولست أريد بكلامي هذا أن أثبت أنك تقصد ما فهموه، وإنما أريد أن أقول إنهم لم يخطئوا في فهمهم ما دام إطلاق اللفظ كان يحتم عليهم فهم ذلك. وعلى كل حال سترى من الشيعة إخواناً شاكرين أفكارك وآراءك الأخيرة

وأود أن ألفت نظرك إلى نقطة مهمة وردت في مقالك القيم، فقد قلت: (وليست الأمامية

ص: 46

التي يدين بها أهل العراق وفارس إلا فرقة واحدة من فرق عديدة بعضها باق إلى اليوم، وبعضها عفى عليه التاريخ). إن الطائفة الاثني عشرية هي الطائفة الوحيدة اليوم من طوائف الشيعة وهي مبثوثة في العراق وفارس والهند وأفغان وسورية والبحرين والحسا والقطيف وفي غيرها من الأقطار الإسلامية، وكل ما يبرز للعالم من آثار علمية ومنتوجات أدبية هو مما دبجته أقلام علماء هذه الفرقة وكتابها وشعرائها، ولم يبق من طوائف الشيعة المتعددة غير هذه، اللهم إلا بعض طوائف ضئيلة لا تذكر. لذلك أصبح لفظ الشيعة اليوم خاصاً بهذه الطائفة يتبادر إلى الذهن لدي إطلاقه؛ وقد بادت - والله الحمد - أكثر هاتيك الطوائف الضالة التي شوهت سمعة الشيعة. وأملي وطيد ألا تعرض في الجزء الثالث من فجر الإسلام إلى غير هذه الطائفة لأنها هي الطائفة الوحيدة من بين طوائف الشيعة المتعددة، التي يطلق عليها لفظ الشيعة بكل ما لهذه اللفظة من معنى؛ فهي التي شايعت علياً عليه السلام وتابعته في أفعاله وأقواله، وليست طوائف الشيعة الضالة من التشيع في شيء ما دامت أفعالهم وأقوالهم لا تتفق وأقوال أهل البيت عليهم السلام وأفعالهم. ومن الخطأ جداً أن نجعل المقياس والجامع للتشيع حب علي (ع)، لأنا إذا أردنا أن نجعل المقياس هذا العنوان وجب أن نطلق على السنيين لفظة الشيعة أيضاً، لأنهم يحبون الأمام ويقدسون شخصيته، فالمقياس للتشيع إذن هو المشايعة والمتابعة، وهو الذي يقتضيه لفظ الشيعة؛ أما الطوائف التي لا نجدها مطابقة لهذا اللفظ فليست من الشيعة في شيء وإن ألصقت نفسها إلصاقا واتخذت لها هذا الاسم وساماً

أما ما رجحت من عقد مؤتمر في بغداد يجمع بين علماء الطائفتين، ويؤلف بين الفرقتين فهذه فكرة ناضجة، وأصبحت اليوم محتمة. وجدير بكل مسلم أن يبث هذه الدعوة، ويسعى لتحقيق هذه الفكرة فقد آن أن نتفق ونتحد، وآن لنا أن نوحد الصفوف ونجمع الكلمة، وآن لنا أن ننبذ النعرات الطائفية التي كانت السبب الوحيد في شق عصا المسلمين وبث روح الخصام في نفوس الأمة المسلمة التي كان يسودها الاتفاق، ويعلو سماءها الحب والوئام. وحري بنا - ونحن في هذا العصر الذي كثر فيه أعداء الإسلام ومناوئوه - أن نتناسى الماضي ونسدل حجاباً كثيفاً على كل ما من شأنه أن يكدر الجو ويثير العداوة والبغضاء. وإذا فرقتنا المذاهب بالأمس فستجمعنا المصائب اليوم. وإني أتذكر كلمة خالدة في هذا

ص: 47

الموضوع لعلامة جبل عامل الأكبر الأمام السيد عبد الحسين شرف الدين نوهت عنها مجلة المنار الإسلامية، فقد قال عن الطائفتين:(فرقتهما السياسة، وستجمعهما السياسة)؛ فالسياسة التي فرقت بينهما طيلة الأعصر الماضية هي هي التي ستجمع بينهم في هذا العصر وتوحد صفوفهم في الأعصر الآتية؛ وإن الواجب ليحتم على كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية أن يبث روح الاتفاق الحية، ويسعى جهده في كل ما يرجع إلى صالح الأمة، (فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، ولكن مما لا شك فيه أن المسؤولية العظمى تلقي على عاتق العلماء والمفكرين من الأمة، فانهم هم القادة، وهم الذين يقدرون الواجب، وهم الذين يحسون بمسيس الحاجة إلى بث روح الاتفاق والألفة، وهم قادرون - بما أوتوا من علم وحكمة وقوة بيان - أن يخضعوا العامة لآرائهم ونظرياتهم؛ وإذا قام العلماء ببث هذه الروح، وقاموا بإيجاد مؤتمر إسلامي عام، فإنما يقومون بواجب تفرضه عليهم حالة الأمة الإسلامية الحاضرة، وتحتمه آي القرآن الكريم ونصوص السنة المقدسة؛ فالقرآن الكريم يحض على الاتفاق، ويحث على الألفة فيقول:(إنما المؤمنون اخوة)، ويقول:(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)، ويقول:(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) ويقول (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) إلى غير ما هنالك من الآيات الكريمة التي تحتم على المسلمين أن يتفقوا، وتحذرهم أن يتفرقوا فتذهب ريحهم، ويخسروا عزهم ومجدهم. ونحن لو رجعنا إلى السنة النبوية المقدسة لوجدناها تضرب على هذا الوتر وتلحن أحاديثها الشريفة على هذا التلحين، وتواجه المسلمين بنحو هذا الأسلوب فتقول:(ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، وهم يد على ما سواهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل) والأحاديث في ذلك كثيرة. وكان صلى الله عليه واله وسلم يبث هذه الروح المباركة ويحض عليها بمختلف التعبير، وكان لإرشاداته (ص) وتعاليمه القيمة دوي عظيم في أنحاء الجزيرة العربية، وأثر في نفوس المسلمين الأثر الذي جعل فيهم روحا وثابة حية كانت هي السبب الوحيد في رقيهم الباهر، وتقدمهم العظيم. فالأمة الإسلامية ما اجتازت تلك المراحل، وما وصلت إلى ما وصلت إليه من المجد والعظمة إلا بالتمسك بالاتفاق والاعتصام بحبله المتين؛ بفضل الاتفاق أصبحت الأمة الإسلامية أمة

ص: 48

حية، وبفضل الاتفاق تربعت على دست الحكم وقبضت بيدها الحديدية على أنحاء المعمور. وإذا أردنا أن نسترجع مجدنا القديم ونسترد عزنا السالف لتحتم علينا أن نتقدم للعمل حاملين هذه الروح الوثابة المباركة. (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).

بغداد - الديوان

محمد صادق الصدر

ص: 49

‌وا أُمَّاهُ!!

للأستاذ الحاج محمد الهراوي

تكَشفْتُ للأَحداثِ بعدكِ يا أُمَّي

فيا طولَ ما أقَي من الحزنِ والهمَّ

ليَ الله يا أُمَّاهُ ما أَنا بالّذي

تعَوَّد أَنْ يَقْوَى على الحادثِ الجَهْم

تلمَّسْتُ حَزْمِي في المصاَب فعزَّني

لقد غاب عنَّي في الثرى مَصْدر الحزم

فقَدْتُ الّتي كانتْ إذا شطَّ بي النَّوَى

تُساَئِلُ عنَّي في الدُّجى سَارِيَ النَّجم

وإن تَرْمِنِي الأقدارُ منها بحادِثٍ

تَلَقَّفُه عنَّي على الرُّوح والجِسْم

وإن تَرِبَتْ كفِّى تجودُ برُحها

مخافةَ ما لَمْ أحتمِله من العُدْم

وإن مسني سُقْمٌ ثوَتْ عند مَرْقدي

لِزاماً فلم تَبْرَحْهُ إلاّ معَ السُّقْم

عَلى أَنَّها والسُّقْمُ يَرْى عِظَامَها

تُحاوِلُ أن تُخْفيهِ عَنَّيَ بالكتْم

ولو أنها استطاعت لأَخْفتْ حِمامَهاَ

وقد حُمَّ، إشفاقاً عليَّ من الضّيْم

فيا رَحْمَتاَ للفاَقِدِي أُمَّهاتِهِمْ

من الناسِ مِثلي أو من الطيْر والبُهْم

فإِن الحنَانَ الحقَّ في الأمَّ وحدهاَ

وغيرُ حناَنِ الأُمَّ ضَرْبٌ من الوهْم

هِيَ الأُمُّ شِرٌّ لستَ تَعرِفُ كُنهَه

وإن خِلْتهاَ في صورةِ الدَّمَّ واللَّحم

يقولون فانظُرْ رسمهاَ بعد موتِها

فقُلتُ لهم في الرَّمْسِ أُمِّيَ لا الرَّسم

فإِن فاتَني ذاك الحنَانُ التَمَستهُ

على حسْرَةٍ من ذلك القَبر باللَّثْيم

دَفَنْتُ به من لا يني إن دَعَوْتُه

إلى معشَرٍ صُمّ إذا ما دُعُوا بكْم

فإن قلتُ يا أُمَّاهُ أَغْنَاني اُسْمُهاَ

عن الأَبِ والأبناء والخالِ والعَمِّ

عصامِّية كانت على حينَ أنَّهَا

لها نسبٌ فوق النّقيصةِ والذَّمِّ

وأُمِّيَّة كانت ولكنَّ رَأْيهاَ

لدي مُعْضِلَاتِ الأمرِ فوقَ ذوي العِلْم

فقَدْتُ أبي طْفلاً فلم أَدْرِ ما اُلأَسَى

وأُفقِدْتُهاَ كهلاً فَهدَّ الأسى عَزْمي

سَلونِي أُحَدِّثْكُمْ عن اُلْيتمِ بَعْدها

فإنَّ الْيتيمَ الكَهْلَ أَعْرَفُ باليُتْم

فيا ليتَ أَيامَ الحياةِ وقَفْنَ بي

لدى مَوضعِي منها من اللثْمِ والضّيمِ

ويا لْيت لمَ يَقطَعْ بنا الدهرُ شَوطَهُ

فإِن خُطَاهُ للِقطيعةِ والصَّرْ

سَرَي لِيَ يا أُمَّاهُ طَيفُك في الكَرَى

فغَابَ خَيَال الأُمِّ عن زَوْرةِ الأُ

ص: 50

وأنَّى لِيَ السَّلْوى وقد حالَ دُونَها

مِثاَلكِ في عيني وطَيفكِ في حُلمِ

سأَخْضَعُ يا أُمِّي لقلبي ومَدْمَعِي

على رَغمِ ما أسْديتِ من نُصْحِكِ اُلجَميل

وأبكيكِ بالقلبِ الذي تَعْرِفينَهُ

وللدَّمْع شأنٌ غير ذلك في الحُكم

ص: 51

‌ليلة حوراء

للأستاذ عبد الرحمن شكري

رق الظلام بليلة

حوراء كالطرف الكحيلْ

سحر العيون كسحرها

بين الشواهد والشكول

هي فتنة الحدق الملا - ح ونعسة الطرف العليل

رق الظلام كأنه

مُتَفيَّأُ الظل الظليل

في روضة فينانة

هجر الهجيرُ بها المقيل

وصفا الدجا فكأنما

مزج النهار به الأصيل

فتمازجا كتمازج ال

ماء المُصَفّى والشَّمُول

في جنحها وصفائها

قُرِنَ الجليل إلى الجميل

وتصالحا من بعد ما اف

ترق السبيل عن السبيل

تحنو علينا مثلما

يحنو الخليل على الخليل

وتخالها حُلُماً بسع

د جل عن قيد العقول

ولرب ليلٍ فاحم

فيكاد يُقْطَعُ أو يسيل

لا مثل لَيْلَتيَ التي تندي على الوجد الدخيل

في سحرها وصفائها

ونجومها برء الغليل

عم السكون كأنه مَلَكٌ على الدنيا نزيل

فكأنها رسم بدا

وكأنها حُلُمٌ مخيل

في مثلها من هدأة

سكن القضاء فلا يصول

وكهدأة في معَبد

للخاشعين به مثول

وكأنما أغفى الهو

ء كغضة الطرف الكليل

والبدر طيف في المنا

م يطيف كالحِبَّ الوَصول

في مثلها من ليلةٍ

عبد الداني أهل الحلول

ورأوا تَجَلِّي الله في

كونٍ عراه له ذهول

والزهر كالمسحور وس

نان المحاسن في ذبول

ص: 52

والنهر غافٍ راكد

نَسِيَ الترقرق والميل

وسنان يحلم بالريا

ض وظلها فيه الظليل

في مثلها من ليلةٍ

يقف الزمان فلا يحول

يصغي إلى نجوى القلو

ب وذكرها العهد المحيل

كوقوف نجم سمائها

يثنيه من سحر ذهول

كذهول مسحور بما

تجلو من الحُلُمِ الجميل

يا ليل بل يا سحر بل

يا حُلْمُ ليتك لا تزول

عبد الرحمن شكري

ص: 53

‌الحياة

للأستاذ فخري أبو السعود

ليت شعري لأي أمرٍ مُراد

قد سرتْ منكِ نفحةٌ في الجماد؟

فاستقلت أجزاؤه من همود

وصحا بعد طول ذاك الرقاد

دائبَ السعي لا يمل حراكاً

مستمراً ولا طويل جلاد

ساعياً دون غاية يجتليها

سعي ذي غاية جَلَّيِ المراد

صابراً للصروف كيف توالت

مستجما للنازلات الشداد

فيك بؤس له وفيك نعيم

وهو في الحالتين لهفان صاد

يبلُغ الجوعُ منه والخوف والحز

ن وعادتٍ من نازل الداء عاد

باسماً للرجاء يشرق بعد ال

كد منه وبعد وَعْزِ الجهاد

آملاً كيفما تمادى شقاءٌ

أن يدورَ الزمان بالإسعاد

وهو مهما أصاب خيراً مُريغٌ

غيره منك طامعٌ في ازدياد

وهو مهما طال البقاء به را

ج بقاءٌ وراغبٌ في التمادي

وحريصٌ على هواكِ وأنْ لم

تتْق غير الجفاء والإبعاد

فرط حبٍ قد استوى أفتَكُ الفُتّ - اكِ فيه وأزهدُ الزُّهَّاد

ليس يدري سواكِ أصلاً وفصلاً

ليس يَسْبيه غيرَ وَاديكِ واد

يكره الموتَ جُهْدَهُ وهو رَوْحٌ

وقرارٌ له على الآباد

وإذا حَنَّ للخلودِ تَقِيٌّ

يبغي بالصلاح دارَ الرشاد

فهو يبغي في الخْلدِ ما فيكِ من نُع

مى ومن فتنةٍ ومن إرغاد

وهو يبغي جميع ذلك صفواً

من صفوف القذى وَريْب العوادي

وهو يبغي جميع ذاك مُقيماً

مستمراً له لغير نفاذ

جَنّةُ الُخلدِ صورةٌ منكِ تَغْذُو

منه شتّى المُنى وحاج الفؤاد

فخري أبو السعود

ص: 54

‌فراق

للأستاذ رفيق فاخوري

يا خدينَ الصِّبا رعى الله عهداً

لم يلد مثله الزمان المقلُّ

لا أرى لي عمراً سواه فأولا

ظله لم يكن لمحيايَ ظل

هو فصلٌ من النعيم نهبنا

هُ قصيراً، ولذةٌ لا تُمل

لُممعٌ من سعادةٍ ورخاء

أَعقبتْ حسرةً تَمُرُّ وتحلو

زعموا البعدَ منتهى كلِّ أُنسٍ

وفراقَ الأحبابِ خطباً يَجِلُّ

قلتُ: إنْ أزمعَ الخليطُ احتمالاً

ففؤادي بالوجد لا يستقل

نحن كلٌ بَحدة الروح يحيا

وجميعٌ على العُداة مُطِل

فإذا ناله التفرقُ يوماً

لم يكنْ فيه للحياة مَحلُّ

يا مَعين السلوان ليت لقلبي

ما يُميت الحنينَ فيه فيسلو

آتهِ جرعةً تغول حجاه

عَلّة من بواعث الهم يخلو

كاد من لوعةٍ وفرط اشتياقٍ

عن حماهُ بين الأضالع يجلو

ضاقَ عن حُبّبه فتىً ذا مراسٍ

واشتكى من عذابه وهو طفل

حمص

رفيق فاخوري

ص: 55

‌القصص

صور من هوميروس

17 -

حروب طَرْوادة

طوفان للأستاذ دريني خشبة

تفَزّغ الطرواديون مما أخذهم به أخيل؛ وزادهم خبالا هذا الظلام الذي راحوا يضربون فيه على غير هدى، والذي تمد حيرا في دياجيره فيتدجى فوق الساحة الصاخبة، ويمكن لابن بليوس من أعدائه فيضرب في أقفيتهم، ويهوي على أعناقهم، ويمسح بِسُوقهم ويضرب كل بنان

وضاق الجسر بجموع الفارين، فاضطروا إلى خوض عباب النهر الزاخر، وخَوَّضوا فيه بخيلهم ورجلهم. . وتطامن لهم سكمندر فسكنت أواذيه، ونامت جراجره، وانكشف قاعه عن حصباء كالدر النضيد. . . .

وتبعتهم أخيل فخاض مياه النهر، ثم أعمل سيفه ورمحه، فكانت شآبيب الماء تختلط وشآبيب الدماء، وأنين القتلى يمتزج وأصداء المنهزمين، والجماجم المنتثرة تصطدم بالأشلاء الطافية هنا وهناك، والسماء الكاسفة ترسل عقبانها تغتذي بالجزر المتساقط في رحب المعركة، من بطون مبقورة، وهام مُفَلّةٍ، ولحم مقروم. . . . . . . . .

واستطاع أخيل أن يحصر اثني عشر شاباً فيأخذ عليهم سبيل الفرار، وفضل أن يرسلهم إلى سفائنه أسرى حتى لا يثخن في الأرض، وحتى يشهدوا ثمة ذلك القتيل المسجي، تسقيه ذيتيس الحزينة خمرا؛ فكبل أرجلهم وأيديهم من خلاف، ووكل بهم جماعة من رجاله فقادوهم إلى الأسطول، بعد ما وقفوا هنيهةً أمام جثة بتروكلوس، يؤدون لها تحية المعركة التي دارت رحاها عليهم، واصطلوا من بعده بنارها

وطفق أخيل يأخذ الجموع من كل حدب، ويلقاهم في كل صوب، حتى كان وجهاً لوجه أمام ليكاون بن بريام، الذي كانت له معه قصة قديمة مشجية، زمان إذ أسره أخيل واستاق قطعانه، وحبسه في جزيرة لمنوس، حتى افتداه أهله من الحرس الموكل به، ورشوهم بمائة ثور جسد ذي خوار ليطلقوا سراحه!

ص: 56

مسكين ليكاون بن بريام! لقد فر من جزيرة لمنوس منذ اثني عشر يوماً فقط، وسعى إلى هذه الساحة النكراء ليلقى فوق أديمها حتفه، كما لقيه أخوه بوليدور من قبل

ودهش أخيل إذ رأى ابن بريام يذرع الميدان أمامه، وعجب من أفلته من منفاه السحيق في عرض البحر. . . ثم أيقن أن في الأمر مكيدة. . فانقض على الفتى المسكين انقضاض الباشق، وأرسل إليهطعنة نجلاء كادت تخترم أجله، لولا هذه اللفتة الرشيقة التي أنفتلها الشاب فأنقذت حياته. . . ولو إلى حين!

وفتح الفتى عينيه فنظر إلى شبح الموت تنتشر سماديره من ظباة أخيل، وأحس كأن هذا الشبح يلاحقه في كل مكان فيقبض على عنقه ويضغطه، ثم ينشب فيه أظافره فيسري السم في هيكله الخاوي فلا يكاد يبين!

وحاول أن ينجو من روع هذا الموقف. . ولكنه كان أبطأ من حتفه الذي يسابقه، فلما أيقن أن لا سبيل إلى الفرار، ألقى سلاحه وتقدم إلى أخيل فقبل ثرى الساحة عند قدميه، ثم لف ذراعيه المرتجفتين حول ساقْي زعيم الميرميدون، وطفق يضرع إليهألا يقتله. . (فان لي أماً محزونة ما تفتأ ترسل دموعها على أخي بوليدور الذي قتلته منذ لحظة، والذي أذويت شبابه النضر ولم تبق على عوده الفينان، ولم ترحم فيه قلوباً تعطف عليه، وأباً شيخاً أصبته في ولده بقاصمة الظهر. . .

أرسلني يا أخيل تباركك الآلهة، وترعاك أرباب الأولمب، ولا تفجع فيّ ذيْنك القلبين الحنيين على، الحفيين بي. . .)

وكان الفتى يغسل توسلاته بعبرات شبابه، ويصهرها بآهات صباه. . . ولكن أخيل الذي يضطرم حزناً على بيروكلوس، لمتأخذه رحمة في ابن بريام المسكين، وأخي هكتور الذميم. . .! بل استل جزاره البتار وأهوى به على عنق الفتى. . . فطاح الرأس الطروادي الكريم!

وكان البطل الطروادي العظيم، سترابيوس بن بلجون، رب البركات، الذي يدين له بحياته أكسيوس رب النهر الشرقي الكبير. . . كان سترابيوس على مقربة من أخيل وهو يصرع ليكاون بن بريام، فجزع - شهدت الآلهة - على ابن الملك، وأحزنه ألا يرق أخيل لتوسلاته؛ ووقر في نفسه أن يقتص له من هذا الشيطان، ويخلص الطرواديين منه، فيطير

ص: 57

ذكره في الخافقين ويقترن اسمه بما لم يقترن به اسم أحد في العالمين. فيمم شطر أخيل والكبرياء تنفح أوداجه، والغرور يشيع في أعطافه، ثم هز رمحه هزة المتحدي الخصيم. . .

وزجره أخيل فلم يزدجر، فانقض عليه انقضاض الحتف، وأخذه أخذ المنية، لا تجدي فيها إذا أنشبت أظافرها النمائم، ولا تدفعها الرُّقي، ولا تُفلت من أقصدته ولو كان في برج مشيد!

وأرسل أخيل رمحه كالصاعقة، لو لقي الصخر لقده، أو الجبل لنفذ فيه، ولكن سترابيوس كان أرشق من أن يلقي الطعنة فانزلق انزلاقه خفيفةً أذهبت الرمح في الهواء، ثم هوى إلى الأرض فغاص فيها؛ ومن ثمة راح يداعب أخيل حتى أحنقه وحتى بلغ الغيظ منه، فامتشق بن بليوس سيفه وصرخ صرخة رجفت لها السماء، وانصدع من هولها جانب الجبل، وهجم على سترابيوس هجمة رابيةً فلم يفلته، بل أرسل السيف في بطنه فخرج سنانه من ظهره، وبرزت الأمعاء فاجتمعت حولها أسماك الماء، تنوشها وتتغذى بها.

وريع سكمندر، رب النهر العظيم، إذ نظر فرأى ابن ضيفه المقدام، يلفظ أنفاسه، ويُساقط نفَسه، فدارت الأرض به، وضاقت عليه بما رحبت، وتجهم من تَوّه لأخيل، وود لو انشق فابتلع ابن بليوس آخر الدهر، أو لو يأخذ هو سيفاً فيقد به أضلاعه، ويطيح به رأسه، ويريح العالم من بأسه. لكنه آثر، كأله له وقاره، أن ينذر أخيل ويأخذه بالحيلة، فخاطبه من القرار، قال:(أخيل! يا ابن بليوس العظيم! أنا لا يهمني أن تصطلم الطرواديين جميعاً، ما دام زيوس قد سلّطك عليهم ورماهم بك. . . أنا لا يهمني من ذلك شيء. . . ولكن الذي يحزنني ويضيق به صدري هذه الجثث الكثيرة التي يعج بها عبابي، وينتشر منها الخبث في أرجائي. . . لقد أنتنت يا أخيل، وخالطت عذوبة مائي، ولم يعد لي بها طاقة، ولا عليها جلد. . . وهي إلى ذلك كادت تقف تياري، وتشل حركتي. . . فهلم فارفعها عني، وقف التصريع والتقتيل حتى تطهر مجراي من أدرانها وحتى ألفظ أنا إلى البحر ديدانها. . .)

وتبسم أخيل قائلا: (أما أن أقف هذه الحرب فلا سبيل إلى ذلك حتى آخذ بثأر بتروكلوس، وحتى أدك طروادة على رأس هكتور، فاما أن ألقاه فأقتله وإما إن يلقاني فيقتلني؛ وأما أن أطهر مجراك من هذه الجثث الطافية فوقه فليس لي الآن بذلك يدان. . . أو تضع هذه

ص: 58

الحرب أوزارها. . .)

وحنق سكمندر العظيم، وانطلق إلى أبوللو يكلمه في أمر أخيل، ولم يدعه أبوللو حتى أغراه بابن بليوس أعدى أعدائه، وأشد شانئيه، وحتى أثاره عليه، وهاج فيه كل حقد دفين. وعاد سكمندر فأشار إلى الماء فعلا وفاض، وإلى الموج فتلاطم وجرجر، وإلى الأواذي فدوّمت وهوّمت، ولاحقت أخيل من ههنا ومن ههنا؛ وظن ابن بليوس إلى الخطر الذي أوشك أن يحيق به فهرع يحاول الفرار. . . ولآت حين فرار. . . فقد أزبد الموج، وانساب العباب، وتشققت الأرض عيوناً ومسايل، وعَمُقت اللجة، وبعد ما بين سطحها وبين قدمي أخيل، أو ما بينه وبين قرارها، فأطلق المسكين ذراعيه يسبح في أغوارها، ويتعلق بالجثث الطافية فوقها

وأشتد الخطب، وعظم الكرب، وصرخ أخيل يستنجد أربابه، فما كادت حيرا تسمعه حتى فزعت إليه، وأمرت فلكان ابنها فانطلق يجفف الأمواه بنيرانه، ويرسل على الطوفان بدخانه، ويستعين في كل ذلك بآلهة الريح التي هرعت إليهمن كل صوب تساعده، وكان زفيروس الكريم يهب على النهر اللجي سجسجاً، ويذهب منه بكل مزنةٍ مثقلة، وديمة محملة، فلم يمض غير بعيد حتى صفا الجو، وغيض الماء، وبرز أخيل يحمل عدته، فطربت الآلهة لنجاته، وانقض فلكان على سكمندر يحاول أن يثأر لأخيل منه. . .! ولكن بعد أن عاهد حيرا - إذ هي صدت عنه ولدها فلكان - أن يحصر الطرواديين بموجه، فلا يمكنهم من الدخول إلى مدينتهم، ويجعلهم بذلك هدفاً لأخيل يصنع بهم ما يشاء!!

وتثار الخصومة بين الآلهة لموقف فلكان من سكمندر. . . ويغيظ مارس من مينرفا أنها تؤيد فلكان وتحرضه على رب النهر المسكين الذي أفزعته النيران تأخذه من كل حدب. . . فتقدم إليها وطفق يقرعها وتقرعه، ويرميها بالمثالب وترميه بها. . . ثم تناول رمحه العظيم واستجمع كل قوته، وأرسله يود لو يقضي به على ربة الحكمة الحازمة، ولكن، ويل لك يا مارس! لقد ارتد الرمح فلم يستطع إلى درع مينرفا من سبيل. . . وانحنت الآلهة المغيظة فأخذت حجراً من أكبرا حجارة الجبل وقذفت به مارس فدكت عنقه، وتركته على السفح الشاحب لَقًي من ألقاء هذه الحرب!

وظل مارس ممدداً على السفح يخور ويئن، ويتلوى بجثته العظيمة التي كانت ترتطم

ص: 59

بالجيل فتميد به، وتهزه هزاً ظاهراً

وأقبلت فينوس فوقفت تواسي مارس وتهون عليه ما فعلت به مينرفا، ثم أنهضته وانصرفت به، ولكن حيرا أرسلت في إثرهما مينرفا، ترى ما يكون من أمرهما. . . بعد كل تلك الفضائح التي لوثت شرفهما، وجعلت اسمهما مضغة في جميع الأفواه. . .

وأقبلت فينوس على مارس تشفي حرقةً في قلبه، وتنيله من قبلاتها ما تنسيه به بعض الذي لقيه من أذى. . . ولكن مينرفا أهابت بهما. . .! وطفقت تنصح لهما أن يدعا اليوم فلا ينصرانها على شعبهما المختار. . . هيلاس العزيزة! ولكن. . .! لقد أسمعت لو ناديت حياً. . .! فلقد أعطيت فينوس موثقاً، وان فينوس لصادقة. . .!!

وانطلق نبتون يعظ أبوللو، ويصرفه هو الآخر عن مؤازرة الطرواديين، فذكر له أيام أن نفاهما زيوس إلى أقصى الأرض، فأتيا إلى طروادة، وعملا في خدمة أميدون الجبار، الذي لم يتورع أن يرسل أبوللو فيرعى له قطعانه، ويسمّن نعمه وشاءه، كأن لم يكن أبوللو أبن إله عظيم، وكأن لم يكن هو نفسه إلهاً عظيماً!!. . . (أتذكر هذه الأيام يا أخي أبوللو!!. . أتذكر أيام أن كان هذا العاتية العنيد يسومنا الذل، ويقهرنا أرهق القهر، وينزل بنا أشد ألوان الخسف، متذرعاً بغضب سيد الأولمب علينا، لا تأخذه فينا رحمة، ولا يهمه أن نبرم ونتسخط ما دام - فيما كان يزعم - يؤدي ما أمره به أبوك زيوس!!

فيم هذه المناصرة كلها لطروادة يا أبوللو؟. . . ماذا تذكر من حسنات لملكها اللعين أوميدون؟! أنسيت يوم أسخطناه بالتراخي قليلاً في عملنا، فأمر بنا فقطعت آذاننا وشد وثاقنا، وأصبحنا ضحكة كل راء؟!. . . لا لا يا أبوللو. . . أنا لا أرتضي لك أن تكون غبياً إلى هذا الحد. . .)

وعملت فيه كلمات العم نبيتون عملها، فعاهده ألا يخوض غمار هذه الحرب كرة أخرى، وقاسمه ألا يسدد فيها بعد اليوم سهما. . . ولو عيرته أخته ديانا ألف تعيير!!!

وماذا لو عيرته ديانا، ورمته بالجبن أمام نبيتون؟! ها هي ذي حيرا تسمع إلى ربة القمر، فتقذفها أشنع القذف وأمره، ثم تهجم عليها فتكبلها، وتنثر كنانة سهامها، وتمضي بعد ذلك لشأنها. . . وتأتي لاتونا - أم ديانا الباكية - فتواسيها وتذهب وإياها إلى زيوس. . . المتربع فوق سدة الأولمب، فتشكو إليهما لحق ابنتها من زوجه. . . ويغضي الآلة. . . لأنه

ص: 60

ليس له على حيرا يدان. . . . . .!

ويتم الظفر لأخيل وجنده بعد إذ ينسحب أبوللو من المعركة، فيأخذ الطرواديين أخذ عزيز مقتدر؛ ويقف بريام الملك في برج شاهق يطلع على الساحة، ويشهد هزائم جنده، فتدمع عيناه. . . ويأمر بالبوابة الكبرى فتفتح، ويهرع الجنود ناحيتها فراراً من أخيل وشياطين أخيل، ولكن أخيل وشياطين أخيل تشطر الجنود الفارين شطرين، بل يستطيع أخيل وكوكبة قوية من الميرميدون أن ينفذوا إلى البوابة الكبرى، ويدخلوا طروادة فاتحين. . . . . . . . .!!

وهناك! يثبت لهم أجينور البطل الطروادي الحلاحل، ويأخذ مع أخيل في ملاحاة عنيفة، ثم يتقارعان برهة، ويصاول أحدهما الآخر. . .

ويكون. . . أبوللو. . .!! إلى جانب أجينور يحضه ويحرضه، ويثبت قدميه. . . ناسياً مواثقه التي قطعها على نفسه أمام نيبتون. . . . . .

ويهم أخيل أن يبطش بفتى طروادة

لولا أن يعز على أبوللو أن يلحق أجينور بصاحبه استرابيوس من قبل، وبعشرات الأبطال من مثل سترابيوس، فيتقدم إلى أجينور يحميه، ويرسل عليه سحابة بيضاء فيحمله فيها. . . . مضللا أخيل عن خصمه. . . ومبعده خارج البوابة التي يقفلها الطرواديون من دونه. . . . . .

(لها بقية)

دريني خشبة

ص: 61

‌البريد الأدبي

الصقالبة في الرواية العربية رد على ملاحظة

وجه إلى قارئ فاضل هو الأستاذ عطية الشيخ في عدد الرسالة الماضي ملاحظة بشأن ما ورد في مقالي (الصقالبة في الرواية العربية) تفسيراً لرواية الرحالة ابن حوقل البغدادي عن (صقالبة الأندلس). فقد ذكر ابن حوقل في رحلته المسماة بالمسالك والممالك عن الصقالبة ما يأتي: (وذلك أن بلد الصقالبة طويل فسيح، والخليج الآخذ من بحر الروم ممتد على القسطنطينية واطربزنده يشق بلدهم بالعرض، فنصف بلدهم بالطول يسبيه الخراسانيون ويصلون، والنصف الشمالي يسبيه الأندلسيون من جهة جليقة وأفرنجة وأنكبردة وفلورية، وبهذه الديار من سبيهم الكثير باق على حاله)(ص75)؛ قلت: (ومعنى ذلك أن الصقالبة الأندلسيين كانوا مزيجاً من الجليقيين (النصارى الأسبان) والألمان والفرنسيين (أهل افرنجة) واللومبارديين (أهل انكبردة) والإيطاليين (من فلورية))، ولكن القارئ الفاضل يريد أن يفسر قول ابن حوقل بأن الصقالبة كانوا يصلون إلى الأندلس عن طريق البلاد المذكورة، لا بأنهم كانوا يجلبون منها

وردي على ذلك هو أن المعنى الثاني هو الأرجح، وهو الذي اخترت الأخذ به، ذلك أن من بين البلاد التي يذكرها ابن حوقل أقطاراً كانت تقع في صميم بلاد الصقالبة في تلك العصور مثل لومبارديا (أنكبردة) وشرق افرنجة (ألمانيا)؛ وفي الوقت الذي زار فيه ابن حوقل الأندلس في أواخر عهد الناصر (أو أوائل عهد الحكم المستنصر) كانت كلمة الصقالبة تطلق في الأندلس على جميع الأجانب الذين يخدمون في البطانة أو الجيش؛ ولم يكن يقتصر في فهمها على الصقالبة الخلص، أعني سكان شرق أوربا وحوض الدانوب، وفي القسم الأول من مقالي شرح واف لتطورات هذه الكلمة، وذكر بعض المراجع التي تلقي ضوءاً على الموضوع.

م. ع. ع

التاريخ والسينما

كانت حوادث التاريخ وما زالت أعظم غذاء للمسرح والسينما؛ والمسرح القديم عريق في

ص: 62

الاقتباس من حوادث ووقائعه الشهيرة؛ ولكن السينما استطاعت على حداثتها تتوسع في هذا الاقتباس سواء من حيث الوقائع أوالمناظر لتفوق وسائلها الفنية، وقد بدأت السينما باقتباس كثير من حوادث التاريخ القديم وشخصياته، فرأينا على ستارهاحياة كليوباطرة، وصفحات كثيرة من التاريخ الروماني قبل رواية (كوفاديس) الشهيرة؛ ثم كان عهد القصص التاريخية الكبيرة مثل (الفرسان الثلاثة)، و (مونت كريستو)، و (الفرنسية) لاسكندر ديماس وغيرها، وفي الأيام الأخيرة رأينا ممثلاً نابغاً هو السير أرليس يحي لنا طائفة من أشهر شخصيات التاريخ الحديث مثل ريشيليو، وفولتير، والدوق ولتون وغيرها

وفي الأنباء الأخيرة أن شركة فنية إنجليزية قررت أن تخرج شريطاً مصوراً يمثل حياة أَلفرد نوبل المخترع السويدي جوائز نوبل الشهيرة للعلوم والآداب والفنون، وكان نوبل صورة رائعة التناقض، فقد قضي حياته في اختراع أصنافجديدة من المفرقعات المهلكة، ثم جعل كل ثروته بعد وفاته وقفاً على تشجيع العلوم والفنون، ورصد منها جائزة كبيرة تمنح كل عام لمن يقدم أجل خدمات لقضية السلام. وقد رأى نوبل قبل وفاته نتائج اختراعاته المهلكة في الحرب الفرنسية (سنة 1870) ورأى رائع فتكها ببني الإنسان فحزن لهذه النتيجةأيما حزن وغدت حياته عذاباً مستمراً، ورأى أن خير ما يكفر به عن هذا الإثم هو أن يهب كل ثروته التي جمعها من اختراع المهلكات لتشجيع أعمال السلام من علوم وفنون، وهذه المأساة المؤلمة وما يترتب عليها من العبر البالغة هي التي يريد مخرجو الشريط الجديد أن يبرزوها للناس

والظاهر أن التعاون بين السينما والتاريخ لن يقف عند تمثيل الحوادث التاريخية وإخراجها على هذا النحو، وانه لن يمضي وقت طويل حتى تقوم السينما بدور أهم في خدمة التاريخ؛ ففي باريس يعرض الآن شريط مصور (فلم) عنوانه (السينما في خدمة التاريخ) وهو عبارة عن شرح مصور لأشهر الحوادث التاريخية التي وقعت في الثلاثين عاماً الأخيرة، ومادته مأخوذة من الصور المعاصرة التي سجلت عن هذه الحوادث نفسها. ومعنى ذلك أن المؤرخ قد يرى في الغد القريب في السينما نوعاً من المحفوظات التاريخية التي يمكنه أن يرجع إليها ليحقق بعض المناظر والحوادث. ولا ريب أن تسجيل الحوادث بطريق التصوير وسيلة مؤكدة لإجراء مثل هذا التحقيق؛ وفي وسع المؤرخ أن يعتمد كثيراً على

ص: 63

صورة لاجتماع برلماني، أو اجتماع دولي، أو مناظر ثورية، أو عسكرية، أو غيرها صورت وقت حدوثها، بأفضل مما يعتمد على الروايات المعاصرة ذاتها

مصادرة مؤلف ألماني

من أنباء النمسا أن الحكومة النمساوية قررت أن تصادر كتابا صدر أخيراً بالألمانية وعنوانه (الإمبراطورة اليزابيث وأنا) بقلم السيدة ماري لويز فون فالرسي لاريش، وقد أخرجته إحدى المطابع الألمانية في لايبزج. والإمبراطورة اليزابيث هي قرينة الإمبراطور فرانز يوسف وإمبراطور النمسا والمجر، وقد اغتالتها بعض الجمعيات الفوضوية في سنة 1898، وكان لمصرعها دوي كبير في أوربا. وقد كانت المؤلفة وصيفة في البلاط الإمبراطوري، وكانت صلاتها بالقصر والبلاط تهيئ لها فرصة الاطلاع على كثير من الأسرار والحقائق الملوكية؛ والظاهر أنها خرجت في مؤلفها المذكور عن حدود التحفظ المألوف

العيد المئوي لصمويل بتلر

احتفل أخيرا في إنكلترا بالعيد المئوي لمولد الكاتب والشاعر الإنكليزي الكبير صمويل بتلر، وكان مولده في نوفيمبر سنة 1835 في مقاطعة نوتنهام شير؛ وقضى طفولته فيما وراء البحار في زيلاندة، وتلقى بعد ذلك تربية جامعية حسنة في كمبردج. وكان بتلر ذا خلال ومواهب خاصة، فقد كان مصوراً بارعاً يتمتع في عالم التصوير بشهرة ذائعة، ولكنه نزل إلى ميدان الأدب فجأة وأخرج قصته الشهيرة (ايرهوم) وهي قصة طريفة تدور حول وصف عالم خيالي غير عالمنا وبلاد لا وجود لها إلا في مخيلة الكاتب على مثل (رحلات جوليفر) الشهيرة وهي قطعة تفيض بالمخاطرات والحوادث المدهشة، ولكنها تفيض أيضاً بالسخرية اللاذعة والتهكم المر؛ وقد قفاها في أواخر حياته بقصة أخرى من طرازها وعلى منوالها في سرد الحوادث وسماها (ايرهوم المنقحة) سنة 1901؛ وكتب بتلر أيضاً كتاباً أخرى منها (الحياة والعادة) و (التطور قديماً وحديثاً)، وهو مؤلف علمي يحاول فيه بتلر أن يدحض نظريات دارون في التطور؛ وكان آخر ما كتبه بتلر قصته الشهيرة تركها مخطوطاً ولم تظهر إلا بعد وفاته في سنة 1903؛ وله قصائد ومقطوعات شعرية كثيرة؛

ص: 64

وأهم ما يؤثر عن بتلر أنه كان بمثابة الأستاذ الروحي لكاتب من أعظم الكتاب الإنكليز المعاصرين ونعني به برنارد شو؛ وقد تأثر أيما تأثير بتفكيره وأساليبه في التهكم والسخرية اللاذعة. وكانت وفاة صمويل في سنة 1902

نادي الجامعيين

يدرس الآن أساتذة الجامعة المصرية فكرة إنشاء ناد لهم يقضون فيه بعض الفراغ، فيتبادلون المعرفة، ويتواضعون الرأي، ويتساهمون المودة. والفكرة حكيمة ولا شك، لأن توثيق الصلات الحرة بين ممثلي الذكاء المصري وأئمة الثقافة العالية له أثره البالغ في توجيه النهضة الفكرية، وتمهد السبل لها، وتوحيد الغاية منها

والمأمول أن نرى قريباً تحقيق هذه الفكرة

الفرقة القومية المصرية

افتتحت الفرقة الحكومية موسمها التمثيلي الأول مساء الخميس الماضي برواية (أهل الكهف) الأستاذ توفيق الحكيم، فسمعنا من وراء الستار قارئاً حلو النغم يقرأ قول الله تعالى في هذه القصة من سورة الكهف؛ ثم ابتدأ الفصل الأول بمقدمة موسيقية رائعة تترجم الصور الخيالية التي كانت تمر على الستار الأبيض مصورة اضطهاد المسيحيين في عهد دقيانوس قبل حادثة الرواية؛ وسنكتب عن الإخراج والتمثيل والرواية في عدد قادم

ص: 65

‌الكتب

في الأدب القديم

1 -

اعجام الأعلام: للأستاذ محمود مصطفى

(أخرجته جماعة دار العلوم بإقرار لجنتها العلمية)

2 -

الفروق اللغوية: لأبي هلال العسكري

3 -

معجم الشعراء: للموزباني

4 -

المؤتلف والمختلف: لأبي القاسم الآمدي

(نشرتها مكتبة القدسي)

للأستاذ محمد سعيد العريان

كيف نفهم الأدب القديم، وكيف نتروَّاه، وإلى أي مدى نستفيد منه، وما وسيلتنا إلى ذلك. . .؟

هذه أسئلةٌ كثيراً ما تعرض لي، حين يضمني مجلس إلى بعض المتأدّبين من ناشئتنا الذين يدعون إلى الجديد؛ وإن أعجب ما يلقاك في مثل مجلس هؤلاء، هو الدعوة العريضة، والإنكار الساخر - أو سمَّه الإنكارَ الجاهل - والاعتداد بالنفس في غير مُعتدّ، ثم الحكم الجامع لا نقض فيه ولا استثناء. ما ايسر أن تسمعمن واحد من هؤلاء. (الأدب القديم. . .! وما الأدب القديم؟ وماذا فيه. . .؟) فلا أدب عنده إلا هذا اللغو الذي تنشره له الصحف، أو هذه الرطانة العجماء تحاول أن تستعرب على لسانه؛ ولا إنشاء إلا على مثال برقيات (روتر) و (هافاس)، التي يترجمها (فلان) ويدعو إلى احتذاءها فيما يكتب الأدباء وينشئون. . .!

ولو أنك ذهبت تحاول أن تحمل واحداً من هؤلاء على غير ما يرى في الأدب القديم، أو أن تقنعه بما فيه من حياة وقوة - لأعياك أن تبلغ إليه؛ وأنى لك أن تبلغ وما يعرف أكثر هؤلاء ولا يفهمون من الأدب القديم إلا محفوظات المدارس. . . وما حصلوا من فنون اللغة إلا القليل من قواعد النحو والبلاغة في حجرات التعليم. . .؟ بل لو أنك أردت واحداً من هؤلاء على أن يحقق لفظة في معجم، أو يقرأ سطراً غير مشكوا في كتاب - لكنت كمن يطلب إليهأن ينقل صخرة، أو يحفر بئراً. . .! فمن أين لمثل هذا أن يتذوق ما تجلوه عليه

ص: 66

من روائع الأدب القديم؟

وطائفة أخرى من هؤلاء المتأدبين آمنت عن تلقين، أو تقليد، أن في الأدب القديم ثروة مخبوءة، ومنجماً حقيقياً بالجهد وحسن الاستغلال؛ فراحت هذه الطائفة - طمعاً في الثورة وحسن الاستغلال وحسب! تحاول أن تعثر بشيء تستسيغه، أو تجد لَقًي تسعى إليه، ولكنها لم تأخذ الأهبة، ولم تهيئ الأسباب، وحسبت أن في أظفارها اللينة غَناءً عن الفئوس والمساحي في الحفر والتنقيب؛ قلما آبت أوبتها الخاسرة، عادت تعيب ما كانت تباهي به، وتنكر ما كانت تعترف؛ ولو أنصفت لعابت الجهد الكليل والعزم الخائر

وقد جلست مرة إلى آنسة متأدبة تشتغل بشؤون التعليم، فلقيتني متعبة مكدودة وهي تقول:(حسبي منك يا صاحبي ومن أدبك القديم!) قلت: (ماذا يا آنسة؟) قلت: (هذا (نهاية الأرب) بين يديّ منذ أيام ثلاثة، أحاول أن أجد فيه شيئاً يفيد تلميذاتي فأترجمه لهن في كتاب المطالعة الذي أشتغل بتأليفه فما وجدْت. . .!)

وكان هذا أول عهد صاحبتي بالأدب القديم، وقد لجأت إليه أوّل ما تلجأ، لتجد بغيتها تحت عينيها؛ فلما استيأست ونال منها الجهد، ورمت الكتاب وهي تسب الأدب القديم، وتعيب الأدب القديم!

وإنما يتأنى الفوز بمثل ذلك لمن أدمن الاطلاع والنظر، وداوم البحث والاستقرار، فيقرأ أولاً ليدرس ويلذّ نفسه، حتى إذا بلغ من ذلك ما بلغ، جاءته الثمرة من حيث لا يطلبها، ووجد الفائدة تحت عينيه تدلّ على موضعها وهؤلاء الباحثون جميعا لم يؤدوا إلينا نتائج ما بحثوا مستوفاةً ناضجة لأنهم أرادوا أن يبلغوا هذه النتائج أوّل ما قرءوا؛ إنما كانت القراءة أولا؛ ثم شعاع الفكرة، ثم عناصر البحث، ثم هذه الثمرات التي نقرؤها فتعجب بها فنثني على ما جاهدوا وظفروا؛ ولو أنهم أرادوا موضوع البحث قبل أن يقرأوا، لكان غاية جهدهم أن يخترعوا عناوين البحوث. . .!

وهذا أديب آخر يظفر بالشهرة والجاه عند دعاة الجديد، ويحسبونه واحداً منهم، لأنه يكتب بأسلوبهم وعلى طريقتهم، لقيته مرة فحدّثته وحدّثني، فقال لي: (دعهم يقولون عني، وينسبون إلي وينتسبون؛ ولكني لا أكذبك، فكم تمنيّت أن يكون حظّي من الأدب القديم أكثر مما عندي، وسأبلغ ذاك، وسيعلم أصدقائي يومئذ أنني لم أكن في المجددين لأني أنكر

ص: 67

القديم، بل لأن زادي وثروتي من اللغة لم يكن يبلغ بي أن أكون مع غير الذين يسمونهم مجددين. . .!)

أفينكر إخوانُنا في اللغة أن هذه النهضة التي ينتسبون إليها لم تكن من صنعهم؟ وإنما هّيأ أسبابها وأذكاها تلك الكتب القديمة التي يسبّونها اليوم حين نهض لنشرها أدباؤنا منذ قرن فدرسوها مخطوطٍات باليةً مركومة، وخلّفوها لنا مطبوعةً مصحّحة مجلوّة

ولكل عمل أدته ووسيلته، وإنما الوسيلة لدراسة هذه اللغة هي النشاط الدائب في التحصيل، والجهد المتصل في الاستقراء، والمحاولة المستمرة للكشف والبحث والاطلاع. ولهذه اللغة أصول لابد من الإحاطة بها قبل الشروع، وعندها طرف الخيط، فمن شاء فليبلغ إلى الغاية. . .

أما بعد فهذه كتب أربعة، لم أكن بحاجة في تقديمها إلى كل ما أسلفت، ولكنها جميعاً من الأدب القديم؛ وللأدب القديم ملمس خشن، أفيدري اللامسون ما وراء. . .؟

1 -

اعجام الأعلام:

أكثر ما يعاني المطالع في الكتب القديمة، هذه الأعلام الكثيرة في كل سطر وفي كل عبارة مما يقرأ؛ على أن أشق ما يعانيه في هذه الأعلام، هو ضبطها والتميز بينها؛ وحسبك أن تعلم أن أكثر هذه الأعلام ليس مما يسمى به في هذا الزمان، فلا سبيل إلى تصحيح نطقه إلا بالسماع والرواية، ولا سبيل إلى الترجمة لمسّماه - إنسانا كان أو بلدا - إلا بالبحث الطويل والجهد المضني، على أن ذلك لا يتأنى لكل طالب؛ فأنت لا تجد كتابا في العربيةُ يستغني به عن سواه في هذا الباب

والأستاذ محمود مصطفى أستاذ الأدب العربي بكلية اللغة العربية الأزهرية، رجل دءوب كثير البحث، طويل الأناة؛ وهو قد لقي في شتى مطالعاته ضروبا من العناء في ضبط الأعلام والتعرف إلى أصحابها؛ فاجتمع له بسبيل ذلك فيما أجتمع من ثمرات المطالعة طائفةٌ كبيرة من أعلام الأناسيّ والبلاد مضبوطة مترجمة لا تجتمع لمثله حين ينشدها إلا بجهاد سنوات وسنوات؛ فرأى أن يقدّم هذه الثمرة الجليلة إلى أدباء عصره، ليخفف عنهم بعض ما لقي، على أنه لم يثقل عليهم بما لا حاجة بهم إليه. فاكتفى من عمله بضبط الأعلام وتصحيحها، ثم إيجاز ترجمتها بما يقصر على ما يفيد، بعيدا من الاختصار المخلّ

ص: 68

والتطويل الممل؛ وقد أعانته على إخراج كتابه (جماعة دار العلوم) بإقرار لجنتها العلمية؛ ومن غير جماعة دار العلوم تعرف قيمة هذا العمل الجليل؟ على أن ذلك وإن يكن من واجبها، لا يمنعنا أن نذكر عملها شاكرين، فقلَّ في هذا الزمان من يذكر واجبه بمقدار ما يفكر في وسائل الفرار منه!

وأكثر الكتاب في ضبط أعلام الأناسيّ، وأقله لأعلام البلاد. ولو أنني حاولت الإنصاف لما وسعني إلا أن أعترف بأن هذه الصفحات المائتين والأربعين، تغني عن مكتبة حافلة بكتب التراجم ومعاجم الأعلام

ولكن إعجابي بالكتاب وثنائي عليه لا يمنعان أن آخذ على مؤلفه العالم أنه أهمل الإشارة إلى المراجع التي منها استمدّ؛ وأحسبه كان يجمعه لنفسه فلا يهتم بحفظ المصادر، فلما اجتمع له هذا القدر الكبير أخرجه كتاباً. أفيدفع عنه النقد هذا الاعتذار. . .؟؟

وفي الكتاب أشياء كانت تقتضي جهداً أوسع، وعناية أدق، فالتعرف بالأماكن قليل مخل، وأرى المؤلف في هذا الباب لم يُفد إلا ضبط أعلام المواضع، أما تحديدها وتعيين أماكنها فما بلغ منه إلى كثير. وتراه في أكثر من موضع من الكتاب، قد أوجز الحديث وأحال إلى موضع آخر، فإذا انتقلنا إلى ذلك الموضع لم نجد شيئاً مما أحال إليه، أو نجد شيئاً ولكنه لا يغني كل الغناء؛ فمن ذلك في ص76 (. . . . بسطام، وهي بلدة مشهورة من أعمال قومس)، فإذا بحثت عن (قومس) هذه في أعلام البلاد وجدت (القوامس) كثيرة، فلا تعرف إلى أيها تنتسب (بسطام). وفي ص94:(كان منزل رهط (جميل) في وادي القرى (أنظره). . .) وتنتظر في أعلام البلاد، فلا تجد ذكراً لوادي القرى. ومثل ذلك في ص128 ترجمة السُّهْرَوَرْديّ (ونسبته إلى سهرورد، وهي بلدة (أنظرها)) ولكن أين؟ وغير ذلك كثير

على أن الكتاب مع ذلك لا يستغني عنه متأدب، وإن فيه لغناء عن كتب ومكتبة، وأكثر مصادره مما لا تتناوله الأيدي، وهو مجهود مشكور، جدير بالثناء والإعجاب

2 -

الفروق اللغوية

أبو هلال إمام من أئمة اللغة في القرن الرابع الهجري، تحتفظ له المكتبة العربية بآثار خالدة؛ أكثرها معروف متداول، وهو إلى أنه شاعر وأديب، عالم فحل، واسع المعرفة،

ص: 69

صنَّف في أكثر من فن من فنون العربية، وهذا كتابه (الفروق اللغوية) يبحث في الفرق بين الألفاظ التي تؤدي معاني متقاربة، والتي يسميها علماء اللغة مترادفات، وهو في هذا الكتاب يقرر مذهباً في اللغة:(أن كل اسمين يجريان على معنى من المعاني وعين من الأعيان في لغة واحدة، فان كل واحد منهما يقتضي خلاف ما يقتضيه الآخر، وإلا لكان الثاني فضلا لا يحتاج إليه. . . لأن في ذلك تكثيرا للغة بما لا فائدة فيه. . . إلا أن يجئ ذلك في لغتين، فأما في لغة واحدة فمحال أن يختلف اللفظان والمعنى واحد كما ظن كثير من النحويين واللغويين. . .)

فهو يرى كل لفظين مما نسميه مترادفاً، يختلفان في المعنى، أو في الصفة، أو الاستعمال. أو الاشتقاق. . . وتراه على هذا المذهب يسير في كتابه، يبين الفرق بين اللفظ ومرادفه، في أبواب مقسمة على معاني الكلمات، تريك دقة أبي هلال، وسعة علمه، وصدق نظره في فقه اللغة العربية، والكتاب كله أمثلة على ما ذكرت ولو أن كاتباً من أبلغ أدباء هذا الزمان، عرض كلامه على كتاب (الفروق اللغوية)، لبانت له قيمة ما يكتب بازاء ما يجب أن يكتب، ولعرف مقداره بين كتّاب العربية حين يعرف أين عربيته من العربية الصحيحة. وهذا وحده الدليل كلُّ الدليل على جدوى هذا الكتاب في كل زمان، لا سيما هذا الزمان!

3 -

معجم الشعراء:، 4 - المؤتلف والمختلف

يعترض القارئ في أثناء مطالعته في الأدب القديم، أسماء شتى لشعراء من مختلف العصور، فتختلف عليه، وتَشْعَب فكره، وتتشابه في مسمعه، ويا أكثر ما يشترك شاعران أو أكثر في اسم واحد، فتتداخل الصور وتزدحم عليه، فما يتأنى له أن يحكم حكمه في موضوعه، أو يتضح له منهاج بحثه، إلى أن يعرف ترجمة كل شاعر من هؤلاء، معرفة تحدد في الذهن صورته وتكشف عن ابهامه، وسبيل هذه المعرفة لا تكون إلا بمثل هذين الكتابين

والمرزباني والآمدي عَلمان من أعلام القرن الرابع الهجري، لهما في الأدب العربي فكر وفنٌ وبيان

والكاتبان على ما اختلفا في الغرض يلتقيان في الموضوع، فأوّلهما يترجم لشعرائه ترجمة تعرّف بهم في إيجاز مفيد مع استشهاد رائق، على أن الذي بين يدينا من كتابه هو جزء

ص: 70

منه أحسبه يبلغ ثلثيه

وأما الآمدي فيترجم للشعراء المشتبهة أسماؤهم وحسب، ترجمةً تزيل الشبهة وتكشف اللبس، ويجمع هذا الكتاب مع الجزء الموجود من معجم الشعراء - أكثر من ألفي شاعر، بأسمائهم، وكُناهم، وألقابهم، وأنسابهم، وبعض شعرهم. وقد أحسن ناشرهما إحساناً كبيراً بضم بعضهما إلى بعض في مجلد واحد، ليكون النفع بهما أتم والغاية أوفى

ولا نشك أن مكتبة (القدسيّ) بنشرها هذين الكتابين، وكتاب (الفروق اللغوية) قد بذلت جهدا، ويسرت نفعاً، وعممت فائدة، وهذا باب في خدمة العربيةُ يُذكر فيه العاملون.

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 71

‌النقد

3 -

تاريخ الإسلام السياسي

تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن

مصادر الكتاب لأستاذ كبير

ألممت في كلمتي السابقتين بما تأخذه النظرة العجلى من الأغلاط التاريخية والجغرافية الواقعة في كتاب (تاريخ الإسلام السياسي) وهي لعمري أغلاط يذهب بعضها بمحاسن أي كتاب يرد فيه فكيف بها كلها: وأريد في هذه الكلمة أن أعرض في شيء من النقد لمصادر هذا الكتاب، وأن آتي بعد ذلك على بعض عيوب لحظتها على طريقة المؤلف في أخذه عن المصادر المذكورة، وكم كنت أود، علم الله، أن تكون كلمة اليوم كلمة ثناء أكيله للمؤلف جزافاً لعلي أمحو ما عساه أن يكون قد علق بنفسه من جراء المقالين السابقين، ولكن شاء سوء حظي أن يجئ الأمر على غير ما أريد

كل من يطلع على (تاريخ الإسلام السياسي) تبهره من غير شك كثرة المصادر التي تدل على أن المؤلف رجع إليها في وضع كتابه، فما من صفحة من صفحاته، ولا فقرة من فقرة إلا وهي تحتوي على أقل تقدير إحالة واحدة للقارئ على مرجع من مراجع التاريخ الإسلامي القديمة والحديثة. ثم إن المؤلف لا يكتفي بذكر مراجعه منثورة مفرقة على الفصول والصفحات والفقر والأسطر، بل هو يوردها في آخر كتابه مجموعة منسوقة في بضع صفحات تروع النظر والفؤاد جميعاً

وإيراد المراجع العلمية على هذا النحو واجب محتوم في البحوث العلمية الدقيقة التي يراد فيها الإدلاء بنظرية علمية جديدة أو بسط وجهة نظر مستطرفة. أما في الكتب العامة التي يقصد أن تكون في متناول الطلاب المثقفين فقد جرى العرف بأن يقتصر من ذكر المراجع في صلب الفصول على الضروري، ثم يذيل كل فصل بذكر المراجع التي استعان المؤلف بها في كتابة الفصل تبرئة لذمته وتوسيعه على الطلب والقارئ الراغب في سعة الاطلاع وكثرة التحصيل. ومما يبعث على سلوك هذه الطريقة أن الأصل في الكتب المؤلفة للطلاب وراغبي الثقافة، أن يكون واضعوها من أعلام العلماء وجهابذة الأساتذة، ممن لهم في العلم

ص: 72

قدم راسخة ومكانة عالية تحمل قراءهم على تصديقهم فيما يقررون وما إليهيذهبون

ومع أن كتاب (تاريخ الإسلام السياسي) من الصنف الثاني فقد آثر المؤلف ركوب الطريقة التي تتبع في الصنف الأول، فحمل متن كتابه من الشروح والحواشي حملا ثقيلا، وكلف نفسه شططا وقراءه مشقة وعنتا. ولم كل هذا؟ لا لشيء سوى ابتغاء السمعة عند الناس وأن يلقي في روع القارئ أنه في التاريخ واسع الاطلاع، طويل الباع، قد وعى ما كتبه الأوائل والأواخر

على أن نظرة ناقدة إلى المراجع المذكورة كفيلة بأن تثبت أن كثرتها إلى حد بعيد صورية لا حقيقية. فان حرص المؤلف على التكثير والتزيد قد حمله في كثير من الأحيان على أن يدلل على ما لا يحتاج إلى دليل، وأن يعدد المراجع ولو كانت في مرد أمرها ترجع إلى مصدر واحد. فمن من تلاميذ المدارس لا يعرف نص الخطبة التي افتتح بها أول الخلفاء الراشدين عهده؟ إنها أشهر من أن تجهل. ومع ذلك فالمؤلف الكريم يحيل قارئه عند إيراده نص هذه الخطبة على أربعة كتب قديمة متضمنة لها ذاكرا اسم الكتاب واسم المؤلف ورقم الجزء والصفحة والطبعة ومكان الطبع! كذلك الحديث الذي يزعم رواة العرب أنه جرى بين أبي سفيان وبين هرقل قيصر الروم في الشام. وهو حديث يحمل في ثناياه أدلة ضعفه وانتحاله، وهو على فرض صحته ليس بذي خطر، ولا يقدم في فهم سيرة الرسول ولا يؤخر. ومع ذلك، فالمؤلف يورده بنصه على طول ذلك النص ثم يحيل القارئ على الكتب القديمة التي ذكرته، وقد ذكر منها خمسة أكثرها شروح مختلفة على متن البخاري. لو أن المؤلف قصد إلى مناقشة هذه النصوص ومقارنة رواياتها المختلفة بعضها ببعض، وبيان ما تتفق فيه وما تختلف من حيث اللفظ والمعنى، ثم الوصول بعد ذلك إلى حكم يكون لها أو عليها، لكان للمشقة التي عني نفسه وقارئه بها ما يجيزها ويسوغها. أما وهو لم بقصد إلى شيء من ذلك فقد انتقلت المزية وبقيت المشقة

ثم إن هذه الكثرة صورية من وجه آخر أكثر خطرا وأضر بقيمة الكتاب العلمية وبمقدرة مؤلفه على نقد مراجعه وتقويمها ذلك بأن المؤلف كثيرا ما يأخذ عن كتب أثبت البحث العلمي الدقيق أنها لا يصح الاعتماد عليها بحال في معرض التدليل العلمي الصحيح. فهو يعتقد أن الكتاب القصصي المسمى (فتوح الشام) للواقدي حقا، ثم يذهب يستعين به في

ص: 73

الفصل الذي عقده لفتح العرب الشام، وينقل عنه صفحات برمتها، ثم لا يكتفي بذلك بل ينبري لمناقشته ومجادلته. فليأذن لنا الدكتور أن نقول له إن هذا الكتاب ليس للواقدي، بل ليس من آثار عصر الواقدي، وإنما هو كتاب كتب بعد زمن الواقدي بمئات السنين: كتب على أغلب الظن إبان الحروب الصليبية لبث الحمية الدينية في نفوس الجمهور وترغيبه في مجاهدة الصليبيين بتذكيره بفعال آبائه في الشام. ونفس عبارة الكتاب من النوع القصصي الحماسي. جاء في دائرة المعارف الإسلامية في ترجمة الواقدي ما يأتي:

، ; ' ، وترجمتها (إن كتابي فتوح الشام والعراق قد فقدا. أما الكتابان المتدولان بهذا الاسم فيرجعان إلى عصر متأخر، وهما مضافان إلى الواقدي خطأ.)

كذلك يعتمد المؤلف في عدة مواضع من كتابه على كتاب آخر زائف هو كتاب (الإمامة والسياسة) المنسوب إلى ابن قتيبة وكل شيء في هذا الكتاب يدل على أنه ليس لابن قتيبة. وإنما هو في غالب الظن لكاتب أندلسي أراد تسلية الخاصة باسم الحياة السياسية الإسلامية فوضع هذا الكتاب الذي يعتبر من الناحية الأدبية قطعة فنية، وإن كان من الناحية التاريخية لا يعول عليه على الإطلاق. وفي ذلك يقول المستشرق الإنجليزي مرجوليوث في كتابه (مؤرخو العرب) في ص125)

' وترجمته (أن ما في هذا الكتاب من تكذيب للتاريخ أم جهل به، لفاضح بحيث لا يمكن أن يكون من تصنيف ابن قتيبة.)

ثم إن المؤلف كثيراً ما يستمد ويقتبس من كتب منها ما قد أصبح قديماً قاصراً من حيث المستوى العلمي، ومنها ما هو ثانوي الأهمية، ومنها الضعيف، ومنها ما قصد بكتابته إلى التثقيف العام. من هذه:(تاريخ العرب) لسديو، و (موجز تاريخ العرب) للسيد أمير علي، و (الحضارة العربية) لجوستاف لوبون)، و (أتباع محمد) لواشنجتن أيرفنج

إن هذه الكتب وكثيراً غيرها قد وضعها في أغلب الأحوال هواة قصدوا بها ناحية الثقافة العامة والتصوير المجمل، فكثيرة الاستدلال بها في مقام البحث الجدي ترخص لا مسوغ له

هذا عن مبلغ نقد المؤلف أمهات مصادره. أما مذهبه في الانتفاع بهذه المصادر إجمال فلنا عليه بعض الاستدراك. فهو مفرط في الأخذ عنها والاقتباس منها، بحيث أنك في كثير من فصول الكتاب تبحث عن شخصية المؤلف فلا تجدها أو تجدها ضئيلة ضعيفة، خذ لذلك

ص: 74

مثلا الباب الأخير من أبواب الكتاب الخاص بالحضارة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين، وهو باب كان يمكن المؤلف أن يجول فيه ويصول، ومع ذلك فهو لا يخرج عن كونه مجرد تلخيص لكتاب (الحلافة) لارنولد، وكتب الحضارة الإسلامية والأدب العربي لفون كريمر والسيد أمير علي ونيكلسن. أن الأمر هنا أمر تكرار لا ابتكار

وقد يخطئ المؤلف بعض من يأخذ عنهم تخطئه لا حق له فيها. من ذلك أنه عند كلامه على الخوارج استشهد بقول صاحب كتاب (الفخري): (وصدرت منهم أمور متناقصة تدل على أنهم يخبطون خبط عشواء، منها أن رطبة سقطت من نخلة فتناولها رجل ووضعها في فيه، فقالوا له أكلتها غصبا وأخذتها بلا ثمن، فألقاها، ومنها أن خنزيراً لبعض أهل القرى مر بهم فضربه أحدهم بسيفه فعقره فقالوا هذا فساد في الأرض، فمضى الرجل إلى صاحب الخنزير وأرضاه، ومنها أنهم كانوا يقتلون النفس التي حرمت إلاّ بالحق، قتلوا عبد الله بن خباب، وكان خباب من كبار الصحابة، وقتلوا عدة نساء وسبوا، وفعلوا أفاعيل من هذا القبيل) هذه العبارة التي يصح أن تعتبر مثلاً للتناقض يعلق عليها المؤلف بقوله: (نرى أن هذا ليس من التناقض في شيء، وإنما هو أقرب إلى أن يكون غلوا في تطبيق مذهبهم)!!

ومن ذلك نقدم الهادم لحاجي خليفة، لا لشيء سوى أنه أورد خبراً لم يرضي المؤلف فيقول:(ومثل هذا المؤرخ لا يؤخذ بكلامه ولا يعول عليه في المسائل التاريخية الهامة لأنه كان متأخراً في الزمن فقد توفي سنة 1067هـ) وهو تعسف في الحكم من غير منازع، ومن هذا القبيل أيضاً تصديه لمرجوليوث في أمر الرجلين اللذين تزعم الرواية العربية أن كسرى أمر عامله على اليمن أن ينفذهما إلى الرسول ليأتياه به، فلما قدم الرجلان على الرسول أخبرهما النبي بأن كسرى قتل وأن أبنه هو الذي قتله. فمرجوليوث يأخذ من هذه الرواية أن النبي كان له من يأتيه بالأخبار. أما المؤلف فبدلاً من أن ينقد الرواية العربية، ليرى هل من المعقول أن ينفذ كسرى من طريق عامله على اليمن رجلين اثنين إلى سيد الحجاز ليأتياه به، فانه يأخذ في الرد على مرجوليوت لأنه لم ينظر إلى المسألة نظر المسلم المؤمن بنبوة محمد (ص)، ولو عمد إلى نقد الرواية أو تأولها على أقل تقدير لأنهارت دعوى مرجوليوت من تلقاء نفسها

ص: 75

والمؤلف يسهو أحياناً فيذكر أنه أخذ من مصدر بعينه أخذاً مباشراً، في حين أنه يكون قد أخذ عنه بالوساطة، فهو يحيل القارئ في ص80 وغيرها على ما يسميه هو المجلد الثاني من كتاب (بقية الوثنية العربية) المستشرق الألماني فلها وزن. والواقع أن الكتاب المذكور يقع في مجلد واحد فقط، ولكنه طبع مرتين، فلو أنه رجع إليهحقاً لما وقع هذا الخلط القبيح

وعلى كثرة من يستشهد المؤلف بهم في كتابه وذكره أسماءهم مباهياً بتلميذته لبعض المستشرقين منهم، كأرنولد ونيكلسون، نراه ينسى أن يذكر أن الفصل الذي عقده لمكتبة الإسكندرية كله ملخص من كلام دكتور بطلر في كتاب (فتح العرب مصر) والغريب أنه يحيل في ختام هذا الفصل على كتابه هو (عمر بن العاص)

وبهذه المناسبة نقول أن المؤلف غمط حق مؤرخ جليل وعالم كبير طالما جلس المؤلف منه مجلس التلميذ من الأستاذ، ذلك هو المرحوم الشيخ محمد الخضري بك الذي طوى الموت ما بينه وبين هذه الدنيا بما فيها من غدر ومحال، وباطل وغرور. لقد انتفع المؤلف بعلم هذا الشيخ حياً وميتاً كما يدل كلامه على شرعية القتال، ثم هو يبخل بأن يذكر اسمه ضمن من أخذ عنهم. فيا ليت شعري إذا كنا لا نظفر بالوفاء عند تلاميذنا، فعند من سواهم يكون الظفر بالوفاء؟.

(يتبع)

مؤرخ

ص: 76