المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 13 - بتاريخ: 15 - 07 - 1933 - مجلة الرسالة - جـ ١٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 13

- بتاريخ: 15 - 07 - 1933

ص: -1

‌شروح وحواشي

الشعر بعد أميريه:

عام مضى أو كاد على يومي حافظ وشوقي! فهل شعب القلوب الدامية عنهما سلوان، وعزى النفوس الآسية منهما عوض؟ لا يزال الجزع يهفو بالأفئدة على مستقبل الشعر اليتيم، ولا يزال الصمت الموحش يقبض الصدور في خمائل الوادي، بلى، نشط في مصر القريض، وتجاوبت الأفراخ النواهض بالأغاريد، ولكن أصواتها الناعمة الرخوة لم تملأ الأسماع ولم تطرد الوحشة، ولاحت في سورية المهاجرة مواهب النبوغ، ودلائل القيادة، ولكن البعاد يبدد الصوت القوي، والاغتراب يوهن الجهد الجهيد. كان اسم حافظ واسم شوقي علمين على الشعر في العهد الأخير، وكان الناس يؤمنون بقوة أدبية لازمة تظاهر نهضتنا، وتساير ثقافتنا، في هذين الشاعرين. فكلما خفقت القلوب لنزوة من الألم، أو لنشوة من الأمل، أصغت الأسماع تنتظر من رياض (الجيزة) أو ربى (حلوان) تلحين هذه العواطف، أو تدوين هذه المواقف. فلما خلا مكان الرجلين وقع في الأوهام وجرى على بعض الأقلام أن تلك القوة زالت وأن زمان الشعر ذهب! فحاول عشاق الأدب ورواد القريض أن يقرّوا في الرؤوس سلطان هذا الفن، ويقروا في النفوس وجود هذه القوة. فحشدت جماعة (أبولو) جميع وحداتها، وعزفت جوقتها على جميع آلاتها، وشرّقت الصحف والمجلات بفيض القرائح الشابة، ودعا الكهول القرَّح إلى عقد موسم للشعر، والزمن الذي يمحص الأشياء فينفي البهرج، الزائف ويثبّت الحق الصريح، هو الذي يعرف مكان هذه الجهود، من عالم الفناء أو من عالم الخلود.

موسم الشعر:

وقع في نفس الأستاذ الهراوي منذ شهرين أن يدعو الشعراء إلى مواضعة الرأي في إقامة موسم للشعر، فلبّى فريق، وتأبّى فريق، ورأت جماعة (أبولو) في الدعوة إحتكاراً لفضل الفكرة، واقتصاراً على بعض أغراض الشعر فأهملتها، ثم قررت أن تقوم هي بمهرجان سنوي جامع. ثم سعى بين الجماعتين ساع من حسن النية وشرف القصد فاتفقتا على العمل معا، ثم اجتمع أعضاؤهما في دار لجنة التأليف والترجمة والنشر، ونظروا في نظام الجماعة ومنهاج العمل، ومضى الشعراء الموظفون يلتمسون من معالي وزير المعارف

ص: 1

شرف الرئاسة للموسم فأجاب الملتمس، ثم اضطربت الألسنة والأقلام بالفكرة التي قام عليها، والغاية التي يقصد إليها، فلم نخض مع الخائضين وإنما تحدثنا إلى القائم بالدعوة نستجلي منه الغرض فما أجاب إلا جمجمة، فقلنا ليس في الأمر إذن إلا قصائد تنشد على المسرح، وتصفيق يدوي في الحفل. ثم ريح لينة تذهب رخاء بهذه الأصوات إلى مجاهل الأبد.

ولكن موسم الشعر تولى أمره نفر من كبار الأدباء فرسموا خطته وعينوا وجهته ونشروا ذلك في بيان للناس فجعلوا وجوده أمرا لاشك فيه، وتسجيله عملا لابد منه.

أصبحت (جماعة موسم الشعر) بحكم البيان المنشور مجمعاً أدبيا له وسائله وله أغراضه. فأما وسائله فقرض الشعر الفصيح ووضع البحوث في الأدب، وإلقاء المحاظرات في الموسم، وأما أغراضه فإقامة موسم عام للشعر العربي في مدينة القاهرة. و (العمل للاحتفاظ في الشعر العربي بقوة الأسلوب ووضوحه، والجري على ما تقتضيه ضوابط اللغة من الصحة وما تتطلبه خصائص البيان من بعد الأسلوب عما يضعفه أو يفنيه في غيره أو يقطع صلة حاضرة بماضيه، وتقريب ما بين الشعر العربي وغيره مع المحافظة على السنن العربي والعمل لتنوع أغراضه وفنونه وأخيلته ومعانيه، وإبراز الحياة الحاضرة والمدنية القويمة في صورها الصحيحة، والمحافظة في الشعر على الذوق العربي مع مماشاته لحاجات العصر وروحه. وتوجيه الشعراء إلى القيام بحاجة العامة والتلاميذ من الشعر في أغانيهم وأناشيدهم، وحفّز مواهب الشعراء إلى تهيئة السبل لظهورها والانتفاع بها، وخدمة اللغة العربية ونشر آدابها وتقويم ملكاتها وتنمية ثروتها من الألفاظ والمعاني والأخيلة، وتوثيق الصلات الأدبية بين مصر والأقطار العربية الأخرى.)

والرسالة تؤيد هذه الأغراض السامية من غير تحفظ، وتدخر غبطتها بها وتصفيقها لها ليوم التنفيذ؛ فإن صوغ الأماني ووضع الأنظمة وإذاعة العزم شيء، وتجويد العمل وتنفيذ الفكرة وتحقيق الغرض شيء آخر. ولعلك تذكر أن (مجمع اللغة العربية الملكي) سُن له قانون، ورصدت له أموال، ورشحت له رجال، ودعيت إليه دعوة، ووعدت به حكومة، ومع ذلك فقد انقضى عليه عام وهو لا يزال كما كان منذ سنين عدة من عدات المنى، وحديثاً من أحاديث الظنون!!

ص: 2

عيد المولد:

لعل أروع المظاهر الإسلامية في مصر مولد الرسول، لأنه ائتلاف منسجم من جلال الدين وأبهة الحكومة وابتهاج الشعب، ولكنه كذلك أدل الدلائل على البطء الفاتر في شيوع المدنية وارتقاء الذوق في مهد الحضارة القديمة، وأسبق الشرق القريب إلى الحضارة الحديثة!

إن كنت ذهبت إلى هذا الاحتفال منذ بضعة أيام، فثق أنه هو الذي ذهب إليه أجداك منذ عشرات الأعوام!: خيام مضروبة على الثرى الجديب، ومطاعم منصوبة على الطريق المغبر، وملاعب كنماذج الصناعة في عهد (ما وراء الفن)، وملاه يراها المثقف فبظن نفسه في مصر غير مصره، أو في عصر غير عصره!

أظهر المظاهر في هذا العبد شيئان: الأسهم النارية وهي الشيء الوحيد المدني. لأنها الشيء الوحيد الأجنبي! والحلوى، وهي موضع البلوى ومحل النظر!: حوانيت خشبية وقتية ثابتة أو منتقلة، تكدست فوق رفوفها البالية ألوان (السمسمية والحمصية والسكرية والعلف)، ثم قامت على حواشيها تماثيل وعرائس هشّة من الحلوى الرديئة، عليها غلائل فاقعة الألوان من الورق المصبوغ، وكل ذلك في غير ذوق ولا جمال ولا فن، وكل ذلك من غير غطاء ولا وقاء ولا ستر! إنما هي مهبط للذباب والغبار، طول الليل وطول النهار! يراها الخاصة فيشمئزون من شكلها القبيح، وقذرها البادي، وبائعها الوسخ، ويحملها العامة إلى بيوتهم في المناديل الغليظة والجرائد القديمة فيحملون مثابة للنمل ومباءة للجراثيم!

إن حلوى عيد الميلاد في ديسمبر، وألعاب يوم الحرية في

يوليو، مثلان أجنبيان في سلامة الذوق وجمال المظهر وحسن

المتاع، فلتبق حلوانا وطنية، ولتبقَ ألعابنا شرقية، ولكن ارفقوا

بالذوق والجمال والصحة فأدخلوا عليها شيئاً من المدنية! أحمد

حسن الزيّات

ص: 3

‌لغو الصيف

للدكتور طه حسين

(2)

من هنا، يا أستاذ من هنا! وأذن لي في أن أسعى بين يديك فلا بد لك من دليل. ثم سعت أمامه رشيقة أنيقة في طريق طويلة جميلة، يحفّها من جانبيها الشجر والزهر، وفيها قليل من ضيق، وشيء من التواء. وقد استمتعت الأشجار القائمة على جانبيها بشيء من الحرية عظيم لا يستمتع به الناس في هذه الأيام، فمدت أغصانها كما شاءت في غير نظام، حتى اختلط بعضها ببعض والتف بعضها ببعض. وجعلت الآنسة تسعى أمامي رشيقة رفيقة، وتجدُّ في التفريق بين هذه الأغصان الملتفّة المتعانقة لتشقّ طريقها وطريق صاحبها، وكأنها كانت تجد في ذلك شيئاً من العسر اللذيذ، فكانت تحاول أن تعتذر بهذه الجُمل السهلة اليسيرة الفارغة التي تقال في مثل هذه الحال: ليست الطريق سهلة هنا، يجب أن تحتاط، وما رأيك في هذه الأغصان التي تريد أن تداعبنا وإن لم نطلب إليها المداعبة؟ حقاً لقد أسرفنا في إهمال هذه الأشجار فأسرفت في الانتفاع بحريتها. وكان صاحبها يجيب على هذه الجمل بضحك فارغ لا يدلُّ على شيء إلا على أنه لم يكن يجد ما يقول. لأنه لم يكن يسمع لهذه الجمل التي تلقى إلا بإحدى أذنيه. وقد كانت نفسه كلها مفتونة بهذه الطبيعة الحرة المطلقة، وبما بينها وبين حياة الناس في هذه الأيام من تناقض واختلاف. ولعله كان يُعجبْ بهذا القوام المعتدل الذي كان يسعى أمامه في رفق، ويجاهد هذه الأغصان في لباقة وظرف، ولكنه كان يخفي حتى على نفسه هذا الإعجاب الذي لو أحسّتْه صاحبته لضاقت به ضيقاً شديداً. حتى إذا طال سعيهما في هذه الطريق الخفيّة الملتوية انتهيا إلى رقعة واسعة رحبة من الأرض، وقد فرشت ببساط ناعم كثيف من العشب، وانتثرت فيها قطع بديعة من الزهر، قد نسِّقت أحسن تنسيق وأجمله، وقامت في وسطها مائدة قد نثرت عليها أوراق الورد في كثرة تلفت النظر. فلما انتهيا إلى هذا المكان الهادئ الباسم الجميل، أرسلت من صدرها زفرة ضاحكة وهي تقول: لقد انتهى الجهد وآن للمتعب أن يستريح، اجلس يا سيدي فهنا يحسن الحديث فيما أظن. قال: بل هنا يحسن الاستماع. قالت: الاستماع لمن! الاستماع لماذا؟ قال: الاستماع لك والاستماع لهذا الصمت الناطق من حولنا.

ص: 4

قالت: دع عنك الاستماع لي فما أحسب إلا أنك قد سئمته، أو ستسأمه، وما أحسب إلا أنك قد زهدت فيه أو ستزهد فيه حين يستأنف بيننا الحوار، فيستأنف بيننا الحوار من غير شك، ولكن حدِّثني عن الاستماع للصمت كيف يكون؟ وحدثني عن الصمت كيف ينطق أو كيف يصدر عنه الكلام؟ وكأنا في أثناء هذا الحديث قد أخذا مكانهما إلى المائدة وجهاً لوجه. وكان صاحبها حائر النظر بعض الشيء يردده بين السماء والأرض، ويردده بين قطع الزهر المنتثرة من حوله وبين آنية الزهر القائمة على المائدة، وبين أوراق الورد المنثورة بين يديه. قالت: ألست قد زعمت لي منذ أيام أنك تحب لثم الورد وشم القرنفل فهذا هو الورد تستطيع أن تمتع نفسك به كيف أحببت، أنظر إليه مختلفاً ألوانه مستوياً على سوقه، بعضه قد هام بالحياة والضوء فانبسط لهما انبساطاً وأخذ يلتهمهما التهاما، وبعضه قد أحبهما، ولكنه يسمو إليهما في استحياء فيتفتح لهما قليلا قليلا، وبعضه يحسّهما وينعم بهما ولكنه لا يكاد يشعر بهذا الحس وهذا النعيم، فهو أكمام لم تتفتح بعد. وانظر إليه أسيراً في هذه الآنية لم يبق فيه من الحياة إلا ذماء يسير يمسكه عليه هذا الماء الذي تحتويه الآنية. وانظر إليه صريعاً قد فقد الحياة وتفرقت أوراقه، وانتثرت بين يديك غضة، ولكنها تسرع إلى الذبول أو يسرع إليها الذبول.

وهذه زهرات من قرنفل قد هُيِّئتْ لك وفرقت في آنية الورد تبعث إليك عرفها هادئا قويا. فماذا تريد فوق هذا؟ قال: لا أريد إلا أن تمضي في هذا الحديث الذي أخذت فيه منذ الآن، فإني لا أعرف ترجمة عن هذا الصمت الذي كنت أريد أن اسمع له أبْلغْ من هذه الألفاظ التي ينثرها حديثك العذب. قالت: وما زلت مشغوفاً بالعبث لا تفرغ منه إلا لتعود إليه. لقد أنبأتني عن حبك للورد والقرنفل، فها أنت ذا بين الورد والقرنفل، فحدثني أنت بحديثهما فأنت أعلم به وأقدر عليه مني. قال: ما أعرف يا آنسة أن لهما حديثاً يحكى، فان كان لهما حديث فما أعرف أن أحداًيستطيع أن يحكيه غيرهما فاستمعي لهما إن شئت، وغيركِ فاسمعيني حديثهما إن شيءتِ، فإنما أنت زهرة بين الزهر.

قالت: كأنك تريد أن تحفظني. فاعلم أنك لن تبلغ ما تريد، ولن تثير حفيظتي، ولن تصرفني عما أزمعتُ من أن أسمع منك حديث الورد والقرنفل. فلا تلتوِ به فلن ينفعك الالتواء. وأقبلت خادم تسعى وهي تحمل صينية عليها إبريق وأكواب. فوضعت إبريقها،

ص: 5

وصفّت أكوابها، وانصرفت متثاقلة. وكانت عجوزاً شمطاء قد انحنت قامتها، وأسرف الذبول في وجهها، فلم تكد تبقى فيه قطرة من حياة. وكان منظرها في هذا الفناء مناقضاً أشد المناقضة لما يحيط بها من هذه الحياة القوية، فهمّ أن يتكلّم، ولكن صاحبته قالت وقد فهمت عنه ما كان يريد: ومع ذلك فهي أنشط منك للحياة، وأحرص منك على نعيمها ولذّاتها، لا يفوتها موسم، ولا يفلت منها عيد، ولا تقصَّر عن فرصة إن سنحت لها لتشترك فيما يراه الناس سعادة ونعيماً أو لهواً وصفواً. وهي بعد هذا كله صماء مغرقة في الصمم تستطيع أن تتحدث إليها وتصيح بها فلن تسمع لك ولن تفهم عنك. وهي بعد هذا وذاك قد نيَّفت على الستين، ولكن هات حديث الورد والقرنفل. ثم عمدت إلى الإبريق فملأت منه قدحين وهي تقول: لقد أنسيت، فهذا يوم الورد تستطيع أن تراه وأن تشمه، وأن تلمسه، وأن تلثمه، وأن تشربه أيضاً. فليس في هذا القدح بين يديك إلا ماء الورد.

والآن تحدث، فقد يحسن الحديث. قال: أيّ حديث يحسن في مصر وما أعرف بلداً أفضح لسر الحديث، وأكلف بنشره وإذاعته من هذا البلد. أتذكرين؟ قالت: وكيف لا أذكر؟ إنك تشير إلى مجلسنا ذاك على شاطئ النيل، وإلى حديثنا هناك عن شيوخ الأدب وشبابه. فقد نشر هذا الحديث في الرسالة. قال: ومع ذلك فلم يكن في مجلسنا ولا قريباً منه أحد. قالت: ولست أنت قد ألقيته إلى من أذاعه، هذا شيء لا شك فيه. قال: ولا أنت، هذا شيء لم يخطر لي. قالت: وإذن؟ قال: وإذن فهو طائر من هذه الطير التي تؤوي إلى الأغصان إذا كان الأصيل ودنا الليل فتسمع حديث الناس وتعيه، وتلقيه في روع الكتّاب والشعراء. أو هو جنيُّ من هذه الجن التي تألف شاطئ النيل فتقيم في ظل الأشجار التي تقوم عليه، أو تسكن تحت هذا الماء الذي يجري فيه، وتسمع أحاديث الناس والأشياء وتعيها فتنقلها إلى الكتاب والشعراء وتنطق بها ألسنتهم، وتجري بها أقلامهم. ولهذا لست مسرفاً في حب الحديث، وفي حب الحديث عن هؤلاء الذين لا يحبون أن يتحدث الناس عنهم إلا بما يريدون لا بما يريد الناس. قالت: من الظواهر التي لا تحتاج ملاحظتها إلى دقة ولا إلى ذكاء أن مصر مفشية للسر، قليلة الحرص على الكتمان. أنظر إلى بيئاتها المختلفة، فلن ترى لها سراً. أحاديث ساستها وقادتها وأدبائها وأصحاب الأعمال فيها ذائعة شائعة يعرفها الناس جميعاً ويتناقلها الناس جميعاً. ومصدر هذا في أكبر الظن أن طبيعة مصر نفسها

ص: 6

صافية واضحة، مسرفة في الصفاء والوضوح، سماؤها صحو دائماً، لا يتكاثف فيها الغمام، ولا يتراكم فيها السحاب، وأرضها مبسوطة هينة لا ترتفع فيها الجبال الشاهقة، ولا تنتثر فيها الكهوف والأغوار، ولا تنبت فيها الغابات الكثيفة الملتفّة، فأمرها كله ظاهر، وحديثها كله شائع، وشمسها المشرقة دائماً لا تؤتمن على سر مصون. على أننا لم نقل في حديثنا ذاك شيئاً يسوء الأدباء أو يغضب أحداً، فليس من إذاعته بأس وإن كنت لا أحب ذلك، ولا أرتاح إليه، ولا أخفي عليك أني إنما أثرت أن يكون اجتماعنا الليلة عندي لأني واثقة أن لنا من العزلة ما نحب، وبأن أحداً لن يستطيع أن يندسّ لنا، أو يتسمّع علينا. قالت: إلا هذه الطير التي تؤوي إلى الأغصان إذا أقبل الأصيل ودنا الليل، وإلا هذه الجن التي تستظل بالأشجار وتتضاءل أحيانا حتى تتخذ لنفسها منازل في ثنايا العشب وبين أوراق الأزهار. في هذه الطير، وفي هذه الجن، وفيما يحيط بنا من الزهر والشجر من يسمع لنا وينمّ بما نتساقى من ماء الورد، وما يجري بيننا من لغوِ الحديث، قالت: وأيُّ بأس بأن يذاع ما يجري بيننا من لغو الحديث؟ إنما يكره الناس جد الحديث ويخافونه، فأما لغو الحديث فالناس مزدرون له، أو راغبون فيه. قال: وهل تظنين أنا نستطيع أن نأخذ بالجد حين نعرض للحديث عن الأدب والأدباء في مصر؟ وأين تجدين الجد في حياة الأدب والأدباء؟ أتجدينه في هذا الحوار الذي يطول ويطول حتى يثقل ويمل حول ألفاظ وقعت في كتاب، أو حول رأي رآه ناقد في كتاب، أو حول حديث كان بين كاتبين، أو مناظرة يسيرة كانت بين أديبين؟ أليس هذا كله دليلاً على فراغ البال واحتياج الأدباء إلى ما يشغلون به أنفسهم عن هذه الأحاديث الطوال الثقال التي تضيّع الوقت، وتفني الجهد دون أن تنفع أو تفيد؟ قالت: هذا حق ولكن الأدباء أصحاب كلام وما داموا يتكلمون فهم يؤدون حق الناس عليهم فالناس لا ينتظرون منهم إلا أن يكتبوا لهم ما يقرؤون. قال: لا كل ما يقرؤون بل ما ينتفعون به إذا قرؤوه. قالت: هنا نختلف فقد ينبغي أن نتفق أولاً على معنى الانتفاع بما يقرأ أنت تريد إذا قرأت كتابا أو فصلا أن تفيد شيئا جديدا أو أن تضيف علما إلى علم وأن تنمي حظك من الثقافة أو أن يثير ما تقرأه في نفسك عاطفة أو لونا من ألوان الشعور وأنت لا ترضى من القراءة دون هذا.

فأنت عسير ليست السبيل إلى إرضائك سهلة ولا ويسيرة. وأنت لذلك تلتمس قراءتك عند

ص: 7

قليل جدا من أدباء الشرق وعند عدد غير كثير من أدباء الغرب. ولكنك تخطيء كل الخطأ حين تزعم أن القراء جميعا يطلبون إلى الكتّاب مثل ما تطلب إليهم. ولو قد فعلوا لكان الأدباء شر الناس حالاً وأدناهم إلى العجز والإفلاس. أنت وأمثالك تشقون على الأدباء فيما تطلبون ولكني أنا وأمثالي لا نطلب إليهم كل هذا أو لا نطلبه إليهم في كل وقت، فنحن نحب أن ننتفع إذا قرأنا ولكنا نكتفي من القراءة بما دون ذلك. نريد منها أن تلهينا إذا ركبنا الترام أو القطار وان تعيننا على إنفاق الوقت إذا لم يمكنا نشاطنا من العمل وان تدعو إلينا النوم إذا أبطأ علينا. ولا تغضب أن زعمت لك إننا قد نضيق بالقراءة الخصبة الغنية ونؤثر عليها هذه القراءة السهلة الفارغة التي لا تنفع ولا تضر ولكنها تعين على إنفاق الحياة. وأنت تستطيع أن تنكر على أدبائنا ما شئت ولكنك لن تستطيع فيما اعتقد أن تنكر عليهم انهم يكتبون لنا من الكتب وينشرون لنا من الفصول ويثيرون بيننا من ألوان الخصومة والحوار ما يمكننا من أن نركب الترام والقطار ومن أن نقرأ إذا أجهدنا العمل ومن أن نتعجل النوم إذا طال انتظارنا له. وأنت تظن أن هذا قليل وأؤكد لك أن هذا كثير فليس الأمر ذو الخطر في الحياة هو أن نتعلم ونثقف أنفسنا وإنما الأمر ذو الخطر حقاً هو أن نحتمل الحياة وأدباؤنا يعينوننا على احتمال الحياة حقا بما يكتبون ويذيعون. قال: قد يكون هذا حقا ولكنه مؤلم ثم سكت وأطال السكوت. وسكتت هي فأطالت السكوت. ثم مد يده إلى قدحه فاستنفد ما كان فيه من ماء الورد. وأراد أن يعود إلى صمته ولكنها سألته باسمة: فيم هذا الصمت الطويل! أمستمع أنت لحديث الزهر؟ أم مشفق أنت من الطير والجن أن تنم عليك بما تقول؟ هنالك ابتسم ابتسامة شديدة المرارة وقال في صوت حزين: كلا لست استمع للزهر ولا أخاف الطير والجن وإنما أستمع لنفسي وأخافها. فهل تعلمين أنك قد بغضت إليّ الكتابة والإنتاج الأدبي منذ اليوم. قالت وهي مغرقة في الضحك: أنا! ولماذا؟ قال: من يدري؟ لعلي لا أكتب ولا أنشر إلا لأعين القراء على أن يركبوا الترام والقطار وينفقوا الوقت إذا أضناهم العمل ويتعجلوا النوم إذا أبطأ عليهم النوم. قالت: لم أقل هذا وهبني قلته أليس كذلك يكفيك أن تكون عوناً لقرائك على احتمال الحياة؟ قال: لا. قالت: انك لواسع الطمع عظيم الكبرياء. ثم مدت يدها إلى أناء من آنية الزهر فأخذت منها قرنفلة وضعتها في صدره ووردة أدنتها من فمه. وقالت: لتلتمس عزاءك عند هذه الوردة

ص: 8

وهذه القرنفلة فما أرى إلا انهما قادرتان على هذا العزاء. ولكنك مخطئ أن ظننت انك قد أنسيتني بهذا الحديث قصة الورد والقرنفل فما زلت أذكرها وأنتظرها. فتحدث. قال: إنها يا آنسة قصة طويلة وليس هذا وقت البدء فيها. فإذا عدت من رحلتك السعيدة إلى أوروبا فسأحدثك بها، وأنا زعيم بأنك ستجدين في الاستماع لها لذة ورضى.

ص: 9

‌آفة اللغة هذا النحو.

. .

أذكر أن الطالب الناشئ كان يدخل الأزهر فيجد أول ما يقرأ من كتب النحو شرح الكفراوي على متن الأجرومية، وهذا الكتاب شديد الكلف بالأعراب، يأخذ به المبتدئ أخذا عنيفا قبل أن يعلمه كلمة واحدة من أقسام الكلام ووجوه النحو. يفتحه الصبي المسكين فلا يكاد يقول (بسم الله الرحمن الرحيم) حتى يصيح به الشارح أو المقرر أن أنتظر حتى أعرب لك البسملة! وهنا يسمع لأول مرة بحرف الجر الأصلي والزائد، ويعلم بطريقة أن له في البسملة تسعة أوجه نشأت من رفع الرحمن ونصبه وجره، مضروبة في رفع الرحيم ونصبه وجره، ثم يمضي المعرب في إعراب هذه الأوجه بالتخريج العجيب والحيلة البارعة حتى تقف قدرته عند وجهين لا يجد لهما مطلعا ولا مأتى فيمنعهما، وهما جر الرحيم مع رفع الرحمن أو نصبه؛ ثم يخشى بعد ذلك الجهد أن يعبث النسيان الساخر بهذه الدقائق الغالية فيسجلها في هذين البيتين وهما:

أن ينصب الرحمن أو يرتفعا

فالجر في الرحيم قطعاً منعا

وأن يُجر فأجِز في الثاني

ثلاثة الأوجه خذ بياني!

يأخذ الطالب هذا البيان على العين والرأس ثم يخطو خطوة فتقع عينه على العنوان الأول في الكتاب وهو (باب الإعراب) وهنا يقول له الشارح: قل باب الأعراب بالرفع أو باب الأعراب بالنصب أو باب الأعراب بالجر فلن تعدو وجه الصواب في أي حالة!! فالرفع على أن (باب) خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا باب الأعراب، أو على أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره: باب الأعراب هذا محله، والنصب على أنه مفعول به لفعل محذوف تقديره: اقرأ باب الأعراب، وأما الجر فعلى أنه مجرور بحرف جر محذوف تقديره: أنظر في باب الأعراب!! ثم يصعد الطالب في معارج النحو على كتاب من هذا الطراز بعد كتاب، حتى يتسنم ذروته، وليس في ذهنه مذهب صحيح ولا قاعدة سليمة. وماذا تنتظر من مثل هذا الخلط غير إفساد الذوق وإضعاف السليقة، وطبع القرائح على هذا الغرار من التفكير العابث والتقدير الهزيل؟ جنى هذا النحو الفوضوي على الناشئين في معاهده فعمى عليهم وجوه الأدب، ثم فتح لهم من الجدل اللفظي والتخريج اللغوي أودية وشعابا يقصر دون غايتها الطرف. فعندهم كل صواب يمكن أن يخطَّأ، وكل خطأ يمكن أن يصوّب وكل كلام على أي صورة يجب أن يفسر أو يؤّول! أخرق القواعد، وأقلب الأوضاع، وأنطق

ص: 10

اللفظ على أي حركة، واستعمله في أي معنى، فانك واجد ولا شك من هؤلاء من يلتمس لك وجها من وجوه (البسملة) السبعة، أو مخرجا من مخارج (باب الأعراب) الثلاثة!

عرفت أيام الطلب شيخا قد ابتلي بهذه الشعوذة، فحشا جسمه بهذا العبث النحوي حتى ليرشحه من جلده، ويرعفه من أنفه، ثم يتكلم فيتعمد اللحن القبيح، فإذا أنكر عليه منكر انفجر عن هذا الهوس فذكر لكل خطأ وجها، ولكل وجه علة، ثم يقول في تفيهق وزهو:(لولا الحذف والتقدير، لفهم النحو الحمير) وسمعت أن شيخا ضعيف البصر ممن يسوغ في فهمهم كل كلام، قرأ قول الرسول (ص)(المؤمن كيِّس فطِن، فصحّفها: المؤمن كيس قطن! وراح يحملها على التشبيه فيقول: معناه أن المؤمن أبيض القلب كالقطن: وزعموا أن شيخا كبيرا كان يفسر كتاب الله وهو لا يحفظه، فرأى قوله تعالى: (إذ يبايعونك تحت الشجرة) فقرأها أذئبا يعونك. . . وكتب في تعليلها وتأويلها أربع صفحات من القطع الكبير بالحرف الصغير!!. وحدثوا أن ممتحنا من هذا النمط، كتب في ورقة طالب راسب:(لا يصلح) ثم ظهر لأمر خارج عن إرادته أنه ناجح، فكتب تحت هذه الجملة:(قولي لايصلح، صوابه يصلح ولا زائدة) والأحاديث مستفيضة عمن نكبوا بهذه الدراسة دون أن يكون لهم من المنطق ضابط، ولا من الطبع دليل.

إن ما نجده في النحو العربي من التناقض والشذوذ وتعدد الأوجه وتباين المذاهب إنما هو أثر لاختلاف اللهجات في القبائل، فقد كان رواة اللغة يرودون البادية ويشافهون الأعراب، فيدونون كلمة من هنا وكلمة من هناك، فاجتمع لهم بذلك المترادفات والأضداد، وتعدد الجموع والصيغ للفظ. واختلاف المنطق في الكلمة، والنحاة مضطرون إلى أن يمطوا قواعدهم حتى تشمل هذه اللحون، وتستوعب تلك اللغات، فأغرقوا القواعد في الشواذ، وافسدوا الأحكام بالاستثناء، حتى ندر ان تستقيم لهم قعدة أو يطرد عندهم قياس. وزاد في هذه البلبلة أن أسرف أعاجم النحاة في التعليلات الفاسدة، والتقديرات الباردة، منذ نهج لهم ذلك النهج ابن أبي اسحق الحضرمي، فجعلوا النحو ضربا من الرياضة الذهنية، والقضايا الجدلية، التي لا يصلها باللغة سبب، ولا يقوم عليها فن ولا أدب. ليس من شك في أن دراسة النحو على هذا الشكل تفيد في بحث اللهجات في اللغة، ودرس القراءات في القرآن، ولكن دراسته لضبط اللغة وتقويم اللسان أمر مشكوك فيه كل الشك. نحن اليوم

ص: 11

وقبل اليوم إنما نستعمل لغة واحدة، ونلهج في الفصيح لهجة واحدة، فلماذا لا نجرد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة، وتقوم تلك اللهجة، وندع ذلك الطم والرم لمؤرخي الأدب، وفقهاء اللغة، وطلاب القديم، على أن يطبقوه على الحاضر، ولا يستعملوه في النقد. وإنما يلحقونه بتلك اللغات البائدة التي خلق لها وتأثر بها، فيكون هو وهي في ذمة التاريخ وفي خدمة التاريخ.

لقد صنعت المدارس المدنية شيئا من ذلك، فنجحت بعض النجاح في تجريد (نحو) عام يكاد يسير في وجه واحد، ولذلك لا تجد المتخرجين فيها يتقارعون في النقد بالنحو القديم، ويقصرون المناظرة على هذا الجدل العقيم. ولكن فريقا ضئيل الشأن من بقايا الثقافة القديمة في مصر والعراق، لا يزالون يظنون أنا مجبرون على إخضاع ألسنتنا وأقلامنا لتلك اللهجات البالية، فيقعد بهم تخلف الذهن وضعف الملكة وكلال الذوق، عند هذه البقايا الأثرية ينبشون عنها قبور البلى، ثم ينثرونها كالشوك في طريق الأدباء الموهوبين، ويتبجحون بان هذا اللغو هو اللغة!!

يقرؤون الكتاب القيم للعالم الباحث، أو للأديب المجدد، فيعمون عن خطر البحث في نفسه، ومجهود الباحث في بحثه، ولا يرون إلا حرفا وقع مكان حرف، أو جمعا لم يجدوه في كتب الصرف! لا نريد أن نسمي الأسماء ولا أن نضرب الأمثال، فحسب الشذوذ أن يدل على نفسه، وحسبنا أن نهيب بالعلماء والأدباء أن يشذبوا هذه الزوائد من لغتنا لتقوى، ويُنَحُّوا هذه الطفيليات عن أدبنا لينتعش.

الزيات

ص: 12

‌رأي في أوراق الورد

للآنسة عفيفة سيد

قلنا في العدد الحادي عشر في معرض الرد على الآنسة الفاضلة عفيفة (إن في الأدب العربي الحديث طرفة من هذا النوع الذي تريدين (الرسائل الغرامية) هي آية من آيات الفن في دقة الصنعة، ولعلها لا تقل جمالا عن تماثيل (فدياس) وصور (رفائيل) ولكنها كهذه التماثيل وتلك الصور ينقصها شيء واحد هو كل شيء: ذلك هو الروح)

أردنا بتلك الطرفة أوراق الورد (وقد كتبناها سهوا رسائل الورد) للأستاذ الرافعي. ثم رجونا من الآنسة عفيفة أن تقرأها وتبدي رأيها فيها، فقرأتها ثم بعثت إلينا بهذه الرسالة.

سيدي الأستاذ:

ما كان الأمر يحتاج إلى رجاء (فرسائل الورد) أو (أوراق الورد) أسم مشوق يستميل القلب ويستهوي النفس. ومن ذا الذي لا يسرع إلى أوراق الورد لتبهج قلبه، وتزيل كربه، وتهذب إحساسه، وتغذي خياله؟

غير أني لم أكد أطالع رسالتين من رسائل الورد حتى عرفت سبب الرجاء، وقلت لعل الأمر كان يحتاج إلى ألف رجاء. إذ وجدت إن من العسير علي بل من المتعذر أن امضي في مطالعتها، وكدت أن ابعث إليك برأيي فيها مكتفية بما طالعت، غير أني وجدت من الإسراف أن احكم على الكتاب بقراءة رسالة أو رسالتين، فمضيت في المطالعة والله يعلم كم مرة انقبضت نفسي، وكم مرة اعتراني الملل، حتى زهدني في أن أدلي برأيي فيها.

ولعلك يا سيدي الأستاذ لو كنت دفعت بي إلى الوراء سبعمائة عام مضت لوجدت في (البهاء زهير) صورة صادقة لنفسي، ومرآة جلية لعواطفي وشعوري، بل لذكرني لفظه الرقيق ومعناه الدقيق رقة طبيعة مصر وعذوبتها، بل لوجدت في مقطوعاتها الحية ما يجعلني أن أتخيل إن كاتبها معاصرا لنا اكثر من كثير من معاصرينا الموجودين.

حاولت أن أقف على الفكرة التي تدور حولها (أوراق الورد) فلم أوفق، فهي رسائل مفككة لا يتصل بعضها ببعض، لا تترجم عن عواطف صحيحة ولاعن شعور صادق. يعرض علينا الكاتب عواطف مبهمة فيها تكلف وفيها صنعة، دون أن يبعث فيها شيئا من شخصيته وميوله وعواطفه. لا أثر فيها لروح الجماعة أو البيئة التي خضع لها الكاتب. هو متكلف

ص: 13

متصنع، وإلا لأطلق لشعوره العنان وترك نفسه على سجيتها، فلا يتسامى عن وصف الحياة الاجتماعية، ولاعن الحوادث اليومية، مما يسميه هو حشواً، لأن المترجم الصادق هو من يعني بالصغيرة قبل الكبيرة فلا يتقيد بقيود لفظية ولا معنوية ولا يضع بيننا وبينه حجابا كثيفاً.

يسير الكاتب إلى غرضه في المعنى القليل إلى كثير من التعقيد اللفظي، ليخلق منه فلسفة، فإذا أراد أن يقول ما قاله شوقي:

لا أمس من عمر الزمان ولا غد

جمع الزمان فكان يوم لقاك

يقول في صفحة 245:

(قد عرفنا أن لنا أعماراً محدودة، أفلا يجوز أن ساعات الهناء والسعادة إنما كانت محدودة لأنها أعمار لأعمارنا؟ فبضعة أشهر من الجفاء أو البعد يكون عمرها هو ساعة اللقاء التي تنفق بعدها، وسنة كاملة من عمل يكون عمرها يوم سرور إن كان هذا صحيحا فما أقصر عمرك يا عمري!. . .)

فها هو ذا شعر شوقي لرقة لفظه وسهولة معناه، يكاد أن يكون نثراً، أما نثر (أوراق الورد) فمحتاج إلى طول أناة لتعرف قصده وتقف على مرماه.

أنا يا سيدي الأستاذ لم أعرف السر في توجيهك نظري إلى (أوراق الورد) فإذا كان قصدك أن تدفع بالبرهان قولك: إن الفن وحده لا يوجد الشعور فهذا الكلام لا يحتاج إلى برهان، وأنا مؤمنة به كل الإيمان. وأما إذا كنت تعني جادا أن تطلعني بقراءتها على جمال في الأدب العربي الحديث، لعله لا يقل جمالا عن تماثيل (فدياس) وصور (رفائيل)، فأرجو ان يسمح لي سيدي الأستاذ ألا أشاركه هنا الرأي، فأوراق الورد لا جمال فيها إذ لا معنى لها، والمعنى مصدر الروح، وهو إن حلَّ في الشيء المادي كونه وناسب بين أجزائه، وجعلها وحدة لا تنفصم.

إذن لا جمال حيث لا روح ولا وحدة ولا تعبير والمعنى مصدرها جميعا.

أرجو أن يتفضل سيدي الأستاذ فيدلني على موضع الجمال فيما سأنقله إليه نموذجاً لما اشتمل عليه الكتاب (من رسالة في العتاب صفحة 207)

(. . . ما هذا يا سيدتي وليس خيط عمري في إبرتك. . . ولا ما يتمزق من أيامي تصلحه

ص: 14

(ماكينة الخياطة) بقدرتك، وان كنت أنا أقل من (أنا)، فلست أنت بأكثر من (أنت)

(. . . فان كان قلبك يا سيدتي شيئا غير القلوب فما نحن شيئا غير الناس، وان كنت هندسة وحدها في بناء الحب، فما خلقت أعمارنا في هندستك للقياس، وهبي قلبك خلق (مربعاً) أفلا يسعنا (ضلع) من أضلاعه؟ أو مدوراً أفلا يمسكنا محيطه في نقطة من انخفاضه أو ارتفاعه؟ وهبيه (مثلثاً) فاجعلينا منه بقية في (الزاوية) أو (مستطيلاً) فدعينا نمتد معه ولو إلى ناحية. . . ما بال كتابنا يمضي سؤالاً من القلب فيبقى عندك بلا (جواب) ونبنيه نحن على حركة قلوبنا فتجعلينه أنت مبنياً على (السكون) ثم لا محل له من (الإعراب). . . الخ).

أما الصور والتماثيل التي تفوز منا بإعجاب الجمال، فيكاد أن يكون لها روح، أو لها روح بالفعل من معانيها التي حدت بعبقرية المثال أو المصور إلى تصوير الأفكار الجيّاشة بمخيلته، فهي معبرة عن الرجاء، أو الحب، أو الحكمة، أو الخوف، أو الوداعة، أو الطهارة.

وسقراط كان يقول عن خبرة انه يجب على المثال أن يصور حالة الذهن في تمثاله، وكانت تماثيل الإغريق لها أثر كبير في تقرير مزاج الأمة. هذا رأيي في (أوراق الورد) وكم أحب أن اقرأ كلمة الأستاذ الفاصلة. . .

والرسالة تترك الكلمة للأستاذ السيد مصطفى صادق الرافعي

إلى الصديق الراحل

ص: 15

‌دُودٌ على عُود

للدكتور محمد عوض محمد

ها أنت ذا، أيها الصديق، قد استويت ومن معك على ذات ألواح ودسر. وقد أذنت ساعة الرحيل، ولم يبق بد من الفراق، فلم نجد مناصًا من النزول إلى البر، تاركيك على ظهرها، غير آسف لفراقنا، ولا مستشعر لوعة على تركنا. . . وانطلق الصفير والزئير يشقان الفضاء، فإذا السلالم قد رفعت، والأهلاب قد جذبت من قاع البحر. وإذا سفينتك آخذة في الابتعاد على مهل كأنها لا تريد أن تؤلمنا ببعدكم مرة واحدة؛ وإذا مناديلنا تخرج من جيوبنا بيضاء ناصعة، وقد حملتها الأيدي أعلاما تهزها هزاً؛ وبين الجوانح قلوب تخفق خفقان الأعلام، ولكن أعينكم لا تراها. وها أنتم أولاء وقوف بأفريز السفينة، تخفق مناديلكم بأيديكم خفقانا فاتراً، لم ينبعث من قلب حزين، ولا نفس آسفة؛ وعلى ثغوركم ابتسامة تعبت في تأويلها وتفسيرها؛ وأحسبها ابتسامة الرثاء والإشفاق: إنكم ترثون لنا، معشر المقيمين، وتنظرون إلينا كأننا من نوع آخر غريب عنكم، نوع يعيش عيشة الأشجار: تنشأ حيث تغرس، ثم تنمو عليها الغصون والأوراق، والزهر والثمر؛ وهي باقية في مكانها لا تبرح: وكلما تقدم بها العهد ازدادت تشبثا بمنبتها، وتعلقا بمغرسها، لا تعرف ما ركوب البحار، ولا لذة التنقل والأسفار. . .

أجل كنتم تنظرون إلينا نظرة إشفاق، وكأنكم بعض الآلهة تلقي نظرة من السماء على ما دونها من الكائنات. . . وفي تلك الساعة رأيت دموعا كثيرة تنهمل، ولكنه كانت تتساقط من عيون المودعين، لا الراحلين. . فيا ويل الشجى من الخلي؟ ويا ويل المجهود من المجدود!

وعجبت لك أيها الصديق، كيف ترحل عنا باسم الثغر، قرير العين مثلج الصدر. وأنت تعلم انك راحل عنا أشهرا طوال، لا ترانا فيها ولا نراك، أليس للود القديم حرمة، ولا للحب لمؤلف رعاية؟ وهذا الوطن العزيز الذي أنبتك ثراه وغذّاك هواؤه، وأظلك دوحه، وأنضجتك شمسه، مالك لا تحس لفراقه جزعا ولا أسفا؟ بل كأنك بهذا الفراق جد مغتبط، ولهذا الرحيل مشتاق متلهف! لا تحاول الإنكار! إن سرورك بهذا البعاد أكبر من أن يخفيه التكلف، وما أنت ممن يحسنون تصنع الأسف، بل إن بك شوقا شديدا بادياً لمغادرة هذه

ص: 16

الديار، وكأنك لا تحيا بيننا تلك الشهور من كل عام، إلا لكي تقضي هذه الأشهر بعيداً عنا. فيا عجبا! أي شيء هذا السم الزعاف الذي يملأ هواء بلادنا، ويحملنا على أن نجد في البعد عنها، ويُنفِّر الابن البار من أمه البرّة؟ أهو هواؤها الحار، أم مجتمعها الفاتر، أم ما يحيق بها من ظلم وجحود، ومن حرج وضيق؟

لقد أخذت سفينتك تبتعد، ولم تلبث أن اختفت عن الأبصار وأضحت كأمل البائس لا تزداد على المدى إلا بعدا. وكأني بك واقفا على ظهرها، تتنفس نفسا عميقا، لكي تخرج من رئتيك ما قد ثوى فيهما من هواء؛ كأنك لا تريد أن تحتفظ حتى بهذا القدر القليل من الذكرى. . . بل تريد أن تأخذ عدتك لحياة جديدة، وأيام سعيدة. فما أخلفك إلا تبقي للشقاء الغابر في نفسك أثراً؟

لكن أمامك في السفينة أيام لا أراني غابطك عليها، بين أناس قد اتخذوا الدعة شعاراً، يصبحون كسالى، ويمسون كسالى، لا يعرفون جدّاً ولا دأبا، أقصى همهم أكلة لذيذة يصيبونها! أو رقدة طويلة يستطيبونها، وما عرفت الناس أدنى إلى الأنعام في مكان منهم على ظهر سفينة. . . قصارى جهد كل منكم أن يقتل الوقت، وأن يتخذ لذلك سبلا شتى: فمنكم العاكف على الشراب، لا يشفي غليله الإسراف فيه. ومنكم المكب على الورق يتسلى بإتلاف القليل من دراهمه أو الكثير. وبعضكم يلتمس اللهو في ألعاب تافهة، أو في تقليب صفحات كتاب هزيل. إذ لا يستطيع أن يجشم نفسه مشقة أو جهداً.

ولقد تقدم العالم في طريق المادة، وجاء الاختراع بسفن ذات قوة وجسامة، ولكن الركب ما برحوا اليوم كما كانوا في قديم الزمن: دود على عود!

أحسبك تتوهم أن سيتاح لك وأنت بالسفينة أن تلتقي بأعظم الرجال، واجمل النساء، ولست أدري على أي َعمدٍ قام في نفسك مثل هذا الرجاء؟ وهو لعمرك جدير بما يصيبه من الخيبة المرة بعد المرة. انك تظن أن العظمة والجمال في العالم من الكثرة بحيث يجوز أن يكون لكل سفينة تشق البحار نصيب منهما، وخيل اليك ان السفينة خير دار تلقاهما فيها، حيث لا مفر لهما منك. وان المجال الضيق كفيل بان يجعل الناس بعضهم مقبلا على بعض والوقت طويل مديد، لابد للناس ان يتعاونوا على قطعه بالحديث والسمر: فالفرصة أذن مؤاتية (فيما كنت تزعم) لأن تنعم نفسك بحديث العظمة ومرأى الجمال.

ص: 17

وما اشد ألمك حين ترى نفسك بين أناس ككل الناس، او أتفه من كل الناس. وان المجال الضيق قد حال بينك وبين الهرب منهم. والوقت الطويل الفسيح قد حباك الفرصة اللازمة لان تعجب كيف استطاع بنو الإنسان أن يشتملوا على كل هذه التفاهة والبلاهة.

لكن، صدقني ان الذنب ذنبك أنت إذ تركت نفسك يحلق بها الأمل الكاذب. فليست ام الدنيا ولودا للعظمة والجمال بالدرجة التي صورها لك الوهم. وما جل بنيها لو فتشت الا الطغام. وليس ببدع إن خلت سفينتك مما كنت تتمناه، ثم نظرت حولك فلم تجد على ظهرها سوى دود على عود.

ولقد تشرق عليكم الشمس صبحا، وملؤها الروعة والبهاء، فتضرج وجنات المشرق بالنجيع، ثم تسكب على صفحة الماء نضاراً وسحراً، وأنتم في أسَّرتكم الضيقة القلقة راقدون، يحاول كل منكم النعاس وسط دمدمة الآلات، وصرير الأبواب والجدران؛ فلا تصيبون من النوم سوى شيء غريب، ليس بالنوم الهادئ، ولا باليقظة أو السهاد، بل هو أشبه بغفلة المخدرين، تتخللها إفاقات قصيرة المدى. . . وأخيراً تنهضون من رقادكم المضطرب، ويقبل بعضكم على بعض تتثاءبون، وتتحدثون أتفه الحديث.

وعند المساء تميل الشمس إلى الغروب، وقد أحاطت بها السحب طبقات بعضها فوق بعض، وهي تنحدر وسطها في شيء من الحيرة، كأنما تلتمس بينها طريقها إلى المغرب. تارة تحتجب وراء سحابة قاتمة حمراء، وطورا تستتر وراء أخرى استتاراً جزئياً لا يكاد يخفيها، كأنها الحسناء في الغلالة، وتارة تنحسر السحب عنها تماما فتبدو للعين كاملة، لكنها ضعيفة لا تبهر البصر، وكأن، سير النهار قد أنهك قواها وأدال منها. فبات من السهل عليك أن تقف أمامها، محدقا في محياها آمنا، وهي كلما ازدادت ميلا إلى المغيب ازدادت ضعفاً وسقما. . . لكنها استطاعت أن تملأ السماء بشعاع أحمر قاني، ونشرته أيضاً على صفحة الماء؛ وقد اختلطت هذه الألوان كأنها بعضها ببعض، فكان منها صور تعجز الوصف.

وأنت تذكر أيها الصديق، أننا قد اتفقنا (وقلما نتفق) على ان هذا المنظر: الشمس الغاربة وسط السحاب المنشور، فوق صفحات اليم، هو أبدع شيء في الطبيعة كلها! وما أخالك الا آلماً اشد الألم، حين تنظر إلى من معك من أهل السفينة، تحاول ان تتحدث إليهم بما يبعثه

ص: 18

هذا المنظر في نفسك من إحساس وإجلال. . . وفي تلك اللحظة يُؤذن مُؤذن العِشاء، فإذا هم يغادرونك في شعرك وسحرك، ويتسللون إلى حجرة الطعام، راغبين عن لذة لا يعقلونها إلى لذة يفهمونها ويستمرئونها. . . وإن الصخور الصماء لتحس من معانِ ذلك الغروب البديع أكثر مما تحسه أفئدة أصحابك هؤلاء وما هم لعمرك، سوى: دود على عود.

ولقد يكون البحر لكم أول الأمر صديقاً، وبكم رفيقا. ولكنه بعد ذلك قد ضاق بكم ذرعا، فأراد ان يريكم انه مثلكم يا بني آدم، ليس ذا وجه واحد. بل إن له أوجها كثيرة، وقد أراكم من قبل صفحة فيروزية زرقاء، ووجها هادئا، أملس ناعما. كأنه سهل فسيح من مرمر أزرق. وكانت جاريتكم تجري عليه في اعتدال واتزان، لا تهتز ولا تميل وكلكم فرح بذلك مسرور. تحسبون أن الوقت قد طاب وأنكم بنجوة من العذاب. ثم رأى البحر أن يريكم وجهاً من أوجهه الأخرى. فعبس وتجهم، وثار ومار، وتطاير من وجهه الشرار. وانقلب صفاؤه إلى كدر، وهدوءه إلى انفعال، وحلمه إلى مكان، ورزانته إلى رعونة، وعلا موجه من كل جانب، ووثب رذاذه على باخرتكم، ودخل إلى نوافذ حجراتكم، وجعلت السفينة تتمايل من اليمين إلى اليسار، ثم من اليسار إلى اليمين ومن الخلف إلى الامام، ثم من الأمام إلى الخلف، سكرى من غير سكر، صرعى من غير صرع.

ولم تك الا لحظة حتى انقلب اطمئنانكم إلى اضطراب، وامتلأت نفوسكم جزعا وقلوبكم هلعا. وانصرفتم عن الطعام والشراب، وعن اللعب والحديث واستحالت رؤوسكم إلى قطعة من صداع واوجاع، وضعفت أرجلكم عن حمل أجسامكم، فارتميتم على سرركم، وأسلمتم أمركم إلى بارئكم.

فيا عجبا! لقد أمعن الإنسان في الإبداع والاختراع، واستحدث كل هذه السفن الهائلة ذات السرعة والفخامة. . . ثم لا يزال ركبها اليوم كما كانوا في عهد عمرو وعمر: دود على عود

تلك أيامكم على ظهرها أيها الصديق. وإني لأرجو لك بعدها سفراً هينا ورحلة ميمونة، وما أجدرك الا تجعلها كلها عبثا ولعبا.

ص: 19

‌توفيق الحكيم

للدكتور حلمي بهجت بدوي

لشبابنا المثقف شكوى تواضَعَ على صيغتها على اختلاف ألوان ثقافته،

وتلك الشكوى هي نقص الغذاء الفكري في الحياة المصرية. وقد كان

لتبين وجه هذا النقص آثار بغيضة، فهو أولا منتشر في النفس في

مزيج من السأم والتشاؤم، وهو على أي حال باعث في العزيمة خوراً

وفي الهمة فتورا، وهو بعد ذلك (وهنا وجه السوء) دافع إلى المغالاة

في التقدير. إذ كثيرا ما يصيب الصيغة الصحيحة هوى من النفس

فتظل في عرف الناس صادقة على مدى الزمن وإن تساقط بعد ذلك

وجه الصواب فيها. وكان من أثر هذا النقص أن نظر الشباب إلى

الجانب الفكري من الحياة المصرية فتخيله مستنقعا آسنا، فانصرف

عنه أما إلى الحياة المادية وما فيها من لهو وعبث، واما إلى مصدر

ثقافته مستعينا بالكتب والمجلات الأجنبية.

فلم يكن غريباً بعد ذلك انه كلما بدا وميض من النور في حياتنا الفكرية لم يلق الا أعينا مغمضة، وإذا أينع زهر صغير صادف بردا فذبل والتوى.

أزمة الغذاء الفكري شر أذن، انما شر منها روح التشاؤم الذي فشا في هذا الشباب المثقف، وكلمة السر التي جرت على الألسنة في سهولة عجيبة من انه لا سبيل إلى تلمس هذا النوع من الغذاء في الإنتاج المصري والتي تنتهي إلى قتل العناصر السليمة التي قد تنهض لتغذية حياتنا الفكرية.

وإذا أنا ذكرت الإنتاج المصري فاني أرسل هذه الكلمة على معنى خاص. فأنا استبعد الترجمة لأنها ليست الا وسيلة لتغذية من كانت ثقافتهم عربية محضة، او لتهيئة الاتصال بين ثقافتين مختلفتين. وأنا استبعد كذلك النقد لكي استبقي بعد ذلك صورة واحدة ، هي الخلق

ص: 20

وإذا أنا استبعدت النقد فليس ذلك لأنني أخرجه عن معنى الإنتاج، أو لأنني أتمثله ضعيف الشأن في تمويننا بالغذاء الفكري وانما استبعده لأنه مرهون بالخلق ومن أجل ذلك كان النقد الذي أينعت أثماره في مصر هو ذلك النقد للإنتاج الأوروبي وللإنتاج العربي القديم. أو ذلك النوع من النظرات العامة التي تتلمس أوجه النقص والكمال فيما لدينا من إنتاج لترسم صورته الحقيقية جميلة كانت أو قبيحة.

وقد ظهر أخيراً كتاب أهل الكهف لتوفيق الحكيم وهو من نوع الإنتاج الذي أقصده. ولا أذكر كتاباً قابله النقد في مصر بعناية وتقدير بمثل ما قوبل به هذا الكتاب ولست أتعرض هنا لنقده بعد أن وفاه حقه الدكتور طه حسين والأساتذة مصطفى عبد الرزاق والمازني وهيكل بك ومحمد علي حماد وغيرهم من فضلاء الكتاب.

ذلك أن مؤلف أهل الكهف صديقي ربما كان تقدمي لنقد كتابه (والأمر كذلك) مثيراً لريبة مشروعة. وهل هناك من شك في إنني سوف أحيط كتابتي بإطار من العطف الذي تبرره شريعة الصداقة، أو ليست الصداقة في بعض وجوهها نوعا من التعاون الخالص وضرباً من التنابذ في سبيل النجاح!

وإنما حلا لي أن اكتب عن تاريخ حياة هذا الكتاب. وقد قدرت في تلك الصداقة التي كانت تلقي الريبة على نقده تزكية لا غبار عليها للكتابة عن تاريخ حياته، وما تاريخ حياته الا وجه من تاريخ حياة مؤلفه وقطعة من شخصيته لعلي أجدر الناس بالكتابة عنهما.

منذ عشر سنوات خلت كان توفيق الحكيم طالبا في مدرسة الحقوق ومؤلفا مسرحياً ملحقاً بمسرح حديقة الازبكية، وقد تقدم إلى هذا المسرح في روايات عدة بعضها مؤلف وبعضها مقتبس عن المؤلفات الأوروبية. وقد قرأت هذه الروايات في ذلك الوقت وكنت عندئذ هاويا لكل ما يتعلق بالمسرح. وكان من بين هذه الروايات رواية مؤلفة عنوانها (المرأة الجديدة) وموضوعها مشكلة المرأة في الجيل الحالي وقد لاقت هذه الرواية من النجاح ما لاقت، وقد يكون دون ما تستحق وقد لا يكون، وقد لا يزال توفيق الحكيم ينظر إلى رواياته الأولى بعين لا تخلو من الحنو والعطف وقد يكون هذا الشعور مفهوما من جانبه، أو ليست أعمال الشخص كأطفاله إذا حظى السليم منها بالحب أختص العاطل منها بالعطف والحنان!

وكنت انظر حينئذ إلى توفيق الحكيم بعين الأمل، ذلك إنني كنت أراه منصرفا إلى فنه تمام

ص: 21

الانصراف، في إخلاص وإيمان، شاعراً بأن هذا الفن يجري في دمه، وهو لم يشعر بذلك شابا فقط. وانما هو هم احتواه صبيا فمراهقا. فهو لا يعيش الا من اجله، ولا يفكر الا فيه. وإذا اطمأن اليك مرة فحدثك عنه أدهشك ذلك الحماس الذي ينبعث منه، وتلك النشوة التي يغرق فيها إلى آذانه فتأخذ بلبك وبلبه.

من أجل ذلك كنت أنظر إليه بعين الأمل، ولكن لم يكن أملي فيه محددا بل كان أملاً غامضاً لعل مصدره ما في الشباب من صحة وثورة وتفاؤل، وعلى أي حال لم أكن آمل في نجاحه الا من ناحية الكتابة الفكهة، وقد بعث هذا في نفسي روايته (المرأة الجديدة)، إذ كتبها وهو يقصد عين الجد فإذا به أصاب دعابة لذيذة، وكنت المح في دعابته نوعا من العمق لم اكن متيقنا منه، وانما كنت أحس به وأنا بين المصدق والمكذب.

إلى أن سافرنا منذ ثماني سنوات إلى باريس بعد انتهاءنا من دراسة الليسانس، وكان المقصود من سفرنا دراسة دكتوراه الحقوق وبهرنا عند وصولنا ازدهار الفن والأدب في باريس، وظهر لنا جليا ناطقا محددا ذلك الجانب الروحي والفكري من الحياة الذي حرمنا من نعيمه في مصر، كيف أينعت أزهاره في هذا البلد، كيف كان داني القطوف، عجيب الألوان، شهي الرائحة. ويدرك من يتذوق هذا الجانب من الحياة كيف يحلو الري بعد هذا الظمأ والامتلاء بد طول الطوى. فهل كان من المعقول أن يعيش توفيق الحكيم في باريس وهي مهبط الفن والأدب وأن يمر بهذا الفن والأدب وفي دمه ذلك الحماس، وفي روحه ذلك الخلوص والانصراف فلا ينهل من الفن والأدب الا بقدر ما ينهل الناس لمجرد الغذاء الفكري؟ ما مضت بضعة أشهر على إقامتنا في باريس حتى بدأت انظر إليه بعين ملؤها الاحترام. . . الاحترام الغامض أيضاً.

ذلك أني رأيته وقد انصرف عن اللهو وعما يحصل كل شاب من باريس عادة، عن باريس اللاهية، عن باريس الضاحكة

الماجنة؛ انصرف عن كل هذا بنفس آمنة مطمئنة. وإذا به وأحياء باريس عشرون حياً يبدأ أولها في مركز المدينة وينتهي آخرها بأطرافها يسكن الحي العشرين، وما أظن مصريا قد هبطت قدمه إلى هذا الحي غير توفيق، ومن كان يفكر في زيارته من أصدقائه.

قرأ كتاب تين عن فلسفة الفن فانبثق له من هذا الكتاب قبس من نور فتعلق به وقد شعر

ص: 22

انه باستهوائه إياه لابد واصل إلى استكمال تثقيفه، وإلى إدراك مكنونات الفن أسراره ومنعطفاته. وانكب على دراسته انكبابا. والكتاب يتحدث عن فن التصوير والنحت أكثر مما يتحدث عن غيرهما، فهو ذاهب إذن لزيارة متحف اللوفر في زيارات دورية، وقد اصبح له هذا المتحف بمثابة الجامعة للطالب. وهو مصطحب هذا الكتاب كصديق مرشد. وهو متثبت من مطابقة التدليل البديع الذي يجري به قلم متين عن كيفية نشوء فن ما، في بيئة ما، على تلك المجموعة التي لا تقًّدر من كنوز الصور في متحف اللوفر. وهو قد قرأ الكتاب واستوعبه استيعابا وهضمه هضما، ثم شاهد كيف استخلص تين حياة هذه القطع الفنية من جنس الفنان والوسط الذي أحاط به والوقت الذي ظهرت فيه.

ولكن أنّى له ان يفهم فن التصوير فهما واعيا، وثقافتنا المصرية في هذا الشأن معروفة! ان كتاب تين ليس الا خلاصة محاضرات كان يلقيها على طلبة مدرسة الفنون الجميلة في باريس فهو يتقدم به إلى أناس على قدر متقدم من الثقافة الفنية، وقد شعر توفيق بعد قراءته للكتاب بالنور يبهره، فأدرك أن هناك جمالا لم يكن يحس بوجوده قبل ذلك وعالما آخر تراءى له ولكن في إطار من السحب والغيوم، وأحس في الوقت نفسه انه لم يدرك كنه هذا الجمال بعد ولم يدخل هذا العالم الجديد.

وكان أن عرضت له فرصة يتعجل بها سد هذا النقص الذي كان يقض مضجعه، فلم يتردد في التعلق بأهدابها، فهو قد تعرف في ذات يوم إلى شاعر فرنسي أخنى عليه الفن والأدب، ولعله البقية الباقية من جماعة من مذاهب الشعر، فرأى فيه توفيق رجلا مثقفا ثقافة واسعة، ذا مكانة في لأدب والشعر وإن جار الزمان عليه وعلى مذهبه. فجعل يمد هذا الشاعر البائس بإعانة مالية نظير استعانته به في فهم أسرار اللوفر ومتحف رودان والمكتبة الأهلية. ثم انكب على القراءة انكبابا، ولكن الإنتاج الأوروبي هائل فيه الغث وفيه السمين، وإلى جانب الإنتاج الحديث يوجد الكلاسيك وهو لا يقل هولاً، والوقت من ذهب، لابد أذن من ان يختار ما يقرأه من بين هذا كله، وهو شاعر بالمراحل الواسعة التي لابد له من قطعها ليستعيض عما ضيعه من أيام شبابه في قراءات كان يتخبط فيها دون هدى او مرشد، وهو يستعين أذن بصاحبه الفرنسي في هذا الاختيار، وهو يستمع إليه في دروس خاصة منظمة، جعل صاحبه يعايرها له كما يعاير الدواء للمريض، وإذا به الآن قوي البنية

ص: 23

بعد هذا الهزال الطويل، عبل الذراعين بعد هذا الضعف والتهالك.

وهو لا يكتفي بعد ذلك بالتهام الكتب واستيعابها، وانما هو يجعل من قراءاته أداة للتأمل والتفكير. فهو يركن إلى الوحدة في غالب أيامه يهضم فيها ما قرأ، وهو يجلس في قهوة نائية وقد فتح امامه كتابا ذراً للرماد في العيون، ثم يظل يسبح في بحر خياله وهو مغتبط بهذه الوحدة كبير بها، وكأنه قد أدرك قول ابسن:(ان الرجل الوحيد المنفرد هو الرجل القوي).

وكنت دائماً أتلقى ثمرة ذلك التأمل الطويل، فهو يغيب عني أسبوعين او ثلاثة ثم يزورني فاجلس إليه ساعات متوالية لا ينقطع فيها حديثه، وهو دون شك قد اختار موضوع هذا الحديث قبل حضوره. ودون شك كان هذا الموضوع شاغله الوحيد في هذه الأسابيع الماضية، وإذا بي أمام محاضرة طويلة عريضة. . . متشعبة، ولكنها مبوبة تبويبا كاملا، مرتبة ترتيبا بديعا. وإذا لها خاتمة تلم بأغراضه، وإذا بي غارق في نشوة صافية، وإذا أنا أفكر في هذا الموضوع وذاك الحديث، لا في اثناء إنصاتي إليه فقط بل بعد انصرافه عني أيضاً.

أنصرف في حين ما إلى قراءة ما كتب عن قدماء المصريين وعن روحهم العميق، وإذا هو شاعر بمصريته العريقة كيف هي تتمشى في دمه، وإذا هو محدثك عن هذا الروح في فخر وإدراك لا في مجرد زهو ونعرة، وإذا أنت يبهرك هذا الإفضاء ويتملكك نوع من الحماس، وتتكشف لديك آفاق جديدة، وتتحلل في ذهنك ألغاز كنت تحار في تعليلها أو كنت تعللها تعليلا غامضا، وإذا الأمل الذي كان يدب في نفسك دبيبا مبهما في مستقبل مصر وفي روح مصر قد تحدد لديك تحديدا كاملا لأنك تشاهد النور بعد أن حجبه عنك ستار، وتلمس الحقيقة بعد أن كانت وراء حجاب، وتشعر بما في روح مصر من عبقرية خاصة بعد أن أدركت أسبابها فلم يصعب بعد ذلك أن تأمل فيما تؤدي إليه من ثمرات.

وهو لم ينس المسرح (فنه العزيز عليه) في وسط هذا كله، فهو يشاهد التمثيل من الكوميدي إلى الأوديون إلى مسارح البولفار إلى مسارح لا يدركه ملل ولا سأم وهو لا يذهب لمجرد اللذة الفكرية، بل أيضاً للدرس والوعي. وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك وتلك النار المقدسة تنفخ في صدره وتوطد من عزمه لا تدركها هوادة ولا خمود!

ص: 24

ويدهشك بعد هذا انه في يوم ما منصرف عن هذا كله، عن قراءاته وعن مسارحه، عن اللوفر ورودان وبقية المتاحف وإذا به يشغله شيء واحد: الموسيقى، ماذا؟ توفيق الحكيم الذي كان يكاد يشترك في تلحين رواياته الموسيقية في مصر، توفيق الحكيم الذي كان مولها بالموسيقى الشرقية غارقا وراء أسرارها يستمع الآن إلى الموسيقى الغربية؟

لقد أدرك معنى، انها إحدى الفنون السبعة فهو الآن منكب على دراستها انكباباً، ولا بأس أن يستعين بأصدقائه الفرنسيين على فهمها، وهو منصرف إلى الأوبرا والأوبرا كوميك وإلى صالات الموسيقى السمفونية، ولا بأس من أن يذهب إلى الأوبرا ولو لم يقتدر الا على أعلى التياترو، ولا بأس من أن يتسلل بلباسه الغريب المتواضع على درج أوبرا باريس الفخمة، ومن بين أزياء المساء الفاخرة ولآلئ الجواهر الثمينة!.

وإذا به يتدرج كالطالب في المدرسة فهو معجب أولاً بسان ساينس وببيزيه وموسيقاهما ذات النغم الشرقي، ثم هو منتقل بعد ذلك إلى الإعجاب ببتهوفن وموسيقاه الرومأنتيكية وهو بعد ذلك مشيد بذكر فاجنر وموسيقاه القوية، وهو أخيراً يستمع إلى موسيقى استرافنسكي وغيره من المحدثين.

سأله أخيراً المكاتب الفني لإحدى الجرائد المصرية عما أوحى إليه بأهل الكهف فكاد ينطلق لسانه بأسم بيتهوفن، وقد قص علي هذه الحادثة فلم أملك نفسي من الابتسام.

ولماذا لم ينطلق لسانك؟

فكان رده الذي كنت أتوقعه والذي من أجله ابتسمت:

- يضحكون مني!

وهو في وسط هذا التموين الهائل الذي كان يمون نفسه به اخذ (ومن ساعة متقدمة) يحاول الإنتاج، فجعل يزاول الكتابة بالفرنسية، فكتب قطعا من الحوار وجعل يعرضها على بعض أصدقائه الفرنسيين، ولم يثن عزمه عن الكتابة إلمامه الابتدائي بالفرنسية، فهو مثابر مجد على رغم ذلك، وهو في النهاية قد عثر على صيغته، وإذا بأصدقائه الفرنسيين يشهدون له بانه في توجيه الحوار واسع الحيلة، وإذا بعضهم يذكر عند قراءته لتوفيق بورثوريس الكاتب الفرنسي الشهير وحواره المقتضب المتماسك.

وكنت أراقب هذا النماء عن قرب مغتبطا به، سعيداً بمشاهدتي هذه الثمرة كيف غرست، ثم

ص: 25

كيف نمت، ثم كيف ترعرعت وأينعت، ولم ينشأ شعوري بهذه السعادة عندما نشر كتاب أهل الكهف، وعندما استقبله النقد هذا الاستقبال العظيم، وانما هو قد نشأ من زمن بعيد! عندما قرأت (أهل الكهف) مخطوطة من ثلاث سنوات قبل أن تتخاطفها أيدي المدرسة الحديثة، بل عندما قرأت (شهرزاد) مخطوطة منذ أربع سنوات لما أرسلها إلي توفيق في باريس بعد عودته إلى مصر ولما حملتها راكضا إلى الدكتور ماردروس (وهو أديب فرنسي ترجم ألف ليلة وليلة إلى اللغة الفرنسية وزوج مدام لوس دلارو ماردروس الكاتبة الفرنسية المعروفة) ليقرأها وليرى من أي زاوية نظر مؤلف مصري إلى قصص الف ليلة وليلة.

بل شعرت بذلك منذ خمس سنوات عندما كنت أقرأ أولاً بأول الصفحات الاولى من رواية (عودة الروح) عندما كان مؤلفها يحاول ترجمتها إلى اللغة الفرنسية.

عند ذلك كله تحدد أملي فيه بعد ان كان غامضا، وتبدد ذلك التشاؤم الذي كنت أنظر به إلى جونا الفكري، وأدركت ان لدينا مؤلفا نفاخر به المؤلفين الأوروبيين نقرأه في لذة وإعجاب، إعجاب بهذا المنظار الخاص الذي ينظر به إلى الأشخاص والأشياء والحوادث فيكتشف فيها نواحي فذة.

نعم فقد تمر أمامنا الحادثة لا نفكر في أن نعلق عليها اهمية خاصة: ولكنها تستوقفه فيناقشك فيها. ويبدأ يصور لك فيها تصويرا غريبا، فإذا هي امتدت، وإذا هي ذات جسم وكيان، وإذا بها نواح من الأهمية بمكان، وإذا أنت دهش بعد ذلك كيف مرت عليك ولم تلحظ فيها كل ذلك.

كنت أتحدث مرة إلى أحد أصدقائنا عن روايات توفيق الحكيم وتسلسل الحديث إلى أن ذكرت لمحدثيه أن توفيقا قد كتب رواية اسمها (الخروج من الجنة)، فكان رده عليّ:

وطبعا شخصيات الرواية ثلاث: آدم وحواء وإبليس! فلم أتمالك من الابتسام، ذلك ان عنوان الرواية ليس الا رمزا وان اشخاص الرواية عصريون فليسوا آدم وحواء وانما هم محمود وإقبال وغيرهما من أبناء آدم وحواء.

وقد ابتسمت لقول صاحبي لأنه لفظه في اطمئنان عجيب، وسر اطمئنانه انه قد قرأ (أهل الكهف) ورأى كيف استخلص مؤلفها تلك القطعة الفلسفية من القصة التي لا يجهلها مصري

ص: 26

وقرأ (شهرزاد) فرأى ثمرة التأمل الذي أوحت به قراءة الف ليلة وليلة إلى صديقنا توفيق، فإذا هو كتب رواية بعنوان (الخروج من الجنة) فهو لا شك قد عالج خروج آدم وحواء لأن هذه الحادثة قد استوقفته، ولابد انه قد نظر إليها من زاويته الخاصة فصبّها رواية مسرحية!

خرج صاحبنا من مجرد عنوان الرواية ومن ان مؤلفها توفيق الحكيم بهذه النتيجة التي يراها طبيعية، وهو حريص على ان يكون استنباطه بتلك النتيجة من تلقاء نفسه، فهو لا يسأل عن أشخاص الرواية وانما هو يبادر بذكرهم من تلقاء نفسه شأن من فهم روح مؤلف أهل الكهف!.

بهذه الموهبة الفذة وبهذه الثقافة الشاملة وهذا المجهود الجبار يتميز توفيق الحكيم، وهو قد أدرك أن الأدب ليس مجرد سليقة نطلقها فتنطلق، أو إلهاما يوحى إلينا به فنرسله على طبيعته، وانما هو إلى جانب ذلك وقبل ذلك علم ودراسة لابد فيهما من المثابرة على القراءة، والانكباب على المذاكرة والإلمام بجميع نواحي الفنون، والتأمل في كل ما نقرأ ونشاهد. وكتاب أهل الكهف الذي لاقى ما لاقاه من نجاح لدى النقد في مصر، والذي لا أشك في انه سوف يستقبل استقبالا عظيما لدى النقاد الأوروبيين إذا ما ترجم إليهم، هذا الكتاب إذن لم يكن ثمرة مصادفة، لم يكن زهرة صغيرة أينعت في المستنقع المصري وانما هو دوحة هائلة غرسها غارس ثم تعهدها بالصيانة والتهذيب.

وبعد، فاني أدرك ان مقالي هذا قد يرسم على الشفاه ابتسامة ذات مغزى!! (هو صديق يقوم بالدعاية لصديقه)

ولأمر ما، يهمني ان ارفع هذا الخطأ المحتمل، فان مؤلف (أهل الكهف) وكتابه ليسا في حاجة إلى دعاية بعد أن اجمع النقاد على تقدير الكتاب.

وانما حاولت أن أرسم صورة لتاريخ حياة الكتاب بان قدمت صورة من تاريخ حياة مؤلفه، اظهر بها جانباً هيأت لي الصداقة التي تجمعني ومؤلف هذا الكتاب أن ألم به، فأثرت أن يطلع قرّاء الكتاب على هذا الجانب.

وربما كان لي غرض آخر من هذا المقال: هو أن يدرك شبابنا المتأدبون ان فن الأدب لا يكتفي فيه بالموهبة، او بالاعتقاد في تلك الموهبة، ثم ارسال القلم في كتابات لا تقدمنا خطوة واحدة وانما هو إلى ذلك اطلاع وتأمل، لا في الشعر والنثر بأنواعه فقط بل كذلك

ص: 27

في النحت والتصوير والموسيقى، ولا في الإنتاج العربي وحده، بل كذلك في الإنتاج الأوروبي، ولست أحاول ان ارسم بهذا خطة، فالخطة مرسومة مقدما، بل هي بديهية من البديهيات وانما قصدت لفت النظر.

فإذا أتى اليوم الذي نرى فيه شبابنا المشتغلين في الأدب قد أدركوا هذه الحقيقة كنا سعداء: توفيق الحكيم، وكاتب هذه السطور، وكل من يجري في دمه الإخلاص لهذا البلد المنكود بكل ما تحتويه كلمة الإخلاص من معنى.

ص: 28

‌عمالقة الأشجار

للدكتور محمد بهجت. خريج جامعة كاليفورنيا

(2)

حرج ماريبوزا

يقع في قمة جبال السييرا على ارتفاع ستة آلاف قدم. سمي كذلك لوجوده بمقاطعة بهذا الاسم. (وماري بوزا) كلمة إسبانية معناها (أبو دقيق) وكان أول من لمح رؤوسأشجاره عن بعد رجلا يسمى (أوج) في سنة 1855 ولكن رجلا آخر يسمى (جالن كلارك) اكتشفه عام 1857 وإليه يرجع الفضل في ذلك. يصل إليه الزائر من طريق ضيقة لا تتسع لأكثر من عربة، شديدة الانحدار والتعاريج تمر وسط غابات كثيفة مكتظة بأنواع الصنوبر التي تعطر الجو دواما. وغالباً ما تكون حافة الطريق هي حافة هوة بعيدة القرار يغطى منحدرها آلاف الأشجار. وكثيراً ما يصادف الإنسان قطيعا من الغزلان يعترض الطريق ترنو إليه بأعين سوداء كبيرة هادئة ثم لا تلبث ان ترتاع وتقفز في رشاقة نادرة وتختفي في ظلمات الغاب. ومن وقت إلى آخر تخترق الأذن نغمة لطير جميل الريش يتفيأ ظلال الأغصان. أو يقفز أمامك سنجاب صغير يقف على خلفيتيه ويرفع ذيله الطويل على ظهره حتى يكاد يلامس مؤخر رأسه، ينظر اليك لحظة ثم ينقلب راجعا في سرعة البرق. وأحيانا يصادفك دب أسود الفرو لامعة ينظر اليك متكاسلا ثم يدير رأسه إلى الناحية الاخرى متباعدا عنك غير عابئ بك.

وأخيراً تنتهي الطريق إلى الحرج الذي لا تتجاوز مساحته ميلين مربعين. وهناك يشعر الزائر انه دخل في معبد فسيح معطر الأرجاء ذي عمد هائلة، لا تستطيع الشمس أن ترسل الكثير من أشعتها إلى أرضه لكثافة رؤوس الأشجار، فالظل لذلك وارف ظليل والهواء بارد عليل، واما الصمت فرهيب شامل وما هي الا برهة حتى تملك الإنسان خشية ورهبة فيصمت هو الآخر ويتأمل! أشجار باسقة تحلق رؤوس بعضها في الجو إلى ارتفاع مائة وعشرة من الأمتار. ويبلغ قطر البعض الاخر عشرة أمتار!! يرفع الإنسان رأسه ليدرك سمو هذه المخلوقات النبيلة ولكنه لا يلبث أن يطأطئه في خشوع وذهوليميد بالحيرة ويضج بالأسئلة. ترى كم من السنين قامت هذه العمد النباتية في مكانها لا تبرحه، تحمل الثلوج

ص: 29

شتاء على اذرعها الضخمة المنبسطة وتحتمل الزمهرير ولطمات البروق وجلجلة الرعود وهطول الأمطار وتدفق السيول؟ يقول بعضهم ثمانية آلاف سنة ويقول بعضهم أربعة آلاف!! ومهما يكن التقدير فإنها ولا شك أسنّّ المخلوقات الحية وأعظمها. كيف لا والشجرة (الصغيرة) التي تجاوزت الخمسمائة ربيع لا تزال في ميعة الصبا وأما التي سلخت من الزمن الفي سنة فلا تزال في سن الكهولة!! إذا نظر الإنسان إلى شيخ قارب المائة أو جاوزها شعر بوقار السن وجلاله، وخشع لتلك المسحة الهادئة الحزينة التي تطبعها عليه يد الهرم. فما بالك إذا نظر إلى مخلوق عمره ستة قرون؟ ومع هذا فلا ترى ضعفا ولا تقوساً ولا تهدما بل ترى شموخا وقوة وعظمة. ترى اصلها كأنه أبو الهول ناشبا أظفاره الضخمة في جانب فريسة هائلة، ترى التمكن والرسوخ. نعم ان عليها روح الكآبة والحزن ولكنها كالجبار المكتئب يرفع رأسه إلى السماء في جمال وروعة غير عابئ بما في جنبه من طعنات أو في نفسه من وخزات. وحقيقة ترى بعضها محترق الجانب او القلب غير انها لا زالت حية باسقة تهزأ بكوارث الطبيعة وهوجها، تطالع فيها رمز الصبر والاحتمال والخلود، ثم انها كتاب تاريخي ضخم استوعب الكثير من تاريخ القرون ولكن كيف السبيل إلى حل رموزه وطلاسمه؟ هيهات! تقف صامتة، تنظر مبتسمة ساخرة، ولكنها لا تبوح بمكنون فؤادها فكأنها حفيظة لسر الدهر.

ولكل من هذه العمالقة اسم معروف يعرف به، فهذه شجرة مارك تواين تخلد اسم الكاتب المشهور وهي أطولأشجار العالم اذ يبلغ ارتفاعها 331 قدما، وهذه شجرة جالن كلارك مكتشف الحرج وهذه شجرة واشنجطن، وهذه شجرة غروب الشمس وهي آخرة الأشجار التي تغيب عنها أشعة الشمس. وتلك شجرة الإسطبل التي تؤوي خمسة عشر حصاناً جذعها الأجوف، وتلك شجرة المنظار التي احترق من جوفها ما طوله خمسون قدما فأصبحت كالمنظار ترى من داخلها السماء. ثم تلك شجرة (واوونا) - تلك الشجرة العجيبة التي شق في أحشائها طريق في سنة 1880 ارتفاعه ثماني أقدام وعرضه احدى عشرة تمر منه عربات الزوار الذين يحجون إليها من أنحاء المعمورة. ومع هذا لا تزال حية تضحك من أقزام الإنسان الذي أعمل فيها قواطعه ومناشيره وأجرى عليها هذه العملية الجراحية القاسية من غير ما مسكن أو مخدر!!. . . وترى وسط الحرج (العملاق الرمادي)

ص: 30

وهو من أضخم ما على البسيطة من أشجار ومن أطولها عمراً. يبلغ ارتفاعها 204 ومحيطها 104 أقدام، رأسها غير كامل لأنه محترق، ويظهر أن صاعقة انقضت عليه فأطارته. يبلغ سمك قشرتها الذي يكسو خشبها نحو 75 سنتيمترا، والعادة أن يكون لونه لون القرفة، اما في هذه الشجرة المعمرة فاللون رمادي يشهد بمعاركة الرياح والأمطار والشمس وعناصر الطبيعة الأخرى القاسية قرونا طويلة، واقفة كأنها تصارع الزمن بسيف متكسر فهي كالبطل المنهوك المثخن بالجراح تغيب بين أضلاعه النصال والسهام. فمن ذا الذي يرى هذا المخلوق النبيل ولا يحني رأسه في خشوع وإعظام وإكبار؟ من ذا الذي لا يقف بأصلها ضارعا بعد أن يشعر بعظمة الخالق والمخلوق؟ وسأحاول تصوير ضخامتها بما يلي من الأمثلة:

1 -

إذا وقف عشرون رجلا في حلقة مقفلة حول أصلها بحيث تتلامس أطارف أصابعهم مع امتداد أذرعتهم فانهم يستطيعون تطويقها تماما.

2 -

إذا شق في أصلها طريق يمكن أن تمر منها مركبتان من مركبات الترام جنبا إلى جنب.

3 -

إذا أمكن ان تقور قاعدتها بحيث تشبه الغرفة استطاع اربعة عشر شخصا أن يجلسوا على مقاعد حول مائدة مستديرة في وسطها من غير ما تزاحم.

4 -

إذا قطع ونشر خشبها أنتجت ما يربو على نصف مليون قدم من الخشب.

وبجانب آخر من الغاب يرى عملاق هائل صريعا ممددا يسمونه (الملك الساقط) دون عظمته وضخامته عمد قدماء المصريين الصوانية المتساقطة في المعابد. مؤثرة والله رؤية ذلك الطود الأشم بل ذلك الملك منزوع التاج منطرحاً على الأرض جسماً بلا روح (ذلك الطود الذي عاصر الأهرام حيا وها هو ذا لا يزال يسابقها في حلبة العمر إذ يأبى خشبه الاستسلام للعفن وللاضمحلال والفناء مع أن جنبه يلامس الأرض منذ مائتي عام!! وقد صورت أكثر من مرة وعليها عربة بستة أحصنة وعدة سيارات وجمع غفير من الرجال.

ولعل اهم ما يتساءل عنه الزائر المتحير هو كيفية تكأثر هذه الأشجار وحفظ نوعها. وربما تأخذه الدهشة إذا علم انها تتكاثر من بذرة في حجم الخردلة!! وتوجد هذه البذرة مع غيرها في مخروط صغير لا يزيد حجمه على حجم البيضة الكبيرة. وقد يحتوي المخروط على

ص: 31

ثلاثمائة بذرة. وتنتج الشجرة عددا هائلا من هذه المخاريط ولكن ما ينبت من بذورها قليل جداً.

وقبيل الغروب عندما يتأهب الزائر لمغادرة ذلك المكان الساحر يرى ضربا آخر من الجمال إذ تنفذ أشعة الشمس في حزم عريضة تشق ظلام الغاب إلى سوق تلك الأشجار فتضيء جوانبها المغضنة بفيض من النور البديع يشف عن لون محمر يزري بأجمل ألوان رخام إيطاليا المصقول. اما الجوانب المقابلة فتكون معتمة مصبوغة بلون بنفسجي شفاف. . . بعدذلك ترى نفسك مضطراً إلى مغادرة المكان اذ يهجم الظلام سريعا. فإذا ما خرجت من الحرج إلى الطريق استطعت ان ترفع صوتك بالحديث بعد أن كنت تهمس، ثم تؤخذ بجمال الجبال عند الغروب. عجبا!! كيف يمكن ان تصطبغ رؤوس تلك الجبال ومنحدراتها وأشجارها بهذا اللون البنفسجي البديع الذي لم يستطع العلم تقليده إلى الان؟. . . وان استطاع فاي جن يمكنهم ان يصبغوا به مثل تلك السطوح الهائلة في ذلك الوقت القصير؟!! ثم بعد ذلك أيضاً تنطبع صور تلك الأشجار العجيبة في ذاكرتك إلى مدى العمر، وتقف فيها، بارزة قوية بحيث تراها وتحسها وتحن إليها وأنت في أي ركن من اركان العالم.

ص: 32

‌العبقرية علم وأدب وفن

للأستاذ الحوماني. أديب جبل عامل

قبل الكلام على واحد من هذه الثلاثة يجب ان نتكلم على النفس التي هي مصدر العلم والفن اللذين هما مصدر الحياة التي هي مصدر العلم.

والنفس هنا هي جماع ما في الجسم من جوهر، واما النفس التي هي نواة الحياة في الحي مجردة عن الخصائص التي تعرضها، فهي السر الكامن في الجسم الحي الحساس ينبعث عنه الفعل أو ينفعل هو بما يعرضه في الحياة.

فهي على هذا التحديد الاعتباري. مجمع الخصائص في الإنسان كالإرادة والفكر والعقل ونحوها من أمهات العمل الخارجي او الداخلي. ولما كان المرء عبارة عن شخصيته التي يمتاز بها، وهي نتاج هذه الخصائص، وكان هذا الجسم قشرة لذلك الجوهر أطلقت النفس على المرء بمجموعه قلبا وقالبا.

فالنفس التي هي مصدر العمل وعكسا هي أم الإرادة التي هي مصدر العمل طرداً لا عكساً، أي ان النفس تفعل وتنفعل واما الإرادة فتفعل ولا تنفعل إذا صح ان كبت الإرادة انما هو انفعال النفس لا انفعال الإرادة كما سيمر بك.

اما مصدر هذه النفس وإرادتها التي يتطور بها الإنسان بله الحيوان روحا وبدَناً فإنما هو تلك القوة المالئة هذا الكون او لعلها هي نفس الكون او لعل الكون إحدى جزئيّات معناها الكلي.

ولم اكن لأومن كل الإيمان انها (أي النفس الناطقة) نتيجة تفاعل هذه الخلايا او انها احدى خواص هذا التركيب الجسدي، أو انها هي هو، أو انه ظرف يشتمل عليها وان كان بعضها اقرب إلى العقل من البعض الآخر.

لا أومن بشيء من ذلك ولا بعدمه على رغم أني اعتقد باقتسام خصائص النفس اجزاء الجسم كالدماغ والقلب والأعصاب.

لا أومن كل الإيمان ولا اجحد كل الجحود ضرورة انه لم يثبت لديّ ان الكائن مطلقا إنما هو نتيجة تفاعل المكين كما لم يثبت لديّ عدمه مطلقا.

فقد تكون الروح من الجسد مكان اللون والنور من الأجرام المرئية كما قد تكون منه مكان

ص: 33

الطعم من الثمر والعطر من الزهر وقد تكون منه مكان الصدي والسير من السيارة كما قد تنزل منه منزلة السائق منها فتكون غيره.

ولعلي لم آل جهدا في التفكير بما يقفني على هذه القوة (مصدر النفس) واكتناه حقيقتها الغامضة أو لعلي لم أحجم عن درس أي كتاب اتصل بي صادرا عن أي مفكر في العالم للبحث عن هذه القوة، فلم يزدني كل ذلك علما بما وراء ما أحس إلا انه أمر فاتني حسه ففاتني اكتناة سره، ولم أكن لأقول فيه إلا من وراء الحدس والظن ولعل ما نقوله في تلك النفس التي توحي إلينا الفكر وتحرك ألسنتنا بالنطق، انما هو من قبيل الخوض في هذا التيار الحافل بأسرار هذه القوة الغامضة فلم نقل فيه إلا تخرصاً وحدسا.

ثم ما هي حقيقة هذه الإرادة؟

وما هو هذا الفكر؟

هل هي وليدة انفعال تلك القوة العليا؟

وهل هذا الفكر الذي نجول به في عالم النفس هو وليد ما يصدر عن هذه الإرادة من عمل؟ ام هما معا فعل تلك القوة الاولى أم نتيجة انفعالها؟

وهل من الممكن لو لم يصدر عن الإرادة عمل في الحياة ان يتكون هنالك فكر يتدبر هذا العمل فنقول قد كانت إرادة ولم يكن فكر وسيبقى وتهرم الإرادة ثم تموت؟ أي أن الإرادة هي التي أوجدت الفكر، والفكر سيتغلّب عليها بما يعضده من نواميس الاجتماع التي يسنُّها فيخلق الإرادة حينئذ من جديد ويصبح الإنسان ملكا.

ومهما يكن من شيء فلا بد لنا قبل التعمق في لبحث عن الفكر من تحرير الإرادة، وهذا التحرير يستلزم كلمة تتناول ما وراء هذا العمل الخارجي من عامل داخلي.

الانفعال:

هو الانتقال من عوارض النفس بما يفاجئها من حوادث خارجية او تصورات داخلية، فالغضب الذي هو نتيجة انفعال النفس بما يثير حفيظتها ويمتهن قدرها والسرور الذي هو نتيجة انفعالها بما تتلقاه من نبأ سار هما من العواطف التي هي نواة الشاعرية في النفس والتي تنبعث عن هذا الانفعال.

وقد يكون الانفعال غير مفاجئ فينجم عن أمر الإرادة للنفس بما يكبتها كاليأس الذي يتسرب

ص: 34

إلى النفس تدريجا بما تحدوها الإرادة إلى فعله من وراء الأمل فتخفق في تحصيله جملة ويبقي لها رجاء بالحصول عليه، ثم يضمحل هذا الأمل تدريجا فيضغطها اليأس ويكون من وراء ذلك حزن عميق ينشأ عن انفعالها بالإخفاق.

وقد ينشأ هذا الانفعال العميق بما تتلمسه النفس الشاعرة أمام مشهد اجتماعي له جلاله كالأثر الفخم والجند الزاحف او منظر طبيعي له جماله كالحدائق الغضة والخمائل الملتفة والمروج الخضراء، كل ذلك يفعل في النفس ما يبعث فيها السرور او الحزن فتنفعل به. فالانفعال من عوارض النفس لا الإرادة، ضرورة انها تنفعل بما لا تريد.

الإرادة:

أكما تتأثر نفسك الشاعرة بأحد المشاهد الاجتماعية أو المناظر الطبيعية فتنقبض أو تنبسط، والفكر من ورائها يشرف على ثورتها ويحول دون طغيانها فينشأ بين جمالها وجلاله أثر في الخارج هو نتيجة فعله وانفعاله، أكذلك كانت هذه النفس وليدة القوة الاولى مصدر القوى الكونية، وكانت الإرادة من لوازمها الذاتية ضرورة بقاء الحي حيا فهي لا تنفك عن النفس منذ الأزل؟

ثم لا بد لنا من تمهيد بسيط هو أن في الأثر جزءاً من مؤثره، سواء أكان الأثر معنويا ام ماديا كالحكمة والفن في الإجرام التي نبتدعها. فالحكمة في الأثر أعني الغاية التي كان لها إنما هي جزء من عقل المؤثر المجرد يشير إلى عظمته في نوعه من هذه الناحية، والفن فيه هو جزء من عقله المتخيل المبدع يشير إلى عظمة المؤثر من حيث خياله وتصويره في رقيه الفكري.

ومجموع الحكمة والفن في الأثر هو الجمال، فجمال الجرم المبتدع هو ما يروعك فيه من شكل ولون وهو الفن، ومن سمو غاية وهي الحكمة، وكذا الأثر المعنوي، ففي البيت الواحد من الشعر أو الفقرة الواحدة من النثر جزء من روح الشاعر أو الناثر تلمسه روح النافذ البصير من ورائهما.

وهكذا الصورة والقلم ونحوهما من نتائج الفكر المادي ففيهما جزء من روح الصانع يتراءى للحكيم من وراء صنعه. فجلال هذا الروح وجماله بجلال هذا الأثر وجماله.

ففي قول القائل:

ص: 35

لا يغرنك في الشام رجالُ

موّهوا بالرياء وجه الفرنسي

ربما أثرت العيون من الكح

ل وخلف الجفون منبت ورسِ

تتجلى روح لم تكن، وأنت الشاعر، لتلمسها في قول الاخر:

لا يغرنك منهم نفر

أظهروا نحوك حبا ووداد

لو تبدى لك ما قد أظمروا

لرأيت النار في وسط الرماد

وهكذا فانك لا تستطيع ان تقابل ما في الكرسي بما في الساعة من حكمة الصانع، فبقدر ما في الصانع من عظمة يبدو لك ما في صنعه من جمال او جلال.

وكون هذا الأثر مرآة مصدره كما نشاهد من وقوفنا على روح الشاعر بدراسة شعره وفكرة الفنان بتحليل فنه هو أمر متحقق في الخارج لا شبهة فيه.

ص: 36

‌بلاط الشهداء بعد الف ومائتي عام

للأستاذ محمد عبد الله عناق

(2)

وكان أثناء غاراته أو رحلاته في (اكوتين) قد اتصل بأميرها الدوق (أودو) وتفاهم معه، وكان الدوق مذ رأى خطر الفتح الإسلامي يهدد ملكه يسعى إلى مهادنة المسلمين، وقد فاوضهم فعلا، فأنتهز كارل مارتل محافظ القصر وزعيم الفرنج هذه الفرصة لإعلان الحرب على الدوق، وكان يخشى نفوذه واستقلاله، وغزا كوتين مرتين وهزم الدوق فكان أودو في الواقع بين نارين يخشى الفرنج من الشمال والعرب من الجنوب، وكانت جيوش كارل مارتل تهدده وتعيث في أرضه (سنة 731 م) في نفس الوقت الذي سعى فيه عثمان بن أبي لسعه لمحالفته والاستعانة به على تنفيذ مشروعه في الخروج على حكومة الأندلس والاستقلال بحكم الولايات الشمالية ، فرحب الدوق بهذا التحالف وقدم ابنته الحسناء (لاميجيا) عروسا لعثمان، وفي بعض الروايات أن أبن أبي نسعة أسر ابنة الدوق في بعض غاراته على اكوتين ثم هام بها حبا وتزوج منها. وعلى أي حال فقد وثقت المصاهرة عرى التحالف بين الدوق والزعيم المسلم، ورأى ابن أبي نسعة كتمانا لمشروعه ان يسبغ على هذا الاتفاق صفة هدنة عقدت بينه وبين الفرنج، ولكن عبد الرحمن ارتاب في أمر الثائر ونياته، وأبى قرارالهدنة التي عقدها وأرسل إلى الشمال جيشا بقيادة ابن زيان للتحقق والتحوط لسلامة الولايات الشمالية، ففر ابن أبي نسعة من مقامه بمدينة الباب الواقعة على (البرنيه) إلى شعب الجبال الداخلية فطارده ابن زيان من صخرة إلى صخرة حتى أخذ وقتل مدافعا عن نفسه، وأسرت زوجه لاميجيا وأرسلت إلى بلاط دمشق حيث زوجت هناك من أمير مسلم. ولما رأى أودو ما حل بحليفه واستشعر الخطر الداهم تأهب للدفاع عن مملكته، وأخذ الفرنج والقوط في الولايات الشمالية يتحركون لمهاجمة المواقع الإسلامية، وكان عبد الرحمن يتوق إلى الانتقام لمقتل السمح وهزيمة المسلمين عند أسوار تولوشة، ويتخذ العدة منذ بدء ولايته لاجتياح مملكة الفرنج كلها، فلما رأى الخطر محدقا بالولايات الشمالية لم يرَ بداً من السير إلى الشمال قبل أن يستكمل كل أهبته، على انه استطاع ان يجمع أعظم جيش سيّره المسلمون إلى (غاليا) منذ الفتح، وفي أوائل سنة732م (أوائل سنة

ص: 37

114هـ) سار عبد الرحمن إلى الشمال مخترقا أراغون (الثغر الأعلى) ونافار (بلاد البشكنس) ودخل فرنسا في ربيع سنة 732م، وزحف تواً على مدينة (آرل) الواقعة على نهر الرون لتخلفها عن أداء الجزية واستولى عليها بعد معركة عنيفة نشبت على ضفاف النهر بينه وبين قوات الدوق أودو، ثم زحف غرباً وعبر نهر الجارون وانقض المسلمون كالسيل على ولاية اكوتين يثخنون في مدنها وضياعها، فحاول أودو ان يقف زحفهم، والتقى الفريقان على ضفاف الدوردون فهزم الدوق هزيمة فادحة، ومزق جيشه شر ممزق، قال ايزيدور الباجي:(والله وحده يعلم كم قتل في تلك الموقعة من النصارى) وطارد عبد الرحمن الدوق حتى عاصمته بوردو (بردال) واستولى عليها بعد حصار قصير، وفر الدوق في نفر من صحبه إلى الشمال، وسقطت اكوتين كلها بيد المسلمين ثم ارتد عبد الرحمن نحو الرون كرّة أخرى، واخترق الجيش الإسلامي برجونيا واستولى على ليون وبيزانصون ووصلت سريّاته حتى صانص التي تبعد عن باريس نحو مائة ميل فقط، وارتد عبد الرحمن بعد ذلك غرباً إلى ضفاف اللوار ليتم فتح هذه المنطقة ثم يقصد إلى عاصمة الفرنج. وتم هذا السير الباهر. وافتتح نصف فرنسا الجنوبي كله من الشرق إلى الغرب في بضعة أشهر فقط. قال أدوار جيبون. (وامتد خط الظفر مدى ألف ميل من صخرة طارق إلى ضفاف اللوار. وقد كان اقتحام مثل هذه المسافة يحمل العرب إلى حدود بولونيا وربى ايكوسيا. فليس الراين بأمنع من النيل او الفرات، ولعل أسطولاً عربيا كان يصل إلى مصب التايمز دون معركة بحربة، بل ربما كانت أحكام القرآن تدرَّس الآن في معاهد أكسفورد وربما كانت منابرها تؤيد لمحمد صدق الوحي والرسالة).

أجل كان اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية، والشرق والغرب، على وشك الوقوع. وكان اجتياح الإسلام للعالم القديم سريعا مدهشا، فانه لم يمضِ على وفاة النبي العربي نصف قرن حتى سحق العرب دولة الفرس الشامخة، واستولوا على معظم أقطار الدولة الرومانية الشرقية من الشام إلى أقاصي المغرب، وقامت دولة الخلافة قوية راسخة الدعائم فيما بين السند شرقا والمحيط غربا، وامتدت شمالاً حتى قلب الأناضول، وكانت سياسة الفتح الإسلامي مذ توطدت دولة الإسلام ترمي إلى غاية أبعد من ضم الأقطار وبسطة السلطان والملك. فقد كان الإسلام يواجه في الأقطار التي افتتحها من العالم القديم، أنظمة

ص: 38

راسخة مدنية واجتماعية تقوم على أصول وثنية أو نصرانية، وكانت النصرانية قد سادت أقطار الدولة الرومانية منذ القرن الرابع، فكان على الخلافة ان تهدم هذا الصرح القديم وان تقيم فوق أنقاضه في الأمم المفتوحة نظما حديثة، تستمد روحها من الإسلام. وان تذلل النصرانية لصولة الإسلام سواء بنشر الإسلام بين الشعوب المفتوحة او بإخضاعها من الوجهة المدنية والاجتماعية لنفوذ الإسلام وسلطانه، وكان هذا الصراع بين الإسلام والنصرانية قصير الأمد في الشام ومصر وافريقية، فلم يمضِ نصف قرن حتى غيّر الإسلام هذه الأمم بسيادته ونفوذه، وقامت فيها مجتمعات إسلامية قوية شاملة، وغاضت الأنظمة والأديان القديمة ثم دفعت الخلافة فتوحها إلى أقاصي الأناضول من المشرق وجازت إلى إسبانيا من المغرب. فأما في المشرق فقد حاول الإسلام ان ينفذ إلى الغرب من طريق قسطنطينية، وبعثت الخلافة جيوشها وأساطيلها الزاخرة إلى عاصمة الدولة الشرقية مرتين: الأولى في عهد معاوية بن أبي سفيان سنة 48هـ (668م) والثانية في عهد سليمان بن عبد الملك سنة 98هـ (717م) وكانت قوى الخلافة في كل مرة تبدي في محاصرة قسطنطينية غاية الإصرار والعزم والجلد ولكنها فشلت في المرتين وارتدت عن أسوار قسطنطينية منهوكة خائرة.

ص: 39

‌إلى روح شوقي بك

خيم الليل وفي آفاقه

شهب ترمي إلى الأرض سناها

ملكت عينيْ كئيب عاشق

قد رعتْه مذ تبدّت ورعاها

شاعر قد ضاقت الدنيا به

فَرَنا شوقًا إلى رحب سماها

روحه الثكلى بكت فقد المنى

أين للباكي أسى مثل أساها؟

بات يدعو الله في أحزانه

عله يشفي من النفس ضناها

أطلق اللهم قيدي في الهوى

وأبنْ عن مهجتي الحرى جواها

وأعد نفسي إلى حيث الورى

في سماء الحب لم تعبد سواها

كل يوم للردى سخرية

تجرح القلب وللناس صداها

تتراءى لي تهاويل الأسى

بين خذلان حياتي ورجاها

كحسان عاريات تكتسي

من لهيب النار ما يدمي حشاها

وأثبات تتنزى حسرة

والمنايا تتهادى في خطاها

كلما في الليل مالت نجمة

خلتها نفسي دهاها ما دهاها

أو رأيت الطير في دوحته

والخريف السوء عرَّاها حلاها

خلته العاشق في وحدته

واجماً يذكر أياماً قضاها

عذبات الأنس ما عانقتها

وثمار اللهو لم أجن جناها

زهرة الجثمان في ريعانها

وركاب العمر لم تبلغ مداها

والأماني لم تزل في فجرها

باسمات الثغر والأمن غطاها

عطفت روحي على ريحانها

عطفة الأم على مهد فتاها

ثم ولت وهي عبرى بعدما

لثمت منها خدوداً وشفاها

غالها الدهر بسهم صائب

فغدت تذبل في زهو صباها

ثم فاضت روحه طاهرة

وجرت في مقلة الشمس دماها

صدح البلبل لما أشرقت

وصداح الطير نوع من بكاها

حلب. عمر أبو قوس

دعابة

ص: 40

ما أنت في ثوبك بدر الدجى

كلا ولا أنت غزال شدَن!

أنت وربي فتنة صورت

للناس من كل أنيقٍ حسن

تستأسرُ الآهَ فتهفو لدي

مرآك من كل فؤادٍ فتن

لا تحتجب بالبعد عنا فما

يعرف فضل الحسن إن لم يبَنُ

وأنت في ذاتك سر وذا

حسنك في أبصارنا قد علن

يا نعمتي في محنتي، داوني

يا سكني إما تجافي السكن

تعال زَوّد شفتي قبلةً

من قبل أن يُسرع فيك الزَّمن

حمص. رفبق فاخوري

ص: 41

‌الحرية في الكتابة ومدى التجديد فيها

لست أقصد بحرية الكتابة ما يقصده كتاب السياسة حين يكتبون عن

الصحافة والصحف، وما يجوز للصحف أن تتعرض له وما لا يجوز

لهل الخوض فيه، وانما اقصد ذلك القدر من الحرية الذي ينبغي أن

يتمتع به الكاتب الأديب حين يكتب مقالته أو ينشئ رسالته، وأسأل:

أهو قدر غير محدود؟ وهل هي حرية غير ذات نهاية أو حد؟ أم هو

قدر من الحرية مهما اتسع أفقه وطال قطر دائرته فإن له حداً لا ينبغي

للأديب أن يتجاوزه، وقواعد لا ينبغي له أن يطغى عليها فيمحوها أو

يغير منها؟ وقد دعاني إلى هذا التساؤل ما قرأته في العدد الأخير من

الرسالة للأديب الفاضل حبيب شماس يخاطب فيه الدكتور هيكل بك

فبقول له: (اغلط واكثر من الغلط الموهوم وكسِّر من هذه القيود التي

كسر بعضها من قبلك طه) ويختمه بقوله: (ان أغلاط أكابر الكتّاب هي

صك تحرير النشء الصاعد)

وليست المسألة أن يخطئ الدكتور هيكل أو يصيب، ولا أن يكسر الدكتور طه قيودا من قيود الأدب او يتركها تغل الأيدي والأقلام وإنما المسألة مسألة اللغة العربية وما وضع لها من قواعد وحدود، كما وضع لغيرها من لغات العالم كله، فان هذه الأغلاط والأخطاء إن أبيح للدكتور هيكل وغيره من كبار الكتاب ان يقعوا فيها، فليس لأحد بعد ذلك أن يحضر على النشء الصاعد ما أبيح للنشء الذي صعد، وسيحاول أولئك المخطئون من النشء ان يبرروا أخطاءهم كما يفعل كبار كتّابهم وقادتهم من الأدباء، ولكنهم عندئذ لن يقدموا دليلاً على صحة ما كتبوا كما لم يقدم أكابر الكتاب دليلا على صحة ما كتبوا، وانما سيؤول الأمر في ذلك كله إلى إرادة الكاتب وهواه، وسنعود في قواعد اللغة العربية إلى مثل ما نحن فيه الآن من خلاف للنقد الأدبي، أهو قائم على قواعد وأسباب بعينها، أم هو قائم على الذوق وحده؟ وسيرى كلُ في اللغة العربية ما يريد، هذا يرفع المفعول وذاك ينصبه وذاك يجر

ص: 42

الفاعل وهذا ينصبه، فإذا سألته في ذلك أو نقدت قوله قال لك: دعني فاني هكذا أكتب، وهكذا أريد، ولن أغير في كتابتي ولن اكتب غير ما أريد. وستنفرد اللغة العربية إذن بهذا الأسلوب الغريب المتعدد الذي لا ضابط له من قواعد ولا قياس، فتفوق بذلك لغات الأرض قديمها والحديث، وسيكون ذلك كله باسم التجديد في اللغة والأدب. ان هذه اللغة العربية ليست لغتنا نحن المصريين، وانما هي لغة طغت على اللغة المصرية، واحتلت مكانها فصارت لغتنا وأخذناها ونحن راضون بها مطمئنون إليها، فهي لغة كتاب السواد الأعظم من المصريين ولغة نبيهم الكريم، فأما أن نحرص عليها وعلى قواعدها ونسير وفق مناهج أصحابها، وأما أن نغير تلك القواعد ونجعلها موافقة لطبيعة عصرنا وأمزجتنا، ونصطلح على قواعد لا يختلف فيها نشء صعد ولا نشء صاعد، أما قبل ذلك التجديد فليس لنا إلا أن نتبع ما لدينا من قواعد اللغة ونحوها. سيقال أن هذا التجديد الذي يحدثه كبار الكتاب فيما يكتبون سيصبح مع الزمان قواعد تتبع ونماذج تحتذى، بل هو قيل بالفعل، ولكن ليس كل الكتاب من الأكابر، وليس من الممكن أن نقصر التجديد على كبار الكتاب ونحظره على الناشئين منهم، ولسنا نأمن على اللغة من هؤلاء الناشئين أن يفسدوها من حيث أرادوا لها تجديدا وإصلاحا. للكتاب أن يغيروا من الأساليب كيفما يشاءون، وأن يصطنعوا الإطناب أو الإيجاز كما يريدون، فان هذا كله خير للغة ودليل على غناها ومرونتها، ولكن في حدود القواعد المرسومة والنحو الموضوع، ولا يهمني أن تكون تلك القواعد جديده نصطلح عليها الآن أو أن تكون هي التي بين أيدينا والتي أجاهر بأنها في حاجة كبيرة إلى الإصلاح، فالمقصود هو أن ننزع اللغة من براثن الفوضى، وما دام الكتاب كباراً ففي وسعهم من

غير شك أن يكتبوا فيحسنوا الكتابه، وأن يعرضوا أفكارهم الناضجة وآثارهم الأدبية فيحسنوا عرضها، وأن يحافظوا مع ذلك كله على قواعد اللغة.

إسكندرية. محمد قدري لطفي. ليسانسييه في الآداب

ص: 43

‌في الأدب العربي

عكاظ والمربد

للأستاذ أحمد أمين

(2)

وقد يتفاخر الرجلان من قبيلتين فيفخر كلٌ بقبيلته ومكارمها فيتحاكمان إلى حكم عكاظ كما فعل رجل من قضاعة فاقر رجلا من اليمن فتحا كما إلى ذلك الحكم.

ومن كان داعيا إلى إصلاح اجتماعي او انقلاب ديني كان يرى أن خير فرصة له سوق عكاظ، والقبائل من أنحاء الجزيرة مجتمعة، فَمَنْ قَبِلَ الدعوة كان من السهل أن يكون داعيا في قومه إذا دعا إليهم، فنرى قس بن ساعدة يقف بسوق عكاظ يدعو دعوته ويخطب فيها خطبته المشهورة على جمل له أورق فيرغِّب ويرهِّب ويحذِّر وينذر.

ولما بعث رسول الله (ص) اتجه إلى دعوة الناس بعكاظ لأنها مجمع القبائل، روى الواقدي أن رسول الله أقام ثلاث سنين من نبوته مستخفياً ثم أعلن في الرابعة فدعا عشر سنين، يوافي الموسم، يتبع الحجاج في منازلهم بعكاظ والمجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلِّغ رسالة ربه ولهم الجنة، فلا يجد أحداً ينصره حتى انه يسأل عن القبائل ومنازلهم قبيلة قبيلة، حتى انتهى إلى بني عامر بن صعصعة فلم يلق من أحد من الأذى ما لقي منهم، وفي خبر آخر أنه أتى كندة في منازلهم بعكاظ فلم يأت حيا من العرب كان ألين منهم، وعن علي بن أبي طالب (ع): إن رسول الله (ص) كان يخرج في الموسم فيدعو القبائل فما أحد من الناس يستجيب له نداءه ويقبل منه دعاءه، فقد كان يأتي القبائل بمجنة وعكاظ ومنى حتى يستقبل القبائل، يعود إليهم سنة بعد سنة حتى كان من القبائل من قال: أما آن لك أن تيأس منا؟ من طول ما يعرض عليهم نفسه حتى استجاب هذا الحي من الأنصار.

وروى اليعقوبي أن رسول الله (ص) قام بسوق عكاظ عليه جبة حمراء فقال: يا أيها الناس قولوا لا اله إلا الله تفلحوا وتنجحوا، ويتبعه رجل يكذبه وهو أبو لهب بن عبد المطلب. كذلك كان لعكاظ أثر كبير لغوي وأدبي، فقد رأينا قبائل العرب على اختلافها من قحطانيين وعدنانيين تنزل بها، وملك الحيرة يبعث تجارته إليها، ويأتي التجار من مصر والشام والعراق، فكان ذلك وسيلة من وسائل تفاهم القبائل وتقارب اللهجات، واختيار القبائل

ص: 44

بعضها من بعض ما ترى أنه أليق بها وأنسب لها، كما أن التجار من البلدان المتمدنة كالشام ومصر والعراق كانوا يطلعون العرب على شيء مما رأوا من أحوال تلك الأمم الإجماعية. وفوق هذا كانت عكاظ معرضا للبلاغة ومدرسة بدوية يلقى فيها الشعر والخطب وينقد ذلك كله ويهذب، قال أبو المنذر:(كانت بعكاظ منابر في الجاهلية يقوم عليها الخطيب بخطبته وفعاله وعد مآثره وأيام قومه من عام إلى عام فيما أخذت العرب أيامها وفخرها) وكانت المنابر قديمة يقول فيها حسان:

أولاء بنو ماء السماء توارثوا

دمشق بملك كابرا بعد كابر

يؤمون ملك الشام حتى تمكنوا

ملوكا بأرض الشام فوق المنابر

فيقف أشراف العرب يفخرون بمناقبهم ومناقب قومهم. . . فبدر بن معشر الغفاري. . . كان رجلا منيعاً مستطيلا بمنعته على من ورد عكاظ فاتخذ مجلسا بهذه السوق وقعد فيه وجعل يبرح على الناس ويقول:

نحن بنو مدركة بن خندف

من يطعنوا في عينه لا يطرف

ومن يكون قومه يغطرف

كأنهم لجَّة بحر مُسدَف

فيقوم رجل من هوازن فيقول:

أنا أبن همدان ذوي التغطرف

بحر بحور زاخر لم ينزف

نحن ضربنا ركبة المخندف

إذ مدَّها في أشهر المعرف

وعمر بن كلثوم يقوم خطيبا بسوق عكاظ وينشد قصيدته المشهورة:

ألا هي بصحنك فاصبحينا

والأعشى يوافي سوق عكاظ كل سنة، ويأتي مرة فإذا هو بسرحة قد اجتمع الناس عليها فينشدهم الأعشى في مدح المحلق والنابغة الذبياني تضرب له قبة أدم بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء فيدخل إليه حسّان بن ثابت وعنده الأعشى والخنساء فينشدونه جميعا ويفاضل بينهم وينقد فيما زعموا قول حسان:

لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى

فيقول لحسان قلْلَت العدد ولو قلت الجفان لكان أكثر. وقالت يلمعن بالضحى ولو قلت يبرقن بالدجى لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً.

ص: 45

ودريد بن الصمة يمدح عبد الله بن جدعان بعد أن هجاه فيقول:

إليك أبن جدعان أعملتها

محففة للسرى والنصب. . الخ

وقس بن ساعدة يخطب الناس خطبته المشهورة فيذكرهم بالله والموت ورسول الله يسمع له، والخنساء تسوم هودجها براية وتشهد الموسم بعكاظ وتعاظم العرب بمصيبتها في أبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخر ومعاوية، وتنشد في ذلك القصائد، فلما وقعت وقعة بدر وقتل فيها عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة أقبلت هند بنت عتبة إلى عكاظ، وفعلت كما فعلت الخنساء، وقالت اقرنوا جملي بجمل الخنساء ففعلوا، فعاظمت هند الخنساء في مصيبتها وتناشدتا الأشعار: تقول إحداهما قصيدة في عظم مصيبتها وترد الأخرى عليها، وعلى الجملة فكانوا في عكاظ يتبايعون ويتعاكظون ويتفاخرون ويتحاجون، وتنشد الشعراء ما تجدد لهم، وفي ذلك يقول حسان:

سأنشر ما حييت لهم كلاما

ينشر في المجامع من عكاظ

فمن هذا كله نرى كيف كانت عكاظ مركزا لحركة أدبية ولغوية واسعة النطاق كما كانت مركزا لحركة اجتماعية واقتصادية.

نظام سوق عكاظ

كانت القبائل (كما أسلفنا) تنزل كل قبيلة منها في مكان خاص بها، ثم تتلاقى أفراد القبائل عند البيع والشراء أو في الحلقات المختلفة. كالذي حكينا أن الأعشى رأى الناس يجتمعون على سرحة، أو حول الخطيب يخطب على منبر، أو في قباب من أدم تقام هنا وهناك، ويختلط الرجال بالنساء في المجامع، وقد يكون ذلك سببا في خطبة أو زواج أو تنادر وكانت تحضر الأسواق (وخاصة سوق عكاظ) أشراف القبائل. وكان أشرف القبائل يتوافون بتلك الأسواق مع التجار من أجل أن الملوك كانت ترضخ للأشراف، لكل شريف بسهم من الأرباح، فكان شريف كل بلد يحضر سوق بلده، إلا عكاظ فانهم كانوا يتوافون بها من كل أوب).

والظاهر أن المراد بالملوك هم الأمراء ورؤساء القبائل الذين يرسلون بضائعهم لبيعها في أسواق العرب كملك الحيرة والغساسنة وأمراء اليمن ونحوهم (وكانت القبائل تؤتي لرؤسائها إتاوة في نظير إقامتهم بالسوق، فقد ذكر اليعقوبي في تاريخه أخبار أسواق كثيرة

ص: 46

كان يعشرها أشرافها) أي يأخذون العشر. وفي عكاظ كانت القبائل تدفع لأشرافها هذه الإتاوة (فهوازن كانت تؤتي زهير بن جذيمة الإتاوة كل سنة بعكاظ، وهو يسومها الخسف وفي أنفسها منه غيظ وحقد) وكانت الإتاوة سمنا وأقطا وغنما. (وكان عبد الله بن جعدة سيدا مطاعا وكانت له إتاوة بعكاظ يؤتي بها، ويأتي بها هذا الحي من الازد وغيرهم، ومن هذه الإتاوة ثياب).

وكان الأشراف يمشون في هذه الأسواق ملثمين، ولا يوافيها (عكاظ) شريف إلا وعلى وجهه برقع مخافة أن يؤسر يوما فيكبر فداؤه، فكان أول من كشف طريف العنبري، لما رآهم يطلعون في وجهه ويتفرسون في شمائله، قال: قبح من وطّن نفسه إلا على شرفه، وحسر عن وجهه وقال:

أو كلما وردت عكاظ قبيلة

بعثوا إليّ عريفهم يتوسم

فتوسموني إنني أنا ذلكم

شاكي السلاح وفي الحوادث معلم

إلى آخر الأبيات.

وكان على سوق عكاظ كلها رئيس إليه أمر الموسم وإليه القضاء بين المتخاصمين، قال أبو المنذر: وتزعم مضر أن أمر الموسم وقضاء عكاظ كان في بني تميم. . . وكان من اجتمع له ذلك منهم بعد عامر بن الظرب العدواني سعد بن زيد بن مناة من تميم، وقد فخر المخبل بذلك في شعره:

ليالي سعد في عكاظ يسوقها

له كل شرق من عكاظ ومغرب

حتى جاء الإسلام فكان يقضي بعكاظ محمد بن سفيان بن مجاشع

تاريخ عكاظ:

من العسير جدا أن نحدد بدء عكاظ فلم نجد في ذلك خبراً يصح التعويل عليه. يقول الآلوسي في بلوغ الأدب (انها اتخذت سوقا بعد الفيل بخمس عشرة سنة) ولكن إذا بحثنا في الأحداث التي رويت في عكاظ وجدنا ذلك غير صحيح فهم يروون (كما قدمنا) أن عمرو بن كلثوم انشد قصيدته في عكاظ وعمرو بن كلثوم كان على وجه التقريب حول سنة500 م.

كذلك إذا عدنا إلى ما رواه المرزوقي في الأزمنة والأمكنة عن رؤساء عكاظ وجدنا انه

ص: 47

عدهم قبل الإسلام عشرة أولهم عامر بن الظرب العدواني. وهذا (من غبر شك) يجعل تاريخ عكاظ أبعد مما يحكي الآلوسي بزمان طويل كذلك يروي الأغاني ان عبلة زوجة عبد شمس بن عبد مناف باعت أنحاء سمن بعكاظ.

وظلت سوق عكاظ تقوم كل سنة وكانت فيها قبيل الإسلام حروب الفجار، وهي حروب أربع وكان سبب الأولى على ما يروى، المفاخرة في سوق عكاظ. وسبب الثانية تعرض فتية من قريش لأمرأة من بني عامر بن صعصعة بسوق عكاظ. وسبب الثالثة مقاضاة دائن لمدينهِ مع إذلالهِ في سوق عكاظ، وسبب الأخيرة أن عروة الرجال ضمن ان تصل تجارة النعمان بن المنذر إلى سوق عكاظ آمنة فقتله البراض في الطريق.

فكلها تدور حول سوق عكاظ وهذه الحروب كانت قبل مبعث (النبي صلى الله عليه وسلم بست وعشرين سنة وشهدها النبي وهو ابن أربع عشرة سنة مع أعمامه وقال: كنت يوم الفجار أنبل على عمومتي

واستمرت هذه الحروب نحو أربع سنوات. وقد كانت هناك نزعتان عند اشراف العرب، نزعة قوم يقصدون إلى السلب والنهب وسفك الدماء لا يصدهم صاد ولا يرعون حتى الأشهر الحرم ويتحرشون بالناس فيمد أحدهم رجله في سوق عكاظ ويتحدى الأشراف مثله أن يضربوها فتثور من ذلك الثائرة.

وفريق يميل إلى السلم ودرء اسباب الحروب ونجاح التجارة والأسواق بتأمين السالكين وعدم التعرض لهم بأذى.

جاء في تاريخ اليعقوبي: (انه كان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق فسموا (المحلون) وكان فيهم من ينكر ذلك وينصِّب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر فيسمون الذادة (المحرمون) فأما المحلون فكانوا من أسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة وقوم من بني عامر بن صعصعة وأما الذادة المحرمون فكانوا من بني عمرو بن تميم وبني حنظلة بن زيد مناة وقوم من هذيل وقوم من بني شيبان. . . فكان هؤلاء يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس.

وكان من اشهر الداعين إلى السلم عبد الله بن جدعان فقد كان إذا اجتمعت العرب في سوق عكاظ دفعت أسلحتها إلى ابن جدعان ثم يردها عليهم إذا ظعنوا، وكان سيدا حكيما مثرياً.

ص: 48

ويظهر أن أصحاب هذه النزعة الثانية وهم الذادة هم الذين سموا هذه الحروب حرب الفجار لما ارتكب فيها من الفجور وسفك الدماء وهم الذين تغلبوا فيما بعد ونجحوا في وقف هذه الحروب (ودعوا الناس أن يعدوا القتلى فيدوا من فضل. وان يتعاقدوا على الصلح فلا يعرض بعضهم لبعض) وربما كان من أثر ذلك حلف الفضول وقد عقد في بيت عبد الله بن جدعان هذا.

واستمرت عكاظ في الإسلام وكان يعين فيها من يقضي بين الناس، فعين محمد بن سفيان بن مجاشع قاضيا لعكاظ وكان أبوه يقضي بينهم في الجاهلية وصار ذلك ميراثا لهم.

ولكن يظهر ان هذه الأسواق ضعف شأنها بعد الفتوح فأصبحت البلاد المفتوحة أسواقا للعرب خيراً من سوق عكاظ، وصار العرب يغشون المدن الكبيرة لقضاء أغراضهم، فضعفت أسواق العرب ومنها عكاظ. ومع ذلك ظلت قائمة وكان آخر العهد بها قبيل سقوط الدولة الأموية. قال الكلبي:(وكانت هذه الأسواق بعكاظ ومجنه وذي المجاز قائمة في الإسلام حتى كان حديثا من الدهر، فأما عكاظ فإنما تركت عام خرجت الحرورية بمكة مع أبي حمزة المختار بن عوف الأسدي الأباضي في سنة129 خاف الناس ان ينهبوا وخافوا الفتنة فتركت حتى الآن، ثم تركت مجنه وذو المجاز بعد ذلك).

واستغنوا بالأسواق بمكة وبمنى وبعرفة. . . وآخر سوق خربت سوق حباشة خربت سنة197. أشار فقهاء أهل مكة على داود بن عيسى بتخريبها فخربها وتركت إلى اليوم.

فعكاظ عاصرت العصر الجاهلي الذي كان فيه ما وصل إلينا من شعر وأدب، وجرت فيها أحداث تتصل بحياة النبي (ص) قبيل مبعثه، مهدت السبيل قبيل الإسلام لتوحيد اللغة والأدب وعملت على إزالة الفوارق بين عقليات القبائل، وقصدها النبي (ص) يبث فيها دعوته، وعاصرت الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين والعهد الأموي ولكن كانت حياتها في الإسلام اضعف من حياتها قبله، وبدأ ضعفها من وقت الهجرة لما كان من غزوات وحروب بين مكة والمدينة او بين المؤمنين والمشركين، فلما فتحت الفتوح رأى العرب في أسواق المدن المتحضرة في فارس والشام والعراق ومصر عوضا عنها، ثم كانت ثورة أبي حمزة الخارجي بمكة فلم يأمن الناس على أموالهم فخربت السوق، وختمت صحيفة لحياة حافلة ذات اثر سياسي واجتماعي وأدبي.

ص: 49

‌من طرائف الشعر

شوقية لم تنشر

وهذه قطعة اخرى من أدب الأطفال عنوانها (الرفق بالحيوان) نظمها شاعر الخلود شوقي بك ولم تنشر.

الحيوان خّلْق

له عليك حق

سخرَهُ الله لكا

وللعباد قبلكا

حمولة الأثقال

ومرضع الأطفال

ومطعم الجماعة

وخادم الزراعة

من حقه ان يرفقا

به وألا يرهقا

ان كلَّ دعه يسترح

وداوه إذا جرح

ولا يجمع في داركا

أو يظم في جواركا

بهيمة مسكين

يشكو فلا يُبين

لسانه مقطوع

وما له دموع

ص: 51

‌بين صياد وأسد

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

// لاقى أسامة وهو الضيغم الضاري

في الغاب صياد آساد وإنمار

فقال واليدُ تحوي بندقيته

يلقي عليه سؤال العاتب الزاري

يا ليث قل لي: لماذا أنت ذو ولعٍ

بقتل باقورة ترعى وبَقار

فقال بالقتل يغريني السعار فسل

من كان يقتل لهواً بالدم الجاري

وقد أحاول قتل النفس مثئرا

والقتل للهو غير القتل للثار

وربما اضطرني للقتل معترض

وما على القاتل المضطر من عار

القتل فيه حياة لي سأشكر من اجله من

له حياتي بأنياب وأظفارِ

أصوم يومي وحسبي أن يكون على

دم عبيطٍ لظبي صدتُ إفطاري

لأنت أضعف مخلوق ويدهشني

ما في سلاحك من سحر وأسرار

ان القضيب الذي تلهو يداك به

يكاد يخطف منه البرق إبصاري

وتعتري رجفة مني الفؤاد لدى

سماع صوت له كالرعد هدار

وهذه الأرض من خوفي سأهجرها

فلست تسمع بعد اليوم أخباري

لأنت أعدى عدو لي يطاردني

وأنت أجدر من عاد بإكباري

قد كنت أحمي عريني أن يطوف به

وحش وأني ذاك القسوَر الضاري

إذا زأرتُ فإني مثل راعدة

أو انقضضت فاني شبه إعصار

وقد أهاجم جاموسا فاصرعه

بضربة من يميني ذات آثار

ما اكثر الوحش في الآجام وأغلة

وما بها كل ذي ناب بمغوار

واليوم إني على ما فيّ من ثقةٍ

بقوتي خائف من زندك الواري

الليل منك إذا ما جن يسترني

أما النهار فواشٍ غير ستار

إني أقر بأوزاري التي عظمت

لو كان يذهب إقراري بأوزاري

ان كنُت أقتل ذا شر يهاجمني

فقد قتلتم الوفا غير أشرار

بالسيف، بالنار، بالغازات خانقة

وبابتعاث الوباء الفاتك الساري

ونحن إما أردنا البطش ننذركم

وتفتكون بنا من غير إنذار

ص: 52

ندنو فنقتل بالأنياب عن كثب

وتقتلون برغم البعد بالنار

كانت لنا الأرض ملكا قبل خلقكم

من صلب قرد طريد آكل الفار

سل إن شككتَ رجال العلم يعترفوا

بما أقول وما ذو الجهل كالداري

بلى أضرُّ إذا ما وجعت مفترسا

لكني لست في شبعي بضرار

\ لا أوثر القتل حُباً في محاسنه

بل ان في حاجتي بعثاً لإيثاري

خلقت ليثا هصوراً وسط غابته

ولم أكن أنا في خلقي بمختار

إني بكوني رِئْبالاً لمفتخرٌ

فلا تعيبنَّ أخلاقي وأطواري

وجدت في الغاب نفسي ضاريا أسداً

فهل يعير مني الهازئ الزاري؟

ولست تعلم ما نفسي ترى حسناً

فان رأسك يحوي غير أفكاري

أما الحياة فليست مثل ما زعموا

مقسومة بين أشرار وأبرار

أدير عيني في الأحياء أرقبها

فلا ألاقي أمامي غير أشرار

ان القوي ليبقى والحياة وغى

في البرِّ في البحر، في الأجواءِ في الغار

ولا يعيش عزيزا غير مجترئ

ولا يموت ذليلا غير خوار

تود سجني لو تستطيع في قفص

ويمقت السجن حر شبل أحرار

الخريف والزهرة

همس الخريف لغرسة فواحة

ضحك الربيع لها وبرعم عودها

اليوم يرقصك النسيم وتلتوي

بيد النسيم من الزهور قدودها

اليوم تفرح بالربيع خمائل

جليت مطارف زهوها وبرودها

اليوم تسكركِ الطير وتسمعي

ن على الغصون مرنما غريدها

لكن غدا! وغدا إذا خف الهوى

وذوت أزاهير المنى وورودها

يمشي الشحوب على محاسنك التي

سطعت يزيل خطوطها ويبيدها

وأمد كفي للزهور تهزها

تيهاً، فيفرط شذرها وفريدها

فذري حياة للعذاب تألفت

ويل الشقاء يشوبها ويعودها

قالت حياتي يا خريف عزيزة

وأنا على رغم الشقاء أريدها

أنا كالغواني تستلذ العيش ما

فتئت تشع ميولها وخدودها

ص: 53

قال الخريف: أميتها وتميتني

قال الربيع: تعيدني وأعيدها

خليل هنداوي

عبقر

لأسرة المعلوف قدم سابقة في الأدب، وعبقرية خالقة في الشعر، ورحم الله فوزي المعلوف فقد ابتدأ الشعر من حيث انتهى غيره ولو لم يحتضر وهو في ريق العمر لأرى الناس كيف يتحضر الشعر ويتجدد الأدب. وقد نبغ اليوم من هذه الأسرة الكريمة الشاعر الشاب شفيق المعلوف: فقد نظم ملحمة عنوانها (عبقر) ثم نشرها في البرازيل. وسنكتفي اليوم باختيار شيء منها على ان نعود إلى الكلام عنها في عدد قادم.

قال من الفاتحة:

يا يقضة تنفض عن مقلتي

إغفاءة طارت وحلماً نأى

ان الضحى صعد أنفاسه

على سراجي فغدا مطفأ

ومن تكن حالته حالتي

لم يستعض بالسيئ الأسوأ

ما الفرق في نومي وفي يقظتي

وكل في يقظاتي رؤى؟

شيطان الشاعر:

على الربى استلقى شعاع الضحى

يعبث فيه الأرج العاطر

فعانق الزهر وضمتهما

غمامة علقها الناظر

غمامة بينا أراها إذا

شيطان شعري تحتها سائر

كأنه لما بدا خفية

أظهره فوق الثرى ساحر

في فمه من سقر قطعة

منها يطير الشرر الثائر

ووجهه جمجمة راعني

أنيابها والمحجر الغائر

كأنما محجرها كوة

يطل منها الزمن الغابر

أقبل نحوي قائلا إنني

طوع لما يقضي به الآمر

أتيت والليل طوى ذيله

فعم صباحاً أيها الشاعر

قلت لشيطاني: أمن حالق

أتيتني ام من شقوق الثرى؟

ص: 54

فقال إني جئت من بقعة

خافية تدعونها عبقرا

تسوس فيها الجن عرافة

ترى بزجر الطير ما لا يرى

الشعر ولاّها شياطينه

فسادت الهوجل والهوبرا

ساحرة مطلسم مسحها

تطوي بها الأجيال والأعصرا

تقفوا السعالي أثرها كلما

أججت المندل والعنبرا

جن من النور جلابيبها

في كل سعلاة ترى نيرا

تضطرب الأرض متى أقبلت

قاذفة عزيفها المنكرا

فقم بنا صاح إلى عبقر

نجوس ذاك المجهل الأوعرا

وانطلق الشيطان في الجو بي

كأنه النيزك أو أسرع

مكنت من فقاره قبضتي

مندفعا أصنع ما يصنع

حتى تهاوى بي إلى موضع

ما راقني من قبله موضع

غمائم زرق على متنها

منازل جدرانها تسطع

تثور في أبراجها ضجة

بها يضيق الأفق الأوسع

فقال هذي عبقر ما ترى

وضجة الجني الذي تسمع

عزت على الأنس فمن حولها

أبالس الأبراج تستطلع

أنحاؤه الأربع مرصودة

تحرسها الزعازع الأربع

ما أفلت الإنسي من زعزع

الا تلقى صدره زعزع

الشهوة:

جنية تمعن في وثبها

كأن شيئا حولها راعها

حُلَّتها كالضوء شفافة

عن بشرة تزيد إشعاعها

كأنما الشمس التي كورت

من حلقات النور أضلاعها

ألقت إلى الأرض بما أبدعت

ليكبر العالم إبداعها

إن بسطت ذراعها أحجمت

ملتاعة تود إرجاعها

ثم أراها وهي مأخوذة

تطوي على ما لا أرى باعها

من عالم الأجساد مبلوَّة

بنهمة تود إشباعها

ص: 55

لشهوة في نفسها طاردت

في ظلمة الأدغال اتباعها

تعانق الأرواح حتى إذا

خابت مضت تحمل أوجاعها

شفيق المعلوف

ص: 56

‌في الأدب الشرقي

من الأدب التركي الحديث

بين صديقين

من ريف الأناضول إلى خمائل الأستانة

للكاتب الاجتماعي يعقوب قدري

من يدري مدى الحيرة التي تنتابك والدهشة التي تستولي عليك حينما يقع بصرك على إمضائي في آخر هذه الرسالة؟

فقد انقضت أعوام وأنا لم اكتب حرفا وأنت لم تخط إلي سطرا. ولا ريب انك ستجد في صوتي الذي اخترق حجاب هذا الصمت الطويل رجعا لصدى غريب من أصداء ما وراء الطبيعة. وهل أنا (والحق يقال) إلاّ رجل يخاطبك من وراء الطبيعة ويناديك؟؟

ان هذه الحرب الطاحنة والفوضى الجارفة قد بدّلتا كل شيء؛ حتى اصبح كل من خرج منهما سالما ذا أنباء وأخبار كأنما هو بأسرار القيامة عالِمْ وعلى أدوار ما قبل التاريخ واقف.

ان هذه السنين الخمس من أعمارنا مملوءة بحوادث خمسة عصور، فالأشياء التي كنا نعلمها والملامح التي كنا نعهدها قد أصبحت غريبة عنا ليس بها من عهد. وأنا اليوم لا أجد في نفسي القدرة على أن أتتذكر أيام الصبا التي كنا نقضيها مجتمعين والكتب التي كنا نقرؤها مشتركين والأعمال التي كنا نقوم بها متعاضدين والخيالات التي كنا نبني عليها سعادتنا متفائلين، وكل ما أستطيع أن أتذكره أننا لم نكن في تلك الأيام أسعد بالا ولا أحسن حالاً منا في هذه الأيام.

وأنا أريد ان أوضح لنفسي هذا بنفسي فلا أوفق، فيخيل إلى الآن إنني كنت بإنشاد الشعر مشغوفا، وانك كنت بالرسم مفتوناً، ففي السنة الأولى من عهد الانقلاب كنت أنا في عالم الآداب شاعرا معروفا بعض المعرفة، وكنت أنت في عالم الصناعة النفيسة رساما مشهورا بعض الشهرة وأننا كنا اكثر رفاقنا اهتماما للملبس واكتراثا للمسكن واحتفالاً بالمأكل: فكنا نقضي أيامنا بالذهاب إلى المآدب الفاخرة او بالسعي في ترتيب الملاهي الساهرة.

ص: 57

على أنني أتذكر ان شهرتنا الصغيرة وثروتنا التي كانت تمهد لنا السبيل إلى رغباتنا والإعجاب الشديد الذي كان يظهره رفاقنا بنا، كل ذلك لم يكن ليروي ظمأ نفوسنا الصادية، ولا ليطفئ حرارة قلوبنا المتأججة. وكنا إذا ما انفردنا بأنفسنا نتشاكى ما يجول في خواطرنا من رغبات، وما يختلج في ضمائرنا من نزعات: فلطالما كنا نحتقر محيطنا وبيئتنا، ونشمئز من عالمنا وإقليمنا، فكانت ضالتنا المنشودة، أوربا. . . .

وكنا حين نسير في الشوارع، إذا تطاير إلى أثوابنا الوحل، أو تناثر على أحذيتنا الغبار، اشمأزت نفوسنا، واكفهرت وجوهنا، وزفرنا زفرة وصحنا:(هل يستطيع الإنسان ان يعيش في هذه البلاد؟!)

وأخيراً ذهبت أنت إلى روما، وأنا إلى باريس. ولكن يخيل إليّ ان تلك الرسائل التي كنت ترسلها إلي من روما، وأرسلها اليك من باريس، كانت مملوءة بنفس الشكاوي، مغمورة بعين الأحزان. فكنت تقول:(ان مظاهر الصنعة الباهرة، ومشاهد الفن الساحرة، لا تكفي لترويح روحي المعذبة، وتسكين نفسي المضطربة، وبالرغم من وجودي بين الجدران، وتحت السقوف التي زيَّنها (ميخائيل آنجلو) و (رفائيل) بريشتهما البديعة، فإنني منقبض النفس ولهان، مشرَّد الفكر حيّْران وان ذلك السجين الذي يحبس في الأقبية الضيقة ذات الهواء الفاسد، والحلك الدامس، لا يعرف معنى القسوة والشدة، مثلما أعرف فما الذي أريد، وعما أبحث؟. . .)

هكذا كنت تقول، وكنت أجيبك:(أجدني في هذه المدينة الكبرى وحيدا، أرجو السلوان فلا أجده، والتمس العزاء فلا ألقاه. فمن أنا بين هذه الجموع الغفيرة، ومن يدري بي؟ فان الجنون والخبال كادا يخالطاني لولا كتبي التي كانت تعيد إلى نفسي الأمل والتفاؤل بين الفينة والفينة!)

لم يمضِ زمن طويل حتى عدنا أدراجنا إلى الأستانة، فكنت أنت قد سئمت الرسم، وكنت أنا قد تركت الشعر.

فكنت أقول: (قد قيل كل شيء، وشعر بكل شيء، فما الفائدة من ترديد الأقوال التي مجتها الاذواق، وتكرير الاحساسات التي نفرت منها الأسماع؟؟)

وكنت تقول: (ما الذي يرسمه الإنسان ويصنعه، بعد ان رأى جدران كنيسة (سيكستين)

ص: 58

المزخرفة البديعة وسقوفها الملونة الجميلة؟ فيجدر بالرسام اما ان يكون فناناً كأنجلو، واما ان يترك الرسم لأهله).

وكانت الحياة تمتد أمامنا وتنبسط، ونحن نسير يمنة ويسرة كالتائه في البادية القفراء التي لا حد لها ولا نهاية.

فكنا في وطننا وبلدنا، وبين أخداننا وخلاننا، مهذارين لا عمل لنا ولا شغل، نطوف الشوارع حيارى، ونجول في الأزقة كسالى. وكنت كلما استيقظ من النوم افتح عيني وأنا في سريري وأقول:(يا إلاهي! كيف أقضي هذا اليوم أيضاً؟!) وأئنُّ أنيناً شجيَّا كأن بين جنبي داء مبرحاً وفي أحشائي ناراً ملتهبة، وهكذا كنت أضيق بالحياة ذرعاً، واسخط على العالم كرهاً، وبينا أفكر ذات صباح في عثار جدي، إذ خطر ببالي خاطر لم أفكر فيه من قبل: ذلك هو خاطر الذهاب إلى مزرعة أبي، لعل الهم يسري عني قليلاً، والغم يهجرني ملياً.

فكنت تضحك مني يا أخي، وأنا أفارق الأستانة ضحكا مشوبا بالألم، وممزوجا بالحنان وتقول:(الحياة الريفية في الأناضول؟. . . ان ذلك لبعيد عنك؛ وسوف نرى!!)

ها قد مضت ستة أعوام: أنا هنا! ولا أكذبك إنني تألَّمت في أوائل قدومي، فساورني الهم والشجن واستولى عليَّ الغم والحزن؛ ولكني باعدت عن نفسي تلك الهموم، وشمرت عن ساعد الجد وأخذت أسعى وأتعب، بعد ان سئمت الحياة المدنية المتكلفة، وضجرت من العيشة البلدية المتصنعة فملت إلى الأرض أفلحها، وإلى الحيوانات أخدمها، وإلى الزروع أتعهدها. ولم تمضِ سنة واحدة على مجيئي حتى حوَّلت ذلك البناء الصغير إلى قصر كبير، وتلك البحيرة الكدرة الآسنة التي كانت للجواميس مقيلاً، وللخيول مشربا، إلى بحيرة صافية الماء، طيبة الرائحة. وكان يخترق المزرعة جدول أجرد ليس على ضفتيه نبات ولا شجر فأصلحت مجراه وغرست على جانبيه أشجار الصنوبر، فغدا اليوم روضة ذات منظر يملأ العين، ويبهج القلب. وان تلك الأراضي الواسعة الجرداء، والبراري الشاسعة القفراء، قد استرجعت حيويتها بفضل السماد والعناء، فأخذت تدر علينا الحب الكثير، والرزق الوفير.

واما أنا يا أخي! فرئيس (أغا) قرية، تراني وأنا أجول في الأراضي، وأطوف في البراري ممتطياً صهوة جوادي، قابضا على سوطي، محمر الخدين، مخشوشن اليدين، قد أكسبني

ص: 59

العمل قوة العضلات، ووهبني الجهد حدة النظرات.

نعم! ان مسعاي قد أصابه اثناء الحرب بعض الإخفاق، ومزرعتي قد امتدت إليها يد الإملاق، وذلك لتلبية الشبان داعي الدفاع عن الوطن، وكان يجدر بي أنا أيضا الذهاب حيثما ذهبوا والتوجه أينما توجهوا، ولكن الأرض لم تدعني أذهب، ولم تتركني أجيب. ففضلت البقاء بين الأطفال والنساء أسعى لسد عوزهم وقضاء حاجتهم.

وأنا يا أخي ما كتبت اليك هذه الرسالة الا لتعرف ان السعادة قد توجد في الأماكن التي لا تخطر على البال، والمواضع التي ليست بذات جمال، ولتعلم انها لا تتوافر بالشهرة ولا الثروة ولا بالسفاهة والعزلة، وإنما تتوفر بالعمل المنتج في الارياف، والسعي المتواصل في المزارع.

فانك إذا كنت لا تزال في ذلك المكان المظلم الضيق الذي تركتك فيه، فاسمح لي أن أقول ان كل جهد تبذله فيما لا يثمر ضلالة عمياء تبعث القلق والندم، وكل سعي تقدمه فيما لا ينتج جهالة صماء توجب الخيبة والخذلان.

سورية. الريحانية. عمر لبسروق

ص: 60

‌في الأدب الغربي

لامرتين والخريف

لامرتين شاعر رائق الفكر سليم الأسلوب رقيق العبارة. وهو واحد من

شعراء فرنسا المجيدين في القرن التاسع عشر. وإليه يعزى الفضل في

إحياء الشعر الغنائي الفرنسي الحديث.

حياته:

ولد في ماكون في (21 - 10 - 1790). وكان ابوه ملكيا متحمسا. وقد اضطر بعد عهد الإرهاب إلى الاعتكاف في ضيعته في بلدة ميلي مقربة من مسقط رأسه ماكون. وهناك شب ونما في أسرة حنون ومناظر طبيعية غاية في الجمال.

وقد ألقيت مقاليد تربيته إلى قسيس كريم كان لحبه للأقاصيص وكلفه بها أثر كبير في لامرتين حين كتب قصته (جوسلان أرسله أبوه بعد ذلك إلى كلية ليون ثم إلى مدرسة بليه الاكليريكية. وكانت دراسته حتى ذلك الحين ضئيلة تافهة قومها بعد خروجه من المدرسة بمطالعاته العديدة وبإمعانه النظر في الطبيعة وبجريه وراء الأحلام والخيال.

انتظم عام 14 في فرقة حرس الملك لويس الثامن عشر، ولم يتركها الا بعد (المائة يوم). وفي عام 1820 نشر مجموعة من الأشعار باسم (التأملات). وقد لاقت هذه المجموعة نجاحا منقطع النظير، وكان لها اثر كبير في شهرة لامرتين وتوجيه حياته في طريق العظمة والمجد. وفي العام التالي عين كاتبا لسر المفوضية الفرنسية بفلورنسا. ونشر عام 1823 مجموعة شعرية جديدة سماها (التأملات الجديدة) ثم دخل، بعد ذلك بسبع سنين، (الاكاديمية الفرنسية) وعكف علىّ الرحلة والأسفار فزار بلاد اليونان وسوريا وفلسطين. وكتب عند عودته، سياحة في الشرق.

غير ان الحياة السياسية جذبته إليها فرغب فيها، ومال إليها فرشح نفسه للنيابة وفاز في الانتخاب عام 1833 دون ان يكون له آراء أو مبادئ سياسية مرسومة محددة، ثم اندمج شيئا فشيئا في صفوف المعارضة. ووجهته أشعاره نحو الآراء الديمقراطية فاستقبلها وحفل بها. ويبدو ذلك جليا واضحا في مؤلفه (تاريخ الجيرونديين) عام 1847. وقد ساعد على

ص: 61

سقوط الملكية بتمهيد الطريق لثورة يولية 1830 التي انتهت بخلع شارل العاشر، وبتنصيب مجلس النواب الفرنسي دوق أورليان (لويس فيليب فيما بعد) ملكا على الفرنسيين. وانتخب لامارتين عام 1848 وزيرا للخارجية في الحكومة المؤقتة التي تألفت من الجمهوريين والاشتراكيين حين ملَّت فرنسا حكم فيليب، الا أن لامارتين اضطر إلى اعتزال السياسة والعودة إلى الحياة الخاصة بعد ان حلَّ لويس نابليون المجلس وشتت أعضاءه عام 1851.

وقد كانت كهولة لامرتين محزنة اذ اضطر تحت عبء الحاجة للمال إلى الانقطاع إلى الإنتاج العاجل المهين لعبقريته والقاتل لذكائه. وقضى في 25 - 2 - 1869م بعد ان باع اكثر عقاره الموروث.

شعره:

هو شاعر عظيم ولكنه ليس بفنان موهوب، هو (هاوي الشعر) كما يقول هو عن نفسه. وهو لا يستطيع حين يعوزه الوحي والإلهام ان يفعل مثل غيره من الشعراء فيلجأ إلى كفاءته ومقدرته في الصياغة والتأليف ليسد بها حاجته وليشبع بها رغبته. غير ان مجموعة أشعاره الأولى (التأملات) تكفي من غير شك لأن تجعل من لامرتين شيخا للشعر الفرنسي الحديث. وقد ساعد على ذلك ان مجموعته الشعرية هذه تضمنت كل الصفات الغنائية التي فاتت شعراء القرن السالف الذين كانوا ينظمون أشعارا موسيقية في كل الموضوعات دون ان يفيضوا عليها شيئاً من أرواحهم. اما لامرتين فينشدنا ما أحس من فرح أو حزن ومن سرور أو ألم ومن راحة أو وصب.

وعبقرية لامرتين في مرونة أشعاره وتنوعها وفي تعبيره الدقيق عن العواطف السامية والإفصاح عنها الإفصاح كله.

وهو شاعر الطبيعة. عرف روح الأشياء وكنهها دون ان يتجشم مرة محاولة تصويرها وتلوينها وهو يحب على الأخص ساعات الغسق وفصل الخريف الذي تمتزج بمظاهره الأخيلة والأوهام في رقة وعذوبة. وهكذا يتلاشى فكره الذي ليس له من غاية محدودة في سحابات مبهمة عديدة وهو بعد ذلك يعرف كيف يستخلص لنا منها فكرة ويفصح عما يجول في خاطره في موسيقى عذبة جذابة.

ص: 62

وقد بلغ لامرتين بوضوح الأسلوب وصفائه وتوافق نظمه وإيقاعه (وهما خلتان لازمتان للكاتب) درجة لم يبلغها شاعر قط. وقد أبدع لامرتين (دون تكلف أو جهد أو صقل) في نظم أشعاره وترقيتها وتنغيمها. غير ان البساطة والسهولة اللتين نظم بهما أشعاره أساءتا إليه من حيث لا يدري، فقد جعلتاه عرضة للسهو واستعمال العبارات المبهمة الغامضة والقوافي النابية الركيكة وذلك نجده بوضوح حتى في القطع الجيدة القليلة من شعره.

مؤلفاته:

كتب لامرتين، غير أشعاره الغنائية التي أشهرها (التأملات الشعرية) و (التأملات الجديدة) أشعاراً اخرى قصصية وفلسفية نذكر منها (موت سقراط وجوسلان وسقوط ملاك). هذا إلى مجموعة من المذكرات والقصص مثل (رحلة في الشرق وروفائيل جرازيلا). وقد كتب أيضا في التاريخ (تاريخ الجيرونديين) ولم ينس في أخريات أيامه أن يكتب (دروسا عامة في الأدب).

والقطعة التي اعرض لترجمتها اليوم هي قطعة من مجموعة أشعاره التأملات الأولى. وقد كتبها في خريف عام 1819.

ولم تكن حالته الصحية وقتئذ على حال من الثبات والاستقرار. فقد كان نهبا لشتى الآلام والعلل. هذا إلى صدمة تلقاها من قبل اذ رفضت خطبته الآنسة ماريان اليسا بيرسن الإنجليزية التي أصبحت له فيما بعد زوجة. وهو يشير في الفقرة السابعة إلى هذا الأمل الضائع.

وقد أوحى بها إلى لامرتين نوبة حادة من الحزن والكمد وقد صار موضوعها من الموضوعات التي يتميز بها شعر جماعة (الرومانتكيين). فالخريف؛ صورة من الفناء والموت يحمل بين طياته الحسرة والندم على السعادة الذاهبة.

وقد كتب في هذا الموضوع نفر من الشعراء الإنجليز والفرنسيين الا ان لامرتين اسبغ عليه فيضا من التغييرات الدقيقة استخلصها من حس رقيق وخيال واسع وقريحة خصبة. قال:

1

سلام عليك أيتها الخمائل المكللة بفضلة من الخضرة! ويا أيتها الأوراق المصفرة المتناثرة

ص: 63

على العشب سلام عليك أيتها الأيام الأخيرة الجميلة! ان حداد الطبيعة يلتئم وألمي ويتفق ومشاربي.

2

وها أنذا أسير في الطريق المنعزل حالماً مفكِّراً ويحلو لي ان أرى ثانية وللمرة الأخيرة الشمس الكاسفة وقد أخذ شعاعها الواهي الضئيل يكشف الطريق بعد لأي لقدمي وسط ظلمة الخمائل الحالكة.

3

حقاً أني أجد في لحاظ الطبيعة المحجبة حين تقضي في أيام الخريف جاذبية وسحرا، انها وداع صديق، بل هي ابتسامة لشفتين سيلجمهما عما قريب الموت إلى الأبد.

4

وها أنذا وقد شارفت أفق الحياة، ما زلت أتلفت وأنا ابكي أمل أيامي الطويلة المتلاشي، وانعم نظري في حزن وحسرة في محاسن الحياة التي لم أتمتع بها بعد.

5

يا أيتها الغبراء، ويا شمس ويا وديان، ويا أيتها الطبيعة الجميلة الحلوة، إني مدين لكن بدمعة وأنا على حافة قبري! ما أعبق النسائم بالعطور! وما أنقى الضوء! وما أجمل الشمس في نظر المحتضر!

6

كم أودُّ الآن أن استشف هذه الكأس وقد امتزج فيها الرحيق بالمرّْ. فلربما تبقى لي في هذه الكأس التي أتناول فيها الحياة، قطرة من الشهد.

7

ولربما أخفى لي المستقبل أيضا في ثناياه أوبة لسعادة ضاع الأمل فيها! ولربما تفهم نفسي؛ من بين الصفوف، نفس أجهلها فتجيبني!. . .

8

تسقط الزهرة تاركة عطرها للريح الدبور، وهذا وداعها للحياة وللشمس. وها أنذا أموت! وروحي حين تفيض تتصاعد كرجع صوت حزين شجي.

ص: 64

محمود فهمي ادريس. ليسانسييه في اللغة الفرنسية وأدبها

(الرسالة) نشرنا هذه المقالة تشجيعا لشبابنا الناشئين في الأدب ولعلهم قبل ان يفكروا في الكتابة يستكملون أداتها الضرورية من نحو وبيان، فان إهمال ذلك شر ما يؤاخذ به الكاتب.

ص: 65

‌العلوم

الاشعاع

للدكتور أحمد زكي. وكيل كلية العلوم

الاشعاع من أظهر ظواهر الوجود وأهم حادثاته الدائمة، تجده في المثل الصغير الحقير كما تجده في المثل الهائل الكبير، فالشمعة يحترق دهنها فيشع من احتراقه نور مضطرب ضئيل، يجهد ان يبدد من ظلمة الليل ما استطاع حتى يتبدد هو والنجوم تتوقد في السماوات العلى فتشع فتبعث في القبة الموحشة السوداء روحا وتبعث فيها جمالاً، ويتأجج هذا التنور السيار الهائل تلك الشعلة الدوارة الأبدية التي أسميناها الشمس، فتشع علينا بالنور والدفء، وبالهدى والحياة.

هذه أمثلة للإشعاع معروفة مألوفة، لأن العين تراها ولكنها ليست كل ما في الوجود من ذلك. ففي غير المألوف إشعاعات كثيرة لا تراها العين كشفها العلم. فالإشعاع اللاسلكي مثل حادث قريب الوقوع لا يزال يملأ قلوبنا بالإعجاب، ورءوسنا بالفكر والتأمل والحيرة، ولكنه ليس الا بعضا من كل، ومثلاً من مثل. تحدث ظواهر بينة الخلاف شديدة التغاير، وهي على شدة تغايرها وظاهر تناكرها وتعدد أسمائها حبات في عقد واحد وحلقات في سلسلة مطردة وأفراد من أسرة واحدة، تختلف سمة وتقاسيم ولوناً، ولكن تحت هذا الظاهر المضطرب باطن مستقر تلتقي جميعها فيه، وتتوحد جميعها عنده. ولكل شعاع من تلك الأشعة حكاية رائعة، وأحدوثة جميلة تنطق عن صبر للإنسان لا ينفد، وعن حيلة لا تعرف الخيبة، لا في استكشاف تلك الأشعة فحسب، بل في إلجامها وركوبها وتأنيسها حتى تكون ذلولاً طيِّعاً لا تنفر الا إذا أراد الإنسان منها النِفار، ولا تبطش الا حين يريدها على البطش. تناول السير اسحق نيوتن اظهر انواع الاشعاع بالبحث فأمرَّ أشعة الشمس في منشور ثلاثي من الزجاج، فبدل ان تخرج بيضاء كما دخلت، خرجت خليطا من أضواء عدة ذات ألوان عدة. فأعاد تجربته ثم أعاد فخرج على أن ضوء الشمس الأبيض مزيج من عدة أضواء، أي ان إشعاعها وان ظهر متجانسا خليط من جملة إشعاعات مستقلة الحدوث. وأسمى هذا المزيج بالطيف، فكان هذا هو الحجر الأول في بناء علم الإشعاع الحديث.

وانتقل الإنسان يسأل نفسه بعد ذلك: وكيف تسافر أشعة هذا الضوء؟ قال نيوتن انها تسافر

ص: 66

في خطوط مستقيمة، وقال بنظريته المعروفة وفسر بها بعض الظواهر الضوئية كالانعكاس، وبالتدرج أخذ عقل الباحثين يقتنع بالشبه الذي بين سفر الضوء على متن الفضاء، وسفر الأمواج على متن الماء، حتى اهتدوا إلى إثبات أن أضواء الطيف إنما اختلفت ألوانها من الأحمر إلى البرتقالي إلى الأصفر إلى الأخضر إلى الأزرق إلى النيلي إلى البنفسجي لاختلاف في الطول بين موجاتها، واهتدوا كذلك إلى ان الضوء الواحد ذا اللون الواحد إذا ضعف أو اشتد فإنما يحدث ذلك لضعف الموجة او اشتدادها، اعني زيادة ارتفاعها وانخفاضها، او نقصهما عن مسارها المستقيم في الفضاء، وان شئت فسمِ ذلك اتساعها، اما طولها فثابت لا يتأثر ما بقي اللون على حاله، فان تغير طول الموجة تغير اللون، فاللون الأحمر أطول موجة من البنفسجي؛ ولو انك وقفت في مسار هذين اللونين وعددت موجات الأحمر التي تمر عليك في ثانية، وعددت مثال ذلك من البنفسجي لوجدت عدد موجات الأحمر أي ذبذبته أقل لطول موجتها من ذبذبة البنفسجي. وخرج العلماء من هذا كله بان الشعاعة تتعين وتتحدد بذبذبتها وبطول موجتها وبسعتها.

بعد ذلك تساءلوا عما يحمل موجة الضوء من مكان إلى مكان. موج البحر يحمله الماء. وتهز الحبل فتسير فيه موجة تبتدئ من حيث مسته يدك وتنتهي حيث ربطته من الحائط. فالحبل أو كتانه هو الذي حمل موجته. فأي مادة حملت موجة الضياء حتى أتتنا من الشمس والقمر والكواكب؟ ليست هي مادة الهواء، فإنما الهواء غلاف كقشرة البرتقالة يلف الأرض ولا يصعد إلا أميالا نحو السماء، وليست هي مادة مما نعرف من المواد، بل ان الضوء يسير في الفراغ، فإن الأنابيب المفرغة بالمعنى الذي نفهمه لا تعوق الضوء في انسيابه. ولكن الموجة طاقة متنقلة، والطاقة لابد ان يتقمصها شيء. فما هو هذا الشيء الذي عجزت حواسنا الموهوبة عن إدراكه وآلاتنا مهما دقَّت عن كشفه؟ والآلات كثيرا ما بصرت بما عميت عنه العين، وسمعت ما صمت عنه الآذان، وناءت بأثقال توافه لا تحفل بها اليد. ما هو هذا الشيء المعدوم في وجوده، الموجود في عدمه؟ ان هذا الشيء معدوم عند العقل العادي الذي لا يؤمن الا بالذي يراه، ولكنه موجود عند العقل العلمي الذي يتخذ من الآلات حواس جديدة فوق حواسه الخمس، ويتخذ من حقائق العلم وتجارب العلم وماضي العلم وحاضره ومآسيه ومفارحه دروسا وعبراً، ويتخذ من التفكير العلمي وحواره وحجاجه

ص: 67

واستنتاجه منطقا جديدا غير منطق الشراب والطعام والملبس والمركب. موجود عند ذلك العقل العلمي الذي لبس جناحين من ذكر للماضي عاصم من خدعاته وثقة جريئة في المستقبل لا تعرف إلا الإمكان، يطير بهما في مجاهل لا يغني فيها السمع والبصر، ومفاوز على حدود البشرية أشبه بالمعاني منها بالمباني، وبالأرواح اللطيفة منها بالأجسام الكثيفة، هذا الشيء الذي لابد أن تسير فيه موجات الضوء موجود عند ذلك العقل العلمي بالرغم من ظاهر انعدامه، منظور بالرغم من خفائه، ملموس ولو أفلتته الاصابع. وإذن فلا بد له من اسم. فأسموه الأثير. وما مادته؟ لست أدري ولا المنجِّم يدري. وما خواصه؟ لا يعرفها حتى الذي اسماه. سئل الأستاذ أوليفر لودج العالم الطبيعي المعروف عن تعريف له فقال في كلمات ثلاث: هو شيء يتموج. وان كان لابد لك من تعريف فقل انه شيء له من الخواص ما يأذن بانتقال موجات الضوء فيه على نحو ما نعرف وفقا للقوانين التي نعرف، والسرعة الهائلة التي نعهد. فمثلا نعرف ان سرعة الموجة تتوقف على كثافة المجال الذي تنطلق فيه، ونعرف ان الضوء في سيره يقطع في طرفة العين ولمحة الخاطر مسافات يصعب على خيال المرء تصويرها، فنستنتج من هاتين الحقيقتين ان الكتلة التي في سنتمتر مكعب من هذا الأثير لابد ان تكون هائلة المقدار. وبعد ان درس العلماء الوان الطيف وهو كالسلم بدرجاته السبع، أسفلها الأحمر وهو أطولها موجة وأبطأها ذبذبة، وأعلاها البنفسجي وهو أقصرها موجة وأسرعها ذبذبة أخذوا يبحثون عن موجات أسفل من الأحمر وأطول منه موجة، وعن اخرى أعلى من البنفسجي وأقصر منه موجة، فهدتهم التجارب إلى صدق ما حدسوا: إلى موجات دون الأحمر وهي الموجات التي تنتقل بها الحرارة من بين ما تنتقل، وإلى موجات فوق البنفسجي وهي موجات ذات خواص كيميائية تستخدم في التصوير الشمسي، وأمرها الآن معروف ومشهود، وكلا هذين النوعين من الاشعاع غير منظور، فالعين لا ترى الا سلَّم الطيف بدرجاته السبع.

وأحس الطبيعيون بأن شعاعات أخرى لابد موجودة فيما دون الأحمر غير التي اكتشفت، فأجرى العالم الطبيعي (هرثر) تجاربه فكشف بها عن موجات جديدة غير مرئية وجدها شبيهة بموجات الضوء والحرارة، الا انها اكثر طولا واقل ذبذبة، وسميت باسمه. وفي الناحية الاخرى في أعلى السلم اكتشفت موجات غير مرئية اخرى قليلة الطول كثيرة

ص: 68

الذبذبة، سميت بالأشعة الكهربائية المغناطيسية، ثم تلتها الأشعة (السينية) المعروفة بأشعة (اكس) وقد أفادت الطب اكبر فائدة وهي تنفذ في الرصاص إلى نحو من خمسة سنتمترات. واليوم نتحدث عن الأشعة (الكونية) صعد الأستاذ منطاده في بالونه المشهور إلى طبقات الجو العليا في طلبها، وتحدثت عنها وعنه الجرائد منذ أشهر قليلة. وهذا الاشعاع الجديد لا يتوقف انبعاثه على الكرة الأرضية التي لنا الحظ بالعيش عليها فهو ينبعث صباح مساء في الصيف والشتاء غير آبه لنا أو لها، وينبعث حاملا طاقة واحدة لا تزيد ولا تنقص ينفذ بها في الرصاص بضعة أمتار وفي الماء نحو 800 قدم. ما أثر هذه الأشعة الجديدة اكتشافا، الأزلية مولداً، فيما على الأرض من حياة؟ ما أثرها في حياة النبات والحيوان وفي حياتنا نحن وارثي الأرض وما عليها؟ يقول الأستاذ السير جيمس جينز ان هذه الأشعة تحلل في الثانية الواحدة ملايين الجزئيات من أجسامنا. ان كان هذا حقا فما اثقل النعاس الذي كنا فيه حتى نمنا كل هذه القرون والأجيال عن أمر له هذا المساس القريب بذواتنا. ويا ترى كم من أمواج اخرى في هذا الفضاء تعمل فينا وفي أجسامنا وفي أرواحنا، ونحن عنها غافلون. وهل يا ترى سنجد في هذا النوع من الاشعاع تفسيرا لبلي الجديد وشيخوخة الشباب وفناء الحي. أذكر من سنوات عدة كلمة للسير أوليفر لودج لا أنساها الا إذا نسيت حضرته الرائعة، تروعك منها قامته الطويلة وكتفاه العريضان ورأسه العظيم يطل عليك من فوق جسمه الكبير مجللا بالشيب ولحية وقورة بيضاء صافية كصفاء ايمانه، وعينان وادعتان تنظر اليك منهما حقب من الزمان امتلأت علما وفكرا في مبنى الوجود ومعناه. كان يحاضرنا في جمع حافل أتى يستمع للعالم الشيخ فساقه ختام المقال إلى عفو من الكلام قال:(أنا هنا واقف بينكم في القرن العشرين في قاعة مملوءة بأنواع عدة من أمواج عدة (يقصد الأمواج اللاسلكية) منبعثة في اتجاهات عدة وكلنا صموت نتسمع ولكننا لا نسمع شيئا. ولكننا جميعا برغم ذلك مؤمنون بوجودها. ولو أني وقفت بينكم هذا الموقف في القرن الغابر أحدثكم عن هذي الأمواج لقلتم خرف أصابه مس الكبر. الفرق بين الموقفين فرق بين الزمنين، ذلك أني اليوم أستطيع أن أعيركم هذه الأذن الجديدة (وأشار إلى سماعة اللاسلكي التي تلتقط الأمواج) تسمعون بها ما عجزت عن سماعه آذانكم. ثم دار الأستاذ بعينيه في أرجاء الحجرة الواسعة في صمت وبطئ كأنما يستوحي جدرانها ثم قال: (ليت

ص: 69

شعري كم بهذه الغرفة الآن من أمواج غير التي نحن بصددها، وليت شعري أي الآذان يبتدعها الإنسان لادراكها، وليت شعري متى يكون هذا. . . وأنّى، واين؟) ثم صمت يفكر وصمتنا ننظر. فقال (ما الخاطر يرد لي ولك في آن وبيننا الأقطار العريضة والبلاد الواسعة؟ ما النذير يأتي قلبي وقلبك بالشر فيصدق حينا ويكذب حينا؟ ما الايحاء؟ ما الوحي؟) وفنيت جملته في تمتمة لم نسمعها، ورسمت يمناه في الهواء دوائر كأنما كانت تستكمل له رأياً لم يبح به أو فكرة وجد من الكياسة لا يذيعها، او لعله الهام جاءه على غير احتساب فشاء ان يتذوقه في مخدعه فردا قبل ان يكون للجماعة شأن فيه. وفي العلم الهام كما في الشعر الهام، وكما في النبوة وحي؟

ص: 70

‌القصص

قصة مصرية

دموع بريئة

للأستاذ محمود الخفيف

عرفته في الثامنة عشرة، طويل القامة في غير افراط، نحيل الجسم في غير هزال، مهيب الطلعة في غير تأنق، حلو الحديث في غير تكلف، ولست أذكر وقد مضى على تعارفنا نحو ستة أعوام ما الذي جذبني إليه حينما رأيته لأول مرة حتى لقد امتزجت روحي بروحه، أهو هدوءه ورزانته ام نشاطه وهيبته؟ وكل ما أتذكره الآن هو أني رأيته فأحببته ولشد ما أبهج نفسي أن رأيته يحس نحوي ما أحس نحوه فما هي الا أيام حتى توثقت عرى المودة بيننا واستحكم الوفاق بين قلبينا وصار كلأنا يأنس بصاحبه ويهش للقائه ويحرص على رضائه. ولما عاشرته وتبينت خلاله أعجبني منه أدبه الجم ووقاره العاقل وقلبه الرحيم وأكبرت منه نظراته الهادئة ونفسه المتوثبة وعواطفه الثائرة وشبابه المرح وروحه الجذابة.

وتبينت فيه شاعراً يقدس الجمال ويعشق الطبيعة في خيال خصب وذهن متوقد وحس دقيق كما تبينت فيه على حداثته فيلسوفا بعيد النظر دقيق الملاحظة حلو الفكاهة عذب الروح ورأيته مشغوفا بالحياة مقبلا عليها قانعا بحظه منهما راضيا عن نفسه غير ساخط على أحد. ولقد جعلني منذ ان تعارفنا موضع سره يحدثني في غير تحفظ ويجد عزاء طيبا في ان يبثني لواعج نفسه وخطرات حسه كما يجد هناء سائغا في أن أشاطره مسراته وأسباب سعادته. وكان حديثه تارة حزينا يستدر الدموع وتارة بهيجا يملأ جوانب النفس سروراً وغبطة وكان يقص عليَّ مشاهداته في الحياة غير انه كان يشفعها بآرائه او يمزجها بخواطره فيكسبها بذلك قوة تحرك القلب وتستثير العواطف. وكنت أحرص على أحاديثه إذ أرى فيها خواطر فتى كبير القلب راجح العقل. غاب عني شهرا فأشفقت أن يكون قد مسه الضر وأردت أن أذهب إليه ولكن الخادم أحضر إليَّ كتابا تبينت خطه على غلافه ففضضته في شغف فإذا به يخبرني انه سيكون عندي في المساء، ومرت الساعات ثقالا

ص: 71

حتى كانت الثامنة فإذا هو يطرق الباب ثم يفتحه في هدوء. ودخل عليَّ شاحبا مكدوداً واجما مهموما. ومد إليَّ يده وكأنه قرأ في وجهي إشفاقي وتلطفي، فابتسم ابتسامة قصيرة ثم جلس وقد اتكأ بمرفقه على حافة القعد وأسند رأسه إلى قبضة يده، وشملته كآبة مرعبة دق لها قلبي فأنا اعرفه ثائر العواطف واسع الرحمة يستوقف بصره بكاء بائس فتدمع مقلتاه، ويطرق أذنه أنين ملتاع فيملك عليه مشاعره وكثيرا ما اظهرت له إشفاقي فكان يضحك مني قائلا: لا حيلة في ذلك فتلك جبلته. ولقد كان يتهم نفسه بالطفولة ولكنه كان يعود فيفتخر بهذه الطفولة التي تملأ قلبه رحمة وحناناً. واطرق قليلا ثم رفع رأسه وقال وهو يضحك ضحكة غريبة تعبر عن الأسى والألم: (هو شهر، ولكنه قرن في حوادثه) وتالله لقد ألهب شوقي بتلك العبارة فاصخت بسمعي إليه وأقبلت بكليتي عليه وفهم هو من نظراتي أني استعجله فهز رأسه هزة عصبية وقال:

لله ما اغرب هذا المسرح الهائل مسرح الحياة الذي يموج بالناس في غير نظام وكل يلعب دوره حتى يسدل الستار عليه فإذا هو في طي الفناء وفي أغوار الأبدية. هذا ضاحك مستبشر وهذا فرح فخور. وهذا بائس محزون وهذا حائر مشدوه وهذا مستسلم وهذا مغتر متطاول وهذا. . . وأخيراً يتساوى الجميع فيساقون في سكوت كل إلى حفرته.

قلت أمرك عجب ايها الصديق وهل هذا ما يحزنك هذا الحزن؟ لكأني بك قد اجتمعت فيك كل هذه الصور. ماذا أحزنك وعهدي بك مرحا خلي البال؟ وتنهد الفتى تنهدا عميقا وقال:

(على المسرح المرعب او قل في زواياه التي لا تراها الا الأعين البصيرة او التي لا تراها الأعين الا مصادفة، على هذا المسرح الصاخب المضطرب وفي هذه الزوايا المتوارية عن الأنظار يوجد من المآسي والآلام ما يتفطَّر له القلب حقاً. . .)

وقاطعته قائلا: هون عليك يا فيلسوفنا الصغير وما لك ولهذا الانقباض وأنت في زهرة العمر؟

فنظر إلي نظرة لوم وقال:

(ما حيلتي وتلك جبلتي؟ يراني الناس ضاحكا فرحا فيظنون أني خلو من الهموم، وتالله ما ضحكي الا خداع مني لنفسي ومغالبة لشعوري، هو كالزهر الصناعي يغالط به الطفل نفسه. . . ولكن. . . أراك على حق فسأضحك وسألعب وسأنسى كل شيء. . . نعم سوف

ص: 72

اضحك مع الضاحكين. . . وسوف لا ابكي بعد اليوم مع احد او على احد. . .)

وضاحكته استطلع دخيلة نفسه وحقيقة أمره فاعتدل في جلسته وتوثب وتحفز واستجمع قوته ثم قال في قوة وعزم

هو دور لعبه أمامي ويا ليتني لم أره ولكن ما اسخف لعبته هذه!. . . ليكن ما يكون وليكن ما قدر وهو كائن.

قلت مالأمر؟ انك تحيرن. فاستطرد في صوت أبح لم اسمعه منه قبل اليوم وقال:

(هن فتيات أربع جئن فسكنَّ في المنزل المجاور لنا وكان قبل مجيئهن تسكنه سيدة وابنها وهو فتى في نحو الخامسة والعشرين ولقد تبينت بعد مجيئهن إنهن اخوته وكان أول ما رأيتهن في ظهيرة يوم عندما عدت إلى المنزل ففتحت النافذة كعادتي في كل يوم وإذا بي أراهن أمامي لا يكاد يفصلني عنهن إلا نحو سبعة أمتار وما وقعت أنظارهن عليّ حتى جرين مسرعات إلى داخل الحجرة واقفلن الباب من ورائهن إلا صغراهن وهي في العاشرة تقريبا فقد ظلت ترمقني بنظرات ساذجة بريئة وكأنها وكانت تجيد (لعبة اليويو) قد أرادت أن تريني مهارتها فأخذت تلعبها وتنظر إلي، فابتسمت فضحكت ودخلت إلى أخواتها صائحة لاعبة. ومضيت أنا إلى بعض المجلات فجعلت اقلبها ولكن نظري كان كثير الاتجاه دائما نحو هذا المنزل أو نحو ذلك الباب، وأنت يا أخي تعرفني أحب الاستطلاع ولا أكاد استقر حتى تصل نفسي إلى ما تريد فجلست اختلس النظرات وأتظاهر بالنظر إلى الصحيفة التي في يدي فرأيت كبرى البنات وهي في العشرين تقريبا قد وقفت إلى الباب فرأيتها ذات حظ من الجمال غير قليل غير انه جمال شاحب حزين. ومرت أختها الصغيرة أمامي وهي في نحو السادسة عشرة تكسو محاها سمرة خفيفة وهي فتاة ضاحكة والعينين مرحة جريئة النظرات سريعة الحركة خفيفة الروح إلى حد عظيم. أما وسطاهن فلم تظهر طول ذلك اليوم. ولست ادري وأيم الله لم ضايقني ذلك، وكل ما أذكره هو إني أحسست بانقباض وضيق لعدم ظهورها. على إني ما لبثت أن اضحك بل وسخرت من نفسي ومضيت إلى كتبي ونسيت من أمرها ومن أمرهن كل شيء. وفي صبيحة اليوم التالي نزلت إلى عملي فتبينت وجهها من خلال زجاج النافذة، جميلة رائعة الجمال دعجاء المحاجر بيضاء الوجه دقيقة الأنف حلوة اللفتة ناهدة الصدر. وفي ظهر ذلك اليوم رأيتها

ص: 73

واقفة فلم تهرب كعادتها بل رفعت إليّ بصرها ثم دخلت حجرتها في هدوء ورزانة. لا أكتمك يا أخي أني شعرت بميل نحو تلك الفتاة كان أول أمره معتدلا عاديا. فقد أعجبني منها رشاقة جسمها واتزان حركاتها وتناسق أعضائها وغضارة بشرتها وجمال محياها وكانت عيناها الدعجاوان ترسلان من أشعتهما حرارة الشباب فتهز قلبي وتفتح جوانب نفسي حتى لقد صرت أجد في النظر إليها متعة وهناء أشبه بهناء النفس في حلم هادئ جميل. غير أن ما جذبني إليها حقا هو تلك النظرات الحزينة الهادئة التي كانت تتخلل نظراتها اللامعة القوية وتلك البسمات الخفيفة الفاترة التي كانت لا تلبث أن يطفئها وجوم غريب وإطراق مؤثر. وازداد ميلي إليها إلى أن كنا صبيحة يوم فسمعت وأنا بين النوم واليقظة نحيبا متقطعا ولست ادري لم انصرف ذهني إليها لاول وهلة؟ فقفزت إلى النافذة فرايتها ووجهها بين كفيها باكية تئن أنيناً موجعا. وأنا أترك لك أن تقدر لنفسك مبلغ ما نالني من الحزن في تلك اللحظة الرهيبة ولقد كدت أن أصيح بها أن كفكفي دموعك يا فتاة لولا انها أفاقت سريعا من غشيتها ومسحت دموعها في هدوء ثم نظرت إلى الشمس المشرقة نظرة حزينة يهتز قلبي كلما ذكرتها ودخلت بعد ذلك إلى مخدعها. ومنذ ذلك اليوم عرفت طعم الألم حقا وكانت تتمثل لي صورتها فيكتنفني من الألم اللاذع ما يزق شغاف قلبي ويحرك مكامن وجدي ولا سيما وقد تكرر ذلك منها كثيراً في الصباح أحيانا وفي المساء أحيانا اخرى.

وأخيراً. . . وأخيراً حم القضاء ووجدت نفسي أسير تلك الفتاة الحزينة الباكية ولك ان تعجب مني ما شئت أنا الذي طالما سخرت من الحب وهزأت بالعاشقين، أنا الذي طالما وصفت لك الحب بانه حلم من أحلام الشباب الخادعة وسراب خلب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجد شيئا، أو فورة دماء واضطراب مزاج لا أقل ولا أكثر، ولكن الإنسان ضعيف لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.

ولماذا أحببتها؟ أهو جمالها الساحر قد ملك على نفسي أم هو حزنها العميق قد صادف عطفا وحناناً في قلبي؟ ولكن مالي أبحث عن سر حبها ومتى كان الحب أمرا يقبل التعليل ويخضع للتحليل! مالي لا أقول أني أحببتها لأنني أحببتها ولتضحك بعد مني ماشئت ولكن لم تضحك؟ أليس الحب تفاعلا نفسانيا أو مزيجا روحانيا يأتي بكل سهولة وبغير أدنى

ص: 74

ترتيب؟

أحسست باهتمامي بأمرها وإشفاقي عليها فكانت تشكرني بابتسامة عذبة وصرت أرى في عينيها ما يدل على الاعتراف بالجميل، ولكني كنت لا أرى في نظراتها ما يدل على أنها تبادلني حبي وتطارحني هيامي، انها كانت نظرات شكر وامتنان وتالله كانت تؤلمني أحيانا ولكني كنت في سكرة الحب أعلل النفس بالآمال واترك للغد القول الفصل والحكم الأخير. ولكن تصرمت أيام دون أن اجرؤ على مخاطبتها ولو بالتحية.

وراقبتها مرة فرأيتها تتأهب للخروج وثارت نفسي واعتراني جنون الشباب وامتدت يدي إلى ملابسي فلبستها دون ان اشعر بشيء أو ادري ماذا افعل وسرت في أثرها وأن فؤادي ليخفق وأن نفسي كلها لتهتز إلى أن رأيتها تجلس وحدها على حافة قناة صغيرة كانت تقرب من المنزل وقد أطرقت قليلا ثم رفعت رأسها فإذا هي تراني أمامها فساورها مزيج من الدهشة والابتسام والخوف والارتياح والغضب والرضى. ولست ادري من أين جاءتني تلك الشجاعة في تلك اللحظة الدقيقة؟ فقلت في ثبات:

هل لي يا فتاة أن أسألك سؤالا صغيراً؟

فنظرت إلي نظرة عميقة فيها كثير من المعاني. ويح نفسي إني لأراها الآن، أرى تلك العينين الدعجاوين وتلك التقاطيع الحلوة وذلك الفم الجميل وتينك اليدين الرشيقتين.

قالت وما سؤالك يا فتى؟

قلت: هل لي ان اعرف سبب حزنك وبكائك؟

فسرت رعدة قوية في أعضائها وتمشت صفرة فاقعة في وجهها وكأنني هززت بذلك السؤال كل كيانها وتمتمت بكلمات لم اسمعها ثم قالت:

شكرا لك على اهتمامك بأمري. لست أستطيع أن أجيبك على ما سألت.

قلت ولكني أريد ان اعرف.

فعظمت دهشتها وبدا على محياها ذهول وخوف ثم قالت في حدة مصطنعة:

وما شأنك أنت والسؤال عن هذا؟

قلت أني. . . أني. . . أريد. . . أرجو. . .

فساورها الشك في عقلي فلقد قرأت هذا الشك في نظراتها، وحدجتني بنظرة طويلة وقد

ص: 75

اغرورقت بالدمع مقلتاها ثم أشاحت بوجهها عني فألحفت وتوسلت فقالت:

اليك عني واتق الله في فتاة ضعيفة بريئة.

قلت لا أستطيع البعد عنك.

ثم انهمرت دموعي فصدقت وقالت وهي تنتفض من شدة الاضطراب:

حسبتك أحد أولئك الشبان الذين لا أخلاق لهم ولقد هممت أن أصرفك في قسوة.

ثم نظرت إلي طويلا دون ان تتكلم فقلت في صوت خافت متقطع: ستكونين لي منذ الآن.

فتجهمت قليلا ثم ابتسمت ابتسامة فهمت من معانيها الندم والحسرة والألم وهزت رأسها كأنها تريد ان تقول لي انك لا تدري من الأمر شيئا ثم قالت:

دعني بربك ولا تشغل نفسك منذ اليوم بأمري فلن يجديك ذلك نفعا وستبدي لك الأيام صحة قولي وصدق نصحي.

وكأنها ارتاعت لوقع ذلك على قلبي فقالت وهي تبكي:

آه ليتني أستطيع!. ليتني أستطيع!. اتركني أشكرك على. . . وغلبها الحزن والبكاء فأجهشت كما يجهش الطفل. فتظرفت إليها ولاطفتها ثم تناولت يدها فلم تمانع ولما أردت ان اجذبها نحوي نهضت قائمة وسارت لا تلوي على شيء ولم تلتفت وراءها وغابت عن بصري في منعطف، فبقيت في مكاني جامدا كالصخر ثائرا مضطربا ثم مرت علي دقائق افتقدت فيها نفسي وحسي.

ومرت أيام وأنا أتجنب النظر إليها ما استطعت، أيام كنت أثنائها كالذي يتخبطه الشيطان من المس ولقد بلغ من نفسي أنني كنت أرى الأسرة كلها حزينة كأنما هم مقبلون على أمر خطير. ولما ضاقت بي الدنيا كتبت إليها اطلب عفوها وأبثها لواعج نفسي. وفي صبيحة يوم جلسن جميعا يبكين حول أمهن وأنا حائر مشدوه لا ادري من أمرهن شيء فناديت البدال فأقبل وهو فتى طيب القلب فقلت له: أتدري يا فتى سر هذا الحزن؟ وأشرت إليهن دون أن يرينني.

قال أو ما تعلم؟

قلت كلا.

قال ان صاحب المنزل قد (أوقع الحجز) عليهن أعقبه بائع الخبز بحجز مثله وفاء لما

ص: 76

عليهن من الدين وقد قرب يو البيع.

قلت وقد دق قلبي دقا عنيفا: هل مات أبوهنَّ؟

قال خير لك الا تعرف عنه شيئا، ثم قال:

كان أبوهن تاجرا من كبار التجار وكان عظيم الثراء ولكنه لم يرع النعمة وراح يقامر مرة ويسرف مرة ويتعاطى المخدرات بكثرة مخيفة وهو الآن نزيل السجن من سنتين.

وارتفع الدم بغزارة إلى وجهي وأحسست بحرارة كحرارة المحموم ومرت غشاوة فحجبت بصري ورأيت الجو بعد برهة اصفر مكفهرا ثم قلت:

وأخوهن؟

قال هو شاب عاطل لا يجد لنفسه عملا مع انه يحمل شهادة عالية. مناه أصدقاء والده كثيرا بوظيفة ولكن أين هي الوظائف الآن؟ وكثيرا ما نصحناه ان يلجأ إلى عمل، أي عمل حر ولكن يظهر أن الأبواب سدت في وجهه.

قلت ولم لم يتقدم احد لخطبة البنات من قبل؟

قال بلى خطبت الكبيرتان ولكن خطيبيهما تركاهما بعد ما جرى لأبيهن ما جرى. ثم سكت البدال وقال في ألم: مع ان البنت الوسطى ولعلك تعرفها ذات الشعر الأصفر كانت تحب خطيبها لدرجة الجنون.

فصرفته ودخلت حجرتي كئيبا ملتاعا وذرفت الدمع سخينا.

وسكت صاحبي برهة ثم قال في نبرات حزينة: أرأيت كيف يقضي هؤلاء الإغفال على أنفسهم واموالهم وأولادهم؟ الا قاتل الله الجهالة انها اصل الفواجع والآلام. ثم قال دونك فاسمع البقية، وبدت منه حركة عصبية ظاهرة في يديه وعينيه وصوته المبحوح وصدره المجروح، قال:

في صبيحة اليوم التالي سمع سكان البيوت المجاورة صراخا عاليا ففتحوا النوافذ فوجدوا الدخان يتصاعد من نافذة المطبخ في ذلك المنزل أما أنا فكأني كنت اعلم بما سيجري من قبل فسكت ولكنه كان سكوت اليأس وتجلدت ولكنه كان تجلد الإغماء. وهرع الناس فدخلوا المطبخ فإذا هي ممدودة على الأرض لا تبدي حراكا ولم يحترق منها الا شعرها وقرر الطبيب ان الوفاة بالاختناق. وارحمه لك يا. . . حتى النار أكبرتك وأشفقت من ان تلهب

ص: 77

هذا الجسد الطاهر ولكنك جدت بغدائرك الذهبية التي طالما قطعت إليها الأعين وخفقت لرؤيتها القلوب.

وهنا لم يتمالك صاحبي نفسه فأجهش كما يجهش الصبي وناولني قصاصة من الورق فقرأت فيها ما يلي:

وصلتني كلمتك الرقيقة يا صاحبي فضممتها إلى صدري وقبلت الخطاب من أجلك وذرفت الدمع سخينا شفقة عليك. سامحني واعف عني وسنتقابل في الحياة الاخرى حيث لا شقاء ولا عذاب وأرجو أن تستغفر لي الله في صلواتك، الوداع والشكر الجميل!

ولما تلوت تلك الورقة وجدته قد غلبه النوم وطول الجهد فأخذت رجليه برفق ومددتها على المقعد وعمدت إلى ملحفة فنشرتها عليه وخرجت على أطراف أصابعي وتركته لينام عله يجد في النوم بعض الراحة وسألت الله ان يشفق به في أحلامه وأن يهبه العزاء والسلوان.

محمود الخفيف

ص: 78

‌إلى بئر جندلي

للأستاذ الدمرداش محمد. مدير ادارة السجلات والامتحانات بوزارة

المعارف

3

لحظة رهيبة مرعبة، ولولا أن ملك الجماعة زمام عقولهم وتصرفوا

بما يستلزمه الموقف من بديهة حاضرة وهمة عالية، لسقط أحمد بك في

الهاوية، ولا أدري الآن، وقد توالت الحوادث بسرعة مدهشة، كيف

نسي الرفاق أن ينتشلوا زميلهم من ورطته، وعلى كل حال فقد انتهى

الحادث بسلام، وعاد الجماعة إلى ما كانوا فيه من مطاردة الأرانب،

وعند الظهر كانوا قد أنهكهم التعب وأضناهم الجوع، فملوا المطاردة

وقنعوا بما أصابوه في ذلك اليوم وكان شيئا كثيراً، فحثوا المطايا في

السير كي يصلوا وادي جندلي في الموعد المضروب.

وكانوا حينئذ يسيرون على ظهر ربوة عالية وعن يسارهم نحو الشمال، جبل اليحموم الأزرق بلونه القاتم، وعن يمينهم نحو الجنوب جبل أبو شامة بقمته العالية (2300) قدم وكانوا كلما توغلوا شرقا تغيرت معالم الجبال وزادت ارتفاعا، والأودية خضرة وعمقا، وقبل الأصيل اقبلوا على واد شديد الانخفاض كثير التعاريج كبير الشبه بوادي دجلة ونظروا من علٍ فابصروا الجمال ترعى في باطنه والاستعداد قائم حولها لتهيئة الطعام وإعداد مكان المبيت، فطابوا نفسا وقرُّوا عيناً.

يقع بئر جندلي على خمسين كيلو مترا من القاهرة على ارتفاع 300 متر من سطح البحر، وقد قضينا بالقرب منه ليلتين ويوما وسط طبيعة نقية هادئة مشرقة في صحبة أصدقاء مخلصين حباهم الله الصحة والبشر وسلامة الطوية، حقيقة انها سويعات تعد من أسعد فترات الحياة واصفاها، وقد وافق اليومالثالث من رحلتنا أول أيام العيد، ففي الصباح صلينا ونحرنا غزالة ثم قضينا اليوم في الوادي نلعب ونضحك ونتسابق ونمرح ونمزح كأننا

ص: 79

الأطفال الصغار. وبعد الغداء جلسنا إلى الدليل نستمع لحكاياته الطريفة عن حياته فقال وقد مال في جلسته واسند ظهره إلى حجر كبير، وعقد يديه على رأسه: من خمس وعشرين سنة كنت شابا شقيا أجوب الصحراء شرقا وغربا شمالا وجنوبا لا أستقر على حال، وفي مرة نزلت السويس وقت موسم الحج فتحككت بشيخ مغربي يحمل خرجين كبيرين ينوء بثقليهما فظن أني أسديه المعونة فمد يده إلى رأسي ودعا لي بالهداية ودعاني أن أرافقه إلى الحجاز، وقد كان فأديت الفريضة واستقبلت الكعبة، وبصوت عميق خلته يخرج من كل جسمي دعوت الله ان يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، فاستجاب الله دعائي، وعدت من الحج صالحا طاهر القلب شديد الإيمان، والتحقت بالأزهر فمكثت فيه خمسة عشر عاما إلى ان قطعت عني الجراية في عهد الشيخ محمد عبده، فتحولت إلى التجارة وشغلت بعرض الدنيا ولكني وقد ناهزت الخمسين لا زلت شديد الحنين إلى الجبل فأخرج إليه كلما سنحت الفرصة فأقضي فيه أياما قريبا من الله بعيدا عن المدينة وكدرها ثم أعود وقد تطهرت نفسي وهدأ عقلي واستراح جسمي. ثم انه على غير انتظار امسك عن الكلام وترقرقت دمعة في عينه وتحول ببصره عنا وأطرق برأسه ثم أطبق عينيه ونام.

كان البرد في تلك الليلة شديدا فآوينا إلى مضاجعنا مبكرين وأشعلنا نارا كبيرة لنصطلي، وفي أول الليل اكفهر الجو وعصف الريح وأبرقت السماء وأرعدت وانهمر مطر غزير ثم اخذت الصواعق تنقض من حولنا، والبرق يومض بلمعان يضيء الفضاء كأنه نور النهار، والماء يتدفق إلى الوادي بدويِّ شديد، ثم فاض الوادي بسيل عنيف جارف، فكان مشهدا رائعا. وبعد ساعة انقشعت السحب وصفا أديم السماء واشرق الوادي بنور القمر فسرى عنا ما ساورنا من قلق واضطراب، ثم نمنا نوم الهناء والعافية. وقبل الفجر استيقظت على صوت حركة غير عادية بمعسكرنا فوجدت الجماعة يتقلدون سلاحهم وعلامات الاهتمام بادية على وجوههم وأبصرت الدليل ينزل إلى وهدة متوسطة ويقف وراء صخرة كبيرة ويتجه ببصره نحو البئر ثم يتبعه عبد الله بك ويهمس في أذنه بكلمات ويحتمي هو الآخر وراء حجر كبير ثم تتفرق باقي الجماعة على الصخور المجاورة ويتخذونها متاريس يكمنون وراءها وينصبون بنادقهم على حوافيها. دهشت لهذا الاستعداد وانتقلت إلى حيث كان خالي رابضاً واستوضحته في صوت خافت جلية الأمر فأشار إلى

ص: 80

الدليل وقال، انه رأى شبحين ومعهما بعير هبطا إلى الوادي بالقرب من البئر وبعد أن عقلا الدابة أخذا ينسلان نحو مربط الجمال ملتزمين السفح، فقلت هل تراهما؟ قال ان البئر بعيد والضوء ضعيف والرؤية متعذرة.

وبعد قليل صاح الدليل (ها! أكمنوا لا تطلقوا النار) ثم انه أطلق عيارا في الهواء وعندها برز رجلان إلى عرض الوادي واندفعا نحو الجمال فصاح الدليل (جماعة أطلقوا النار في الهواء) فدوى في سكون الليل صوت البنادق كأنه زمجرة المدافع فذعر الرجلان لهذه المباغتة ووقفا مكتوفي اليدين علامة التسليم، فانتقل إليهما سويلم الجمال وقادهما إلى حيث كان الدليل فقالا أنا قادمان من المرج قاصدين وادي الحقول على البحر الأحمر في أمر مستعجل، وفي المساء كنا نجتاز اليحموم الأزرق فشاهدنا ناركم فعرجنا عليكم لنستدفئ وما قصدنا بكم سوءا ولكنها مداعبة على عادة البدو. وبعد أخذ ورد من الدليل على قولهما سألهما عن البعير فقالا انهما وجداه ضالا فساقاه أمامهما حتى لا يقع غنيمة في يد (أولاد علي) اسم قبيلة، وبعد ان نفحناهما بطعام وكبريت انصرفا بسلام وقد تنفس الصبح ولاح.

قضينا اليوم الرابع في الصيد كذلك فوق سفوح جبل القطامية على ثلاث ساعات شرقي بئر جندلي وعند الظهر التقينا بوادي الغز بجبل أبو شامة حيث كانت تنتظرنا الجمال وبتنا فيه تلك الليلة وفي صباح اليوم الخامس غادرنا أبا شامة راجعين عن طريق البعيرات فوق مشارف وادي دجلة وبعد سير حثيث دام عشر ساعات من غير انقطاع وصلنا القاهرة عند العشاء ونحن على احسن حال وفي أجود صحة.

(الرسالة) لاحظ القارئ ولا ريب ان عبد الله بك واخوته يمثلون جيلا من الناس أولع بالصفة الباقية من صفات الفتوة وهي الصيد. والصيد رياضة بدنية نفسية تربي في النفوس أخلاق الرجولة كالنخوة والمغامرة والقوة وقد كانت ولا تزال ديدن الملوك والأمراء والقادة فعسى ان يكون لهذا الجيل بقية في مصر. وان يكون لهذه البقية أثر صالح في توجيه الناشئة لمثل هذه الرياضة.

ص: 81

‌الكتب

أهل الكهف

للدكتور علي مصطفى مشرفة

عزيزي الأستاذ توفيق الحكيم

لطالما تاقت نفسي إلى رؤية أدب عربي أجد فيه الغذاء الروحي واللذة الفكرية اللذين الفتهما فيما اطلع عليه عادة من الأدب. ومع إيماني باليوم الذي يرتفع فيه أدبنا إلى المستوى العالمي كنت اشعر بان هذا اليوم سيجيء بحكم طبيعة الأشياء متأخرا، فربما رآه أهل جيلي، وربما حبت به الظروف أبناء جيل قادم. فلما قرأت (أهل الكهف)، الذي تكرمت عليّ بنسخة منه، علمت علم اليقين ان اليوم الذي كنت أترقبه قد طلع وملأت شمسه الآفاق. تعلم أنني لست من الأدباء ولا من (المستأدبين)، وإنما نظرتي إلى الأدب، كنظرتي إلى غيره من نواحي الفن الإنساني: نظرة الرجل المثقف العادي يطلب الجمال والإلهام الصادق حيث يجدهما، كما يتطلب مستوى خاصا من التفكير المطلق المخلص فيه لوجه الحق حيث وجد. وفي رأيي ان (أهل الكهف) قد ارتفع من كل هذه النواحي إلى أسمى ما قرأته وان كانت لي ملاحظة على كتابك فربما كانت شيئا من التحديد في دائرة ما تناولته فيه من الموضوعات، فما كان أشوقني إلى رؤية بعض المسائل الاجتماعية مثلا تعالج بنفس القلم الذي صور لنا إيمان المسيحيين الأولين وقابل لنا بين الحقيقة والتاريخ! ولكن لعل ذلك شراهة مني، فالوليمة ولا شك فاخرة وان كانت تشحذ شهية أمثالي. لا تنتظر مني نقدا فنيا لروايتك التمثيلية فأشخاص الرواية كلهم أحياء يتحركون ويلمسون (ربما كان الملك أقل الشخصيات وضوحا ولعلك تريده عديم الشخصية) والمواقف على أشد ما تكون من التشويق والتأثير. وإلى حد ما، أستطيع أن أرى، ستكون روايتك ناجحة على المسرح إذا استطعت ان تجد لها ممثلين يفهمون أدوارهم فيها، وأظنها تكون ناجحة بدون ذلك. لم يبق عليَّ بعد هذا الا ان أشكرك على التحية التي انطوى عليها إرسالك نسخة من كتابك إليَّ، وأن أرجو ما انتظره لك من التوفيق والسلام.

النجوم في مسالكها

ص: 82

تأليف الأستاذ جيمس جينز

وترجمة الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني

كتاب جليل الموضوع لطيف الحجم أنيق الطبع كان محله من المكتبة العربية خاليا. وضعه السير جيمس جينز احد أساطين علم الفلك في العصر الحديث بأسلوبه المشرق وبيانه الرائع وعرضه الحقائق العلمية العويصة في معرض سهل المأخذ قريب التناول، وذلك ما انفرد به بين العلماء، وتميزت به كتبه بين الكتب. بسط المؤلف في هذا الكتاب (خلاصة ما انتهى إليه العلم الحديث في الكون ونظامه واصله ونشوئه، وتركيب أجسامه وذراته، وتولدها وانحلالها، وبحث مدى الكون من حيث هو محدود أو غير محدود ومتمدد أو منقبض، وعرج على الطاقة والإشعاع والنسبية، ثم بحث الحياة في عالمنا والعوالم الاخرى في الكون) واستوعب تفصيل هذه المباحث الطريفة في ثمانية فصول وأربعة ذيول. قرأها الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني ناظر مدرسة القبة الثانوية (وهو في هذا الموضوع ثقة) فاعجب بمادته وطريقته فترجمه ترجمة أمينة رصينة. ولم يقف جهد الأستاذ المترجم عند أمانة النقل. وإنما تجاوزها إلى مسألتين خطيرتين هما تمصير الكتاب، وتحقيق المصطلحات، فمصَّر الكتاب بأن وضع للقارئ المصري مصورا للنجوم يبين ما يرى منها في القاهرة على الدوام او في بعض الأيام، كما وضع المؤلف مصوره مراعيا فيه موقع إنجلترا وحال القارئ فيها. وحقق المصطلحات بالرجوع إلى مظانها العربية ككتاب عجائب المخلوقات للقزويني ومحاضرات السنيور نللينو المستشرق الإيطالي، ثم جعل للكتاب لحقا يشتمل على فهرس أبجدي شامل لمواده، وقائمة بأسماء النجوم والسيارات باللغتين العربية والإنجليزية، وقائمة ثانية بالحروف العربية المقابلة للحروف اليونانية والرومانية، ثم قائمة ثالثة بالمصطلحات وما يقابلها بالإنجليزية، وأثر الجهد والعناية بادٍ في ترجمة الكتاب وتحقيقه وصوره وطبعه. وحسبه مزية أن يكون السير جيمس مؤلفه، والدكتور الكرداني مترجمه، ولجنة التأليف والترجمة ناشرته، ومطبعة دار الكتب المصرية طابعته.

أ. ح

ص: 83

‌رحلة إلى بلاد المجد المفقود

بقلم وريشة مصطفى فروخ - مطبعة الكشاف ببيروت

كتاب أنيق الشكل جيد الطبع، لا تكاد تتناوله حتى تدرك أن صاحبه من رجال الفن، فهو بقلمه وبريشته، على غلافه صورة لناحية من جامع قرطبة وقد كتب عنوانه من الخارج ومن الداخل بخطين مختلفين طريفين، وتناثرت فوق صحائفه طائفة من الصور التقطت بعضها عدسة التصوير، ونقشت بقيتها ريشة المؤلف الفاضل فجاء في مجموعها جامعة بين الجمال والفائدة، ولذلك فالكتاب من هذه الناحية طريف خفيف الظل. وتقرأ في أوله كلمة تحت عنوان (الأندلس) فتلمس فيها إعجاب الكاتب بتلك البلاد وتشوقه إليها، بل هيامه بها قبل زيارتها، تلمس ذلك في مثل قوله (أجل شغفت بها طفلا وشابا وسأحتفظ بهواها مدى الحياة) وكأنك لشدة حماسته تسمع صوته ولست تقرأ عبارته، ولذلك فالكتاب من هذه الناحية قوي الروح عميق الأثر. ولقد أحسن الكاتب صنعا بأن مهد لكتابه بكلمة في أهمية الفن، ثم بلمحة في الفن العربي عامة، والأندلس خاصة، ثم بعجالة في تاريخ الأندلس. قضى المؤلف أربعة أيام في مجريط، ثم اتخذ سبيله إلى طليطلة ويسميها المنيعة، فمتع نفسه بجمال آثارها ثم عاد إلى مجريط فاتخذ القطار من محطة مديوديا إلى قرطبة دار العلم كما نعتها، فزار جامعها ووصفه وصفا مسهبا واتى له بطائفة من الصور البديعة ثم سار إلى أشبيلية، وهي عنده مدينة الطرب وهناك زار قصر الزهراء ووصفه وصفا دقيقا، ومن إشبيلية سار إلى أختها غرناطة مقر الحمراء فوصفها في حماس قوي وإعجاب شديد. ومما أحمده للمؤلف تلمسه الروح العربية في تلك البلاد، مما يشهد بدقة ملاحظته، ففي مجريط أحس تلك الروح في كرم أهلها، ووفرة الطعام على موائدهم، وفي طليطلة رآها في نوافذها وأبوابها الدمشقية وفيما يعرضه الباعة في الطرقات من أقمشة زاهية الألوان، من أساور وأقراط و (بقج) مقصبة وأسلحة وحلي. . . الخ وفي قرطبة وإشبيليةوغرناطة تجلت له تلك الروح في عادات الناس وفي شكل المنازل ذوات الردهات الفسيحة والأبواب والنوافذ العربية ، وفيما رآه من أمثال بائعي (البوظة) والليمونادة، وهم يضربون صحونهم ويصيحون في لحن عربي على نحو ما يشاهد في شوارع دمشق.

ولئن قدرت قيمة الكتب بما تتركه من أثر في نفوس قارئيها فإني أشهد أن هذا الكتاب من

ص: 84

أجمل الكتب في بابه ومن أعظمها فائدة، وكما أن تلك الآثار المخزونة الجميلة التي وصفها تعد دمعة أرسلها التاريخ على ما فات من مجد العرب فان هذا الكتاب يعتبر بدوره دمعة كريمة على ذلك المجد وعلى تلك الآثار. بيد أني على الرغم من إعجابي أصارح المؤلف بان أسلوبه مع الأسف لا يتمشى مع روح الكتاب ولا يتناسب مع ما يحتويه من فن وادب، ولولا حماسة الكاتب، ودقة وصفه وتدقق معانيه لفقد الكتاب بذلك الأسلوب كثيرا من قوته، هذا عدا ما فيه من هفوات تاريخية لا أحبها له، كقول المؤلف: إن معاوية بن هشام ابن عبد الملك المسمى بالداخل أتى من الشرق هارباً عام 759م والواقع أن الذي جاء هاربا من الشرق هو ابنه عبد الرحمن الداخل، وكان ذلك عام 756م. وقوله إن العرب طردوا من الأندلس في القرن الرابع عشر، والصحيح انهم لم يطردوا إلا في أواخر القرن الخامس عشر عام 1492م. ولكن ذلك لن ينقص من جوهر الكتاب إلا كما ينقص من جمال الحسناء شذوذ بسيط في نظام ملبسها والمؤلف كفيل بأن يزيل هذا النقص حتى يكون الكتاب من جميع جهاته جديرا بفنه وعلمه وأدبه؟

م. الخفيف

1

ص: 85