المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 131 - بتاريخ: 06 - 01 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٣١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 131

- بتاريخ: 06 - 01 - 1936

ص: -1

‌الرسالة في عامها الرابع

تُحَيِّ الرسالة عامها الرابع بوجه مشرق بالرضى، وثغر مُفْترٍ عن الأمل، ولسان رطيب بالحمد؛ وتسأل الله سبحانه أن يزيدها نَفَسا في الأجل، وثباتا في العمل، وإخلاصا في النية؛ ثم تقف على رأس هذه المرحلة الجديدة وقفة المستجم الذاكر، تستمد القوة من الإيمان، وتستروح النشاط من الصبر، وتستخرج الصواب من الخطأ، ثم تبادل أصدقاءها الخلص ولاء بولاء ووفاء بوفاء وتحية بتحية.

تعالوا يا رفاق الروح وإخوان الفكرة نتناقل شجون الحديث في هذه البرهة التي ينسدل فيها ستار ويرتفع ستار، وينتهي من رواية الحياة فصل ويبتدئ فصل. ماذا سجل العام المنصرم في صفحته المطوية عن حياتنا العقلية؟ هل استقر لنا أدب خاص؟ هل صدر عنا إنتاج مستقل؟ هل ظهر فينا زعيم موهوب؟ هل غلبت علينا ثقافة واحدة؟ هل تسايرت أفكارنا إلى غاية معينة؟ هل أتصل أدبنا بالأدب العالمي المشترك؟ هل اتسع نطاق الأدب العربي فشمل نواحي الفن؟ تلك أسئلة يتشقق في أجوبتها الرأي، ثم لا يجتمع لك منها ما يوضح مبهماً ويحدد فكرة. وحسبك من ضعف الشيء أن تتعارض الأقوال في وجوده.

مما لا ريب فيه أن هناك أدباً متميز بفنه عن كل عصر، وإنتاجاً أستقل بأصالته عن كل نقل، وأسلوب أنفرد بخصائصه عن كل مذهب، واتجاها تنزه بمراميه عن كل عبث؛ ولكن هنالك أيضاً تنوعاً في مصادر الثقافة يباعد وجوه الرأي، وضلالا في فهم الأدب يزيف حقائق الفن، وإمعاناً في استيحاء الغرب يفسد روح القومية. فأحمد أمين، والرافعي، وطه حسين، والعقاد، والمازني، وهيكل لا تكاد تجد لهم في الأدب الموروث أشباها في سلامة المنطق وعمق التفكير وصدق الأداء وأصالة الإنتاج. وهم على اختلاف ثقافتهم متفقون على بناء الجديد على أساس القديم، وإذكاء الفكر الشرقي بالفكر الغربي، وتلقيح الروحية العربية بالمادية الأوربية، وإيثار الأسلوب البليغ المشرق في حدود الفن البارع السليم؛ وقد ظهر اتحاد وجهتهم جليا فيما نشروه هذا العام من مقالات ومحاضرات وكتب، وسينتهون متى استقرت أمور البلد، واستقلت إدارة الشعب، وهدأت ثائرة النفوس، إلى أدب واضح المعالم، مرسوم الحدود، تحرك جسمه روح، وتجمع أجزاءه وحدة، ويواجه أهواءه غرض.

وعلى هذه الخطة المثلى سارت الرسالة ثلاث سنين كاملة، قطعت فيها ولله الحمد مراحل مطموسة وعرة، ولولا عناية الله لأبدعت المطىٌّ وحار الدليل.

ص: 1

لقد كان على الرسالة أن تجاهد خصوماً ثلاثة جمعهم عليها دفاع الطفيلي عن وجوده: زهادة الشباب في القراءة وبخاصة ما كان جدّ يامنها؛ وتلك العلة التي جرها عليهم سوء التعليم وفساد الغيش هي سبب ما نشكوه من بطئ الثقافة وضعف الصحافة وقلة الإنتاج. وطغيان الأدب اللاهي على الأذواق الناشئة، فأصاب الأذهان بالكسل العقلي حتى برمت بالدرس وضاقت بالتفكير وعزفت عن الجد. ثم نفور طائفة من الأدباء لأسباب مرضية من هذه اللغة التي تقرأ، ومن هذا الأدب الذي تذوق؛ فهم يجلبون الأدب الأوربي بمعانيه ومراميه ووحيه، ثم يلبسونه طربوشاً أو عمامة ويقولون له تكلم، فيتكلم على الرضى أو على الكره، ولكنك لا تسمع بالطبع إلا عربية كعربية الرومي في البار، أو الإيطالي في المتجر!

قالت الرسالة لهؤلاء: مادمتم تكتبون بالعربية فلا بد من فنها وأدبها؛ وما دمتم تعيشون في الشرق فلا بد من إلهامه وطابعه. أما أن تحاولوا طمس حدود الأرض، ونسخ قوانين الطبيعة، وقطع سلسلة الزمن، فذلك مجهود لا يضعه الناس إلا في قرارة الحمق.

فقالوا إننا ننشر ثقافة العصور المظلمة، ونجدد أساليب البيان القديم! يريدون بالعصور المظلمة عصر الرشيد وأبنه المأمون في آسيا، وعصر الناصر وأبنه الحكم في أوربا، وعصر العزيز بالله وأبنه الحاكم في أفريقيا! وهي العصور الثلاثة التي جلت عن الأرض دياجير القرون فكشفت الأفق للإنسان، وهيأت العقل للعلم، وراضت البربر على الحضارة! وهم في ذلك أيضاً يقلدون الكتاب الأوربيين في نعتهم عصور الجرمان بالظلام، كأنما ظنوا قبائل البربر من جزيرة العرب!!

ثم يريدون بأساليب البيان القديم تلك الأساليب التي تجري على قواعد الفن فلا يشوهها لحن ولا تتعاورها ركاكة. قطعوا أنفسهم عن الموارد الروحية لهذه اللغة فصاغوها من حروف الهجاء، لا من الأعصاب والدماء، ثم آذوا فطرة الإنسان فجعلوا قوة الأسلوب عيباً، وجمال الصياغة نقيصة.

ليس في أسلوب الرسالة ما يشبه القديم إلا في الصحة. إنما هو اختيار اللفظ الجميل القوي للمعنى الجديد القوي ليس غير. أما اطراد النسق، وحلاوة الجرْس، ونبض الحياة في الكلمة، وإشراق الدلالة في اللفظ، وامتزاج الكاتب بالجملة، وبراءة الأسلوب من اللغو، فذلك هو الفن الذي يعيش ما عاش الناس، ويُعجب ما سلمت الفطرة.

ص: 2

فالرسالة بين هؤلاء الخصوم الثلاثة إنما تنحت في الصخر طريقها الطويل! تسير ببطيء ولكنها لا تقف، وتعالج برفق ولكنها لا تهن، وتصطدم بالأحداث ولكنها لا تحيد.

على ذلك تجدد لأصدقائها وقرائها العهد والعزم معتمدة على فضل الله، مطمئنة إلى عطف الأمة، متكئة على عون الشباب، ممتدة بإيمان القلب، معولة على إتقان العمل؛ وفي بعض ذلك الضمان الأوفى والسند الأقوى والمرفأ الأمين.

أحمد حسَن الزيات

ص: 3

‌اجتلاء العيد

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

جاء يومُ العيد؛ يومُ الخروج من الزمن إلى زمنٍ وحدَهُ لا يستمرُّ أكثر من يوم.

زمن قصير ظريفٌ ضاحك، تفرضُهُ الأديان على الناس، ليكون لهم بين الحينِ والحينِ يومٌ طبيعيُّ في هذه الحياة التي انتقلت عن طبيعتها.

يومُ السلام، والبشرْ، والضحك، والوفاء، والإخاء، وقول الإنسان للإنسان: وأنّتم بخير.

يومُ الثيابِ الجديدة على الكل إشعاراً لهم بأن الوجه الإنسانيَّ جديدٌ في هذا اليوم.

يومُ الزينة التي لا يراد منها إلا إظهارُ أثرها على النفس ليكون الناس جميعاً في يوم حب.

يومُ العيد؛ يوم تقديم الحلوى إلى كل فم لتحلوَ الكلمات فيه. . . .

يوم تعمُّ فيه الناسَ ألفاظُ الدعاء والتهنئة مرتفعةً بقوةٍ إلهية فوق منازعات الحياة.

ذلك اليومُ الذي ينظر فيه الإنسانُ إلى نفسه نظرةً تلمحُ السعادة، وإلى أهله نظرةً تبصر الإعزاز، وإلى داره نظرةً تدرك الجمال، وإلى الناس نظرةً ترى الصداقة.

ومن كل هذه النظرات تستوي له النظرة الجميلة إلى الحياة والعالم؛ فتبتهج نفسُه بالعالم والحياة.

وما أسماها نظرة تكشف للإنسان أن الكلَّ جمالُه في الكل!

وخرجتُ اجتلي العيدَ في مظهره الحقيقيْ على هؤلاء الأطفال السعداء.

على هذه الوجوه النَّضرة التي كبرتْ فيها ابتساماتُ الرضاع فصارت ضحكات.

وهذه العيون الحالمة التي إذا بكت بكت بدموع لا ثقل لها؛ وهذه الأفواه الصغيرة التي تنطق بأصوات لا تزال فيها نبرات الحنان من تقليد لغة الأم؛

وهذه الأجسام الغضة القريبة العهد بالضمات والَّلثمات فلا يزال حولها جوٌّ القلب.

على هؤلاء الأطفال السعداء الذين لا يعرفون قياساً للزمن إلا بالسرور.

وكلٌّ منهم ملكٌ في مملكة؛ وظرفهم هو أمرهم الملوكي.

هؤلاء المجتمعين في ثيابهم الجديدة المصبَّغة اجتماعَ قوسِ قُزَح في ألوانه.

ثيابٌ عملت فيها المصانع والقلوب، فلا يتم جمالها إلا بأن يراها الأبُ والأمُّ على أطفالهما.

ثيابٌ جديدة يلبسونها فيكونون هم أنفسهم ثوباً جديداً على الدنيا.

ص: 4

هؤلاء السَّحرةُ الصغار الذين يخرجون لأنفسهم معنى الكنز الثمين من قرشين. . .

ويسحرون العيد فإذا هو يومٌ صغير مثلهم جاء يدعوهم إلى اللَّعِب.

وينتبهون في هذا اليوم مع الفجر، فيبقى الفجرُ على قلوبهم إلى غروب الشمس.

ويُلْقُون أنفسهم على العالَم المنظور فيبنون كلَّ شيء على أحد المعنيين الثابتين في نفس الطفل: الحبْ الخالص، واللهو الخالص.

ويبتعدون بطبيعتهم عن أكاذيب الحياة، فيكون هذا بعينه هو قربهم من حقيقتها السعيدة.

هؤلاء الأطفال الذين هم السهولة قبل أن تتعقد.

والذين يرون العالم في أول ما ينمو الخيالُ ويتجاوزُ ويمتدْ يفتَّشون الأقدارَ من ظاهرها؛ ولا يَسْتَبْطِنون كيلا يتألموا بلا طائل.

ويأخذون من الأشياء لأنفسهم فيفرحون بها، ولا يأخذون من أنفسهم للأشياء كيلا يوجدوا لها الهمْ.

قانعون، يكتفون بالثمرة؛ ولا يحاولون اقتلاع الشجرة التي تحملها.

ويعرفون كُنه الحقيقة، وهي أن العِبرة بروُح النعمة لا بمقدارها. . . .

فيجدون من الفرح في تغيير ثوبٍ للجسم، أكثر مما يجده القائدُ الفاتحُ في تغيير ثوبَ للمملكة.

هؤلاء الحكماءُ الذين يشبه كلٌّ منهم آدمَ أولَ مجيئه إلى الدنيا.

حين لم تكن بين الأرض والسماء خليقةٌ ثالثة معقدة من صنع الإنسان المتحضَّر.

حكمتُهم العليا: أن الفكر الساميَ هو جعلُ السرور فكرا وإظهارُه في العمل.

وشِعورهم البديعُ: أن الجمالَ والحبْ ليسا في شيء إلا في تجميل النفس وإظهارها عاشقة للفرح.

هؤلاء الفلاسفةُ الذين تقوم فلسفتهم على قاعدة عملية، وهي أن الأشياء الكثيرة لا تكثر في النفس المطمئنة.

وبذلك تعيش النفسُ هادئةً مستريحةً كأن ليس في الدنيا إلا أشياؤها الُميسرة.

أما النفوسُ المضطربةُ بأطماعها وشهواتها فهي التي تبتلي بهموم الكثرة الخيالية.

ومثَلُها في الهمْ مَثَلُ طُفيليْ مغفَّلٍ يحزن لأنه لا يأكل في بطنين.

ص: 5

وإذا لم تكثر الأشياءُ الكثيرةُ في النفس، كثرت السعادة ولو من قلة.

فالطفلُ يقلَّب عينيه في نساءٍ كثيرات، ولكن أمَّه هي أجملهن وإن كانت شو هاء.

فأمه وحدها هي أمُّ قلبه، ثم لا معنى للكثرة في هذا القلب هذا هو السرُّ؛ خذوه أيها الحكماءُ عن الطفل الصغير!

وتأملت الأطفال وأثر العيد على نفوسهم التي وسعت من البشاشة فوق ملئها.

فإذا لسانُ حالهم يقول للكبار: أيتها البهائم اخلعي أرسانك ولو يوماً. . . . . . . . .

أيها الناسُ انطلقوا في الدنيا انطلاقَ الأطفال يُوجدون حقيقتهم البريئة الضاحكة.

لاكما تصنعون إذ تنطلقون انطلاقَ الوحش يُوجد حقيقتَه المفترسة.

أحرارٌ حرية نشاط الكون ينبعث كالفَوضى ولكن في أدقْ النواميس.

يثيرون السخط بالضجيج والحركة، فيكونون مع الناس على خلاف لأنهم على وفاق مع الطبيعة.

وتحتدم بينهم المعارك ولكن لا تتحطم فيها إلا اللعب. . . .

أما الكبارُ فيصنعون المدفعَ الضخَم من الحديد للجسم اللّين من العظم.

أيتها البهائمُ اخلعي أرسانك ولو يوماً. . . .

لا يفرح أطفال الدار كفرحهم بطفل يُولد؛ فهم يستقبلونه كأنه محتاجٌ إلى عقولهم الصغيرة.

ويملؤهم الشعور بالفرح الحقيقي الكامن في سر الخلق لقربهم من هذا السر.

وكذلك تحمل السنة ثم تلد للأطفال يوم العيد؛ فيستقبلونه كأنه محتاج إلى لهوهم الطبيعي.

ويملؤهم الشعور بالفرح الحقيقي الكامن في سر العالم، لقربهم من هذا السر.

فيا أََسَفَا علينا نحن الكبار! ما أبْعَدَنا عن سرْ الخَلْق بآثام العمر!

وما أبعدنا عن سِر العالَم بهذه الشهوات الكافرة التي لا تؤمن إلا بالمادة!

يا أسفَا علينا نحن الكبار! ما أبعدنا عن حقيقة الفرح! تكاد آثامنا والله تجعل لنا في كل فَرْحَة خَجْلة. . .

أيتها الرياض المنوِّرةُ بأزهارها!

أيتها الطيور المغرِّدة بألحانها!

أيتها الأشجار المصفِّقة بأغصانها!

ص: 6

أيتها النجومُ المتلألئة بالنور الدائم!

أنتِ شَتى؛ ولكنك جميعاً في هؤلاء الأطفال يوم العيد!

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 7

‌الرمز في الأدب الصوفي

للأستاذ أحمد أمين

تدور العقيدة الصوفية على فكرة (وحدة الوجود)، فليس العالم والله شيئين منفصلين، وليس الله في السماء وحدها ولا في الأرض وحدها، بل هو في كل شيء، بل هو كل شيء؛ وليس هناك محب ومحبوب، وعاشق ومعشوق، بل المحب والمحبوب واحد، يختلفان في المظاهر والأحوال ويتحدان في الحقيقة؛ وكل شيء في العالم له مظهر فانٍ متغير متقلب، وله مخبر دائم باق لا يتغير؛ ونفس الإنسان كذلك: نفس ناقصة فانية ظاهرة، ونفس كاملة باقية باطنة؛ والنفس الأولى تشق الطريق لتحقق نفسها الثانية فتتحد بالحقيقة وتتشربها وتفني فيها. وسمى الصوفي هذا المسلك (طريقاً) أو (طريقة)، وسمى نفسه (سالكا)، وسمى المسافات التي يقطعها فيقف عندها للاستجمام (مقامات)، وسمى الغرض الذي يقصده من سلوكه وهو اتحاد نفسه بالحقيقة، وبعبارة أخرى اتحاد ذاته بالله (الفناء في الحق). وقد رسموا (خُرَطاً) لهذا الطريق، وتعددت (خرطهم) بتعدد أنظارهم، وسموا كل مرحلة وكل مقام بأسم، فهي عند بعضهم مقام التوبة، ثم مقام الورع، ثم مقام الزهد، ثم مقام الفقر، ثم مقام الصبر، ثم مقام التوكل، ثم مقام الرضا؛ وفي كل مقام من هذه المقامات يقف السالك فيشعر بمشاعر نفسية خاصة سموها (الأحوال)، فحال الخوف، وحال الرجا، وحال الشوق، وحال الأنس، وحال الطمأنينة، وحال المشاهدة، وحال اليقين الخ؛ ولا بد للسالك أن يستوعب كل مرحلة من هذه المراحل ويؤقلم نفسه بها ليستعد للمرحلة التي تليها، حتى يصل في النهاية إلى حالة اتحاد بالعالم وبالله فيستحق بذلك أن يسمى (عارفاً). ولا بد للسالك أن يقوده (شيخ) في هذه الطريقة الوعرة حتى لا يضل المسلك.

وليس المقام مقام تفصيل لتعاليمهم وعقائدهم وإنما نريد أن نقول إنهم بتعمقهم في هذا المبدأ الذي ألممنا به إلماماً بسيطاً قد أقاموا أنفسهم في عالم غير العالم المادي الذي يعيش فيه غيرهم؛ فلهم خاصة بهم ومسميات لا يعرفها إلا هم - ولكنهم فعلوا في اللغة كما فعل كل العلماء في اللغة العربية، فأخذوا الألفاظ العربية وأطلقوها على مدلولات خاصة كما فعل النحاة بالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر والجار والمجرور ونحو ذلك من ألفاظ كان يستعملها العرب في مدلولات عامة فأخذها النحاة ووضعوها لمصطلحات خاصة، حتى أن

ص: 8

العربي القح لم يكن يفهمها في معاني النحاة. وهكذا الشأن في البلاغة والعروض والفلسفة - غير أن هناك فرقاً كبيراً بين المتصوفة وغيرهم، فالأوضاع النحوية والصرفية والبلاغية لها مدلولات ترجع إلى العقل في تفهمها، أما المصطلحات الصوفية فلا ترجع إلى العقل، وإنما ترجع إلى الذوق، ولهذا لا يفهمها أحد بعقله فهماً صحيحاً؛ إنما يفهمها من تذوقها ووقف في المقام الذي يقف فيه المتصوف؛ والفرق بين العاقل والمتذوق كالفرق بين شخصين أحدهما لم يذق الكمثرى قط فوصفت له وصفاً لفظياً علمياً، وشخص ذاقها وعرف الفروق الدقيقة بين مذاقها ومذاق الموز والتفاح؛ فأستعمل شعراء الصوفية ألفاظ الشعراء الخليعين من (ليلى) و (الخمر) والوصل والعناق والهجر والعذال، واتخذوها رموزا لأحوالهم ومقاماتهم؛ وكان لهم من ذلك كله أدب رمزي بديع غريب يمتاز عن غيره من الأدب بروحانيته وصفائه، كما يمتاز بغموضه وخفائه.

والسبب في الغموض والخفاء أن الشاعر المادي إذا وصف خمراً أو لوعة حب أو هجراً أو وصالاً، فإنما يصف عواطف يدركها الناس وهي في منالهم، أو بعبارة أخرى هي قدر مشترك بينهم؛ فكل الناس أحب، وكل ذاق لذة الوصل وألم الهجر؛ أما الصوفي فيعبر عن مقام يقفه وحال غلبت عليه، فوصف مقامه وحاله بحيث لا يفهمه إلا من كان في موقفه وحاله، أو كان قد قطع هذه المرحلة إلى مرحلة أبعد منها مدى. ومن أجل هذا لا يفهم الصوفي إلا الصوفي، بل قد لا يفهم الصوفي الصوفي إذا سلك كل منهما مسلكاً خاصاً، أو كان الصوفي الشاعر في مقام بعيد عن مقام الأول؛ ومن أجل هذا شرح بعضهم قصائد لبعض المتصوفة، فكان الشرح غامضاً كالأصل. وصاحب القصيدة معذور كل العذر، لأنه في حال لا يجد فيها ألفاظاً تعبر عما في نفسه في وضوح وجلاء؛ وهناك سبب آخر قد يدعو إلى الغموض، وهو أنه في حال لو أوضح ما في نفسه لرماه من لم يفهمه بالكفر والإلحاد.

على كل حال يمتاز الأدب الصوفي بأنه أدب رموز من ناحيتيه القابلة والفاعلة، فهو يفهم مظاهر العالم على أنها رمز؛ والعالم عنده لا يختلف عن أحلام النائم؛ فكما أن الحلم يعرض حوادثه عرضاً رمزياً فكذلك العالم كل ما فيه رمز، فكل ما يقع تحت عينه وما يسمع بأذنه، وما يتصل بجميع حواسه رموز يستنتج منها ما يغذي عواطفه ومشاعره، وبذلك أنفتح

ص: 9

أمامه عالم غريب الأطوار مملوء بالجمال، مفعم بالتخيلات، حتى كأن كل شيء - ولو كان صغيراً - كتاب ملئ علماً، أو لسان ينطق دائماً بالحكمة، هو في العالم دائماً يقرأ ولا مقروء، ويسمع ولا مسموع، ويستخرج من الحبة قبة، ومن القطرة بحراً خضماً. يقرأ في كل حادثة نفسه وعالمه وربه، ويفسرها تفسيراً يتفق ومزاجه وحاله.

وهذا الأدب الرمزي والدين الرمزي والحكمة الرمزية نزعة كانت في الإنسان منذ القدم، فالديانة المصرية القديمة مملوءة بالرموز الدينية، وكذلك ديانة الهنود والفرس الأقدمين، ترمز إلى الحقيقة في بعد وخفاء؛ والميثولوجيا اليونانية ليست إلا رموزاً لما كانوا يرون من حقائق؛ وكثير من شعائر الأديان إنما وضعها فلاسفة متصوفون رمزوا بها إلى بعض الحقائق. فأتى العامة الجهلة، وظنوا نفس الرموز حقائق؛ فما الأصنام ولا النجوم ولا نقوش المصريين في عباداتهم ولا كثير غيرها إلا رموز أتى عليها الزمن فنسى أصلها وعبدت ذواتها، وجرى كثير من الفلاسفة على هذا النحو فيحكى عن فيثاغورس اليوناني أنه كان يكثر من الكلام الرمزي ليدل به على الحقيقة، وكذلك كان من بعده أفلوطن.

ولهذا الأدب الرمزي جماله، فهو يمتاز بأنه جمال مقنع تدركه ولاتلمسه، وتتخيله ولا يسمح لك أن تحدق فيه، فهو جمال تنظره وكأنك لاتنظره، وتسمعه وكأنك لاتسمعه، وتعرفه وكأنك لاتعرفه، قد خلع عليه الخفاء جلالاً فكان جميلاً جليلاً معاً - تسمعه فتلتذ له وتترنم به، فإذا أردت أن تقبض عليه قبضت على هواء؛ ليس لكلماته مدلول محدود، ولا لمعانيه حدود، وإنما هو إمعان في اللانهاية، وسبْح ولا غاية.

يرى الصوفي أن لكل ظاهر باطناً، وفي كل شيء إشارة، وفوق السطح عمقاً، ووراء القناع جمالاً فاتناً؛ ويتيه عجباً على الناس إذ فهم ولم يفهموا، وغنى لهم ولم يطربوا، ويرى أن العقل حجاب يحجب النفس عن إدراك الجمال، وأن كشف هذا القناع إنما هو بالذوق والألهام، لا بالمنطق والقضايا والأحكام.

وبهذا النظر نظر الصوفي إلى العالم فسمى الحقيقة ليلى وسعدي، وأعجب بالخمر وتغنى بها، ورأى في الخمر معاني ليست في غيرها. فهي رمز إلى رقي النفس وتساميها، فالنفس ترقى بالفناء في الحقيقة كما تنشأ الخمر بفناء العنب، فيكون شيء من شيء، ويختلف الشيئان والأصل واحد؛ وإذا خرجت الخمر من العنب بقيت إلى الأبد وصلحت بمرور

ص: 10

الزمان، على حين أن العنب نفسه لا يصلح للبقاء، فكذلك النفس إذا تجردت من مادتها الفاسدة ونزعت إلى الكمال صلحت للبقاء، ولم يعتروها فناء، وكلما مرت عليها السنون والأعوام زادت نقاء، ورقت صفاء.

وهكذا ولّد الصوفية من كل شيء أشياء، ورأوا في كل مادة رمزاً لمعان لا عداد لها وبني آخرهم على ما أتى به أولهم ونظروا إلى الدين نظرهم إلى كل ما في العالم، فكل آية في القرآن رمزا، وكل حديث له تأويل. فليسوا يفهمون من الآيات ما يفهم الناس، ولا من الأحداث ما يفهم الناس.

إن شئت مثلاً لذلك فخذ ما فهموا من حادثة شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم، فعلماء السيرة يروون أنه (ص) شُق قلبه وهو مع رابّته ومرضعته في بني سعد، وأنه جيء بطست من ذهب فيه ثلج فغسل به قلبه إلى آخر مارووا؛ والصوفية لا يفهمون هذا إلا على أنه رمز، فقلب الإنسان قد ران عليه الخوف والشهوة والطمع وغير ذلك من السيئات، فأراد الله أن يذهب عنه الرجس ويطهره تطهيراً، فأبعد عنه ما غشى قلوب الناس، وفتح قلبه ونقاه من كل سوء حتى يستعد للنبوة. فرويت هذه القصة وفهمها العامة حقيقة، وفهمها الخاصة رمزاً.

وهكذا كان شأنهم فيما عرض عليهم من العالم ومن الدين ومن الأدب؛ وهكذا كان شأنهم فيما أنتجوا من دين وأدب - عاشوا في حلم لذيذ من حب وتضحية، ونعموا بما قرءوا في العالم من رموز، وأخذوا أدب الأدباء وشعر الشعراء فنقلوه إلى أحوالهم ومقاماتهم، فطربوا لشعر مجنون ليلى وأبي نواس وفسروه بليلاهم وخمرهم، فلما شعروا هم أسبغوا على شعرهم من معانيهم ورموزهم، فكان لنا من ذلك كله نوع من الأدب طريف. أرجو أن أعرض لتفصيله في مقال تال.

أحمد أمين

ص: 11

‌فضيحة دولية استعمارية

عصبة الأمم بين المد والجزر

بقلم باحث دبلوماسي كبير

كانت عصبة الأمم في نظرنا دائماً أداة دولية مريبة، لا تتفق أعمالها وجهودها مع المثل والغايات السامية التي أدمجت في دستورها، ولم نستطيع يوماً مدى الخمسة عشر عاماً التي قطعتها العصبة من حياتها أن تحمل على الثقة بها أو الاطمئنان لاستقلالها أو نزاهة وسائلها وغاياتها؛ وإنما رأينا العصبة دائماً أداة مسيرة في يد الدول الغربية القوية توجهها حيثما شاءت لتحقيق مشروعاتها وغاياتها على حساب الأمم الضعيفة، ورأيناها بالأخص سوط استعمار بالنسبة لبعض الأمم الشرقية، تفرض عليها نير الانتداب وتنظمه لمصلحة الدول الكبرى التي تواجهها؛ ولم تقدم العصبة يوماً أي دليل على أنها تعمل لأنصاف دولة ضعيفة أو أمة شرقية، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بمصلحة دولية قوية أو أمة غربية، ولم تنل العصبة توفيقاً في أي ميدان من الميادين العامة أو الإنسانية التي تزعم أنها تعمل في سبيلها، فلم يحقق مشروع نزع السلاح أو تحديده، ولم يوضع نظام ثابت للسلامة العامة أو عدم الاعتداء، ولم تكفل حقوق الأقليات أو الأمم الضعيفة بصورة مستقرة عادلة.

ولكنا رأينا عصبة الأمم تتخذ فجأة لمناسبة النزاع الإيطالي الحبشي صورة أخرى، فتبعث دستورها من قبره وتطبقه بروح جديدة؛ رأيناها تحل السيادة والحقوق القومية مكانتها، وتعمل لاحترام استقلال الأمم الضعيفة، فتصم إيطاليا بما تستحق من وصمات الاعتداء المنكر، وتحرك من نصوص دستورها ما تراه كفيلاً بوقف الاعتداء ورد المعتدي إلى صوابه؛ وتستجمع شجاعتها لتطبيق العقوبات الاقتصادية والمالية التي فرضت على المعتدي، وتطبقها بالفعل على إيطاليا المعتدية، فتحظر تصدير السلاح وجميع المواد الأولية إلى إيطاليا وتبيحه للحبشة، وتطلب إلى أعضائها أن يقطعوا كل العلائق الاقتصادية والمبادلات التجارية مع إيطاليا؛ فيلبي دعوتها نحو خمسين دولة أو ما يشبه الإجماع؛ وهكذا رأينا عصبة الأمم تفتتح عهداً جديداً في سياستها وفي فهم مهمتها الدولية، واستبشرنا بأن يكون العهد الجديد مفتتح الآمال بالنسبة للأمم الضعيفة، فتستطيع أن تطالب بحقوقها وحرياتها، وتستطيع أن تعتمد على ذلك التعضيد الدولي الذي تحمل لواءه عصبة الأمم.

ص: 12

ولم يغب عن العالم مع ذلك ما هنالك من وراء ستار، فقد فطن العالم إلى أن عصبة الأمم لم تكن في عملها مستقلة ولا مختارة، وإنها كانت مسيرة موجهة فيما اتخذت من قرارات جريئة؛ ولم يغب عن العالم أن السياسة البريطانية هي مبعث التوجيه والوحي الأول، وأنها اتخذت هذه الخطة لأن الاعتداء الإيطالي على الحبشة، وتوسيع النفوذ الإيطالي في شرقي إفريقية، وما يترتب على ذلك من إذكاء الروح الحربي الفاشستي، يعرض الإمبراطورية البريطانية وسلامة مواصلاتها في البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط وسيادتها في وادي النيل وشرق إفريقية إلى أخطار جسيمة، وأن إنكلترا لم تحرك أساطيلها الضخمة، وتتخذ هذه الأهبات الحربية الواسعة النطاق في مصر وعدن وشرق إفريقية انتصارا لقضية الحبشة أو دفاعاً عنها، ولكن رداً للخطر الفاشستي الذي ظهر في الأفق فجأة، وأخذ يزعجها بمطامعه وتحديده. بيد أن وقوف العالم على هذه العوامل المستترة الظاهرة معاً، لم يثنه عن التصفيق لعصبة الأمم والإعجاب بموقفها وتصرفاتها في هذا المأزق العصيب؛ ذلك أن الوسائل لاتهم دائماً؛ وكفى أن عصبة الأمم قد انتهت إلى الغاية المقصودة، وسيقت إلى العمل لصون الحريات والحقوق القومية، وإلى الحكم على الاعتداء المنظم بأقسى الأحكام.

ولهذا دهش العالم أيما دهشة حينما أذيعت شروط هذا المشروع الشائن الذي أسفرت عنه المفاوضات الفرنسية البريطانية الأخيرة كتسوية سلمية للمسألة الحبشية، والذي أريد أن يقدم إلى إيطاليا هدية سابغة على اعتدائها المثير لكي تكف عن المضي في أعمالها ومشاريعها الحربية. وقد وقف القراء على هذا المشروع وتطوراته فلا حاجة بنا إلى الإفاضة فيه، ويكفي أن نذكر أنه كان يقوم على تمزيق الحبشة تمزيقاً شائناً، وينص على منح أكثر من نصفها لإيطاليا، ويحيط سيادة الحبشة على الأراضي الباقية بقيود خطرة أو هو بعبارة أخرى يقضي بشقيه على الحبشة كأمة مستقلة ذات وجود، ويمهد لاستبعادها النهائي في أعوام قليلة؛ نقول ثار العالم كله لهذا المشروع الشائن الذي يتوج اعتداء إيطاليا بغار ظفر لم تحرزه، ويحقق لها حلماً مازالت تتخبط في غمر الصعاب لتحقيق شطراً منه؛ وأشد ما كانت دهشة العالم لأن السياسة البريطانية التي ثارت من قبل لاعتداء إيطاليا وألبت عليها أمم العالم بواسطة عصبة الأمم وحملت العصبة على أن تقرر العقوبات

ص: 13

الأقتصادية، قد أشتركت في وضع هذا المشروع الشائن الذي يقضي فجأة على آمال أمة مستقلة مازالت تناضل عن حرياتها نضالاً يثير الإعجاب والإكبار؛ على أن الصدى العنيف الذي أحدثه المشروع في العالم كله، وفي الرأي العام البريطاني بنوع خاص، كان كافياً لأن يحدث أثره بسرعة في استنكار هذه السياسة الاستعمارية الصارخة، واستنكار المشروع برمته، وكان من جراء ذلك أن استقال السير صمويل هور وزير الخارجية البريطانية الذي أشترك في وضع المشروع، وكان لاستقالته أعظم وقع كما شهدنا، واضطرت الحكومة البريطانية أن تتراجع بسرعة، وأن تعلن أنها لا تؤيد المشروع وأنها تعتبره قد مات؛ هذا بينما كان المشروع مطروحاً أمام عصبة الأمم، يلقي الضربة الأخيرة على يد مجلس العصبة، ويرجئ النظر فيه إلى أجل غير مسمى.

وهكذا مات مشروع تمزيق الحبشة في أيام قلائل تحت ضغط الرأي العالمي واستنكاره، ولم يُسمح لإيطاليا أن تجني ثمرة اعتدائها الشائن وأن تحقق بالدجل السياسي ما لم تستطع أن تحققه على يد جنودها في ميدان القتال. أما الحبشة فقد رفضت مشروع تمزيقها لأول وهلة، ورفضته بمنتهى الأباء والقوة، بل واستطاعت أن تقرن رفضها الأبي بانتصارات محلية أحرزتها الجيوش الحبشية في مختلف الميادين في نفس الوقت الذي طرح فيه المشروع أمام عصبة الأمم. ومع أن العوامل الحقيقية التي أملت بوضوح هذا المشروع، وحملت السياسة الإنكليزية على إقراره، في الوقت الذي ذهبت فيه إلى هذا المدى البعيد في مخاصمة إيطاليا ومقاومتها، لم تتضح إلى الآن وضوحاً كافياً، فأنه يمكن فهمها على ضوء بعض الحوادث والظروف الأخيرة، وأخصها تفاقم الخطر الياباني في الشرق الأقصى، وانتعاش الحركة الوطنية في مصر، وما يذاع من وجود تذمر في الأسطول البريطاني، وما يبدو من تحرك ألمانيا وتربصها؛ هذا إلى بعض الاعتبارات الأوربية والاستعمارية العامة، وهو أنه ليس من حسن السياسة أن تشجع أمة إفريقية سوداء على مقاومة أمة أوربية كبرى، وأن تترك إيطاليا لتطوح على هذه الصورة بشطر كبير من قواها الحيوية في شرق إفريقية، في حين أن هذه القوى ذاتها ضرورية لحفظ التوازن الأوربي ومقاومة مطامع ألمانيا في النمسا؛ ومن جهة أخرى فأن هذه الصعاب والمتاعب الفادحة التي تتخبط فيها إيطاليا قد تدفع بها إلى غمار اليأس فيسقط النظام الفاشستي، وسقوطه في هذا المأزق

ص: 14

الدقيق قد يضعف إيطاليا ويصيب التوازن الأوربي بضربة شديدة: فإلى هذه العوامل يمكن أن نرجع تطور السياسة الإنكليزية الفجائي. بيد أن هنالك حقيقة لاشك فيها هي أن أكبر الفضل في هذا التطور يرجع إلى تذبذب السياسة الفرنسية وترددها، وإلى ما تبديه من تحيز ظاهر للاعتداء الإيطالي، وما تبديه من فتور ظاهر في تأييد سياسة العقوبات الدولية التي تعتمد عليها إنكلترا في تحطيم مشاريع إيطاليا. وتذبذب السياسة الفرنسية وتحيزها يرجعان إلى عوامل أنانية محضة، فالحكومة الفرنسية الحاضرة تريد أن تحرص على الصداقة الإيطالية بأي ثمن، وأن تحافظ بكل الوسائل على أن تتقاضى تعاون إيطاليا في أوربا ضد ألمانيا وبالأخص في المسألة النمسوية، ثمناً لما بذلته فرنسا لإيطاليا في الاتفاق الفرنسي الإيطالي الأخير (يناير الماضي) من المنح والمزايا السياسية والاستعمارية؛ وهي تحاول في نفس الوقت أن تحتفظ بصداقة إنكلترا ومعاونتها.

على أن هذه السياسة التي انكشفت عواملها الأنانية بسرعة لقيت حتفها في الحال في إنكلترا وفي الحبشة وفي جنيف؛ ومع أن السياسة البريطانية استطاعت بسرعة مدهشة أن تستدرك الخطأ الذي وقع فيه السير هو وزير الخارجية البريطانية بإقراره لمشروع الصلح، واستقال الوزير في الحال ليخلفه مستر إيدن بطل سياسة السلامة الاجتماعية والعقوبات الدولية على يد عصبة الأمم، أو بعبارة أخرى بطل سياسة التشديد على إيطاليا، فأن هيبة بريطانيا السياسية قد أصيبت بشيء من التصدع والريب؛ ذلك لأنه لم يكن خافياً ما ينطوي عليه مشروع الصلح المقدم إلى جنيف من معنى مستتر، هو تقسيم الحبشة بين إيطاليا وإنكلترا، واختصاص إيطاليا بالقسم الشرقي الذي تحتل قسماً منه، واختصاص إنكلترا (فيما بعد) بالقسم الغربي الذي تقع فيه منابع النيل الأزرق، والذي تحرص كل الحرص على استخلاصه من يد أية دولة أوربية أخرى؛ بيد أن هذا الرجوع السريع الحازم من جانب السياسة البريطانية إلى خطتها الأولى، أعنى خطة الوقوف في وجه إيطاليا ومقاومتها عن طريق العمل الدولي، قد رد إليها كثيراً مما كادت تخسر من هيبة ونفوذ.

على أننا نستطيع أن نستخلص من هذه المأساة الدولية درساً بليغاً يؤيد ما ذهبنا إليه في صدر مقالنا بشأن عصبة الأمم؛ فما كانت العصبة يوماً ملاذاً للعدالة الدولية وحقوق الأمم الضعيفة، ولاسيما الأمم الشرقية، ولن تكون العصبة يوماً ملاذاً حقيقياً لهذه المثل العليا.

ص: 15

وإذا كان موقف العصبة في المسألة الحبشية قد أسبغ عليها هيبة لم تتمتع بها منذ نشأتها، فأن الفضل في ذلك لا يرجع إلى إرادة العصبة ذاتها أو إلى استقلالها ونزاهتها بقدر ما يرجع إلى العوامل السياسية والاستعمارية الخارجية التي شرحناها؛ وكون العصبة تعمل في مثل هذه الظروف أداة مسيرة، لا يؤكد الآمال التي يمكن أن تثيرها نصوص دستورها الخلاب، بل كل ما هنالك يثير الريب دائماً في وسائلها وغاياتها. ومع ذلك فأن عصبة الأمم يمكن أن تكون أداة حقيقية لتأييد السلام العالمي والعدالة الدولية، ولكنها يجب قبل كل شيء أن تحرر من ذلك النفوذ الذي يواجهها وينحرف بها عن العمل للغاية الحقيقية التي أنشئت لها إلى العمل لغايات السياسة القومية والاستعمارية. وقد رأينا في مثل إيطاليا وما نالها من أثر العقوبات الاقتصادية، قوة العمل الإجماعي وتأثيره الفعال في كبح جماح الشهوات القومية؛ فإذا صلح دستور العصبة ليلائم الظروف الدولية الحاضرة، وإذا استطاعت الأمم أن تضع ثقتها في سياسة الضمان المشترك والسلامة المشتركة، فإن العالم يستطيع أن يتجنب كثيراً من الحروب الاعتدائية المخربة. ولكن هل تستطيع الدول الاستعمارية الكبرى أن تتجرد عن غايات الأثرة القومية، أو تعدل عن الالتجاء إلى القوة الهمجية التي تمكنها من أعناق الفرائس الضعيفة المغصوبة؟

(* * *)

ص: 16

‌شهيد من شهداء أحد

أنس بن النضر

للأستاذ خليل هنداوي

كتب الله النصر للمسلمين في غزوة (بدر الكبرى)؛ وكان نصراً رائعاً للدعوة الإسلامية، فأنصرف المشركون وفي كل عضو من أعضائهم جراحة من أثر بدر، وفي كل بيت من بيوتهم مناحة لفقد عزيز من أعزائهم يوم بدر؛ وقد تبرأ هذه الكلوم، وتهدأ هذه المناحات، ولكن المضض كامن في صدور كأنها الدروع المنطوية في النار.

- ألا يعود يوم كيوم بدر نثأر فيه لشرفائنا، ونلوك أكباد أعدائنا! إنه إن يعد - وهبل - نشف منهم النفوس أو تضمنا الرموس. . . . . . . . . .

والمسلمون خلال ذلك تخفق ألوية النصر عليهم، وأصحاب بدر يخطرون طربين بما أوتوا، يجلسون حلقات، هذا يتحدث عن بلائه، وذلك عن بطشه بأحد رؤوس قريش، وقد يسمع النبي لحديث من أحاديثهم فيغلب الإشفاق على قلبه ويود لو أن دماء قومه لم تهدر، ولكن الدعوة تفتقر إلى ضحايا! وقد يغادر المتحدثون هذه الأصناف من الحديث، لا لأن بدراً يفرغ حديثها. . . وإنما يعودون إلى التحدث بينهم: كيف ألقى الله الرعب في قلوب أعدائهم، وثبت منهم الأقدام، وزلزل أقدامهم، ويشكرون الله على صدق وعده لهم، فما أخف نفوس هؤلاء البدريين الذين قاتلت جنود الله معهم! ويكفي أحدهم إذا أراد أن يفتخر أن يقول:(أنا بدري)! وما أشد أسى الذين لم يكتب لهم أن يكونوا من جنود هذه الغزوة المباركة!

كيف يمشي هؤلاء الذين لم يحضروا غزوة بدر، وكيف تطمئن لهم جنوب أو تسكن قلوب، وقد رأوا أن رفاقهم سبقوا بالأجر: أجر بدر؟ وكيف يخالطون أصحابهم الغزاة، وكيف يكلمون الرسول، وهم يرون في أنفسهم منقصة تؤخرهم عن مجالس هؤلاء الغزاة، إنهم ليسوا ببدريين!

حاور أنس بن النضر نفسه فلم يقنعه منها عذر؛ فآثر أن يتوارى عن قومه، وأن يعتزل مجالسهم، مقسما أنه لن يغفر هذه الحوبة لنفسه حتى يلاقي غزوة كغزوة بدر، يحملها ما لم تحمل، ويحمل منها فوق ما حمل أصحابه، فإذا سمع (ببدر) رأيت وجهه اكتأب وأساريره

ص: 17

انقبضت، لأن حديث بدر - عنده - حديث ذو شجون، فيسأل نفسه إذا أشتد به الأمر:

- أعهد بدر الثانية عنك بعيد؟ رب أقرب بدراً

وقد عجب أصحابه لوجومه وانصرافه عن مجالسهم، ولم يروا منه إلا كل خلة حميدة، وعقيدة صلبة؛ يرونه يمشي كمن يلوذ بجدار، ويرتاح إلى الليل الأسود كمن يتخذه لباساً، ويجنح إلى العزلة كمن هو على موعد من ربه. . . وتحدث القوم بينهم: ما بال أنس لا يطأ مجالسنا؟ أأذىً به أم عارض؟ وكان الرسول لا يلمحه إلا معتزلاً في زاوية وحده، لا يسمعه سامع إلا هاجساً ببدر، مستفسراً عن بدر؛ وقد أقلق الرسول حاله، فسأله:

- ما خطبك يا أنس؟

فقال أنس:

- (يا رسول الله غبتُ عن أول قتال قاتلتَ المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع!)

ففهم الرسول أمره، وبارك عزيمته وقال:

- أما وقد نويت:

ولم يقف الرسول على شيء من أمره بعد مقابلته. وهاهي المقادير جاءت تنتقم (لأنس)، وتكتب أسمه في سجل الغزاة الثابتين، وهاهي الأيام كرت تجدد (بدراً) ثانية، ليس موعدها بدراً، لكن أُحُدا! فهب البدريون إلى شحذ سيوفهم البدرية ولا تزال أغرتها مكتسية دماً، ورماحهم ولا تزال ثعالبها حُمرا، ونشط من لم يحضروا بدراً لينالوا من الأجر ما لم ينالوه، فكان الأولون يمشون ثابتي الأقدام، مستخفين بأعدائهم عند الروع؛ وكان الآخرون يمشون خفافاً كمن أُزيح عن صدره ثقل الجبال، وقد ارتاحت من أنس نفسه، ودنا يحدث صحبه كأن لم يكن له عهد بتلك الوحشة.

بزغ الفجر من وراء أُحد، وأفاقت قعقعة الرجال: وتيقظ كل ثأر قديم وكل خصومة قديمة، فلم يمهل بعضهم بعضاً بالبراز وإنهم لا يملكون أنفسهم في مثل هذا اليوم، وقد ود (أنس) قبل زحفه إلى الشهادة أن يكلم الرسول فيكتسب منه دعوة صالحة أو يراه فيذكر الرسول وجومه فيقول له:

- إيه يا أنس! اليوم بدر!

ص: 18

ولكن الزحام شديد والقتام ساطع والعدو راصد، والنبي قد وزع عقله هنا وقلبه هناك، يهدي ويوصي ويرشد وقد ذهب أمامه أقرباؤه قروم الحرب وأبطال الشدائد، فأقلع أنس عن رغبته وأدرك أنه لم يكتب له الحظ أن يمس جلده جلد رسول الله قبل آخر العهد، فأنطلق زاحفاً إلى صفوف المشركين يضرب بيديه وبسيفه ورمحه وفرسه، وكأن المقادير أرادت أن تنتقم له انتقاماً حسناً فلم تظهر ثباته وصدقه في جمع ظفر، لكن في جمع تفرق وأنكسر، ولم يثبت فيه إلا كل أروع صنديد؛ فكرام من الصحابة يذودون عن النبي بأرواحهم وأجسادهم! وكرام من الصحابة شدوا على العدو المحيط بهم وقد أبت لهم عقيدتهم أن ينهزموا ويستسلموا! وهذا أنس لا يزال يجول وما زادته جراحه الكثيرة إلا زيادة في الثبات. وهل أكرم من الثابتين عند الله؟ وما زادته سراويله الحمر إلا استقتالاً وطمعاً في ذلك الأجر الذي تلوِّح له به بدر؛ لكن يوم بدر كان يوم ظفر، ويوم أُحد أسود الجلباب! فحيثما يطأ يجد صحابياً جريحاً يئن، وأيان توجه ير قتيلاً تزفه الحور العين.

- بادر يا أنس! فهذا هو يوم الأجر الأكبر، وهذا هو يوم الرضوان، ما ينفع تأجيل الموت وفي الشهادة حياة؟

وإنه ليحدث نفسه بهذا الحديث فيستقبله سعد بن معاذ فيقول له:

- (يا سعد! الجنة ورب النضر، إني لأجد ريحها من دون أُحد. . .)

فيتركه سعد ويود لو يصنع ما يصنع، ولكن رجال الله رجال، فليلتفت أنس إلى قومه فيقول:

- اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء!

ويلتفت إلى المشركين فيقول:

- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء!

ثم يحمل مقتحماً صفاً من المشركين المضرجة سيوفهم ونصالهم بدماء أصحابه فلا يزال مقتحماً في حملته وقد أعجز المشركين رده وأحزن قومه فقده. وإن المِعركة لتنتهي وقد بذل فيها الفريقان من فلذات الأكباد والأولاد لها طعاماً، وهيهات أن تشبع! فيقوم أبو سفيان يقول:

- أفي القوم محمد؟ فلا يجيبه أحد. أفي القوم أبن أبي قحافة؟ فلا يجيبه أحد. أفي القوم أبن

ص: 19

الخطاب؟ فلا يجيبه أحد

فيقول:

- أما هؤلاء فقد قتلوا

فلا يملك عمر نفسه فقال:

- كذبتَ والله يا عدو الله - إن الذين عددت لأحياء كلهم! إنهم لأحياء، وإن الحياة هي التي أنطقت عمر بالرغم من نهى الرسول، وهل يخنق للحياة صوت؟

إن هؤلاء أحياء، والذين استشهدوا منهم أحياء!

فيجيب أبو سفيان:

يوم بيوم بدر، والحرب سجال! إنكم ستجدون في القوم مُثلة لم آمر بها ولم تسؤني: أُعلُ هبل، أعلُ هبل!

فيجيبه أصحاب الرسول:

- الله أعلى وأَجل!

فيقول: إن لنا العزى ولا عزى لكم

فيجيبونه: الله مولانا ولا مولى لكم

تنتهي هذه المحاورة ويؤوب أبو سفيان إلى قومه وقد شفوا قلوبهم وغسلوا عار يوم بدر، وهب المسلمون إلى تلمس قتلاهم واستنقاذ جرحاهم وقد راعهم أن يمثل المشركون بالشهداء منهم وهم لو أرادوا تمثيلاً بهم لمثلوا. ولبث النبي في مكانه يعالج أصحابُه نزيفاً منه كاد يودي به، وهو يرتقب جثة عمه حمزة وقد أشجاه ما أشجاه، فجاءت الجثة بغير كبد والوجه معبوث بملامحه. فناب الصمت عن البيان، وحجبت هذه الداهية غيرها من دواهي أحد؛ فجمع المسلمون جثث قتلاهم يدفنونها متراكمة في موضع المعركة وقد أساهم في مصابهم ما أصاب الرسول في عمه. فكان ينظر إلى الذين يغيبهم التراب إلى الأبد نظرة صامتة، وعينه لا تتمثل إلا مصرع حمزة.

لم يعد أنس جريحاً ولم يبن قتيلاً في المعركة، وقد ذهبت أخته تتحرى عنه بين القتلى فيمن تحرى، حتى وقعت على قتيل خفيت تقاسيم وجهه، وذهب جلده قدداً، في بدنه بضع وثمانون من ضربة بسيف وطعنه برمح ورمية بسهم. أهذا هو أنس صريعاً؟ لكن وجهه

ص: 20

لايفصح، وبدنه لا يبين عنه. لكن هذه بنانُه قد أبقى عليها المشركون ولم يمسوها بسوء. مثلوا بجسده ما شاءوا أن يمثلوا بعد أن ملأهم ضربه غيظاً وقتاله حقداً، وذهلوا عن بنانه.

- رحمك الله يا أنس لقد بررت بعهدك الذي عاهدت، وأدركت الأجر الذي طلبت. أليس فضل الثابتين في أحد كفضل أصحاب بدر؟

قضى أنس ولم يذكر مصرعه القوم، لأن مصارع أذهلت عن مصارع. والرسول لم تندمل كلومه، ولم يبرح مصرع حمزة قلبه.

لم يقتل حمزة وحده ولم يقتل أنس وحده، بل قتل معهما (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) وهؤلاء هم الذين قتلوا في سبيل ما عاهدوا الله عليه.

خمدت وقعة أحد، وكان الرسول كلما مر بأحد أستشعر خشية، والتفت إلى أصحابه كأنما يلتمس في هذا الجبل شيئاً قدسياً يهبط على نفسه. التفت يقول لهم:

- (إن أحداً يحبنا ونحبه!)

وكيف لا يحبونه وقد أطافت به أرواح الأعزاء وثوت فيه أجساد الشهداء وكيف لا يهتز الرسول لأحد وفيه قد أدّوا ثمن العقيدة والصدق والإخلاص من دمائهم وقلوبهم.

أما إن لكل أمة (أحداً) تذكره وتعتز بذكره لأنه رمز ضحاياها الغالية التي عملت لها. وهذه الأمة المشتتة تحت كل كوكب، المعتزة بأيمانها وعقيدتها تقيم في كل زاوية (أحداً جديداً) تقدم له كل يوم ضحايا عزيزة من دمائها وقلوبها! حتى غدت مواطنها:(كل موطن أحد) وشهداؤها: (كل شهيد أنس).

خليل هنداوي

ص: 21

‌نظرية النسبية الخصوصية

المقال الثاني

وحدة قوانين الطبيعة والبعد الرابع في النسبية

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

عضوا أكاديمية العلوم الروسية

عناصر البحث

(1)

الحد الرابع للمادة في النسبية

(2)

ثبات النور ووحدة قوانين الطبيعة

(3)

النظام الغاليلي وقوانين التحويل اللورانتزية

- 1 -

تصور سطحاً في حيز منه نقطة مثل (ن)، وأنك تريد تحديد مكانها، فلا شك أنك ستقيس بعدها عن الحافة اليمنى للسطح أو اليسرى، ثم بعدها عن حافة السطح الأمامي أو الخلفي، وبواسطة خطين تحدد مركز النقطة على السطح، أما إذا كانت النقطة المرغوب تحديدها في حجم فلا بد من خطوط ثلاثة تنتهي عندها لنحدد مكانها بالضبط.

لنتصور مكعباً ضلعه 10 امتار، ولنفرض به نقطة مادية مثل (ن) في المكان (م)، ولنشرع في تحديد مكان هذه النقطة المادية، فلا بد من أن نقيس الخط العمودي الساقط على هذه النقطة من السطح السفلي للمكعب، ولنفرض أنه كان مترين، فهذا الخيط بمفرده لا يصح أن يكون محدداً لمكان النقطة إذ في الإمكان تحريك هذه النقطة حركة أفقية ويبقى الخط الممتد من السطح السفلي للمكعب حتى النقطة (ن) مترين بدون أن يلحقها أي تغيير؛ فلا بد من حدْ ثان بخط يمتد من السطح الأيمن أو الأيسر إلى النقطة (ن). فلنفرض أنه كان ستة أمتار، فلنا أن نتساءل: هل في الإمكان الاكتفاء بهذين الخطين لتحديد موضع النقطة؟

إن من السهل تحريك النقطة المذكورة في خط مواز للسطح الأيمن أو الأيسر بحالة لا يختل معها طول الخطين. فلا بد من حد ثالث، هو بعد النقطة عن السطح المعامد للجدار

ص: 22

الأيمن والأيسر، ولنفرض أننا ألفيناه ثلاثة أمتار؛ فعليه يمكن تحديد أية نقطة في حجم بثلاثة أبعاد تتعامد على بعضها في النقطة المرغوب تحديد مكانها، وهذا النظام يعرف بنظام المتعامدات الديكارتية.

إن المشاهد الذي يقوم بعملية القياس سيلجأ إلى قواعد فيثاغورس في الهندسة ليحدد أبعاد الخطوط الثلاثة المحددة من مكان النقطة. وقاعدة فيثاغورس التي ترجع إليها هذه المسألة نظريتان:

الأولى: أن مربع الوتر في المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع مربع الساقين.

الثانية: أن مربع الوتر في مكعب يساوي حاصل جمع مربع خطوط الطول والعرض والعمق.

فتكون المسافة من المشاهد إلى النقطة (ن):

22 + 23 + 26

- 2 -

لنفرض أنّ النقطة المادية (ن) تحرْكت من وضعها الأول في (م) إلى وضع آخر، وليكن (م1) بمعدل سرعة متر واحد في الدقيقة الواحدة؛ ثم لنفرض أنها بلغت وضعها الجديد بعد دقيقتين من تحركها، فالمسافة (م - م1) يستغرق قطعها زمناً. وهذا بلا شك يثبت أن الزمان يتداخل في المكان ويندمج به ليكوْنا البعد الرابع للمادة.

هذه قضية البعد الرابع في النسبية الخصوصية في أبسط صورها، ولكنها ليست كل شيء كما سنرى.

- 3 -

لا يمكن فصل الزمان عن المكان ولا المكان عن الزمان، لأنك لا تتصور حادثة إلا وتتصور أوان حدوثها، ولا تتمثل في ذهنك حركة إلا ويتطرق إلى وعيك الزمن الذي أستغرقه الجسم في الحركة.

إنه لا يمكن تصور شيء في الوجود لا يشغل مكاناً ولا يحدث في زمن. فالبعد الرابع في النسبّية ليس إلا إدماج الحركة في المسافة، إذ تُعبر عن المسافة بحاصل ضرب معدل

ص: 23

السرعة في وحدة زمانية بوحدة زمانية أخرى.

هذه العملية نظرية لأننا لم نعمل حساب الزمن الذي تستغرقه شعاعة النوع في التحرك لقطع المسافة من مكان وقوع الحادثة إلى المشاهد؛ ذلك لأن المسافات على سطح كرتنا الأرضية قصيرة، ولا يحس فرق زمني إذا ما انسابت في فضائها موجات النور. أما في المسافات السحيقة بين الأجرام فالأمر يحتاج إلى حساب الزمن الذي تستغرقه شعاعة النور في الوصول إلينا، لأن هذا الزمن يتضخم حتى يبلغ ملايين السنين في المسافات السحيقة. فمن المعلوم أن شعاعة النور تستغرق نحو 9 دقائق للوصول إلى أرضنا من الشمس، كما أن شعاعة تصدر من السدم اللولبية تحتاج إلى مليون عام لتصل إلينا، وقد تحتاج أحيانا إلى مائة مليون عام؛ فهذا النجم يبعد عنا بنحو 124. 264. 801. 625. 000 ميل. فاحسب كم عاماً تحتاج له شعاعة الضوء لقطعه مع أنه قريب إلى أرضنا بالنسبة للسدم والمجرَّات.

لا شك أننا لا نجد الشمس إذا نظرنا إليها إلا كما كانت قبل دقائق؛ فلو فرضنا أن الشمس انكسفت فجأة فأنها تنير لنا نحو تسع دقائق بعد كسوفها تكون خلالها الشعاعة الأخيرة التي صدرت من الشمس قد وصلت إلينا. فكأن المسافة قد تمددت بالنسبة لنا وأندمج الزمان في المكان.

- 4 -

إن قانون ثبات سرعة النور الذي هو نتيجة لتجربة (ميكلصون - مورلي) يقضي بأن قوانين الطبيعة الشاملة للحادثات ثابتة. لأن هذه القوانين قائمة على انتشار النور بسرعة ثابتة في كل الاتجاهات. وما دامت سرعة النور ثابتة والنور يحدد من حدوث الحوادث فقوانين هذه الحوادث ثابتة. هذا المبدأ الذي أستخلصه ألبرت أينشتين في تيه من المعادلات الرياضية الفائقة طبقه العالم مينقوفسكي على حادثات الكون والظاهرات الضوئية والإلكترومغناطيسية. وقد كان هذا المبدأ في صورة أخرى ذائعاً في علم الطبيعة الكلاسيكي إذ كانت تفرض أن الحوادث تحدث في العالم بالنسبة للأثير دون أن تتأثر بحالات الأكوان التي تحدث خلالها من حركة أو سكون. هذا المبدأ المطلق كان موضوعاً جوهرياً في علم الطبيعة الكلاسيكي. غير أن هنري بوانكاريه العالم الرياضي الفرنسي الشهير عدل عن

ص: 24

هذا المبدأ وقرر أنه من المحال الاستناد إلى التجارب التي تجري داخل عالم متحرك في استخراج حركته المطلقة استناداً على تجربة (ميكلصون - مورلي) كما سبق.

لقد عمل ألبرت أينشتين على أن يلائم بين سنة ثبات النور في سرعتها ومبدأ ثبات قوانين الحادثات، فقرر أن الضوء يتصف بسرعة ثابتة في انتشاره في جميع الجهات أياً كان الكون الذي ينتشر خلاله. ولتوضيح هذا القانون نفرض عالماً متحركاً مثل (ع) وعالماً آخر مثل (ع1)، ولنفرض أن سرعة الضوء في العالم الأول (ص) وفي الثانية (ص1)، ولنفرض أن السرعة (ص) أكبر من السرعة (ص1)، فستكون سرعة النور في العالم الأول أكبر منها في العالم الثاني. فتكون السرعة النسبية إذن غير ثابتة في كل الأتجاهات، إذ تتأثر بحركات العوالم المنسوبة إليها والتي تنتشر خلالها. ولما كانت تجربة (ميكلصون - مورلي) قد أثبتت أن السرعة (ص) هي عين السرعة (ص1) فاستناداً إلى قانون لورانتز في التقلص ونتيجته في استحالة استخراج الحركة المطلقة وثبات سرعة الضوء نقرر ثبات قوانين الحادثات ووحدتها.

وهنا قد يتبادر إلى ذهننا سؤال: هل في إمكاننا أن نؤلف بين سنة ثبات سرعة الضوء ومبدأ النسبية؟

مبدأ النسبية الكلاسيكية يقرر أن الحادثات الكونية التي تحدث في كون متحرك لا تتبع حركة الكون الذي تحدث فيه، فكأنها تحدث في عالم ساكن غير متحرك. فهل في الإمكان التوفيق بين هذا المبدأ النيوتوني وسنة ثبات انتشار الضوء في الفضاء؟

إن الإجابة على هذا السؤال ترجع بنا إلى مسألة التواقت التي توحي إلينا أن الزمان ليس بفكرة آنية كما تقرر علوم الطبيعة الكلاسيكية، وأن مفهوم السرعة مشتق منه، بل إن سرعة النور وثبات هذه السرعة يجب أن يعدا من المبادئ الأولية ومنها يشتق مفهوم الزمان. فكأننا براصد الحادثات مقيد بآلاته يقرر حسبما تتراءى له الحادثات، والزمان بالنسبة للمكان وليس هو بالشيء الوهمي الذي تصوره لورانتز بل له حقيقة موضوعية طبيعية.

إسماعيل أحمد أدهم

ص: 25

‌في ليلة العيد.

. .

للأستاذ علي الطنطاوي

يا أيها الغافلون. . . إن هذا العيد ليس لنا.

إن أعيادنا مخبوءة في ثنايا الماضي الفخم، ومطاوي المستقبل المنتظر.

(علي)

مشيت ليلة العيد في حاجٍ للعيال، فتأخرت في السوق، فركبت (الترام رقم1) لأروح إلى الدار، فكان مجلسي فيه قبالة شيخ ساهم رازم، عظيم اللحية، كأن رأسه ولحيته ثغامة بيضاء، زريْ الهيئة، رثْ الثياب. . . فأشرت إليه بالتحية وابتسمت له، فلا والله ما طرف ولا تحرك ولا ألقي إليْ بالاً، فجعلت أعجب منه، وأحاول أن أذكر من هو، وأين رأيت هذا الوجه، فلا أدري أين لقيته ولا أعرف من هو. ولا أستطيع أن أميز هذه الصورة من بين المئات من الصور التي اختلطت في نفسي وانطمست وضلّت عن أصحابها، ولكني كنت على مثل اليقين بأن لي بهذه الصورة عهداً. . . فلما بلغنا الدرويشية رأيت الشيخ يتحسس عصاه وبصره عالق بي، فأدركت أنه أعمى وأنه ينظر بعين قائمة، وعلمت سرْ امتناعه عن ردْ السلام. فرثيت له وأشفقت عليه، فلما سقط على العصا أعتمد عليها، فقام يتلمس الطريق، فهاجني الفضول وأثارتني الشفقة فقمت أتبعه، فإذا هو ينزل من الترام فيميل عن الجادْة، ويتجنب هذه البنى الجديدة ويتغلغل في تيك الخرائب، يضرب فيها على غير هدى، وأنا أتبعه مغتماً متألماً، أكره هذه الظلمة الداجية، وهذه الخرائب الموحشة، وأزمع العودة فلا تطيب نفسي بفراق هذا الشيخ وتركه يتخبط وحيداً في هذه المجاهل، فتعوذت بالله (من شرْ غاسقٍ إذا وَقب) ودنوت منه فحْييته وسألته:

- أتريد مساعدة يا عمْ؟

- قال: جزاك الله خيراً يا بني. . . فمن أنت؟

- قلت: عابر سبيل رآك فأحبْ مساعدتك

قال: أحسن الله إليك. . . قل لي: أين نحن؟

- قلت: في خرائب الدرويشية

قال: أعرف ذلك. . . هل وازينا القلعة؟

ص: 26

- قلت: نعم

قال: هل ترى قوسين كبيرين قائمين وسط هذه الأطلال؟

- قلت: نعم. . هذه دار آل هـ. . .

- قال: أتعرفها؟ (وبكى)

قلت: نعم أعرفها. فمالك تبكي يا عمْ؟

قال: تلك والله داري يا بني

فلما قالها صعقت وذكرت أين لقيت هذا الرجل، وعرفت من هو. ولكن ما بال هذه الشيبة، ما هذه العصا، ما هذه الثياب؟ ما الذي أناخ عليه فهدّ شبابه؟ أيْ سهم من سهام الدهر أصمى بصره؟ حرت وحزنت ولكني تجاهلت وقلت:

- دارك أنت يا عمْ؟

- قال: إي والله يا بني. . . ألم تسمع بها؟ لقد كانت من أجمل دور دمشق. لقد كان من تحت هاتين القوسين قاعة من أفخم القاعات، يؤمها السيْاح من أوربا وأمريكا ليروها ويعجبوا بما فيها. لقد كان فيها بركة مصنوعة من ألف وثلثمائة قطعة صغيرة من الأحجار الملونة. . . لقد دفعوا لي في سقفها الخشبي ثمانية آلاف دينار. . . ولكن ما فائدة الكلام؟ لقد خسرت ما هو أعزْ عليْ منها: زوجتي وأولادي. . .

(وأنطلق يبكي بكاء موجعاً)

لقد كان ذلك ليلة العيد، في مثل هذه الليلة. . . وكنا قد ذقنا في رمضان الأمرْين من الخوف والرعب، وكنا كأننا في ساحة حرب: بينما نحن جالسون آمنون، إذا بالرصاص يصفر، وإذا هي المعركة: يهجم عشرون من الثوار، فيطردون جيشاً فيلجئونه إلى القلعة ويضطرونه إلى الاعتصام بجُدُرها، ويؤوبون وقد غنموا ما شاءوا من مجد ومال وعتاد، فيخرج أولئك، فيتبخترون بالساحة (يطلبون الحرب وحدهم والنزال)، وتنطلق أفواه المدافع تلقي خطب البطولة على النساء والأطفال:

أسد عليّ وفي الحروب نعامة

فتخاء تنفر من صفير الصافر

هلا برزت إلى غزالة في الوغى

بل كان قلبك في جناحي طائر

آه يا بني. لا تلمني إذا بكيت وأذهب البكاء بصري، فقد سحقت المصيبة قلبي. . . كان

ص: 27

ذلك ليلة العيد، وكانت الدار تضحك سروراً، وترقص بهجة؛ وكان الأطفال ينتظرون مدافع العيد، ليفرحوا ويمرحوا، ويأخذوا عيديّاتهم. . . فلما انطلقت هتف الأطفال، وصاح النساء، وأبتسم الرجال، ولكن. . .

آه من لكن. . . لقد هدْت (لكن) كياني؛ لقد طمست بصري؛ لقد جعلتني قبراً يمشي، ولكن هذا السرور لم يدم؛ ولم تكن إلا لحظة حتى استحال الهُتاف بكاء، والصياح ولولة، والابتسام حيرة وجزعاً. لم تكن مدافع العيد، بل كانت مدافع الموت نزلت على أجمل دار في دمشق، وأهنأ أسرة فيها، فجعلت هذه الأسرة موزْعة بين الموت والشقاء، وهذه الدار مقسْمة بين النار والدماء، ثم انجلت العاصفة، فإذا هذه الدنيا الناعمة العريضة تلْ من التراب. . .

لقد حزنا وجزعنا، ولم ندر ماذا نصنع، فحملت الأم طفلها الرضيع، وأمسكت بطفلها الآخر، وكادت تنجو لولا أن عاطفة الأمومة قد عادت بها لتنقذ سائر أولادها، فسدت النار سبيلها فابتغت سبيلاً غيره، فأستقبلها اللهب، فماتت هي وأولادها، يلفّهم كفن من لسان النار الأحمر. . .

أما أنا وولدي الشاب رحمه الله على شبابه. . . أه! - أما نحن فما زلنا نجيء ونذهب، نحاول أن ننقذ هذا ونخلص هذه، حتى حملنا الجميع وكدنا ننجو، بل لقد نجوت أنا، وتلفت لأراه فحال بيننا اللهب، ورأيته يشير إلىْ بسلام المودع ثم يسقط صريعاً. . .

لم ينج إلا أنا وولدي الصغير، وليته لم ينجُ، ولكن ما ذنبه هو؟ إنه بريء، إنه نشأ على الفضيلة والعفاف، وربي على الاستقامة والشرف، فكان أكمل التلاميذ خلقاً وأجملهم خلقاً، وأقومهم سيرة، وأكثرهم اجتهادا؛ لم يعرف قط إلا طريق المدرسة، حتى إذا وقعت الواقعة لم يع على نفسه إلا وهو يدور في الأسواق ليلاً بإزار النوم، فاستحيا وجزع وعاد إلى الدار. . . فلم يجد داراً، وجد بقعة من جهنم وقودها الناس والحجارة، فأرتد هائماً على وجهه، وكان ذلك آخر عهدي به.

لقد نسى من بعد هذه الفترة من حياته، نسى أباه المفجوع وأمه الشهيد، وأخاه القتيل، وأهله الصرعى، وأستقر في نفسه أنه مخلوق نبت من الأرض، بين سوق علي باشا، والسوق العتيق، وشارع النصر، وميدان المرجة، ثم قادوه بعد إلى معابد الرذيلة، إلى مذابح

ص: 28

الأخلاق، إلى هذه المزابل القذرة، إلى العباسية وأولمبيا وتاجادا فقتلوه. . . آه يا بني إنهم لا يقتلون بالقنابل والرصاص والسيوف والخناجر إلا قليلاً، ولكنهم يقتلون دائماً، يقتلون الأمم بالحانات والقينات (الأرتستات) والأزياء والمدارس والقوانين. . .

وأدرك الشيخ العجزُ فهو إلى الأرض وهو يبكي ويشهق، وأن نفسه تكاد تخرج في شهقة من شهقاته.

كانت الأنوار تشع من العباسية، وأولمبيا، وتاجادا، والأمبير، وراديو، وروسكي، وهذه الملاعب الخشبية التي أقاموها على أطلال الدرويشية والسنجقدار احتفالاً بالعيد؛ وكانت أصوات الموسيقى، ورنات الضحك، وصيحات الفرح تشق سكون هذا الليل. . .

وكان الشيخ يجود بنفسه على أنقاض دمشق لا يدري به أحد

أما الشعب الثاكل فكان يرقص على رفات الشهداء، أما الشعب فقد كان يفرح بالعيد. . . . . . . . .

علي الطنطاوي

ص: 29

‌أيها الشبان!

لبول بورجيه

بمناسبة وفاته في 25 ديسمبر سنة 1935

ترجمة الأستاذ عبد الحليم الجندي

إليكم هذا الكتاب يا شباب الوطن، الذين تتراوح أعماركم بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين، والذين تبحثون في مؤلفاتنا عن جواب عن المسائل الآخذة عليكم مذاهب التفكير، أما الجواب فيعتمد قليلاً على حياتكم المعنوية حياة فرنسا ذاتها، فلسوف تسيطرون في العشرين سنة المقبلة على مصائر هذه الأمة العجوز. . . . . . . . . أمنا جميعاً

ماذا حصلتم من مؤلفاتنا؟ هذا سؤال يخاف الكتاب النزيهون من تبعاته. . . . .

في كتاب (التلميذ) بحث لهذه التبعات، وفيه دليل على أن الصديق الذي يطالعك وأنت تطالعه إنما يملؤه إيمان عميق بسلطان الأدب، ودليل آخر على أنه يفكر فيك أيام درجت تتعلم الهجاء، أيام كنا نحن كاسفي البال نوقع ألحان قريضنا الناشئ على رنين المدافع الفاغرة أفواهها على باريس، أيام كان كبارنا في صفوف المعركة، وكنا نحن الصغار في صفوف الجامعة، ترزح ضمائرنا تحت عبء فادح هو إحياء فرنسا.

كنا نناجيك يا شباب اليوم بما ناجاك به بانفيل: (أقبلوا أيها الفيلق المبارك، يا شباب الأيام التي لم تنفرط من عقد الزمان بعد، أقبلوا كالفجر الطالع، واملأوا آفاق الورى بالنور. . . .) كنا نتمنى أن يشرق فجركم وضاء يغمر الورى إشراقاً، فلقد كان فجرنا يختنق ببخار الدم الذي يسمم الأفق، وكنا نعرف أن علينا أن نعيد لكم فرنسا سيرتها الأولى؛ ولئن كنا صغاراً فلقد كنا نعلم أن أفضل ما علمنا أساتذتنا هو (أن الظفر أو الخذلان في الخارج إنما هما مظهر المنعة أو الانحلال الداخلي) كنا نعلم أن نهضة ألمانيا في فاتحة القرن لم تكن إلا عملاً من أعمال (النفس)، وكنا نعلم أن النفس الفرنسية هي التي انكسرت في حرب السبعين، وأن الأزمة الفرنسية إنما هي أزمة نفسية عبر عنها ديماس حينما قال: (. . . حذار. . . حذار. . . إنها برهة عجلى ما أسرع أن تفوت. . . تلك البرهة التي يمكن أن يكون فيها الفتى حساساً كله عواطف، أو متشككاً أو ساخراً أو مهذاراً. أما الله، وأما

ص: 30

الطبيعة، أما العمل والزواج والحب والبنون، فأولئك أمامك دائماً. . . أولئك يجب أن يحيوا أو أن تموت. .)

بلى: هذا الجيل الذي أنا منه والذي زخرت نفسه بالآمال الجسام، كم جاهد لمجد فرنسا!. إن نفسي لتذوب حسرات كلما تذكرت أن رجال السلطة قد تخلوا عنا في غضون هذا الجهاد العاصف، وأن الطبقة الوسطى هي التي غذت فرنسا في العشرين عاماً الماضية بالقادة والساسة والفنانين العباقرة حتى ليتساءل المرء:(ما أقدر هذا الفلك الفرنسي السيار! ما أكبر حيوية هذه الأمة الفرنسية! إن خُطاها لاتني حيث كانت تهلك أية أمة أخرى!) هذه الطبقة الوسطى التي شهدت بعض الزعماء يضحون بالعزيز عليها من العقائد بأسم الحرية، ودجاجلة سياسيين يلعبون على الاقتراع العام فيسمو التدجيل بكفاياتهم المتواضعة إلى أسمى الدرجات. . كم تحملت لتبعث فرنسا في العوالم من جديد. .! ولئن خطر الجند الفرنسيون ذهاباً وجيئة، أو أضمرت الحكومات لنا الاحترام، أو تقدم التعليم العالي، أو كانت الآداب الفرنسية ما برحت تحمل لفرنسا لواء العبقرية والمجد، فلهذه الطبقة الوسطى تلكم اليد العليا. .

كيف تحابك فرنسا وتنهض؟ هذه مسألة الساعة.

إنك لا تتذكر صورة أولئك الخيالة البروسيين وهم يتبخترون على أرض فرنسا، يهزون أعطافهم كبرياء، ويصعرون خدودهم صلفاً؛ أما نحن فكم غصصنا بهذه الرؤى. . وما كنا نحسب أن الصلح يمحوها من الأحلام، أو أنه سيسوي أسباب الخصام والسلام إنني أعلم أنك على استعداد لتهب في سبيل الوطن روحك، لكن ليس هذا الفخر، ولا يكفي أن تعلم كيف تموت، بل يجب أن تعلم كيف تحيا. . .

هل لك مثل أعلى من أمثالنا العليا؟ أفيك أيمان أقوى مما تنطوي عليه أضالعنا؟ هل لك آمال دونها آمالنا؟. . .

أن كان الجواب نعم، فشكراً.

وأن كان الجواب لا. . .

إن كان الجواب لا. . .

إن كان الجواب لا: فإن من شباب هذا الجيل طرازين كلاهما ثري وكلاهما مشئوم.

ص: 31

أما الأول فهو ذلك المرح المستهتر بالأشياء، الذي همه وكِبر مناه في الدنيا أن يستمتع، وعلى الأصح أن يصل وأن ينجح، فإذا كان سياسياً أو رجل أعمال أو أديباً أو محامياً أو فناناً أو ضابطاً فإنما (. . ذاته) هي الأمل المشتهى، وهي المبدأ والمنتهى؛ يندفع في تطبيق قانون تنازع البقاء على أساليب عيشه وكفاحه اندفاعا بربرياً؛ هولا يهوى من الحياة إلا النجاح، ولا من النجاح إلا المال؛ ولقد يقرأ ما أكتب كما يقرأ كل شيء ليكون فقط (. . مع الدنيا. .)؛ ولقد يرميني بأني أهزأ بالجمهور وما أنا إلا صورة منه؛ طراز إباحي في كل شيء؛ ليس المثل العالي لديه إلا فكاهة! فإذا مارس الديمقراطية مثلاً فليتبوأ مقعده في مجلس النواب. . . أو ليس ذلك الشيطان الرجيم؟. .

هذا الذي لم يقطع من مراحل الحياة خمساً وعشرين مرحلة وليست نفسه إلا (عداداً) لحساب الملذات.

ثم أرأيت إلى ذلك الأخر الأخلق بالزراية والمقت، هذا طراز قد اجتمعت له أرستقراطية الأعصاب والصلف، أبيقوري مهذب على نقيض الأول؛ فذلك أبيقوري متوحش، وهذا الأرستقراطي إباحيّ لبق؛ طافت كل الأفكار برأسه، فلا تحدثه عن التجديف أو عن المادية، فإن للمادة عنده معنى غير ذي حدود. . . هو أنفذ بصيرة من أن يجهل أن كل دين دانت له الدنيا في إبانة. . . هو لا يدين إلا (لذاته). . ليس الخير ولا الشر، ولا الجمال ولا القبح أموراً ذات بال تعنيه، وإنما نفسه (أداة) متعلمة يلتذ بتجريدها وتعطيل مزاياها كأنها موضوع تجارب، لا يفقه في الحق ولا في الباطل ولا في الإنسانية ولا في البهيمية، بل كما قال (بارس) تناهت به شهواته إلى عبادة ذاته أو لذّاته. . . . .

لا تكونوا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء أيها الفتيان. . . .

لا إلى الواقعيين المفرطين في عالم الحس، ولا إلى المتفيهقين المستهترين في عالم المعقول؛ ولا يركبنكم شيطان الغرور فيذلنكم للكبرياء والشعوذة، بل عليكم أن تجعلوا شعاركم:(إنما يحكم على الشجرة بما تؤتي من ثمار).

إن ثمة حقيقة لا مراء فيها لأنها بين الضلوع، تبصرونها وتحسون بها: تلك هي النفس. وإن من الفكَر التي تسيطر على أذهانكم لأفكاراً تضعف من قوى الإرادة والمحبة، فأعلموا أنها أفكار زيوف مهما طلاها السحر بالألوان. وزيدوا (المحبة والإرادة) نماء فليس سواهما

ص: 32

إلا عار دائم وعذاب مقيم.

وأعلموا أن العلم الصحيح اليوم يعرف أن حدود (العالم المجهول) تتاخم حدوده - وكما قال لتريه: هذا بحر غامض تلاطم شواطئنا لجاته، تشهده نواظرنا وآلهة، لا زورق يسبح بنا فيه ولا شراع. . . . فقولوا للأولى زعموا أن عنده الظلمات والهاوية:(إنكم لا تعرفونه)

وما دامت في جنوبكم هذه النفس فتعهدوها

إن فرنسا تريد من كل فرنسي أن يفكر فيها.

باريس في 5 يونيو سنة 1889

ص: 33

‌قصة المكروب كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

وكيل كلية العلوم

كوخ رابع غزاة المكروب

يكتشف مكروب الكلوليرا في مصر

- 7 -

وفي الرابع والعشرين من مارس عام 1882 اجتمعت الجمعية الفسلجية في برلين في حجرة صغيرة حقيرة بحجمها، كبيرة عظيمة بمن اجتمعوا فيها من أعلام رجال العلم في ألمانيا. فكان في الحاضرين بول أرليس وكان فيهم علاّمتنا الجهبذ الكبير الأستاذ الشهير رودلف فرشو الذي ذكرنا قِدْما ما كان من استهانته لكوخ المأفون ودعواه المزعومة في بشلات الأدواء. وكان في الحاضرين كل مقاتل للأمراض له أسم يذكر في ألمانيا.

ولما أكتمل الجمع، قام فيهم رجل صغير، جَعدُ الأسارير، على عينيه نظارتان، وفي يديه أوراق أخذ يقلبها في خَبلة ظاهرة وهي لا تفتأ ترتعد بين أنامله وأخذ يتكلم فأضطرب صوته اضطراباً خفيفاً. هذا كوخ قام يخبر الجماعة في تواضع رفيع كيف تأتى له أن يكشف عن مكروب هذا الداء الذي يحظى بنصيب الأسد من الأدواء فيفوز برجل من كل سبعة يموتون. وأخبرهم دون أن يُجلجل بصوته، فِعلَ مصاقع الخطباء، أن أطباء العالم يستطيعون اليوم التعرّف إلى بَشلِة السل ودرس عاداتها وخصائصها. وأخذ كوخ في الحديث عن هذه البشّلة، أصغرِ أعداء الإنسان وأكبرها به فتكاً، فعرّفهم بمكامنها ومراصدها وبمظاهر ضعفها ومظاهر قوتها، وأراهم طرائق لو أنهم سلكوها فلعلهم ماحون هذا المكروب القتال من على ظهر البسيطة.

وجلس كوخ، وأنتظر النِّقاش والحِجَاج والمعارضة التي لا بد منها عندما يختم باحث عرض بحث ثوريّ كالذي نحن بصدده. ولكن لم يقف رجل على قدم، ولم تنفرج بكلمة واحدة شفتان. وأخيراً اتجهت الأنظار إلى فرشو، سلطان دولة العلم الألمانية، ومهبط وحي

ص: 34

الآلهة، والرجل الرّعاد الذي كان يعبس للنظرية الجديدة تهم بالظهور في تفسير الأدواء فيقضي عليها قبل ولادتها.

اتجهت الأنظار إلى هذا الداهية، فأنتصب قائماً، ووضع قبعته على رأسه، وغادر المكان - فلم يكن عنده ما يقول!

لو أن لوفن هوك كشف هذا الكشف الخطير في قرنه السابع عشر، أي قبل أيام كوخ بمائتي عام، لأستغرق انتشار خبر ذلك في أوربا أشهراً عديدة طويلة؛ أما في عام 1882، فلم ينفضّ اجتماع الجمعية الفسلجية حتى شاع خبر هذا الكشف في الناس، وحمله البرق في نفس الليلة إلى أقاصي اليابان شرقاً إلى أقاصي أمريكا غرباً. وأصبح الصباح فكنت تراه في جرائد الأمم كالقنبلة انفجرت على صفحاتها الأولى. وهاجت الدنيا وماجت لاكتشاف كوخ، وجاءه الأطباء زرافاتٍ في السُّفُن وعلى القُطُر تسأله تعليمهم كيف يُطبخ الفالوذج اللحم، وكيف تُضرب المحاقن مليئةً بالجراثيم في أجسام الخنازير وهي تعتلج وتضطرب.

كشف بستور ما أكتشف، فأثار فرنسا من جرائه إلى التشاحن والتطاحن. أما كوخ فكشف عن مكروبة السل الخطيرة فهزّ بها الدنيا هزّاً. وكلما أجتمع حوله المعجبون صرفهم بتلويحة من يده وهو يقول:(ليس لكشفي كل هذا الخطر الذي تزعمون). وتهرّب منهم، وتهرّب من تلاميذه يتفرغ ما استطاع لأبحاثه الجديدة. وكان مثل لوفن هوك يكره التدريس، ولكنه غُصب عليه فكان يأتيه كاظماً كرهه، إلا تمتمةً وراء شفتيه، فدرّس ليابانيين يتكلمون الألمانية سقيما، وكلامهم بها أيسر عليهم من فهمهم إياها. ودرّس لبرتغاليين كانوا قوماً يستحيل عليهم صيد المكروب ولو تعلموه على كوخ مائة عام. وخاصم بستورَ خصومة كبرى سنأتي عليها في الباب القادم. وقام بين الفينة والفينة بتعليم عونه القديم جَفْكيِ كيف يتصيد مكروب التيفود. وأضطُر اضطراراً إلى حضور استقبالات.

وتقبّل الشارات، فإذا فرغ من هذه عاد إلى عونه الآخر لُفلار وكان من ذوي الشوارب الكبيرة الرائعة فأعانه فيما هو فيه، وكان قد أخذ في سبيل اقتناص ذلك المكروب الذي يَقْطُر سمّاً في حلوق الأطفال الرضّع فيميتهم اختناقاً، وأعني به مكروب الدفتريا.

أكتشف كوخ طريقته لتكثير المكروب على سطوح الأطعمة الجامدة، وهي طريقة مُغرقة

ص: 35

في البساطة، إلا أنها على بساطتها فتحت له أبواباً شتى إلى كشوف شتى. ووصفها جَفْكيِ بعدئذ بزمن فقال إنها كانت كالشجرة المباركة، كُثر طرحها، وثقلت به فروعها، فما كان على كوخ إلا أن يهز بجذعٍ فتساقط في حجره بكل جَنيٍ من ثمرها.

لقد قرأت جميع ما كتب كوخ فلم أجد في شيء منها قرينة تدل على أنه عد نفسه يوماً كشافاً كبيراً ومبتكراً ذا بال. وهو لم يستشعر يوماً - كما أستشعر بستور - أنه كان بحق قائداً عظيماً في حربه التي أثارها على المكروب، وقد كانت من أشد الحروب التي أثيرت عليه، ومن أجمل الوقائع التي دبرّها الإنسان لصد غارات الطبيعة ودفع قساواتها. كان هذا الرجل القصير القليل الملتحي لا يطلب إلى الشهرة سبيلاً، ولا يمثل من أجلها في الناس تمثيلاً. ولكنه مع هذا رفع على مسرح الكون ستاراً عن درامة أخذت فصولها تتكشف عن معارك حامية أثارها اللاحقون من العلماء على رسل الموت مترسمين فيها خُطى هذا السبّاق الأول، مخاطرين بأرواحهم إلى حد النزق، وبأرواح سواهم إلى حد الأجرام، كل هذا ليثبتوا أن المكروبات أسباب الأدواء.

ولنضرب مثلاً لهؤلاء رجلاً يدعى الدكتور فِيلَيسِنْ خرج من معمل كوخ، فوجد مكروباً مستديراً كالكرة، وقد تشبث بعضه ببعض فأصبح كحبات السّبحة، فأخذ هذا المكروب من جلد أنتزعه تقويراً من مرضى بداء الحمرة، ثم رّباه، وبناء على نظرية حمقاء تقول إن إصابة من داء الحمرة قد تذهب بداء السّرطان، أطلق صاحبنا البلايين من هذه المكروبات في مرضى مسروطين قلّ الرجاء فيهم، وبعد أيام قلائل التهبت جلود هذه الحيوانات التجريبيّة من بني الإنسان بداء الحمرة وكاد يقضي عليهم قضاء مبرماً، وفاز صاحبنا الأرعن ببرهانه: إن هذه الحبّات السُّبحية سبب داء الحمرة.

ولنضرب مثلاً آخر تلميذاً من تلاميذ كوخ، وبطلاً من الأبطال الذين ذهب بأسمائهم الزمان، وعفى على ذكراهم النسيان، ذلك الدكتور جاريه بمدينة بازل فهذا الرجل سمع بستور يدّعى أن نوعاً آخر خاصاً من المكروب هو سبب الدمامل التي تصيب الإنسان، فما كان منه إلا أن قام إلى أنابيب اختبار ملأى بهذا المكروب فدعك بها ذراعه، فكان جزاءَه خُراجٌ كبير وعشرون دُمّلاً؛ وكان من الجائز أن يذهب ضحية جسارته، ولكنه أحتمل أوجاعه بسن ضاحكة، ووَصف ما لَقَي بأنها تجربة (غير لطيفة)، وصاح اغتباطاً بفوزه

ص: 36

قال: أنا الآن أعلم أن هذه الحبوب العنقودية هي سبب الدمامل والخراجات.

وجاء عام 1882 وقارب الختام، وانتهى بانتهائه الخصام الشديد الذي قام بين بستور وكوخ؛ وهو خصام على شدته لم يخل مما يضحك. أما بستور فأنفض يتفرغ بكل حوله إلى غياث الشياه والأبقار الفرنسية مما أصابها. وأما كوخ فأنفض يتشمم كالكلب في آثار مكروب جديد، هو في ذاته سهل القتل سريع الفناء، إلا أنه مع هذا شر المكروبات افتراساً للناس؛ ذلك مكروب الكوليرا. ففي عام 1883 جاءت الكوليرا من آسيا تطرق باب أوربا. فرّت من مخابئها في الهند وتسلَّلَت في خفاء عَبْرَ البحار، وجازت الصحراء والرمال إلى مصر، ثم انبثت بعدواها المخيفة في الإسكندرية، وبقيت أوربا تنظر إليها من وراء البحر الأبيض وَجلِة مرتاعة. خيّمت هذه الوافدة الُمنكَرَة على ميناء مصر الحيّة فخفّ نبض الحياة فيها، وعم السكون شوارعها اكتئاباً لفواجع النهار الحاضرة، وارتقاباً لفواجع الليل التي هي لا بد آتية؛ ولم يكن يدري الناس من أمر هذه الوافدة شيئاً، إلا أنها وباء يسترق طريقه خُفيةَ إلى جسم الرجل السليم في الصباح، فإذا أتى العصر التوى تشنجاً وانطوى ألماً، فإذا خيّم الليل تباعد إلى الأبد ما بينه وبين الآلام.

وتنافس كوخ وبستور في كشف مكروب هذه الوافدة التي طلعت نُذُرها حمراء في الأفق البعيد. وما التنافس بين كوخ وبستورإلا تنافس بين ألمانيا وفرنسا. فقام كوخ وصاحبه جَفْكِي عن برلين قاصدين إلى مصر، وحملا معهما مكرسكوبات وحيوانات؛ وكان بستور في شُغْل شاغل يبحث مكروب الكلَب، فأوفد عنه أميل رُو والصموتَ السَّكوت تويّيه وكان أصغر بُحّاث المكروب في أوربا. وعمل كوخ وصاحبه الليل والنهار، فنسيا النوم والطعام، وقاما في حجرات موحشة يقطّعون جثث الموتى من المصريين. وقاما في معمل شديد الحر شديد الرطوبة حتى كاد جوه يتقطر ماء، كما تقطرت أنفاهما عرقاً على مكرسكوباتهما - قاما يحقنان قردة وكلاباً وقططاً ودجاجاً وفئراناً بالمواد الوبيئة التي استخلصاها من جثث الإسكندريين الذين ماتوا من الوافدة قريباً. ولكن بينما الفريقان الألماني والفرنسي يستميتان في طلب هذا المكروب الجديد، إذا بالوافدة تتزايل لغير ما سبب ظاهر، كما كانت جاءت لغير علة معروفة. ولم يكن منهم من تمكن من معرفة شيء عن المكروب المنظور، فنظروا إلى الموت المتراجع نظرة الآسف على فرصة أمكنت ثم

ص: 37

أفلتت.

وهّم كوخ وجَفْكِي بالرجوع إلى برلين، وبينما هما يتأهبان للرحيل جاءهم رسول ينتفض ارتعاداً، فقال لهم: إن الدكتور تويّيه الباحث الفرنسي مات، ومات بالكوليرا.

كره بستور كوخ كرهاً شديداً، وأخلص له بالكره بقدر ما يكره الفرنسي الصميم؛ وكره كوخ بستور كرهاً شديداً، وأخلص له الكره بقدر ما يكره الألماني الصميم. ومع كل فما علم الألمانيان بالخبر خفَّا إلى رُو يقدمان عزاءهما ويبذلان عونهما. وصحب كوخُ رفات توّييه إلى مقره الأخير، وقد حملوه في صندوق بسيط عار من الزخرف. ولدى قبره وضع كوخ على تابوته الإكليل وقال (إنها غاية في البساطة، إلا أنها من الغار. العرف يجري بأن الغار هدية الأبطال). مات هذا الشاب الجسور، أماتته تلك المكروبات الضعيفة التي جاء يتقفاها أقتناصاً، فأقتنصته في الطِّراد من حيث لا يدري.

وانتهت جنازة هذه الضحية الأولى، فعاد كوخ إلى برلين ومعه صناديق بها عينّات كان صبغها بصبغات قوية فتراءت فيها مكروبة على صورة الواو. فكتب تقريره إلى وزير الدولة، وقال فيه:(لقد وجدت جرثومة واحدة في كل حالات الكوليرا التي بحثتها. . . . ولكني لم أثبت أنها سبب هذا الداء، فابعث بي إلى الهند حيث توجد الكوليرا دائماً. . . . ففي الذي وجدته ما يكفي لتبرير إرسالي إليها).

وغادر كوخ برلين قاصداً كلكتّا تصحبه ذكرى (توّييه) وذكرى فاجعته التي كانت. وصحبه خمسون فأراً قام عليها وصياً راعياً. وزاد دوار البحر في عنته. فكثيراً ما تصورت ما خاله ركاب السفينة من أمره، لعلهم ظنوه مبشراً حمله تحمسه على ما هو فيه؛ أو لعلهم حسبوه أستاذاً همه التنقيب عن تراث الهند القديم ووجد كوخ تلك المكروبة الواوية في كل جثة في جثة من الجثث الأربعين التي فحصها. ووجدها كذلك في مَعي المرضى عند أول إصابتهم بالكوليرا. ولم يجد أثراً لها في مئات الهنود الأصحاء الذين أمتحنهم. ولم يجدها في أي حيوان سليم، من الفأر الصغير إلى الفيل العظيم.

وسرعان ما تعلّم كوخ تربية هذه البشلات الواوية نقيةً على فالوذج حساء لحم الأبقار، وما استطاع القبض عليها في أنابيب اختباره حتى درس عادات هذه المخلوقات النباتية الصغيرة الشريرة فعرف أنها تموت سريعاً إذا هي جففت ولو تجفيفاً طفيفاً، وعرف كيف

ص: 38

تتسلل إلى الرجال الأصحاء من ثياب الموتى وأفرشتهم بعد أن تتلوّث بأقذارهم؛ واستخرج هذه الواوات عينها من صهاريج الماء الآسن التي أجتمع الهندوس حولها في أكواخ حقيرة، بل زرائب بائسة، تخرج منها توجعات المرضى يستعْدون على الموت وليس من يُعدى ولا من يعين.

وركب كوخ البحر عائداً إلى بلده، فأستقبله الألمان استقبالهم قائداً عاد منتصراً، وأجتمع له العلماء الأطباء فقال فيهم:(إن الكوليرا لا تنشأ من ذات نفسها، فلا بد للمكلور من ابتلاع بَشِلَّتها الواوية، وهذه البشلة لا يمكن أن تنشأ إلا من بشلة مثلها، وهي لا تنشأ من شيء آخر غير هذه البشلة، وهي لا تنشأ من العدم، وهي لا تنمو وتتكاثر إلا في أمعاء الإنسان، وإلا في الماء إذا زاد قذره كماء الهند).

ألا حمدا ًلكوخ ولأبحاث كوخ وشجاعته، فهي التي أمنت أوربا وأمريكا من غارات هذه الوافدة الشرقية، ولم يبق لتأمين العالم منها إلا تمدين الهند ونشر الأنظمة الصحّية فيها.

- 8 -

من يد الإمبراطور نفسه تسلم كوخ وسام التاج بنجمته؛ ومع هذا ظلت قبعته الريفية مطمئنة على رأسه الأكيس؛ وكلما أعجب به المعجبون وأثنى عليه المادحون قال: (أنا إنما أفرغت كل وسعي، فأن كنت نجحت فوق نجاح غيري، فما هذا إلا لأني وقعت اتفاقاً من مجاهل العلوم الطبية على أصقاع بكرٍ بها التِبْر كثير مركوم. فليس لي في الذي وجدت فضل كبير)

كان البحّاث الذين اعتقدوا أن المكروبات أسباب الأدواء وأعداء الإنسان رجالاً شجعاناً، ولكن هذه الشجاعة لم تفت خصومهم من الأطباء الأقدمين وعلماء الصحة المحافظين الذين هزءوا بالأحاديث الجديدة عن المكروبات المزعومة وظنوها ضلالة وخرفاً، ومن هؤلاء الخوارج الأستاذ الشيخ بيتنكوفر أستاذ ميونيخ وزعيم الشكاكين الذين لم تقنعهم تجارب كوخ على بساطتها ووضوحها. فلما عاد كوخ من الهند ومعه هذه المكروبات الواوية التي آمن بأنها أسباب الكوليرا، كتب له بيتنكوفر ما معناه:(أرسل إلي شيئاً من جراثيم الكوليرا المزعومة، وأنا أثبت لك أن لا ضرر فيها)

وبعث كوخ إليه بأنبوبة تعج بهذه الجراثيم القتالة، فما كان من صاحبنا إلا أن رفعها إلى

ص: 39

فمه وأبتلعها ابتلاعاً. فأرتاع كل صياد يؤمن بالمكروب، فقد كان في هذه الأنبوبة بلايين من هذه الواوات تكفي لعدوى جيش؛ ولكن الأستاذ تمطى بعد ما شربها استخفافاً وصاح يتحدّى من خلَل لحيته الكثة:(والآن فلنصبر وننظر هل تجيئني الكوليرا كما يزعمون)، وانتظروا ولكن الكوليرا لم تأت لهذا الأستاذ المجنون، ولآي سبب تخلفت؟ لم يعلم أحد عندئذ ولا يعلم أحد إلى الآن من سر هذا شيئاً.

بلغ النزق الجسور بيتنكوفر أن قام بتجربة جاز أن يكون بها قضاؤه، وبلغ كذلك به اليقين بعدها أن زعم أنها قضت له قيما بينه وبين خصومه. فصاح فيهم:(ليس للمكروب شأن في الكوليرا، إنما الشأن لاستعداد الشخص المصاب)، والاستعداد كلمة مبهمة لا مفهوم لمعناها.

فصاح كوخ يجيبه: (لا كوليرا إلا بالبشلات الواوية).

فرد عليه بيتنكوفر: ((ولكني بلعت الملايين من بشلاتك القاتلة في زعمك ولم يصبني حتى وجعٌ في بطني).

كان في هذا الحوار، وأسفاه، ما يكون بكل حوار علميّ شديد: كلا الطرفين مصيب بعض الإصابة، وكلاهما مخطئ بعض الخطأ. فقد توالت الأربعون عاماً التي جاءت من بعد كوخ بحوادث كلها تؤيده في قوله إن الناس لا تأتيهم الكوليرا إلا إذا هم بلعو بشلته الواوية؛ وكل السنين التي توالت علمتنا أن تجربة بيتنكوفر ما هي إلا مثل غامض من كثير أَبَت حُجُب المجهول أن تكشف لنا عن تفسيره، حتى في هذا العصر الحاضر الذي نحن فيه عجز بحاث المكروب عن رفع طرف واحد من تلك الحجب الكثيفة، فالمكروبات الفاتكة تملأ الكون، وتنسّل إلى كل مكان، وهي مع ذلك لا تقتل منا إلا بعضنا؛ أما بعضنا الآخر فإنه يقاوم مقاومة تحير عقولنا اليوم كما حيرت عقول الجيل الصاخب في العقد الخامس من القرن الماضي، حين الرجال لا يبالون بالموت في سبيل إثبات ما يدعون أنه الحق؛ فما كان بيتنكوفر هازلاً فيما صنع. وكيف يهزل من مشى إلى الموت حتى صار منه على مدى شبر واحد. وقد بلع غيره من البحّاث على غير عمد مِثل الذي بلع من مكروب الكوليرا وماتوا على أثر ذلك شر ميتة.

وما قاربت أيام كوخ العظيمة تمامها حتى أخذ بستور وأعماله الكبرى تتراءى مرة أخرى ضخمة هائلة، فتلفت الناس والدنيا وتَزُجّ بكوخ وبغيره من البحاث إلى الوراء في رقعة

ص: 40

الحوادث الخطيرة. فلندع الآن كوخ، ولنتركه إلى مواطنيه الطماحين ينصبون له غير عامدين شركا، بل داهية عظمى ومأساة كبرى طمست قليلاً من وهج هذا الاسم الكبير، أسم الرجل الذي أقتنص من أعداء الإنسان والحيوان مكروب الحمرة ومكروب الكوليرا ومكروب السل. وقبل أن أعود إلى بستور فأكشف عن الصفحة الأخيرة الناصعة من سفر حياته الخالد، دعوني أرفع قبعتي وأنحني احتراماً لكوخ - هذا الرجل الذي أثبت يقيناً أن المكروب ألدّ أعدائنا؛ هذا الرجل الذي نظّم بحث المكروب فجعل منه علماء؛ هذا الربّان الذي قاد السفائن في عصر من بطولة وأبطال عفّي الآن عليه النسيان بعض العفاء.

(انتهى كوخ)

أحمد زكي

ص: 41

‌من روائع الشعر الأندلسي

رثاء الأندلس

لشاعر أندلسي مجهول

. . . . قصيدة بليغة من الأدب الأندلسي الرائع تصف أحسن وصف المأساة الأندلسية لم نعثر على قائلها، وقد طبعها لأول مرة على ما يظهر الأستاذ الدكتور صوالح محمد بالجزائر سنة 1914 مع ترجمة فرنسية وبعض تعليقات بالفرنسية ذكر فيها أن هذه القصيدة من جملة قصائد بعث إلى السلطان بايزيد العثماني بقصد الاستغاثة، وأشار إلى أن صحيفة الزهرة التونسية نشرت نتفاً منها منذ سنوات وطلبت من الأدباء أن يعلنوا عن صاحبها إذا عرفوه، ولكن لم يجب الصحيفة أحد: فبقي صاحبها مجهولاً؛ وقد عْرضتها على المؤرخ المغربي الكبير السيد محمد بن علي الدكالي السلوي فذكر لي أن صاحبها كما يفهم من القصيدة من مدينة المرية، ولعله أبو جعفر بن خاتمة، وقد تكون مذكورة في كتاب له يسمى مزية المرية الموجود منه نسخة خطية بمكتبة الأسكوريال.

ولقد أحببت أن أرسل إليكم نصها لكي تنشروه في مجلتكم الحافلة إذا راقكم لعل بين المشتغلين بالأدب الأندلسي من له معرفة بقائلها فيعلنه.

سلا - مراكش

عبد الرحمن حجي

أحقاً خبا من جَوِّ رندَة نورها

وقد كسفت بعد الشموس بدورها

وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت

منازهها ذات العلا وقصورها

أحقاً خليلي أنَّ رندة أقفرت

وأُزعج عنها أهلُها وعشيرها

وهُدَّت مبانيها وثلت عروشها

ودارت على قطب التفرق دورها

وكانت عقاباً لا يُنال مطارُها

ومعقل عز زاحم النسر صوُرُها

هوت رندة الغراء ثم حصونها

وأنظارها شنعاء (كذا) عز نظيرها

وقد كن عقدا زين القطر نظمها

فقد فتح الآن البلاد نثيرها

وفرق شمل المؤمنين لهيبها

وقطع من أرحامهم زمهريرها

ص: 42

تسلمها حزبُ الصليب وقادَها

وكانت شروداً لا يقاد نَفورُها

وقد ذهبت أديانها ونفوسها

وقد دثرت تحت السباء دثورها

فباد بها الإسلام حتى تقطعت

مناسبها وأستأصل الحق زورها

وأصبحت الصلبان قد عبدت بها

تماثيلها دون الآله وصورها

لقرع النواقيس اعتلى بمنارها

كرائه أصوات يروع صريرها

فيا ساكني تلك الديار كريمة

سقى عهدكم مزن يصوب نميرها

أحقاً أخلائي القضاء أبادكم

ودارت عليكم بالصروف دهورها

فقتل وأسر لا يفادي وفرقة

لدى عرصات الحشر يأتي سفيرها

لعمر الهدى ما بالحشا لفراقكم

سوى حُرَق سُحم تلظى سعيرها

ولوعة ثكل ليس يذهب روعها

ولا تنقضي أشجانها وزفيرها

ونفس على هذا المصاب حزينة

يذوب كما ذاب الرصاص صبورها

وقلب صديع ماج فيه بلاؤه

سويداؤه سوداء جمٌّ ثبورها

سأبكي وما يجدي على الفائت البكى

بعبرة حزن ليس يرقا عبورها

شآبيب دمع بالدماء مشوبة

يساجل قطر الغاديات درورها

عويلاً يوافي المشرقين بريحه

وثكلاً بأقمار قد أطفئ نورها

فوا حسرتاكم من مساجد حولت

وكانت إلى البيت الحرام شطورها

ووا أسفاكم من صوامع أوحشت

وقد كان معتاد الأذان يزورها

فمحرابها يشكو لمنبرها الجوى

وآياتها تشكو الفراق وسورها

وكم من لسان كان فيها مرتِّل

وحفل بختم الذكر تمضي شهورها

وكم من فتى ثبت الجنان مهذب

يود المنايا وهو كان يديرها

يصول على الأبطال صولة ضيغم

فيرهبه شبل الشرى وهصورها

له في سبيل الله خير نقيبة

تزان لها عِين الجنان وحورها

له في جناب الكفر أجدى نكاية

وشعواء غارات يثاب مغيرها

يُراع لها دين الصليب وحزبه

ويخزى بها غنُصالها ورُمِيرُها

وكم أنفس كانت لديه أسيرة

فأضحى لعمر الله وهو أسيرها

ص: 43

تحكم فيه الشرك وهو موحد

كما قد قضى جبارها ونذيرها

وكم طفلة حسناء فيها مصونة

إذا سفرت يسبي العقول سفورها

تميل كغصن البان مالت به الصبا

وقد زانها ديِباجها وحريرها

فأضحت بأيدي الكافرين رهينة

وقد هتكت بالرغم منها ستورها

وقد لطمت وَاَحرَّ قلبي خدودها

وقد أسبلت وأدمع عيني شعورها

وإن تستغث بالله والدين لا تغث

وإن تستجر ذا رحمة لا يجيرها

وقد حيل ما بين الشفيق وبينها

وأسلمها آباؤها وعشيرها

وكم من عجوز يحرم الماء ظمؤها

على الذل يطوي لبثها ومسيرها

وشيخ على الإسلام شابت شيوبه

يمزق من بعد الوقار قتيرها

وكم فيهمُ من مهجة ذات ضجة

تود لو انظمت عليها قبورها

لها رَوعة من وقعة البين دائم

أساها وعين لا يكف هديرها

وكم من صغير حيز من حجر أمه

فأكبادها حراء لفحُ هجيرها

وكم من صغير بدل الدهر دينه

وهل يتبع الشيطان إلا صغيرها

وكم من شقيّ يسرت هذه له

سبيلاً إلى العسرى يحيف كفورها

كروب وأحزان يلين لها الصفا

عواقبه محذورة وشرورها

فيا فرحة القلب الذي عاش بعدها

ويا لعمى عين رآها بصيرها

ويا غربة الإسلام بين خلالها

ويا عشرة أنَّى يقال عثورها

ويا ليت أمي لم تلدني وليتني

بليت ولم يلفح فؤادي حرورها

وما خير عيش يعذب الموت دونه

ويغبط قل الأهل فيه كثيرها

فيا ليت شعري بعد ما صح موتها

أيرجي على رغم العداة نشورها

ويا ملة الإسلام هل لك عودة

لأرجائها يشفي الصدور صدورها

وهل تسمع الآذان صوت الأذان في

معالمها تعلو بذاك عقيرها

ويا لعزاء المؤمنين لفاقة

على الرغم أغنى من لديها فقيرها

لأندلسَ ارتجت لها وتضعضعت

وحق لديها محوها ود ثورها

منازلها مصدورة وبطاحها

مدائنها موتورة وثغورها

ص: 44

تهائمها مفجوعة ونجودها

وأحجارها مصدوعة وصخورها

وقد لبست ثوب الحداد ومزقت

ملابس حسن كان يزهو حبورها

فاحياؤها تبدي الأسى وجمادها

يكاد لفرط الحزن يبدو ضميرها

فلو أن ذا ألف من البين هالك

لذابت رواسيها وغاضت بحورها

على فرقة الدين الذي جاءها به

بشير الأنام المصطفى ونذيرها

فمالقة الحسناء ثكلى أسيفة

قد استفرغت ذبحاً وقتلاً حجورها

وجزت نواصيها وشلت يمينها

وبدل بالويل المبين سرورها

وقد كانت الغربيّة الجُننَ التي

تقيها فأضحى جنةَ الحرب سورها

وبلّش قطت رجلها بيمينها

ومن سريان الداء بان قطورها

وضَحّت على تلك الثنيات حجرها

فأقفر مغناها وطاشت حجورها

وبالله إن جِئتَ المنكب فأعتبر

فقد خف ناديها وجفّ نضيرها

وسكّرُها قد بدل اليوم علقماً

لها رجة نار الهيام تثيرها

وعرجْ على الإقليم فأبك ربوعها

بسحب يضاهي المعصرات خريرها

وودع بها وفد النعيم فأنها

لها أدمع فين الدموع يميرها

ألا ولتقف ركب الأسى بمعالم

قد أرتج باديها وضج حضورها

بدار العلى حيث الصفات كأنها

من الخلد والمأوى غدت تستطيرها

محل قرار الملك غرناطة التي

هي الحضرة العليا زهتها زهورها

فما في العراقين العتيقين مثلها

ولا في بلاد الله طراً نظيرها

تُرَى الأسى أعلامها وهي خشع

ومنبرها مستعبر وسريرها

ومأمومها ساهي الحجى وإمامها

وزائرها في مأتم ومزورها

لها حال نفس قد أصيب فؤادها

وبتت لها اليمنى وحم تبورها

فأنفسها في الصعق دون إفاقة

كنفس كليم الله إذ دك طورها

وقد ذعرت تلك البنيّات حولها

فهن بواكي الأعين الرمد مُورها

وقد رجفت وادي الأشى فبقاعها

سكارى وما استاكت بخمر ثغورها

لقد أظلمت حتى لفرط حدادها

سواء بها نجل العيون وعورها

ص: 45

وبسطة ذات البسط ما شعرت بما

دهاها وأنى يستقيم شعورها

على عظم بلواها وطول وبالها

وما كابدت من ذا المصاب نحورها

وما أنس لا أنس المرية إنها

قتيلة أو جال أزيل عذارها

فلو أحرق الثكل المصابين أصبحت

تأجج من حر الو جيف بحورها

فيا أصدقائي ودعوها كريمة

أو استدعوها مَن إليه أمورها

منازل آبائي الكرام ومنشئي

وأول أوطان غذانيَ خِيرها

وأقروا عليها من سلامي تحية

تجددها آصالها وبكورها

أماناتها ضاعت فضاعت رقابها

لقد عميت عين تبدد نورها

أضعنا حقوقَ الرب حتى أضاعنا

وقضت عرى الإسلام إلا يسيرها

وملتنا لم نعرف الدهر عرفها

من النكر فأنظر كيف كان نكيرها

بما قد كسبنا نالنا ما أنالنا

كذا السيرة السوأى لدى من يسيرها

بشقوتنا الخذلانُ صاحب جمعَنا

ويؤنا بأحوال ذميم حضورها

بعصياننا استولى علينا عدونا

وعاثت بنا أسد العدا ونمورها

نعم سلبوا أوطاننا ونفوسنا

وأموالنا فيئا أبيحت وفورها

علوها بلا مهر وما غمزت لهم

قناة ولا غارات عليهم ذكورها

وقد عوت الإفرنج من كل شاهق

علينا فوفَّت للصليب نذورها

وقد كثرت ذؤبانها وكلابها

وقد كسرت عقبانها ونسورها

وجاءت إلى استئصال شأفة ديننا

جيوش كموج البحر هبت دَبورها

علامات أخذٍ مالنا قِبَلٌ بها

جنايات أخذ قد جناها مثيرها

فلا تمتحي إلا بمحو أصولها

ولا تنجلي حتى تخط أصورها

معاشر أهل الدين هبوا لصعقة

وصاعقة وأرى الجسوم ظهورها

أصابت منار الدين فأنهد ركنه

وزعزع من أكنافه مستطيرها

أدارت علي غريبة الدهر أكؤساً

فظاعا بسكر الدهر تقضي خمورها

ودبت أفاعيها إلى كل مؤمن

وعضّ بأكباد التقاة عَقُورها

أنادي لها عجم الرجال وعربها

نداء سراة القفر إذ ضل عيرها

ص: 46

وأستنفر الأدنى فالأدنى فريضة

على زمر الإسلام جلت أجورها

على كل محتاج لفضل دفاعها

فليس يؤدي الفرض إلا نفيرها

ألا وارجعوا يا آل دين محمد

إلى الله يغفر ما أجترحتم غفورها

أنيبوا وتوبوا واصبروا وتصدقوا

وردوا ظُلامات يبيد نقيرها

ومن كل ما يردي النفوس تطهروا

فليس يزكي النفس إلا طهورها

لا واستعدوا للجهاد عزائماً

يلوح على ليل الوغى مستنيرها

بأسد على جُرد من الخيل سبق

يدعُّ الأعادي سبقها وزئيرها

بأنفس صدق موقنات بأنها

إلى الله من تحت السيوف مصيرها

تروم إلى دار السلام عرائساً

على الله في ذاك النعيم مهورها

وضرب كأن الهام تحت ظلالها

حثالة نور الورد ذرَّ ذرورها

وطعن يرى الخطِّىَّ في مهج العدا

كأقلام ذات الخط خطت سطورها

يمين هدى إن تتقوا الله تنصروا

وتَحْظَوا بآمال يشوق غريرها

فلا يَخذل الرب المهيمن أمة

تدين بدين الحق وهو نصيرها

وأن أنتمُ لم تفعلوا فترقبوا

بوادر سخط ليس يرجى فتورها

وأيام ذل واهتضام وفرقة

يطاول آناء الزمان قصيرها

وأهدوا لدين الشرك كل خريدة

خبتها على طول الليالي خدورها

وكل نفيس من نفوس كريمة

وأعلاق أموال خطير خطيرها

وحق العظيم الشأن لا عيش بعدها

بلايا يمر الطيبات مرورها

فنرفع شَكْوَاهَا لعالم سرها

فليس لها في الخبر إلا خبيرها

نمد أكف الذل في باب عزه

بأفئدة خوف الفراق يطيرها

فأن لم يُقِل رب العباد عثارَنَا

فهذا العدو الضخم حتماً يبيرها

آله الورى ندعوك يا خير مرتجىً

لكالحة هز الصليبَ سرورها

وشقت جيوب المؤمنين وأسخنت

عيونهمُ والكفر ظل قريرها

وليس لها يا كاشف الكرب ملجأ

إذا لم يكن منك التلافي ظهيرها

أغث دعواتِ المستغيثين أنهم

ببابك موقوفو الحشاشات بورها

ص: 47

وليس لهم إلا الرسول وسيلة

شفيع الورى يوم التنادي بشيرها

أمام الهدى بحر الندى قامع العدا

وأول رسل الله فضلاً أخيرها

محمد المختار من آل هاشم

سراج السموات العلى ومنيرها

دعوناك أملناك جئناك خشعاً

بأنفس استولى عليها قصورها

نجاه العظيم الجاه أدرك ذماءنا

برحمي يُحلّيِ المؤمنين شذورها

وعفو وتأييد ونصر مؤزر

وعِزة سلطان يروق طريرها

ولطف وتسديد وجبر لما مضى

يدال به من كل عادٍ كسيرها

وأرسل على هذا العدو رزيّة

يروح ويغدو بالبوار مبيرها

يشتت شمل الكفر تشتيت نقمة

وينظم شمل المؤمنين حصيرها

وصلّ على خير البريةِ أحمدٍ

وأكرم من قد أنجبته ظهورها

وأصحاب الشهب الهداة وآله

صلاة مع الآناء يزكو عبيرها

ص: 48

‌2 - سكان أعالي النيل

بقلم رشوان أحمد صادق

كذلك تستعمل الماشية في القرابين، ليكون هناك اتصال بين النويري والآلهة وأرواح أجداده، فمثلاً في أوقات الشدائد مثل المرض والموت والتشليخ (تشريط الوجه) والزواج يجب أن يحوز النويري رضاء الأرواح الطيبة، وذلك بأن يُستحضر عجل أو كبش، ثم يوضع على ظهره مسحوق من الرماد، ثم يقول له صاحبه ما يريده من الأرواح، ثم يطلق إلى حال سبيله لكي يخبر الأرواح بما يريده سيده.

والنويري يرى دائماً أنه لا بد أن توجد علاقة بينه وبين الأرواح، وذلك يكون بإهدائها بقرة، وهذه البقرة تترك في المنزل ولا يحل له ذبحها أو استعمالها لأي غرض من الأغراض ما دام قد وهبها للأرواح. فإذا ماتت فأن أحد أولادها يحل محلها كحلقة اتصال بين النويري والأرواح. والقطيع من الماشية تتعهده مجموعة من الأفراد تجتمع لهذا الغرض، إذ لا يمكن أن يتعهده فرد واحد. ومن ذلك يتبين إلى حد بلغت علاقة النوير بالماشية خصوصاً إذا ما علمنا أن أي فرد من هذه المجموعة لا يمكن أن ينفصل عنها، لأن طعامه اليومي وزواجه ونجاته من شر الانتقام متوقف على بقائه داخلها. وهكذا يظل النويري طول يومه يرعى ماشيته ولا حديث له سواها، ولذا قلما ينادي رجل من النوير باسمه، بل يعرف باسم أحد (عجوله أو ثيرانه)، فمثلاً بدل أن ينادي رجل باسمه ينادي بهذه العبارة:(أيها الثور أو العجل الأسود الأبيض ذو القرنين).

والنوير ينقسمون إلى عدة قبائل كل منها مستقل سياسياً، ولكل منها مقاطعة تتمتع بكل مواردها الاقتصادية، وكل واحد منهم يعرف حدود مقاطعته، وإذا حدث أن أحد أفراد قبيلة أستغل موارد مقاطعة أخرى غير مقاطعته فأن ذلك يعتبر اعتداء يثير الحرب على الأثر، فإذا قامت الحرب فأنها لا تقف إلا إذا تساوى عدد القتلى في الطرفين.

والأستاذ الدكتور أيفانز بريتشاد يشرح النظام الحربي كما يأتي:

تنقسم القبيلة إلى قسمين أ، ب، وكل قسم من هذين ينقسم إلى قسمين، فـ أتنقسم إلى جـ، د، ب تنقسم إلى هـ، و. وهذه الأقسام الصغيرة تنقسم إلى أصغر منها وهكذا.

فإذا نشبت الحرب بين ل، ن لا يتدخل أحد، وإذا نشبت بين ل، م تدخل ن في صف ل،

ص: 49

وإذا نشبت بين ل وأي فرع من فروع ن فإن جميع الأجزاء التي تتفرع من جـ، د تشترك مع ل في الحرب.

وإذا كان هناك حرب بين هذه القبيلة وقبيلة أخرى فأن جميع فروع هذه القبيلة المكونة أ، ب تنظم ضد القبيلة الأخرى وعلى العموم فما دامت الحرب بين أجزاء القبيلة فأن القبيلة تتحد ضد أي عدو خارجي.

والنوير عبارة عن عدة قبائل تربطها الحفلات العامة والظروف الحربية والدينية والقصص القديمة، هذا علاوة على الروابط الجنسية كرابطة الدم مثلاً. والعادة المتبعة أن الرجل لا بد أن يتزوج من قبيلة غير قبيلته.

ومن أهم المظاهر الاجتماعية بين النوير مسألة التشليخ (تشريط الجبهة) فكل ولد يبلغ من العمر أربع عشرة سنة لا بد أن تعمل له ستة شروط (أو خطوط) على جبهته من الأذن إلى الأذن الأخرى، وبذلك يعتبر أنه أصبح رجلاً، فتتغير حياته الأجتماعية، ويصبح عليه بعض الواجبات نحو المجتمع الذي يعيش فيه. ومن أمثلة هذا التغير أنه لا يقوم بتربية الماشية، وعليه ألا يحلبها إذ يقال إن البقرة إذا حلبها شخص مشلخ فأنها تموت، وعملية التشليخ هذه أدت إلى ظهور الحلقات الاجتماعية المختلفة، فمثلاً كل الصبية الذين يشلخون في سنة واحدة يكونون حلقة واحدة وعليهم واجبات نحو بعضهم وأخرى نحو الرجال المحترمين في مجتمع النوير. وهذه العملية تعمل كل أربع سنوات؛ فمثلاً إذا أقيمت عملية التشليخ سنة 1930 فأن عملية التشليخ الثانية تكون سنة 1934، وبذلك يمكن تقسيم النوير من الوجهة الاجتماعية إلى قسمين:(1) الرجال المشلخون (2) الأولاد غير المشلخين. والنوير ليس عندهم رجال شرطة أم محاكم أو نظم حكومية، وإنما يعتمدون على بعض الرجال الروحانيين أو رجال الدين، وأهم هؤلاء (اللوبارد)، ويقوم بحل الخصومات وإرغام الخصم على قبول التعويضات، ومع ذلك فسلطته غير عملية، فليس لديه من وسائل العقاب إلا أن يلعن الشخص غير المطيع لأوامره. وهذا قلما يحدث لأن النويري يخاف سلطة هذا الرجل. كذلك يوجد عدد كبير من الرؤساء المختلفين مثل رئيس الماشية ورئيس الأسماك وغيرهما.

الشلك

ص: 50

وهم المجموعة الثانية من الزنوج النيليين ويشبهون النوير في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، ولكنهم يمتازون بنظام حكومتهم، فهم يكونون وحدة متينة برآسة ملك مطلق التصرف من حيث السلطة الروحانية والزمنية.

ولدراسة مركز هذا الملك من الوجهة الروحانية يحسن أن نرجع إلى القصة التي يذكرونها عن منشئهم، فهم يذكرون أن (نيا كنج) أخذ أتباعه وسار من موطنه الأصلي شمالاً إلى منطقة شرق بحر الغزال، وأستمر في الفتح والغزو حتى كون أمة وأسرة مالكة. (ويعتبر هذا الرجل بطل الشلك وربما كان ذلك في أوائل القرن السابع عشر) وإنه لم يمت بل تلاشى في الرياح. وبذلك أصبح موضع احترامهم منذ اختفائه. ويعتقدون أن روحه تنتقل إلى كل ملك يحكمهم، وهذا هو السبب في المركز الروحاني لملك الشلك. ولذلك فهم يعتقدون بأن الملك مسئول عن سعادة شعبه؛ ولا بد لكي يكون ذلك ممكناً أن تنتقل روح نيكا كنج إلى ملك قوي صحيح الجسم؛ ونتج عن ذلك الاعتقاد أن الملك إذا أظهر ضعفاً بأي شكل كان لا بد من أن يذبحوه لأنهم كانوا يظنون أن ضعف الملك الجسماني يضعف روح نيكا كانج وبذلك تمرض الماشية ويقل نتاجها ويموت كثير من المرضى ويضعف نتاج الأرض وربما يخيب المحصول.

وتدخل روح نيا كنج جسم الملك أثناء حفلة التتويج. وحسب تقاليد الشلك القديمة كان أي فرد من العائلة المالكة يتمكن من قتل الملك كان يحل محله ولذلك أصبح من المفروض أن الملك ينام نهاراً ويستيقظ ليلاً كيما ينجو من الفتك به على انفراد. ومن المتبع أن الملك لا يطلب المعونة أثناء الاعتداء عليه كذلك القاتل. فكلا الاثنين يرى أنها مسألة كفاح ومن الشرف أن يفوز أحدهما على الآخر. هذه هي الطريقة القديمة لقتل الملك وتنصيب غيره وحديثاً تغيرت تلك العملية إلى حد ما فيقوم بقتل الملك جماعة يسمون (أورورو) وينتخبون من بعض العائلات التي يقال إنها من سلالة الملك الثالث للشلك. ومنذ قرون كانت تعلق جثة الملك على سور كوخ حتى يفنى.

وتعقب قتل الملك عادة فترة يكون العرش فيها خالياً لمدة أشهر وفي هذه المدة يحضرون تمثالاً للبطل نيا كنج من مكان مقدس بجهة أكروا يحملونه إلى فاشودة حيث مقر الملك. ويحضرون معهم أيضاً مقعداً ذا أربعة أرجل يزعمون أنه من بقايا أمتعة نيا كنج وتجري

ص: 51

عملية التتويج وأبدع ما فيها أن يوضع التمثال على الكرسي قليلاً ثم يرفع ويجلس الملك الجديد مكان التمثال توا.

والغرض من هذه المسألة هو نقل روح نيا كنج إلى جسم الملك الجديد. وملك الشلك يعتبر مسئولاً عن حفلة نزول المطر إذ يطلب من الملك نيا كنج الذي يعيش في الفلك أن ينزل المطر. وهذه الحفلة تقام في فاشودة وفي نفس الوقت يقوم بهذه الحفلة ممثلوه في أجزاء مملكته المختلفة.

الدنكا

ويشبهون كلا من النوير والشلك في كثير من الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية وهم المجموعة الثالثة من الزنوج النيليين. ويحاكون الشلك في مسألة الرئيس الذي يقوم بحفلة المطر فهو ملك مقدس أيضاً. غير أنهم يخالفون الشلك في مسألة قتل هذا الرئيس، فهم لا يقتلونه بل يتركونه حتى يصبح هرماً ويطلب القتل، إذ يرى أنه أصبح غير كفء لقيادة قومه وإرشادهم. وعملية القتل تنفذ كما يأتي: ينام هذا الرجل على لوح من الخشب على شكل (نقالة) ويوضع في قبر أعد له حيث يبقى نحو أربع وعشرين ساعة يتلو في خلالها ملخصاً لأعماله وينصح للجمع المحتشد حول القبر حتى إذا ما خارت قواه وأصبح غير قادر على متابعة الكلام طلب من أتباعه إغلاق القبر فيختنق ويموت. وهو يفضل هذا النوع من الموت على الموت الطبيعي لأنه يرى أنه إذا ترك حتى يموت موتاً طبيعياً فأن أبنه لا يمكنه أن يخلفه وعند ذلك تصبح القبيلة في حاجة إلى رئيس روحاني يقوم بعملية جلب المطر.

(يتبع)

رشوان أحمد صادق

ص: 52

‌الشك لا يهدي

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

- 1 -

رأيتُ الهدى في الشكّ والشك لا يهدي

كأنيَ بالظلماء قد كنتُ أستهدي

فطوراً أقول الروح كالجسم هالك

وطوراً أقول الهُلكُ عنه على بعد

فيالك من شك يبرّح بي ولا

يبارحني حتى أُسّدَ في لحدي

وإنيَ لا أدري أرشديَ كان في

ضلاليَ هذا أم ضلاليَ في رشدي

أأفقد جسمي وحده عند ميتتي

أم الروح مثل الجسم يشمله فقدي

أروحٌ وجسمٌ أم هو الجسم وحده

يحرّكني فيما يضلّل أو يهدي

أعذّب حوبائي بما أنا فاكرٌ

كأنيَ من أعداء حوبائيَ اللُدّ

- 2 -

إذا كان روحي مثل جسمي يَهلك

فأني لأبكي في مصابي وأضحك

ولو خيروني بين تركي لواحد

فأني لجسمي دون روحيَ أترك

يحرّك روحي الجسمَ وهو يحلّه

فمن ذا لهذا الروح فيَّ يحرّك

وقبل وجودي أين كان مكانه

فهذا هو الشيء الذي لستُ أدرك

وقد يستطيع الروحُ حلاً لمشكلي

ولكن مجالُ الروح في الجسم يضنك

وأطلب من عقلي الهدى في ضلالتي

ومن أين يعطي العقلُ ما ليس يملك

دع الموتَ يأتي فتكه بهما معاً

كما كان هذا الموت بالناس يفتك

- 3 -

عهدتك يا روحي إلى الحق تجنح

فهل بجواب إن سألتك تسمح

تقول سأبقى بعد موتك خالداً

أأنت تريد الجدَّ أم أنت تمزح

فإن كان جداً ما تقول فما الذي

ستصنع بعدي يومَ مني تبرح

تجيب وقد يُغرى جوابك قائلاً

سألحق أرواحَ الذين تطوحوا

وإن الفضاء الرحبَ ما زال طافحاً

بأرواح موتى في السموات تسبح

ص: 53

فقلت له في سبيلك راشداً

ولا تنس جسماً ليس بعدك يصلح

فيا روح قبّلني وصافح مُودِّعاً

فأنيَ لا أدري متى لك ألمح

- 4 -

نهارٌ لسيل النور فيه دفوق

وليلٌ كأن النجم فيه خروق

ألوفٌ من الأكوان تقصو كأنها

تريد أتساعاً بالفضاء يليق

وعند أفتكاري في الوجود كأنني

أخوض خِضماً والخِضمُّ عميق

طريقي لإدراك الشؤون معّبدٌ

ومالي لإدراك الوجود طريق

فيا نفس سيري في الفضاء طليقةً

فلا شيء فيه للنفوس يعوق

لأنتِ شعاع طار من مستقرّه

وكلُ شعاع بالبقاء خليق

تحيق المنايا بالجسوم كثيفة

وأما بأرواحٍ فليس تحيق

- 5 -

يقولون إن النفس حقٌ وجودُها

فلا ينبغي إنكارها وجحودها

وبعد الردى تطوى السماء خفيفةً

وإن بعدت في اللاتناهي حدودها

وما الجسم إلا دولة مستقلة

لها حكُمها في أهلها وجنودها

وما أهلها إلا خلايا صغيرة

وما النفس ذات الحول إلا عميدها

وما هي إلاّ ومضةُ من شعاعة

فإن خلدت ما كان بدعاً خلودها

فقلتُ لهم هذا جميلٌ وعله

خيالاتُ عقلٍ شاردٍ لا أريدها

ولم يكن الإنسان إلا أبن غابةٍ

على فُجأةٍ قد أنجبته قرودها

- 6 -

سيطفئ يأسي في المشيب حياتي

وأذهب من نور إلى ظلمات

ويحملني صحبي إلى القبر إنني

به بعد حين لست غيرَ رفات

تقَطَّعُ اوصالي وتبلى جوانحي

وليس بوسعي أَن أبث ّشكاتي

وأجْملْ بأيام الصبِّا فهي لم تكن

على الفم من دهري سوى بسمات

ولكن أيام الصبا قد تصرّمت

ولم تبق ذكراها سوى الحسرات

ص: 54

وفارقت أيامَ الشباب حميدةً

وإن كَثرت في عهده عثراتي

قضيت شبابي مُطمئناً وبعده

أتى الشيب منهوكاً من الشبهات

- 7 -

من الموت مهما مضّ لستُ بخائف

ولكن وراء الموت ماذا مصادفي

خضعتُ لعقلي في حياتيَ كلها

وما كنت يوماً خاضعاً لعواطفي

وكنت إلى لمس الحقائق نازعاً

أنزه سمعي من سماع السفاسف

تعذّبتُ عمراً من مخالفة الورى

فيا ليتني قد كنت غيرَ مخالف

عجبت لجذعي كيف ظلّ مقاوماً

فقد كان معروضاً لضرب العواطف

لقد قذفتني بالمسبات ثلّةٌ

ولم أتجنّب شرَّ تلك القذائف

وكم شنّ ذو جهل على العلم غارة

وكم كان ذبّي صادقاً في مواقفي

- 8 -

تجمّع يرميني خميس عرمرم

أأنكص كالمغلوب أم أتقدم

ولكنني اخترتُ التقدّمَ إنه

لمن كان يستبقي الحياةَ لأسلم

وللعلم أنصارُ وللجهل مثلُها

ولكن أنصار الجهالة أعظم

لقد حاربوني بالمسبّة والخنا

وحاربتُهم بالعلم والعلُم مخذم

إذا كان ليلي قد تجهّم وجهُه

فأن صباحي بعده يتبسّم

يقصّ عليك الشيخُ منهم خرافةً

فتحسب أن الشيخ في النوم يحلم

تصرّم عهدُ الجهل في الغرب كله

ولكنه في الشرق لا يتصرّم

(بغداد)

جميل صدقي الزهاوي

ص: 55

‌الحق هو القوة

للأستاذ إبراهيم إبراهيم علي

ذهب السكوت فلا سكوت

(شعبٌ ينام ولا يموت)

إن كنتً من ذهب فإن

ك من نسيج العنكبوت

الصمت يطلب عن خناً

لا عن صلاةٍ أو قنوت

والصمت يحسن في التفا

خر بالخزائن والبيوت

والصمت يُحمد في التكا

ثر بالكراسي والدسوت

وعن الأكاذيب المشا

عة في جهارٍ أو خفوت

والصمت أجمل في المقا

بر وهي واعظةٌ صموت

أما عن الحق المضا

ع فليس يحتمل السكوت

لم تكتمون الحق عن

أوقاته حتى تفوت؟

لم تحبسون الحق في

أعماقكم كيما يموت؟

الحق حر مطلقٌ

مهما تعثر في القيودْ

الحق صوت صائحٌ

في صرخةٍ أو في همود

الحق ضوء نافذٌ

مهما تكاثفت البرود

مهما تعددت السد

ود عليه فأخترق السدود

الحق ينطق (فتنةً)

في اللحظ حيناً والخدود

في الشمس تشرق من أعا

ليها على هذا الوجود

في البدر. في زهر الكوا

كب. في الرشاقة والقدود

في البحر مضطرباً وفي

أمواجه بعد الركود

في الغصن كلل بالزهو

ر وبالبنفسج والورد

في الروض أيقضه الندى

في الصدر زانته النهود

الحق ينطق (قوةً)

والحق أقوى، لا مراءْ

في البحر يضرب موجُه

حتى ليرتعب الفضاء

في الرعد. في السيل المح

طم. في العواصف والبلاء

ص: 56

في النار تفتك بالحدي

د، كأنه النسج الخِواء

في ثورة البركان في

غضب الزلازل وهي ماء

في سطوة الأيام تق

هر بالمقادر والقضاء

فإذا الملوك أذلّةُ

وإذا الممالك: لا وقاء

الحق ينصر نفسه

إن خلّفته الأنبياء

وهو المظَّفر دائماً

في الأرض (حقاً) والسماء

إن تنصروه فقد نصر

تم أنفساً لكمو هباء

أو تخذلوه فقد خذل

تْمِ هذه الروح الغباء

ولقد يصول الحق بالضّعْـ

فَى فيردي الأقوياء

ولقد يثير الحق شاةً

تملأ الدنيا مضاء

فإذا الذئاب وهم حيا

رى هاربون، ولا نجاء

الحق حقٌ فأنطقوا

أو فأسكتوا فيها: سواء!!

قليوب

إبراهيم إبراهيم علي

ص: 57

‌القصص

صور من هوميروس

19 -

حُروب طَرْوَادَة

بعد مصرع هكتور. . .

للأستاذ دريني خشبة

أنتصر أخيل!

وعاد بجثة هكتور ليجد أمه ما تزال تسقي بتروكلوس خمراً! وما تزال تدفع عن القتيل المسجى فوق سرير الموت أسراب الذباب! وما تزال تذرف الدموع الغوالي!

ويهرول زعيم الميرميدون، ويهرول معه جنوده حول جثة صديقه ثلاثاً، ثم يقف فوق الرأس المتشح بجلال الفناء. ويقول: (السلام عليك يا بتروكلوس فلقد ثأرت لك! السلام عليك فأنت خيرٌ حياةً من كثيرين ممن ينعمون بالحياة، وإن تكن تسبح في لا نهاية هيدز!

هاك غريمك هكتور سأتركه جزر السباع وكواسر الطير، وسأضحي لك باثني عشر من خير شباب اليوم. . . . أذبحهم عند قدميك بيدي!

(إبكوا بتروكلوس يا رفاق!. . . .)

فيبكي الميرميدون على بطل أبطالهم، ويعولون حتى تخفق السماء بأناتهم، وتضطرب الأرض بزفراتهم، ويمتلئ الهواء من حولهم أسى وشجوناً!

ويقبل الهيلانيون من كل فج يهنئون ويعزون: يهنئون بقتل هكتور، ويعزون، ويا حرّ ما عزوا، في بتروكلوس!

ويمتلئ بهم شاطئ الهلسبنت؛ ويأمر أخيل رجاله فيؤتى بالشاء والظباء، وبكل عجلٍ جسدٍ وخنزير سمين؛ وتؤجج النيران، ويسطع الشواء حتى ينضج، وتكون وليمة يقبل عليها القوم أيما إقبال. . . إلا أخيل. . . المنعكف وحده يذرف الدموع على بتروكلوس. . .

وأمر أجاممنون بماء ساخن يغسل به أخيل ما عليه من نضخ الدم وغبار المعركة، ولكن أخيل يأبى إلا أن يظل النضخ ويبقي الغبار حتى يتم تحريق بتروكلوس، وحتى تنتهي المراسيم الدينية التي تقتضيها السماء. . . ويفرضها بلوتو على موتاه!

ص: 58

وتفرّق الهيلانيون بعد أكل شهي وري، ونهض الميرميدون إلى خيامهم يخلعون عددهم ويستجمون من عناء اليوم الحافل، ولبث أخيل وحده على الشاطئ الشاحب يرقب أواذيه الصاخبة، ويرى إلى أعراف الموج تنتطح هنا وهناك، وترتد وترتد حتى تغيب في لا نهاية الماء!

ثم غفا إغفاءةً فتمدد على العشب، وأسلم جفنيه لنوم عميق ورأى ظلاً حزيناً يُطيف به ولا يكاد يبين، فتقلّب ذات اليمين وذات الشمال مما تأخذه الرؤيا به، ولكن الشبح ما يفتأ يُهوّم ويهوم، ويقترب ويقترب، حتى يكون عند رأسه، وحتى يقر النائم فما تبدو منه حركة، ويسكن فما يتردد فيه نَفَس، ويَحْسِر الزائر لثامه، فإذا هو. . بتروكلوس!!

لقد أقبل روحه الكبير يتحدث إلى مولاه، فيقول:

(أخيل! أهكذا تنام ملء عينيك وتدع صديقك يهيم في مملكة الظلمات دون أن يؤذن له بعبور ستيكس الفائض بالحميم، ليقر في عدوته الأخرى مع المؤمنين! إنني يا صديقي سأبقى طريداً شريداً مادمت متوانياً عن تأدية الطقوس التي يتطلبها بلوتو وتفرضها السماء!

ماذا تبتغي بعد أن ثأرت لي يا أخيل! ألا يشجيك أن أظل معذباً في هذا التيه الذي لا نهاية له، كاسف البال مسبوه اللب، لأنك تأبى أن تؤدي لي فرائض الآخرة!

أتحسب أنا ملتقيان في دنياك كرة ثانية يا أخيل، فأنت تنتظر هذا اللقاء؟ لا، لا، يا صديقي؛ نحن لا نلتقي إلا هنا! في هذه الدار الجميلة الهادئة التي لا صخب فيها ولا ضجيج. . . .

سنلتقي هنا. . . . وسنلتقي سريعاً. . . . ولن أزعجك إذا أخبرتك بما علمته هنا!. . . . إنك ملاق حتفك تحت أسوار طروادة. . . لا تنزعج يا أخيل، فأنت بطل، والأبطال أمثالك لا يرهبون الموت، والبطل الذي لا يجرع الكأس طافحة في حومة الوغى يموت موتةً لا تشرفه. . . فأطمئن! إنما ذكرت لك ذلك لأن لي رجيةً عندك أتمنى لو أديتها لي. . . ذلك أن توصي أن تدفن رفاتك في نفس الرمس الذي يضم رفاتي، لنظل آخر الدهر متقاربين، كما كنا أول الدهر متقاربين، ولنقضي أحقاب الموت في مربعٍ معاً، كما قضينا شرخ الشباب في ملعبٍ معاً. . .

إيه يا ذكريات الماضي السعيد!

أبداً لن أنسى يوم حملني مولاي الأمين أمفيداماس من نجاد أوبوس إلى بلاط بليوس، حيث

ص: 59

نشأت وترعرعت في نفس الكنف الذي ترعرعت فيه يا أخيل. . . . وأبداً لن أنسى هذا الحنان الذي كانت تغمرني به ذيتيس، أمك الرؤوم، حتى أشتد ساعدانا، وسار الركبان باسمينا في كل ناد. . .

هلم يا أخيل. . . أنهض يا زعيم الميرميدون. . . وأذكر ما قلته لك. . .)

ويذرف أخيل عبرة غالية، ويجيب بتروكلوس فيقول:

(بتروكلوس! إلىّ يا أعز الناس عليّ! سأفعل كل ما تريد، ولكن. . . أقترب. . . قليلاً. . . لنسرّ من أحزاننا يا أخي! هب لي أن أعانقك فأنا مشوق إليك!)

وهب من نومه مذعوراً مادَّاً ذراعيه لعناق بتروكلوس، ثم ضمهما فجأة. . . . . ولكن!

وا أسفاه!. . . لقد ضم أخيل إليه الهواء. . .! لأن الشبح العزيز قد ولى بعيداً عنه. . . هناك. . . هناك. . . في ظلمات السُّفْل. . . في ديجور الدار الآخرة. . . في مملكة بلوتو الجبار. . . . حيث الأرواح والأشباح. . . . وحيث العذاب والنعيم. . .!!

وصرخ الزعيم المفئود صرخة زلزلت عماد المعسكر، وأجتمع لها القادة مشدوهين مروّعين، وروعهم أكثر هذا الحديث الطويل عن الرؤيا المشجية، فأنفذ أجاممنون الملك عصبة قوية إلى غابات الصنوبر والشاهبلوط القريبة، فجمعت أحمالاً ثقالاً من جذوع الأيك وحطام الدوح اليابس، وأقبلت فكومت ما جمعت كومةً واحدة عالية؛ ثم أمر أخيل جنوده فاصطفوا حول الكومة بعُددهم وخيولهم وعرباتهم، وأقبل فوج منهم يحمل جثمان بتروكلوس، موارًي في شَعرٍ كثير أنتزعه الفرسان من رؤوسهم حزناً على قائدهم بالأمس؛ وكان أخيل يتعثر خلف القتيل وقد حطمه الحزن ورأزته المصيبة في أعز أصدقائه، وغشيه من الهم ما لو كان بعضه بوَضحِ الضحى لأحالة ليلاً من الوجد مظلماً. . . ونزع شعر رأسه هو الآخر فغطى به وجه صاحبه، ومد ذراعيه المرتجفتين فرفع الجثمان الطاهر، يعاونه نفر من الميرميدون، ووضعوه فوق الكومة التي تسامت وسمقت حتى غدا ارتفاعها مائة قدم أو تزيد. وأمر أخيل فذبحت ألوف من العجول والخنازير والنّعم، ونزعت عنها شحومها جميعاً، فوضعها بيده على الكومة من حول بتروكلوس، ثم أشار إلى حَمَلةِ الزِّقاق فطفقوا يصبون الزيت والعسل المصفى ليزيد في ضرام الوقود.

وأرتفع ضجيج بعيد وضوضاء، فتلفت القوم، وإذا فريق من الميرميدون يسوقون الشبان

ص: 60

الطراواديين الاثني عشر، الذين أسرهم أخيل في ملحمة الأمس، وقد كبلوا في الأصفاد ورهقتهم قترة مظلمة من الروع والحزن؛ فلما شارفوا، تقدم أخيل المغضب الحنق، فأستل خنجره، وشرع يمسح بأعناقهم ويبقر بطونهم، ويروي سنانه من قلوبهم. . . . . والبشرية البائسة تتلفت يمنة ويسرة. . . . وتتعذب. . . . وتبكي!!

وأمر الزعيم فصفت الضحايا الاثنتي عشرة من حول الكومة أما هكتور! فقد حدجه أخيل بنظرة ساحرة، وأقسم ألا يحرق جثمانه فينفذ روحه إلى هيدز، بل يتركه ثمة حتى تنوشه الطير، وتأكله كلاب البرية، وتلقي عظامه في اليم، غير كريمة ولا مرجوّة!

بيد أن منظراً عجباً خلب الباب القوم، وأذهلهم عن أنفسهم. . . . ذلك أنهم رأو إلى شبح جميل أبيض، يصب دهن الورد فيجعل منه حَنُوطاً مباركاً لجثمان هكتور، ورأوا كذلك إلى ضبابة ذات أفياء وظلال باردة تقف من فوقه فتذود عنه أشعة الشمس المحرقة حتى لا ينتن أو يتعفن. . .!

ماذا؟؟! آه! إنها فينوس الوفية التي تصب دهن الورد فوق هكتور، وإنه أبوللو المحزون الذي ينشر الضبابة من فوقه تحميه من الشمس وتذود عنه حرارتها!!

وصلى أخيل صلاة قصيرة، ونذر لآلهة الريح، إذا هي أقبلت تروح على النيران حتى تذكو، أن يذبح لها ويقرب لها القرابين! وما كاد يفرغ من صلاته، حتى تقلب البحر وأضطرب، ومار اليم وأصطخب، وثارت العاصفة الهوجاء في بطن الدأماء وأقبل زفيروس واخوته آلهة الريح فحاصروا الكومة، وما هي إلا لمحات حتى كانت ضراما في ضرام، ولظّى يتأجج في لظى وسكنت اللهب، وخفت أوار النار، وتقدم أخيل وَحَملة الزِّقاق فصبوا على الجمر خمرا حتى خبأ.

وتقدم نفر فرفعوا رفات بتروكلوس وهم يبكون، وأقدم أخيل فوضعها بيديه في إران من الذهب، وأشار إلى بعض أصحابه فحفروا في الأرض حفرة كبيرة عميقة، فأسرع هو فوضع الاران فيها، بين أنين الجند، وبكاء القادة، وزلزلة الأرض والسماء. . .!!

وهيل التراب على الميت، وعمل الكل في ذلك حتى كانت كومة عالية من الردم، ستظل آخر الدهر رمز البطولة الخالدة، وتحية الدار الآخرة لهذه الدنيا المشحونة بالأشجان!!

وكان من دأب الهيلانيين إذا مات أحد أبطالهم أن يُحرّقوه كما حرّقوا بتروكلوس، ثم تتلو

ص: 61

ذلك حفلة ألعاب يشترك فيها أبطالهم، ويساهم فيها الجندي الصغير إلى جانب القائد العظيم، وقد يفوز عليه فينال الجائزة من دونه، وكانوا يعدون هذه الحفلة تتمة للجناز لا يكمل إلا بها؛ فلما انتهوا من إقامة الشعائر الدينية للشهيد الكبير نهض أخيل فأعلن القوم ببدء حفلة الألعاب، ثم دعا للمشاركة في سباق العربات الحربية، وعدّد الجوائز فذكر أن للفائز الأول غانية من أبرع غانيات طراودة جمالاً، وأوفرهن حسناً، وأنبغهن في القيام بشؤون المنزل، ثم آنية عظيمة من الذهب الخالص، غالية الثمن، عالية القيمة، لا تقدر بمال لما بذل في زخرفتها ونقشها من فن، وما أضفي عليها من عبقرية. وأن للفائز الثاني مُهرةً صافناً تسبق الريح وتلحق البرق؛ وللثالث كوباً من الفضة الناصعة، عظيم القدر، غالي الثمن. وللرابع بدرتين من الذهب الأبريز. وللخامس إبريقاً فضياً للخمر، وكأسين للشراب. . . .

وأشترك في هذا السباق لهاذم أبطال الإغريق، وصناديدهم الصيد؛ وكان أول من نزل إلى الحلبة يوميلوس الملك أبن أدميتوس العظيم، وتلاه ديوميد الحلاحل أبن تيديوس؛ ثم منالايوس سليل السماء، وفرع الآلهة بن أتريوس الكبير؛ وكان رابعهم أنتيلوخوس المشهور بن نسطور الحكيم، الذي أخذ أعين القوم بقامته السامقة، وعودة اللدن، وقوامه الأهيف السمهري الممشوق، والذي تقدم إليه أبوه فقبّله في حر الجبين، وزوده بنصائحه الغوالي؛ وكان خامسهم مريونيس الهائل، صاحب الذكر البعيد والشأو الرفيع في كل مثار نقع وفي كل ميدان.

وكان على الفارس العظيم فونيكس أن يلاحظ السباق، فكان في مركزه هذا حكماً عدلاً وقاضياً ماهراً. . . .

وأعطى أخيل الإشارة. . . فانطلقت الجياد تزلزل الأرض، وتثير عجاجة قاتمة من ثرى الميدان، وتضرب الصخر بحوافرها فينقدح الشرر، ويميد جانب الجبل، وتتصل أبصار القوم بالريح الذي يتعثر في أدبار الخيل، ويتحسس كل منهم قلبه، متمنياً قصب السبق لصاحبه الذي هو من شيعته. . . ثم. . . تتدخل الآلهة في هذا اللهو البريء فتغير دفة المقادير، وتتحمس مينرفا للبطل العظيم ديوميد، حينما ينزع أبوللو السوط من يده ويلقي به إلى الأرض، فتعيده إليه؛ وتلحظ أن أبوللو يصنع هذا ليظفر يوميلوس ويفوز بالسبق، فتذهب من فورها إلى أبن أدميتوس وتنزع إحدى عجلتي عربته، فيهوى البطل ويوشك

ص: 62

رأسه أن يتحطم على الجلاميد المتراكمة على جانبي الطريق. . .

وتعدو الخيل. . .

وتخفق قلوب القوم. . . ثم ينظرون فيرون إلى ديوميد قد أنهى الشوط، ونزل من عربته فصافح فونيكس، وأستحق بذلك الجائزة الأولى.

وتلاه أنتيلوخوس، ثم منالايوس الملك، ثم مريونيس، وكان أبطأهم.

وسكن القوم قليلاً، وإذا هم يبصرون يوميلوس المقدم يسوق جياده، وخلفها عربته التي حطمتها مينرفا، فيثير مرآه قهقهة عالية وصخباً؛ لا يقطعهما إلا أخيل بصيحة داوية تعيد إلى الملأ وقارهم، ويقضي ليوميلوس بالجائزة الرابعة (لأنه لولا الحظ العاثر كان صاحب الجائزة الأولى!!)

واشرأبت الأعناق حين أعلن أخيل عن دورة الملاكمة وشارك فيها من الأبطال إبيوس بن بنوبيوس؛ فتى مفتول السواعد مكتنز العضل، رحب الصدر، له قبضتان كأنهما حراشف جذور بارزة من جذع شجرةٍ، ألقت بها الريح في يوم عاصف، ونهض إلى جانبه شاب قوي بادي البأس، لم يلبث القوم أن عرفوا فيه يوريالوس بن مسيتوس، الذي طالما شارك في أولمبيات الملك أوديبوس وكان أبداً فتاها وفارس حلبتها.

وأعطيت الإشارة فأنقض الأسد على الأسد، وأرتطم الجبل بالجبل، ولبث البطلان يكيل أحدهما للآخر لكمات كانت تقشعر لها أبدان الآلهة، وتنتفض من هولها أفئدة الرجال، ثم لاحت فرصة للبطل إبيوس كال فيها لخصمه لكمة في ذقنه ألقته فوق أديم الأرض بين هتاف الجند وضجيج القادة، وبذا أستحق إبيوس الجائزة الأولى، وهي بغل أشهب مسرج، في شدقيه لجام من الحديد، يتصل به عنان من الفضة. أما يوريالوس فقد أفاق من اللكمة القاسية لينال كأسين جميلتين أُعدتا للفائز الثاني. . .!

وأرهفت الأسماع حين نهض أخيل يعلن دورة المصارعة التي لم يجرأ أحد أن يتقدم أليها حتى أوشك زعيم الميرميدون أن يلغيها لو لم ينهض أوليسيز ويتبعه أجاكس متثاقلين!!

وأهطعت الرقاب ذاهلة نحو الزعيمين الهولتين، وشخصت الأبصار ترى إلى الجبل يأخذ بتلاليب الجبل، والبحر ذي العباب يصاول البحر ذا العباب، والشهاب الراصد يندق على الشهاب الراصد؛ لا هذا ينال فرصة من ذاك، ولا ذاك يرى ثغرة منها إلى هذا، والقلوب

ص: 63

أثناء ذلك تخفق وتخفق، والقشعريرة الباردة تشيع في أصلاب هؤلاء وهؤلاء، كل يتمنى أن يفوز رجله. . . . . . حتى ثارت عجاجة حول البطلين انجلت عنهما صريعين فوق الأرض، لم ينل أحدهما من الآخر!! فكان القضاء العادل من السماء!

وحاولا أن يعودا إلى صراعهما الأول، فحال بينهما أخيل. . . لأن الدورة كانت لا تنتهي إذن. . . فكان بحسبهما أن ينالا جائزتين متساويتين!!

وبدأ سباق العدّائين، واشترك فيه أوليسيز وأجاكس أيضاً، ثم أنتيلوخوس الذي استطاع أن يفوز بالجائزة الأولى، لما كان يبدو على منافسيه من نصب، من جراء صراعهما السابق.

وتبع ذلك سباق المبارزة، وشارك فيه أجاكس أيضاً ثم ديوميد العظيم، الذي استطاع بعد لأي أن يجرح خصمه في عنقه، فينبثق الدم من الجرح، فينال الحزام الفضي بذلك!

ثم كان حمل الأثقال وهو سباق محبوب من الإغريق كثيراً، وقد شارك فيه بوليبوتيس وإبيوس وليونتيوس. . . ثم. . . أجاكس. . .! وفاز أولهم بالجائزة الأولى. . .

وتلا ذلك سباق الرماية، وأشترك فيه البطلان تيوسير ومريونيس، وفاز الأخير بأسنى الجائزتين للبراعة الفائقة التي أبداها في إصابة الغرض (وكان حمامة تنطلق وتنطلق. . . حتى تكون خلف السحب. . .!!)

وكان السباق. . . وها سباق إصابة الغرض بقذف الرمح، وقد تقدم إليه قائد الحملة العظيم. . . أجاممنون الملك. . . ثم. . . مريونيس الشجاع وأحد أتباع الملك إيدومنيوس. . . . . . وقد هال أخيل أن ينافس أحد قائد الحملة، فتقدم إليه معترفاً بتفوقه على الجميع في كل شيء، وقدم له الجائزة الأولى. . . ثم قدم الرمح لمريونيس. . . وكانت مجاملة طيبة من أخيل تقبلها الجميع بثغور باسمة

(لها بقية)

دريني خشبة

ص: 64

‌الَبريدُ الأدَبيّ

وفاة بول بورجيه

نعت إلينا الأنباء الأخيرة قطباً من أقطاب الأدب الفرنسي وكاتباً من أعظم كتاب العصر، هو بول بورجيه؛ توفي في الخامس والعشرين من ديسمبر في الثالثة والثمانين من عمره، بعد أن قضى حياة حافلة، وبلغ الذروة في عالم الشعر والأدب والنقد. كان بول بورجيه عميد الأدب الفرنسي المعاصر بعد أناتول فرانس، وكان يتبوأ مكانة في الطليعة منذ خمسين عاماً؛ ولم يعرف الأدب الفرنسي المعاصر، كاتباً قصصياً - إذا استثنينا أناتول فرانس - في قوة بورجيه وعمق تفكيره وتحليله، أو في بًعد آفاقه ووفرة إنتاجه. وكان مولد بورجيه في سنة 1852 بمدينة أميان من أب روسي وأم إنجليزية؛ فنشأ نشأة حسنة وتلقى دراسة عالية وثقافة متينة؛ وبدأ ينظم الشعر منذ حداثته، ثم أشتغل بالصحافة؛ وفي سنة 1884 أخرج أولى رواياته القوية ' فظهرت فيها براعة الكاتب والقاص، وتجلت فيها مقدرته الفذة على تفهم العواطف البشرية وتحليلها، وهي مقدرة ترجع إلى ذلك المزيج في السلالة الذي كان له أكبر الأثر في تكوين عقلية الكاتب. ثم كتب بورجيه روايتين أخريين هما: ، والأخيرة من أعظم رواياته وأقواها، بيد أن بورجيه يبلغ ذروة القوة والطرافة في قصته الشهيرة:(التلميذ) وهي في رأي النقدة أعظم قصصه وأقواها، وأكثرها تمثيلاً لمواهبه وخلاله وفنه؛ ولم يلبث بورجيه أن تبوأ مكانته بين أقطاب الكتاب في هذا العصر: بين زولا، وفرانس، وكوبيه، ودوديه، ورشبان وغيرهم؛ ثم لم يلبث أن أحتل مكانة بين الخالدين في الأكاديمية الفرنسية (سنة 1894).

ولبورجيه تراث حافل من كتب الشعر والقصص والنقد والسياحة نذكر منها:

، - ، - ، ومن القصص - ' و ، وله ديوان شعر كبير، وقطع مسرحية عديدة، وله كتب في الوصف والنقد والسياحة.

وبورجيه كاتب خصب متعدد النواحي والآفاق؛ بيد أنه على العموم كاتب أرستقراطي يكتب للخاصة قبل كل شيء، ويصور مجتمع الخاصة، وما يتصل بحياته من بذخ وأناقة، وما يتخللها من نواحي الجمال والرشاقة والفن؛ وما يغشاها من عوامل الفساد والوهن، وهو من هذه الناحية نقيض قرينه ومعاصره فرانسوا كوبيه كاتب البؤس والطبقات البائسة.

ص: 65

وأعظم ما تبدو مقدرة بورجيه ومواهبه في المواقف النفسية وفي تحليل القلب البشري ونزعاته، وفي تصوير مختلف العواطف الإنسانية، فهو عندئذ لا يجاري، بل هو أستاذ هذه المدرسة الفذ، وهي مدرسة نلمس فيها الأدب الروسي. ويكتب بورجيه بلغة قوية، وقد تبدو أحياناً عسيرة الفهم، ولكنه يحمل قارئه بقوته، ويأخذ لبه بسحر عرضه، وروعة بيانه وفنه؛ ومع أنه يميل إلى المفاجآت العنيفة في قصصه، فإنه مع ذلك يجنح إلى الحقيقة ويجانب الإغراق؛ وأكثر ما يميل بورجيه إلى التشاؤم، وقلما يميل إلى الجانب المرح مَن الحياة والصور؛ ويطبع الجد أسلوبه وتفكيره دائما؛ بيد أنه يجنح أحياناً إلى السخرية اللاذعة؛ وهو فوق ذلك فيلسوف عميق الفكرة دقيق الملاحظة بعيد الغور والمغزى، وناقد قوي الجدل والحجة، وفنان من الطراز الأول يعشق الفن ويرعاه؛ وكان حتى آخر أيامه مديراً لمتحف شانتي.

ويتبوأ بورجيه كرسيه بين الخالدين في الأكاديمية الفرنسية منذ أثنين وأربعين عاماً؛ وكان إلى ما قبيل وفاته يوالي الكتابة في كثير من الصحف والمجلات الكبرى، ويكتب منذ أعوام في جريدة (الفيجارو) كلمات في السياسة والاجتماع تلفت النظر بقوتها وطرافتها، وبوفاته ينهار ركن عظيم في صرح الأدب الفرنسي المعاصر.

(ع)

الأستاذ أحمد أمين يحاضر في بيت المقدس

نظمت جمعية الشبان المسيحيين في فلسطين سلسلة محاضرات في (المدينة العربية)، واختارت لها جماعة من صفوة العلماء، منهم الأستاذ أحمد أمين، والأستاذ جيب، والأستاذ مايرهوف.

وسيلقي الأستاذ أحمد أمين محاضرته في (الإسلام كعامل في المدينة) ببيت المقدس في يوم الأربعاء 22 يناير سنة 1936.

حول الاحتفال بذكرى المتنبي

لامنا الأديب السيد فاضل سعيد عقل في شيء من الإسراف على أننا أغفلنا حفلة لبنان حين أشرنا إلى بعض تلك الحفلات في مقالنا عن المتنبي، وعزا ذلك إلى أن المصريين

ص: 66

يتعمدون أن يَسْفهوا حق لبنان! ولو تذكر الأديب ساعة كان يكتب أن الحفلة الرائعة التي أقيمت في (سان باولو) إنما أقامها لبنان، وأن الحفلة العتيدة التي ستقام في دمشق إنما تقيمها سورية، وأن الإسكندرية أقامت حفلة كحفلة بيروت لم نشر إليها؛ لو تذكر ذلك كله ساعة كان يكتب رسالة لما سمح له ضميره أن يصطنع هذه العصبية الإقليمية المفرقة في عصر يدعونا فيه الجهاد المشترك إلى أن نمحو كل الفروق العارضة أمام الجوار والقرابة والجنس.

جواب عن سؤال

سألنا (قارئ) من قراء الرسالة عن الحكمة في كتابة اسمها وتأريخ يومها ورقم عددها بالفرنسية، وخشي أن يكون في الأمر تقليد أو حذلقة. والواقع أن ذلك احتياط بريدي اقتضاه انتشار (الرسالة) في البلاد الأجنبية، وعمل اقتصادي استدعته علاقة مكتب الإعلان في المجلة بالشركات التجارية الأوربية، وإذا لم تفعل الصحف الغربية ذلك فلأنها لغاتها مقروءة في كل بلد.

مؤتمر الجراحة الدولي العاشر

في منتصف الساعة الثانية عشر من يوم الثلاثاء الماضي أفتتح مؤتمر الجراحة الدولي العاشر في قاعة المحاضرات بالجامعة المصرية بحضور سمو النائب عن جلالة الملك ووزراء الدولة وأساتذة الجامعة وأعيان الحكومة ورجال الصحافة وطلاب العلم، فكان يوماً مشهوداً من أيام الإنسانية المفكرة العاملة، أزال الفروق بين الناس، ومحا الحدود بين البلاد وجمع بين الأمم المتباعدة المختلفة على فكرة نبيلة هي تسخير الجهود العلمية المشتركة لتخفيف آلام الإنسان.

أفتتحه صاحب السعادة وزير المعارف بخطاب عربي جاء فيه (إن العِلم المصري الذي توالت عليه آلاف السنين ليشعر بشرف وسرور حق، إذ يرى في هذا الاجتماع ثقات الممثلين للجراحة العامة في العالم أجمع، والأعضاء المبرزين لأشهر المعاهد الطبية والعلمية، يستعرضون في هذا الاجتماع الحافل كل ما أمكن تحقيقه في جميع أنحاء العالم من التقدم في فروع الجراحة، ويتجهون نحو ترقية فن من أعز الفنون الإنسانية في جو من

ص: 67

السباق النبيل المثمر).

ثم ألقى بعده الدكتور علي إبراهيم باشا عميد كلية الطب خطاباً بالإنجليزية عرض فيه جهود مصر القديمة والحديثة في فنون الطب. ثم قفاه الدكتور فرهوجن رئيس اللجنة الدولية فخطب بالفرنسية شاكراً لنائب جلالة الملك ولجنة تنظيم المؤتمر هاتفاً بآثار مصر في عالم الجراحة.

ثم قام من بعده الدكتور كرفان فأثني وشكر ثم قال:

(لقد رحبت أغلبية أعضاء اللجنة الدولية بدعوة مصر منذ ثلاث سنوات، فهل ذلك لأن مصر والإسكندرية خاصة، كانتا منذ ألفين من السنين واسطة العقد في العالم الطبي، أو لأن ورق البردي يعد أقدم الوثائق لشفاء المرضى؟

قد يكون هذا، ولكن ثمة أمراً آخر، هو أن مصر ظلت منذ أكثر من ألفي سنة بلد الأسرار الذي تتجه إليه أذهان الإنسانية؛ ولأنها من ناحية أخرى وطن الفن الذي يجمع بين القوة والعظمة والدقة.

ثم قال: إن تأريخ الإنسانية يفتح هنا، كأنه كتاب نستطيع تقليب صفحاته واحدة واحدة، وهو إذ نقرأه، يبعث فينا شعور التواضع، وينزل عملنا المنزلة الصحيحة.

ولقد وجدنا جماعات برغم السحب التي تظلل سماء العالم بأسره، ونحن على يقين أن عملنا - بفضل النظام الذي وضعه زملاؤنا في كلية الطب، وعميدها خاصة - سيتم على أحسن صورة.)

ثم خطب بعده الدكتور ماير سكرتير الجمعية الجراحية الدولية خطبة بالفرنسية جاء فيها:

(وبهذه المناسبة أشيد بالجهود العلمية والمادية التي بذلت لجعل هذا المؤتمر يتمشى مع مبادئ جمعيتنا وهي العمل على أتساع العلوم الجراحية، ولا أريد أن أتكلم عن الشخصيات. غير أني لا أستطيع أن أمنع نفسي عن التكلم عن الأعمال التي قام بها علي إبراهيم باشا والدكتور نجيب مقار وغيرهما من الجراحين الأجانب. فقد أوضح كل منهم تجاربه الشخصية بصور مختلفة؛ وكانت كلها بمثابة أبحاث في المسائل التي اختلفت فيها آراء الجراحين، وأعتبر أن هذه الأعمال إنما هي آثار خالدة خلود الأهرام).

وختم الاحتفال الدكتور شوماكر رئيس المؤتمر بخطبة إضافية في أغراض المؤتمر

ص: 68

والتنويه بذكر مصر والجامعة.

ولا يزال أساطين الجراحة وأساتذة الطب يوالون أبحاثهم العلمية فجعلوا من القاهرة كما قال أحدهم ميداناً للمناقشة في أحدث ما بلغه الطب من الآراء، وأعوص ما عرفه العلم من مشكلات الجراحة. ومما تناقش فيه الأعضاء (جراحة عصب القطن السمبتاوي)، وجراحة (القولون) عدا السرطان، والأحوال الجراحية للبلهارسيا، وقد ألقى الدكتور محمد خليل عبد الخالق بك تمهيداً لذلك محاضرة عن (تأريخ حياة البلهارسيا) عرض صورها على شريط سينمائي.

جوائز أدبية مصرية

بارك الله في بنك مصر، وفي قادة بنك مصر، وفي مشروعات بنك مصر؛ فإنها أسطع درة في جبين هذا الوطن الذي يسمو دائماً إلى الطليعة. ولقد شاء بنك مصر بعد أن وضع الأسس الثابتة لنهضة مصر المالية، ونهضتها الصناعية، أن ينزل إلى ميدان الفن والأدب، فأنشأ شركة مصرية للتمثيل والسينما؛ ورأى أن يقرن الفن بالأدب، وأن يغذي الشرائط المصورة بموضوعات وقصص مصرية محضة، فأذاع أنه يخصص لكتاب القصص المصريين جوائز تبلغ قيمتها ألف جنيه منها أربعمائة لجائزة ممتازة، وأربعمائة لأربع جوائز من الدرجة الأولى، ومائتان لخمس جوائز من الدرجة الثانية، وأنه يترك لهم الحرية في اختيار نوع القصة. وتقول شركتنا المصرية في بيانها:(فهذا باب جديد يفتح أمام المجدين من الكتاب لينالوا نصراً عزيزاً يرفع هاماتهم وهامة بلادهم). وفي الحق أنه باب جديد يفتح لكتابنا، بل هو فتح جديد في ميدان الرعاية الأدبية التي ليس لها في بلادنا أثر، والتي تخلت عنها جميع الهيئات الرسمية وغير الرسمية، ونحن نقص في هذا الباب دائماً أنباء الجوائز الأدبية العديدة التي تخصص في جميع البلاد المتمدنة لتشجيع الحركة الأدبية، وتشجيع الكتاب الناشئين بوجه خاص؛ ولكنا لم نجد من قبل ما نذكره عن أية جائزة أدبية مصرية ذات شأن. فالآن يتقدم بنك مصر على يد شركته للتمثيل والسينما لسد هذا الفراغ؛ وهو يتقدم بثقة وكرامة شأنه في كل مشروعاته، فيقدم إلى كتابنا جوائز من الطراز الأول؛ وإذا كان لنا ما نتمناه في هذا الميدان فهو أن يعمل البنك على التوسع في تشجيع الحركة الأدبية ورعايتها من طريق نشر المؤلفات العلمية والأدبية النافعة. وللبنك

ص: 69

مطبعة كبيرة مجهزة بأحدث الأدوات والآلات الفنية، ففي وسعه أن يجعل منها في نفس الوقت داراً كبرى للنشر وإحياء الآداب العربية، وهو بذلك يسدي إلى الحركة الأدبية وإلى الثقافة العربية خدمة جليلة.

تأبين فقيد التعليم المغفور له محمد أمين لطفي

قرر مجلس إدارة جمعية خريجي المعلمين العليا بجلسته المنعقدة بتأريخ أول يناير سنة 1936 إقامة حفلة تأبين لفقيد التعليم المغفور له الأستاذ محمد أمين لطفي عضو الجمعية، وقد تألفت لجنة من أعضاء المجلس لتنظيم الحفلة. وسيعلن عن موعدها ومكانها قريباً.

وترجو اللجنة كل من يريد المساهمة في التأبين أن يتصل بها بنادي خريجي المعلمين العليا رقم 1 شارع فؤاد الأول بالقاهرة.

ص: 70

‌النقد

رد على نقد

كتاب تأريخ الإسلام السياسي

للدكتور حسن إبراهيم حسن

مؤلف الكتاب

الآن وقد انتهى ناقد هذا الكتاب من الكلام عما سماه مآخذ تاريخية، فيحق لي - إنصافاً للحق وتمحيصاً للتأريخ - أن أرد عليه بإيجاز حتى يكون القراء على علم بالحقيقة. ولا يفوتني - قبل أن أرد على بعض هذه المآخذ - أن أشير إلى أن فكرة جالت في خاطري: هي إهمال الرد، اتكالاً على أن المطلع على الكتاب يتولى بنفسه تفنيد هذه المزاعم، لولا أن كثيراً من زملائي ألحّ عليّ أن أرد باسمي واضحاً لأضع الحق في نصابه.

يقول حضرة الناقد: (إنه عمد إلى نشر ما تيسر له نشره من الاستدراك خدمة لمادة ناشئة في معاهدنا العلمية واستحثاثاً للمؤلف على تدارك أمره في مادة هو متخصص فيها، وضناً بما لمصر من حسن السمعة العلمية في الأقطار الشرقية أن يتطرق إليه ضعف أو وهن).

وقبل أن أستدرك على هذا الاستدراك وأبين أن ما سماه الناقد مآخذ تاريخية وجغرافية، قد بالغ في بعضها كل المبالغة، وجاَنب الأنصاف في غالبها؛ ألفت نظر حضرته إلى أنه كان يستطيع أن يجنّب نقده بعض عبارات نابية يستغني عنها الموضوع الذي هو بصدده. وما أدري ما شأن تلك المآخذ بنحو هذه الألفاظ:(الألقاب الضخمة، الآثار العلمية المؤلفة والمترجمة، إن المؤلف شغل بنقل شرح التبريزي على القصيدة عن تفهمها وتبيين من قيلت فيه، الأغلاط والتورط، الخلط القبيح.) ولعل الأستاذ المستدرك غاب عنه أن مآخذه التاريخية والجغرافية على فرض صحتها - وسيرى القارئ مبلغ صحتها - لا تقدح في كتاب أربى على ستمائة وخمسين من الصفحات، ولا تدعو إلى كل هذا الإشفاق على حسن سمعة مصر في الأقطار الشرقية أن يتطرق إليه ضعف أو وهن، وغاب عنه أيضاً أن إيراد مثل هذه الألفاظ الشديدة التي لا تتعلق بموضوعه ألبته تعكس الغرض من النقد الذي اشترطوا له أن يقوم على ركن ركين من النزاهة الكافية والخبرة التامة، حتى لا يجد فيه

ص: 71

الحاطبون أو ذوو المآرب مجالاً لبث كيدهم أو شفاء لحك حزازاتهم. وشتان بين تجريح عنيف وبين نقد سائغ يراد به الإصلاح، قد أسس على الصدق والحق وتقدم به الناقد في هدوء وسلامة ذوق، فما جرح من عاطفة ولا مس من كرامة، ولا كان رغبة في تشهير أو إلصاق عيب. ومن هنا قالوا إن النقد صعب مرتقاه. ذلك لأن الناقد حكم أو شبيه به، ولا يتسنى له ذلك إلا بالقدرة على ضبط النفس وتجنب مواضع الزلل.

ص34 - أخذ الناقد على الكتاب إطلاق كلمة (أقيال) على ملوك العرب وساداتهم، مع أن هذا اللقب - على رأيه - خاص بملوك اليمن أو مَن دونهم من أمراء المخاليف اليمنية. وألحق أن هذا التخصيص لا محل له. جاء في القاموس أنه يطلق على الملك، أو هو دون الملك الأعلى.

ص36 - أخذ الناقد على الكتاب في قوله: (وكان للعرب نظام ثابت للزواج؛ فكان جمهورهم يقترن بالزوجة بعد رضاء أهلها، كما كان كثير منهم يستشيرون البنات في أمر زواجهن. . . الخ)، أنه لم يقصر هذه الحال على الحجاز بل عممها في شبه الجزيرة.

وإذا لاحظ القارئ أن الحجاز هو قلب بلاد العرب، تحج إليه من قديم الأزمان للعبادة والتجارة والمباراة في الشعر، وأقامت فيه الأسواق لذلك، ومنه تصدر التقاليد والعادات اجتماعية وخلقية، وعلى قالبه يضع القاطنون في أنحاء الجزيرة العربية ويعتصمون بخواطره، وأن الحجاز هو موطن الحركة الدينية والسياسية اللتين يؤرخ لهما المؤرخون، إذا لاحظ القارئ هذا، أدرك لأول وهلة أن الناقد لم ينصف في مأخذه ولم يوفق فيما أستدل به من حديث عائشة في هذا المقام.

ص45 - يقول الناقد إن الفرس لم يزهدوا في بلاد اليمن و (أنهم كانوا حراصاً عليه ليحدوا من نفوذ خصومهم الروم والأحباش في تلك البلاد). ولو أنه أطلع على ما ذكره الطبري الذي أخذ عنه براون في كتابه (تأريخ الفرس الأدبي) ، ، ، 178) وهو - كما لا يخفى - حجة دامغة في تأريخ الفرس، لعلم أن كانوا حقيقة زاهدين في غزو بلاد اليمن. ولا أدل على ذلك من رد كسرى على سيف بن ذي يَزَن الحميري عندما طلب منه مساعدته لاسترداد بلاده من الأحباش إذ يقول له:(بعدت أرضك عن أرضنا، وهي أرض قليلة الخير. إنما بها الشاة والبعير وذلك مما لا حاجة لنا به).

ص: 72

ولعل من العجب أن يقيم حضرة الناقد عاصفة حول اختلاف المؤرخين في وصف (وهرز) قائد الحملة الفارسية على اليمن، وهل حاجباه هما اللذان سقطا من الكبرأوأن جفنيه انطبقا أحدهما على الآخر من الكبر!! فالمسألة - كما يرى القارئ - مسألة شكلية خلافية بين المؤرخين، ومؤداها - على كل حال - أنه بلغ من الكبر عتياً، فلا تستحق كل هذا الجهد.

ص61 - 62 - يأخذ الناقد علينا أننا استعملنا لفظاً أجنبياً لنظام عربي، وأن التنظير بين بلاد العرب وبين شبه جزيرة قرشقة يبدو غريباً ونابياً. والمنصف يقدر لنا رغبتنا في عدم إيقاع القارئ في لبس، خصوصاً إذا لم يكن قد قرأ شيئاً عن هذا النظام الذي كان سائداً في جزيرة قرشقة منذ مئات السنين؛ وقد سلكنا هذا المسلك عينه في كتابنا (الفاطميون في مصر وأعمالهم السياسية والدينية بوجه خاص)(ص23) الذي قامت وزارة المعارف بطبع ترجمته العربية على نفقتها سنة 1932.

ص68 - هوّل الأستاذ الناقد تهويلاً عظيماً فيما جاء بسياق كلامنا عن قريش (أنهم اتخذوا جزءاً من الأرض أولوه احترامهم وبنوا به بيتاً حراماً لا يحل فيه القتال وأخذوا على عاتقهم حمايته) مستنداً في مأخذه على أن إبراهيم الخليل هو باني الكعبة، وأن قريش كانت تحتمي بالبيت الحرام.

ويقيننا أن حضرة الناقد، إذا رجع إلى كتب التأريخ والسير والحديث، عثر على ما يناقض استناده - ولو إلى حد كبير. فكما أنه لا يشك مسلم في أن إبراهيم هو أول من بنى الكعبة بنص الكتاب الكريم، كذلك لا يشك مؤرخ في أن الكعبة قد هدمت بعد هذا مرات بفعل السيول أو النار، وأنها بنيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حين كانت سنة خمسة وثلاثين، وأنه هو الذي وضع بيده الكريمة الحجر الأسود وفض بذلك النزاع بين المتزاحمين؛ ولا يشك محدث أن الرسول قال لعائشة:(لولا أن قومك حديثو عهد بالكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم)، وأن عبد الله بن الزبير هدمها أبان خلافته وبناها على أساس قواعد إبراهيم، مستنداً إلى الحديث السابق، فأتى الحجاج بعد هذا وأعادها إلى ما كانت عليه في عهد الرسول.

أما مسألة الاحتماء بالبيت الحرام أو حمايته، فليبس فيها فارق كبير إذا اعتبرنا الاحتماء للأفراد والحماية للجماعات. وقد حصل في قصة أبرهة الحبشي ما يؤيد ذلك، على أننا قد

ص: 73

ذكرنا في كتابنا هذا (ص66، 68، 92، 93، 450) ما يثبت ذلك كله.

ص87 لا أدري وجهة النصح من حضرة الناقد لنا في أن نبرأ من الذهاب إلى أن معنى التحنف التوبة والاعتراف. فليس بخاف أن التوبة هي ميل من حال إلى حال. ومعنى (حنيفاً) مائلاً عن الباطل إلى الدين الحق. راجع تفسير البيضاوي وغيره.

الحق أن هذا النصح لا يبعد عنه في الغرابة إلا دعوى أن الرسول صلى الله عليه وسلم تأثر تأثراً بريئاً بالجمال حين تزوج صفية بنت حُي!! وليسمح لنا الأستاذ الناقد أن نستعير عبارته (لست أدري ما الذي أبقاه بعد هذا القول لجهلة المبشرين ومتعسفي المستشرقين).

نعم! أيها الأستاذ. إن الرسول - كما قلنا في كتابنا - كان مضطلعاً بمهمة عظيمة تسمو عن الجمال وعن خلجات الفكر، ولعلك تراجع كتب التأريخ الإسلامي لترى أن السبب الوحيد في هذا الزواج هو تأليف قلوب قومها وإسلامهم، ولتكون سبباً في عتقهم ليشتد بهم أزر المسلمين. فهذه هي عائشة أم المؤمنين تقول:(لم أر امرأة أكثر بركةً ومنةً على قومها من صفية. أسلم بزواجها قومها وأعتقوا؛ فقد أطلق الصحابة أسراهم من قومها وقالوا إنهم أصهار الرسول). ثم كيف تستبعد أن يطمع الرسول في إسلام اليهود مع ما جرى منهم، وهو الذي أنزل عليه القرآن محذراً من القنوط لأنه علامة الكفر، وحاثاً على التواصي بالحق والتواصي بالصبر؟ لعل الناقد أولى بأن يبرأ من هذا القول الجريء وإلقاء تبعته على سبْق القلم.

ص131 - أخطأ الناقد في تفهم قولنا إن الإسلام أحل الوحدة الدينية محل الوحدة القومية، وذكر أننا أوردنا عبارة (الدعوة الدينية) مع أنها (الوحدة الدينية!!)، وقد ضم حضرته هذا الخطأ الذي وقع فيه إلى المآخذ التاريخية التي عابها على الكتاب، وأما عن قوله:(إن المراد بالوحدة القومية والجنس هو القبيلة) فهو كلام غير مفهوم بدليل قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقوله عليه الصلاة والسلام (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). فالمقصود هنا الموازنة بين أمة وأمة لا بين قبيلة وأمة، ولعل الناقد يريد بذلك أن يقيس مع الفارق على رأيهم.

ص211 - ثم ما ندري عدم اللياقة في التعبير عن نابليون بالفتى التلياني، مع أن المعنى

ص: 74

اللغوي والإطلاق العربي يجيزان ذلك بتوسع. إن نابليون كان فتى، لأنه رجل عظيم أتى بصنوف من العبقرية والمواهب في الحرب والسياسة، وكان العرب يطلقون لفظ الفتى على من أمتاز بموهبة تبعث الإعجاب والثناء، ولقد قالوا قديماً:(لا فتى إلا عليّ)، ونابليون كان فتى بالمعنى اللغوي لأنه حين بزغ نجمه لّما يكتمل العقد الثالث من عمرهُ؛ ثم كان تليانياً (بياء النسبة) من جزيرة قرشقة. لعل لهذه الغيرة النابليونية سبباً تكشفه لنا الأيام.

ص240 - 241 - يرمينا الناقد بالتقصير في تفهم قصيدة (تأبط شراً) ويأخذ علينا نقل شرحها عن التبريزي، وأننا ذكرنا في التعليق عليها لفظ عمه بدل خاله، وقد فات الناقد أننا ذكرنا لفظ خاله مرة قبل ذلك، ثم ذكرنا لفظ عمه سهواً وعن غير قصد: أما نقلنا شرح التبريزي، فمع إشارتنا إلى المصدر الأصلي - وهو ما يعبر عنه المؤرخون بالأمانة في النقل - فأننا لم ننقل هذا الشرح على القصيدة برمته، وإنما نقلناه بتصرف ومع مراجعة القاموس وكتب اللغة. فما ندري أن الخطأ غير المقصود في ذكر لفظ العم بدل الخال في قصيدة يكون معناهُ أننا لم نتفهم معنى القصيدة برمتها. وهكذا يكون الأنصاف وإلا فلا!!

كم أعجبني قول الأستاذ الكبير والمؤرخ المشهور بآثاره العلمية محمد بك كرد علي في تحقيقاته على كتاب: (ذكر المعلق على الكتاب أنه وقعت في طبعته هذه بعض أغلاط مع كل ما عانى في تصحيحه جاء بعضها سهواً منه، وبعضها من خطأ النظر، وبعضها من الأغلاط المطبعية التي لا يتنزه عنه كتاب.

ونحن نقيم من كلامه هذا عذراً لكل من أحيا كتاباً للقدامى وليس من الأنصاف أن يحمل على كل من أرتكب خطأ من هذا القبيل بعد بذل الجهد).

ص330 - على الرغم مما ورد في كتب التأريخ بأن عثمان كان يصوم الدهر وأنه قتل صائماً، فأن الناقد يحاول بجرة قلم أن يرفض هذا القول لسبب واحد: هو أن العقل يرفضه!! كأن حوادث التأريخ أصبحت تجري وراء عقل بعض الناس؛ فما رفضه يجب أن يمحى من كتب التأريخ ولو بلغ حد التواتر أو قام عليه ألف دليل ودليل. ألسنا في حل من إن نقول الذي جعل العقل يرفض هذا القول هو أننا نريد أن نثقل كفة السيئات والمآخذ.

ص: 75

ص365 - ينفي الناقد ما ذكرناه من أن عثمان أنتخب بمقتضى قانون الشورى الذي سنه عمر. ولم يكف حضرته في ذلك أن عمر سن نظاماً شورياً مناسباً جداً لعصره بتعيينه ستةُ يختار من بينهم خليفة، وجعل أبنه عبد الله أحد من يختارون على ألا ينتخب. فهل كان يريد الناقد لتحقيق هذه التسمية أن يعتبر عمر دفاتر الانتخاب ويرجع إلى دستور سنة 1923؟ ألا إن هذا المبدأ الذي سنه عمر كان حجر الزاوية في قانون الشورى إن لم يكن هو القانون بأكمله. ولو أخذ المسلمون به لما بزغت قرون الفتن، ولما زلزلوا زلزالاً شديداً صدعّ بنيانهم وأسرع في انحلالهم.

(يتبع)

حسن إبراهيم حسن

ص: 76

‌الكتب

كتاب الأوراق

للصولي

للأستاذ محمد بك كرد علي

كان أبو بكر محمد بن يحيى الصولي من الأدباء الظرفاء والندماء العلماء. نادم الراضي بالله وكان أولاً مؤدباً له. ونادم المكتفي ثم المقتدر. وكان من ألعب أهل زمانه بالشطرنج مات مستتراً بالبصرة في سنة 335هـ على أصح الروايات، لأنه روى خبراً في علي بن أبي طالب فطلبته الخاصة والعامة لتقتله. وله كتب كثيرة في الأخبار وتراجم الرجال، ولا سيما الخلفاء والأمراء والشعراء. والغالب عليه (أخبار الناس، وله رواية واسعة، ومحفوظات كثيرة. وكان حسن الاعتقاد جميل الطريقة. مقبول القول) وتآليفه: كتاب الأوراق هذا الذي قال فيه المسعودي (إن الصولي في كتاب الأوراق ذكر غرائب لم تقع إلى غيره، وأشياء تفرد بها، لأنه شاهدها بنفسه. وكان محظوظاً من العلم، مجدوداً من المعرفة مرزوقاً من التصنيف، وحسن التأليف) والأوراق هو الذي أحياه بالطبع جزئين لطيفين أحد المستعربين من الإنجليز السير هودث دن. وكان طبع له كتاب (أدب الكتاب) أحد أدباء بغداد الشيخ محمد بهجة الأثري.

بدئ الجزء الأول من الأوراق أو القسم الذي عثر عليه الناشر بترجمة أبان اللاحقي وأخباره مع الرشيد ومع جماعة من الشعراء وأجزاء من نظمه كتاب كليلة ودمنة وبدأ بقوله:

هذا كتاب كذب ومحنة

وهو الذي يدعى كليلة ودمنة

فيه دلالات وفيه رشد

وهو كتاب وضعته الهند

فوصفوا آداب كل عالم

حكاية عن ألسن البهائم

فالحكماء يعرفون فضله

والسخفاء يشتهون هزله. . .

وفيه ترجمة ثلاثة شعراء وأدباء ظهروا من بيت اللاحقي، وترجمة أشجع السلمي ومختار شعره في المديح وغزله ومراثيه، وأشعار أشجع نحو ربع هذا الجزء. وترجم الصولي

ص: 77

لأحمد أخي أشجع كما ذكر أخبار أحمد بن يوسف الكاتب وأسرته ولا سيما أخوه القاسم، لأن الأخوين اقتسما نثر الكلام ونظمه فتقدم أحمد بن يوسف في النثر وأخوه القاسم في النظم. وبنو أحمد بن يوسف من أصل قبطي مصري، أسر جدهم فنشأوا في العراق وما زالوا يعلون وتنبه أقدارهم حتى وزر أحمد يوسف للمأمون. وللقاسم في الشيب والزهد من قصيدة:

ودع شبابك قد علاك مشيب

وكذاك كل معمر سيشيب

جازت سنوك الأربعين فأزعجت

منك الشباب تجارب وخطوب

ودعاك داع للرشاد أجبته

وبما يراك الغيّ ليس يجيب

فأبك الشباب وما خلا من عهده

أيام أنت إلى الحسان طروب

يسبين لبك بالدلال وتستبي

ألبابهن فسالب وسليب

طوراً يسامحن الهوى ويطعنه

ويصبن قلبك بالجوى وتصيب

خلطن معصية بحسن إجابة

فلهن عندك أنعم وذنوب. . .

ولهذا الشاعر قصائد جميلة قالها في أغراض شتى مثل قصيدة يشكو فيها البق والبراغيث والبرغش، وأخرى في رثاء هرة، وثالثة في الشكوى من النمل والفأر، ورابعة في رثاء الشاه مرخ (الشاهمرد)، وخامسة في رثاء القمري إلى غير ذلك (راجع ما كتبناه في درس هذا الجزء السادس في المجلد من مجلة المجمع العلمي العربي).

وفي الجزء الثاني من الكتاب أخبار الراضي والمتقي وتأريخ الدولة العباسية من سنة 322 إلى سنة 333 وفيه تجلت نفسية الصولي، وكان في الجزء الأول ينقل أخبار غيره فيجيد النقل ويحسن الاختيار؛ أما في هذا الجزء فتكلم فيه عن نفسه، وذكر أحاديثه مع الراضي وقصائد فيه، ومبالغة في محامده وعطاياه له، فظهر الإسفاف عليه بالحافة في الاستجداء من الخليفة وشكوى الزمان من الحرمان، وقول فلان منحني وفلان حرمني، مما لا يتناسب مع جلالة قدر من يدعي أن أهله كانوا من نسل ملوك جرجان، وهو يعاشر الخلفاء والأمراء، وهذا القسم مهم في تأريخ الخليفتين الراضي والمتقي، يتجلى فيه انحطاط الملك العباسي، وما كان يحاك حول الخلفاء من دسائس، وكيف تنزع السلطة من الخوالف شيئاً فشيئاً.

ص: 78

والغالب أن بعض المؤرخين اعتمدوا على نصوص الصولي في أكثر المسائل التي ذكرها واقتبسوا عباراته بحروفها، وشعر الصولي الذي شغل به صفحات طويلة من هذا الجزء معجون بالمصانعة، وعلى جانب من التكلف حاول أن يأتي بقصائد ذات قواف مستغربة، فأبهم وعمي، وحاد عن قانون السلاسة. ومما ذكره من شعر تلميذه الخليفة الراضي يفتخر:

لو أن ذا حسب نال السماء به

نلت السماء بلا كد ولا تعب

منا النبي رسول الله ليس له

شبه يقاس به في العجم والعرب

فأن صدقتم فأعلى الخلق نحن وإن

ملتم عن الصدق أعنقتم إلى الكذب

وله من قصيدة:

إني أمروءٌ تصفو موارد رأفتي

وتحْرُب سطواتي العدو المحرّبا

إذا عدت الأبيات أبصرت بيتنا

كأن الثريا بالبنيّ مطنباً

رويدك إن النار تظهر تارة

ويكمن في الأحجار منها تغيبا

وذكر له صفحات من شعره في الفخر والغزل والتشبيب وما أخلى الصولي الخليفة المتقي من تهكم وتعريض، ولعله قال ما رأى في هذا، وأغمض عن أمور رآها في سلفه الراضي، لأنه لم يكن له القبول الذي يحاوله في أيام المتقي، (ذكره ص249) صورة أمر عن المتقي لما غادر بغداد إلى بعض أرجاء العراق وهو خائف من الناس قال: وكتب الخليفة إلى صاحب الشرقية أحمد أبن جعفر الزطي بكتاب يأمره أن ينادي بما فيه فنادى (أمر أمير المؤمنين أطال الله بقاءه بالنداء ببراءة الذمة ممن فتح من العمال والمتصرفين شيئاً من الدواوين، أو نظر في الأعمال، أو طالب بخراج، أو تصرف في عمل من الأعمال السلطانية بعد شخوص أمير المؤمنين، فقد أحل بنفسه العقوبة الموجعة وهجم (داره) وإباحة ماله، فقد أحب أمير المؤمنين ترفيه رعيته والاحتياط لهم، وترك إعناتهم، فليحذر المخالفون لذلك، وليلحق بأمير المؤمنين سائر عماله وأوليائه، ولا يتأخرون عن معسكره، وليلغ سامع هذا النداء الغائب عنه) أي أن الخليفة عطل كل شيء في بغداد لئلا يشغب العامة مدة غيابه عنها. وذكر المؤلف قصة تأديب الراضي وأخيه هارون وكيف أرسلت القهرمانة ريدان إلى المؤدب تقول (ص26) (إن هذه المحاسن من هذا الرجل عند السيدة ومن يخدمها مساوئ، فقل له عني يا هذا ما نريد أن يكون أولادنا أدباء ولا علماء، وهذا

ص: 79

أبوهم (المقتدر) قد رأينا كل ما نحب فيه، وليس بعالم فأعمل على ذلك) قال المؤدب فأتيت نصراً الحاجب فأخبرته بذلك فبكى وقال: كيف نفلح مع قوم هذه نياتهم. قلنا ولما اكتفى العباسيون بالجهل لأولادهم تداعت دولتهم شأن كل دولة جاهلة في القديم. وعهد المقتدر وتسلط النساء في القصر العباسي من أغرب أيام بني العباس. ومن هذه الأمور صُورَ صالحة في كتاب الأوراق وصفحات ينبغي لها أن تقرأ بتدبير.

محمد كرد علي

ص: 80