الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 132
- بتاريخ: 13 - 01 - 1936
من أحاديث النيروز
كنا ليلة النيروز المسيحي نسمر في دار صديق؛. . ولهذا الصديق زوجة من لوزان، دقيقة الفهم، رقيقة الشمائل، لطيفة التكوين؛ أغرمت بمصر وأخلاق أهلها اغراماً شديداً، فهي تحاول أن تتكلم الغربية، وتؤثر أن تعيش على الأوضاع المصرية، وتتابع بالنظر العطوف نهضتنا المجاهدة، وتدافع بالحجة القارعة ما تفتريه علينا الألسن الأوربية الجاحدة، وتحب كلما حضرت مجلسها أن تناقلني الأحاديث في مصر والعرب والإسلام والشرق، وهي في كل ذلك واسعة الاطلاع من طول ما تسافر ومن كثرة ما تقرأ.
كان زوجها وفريق من المدعوين يلعبون الورق على المائدة المغرية، وكان فريق آخر يستمع إلى (الراديو) وهو يذيع الأناشيد الكنسية المهللة، وأنا وهي على كرسيين متقابلين أمام المدفأة، نتجاذب على عادتنا أطراف الحديث المشقق، ونتصفح على طريقتنا أوجه الرأي المختلف، فأجد في حديثها الشهي الممتع ما يجده ذلك الذي يلعب، وذاك الذي يشرب، وهذا الذي يسمع!
تناهزت النفوس الحبيبة لذة الصفو في الساعات المودعة، وتجاوبت في البيع القريبة أصوات النواقيس المرنة، وتلاقت الحياة والموت في قلب الليلة المخضرمة، وتهتكت سدول المهد المحجب عن العام الوليد؛ فقالت لي ساعتئذ والرفاق يتبادلون المودة بالعيون، ويتناقلون التهنئة بالشفاه:
انظر كيف يولد العام المسيحي في بقاع الأرض!! إنه يولد كما يولد الأمل المعسول في النفوس المرحة الغضة، فالكنائس تعج بالصلوات المستبشرة، والمنازل تفيض بالمسرات المتجددة، والعالم الغربية كله لا يذكر في هذه اللحظة عاماً دفن مع الأمس، ذوت فيه نواضر المنى، وذهب معه بعض العمر، وإنما يذكرون عاماً يولد مع اليوم، فتستأنف نشاطها فيه، وتستمد رجاءها منه، وتستقبل حدثان الغد بالثغر الباسم والعزم الصارم والنظر الرغيب. . وما أدري - وقد نشأت في ربوع الغرب وطوفت في بعض أنحاء الشرق - لماذا كان المسلمون وحدهم اليوم رماد الموقد المضطرم: يتحرك بهم الفلك وهم ساكنون، وتتفجر عليهم الأحداث وهم غافلون، ويلقون في مراغة الذل وهم راضون، وتؤكل بهم أرزاق الأرض وهم قانعون، ويجادل عنهم خصومهم وهم ساكتون؟ أيرجع ذلك إلى العقيدة أم إلى الطبيعة؟
فأجبتها والخجل يكسر من طرفي ويعقد من لساني: ربما كان مرجعه إلى الاثنتين معا!
وكانت تنظر إلى لهب النار يرقص واريا بين وقود المدفأة، فحولت في دهشة وسرعة وجهها إلي وثبتت نظرها في، وقالت: كيف؟! ألم تكن عقيدتهم اليوم هي العقيدة التي ألفت من شتات البدو دولة، وبعثت من جوف الصحاري حضارة، ونفخت في قلوب الصعاليك من روح الله فطمحوا إلى ملك كسرى وهم جياع، وسموا إلى عرش قيصر وهم عراة، وصمدوا إلى حكم العالم وهم سذج؟
ألم تكن طبيعتهم اليوم هي الطبيعة التي تكرمت عن الدون، وتجافت عن الهون، وتسامت إلى القدر الخطير، وتمردت على الطغيان المستبد، وجعلتهم يضعون أنفسهم في كفة، والعالم كله في كفة، فسموا - كما علمت منك - من عداهم بالعجم، كما سمى الرومان من عداهم بالبربر؟
فقلت لها: كلا وا أسفاه! ليست العقيدة هي العقيدة، ولا الطبيعة هي الطبيعة! كانت عقيدتهم كما قلت سامية تبعث الطموح، صافية تكسب الخلوص، بسيطة تنتج الرفاق، جامعة توجب الوحدة؛ توفق بين الدين والدنيا من غير كلفة، وتصل بين الله والإنسان من غير واسطة، فاختلط بها في القرون الأخيرة شعوذة الهنود وأساطير اليهود وصوفية الفرس ولاهوتية اليونان، فأصيبت بالخدر الذاهل والتواضع الجبان، والزهد الكسول، والاتكال المخلف، والجدل العقيم، والاختلاف المفرق؛ ثم تبخر من هذا الخليط المشوه إكسير الحياة فلم يبق إلا الرواسب الغريبة، وتصعد منه عبير الروح فلم يبق إلا الأوراق الجفيفة؛ فالدين اليوم شعائر من غير شعور، وتقليد من غير فهم، واعتقاد من غير تطبيق، وشعوذة من غير حقيقة، وأحكام من غير حكم.
وكانت طبيعتهم كما قلت أبية تأنف الضراعة، طماحة تكره القناعة، وثابة تحاول التفوق، طلاعة تحب المغامرة؛ فامتزجت بها من بعد الفتوح دماء الأجناس المملوكة، وأدواء الأمم المنهوكة، وأوباء الأقاليم القصية؛ ثم قرت فيها صبابة الأحقاب، وانتهت إليها نفاية الأعقاب، وناءت بها أعباء التقاليد. فالعقلية الإسلامية اليوم مشوبة غير صريحة، معقدة غير واضحة؛ وهي من عبث الأحداث متنافرة لا تلتئم، متخاذلة لا تقاوم.
إنما العقيدة الخالصة والطبيعة السليمة لا تزالان في بوادي الحجاز وهضبات نجد؛ ولكن
العالم غير العالم، والوسيلة غير الوسيلة، والغاية غير الغاية!
فإذا لم نجل عن عقيدتنا هذا الصدأ العارض، وننف عن ثقافتنا هذا الهراء الغث، ونجُدّ من خلفنا ذيل التقاليد الفاسدة، ظل سيرنا يا سيدتي بطيئاً لا يلحق، وجهدنا باطلاً لا يفيد.
وكانت فورة اللعب والطرب قد قرت في نفوس القوم، فخلت المائدة، وسكت الراديو، وفتر الحديث، وتهيأ السامرون للخروج، فلم تستطع السيدة أن تعقب على هذا الكلام.
احمد حسن الزيات
في الحب والمرأة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أنا - كما لا يعرف القارئ وإن كان لا شك لبيباً - أكره أن أُحِب أو أن أحَب. ولهذا النفور من الحب أسباب شتى، منها أنه لا يدلي في الأمر، ولا سلطان لي عليه، والمرء يصاب بالحب كما يصاب بالزكام - بكرهه وعلى الرغم منه - ولو خير لاختار السلامة وآثر النجاة، ومن ذا الذي يطيب له أن يتوعك؟ والحب حين يغمر النفس يذهلها عن لذته وحلاوته، ويشغلها بالوجيب والقلق والخوف والرغبة والغيرة، ولهذا كان أمتع ما فيه ذكراه - أي بعد تفتر الحرارة وتسكن النفس ويزول الاضطراب والقلق - أو تنتفي دواعيهما بفتور الرغبة - وقد يكون البحر الجائش العباب رائعاً ولكن ركوبه لا يحلو، واعتسافه لا يؤمن، والنفس مثله. وقد يسمو بها اضطرام الحب فيها إلى الجلال، ولكن الإحاطة بما تضطرب به والغوص عليه لا يتسنيان إلا بعد الهدوء؛ وقد يلهم المرء شيئاً وهو هائج، ولكن النظرة المباركة هي التي تدور بها العين في أنحاء النفس بعد أن تعود إليها سكينتها وصفوها ويتيسر الوصول إلى أغوارها والنفاذ إلى زواياها والتغلغل في سراديبها.
ومن الأسباب المزهدة أني رجل عادل منصف، أو دع الإنصاف وقل إن الله خلق لي في وجهي عينين، فما خيرهما إذا أنا لم أنظر بهما؟؟ والمرأة مستبدة، ومن استبدادها أنها تغضب وتثور وتسود عيشك إذا نظرت إلى سواها. وعبث أن تحاول أن تفهمها أن الإغضاء عن كل هذا الجمال الذي في الناس، قلة عقل، وقصر نظر - بل عمى -؛ وماذا تصنع العينان إذا لم تبصرا؟ وأي عمل آخر لهما هناك؟ وكون المرأة التي يبتلى الإنسان بحبها جميلة ليس معناه أن النساء غيرها دميمات؛ وحبك إياها لا ينبغي أن يتقاضاك مقت النساء الأخريات وتنقصهن؛ والإعجاب بهن لا يعد ثلباً لحبيبتك، وفي وسعها هي أيضا - إذا شاءت وكان هذا مما تستطيع - أن تعجب مثلك بهن. والرجل الذي يفقده الحب القدرة على الإعجاب بالجمال في صوره المختلفة يكون فاسد الذوق، ولو عقلت المرأة لكان هذا كافيا لتشكيكها في رأيه فيها.
ويزهدني في الحب أيضا أن مناظر العشاق مضحكة، وأحوالهم سخيفة، ومبالغاتهم شديدة، ودعواهم عريضة، وعمى قلوبهم وأبصارهم تام عن كل ما يحيط بهم. وأي عاشق لم يقطع
ألف وعد بالوفاء المستحيل؟ بل أي محب لم ينس طربوشه مرة، أو لم يلبس طربوشين واحداً فوق الآخر (ومع ذلك تراه لذهوله يدور باحثا عن طربوشه لظنه أن رأسه عار!) أو لم يبد للناس في الطريق أو الترام ملتاث العقل مخبولاً، يضحك ويقطب بلا سبب ظاهر، ويشير بأصابعه أو يلوح بيده، أو يكلم نفسه؟ والأرق؟ لا أدري لماذا لا ينام العشاق ملء جفونهم كما ينام عباد الله الآخرون؟ ولكن الذي أدريه أن النوم المريح قلما يؤاتيهم أو يسعفهم بسكينته، وتالله إن العاشق لمسكين! لا نوم الليلة يا صاحبي لأنك حين ذهبت إلى بيت حبيبتك رأيتها مطلة من النافذة وناظرة إلى جهة غير التي تعرف أنك آت منها! فهل كانت يا ترى تنتظر سواك؟ وعليك أن تذرع أرض الغرفة مائة ألف مرة هذه الليلة وتقطع خمسمائة فرسخ - جيئة وذهوبا - لأنك وأنت معها جعلت ذراعك حولها وهممت بضمها وتقبيلها فجنحت إلى الدلال ونفرت من العناق، وكانت تبتسم، ولكنها قالت (من فضلك!) من فضلك؟، وهل بيننا (من فضلك!). هذا كلام يقال للأغراب، وتكلف في التعبير لا يكون بين المحبين! ويظل طول الليل يدب على رؤوس النيام تحته. وفي ليلة يسير على وجهه في الشوارع كالمتشردين، ويحدث نفسه بالانتحار، ويجتاز جسر إسماعيل، وعينه إلى الماء الذي يتدافع بين قواعده، وقد يسأم التدخين فيلقي بعلبة السجاير في الماء ويغرقها فيه بدلا منه وفداء له، وبعد خمس دقائق يشتري غيرها. ولا يزال يتمشى حتى يرتاب في أمره الشرطة، ويرى منهم ما يرد إليه بعض ما عزت من عقله، فيرجع إلى البيت مضعضعاً مهدوداً. . . إلى آخره، إلى آخره.
ثم إن الحب إذعان، ومن أحب امرأة فقد أسلم أمره - إلى حد ما - لأهواء لا ضابط لها، ولا كابح، ولا تمييز فيها بين الممكن والمتعذر، أو اللائق وغير اللائق؛ وقد يطير الحب عقل الرجل - بل هو يفعل ذلك على التحقيق - ولكنه لا يستطيع أن يغير أسلوب تفكيره ولا أن يجعله كأسلوب المرأة في تفكيرها. وعسير أن يظل الحب قادراً على إخفاء الفوارق بين أسلوبي الرجل والمرأة في التفكير. وهب وقدته تبقى زمناً طويلاً - وهو ما أشك فيه ولا أومن به - فان توالي اصطدام العقليتين خليق أن ينبه إلى هذه الفوارق وأن يزعج الرجل ويحيره، وقد يفضي به إلى السآمة.
والمرأة التي ترى نفسها محبوبة تتوهم أن الرجل أباحها ظهره فهي تركبه وتركضه كيف
شاءت وإلى حيث ينزو برأسها أن تذهب، ولا تبالي ما يصيبه من الإرهاق والجهد والإعياء والملل، ولا يخطر لها أن كده على هذا النحو ولجاجتها في ذلك خليقان أن يخمدا وقدت الحب.
والدلال، ماذا نقول فيه؟ إنه مصيبة كبيرة وبلاء عظيم، ولكن المرأة تحسبه وقود الحب، فلا سبيل إلى شيء إلا بعذاب غليظ من هذا الدلال الثقيل، إذ كانت المرأة تسيء الظن بقيمة الاستجابة السريعة، ولا تؤمن إلا بقول القائل - قاتله الله كائناً من كان، فقد نسيت من هو -:(وَحَبُّ شيء إلى الإنسان ما منعا).
قلت مرة لامرأة وقعت بينها وبين حبيبها نبوة من جراء دلالها وإبائها عليه قبلة اشتهاها: (يا ستي أنت تحبينه، وهو يحبك - أليس كذلك؟).
فألقت إلي نظرة خبيثة، فهززت رأسي وقلت:(نعم أو لا؟ أيهما؟ قولي بلسانك)
فقالت: (لكأني في مدرسة!)
قلت: (ومن الذي غشك وأوهمك أنك استغنيت عنها؟؟ إنك لم تشبي عن الطوق إلى الآن، ومازلت إلى هذه الساعة بنتاً صغيرة جاهلة، أجدر بك أن تخرجي إلى الشارع، فتلعبي فيه بالحبل. . .).
فلم يسؤها مني هذا الطعن لأنها كانت تعرف عطفي عليها، وحبي لخيرها، فأعدت عليها السؤال، فقالت:(نعم) فقلت: (أشهد ألا إله إلا الله! وقد اشتهى منك قبلة، فهل كنت تأنسين من نفسك استعداد للإجابة ورغبة فيها؟) فضحكت وقالت: (هذا أشبه بالتحقيق. . . شيء جميل والله!)
قلت: (هو تحقيق. . . فأجيبي)
فصاحت: (ولماذا لم يقبلني؟ ماذا منعه؟)
فصحت بدوري: (إيه؟ ماذا تقولين؟)
قالت: (أقول إن روحي كانت على شفتي. . . وكنت أتلهف على قبلته، ولكنه لم يفعل وذهب يتكلم. . . سخيف!)
قلت: (ليس هو وحده السخيف)
فرفعت وجهها إلي، وزوت ما بين عينيها، فقلت: (أنا أيضا مثله. . . فقد كنت أحسبه
مؤدباً، وأعده مهذباً، فإذا به مغفل!).
فضحكت. . . وهكذا المرأة أبداً. . . ومن هذا الذي يجرؤ أن يزعم أنه يعرفها معرفتها؟ يفعل الرجل الشيء يطلب به رضاها، فإذا هي ساخطة ضجرة؛ ويتقي الشيء يخشى أن يغضبها بفعله، فإذا هي تلومه وتؤنبه وتعد ذلك من ذنوبه؛ وتختصر الطريق وتمشي إلى غايتك مباشرة، فتراها تؤثر اللف والمحاورة، فتروح تدور فتجدها قد تغير مزاجها، واختلفت رغبتها وانقلبت تؤمن بأن الخط المستقيم أقرب ما بين نقطتين؛ وتهدي إليها تحفة تتعب في انتقائها، وتغرم في سبيلها نصف دخلك، فتقول:(هل استشرتني قبل أن تشتريها؟)؛ وتستشيرها في مرة أخرى فتقول: (لو فاجأتني بالهدية لكان ذلك أحلى وأوقع) فأنت معها أبدا على كف عفريت سكران.
وعقول الرجل في رؤوسهم، أما عقل المرأة فقد يكون في حذائها - ولكنه على التحقيق - ليس في رأسها. وضائع، ضائع، من يجادلها بمنطق الرجال، أو يكلمها كلام العقل، فما عرفت ذلك يجدي معها. ولو أن رجلاً أثنى على عقل امرأة بكتاب في ثلاثين جزءا لما بلغ من نفسها ما هو خليق أن يبلغ بكلمة ثناء مفردة على جمالها - ولو كذباً - أو نظرة إعجاب واحدة إلى حذائها وإن كان أضخم من الباخرة نورماندي، أو مسحة بكفة - في حنو، ولو متكلفا - على شعرها وإن كان كضوء القمر.
ولست أذم المرأة، وكيف أجرؤ، وهي زينة الحياة وسر سحرها؟ ولكني أقول إنها مخلوق آخر، غير الرجل، وهو قول ليس فيه جديد، ولا شك أن الرجل يبدو للمرأة - كما تبدو هي له - مستغرب الأطوار شاذاً في أسلوب تفكيره، وطريقة تناوله للأمور.
إبراهيم عبد القادر المازني
2 - المشكلة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
لما فرغت من مقالات (المجنون) وأرسلت الأخيرة منها، قلت في نفسي هذا الآخر هو الأخر من المجنون وجنونه، ومن الفكر في تخليطه ونوادره؛ غير أنه عاد إلى أخلاطا وأضغاثا فكأني رأيته في النوم يقول لي: اكتب مقالا في السياسة. قلت: مالي وللسياسة، وأنا (موظف) في الحكومة، وقد أخذت الحكومة ميثاق الموظفين لما عرفوا من نقد أو غميزة ليكتمنَّه ولا يبيِّنونه. فقال: هذه ليست مشكلة، وليس هذا يصلح عذرا، والمخرج سهل والتدبير يسير والحل ممكن. قلت: فما هو؟
قال: اكتب ما شئت في سياسة الحكومة، ثم اجعل توقيعك في آخر المقال هكذا:(مصطفى صادق الرافعي؛ غير موظف بالحكومة). . .
فهذه طريقة من طرق المجانين في حل المشاكل المعقدة، لا يكون الحل إلا عقدة جديدة يتم بها اليأس ويتعذر الامكان، وهي بعينها طريقة ذلك الطائر الأبله الذي يرى الصائد فيغمض عينه ويلوى عنقه ويخبأ رأسه في جناحه ظنا عند نفسه أنه إذا لم ير الصائد لم يره الصائد، وإذا توهم أنه اختفى تحقق أنه اختفى؛ وما عمله ذاك إلا كقوله للصياد: إني غير موجود هنا. . . على قياس (غير موظف).
وقد كنت استفتيت القراء في (المشكلة) وكيف يتقي صاحبها على نفسه وكيف تصنع صاحبتها؛ فتلقيت كتباً كثيرة أهدت إلى عقولاً مختلفة؛ وكان من عجائب المقادير أن أول كتاب ألقي إلى منها - كتاب (نابغة) كنابغة القرن العشرين، بعث به من القاهرة، وسمي نفسه في (المصلح المنتظر)؛ وهذه عبارته بحرفها ورسمها كما كتبت وكما تقرأ؛ فان نشر هذا النص كما هو، يكون أيضا نصاً على ذلك العقل كيف هو. . .
قال: (إن هذا الكون تعبت فيه آراء المصلحين، وكتب الأنبياء زهاء قرون عديدة، ودائما نرى الطبيعة تنتصر. ولقد نرى الحيوان يعلم كيف يعيش بجوار أليفه، والطير كيف يركن إلى عش حبيبته، إلا الإنسان. ولقد تفنن المشرعون في أسماء العادات والتقاليد والحمية والشرف والعرض، وإن جميع هذه الأشياء تزول أمام سلطان المادة فما بالكم بسلطان الروح؟
ورأيي لهذا الشاب ألا يطيع أباه ولو ذهب إلى ما يسموه الجحيم (كذا) إذا كان بعد أن يعيش الحياة الواحدة التي يحياها ويتمتع بالحب الواحد المقدر له، ما دام قلبه اصطفاها وروحه تهواها؛ ولو تركته بعد سنين قليلة لأي داع من دواع الانفصال. (كذا)
وهذا ليس مجرد رأي مجرب، وإنما هو رأي أكبر عقل أنجبته الطبيعة حتى الآن، وسينتصر على جميع من يقفون أمامه، والدليل أن هذا المقال سيشار إليه في مجلة (الرسالة)، وهذا الرأي سيعمل به، وصاحب هذا الرأي سيخلد في الدنيا، وسيضع الأسس والقوانين التي تصلح لبني الإنسان مع سمو الروح بعد أن أفسدت أخلاقه عبادة المال.
إن الإنسان يحيا حياة واحدة فليجعلها بأحسن ما تكون، وليمتع روحه بما تمتع به جميع المخلوقات سواه. وإلى الملتقى في ميدان الجهاد)
(المصلح المنتظر)
انتهى
وهذا الكتاب يحل (المشكلة) على طريقة غير (موظف). . . فليعتقد العاشق أنه غير متزوج فإذا هو غير متزوج، وإذا هو يتقلب فيما شاء؛ وتسأل الكاتب ثم ماذا؟ فيقول لك: ثم الجحيم. . .
وإنما أوردنا الكتاب بطوله وعرضه لأننا قرأناه على وجهين، فقد نبهتنا عبارة (أكبر عقل أنجبته الطبيعة حتى الآن) إلى أن في الكلام إشارة من قوة خفية في الغيب، فقرأناه على وحي هذه الإشارة وهديها فإذا ترجمة لغة الغيب فيه: (ويحك يا صاحب المشكلة، إذا أردت أن تكون مجنونا أو كافرا بالله وبالآخرة فهذا هو الرأي. كن حيوانا تنتصر فيه الطبيعة والسلام.
تلك إحدى عجائب المقادير في أول كتاب ألقي إلي؛ أما العجيبة الثانية فان آخر كتاب تلقيته كان من صاحبة المشكلة نفسها. وهو كتاب آية في الظرف وجمال التعبير وإشراق النفس في أسرارها يَمُور موْر الضباب الرقيق من ورائه الأشعة، فهو يحجب جمالاً ليظهر منه جمالاً آخر؛ وكأنه يعرض بذلك رأيا للنظر ورأيا للتصور، ويأتي بكلام يقرأ بالعين قراءة وبالفكر قراءة غيرها. ولفظها سهل سهل، قريب قريب، حتى كأن وجهها هو يحدثك لا لفظها، ومادة معانيها من قلبها لا من فكرها، وهو قلب سليم مقفل على خواطره وأحزانه
مسترسل إلى الإيمان بما كتب عليه استرساله إلى الإيمان بما كتب له، فما به غرور ولا كبرياء ولا حقد ولا غضب ولا يكثره ما هو فيه.
ومن نكد الدنيا أن مثل هذا القلب لا يخلق بفضائله إلا ليعاقب على فضائله؛ فغلظة الناس عقاب لرقته، وغدرهم نكاية لوفائه، وتهورهم رد على أناته، وحمقهم تكدير لسكونه، وكذبهم تكذيب للصدق فيه.
وما أرى هذا القلب مأخوذاً بحب ذلك الشاب ولا مستهماً به لذاته، وإنما هو يتعلق صوراً عقلية جميلة كان من عجائب الاتفاق أن عرضت له في هذا الشاب أول ما عرضت على مقدار ما؛ وسيكون من عجائب الاتفاق أيضاً أن يزول هذا الحب زوال الواحد إذا وجدت العشرة، وزوال العشرة إذا وجدت المائة، وزوال المائة إذا وجد الألف.
وبعد هذا كله فصاحبة المشكلة في كتابها كأنما تكتب في نقد الحكومة على طريقة جعل التوقيع: (فلان غير موظف بالحكومة). . . وهي فيما كتبت كالنهر الذي ينحدر بين شاطئيه مدعياً أنه هارب من الشاطئين مع أنه بينهما يجري. تحب صاحبها وتلقاه؛ ثم هي عند نفسها غير جانية عليه ولا على زوجته. . . فليت شعري عنها ما عسى أن تكون الجناية بعد زواج الرجل غير هذا الحب وهذا اللقاء؟
ونحن معها كأرسطاطاليس مع صديقه الظالم حين قال له: هبنا نقدر على محاباتك في ألا نقول إنك ظالم؛ هل تقدر أنت على ألا تعلم أنك ظالم؟
ورأيها في (المشكلة) أن ليس من أحد يستطيع حلها إلا صاحبها، ثم هو لا يستطيع ذلك إلا بطريقة من طريقتين: فإما أن تكون ضحية أبيها وأبيه (تعني زوجته) ضحيته هو أيضاً ويستهدف لما يناله من أهله وأهلها فيكون البلاء عن يمينه وشماله ويكابد من نفسه ومنهم ما إن أقله ليذهب براحته وينغص عليه الحب والعيش، (قالت): وإما أن يضحي بقلبه وعقله وبي. . .
وهذا كلام كأنها تقول فيه: إن أحداً لا يستطيع حل هذه المشكلة إلا صاحبها، وأن صاحبها غير مستطيع حلها إلا بجناية يذهب فيها نعيمه، أو بجنون يذهب فيه عقله. فان حلها ذلك فهو أحد اثنين: إما أحمق أو مجنون ما منهما بد. . . ولسان الغيب ناطق في كلامها بأن أحسن حل للمشكلة أن تبقى بلا حل، فان بعض الشر أهون من بعض.
والعجيبة الثالثة أن (نابغة القرن العشرين) جاء زائراً بعد أن قرأ مقالات (المجنون) فرأى بين يدي هذه الكتب التي تلقيتها وأنا أعرضها وأنظر فيها لأتخير منها، فسأل فخبرته الخبر؛ فقال: إن صاحب هذه المشكلة مجنون لو امتحنوه في الجغرافية وقالوا له ما هي أشهر صناعة في باريس لأجابهم: أشهر ما تعرف به باريس أنها تصنع (البودرة) لوجه حبيبتي. . .
قلت: فكيف يرتد هذا المجنون عاقلاً؟ وما علاجه عندك قال: وجه في طلب أ. ش ليجيء، فلما جاء قال له اكتب: جلس (نابغة القرن العشرين) مجلسه للإفتاء في حل المشكلة فأفتى مرتجلاً:
إن منطق الأشياء وعقلية الأشياء صريحان في أن مشكلة الحب التي يعسر حلها ويتعذر مجاز العقل فيها، ليست هي مشكلة هذا العاشق أكرهوه على الزواج بامرأة يحملها القلب أولا يحملها، وإنما تلك هي مشكلة إمبراطور الحبشة يريدون إرغامه أن يتزوج إيطاليا، ويذهبون يزفونها إليه بالدبابات والرشاشات والغازات السامة.
ولو لم يكن رأس هذا العاشق المجنون فارغاً من العقل الذي يعمل عمل العقل، إذن لكانت مجاري عقله مطرودة في رأسه فانحلت مشكلته بأسباب تأتي من ذات نفسها أو ذات نفسه، غير إن في رأسه عقل بطنه لا عقل الرأس، كذلك الشره البخيل الذي طبخ قدراً وقعد هو وامرأته يأكلان. فقال ما أطيب هذه القدر لولا الزحام. . . قالت امرأته: أي زحام ههنا؟ إنما أنا وأنت. قال: كنت أحب أن أكون أنا والقدر فقط. . .
فعقل النهم في رأس هذا كعقل الشهوة في رأس ذلك؛ كلاهما فاسد التقدير لا يعمل أعمال العقول السليمة؛ ويريد أحدهما أن تبطل الزوجة من أجل رطل من اللحم، ويريد الآخر مثل ذلك في رطل من الحب. . .
وإذا فسد العقل هذا الفساد ابتلى صاحبه بالمشاكل الصبيانية المضحكة لا تكون في شيء كبير، ولا يكون منها شيء كبير؛ وهي عند صاحبها لو وزنت كانت قناطير من التعقيد؛ ولو كيلت بلغت أرادب من الحيرة؛ ولو قيست امتدت إلى فراسخ من الغموض.
هاتان المرأتان: (الحبيبة والزوجة)، إما أن تكونا جميعاً امرأتين فالمعنى واحد فلا مشكلة؛ وإما ألا تكونا امرأتين فالمعنى كذلك واحد فلا مشكلة؛ وإما أن تكون إحداهما امرأة
والأخرى قردة أو هِرْدة وههنا المشكلة. (حاشية: الهردة من أوضاع نابغة القرن العشرين في اللغة ومعناها الأنثى ليست من إناث الأناسي ولا البهائم. . .)
فان زعم العاشق أن زوجته قردة فهو كاذب، وإن زعم أنها الهردة فهو أكذب. والمشكلة هنا مشكلة كل المجانين، ففي مخه موضع أفرط عليه الشعور فأفسده، وأوقع بفساده الخطأ في الرأي، وابتلاه من هذا الخطأ بالعمى عن الحقيقة، وجعل زوجته المسكينة هي معرض هذا العمى وهذا الخطأ وهذا الفساد؛ ولا عيب فيها، لأنها من زوجها كالحقيقة التي يتخبط فيها المجنون مدة جنونه فتكون مجلي هذيانه ومعرض حماقاته، وهي الحقيقة غير أنه هو المجنون.
فان كانت هذه الحقيقة مسألةً حسابية استمر المجنون مدة جنونه يقول للناس: خمسون وخمسون ثلاثة عشر، ولا يصدق أبدا أنها مائة كاملة؛ وإن كانت مسألةً علمية قضى المجنون أيامه يشعل التراب ليجعله باروداً ينفجر ويتفرقع، ولا يدخل في عقله أبداً أن هذا تراب منطفئ بالطبيعة؛ وإن كانت مسألةً قلبية استمر المجنون يزعم أن زوجته قردة أو هردة ولا يشعر أبداً أنها امرأة.
فان صح هذا الرجل مجنون فعلاجه أن يربط في المارستان ثم يجيء أهله كل يوم بزوجته فيسألونه: أهذه امرأة أم قردة أم هردة؟ ثم لا يزالون ولا يزال حتى يراها امرأة ويعرفها امرأته فيقال له حينئذ: إن كنت رجلاً فتخلق بأخلاق الرجال.
أما إن كان الرجل عاقلاً مميزاً صحيح التفكير ولكنه مريض مرض الحب، فلا يرى (النابغة) أشفى لدائه ولا أنجع فيه من أن يستطب بهذه الأشفية واحدا بعد واحد حتى يذهب سقامه بواحد منها أو بها كلها:
الدواء الأول: أن يجمع فكره قبل نومه فيحصره في زوجته ثم لا يزال يقول زوجتي، زوجتي، حتى ينام. فان لم يذهب ما به في أيام قليلة فالدواء الثاني.
الدواء الثاني: أن يتجرع شربة من زيت الخروع كل أسبوع. . . ويتوهم كل مرة أنه يتجرعها من يد حبيبته، فان لم يشفه هذا فالدواء الثالث.
الدواء الثالث: أن يذهب فيبيت ليلة في المقابر، ثم ينظر نظره في أي المرأتين يريد أن يلقى الله بها وبرضاها عنه وبثوابه فيها؛ وأيتهما هي موضع ذلك عند الله تعالى، فان لم
يبصر رشده بعد هذا فالدواء الرابع.
الدواء الرابع: أن يخرج في (مظاهرة). . . فإذا فقئت له عين أو كسرت له يد أو رجل ثم لم تحل حبيبته المشكلة بنفسها. . . فالدواء الخامس.
الدواء الخامس: أن يصنع صنيع المبتلى بالحشيش والكوكايين، فيذهب فيسلم نفسه إلى السجن ليأخذوا على يده فينسى هذا الترف العقلي، ثم ليعرف من أعمال السجن جد الحياة وهزلها، فإن لم ينزع عن جهله بعد ذلك فالدواء السادس.
الدواء السادس: أنه كلما تحرك دمه وشاعت فيه حرارة الحب، لا يذهب إلى من يحبها ولا يتوخى ناحيتها، بل يذهب من فوره إلى حجَّام يحجمه. . . ليطفئ عنه الدم بإخراج الدم؛ وهذه هي الطريقة التي يصلح بها مجانين العشاق، ولو تبدلوا بها من الانتحار لعاشوا هم وانتحر الحب.
قال (نابغة القرن العشرين): فان بطلت هذه الأشفية الستة وبقى الرجل جموحاً لا يرد عن هواه فلم يبق إلا الدواء السابع.
الدواء السابع: أن يضرب صاحبه المشكلة خمسين قناة يصك بها واقعة منه حيث تقع من رأسه وصدره وظهره وأطرافه، حتى يتهشم عظمه، وينقصف صلبه، وينشدخ رأسه ويتفرى جلده؛ ثم تطلى جراحه وكسوره بالأطلية والمراهم وتوضع له الأضمدة والعصائب، ويترك حتى يبرأ على ذلك أعرج متخلعاً مبعثر الخلق مكسور الأعلى والأسفل، فان في ذلك شفاءه التام من داء الحب إن شاء الله.
قلنا: فان لم يشفه ذلك ولم يصرف عنه غائلة الحب؟
قال: إن لم يشفه ذلك فالدواء الثامن.
الدواء الثامن: أن يعاد علاجه بالدواء السابع. . . . . .
(لها بقية)
مصطفى صادق الرافعي
سفارة أندلسية
إلى ملك النورمانيين في القرن الثالث الهجري
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لبث عرب الأندلس منذ الفتح زهاء قرنين في مأمن من الغزوات الخارجية، لا تزعجهم سوى الحروب والمعارك الداخلية، ولم تشعر الأندلس المسلمة بخطر الغزو الخارجي في تلك الفترة إلا من ناحية واحدة، هي ناحية مملكة الفرنج التي بلغت ذروة القوة والبأس في عصر عاهلها كارل الأكبر (شارلمان)، والتي استطاعت من قبل أن تستخلص من يد العرب رباط الثغر وكل أملاكهم في لانجدوك وما وراء جبال البرنيه، وأن تغزو إسبانيا المسلمة من الشمال أكثر من مرة؛ ولكن هذا الخطر الداهم لم يلبث أن خبا عقب انحلال المملكة الفرنجية وتوطد الدولة الأموية في الأندلس.
بيد أن الأندلس لم تلبث أن عرفت خطراً آخر لم تكن لتفطن إليه أو تتحوط لرده؛ ذلك هو خطر الغزوات البحرية النورمانية؛ وقد ظهر هذا الخطر فجأة حينما ظهرت سفن النورمانيين في مياه الأندلس لأول مرة في سنة 230هـ (843م) في عصر أمير الأندلس عبد الرحمن بن الحكم، وعاثت في ثغور الأندلس، ووصلت إلى أشبيلية، واقتحم الغزاة بسائطها بالنار والسيف؛ ولم يك لعرب الأندلس يومئذ معرفة بتلك الأمة البحرية التي جاءت من أقاصي الشمال غازية في أقاصي الجنوب، فعرفوها وآنسوا خطرها ومنعتها؛ وعرفوها عندئذ باسم (المجوس)؛ ذلك لأن النورمانيين كانوا يومئذ أمة وثنية تعبد النار والكواكب والعناصر، ثم عرفوها فيما بعد باسم (المجوس الأردمانيين)، أعني النورمانيين؛ وكانت الأندلس حتى ذلك الحين تعني بأسباب الدفاع الداخلية والبرية، ولا تعني كثيراً بأمر الأسطول أو التحصينات البحرية، فلما شهدت جرأة أولئك الغزاة المجهولين، وشدة عيثهم بشواطئها وثغورها، عنيت بأمر الأسطول والثغور، ولم يأت عصر عبد الرحمن الناصر حتى كان للأندلس أسطول فخم يسيطر على تلك المياه، ويحمي ثغور الأندلس من كل غزو واعتداء.
وقد ترددت حملات النورمانيين على شواطئ الأندلس مراراً، في عصر عبد الرحمن بن الحكم، كما قدمنا، ثم في عصر ولده محمد (245هـ - 859م)، ثم بعد ذلك بنحو قرن في
عصر الحكم المستنصر (355هـ - 9660م)، ثم في عهد الطوائف (457هـ - 1065م)، وكانت في كل مرة تبث الذعر والروع والخراب أينما حلت، بيد أنها كانت ترد على أعقابها بعد معارك برية وبحرية طاحنة؛ وكانت تقنع دائماً بما تحصل من الغنائم والسبي، ولا تمكن من البقاء أو الاستقرار وسير هذه الغزوات البحرية مشهورة في الروايات الإسلامية والنصرانية، وليس من موضوعنا أن نعي بتفاصيلها، وإنما نعني هنا بحادث دبلوماسي شهير، كان من بعض آثار هذه الغزوات، وهو من الحوادث الدبلوماسية الفريدة في علائق الشرق والغرب والإسلام والنصرانية.
قام النورمانيون بغزوتهم البحرية الأولى لشواطئ الأندلس في سنة 230هـ (843م) في عهد عبد الرحمن بن الحكم، وعاثوا في بسائط أشبونه وأشبيلية ولبلة؛ ولم يستطع الأندلسيون رد أولئك الغزاة الشقر إلا بعد جهود جهيدة ومعارك طاحنة، وبعد أن رأوا من جرأتهم وشجاعتهم وشدة فتكهم ما يؤذن بانتمائهم لأمة قوية عظيمة؛ عندئذ رأى أمير الأندلس عبد الرحمن ابن الحكم أن يسبر غور هذه الأمة المجهولة، وأن يسعى إلى مهادنتها وعقد أواصر الصداقة معها، في نفس الوقت الذي يعنى فيه بتقوية الأسطول وتحصين الثغور، فانتهز فرصة مقدم الرسل النورمانيين إلى قرطبة لعقد الصلح بعد هزيمة الغزاة وجلائهم عن الثغور الأندلسية، وقرر أن يوفد معهم إلى ملك النورمانيين سفارة يؤكد بها المودة والصداقة.
واختار أمير الأندلس لسفارته رجلاً جعلته صفاته الخاصة خير من يستطيع الاضطلاع بتلك المهمة هو يحيى بن الحكم المعروف بالغزال؛ وكان الغزال شاعراً رقيقاً من أهل جيان، وكان يومئذ من أكابر رجال الدول والبلاط، يصطفيه عبد الرحمن ويؤثره برعايته وتقديره لما كان يتمتع به من خلال وكفايات خاصة في الإدارة والسياسة. وكان عبد الرحمن قد اختاره قبل ذلك ببضعة أعوام ليكون سفيره لدى قيصر قسطنطينية الإمبراطور نيوفيلوس؛ وكان الإمبراطور قد بعث إليه سفارة وهدية فخمة ليخطب وده ومحالفته ويرغبه في ملك أجداده في المشرق حقداً منه على المأمون والمعتصم؛ فرحب عبد الرحمن برسل الإمبراطور، وبعث إليه يحيى الغزال بهدية فخمة (225هـ - 836م) فأدى الغزال سفارته ببراعة، واستطاع أن يخلب الباب الإمبراطور وبطانته بذلاقته وحسن بيانه ورقة
شمائله؛ واستمر عبد الرحمن بعد ذلك يسند إليه مختلف المهام الدقيقة فيؤديها بكياسة وبراعة؛ وكان الغزال في الواقع رجلاً خلاباً وسيم الطلعة - ومن ثم سمى بالغزال - يتمتع بصفات السياسي البارع وخلاله ومؤثراته، ويستخدمها دائماً بفطنة ونجاح
وقد انتهت إلينا عن هذه السفارة الفريدة رواية إسلامية ضافية لكاتب أندلسي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي وهو أبو الخطاب بن دحية البلنسي في كتاب له يسمى (المطرب في أشعار أهل المغرب)؛ وفيه يسرد تفاصيل رحلة الغزال إلى بلاد النورمانيين، ويورد لنا طرفاً من خلاله وشيئاً من نظمه، بيد أن هذه الرواية الضافية تعني بالناحية الشخصية والأدبية أكثر مما تعني بالتحقيق التاريخي، ومن ثم فان كثيراً من الغموض يحيق بالمكان وبالظروف التي وقعت فيها هذه السفارة ويترك المجال واسعاً لمختلف الفروض.
تقول الرواية إن يحيى الغزال ومساعده يحيى بن حبيب خرجا من مياه الأندلس الجنوبية في سفينة أندلسية خاصة أعدت لهما، وسارت بهما إلى جانب سفينة الرسل النورمانيين؛ واتجهت السفينتان نحو الغرب حتى خرجتا إلى المحيط؛ وشهد السفير المسلم من عصف الرياح وروعة الموج أهوالاً؛ وقد ترك لنا الغزال في وصفها شعراً يقول فيه:
قال لي يحيى وصرنا
…
بين موج كالجبال
وتولتنا رياح
…
من دبور وشمال
شقت القلعين وانبت
…
ت عرى تلك الحبال
وتمطى مل المو
…
ت إلينا عن حيال
فرأينا الموت رأى العي
…
ن حالا بعد حال
ولكن الركب وصل سالماً إلى (بلاد المجوس) بعد رحلة شاقة مروعة؛ وسار الغزال وزميله إلى مستقر ملك النورمانيين. أما عن مستقر مملكة النورمانيين (المجوس) فتقول لنا الرواية ما يأتي: (وهي جزيرة عظيمة في البحر المحيط فيها مياه مطردة، وجنات، وبينها وبين البر ثلث مجار، وهي ثلاثمائة ميل، وفيها من المجوس ما لا يحصى عددهم؛ وتقرب من تلك الجزيرة جزائر كثيرة منها صغار وكبار أهلها كلهم مجوس، وما يليهم من البر أيضا لهم مسيرة أيام، وهم مجوس، وهم اليوم على دين النصرانية).
وهنا موضع الغموض والحدس. إذ ما هو ذلك القطر الذي تعنيه الرواية الإسلامية، والذي كان مستقرا لملك النورمانيين وقت مقدم الغزال؟ لقد كان للفيكنج أو النورمانيين يومئذ ملك في الشمال، في دانماركه، وكان سلطانهم منذ أوائل القرن الثامن يشمل دانماركه وقسماً من اسكندناوه، وألمانيا الشمالية حتى فريزيا؛ ويلوح لنا من تأمل الوصف الذي تقدمه لنا الرواية الإسلامية عن رحلة الغزال في بحار خطرة مروعة، وعن طبيعية القطر الجزرية، إن هذا القطر هو الدانماركه، فهو شبه جزيرة يحيط بها عدد كبير من الجزائر؛ ومن هذه الجزائر كانت تخرج حملات النورمانيين الغازية إلى البحار الغربية والجنوبية. وكان يجلس على عرش النورمانيين في ذلك الوقت (نحو سنة 844 أو 845 م) ملك يسمى (هوريك)، وكان النورمانيون يومئذ أحداثاً في النصرانية، حسبما تقول الرواية الإسلامية، لأنهم بدءوا باعتناقها قبل ذلك بنحو عشرين عاما فقط. بيد أن هناك احتمالاً آخر يمكن الأخذ به، وهو أن القطر الذي زاره السفير الإسلامي ليؤدي رسالته إلى زعيم الفيكنج ربما كان جزيرة ارلندة التي تنطبق طبيعتها وموقعها على أوصاف الرواية الإسلامية، وكان الفيكنج قد فتحوها قبل ذلك بأعوام (840م) واستقروا في شمالها، واتخذوا زعيمهم (تورجيس) أو (ترجستر) قاعدة لملكه.
وعلى أي حال فقد لقي السفير المسلم من ملك النورمانيين كل ترحاب وعطف، وأفرد لأقامته وزملائه منزلا حسناً؛ وتصف لنا الرواية بعد ذلك كيف استقبل الملك الغزال، وكيف أعجب بجرأته وذلاقته ولباقته، وكيف قدم إليه الغزال كتاب الأمير عبد الرحمن وهديته من الثياب والآنية، فوقعت لديه أحسن موقع. ولقي الغزال مثل هذا الإعجاب والعطف في البلاط النورماني كله. ثم تقدم لنا الرواية تفاصيل شائقة عن صلات الغزال بملكة النورمانيين (نود) مواقفه منها، وقد رآها الغزال لأول مرة فراعه حسنها، وصرح أمامها بأنه لم ير في حياته مثل هذا الحسن الشعري الفائق مع كثرة ما شاهد من النساء الحسان في مختلف القصور؛ وكان الغزال يومئذ قد جاوز الخمسين من عمره ولكنه كان لا يزال جذاباً وسيم الطلعة؛ فأعجبت الأميرة بروائه وظرفه وحسن بيانه، وكثيراً ما كانت تستدعيه للتمتع بحديثه الساحر؛ وكان الغزال من جانبه يهرع إلى مجلسها ويكثر من زيارتها حتى حذره أصحابه من ذلك، ولكنه لم يعبأ بذلك لما يلقاه منها من التشجيع
والعطف؛ وتقص الرواية علينا بعض مواقفه ومداعباته مع تلك الأميرة الحسناء؛ ومن ذلك قوله ذات يوم في مجلسها يتغنى بحسنها:
كلفت يا قلبي هوى متعباً
…
غالبت فيه الضيغم الأغلبا
أنى تعلقت مجوسية
…
تأبى لشمس الحسن أن تغربا
أقصى بلاد الله في حيث لا
…
يلقى إليه ذاهب مذهبا
يا نود يا رود الشباب التي
…
تطلع من أزرارها الكوكبا
وقوله ذات يوم وقد أمرته الأميرة بأن يخضب شعره الأشيب ففعل، واستحسنت خضابه:
بكرت تحسن لي سواد خضابي
…
فكأن ذاك أعادني لشبابي
ما الشيب عندي والخضاب لواصف
…
إلا كشمس جللت بضباب
تخفى قليلاً ثم يقشعها الصبا
…
فيسير ما سترت به لذهاب
لا تنكري وضح المشيب فإنما هو زهرة الإفهام والألباب
فلدي ما تهوين، ما شأن الصبى
…
وطلاقة الأخلاق والآداب
وعاد الغزال إلى الأندلس بعد رحلة دامت عشرين شهراً ومعه كتاب من ملك النورمانيين إلى عبد الرحمن بن الحكم؛ وكان عوده عن طريق شنت ياقوب ثغر جليقية. وقد أدى الغزال سفارته خير الأداء بلا ريب، ولكن ماذا كان موضوع هذه السفارة وغايتها الحقيقية؟ هذا ما لم تفصح عنه الرواية، وإن كنا نعتقد أنها كانت سفارة مودة وصداقة فقط.
وعاش الغزال بعد ذلك أعواماً طويلة، وتوفى بعد الخمسين ومائتين في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، وقد أربى على الثمانين؛ وكان مدى نصف قرن يتبوأ الزعامة في ميدان الشعر والأدب والحكمة، ويتبوأ في بلاط قرطبة أسمى مقام من النفوذ والثقة والتقدير.
محمد عبد الله عنان
تاريخ الأدب النسوي في فرنسا
للأستاذ محمد بك كرد علي
بينما نرى تركيا تقرر مساواة المرأة بالرجل، وتعترف لها بحقوقها السياسية في المجتمع، غير ناظرة إلى ماضيها وحاضرها، ولا لاستعدادها المطبوع والمكسوب، ولا إلى قلة عدد المتعلمات من بنات جنسها في بلادها، يخيل إليها أن تجعل منهن أو أن ترتجل منهن عالمات مفكرات ناخبات منتخبات - بينا نرى هذا في الشرق وتركيا تضع تشريعاً جديداً تجري أحكامه في أمة تغرق كثرتها الغامرة في بحر لجي من الجهالة والأمية، نرى رجال الغرب على كثرة ما بلغته المرأة عندهم من درجات النشوء والرقي، يحاذرون أن تساوى الرجل عندهم في كل الحالات، ناظرين في ذلك إلى عدة اعتبارات نفسية وجسمية وعلمية وأدبية وتاريخية جرأة مستغربة من الترك في محاولة أمر لم تتم أسبابه، ولا بعضها، وتأن لا غرابة فيه من الغربيين ممن بنوا مدنيتهم على العقل، وساروا بسنة التطور الطبيعي في كل مظاهرهم، فأحدثوا هذه الحضارة القائمة على أساس راسخ من العمل والنظر، ولو نسج الغرب خيوط مدنيته بالخيال، تمليها العواطف، ولا يدعمها العقل المولد، ولا التجارب المسددة، لما شهدنا هذه المدينة تتفوق على غيرها، وتكسف شمس المدنيات القديمة التي كان من أعظم ما منيت به عصور جهالات كانت سود لياليها، ونظريات خيالية، فقد فيها التسلسل، ومات منها الإبداع.
حقا إن أهل البصيرة لا يفهمون سيراً لهذه المغامرة في جمهورية الترك، إلا إذا غالطوا حسهم. أليس من أعاجيب الدهر أن ينام الأتراك قروناً عن الأخذ بمذاهب الحضارة، ويهبوا اليوم دفعة واحدة يحاولون أن ينفذوا قوانين الجمهورية السويسرية في سكان آسيا الصغرى. ولا يختلف اثنان أن السويسريين أصحاب هذا القانون وصلوا إليه في عدة قرون، فاستووا أرقى شعب في الأرض، أو أول شعب يجيء في الصف الأول بين الأمم المتفوقة، والترك بلا جدال مهما غرت ظواهرهم، متأخرون في معظم مظاهرهم في سلم المدنية، على ما عرفناهم وعرفهم غيرنا من الباحثين من أهل الشرق والغرب.
وأعجب من هذا كله أن تحرم المرأة السويسرية الراقية من حق الانتخاب وترزقه المرأة
التركية.
أمامي الآن (تاريخ الأدب النسوي في فرنسا) لجان لارتكان، قرأته مرتين فما بلغت حظ النفس في تلاوته، لما ضم من الفوائد الأثيرة، وليت العاملين والعاملات لإنهاض الشرق القريب يتدبرون بعض ما فيه. وطبقات البشر تكاد تكون واحدة إذا تساوى أهلها في شروط العيش والبيئة والثقافة. وإن ما يحاوله المقدمون علينا في سلم الحضارة والنشوء الإنساني حري بالمتأخرين عنهم في معظم مقومات الحياة أن يحتذوا مثاله، ويتأدبوا بأدبه، ويأخذوا من مضامينه عبرة وعظة. والمدنية مذ كانت ينقل فيها المتأخر أهخرأخر بتيسبيستبمنيستب بيسنبمتيسمنبتيسبمنيستبنسيتأخر عن المتقدم، ولا ضير في ذلك ولا غضاضة.
قلت يوماً لأحد علماء الترك المنورين: أما بلغك أن دمشق ستنار بعد قليل بالكهرباء، وتسير فيها الحوافل الكهربائية؟ فضحك وأجاب: إن حالكم بهذه الزينة الجديدة تقام بأيدي الغرباء، أشبه بإمبراطور كوريا لبس على رأسه تاجاً من ذهب، ولا سراويلات له تستر عورته. وكان الأولى يا صاح أن تكون للبلدة طرق معبدة، وترزق حظاً من التنظيم قبل الكهرباء. وأنا أقرر الآن أنه كان الأولى قبل أن تمنح المرأة الشرقية حق التشريع في مجالس النواب أن تتعلم وتتربى، حتى إذا استوفت حظها على النحو الذي وصلت إليه المرأة الغربية، ومتى تعلمت القروية كالبلدية كل ما يلزمها في صراع الحياة تتمتع بالحقوق السياسية كالمرأة الإنجليزية.
جملة معترضة ساقت إليها المناسبة. والآن نرجع إلى تحليل الكتاب الجديد فنقول: عالج المؤلف هذا الموضوع أعواماً طويلة في الصحف والمجلات وفي إسناد له ورسائل، وكتابه هذا زبدة تجاربه وعصارة علمه وعمله. بدأه بفصل في تاريخ المرأة في القديم. فقال إن الرجل بينما كان في العصور الخوالي صياداً محارباً عرافاً يسير في العالم على هواه، ويطفر طفراته في سبيل المعرفة كانت المرأة قابعة في دارها، خاضعة خانعة لا يتسع نظرها لأكثر من أعمال بيتها، وتلقين بنيها التربية الأولى. وكان النساء في يونان القديمة لا معرفة لهن بغير غزل الصوف يتعمدن القناعة لا يسألن أزواجهن غير هذا. ولذلك قال أفلاطون: إن القرد قرد مهما كان، والمرأة مهما كان عملها تظل امرأة أي غبية مجنونة. يريد الهزؤ بها، وقد بقى هذا الهزؤ بالنساء قروناً في الأرض حتى كانت النصرانية، ورأى
رجال الكنيسة أن يحولوا دون زواج القائمين بأمر الدين فيها، فصوروا المرأة بصورة بشعة تزهيداً منهم فيها، حتى لتساءل أحدهم أن كان للنساء نفس.
وجاء القرن الثاني عشر، والنساء مأخوذات بعوامل كثيرة في نهضتهن، وليس لهن من الحرية ما يتسع لكثير من أسبابها، ولئن أخذ كثير من الأساودة أو الفرسان وخدام الملوك يرون من الشرف رعاية السيدات، ومعاملتهن بقواعد اللياقة والظرف، فان كثيرين من المحافظين في الغاليين (المغول) كانوا يبالغون في وصف النساء بما لا يليق، ويحرمونهن كل حرية. أما النساء فكن يصبرن على هذه المعاملة ويحاولن الخروج من حالتهن السيئة، وبقين بين عوامل الحرمة وعوامل الاحتقار مدداً متطاولة، ولا يعْدمنْ مع هذا أناساً من طبقات مختلفة يحمونهن وبفضلهم يتصدرن ويظهرن، وأما القاعدة العامة فالتشديد عليهن والمبالغة في الاحتفاظ بالتقاليد الموروثة. وقل فيهن من كن يستطعن أن يكتبن كتابة بسيطة، أو ينظمن ولو نظماً سخيفاً.
وأصبحت إيطاليا في القرن السادس عشر مصدر الآداب والفنون الأدبية؛ وسرى الفرنسيس على مثال الطليان، بأن جعلوا المرأة موضع إعجابهم، فأخذ بعض الكاتبين في فرنسا يضعون رسائل وكتباً في تاريخ المرأة، وكان أكثر ما وضع بإيعاز الملكات، فكان هذا القرن قرن رفعة المرأة، جسر فيه كستكليون في إيطاليا أن يقول. لولا النساء لتعذر كل شيء، ولولاهن لما كانت الشجاعة العسكرية ولا الفنون ولا الشعر ولا الموسيقى ولا الفلسفة بل ولا الدين، وما عرفنا المولى في الحقيقة إلا بهديهن.
وبدأ النساء يستعملن قرائحهن، فنشأ بينهن بعض القصصيات وواصفات الحكايات والشاعرات، وقل فيهن من كان لها قريحة يعتد لها. ولم يكن الماهرات منهن أكثر من هواة ينتفن وينتشن من الآداب. وأنشأت مدينة ليون لقربها من إيطاليا، وكانت تدعى (فلورنسة فرنسا) تتذوق الآداب والفنون، وظهرت فيها المطبعة قبل أن تؤسس في باريز، وجعل فرنسوا الأول من مدينة ليون مضم جيوشه خلال حرب إيطاليا فنشأت فيها حركة فكرية ندر وقوع مثلها في مدن الولايات، فكانت منازلها مواطن الظرف واللطف والنساء يصطنعن فيها كل ما يعجب به الرجال. ومنهن من كانت تجيب على ما يوجه إليها من كلمات المديح بأبيات من الشعر، وتجرأ على نقد ذوق الباريزيات، فأصبحن بذلك ملكات
الذوق والأناقة والجمال، وفتح كثير من نبيلاتهن قاعاتهن لإنشاء قصائد كان ناظموها يجوزون لأنفسهم تمجيد جسم الحبيبة والتغزل بكل ما فيه، فلقي الأشراف من الأزواج عنتاً من هذا التمجيد، ولطالما احمرت الوجوه بما يقال، وكان يومئذ للحياء سلطان على النفوس.
ففي القرن السادس عشر إذا أحرز النساء مقاماً محموداً في المجتمع بفضل الشعراء والنبلاء، وبقى عليهن أن يطالبن بحقهن في التعليم وحقهن في النبوغ. واشتد الجدال فيما إذا كان للمرأة الحق في التعليم لتكون عالمة. ومن النبلاء من قضى للأميرات والنبيلات بتلقف مبادئ العلم ليستطعن إدارة أرضهن ويحكمن رجالهن، ويدرن شؤونهن، واقتصر الأمر على هذه الطبقة فقط. وبذلك أرجعوا البنات الطامحات من سائر الطبقات إلى عمل المغازل، ونشأ من ذلك حوار طويل دعوه خصام الألف باء، والنساء مع هذا لم يداخلهن اليأس. ولم يقعدهن عن المضي في سبيلهن عائق. وما طلع القرن التاسع عشر حتى دخل النساء في طور العمل بالمطالبة بحقوقهن في التربية، ولم يكن لنساء الشعب معرفة بشيء: أما العقائل فكن يجلبن لبناتهن معلمين أو يبعثن بهن إلى الأديار، وكانت بعض الراهبات تعلم الناس منذ القرن السادس عشر مسائل بسيطة لا يستطيع بها المتعلمات تصحيح الاملاء، ولا حذق شيء من صرف اللغة ونحوها. وقام في ذهن بعضهم إن الواجب إدخال تعديل على هذه الحالة. وقال العالم مالبرانش، بعد أن درس دماغ الرجل ودماغ المرأة: إن الواجب تعليم النساء تعليماً صحيحاً. وارتأت مدام دي سيفينيه، فيما كتبت به إلى ابنتها من الرسائل أن تلقن أولادها قليلاً من العلم تلقيناً حسناً، وأن يلقن الفتيات الأدب خاصة.
وقل أن جسرت امرأة في القرن الذي نشأت فيه مدام دي سيفنيه ومدام دي لافاييت أن توقع كتابتها أو تأليفها، مخافة أن تستهدف للسخرية. وما كان حول لويز الرابع عشر الملك العظيم سوى كاتبات يصرفن أوقات فراغهن في الكتابة، وما اقتدرت واحدة أن تكتب رواية تمثيلية؛ وكان تأليف هذه الروايات وقفاً على الرجال. وعانى النساء فن الرسائل والشعر في قلة. ودعي هذا القرن قرن المجتمعات والمحادثات. ومن هذا القرن خلف الكاتبات رسائل تجلت فيها مواهبهن في الكتابة. ذلك لأن الرسائل غير محدودة الحدود ولا تربكها القواعد، ولا تستلزم أكثر من ذهن وقاد، وتفكر ذاتي، وإرادة في الإعجاب، وحاجة يأمن معها المراسل صاحبه، وهي صفات تفرد بها النساء. وما برز في هذا الباب أكثر من مدام
دي سيفنيه، ولا كتب لامرأة أن دانتها في هذا الباب. كانت تعشق المجد؛ ولا نعلم لو رأت من زوجها عطفاً - وكان زير نساء فسيقاً - هل كانت تبرز هذا التبريز؟ ومع هذا كانت تهوى من ترى ذات اليمين وذات الشمال، على مثال أعظم كبريات السيدات في عصرها. وهكذا يقال فيمن أحرز شهرة مثلها، وإن كن أقل منها مكانة. كانت دي سيفنيه أما عاشقة مولهة، وكاتبة متفردة بهذرها، وهذرها عبارة عن شعور قوي فيها تحاول بثه ولا تحتاج في ذلك إلى تأمل كثير. ورسائلها ملأى بالجذل والسرور والتنويع والبديهة، وهي مرآة عصر القرن العظيم. والنساء في هذا الجنس من الكتابة يبرزن ويتفوقن.
أما مدام لافاييت فالناس على أنه كان لها مؤازرون من الرجال يصقلون ما تنسخ قريحتها، أو يضعون لها الخطط التي تسير عليها. وأصبح من المألوف أن يكتب الرجال ما ينشر من الآثار باسم النساء؛ وكان موليير وبوالو يهزأن بالنساء الكاتبات المؤلفات، ولطالما سلقاهن بألسنة حداد. وكان جمهور النساء في ذاك العصر على غاية الجهل، ما خلا بعض العلية والطبقات المختارة؛ ويختلف عدد الأميات بين سبعين وأربعة وتسعين في المائة بحسب الأقاليم، ومنهن من لا يحسن توقيع أسمائهن؛ وأخذ بعضهن يحضرون بعض دروس الرجال ويتعلمن شيئاً من الرياضيات، وظل أناس من أرباب المكانة ينعون على النساء ذكاءهن ويمنعونهن من كل ثقافة. ورأى جمهور من الكاتبين أنه لا يليق الهزؤ بالنساء إلى هذا الحد، وأنشئوا يعتبرونهن ويودون من الناس إجلالهن، يقدمون النساء على الرجال في الموائد والحفلات؛ وإذا أحرز النساء هذا المقام الاجتماعي في القرن الثامن عشر: فذلك بفضل ظهورهن في الأندية الخاصة؛ وكان البلاط الملكي في مقدمة هذا المجالس، وكانت كل امرأة تحررت في الولايات أو العاصمة من بعض القيود تقيم لها ردهة استقبال، يكون فيها دار ندوة للسياسة ومثابة للأدب. وكثرت هذه الأندية حتى حار الكتاب في أيها يختارون. ومنها قاعات بعض نساء أعضاء المجامع العلمية. وعلى هذا أصبح النساء يقدن بأيديهن المملكتين ويحكمن المجتمع، يملين عليه قواعد الحشمة، ويأخذن بزمام الآداب، ويحكن الأحابيل لا ليجعلن من يحمونهن من الرجال في جملة أعضاء المجمع العلمي، حيث كانت لهن الكلمة المسموعة، بل ليسمح لهن بنشر آراء شديدة اللهجة. ولم يكتفين بهذا، بل كن يطمحن إلى المجد الأدبي فينشرن في الصحف والمجلات، ويقرأن
ما يكتبن على من يختلف إلى مجالسهن. وغدا الولوع بالآداب من إمارات الظرف في النساء. وكثر عديد النساء اللائى تعلقن من الأدب بسبب، وبلغ عددهن ثلاثمائة مؤلفة في الولايات والعاصمة، وما فيهن واحدة تسهل المقابلة بينها وبين العقيلتين: سفينيه ولافاييت. وصح بهذا أن يقال إن القرن الثامن عشر أمسى في تاريخ فرنسا قرن نهضة المرأة. وما سبق لهن في العصور الخالية أن يتملق لهن الناس ويستمع لكلامهن ويتمتعن بحرياتهن.
كل هذا وجوزيف دي مستر يقول في كتاب له إلى إحدى بناته: إن فولتير ادعى أن النساء قادرات على أن يعملن كل ما يعمله الرجال، وما هذا إلا للتقرب من قلوب بعض الغواني الجميلات، ولم يأت النساء بأثر يذكر في ضروب الآداب، فالنساء لم يؤلفن (الإلياذة) ولا (الانياد) ولا (القدس المنقذة) ولا (فيدر) ولا (أتالي) ولا (وودكون) ولا (الميزانتروب) ولا (تارتوف) ولا (زهرة دي ميديسيس) ولا (أبولون دي بلفيدر) ولا (البرسة) ولا (كتاب الأصول) ولا (خطاب التاريخ العام) ولا (تليماك)، ولم يخترعن الجبر ولا المجاهر ولا المناظر، ولا مضخة النار ولا صناعة الجوارب الخ، وما قامت امرأة عالمة جديرة أن تعد بين العلماء. فالمرأة ليست في حال تستطيع أن تفوق فيها الرجال إلا بأنوثتها، وليست سوى قردة إذا أرادت مساواة الرجل.
محمد كرد علي
(البقية في العدد القادم)
للتاريخ السياسي
عشرة أيام بئيسة
مشروع لافال - هور والرأي العالم
دواعي هذه الخطة الوخيمة العواقب
للدكتور يوسف هيكل
شهد العالم خلال الثلث الثاني من شهر ديسمبر الماضي اضطراباً شديداً في السياسة الدولية، وقلقاً عظيماً في الدوائر السياسية، نجما عن الانقلاب الفجائي في سياسة بريطانيا الخارجية بموافقة وزير خارجيتها السير صمويل هور على سياسة مسيو لافال، رئيس الوزارة الفرنسية ووزير الخارجية، وتوقيعه المشروع الذي وضعه لافال لحل المشكلة الحبشية عن طريق سلمية. ويُعرف هذا المشروع بمشروع الصلح، أو خطة السلام، أو اقتراح لافال - هور، أو اتفاق باريس.
فحوى مشروع الصلح
في يوم الثلاثاء الموافق 10 ديسمبر أبرق السير هور بمشروع الصلح إلى سفيري بريطانيا في روما وفي أديس أبابا طالبا منهما أن يذهبا مع زميليهما الفرنسيين ليطلعا السنيور موسوليني والإمبراطور على ما تم الاتفاق عليه بين حكومة جلالته والحكومة الفرنسية. وفحوى البرقية أن الحكومتين اتفقتا على أن يطلبا من الإمبراطور قبول التغيرات التالية في الحدود الإيطالية الحبشية.
1 -
التيكري - إعطاء إيطاليا التيكري الشرقية، وحدودها جنوباً نهر (خيطا)، وغربا خط يمتد من الشمال إلى الجنوب ماراً بين اكسوم (في الجانب الحبشي)، وعدوه (في الجانب الإيطالي).
2 -
إعطاء إيطاليا مقاطعة (أجادن) وجعل الحدود خطا مبتدئا من نقطة (ثلا) في الحدود الحبشية والإيطالية والصومال البريطانية، وممتدا شمالاً شرقياً قاطعاً (كوراهي) في الشرق، و (وارانادب) في الغرب، وملاقياً حدود الصومال البريطانية حيث يقطعها خط
الطول 45.
3 -
إعطاء إيطاليا امتيازاً اقتصادياً خاصاً في جنوب الحبشة يضع موارد هذه الإقليم في قبضة إيطاليا ويسمح للإيطاليين بالإقامة فيه. وتكون الأراضي غير المملوكة ملكاً للشركات الإيطالية، على أن تبقى السيادة في هذا الإقليم للإمبراطور.
وحدود هذا الإقليم هي: الحدود الجديدة بين الحبشة والصومال الإيطالي شرقاً، وخط العرض 8 شمالا، وخط الطول 35 غرباً، والحدود بين الحبشة وكينا جنوباً.
4 -
إعطاء الحبشة مرفأ (أساب) وممراً إليه على طول حدود الصومال الفرنسي.
وفي ذلك التاريخ أرسل وزير خارجية بريطانيا برقية إلى السفير الإنكليزي في أديس أبابا طالباً منه فيه أن يبذل كل نفوذ في إقناع الإمبراطور على قبول (المشروع) وألا يرفضه دون أن يتأمله جليا (!).
تطور الحوادث السياسية على المسارح الثلاثة
ذلك فحوى مشروع هور - لافال. وحين وقف الرأي العام الدولي عليه انثالت الاحتجاجات عليه إلى عصبة الأمم من جهات الدنيا الأربع، وأخذت الحوادث تتطور، واشتدت الأزمات السياسية، وعلى الأخص في باريس وجنيف ولندن.
على مسرح باريس
غادر السير هور لندن إلى باريس يوم السبت الموافق 7 ديسمبر. وفي منتصف الساعة الثامنة عشرة وصل (كي دورسي) ومعه المستر (كلرك) لمقابلة مسيو لافال. وفي الساعة التاسعة عشر والدقيقة 45 خرج من عنده. وعندها أنبأ لافال الصحافة أن الحكومتين على اتفاق، تعملان معاً للوصول إلى خطة تحل بموجبها المشكلة الحبشية عن طريق سلمية.
وقد تقابل الوزيران في اليوم التالي، ووصلا بعد المناقشة إلى اتفاق وقعاه عن حكومتيهما. وفي صباح الاثنين الموافق 9 ديسمبر تلقى مستر بلدوين رئيس الوزارة الإنكليزية كتاباً من السير هور، طالباً فيه موافقة الحكومة على اتفاق باريس، وقد رأى بلدوين أن من الواجب عليه تأييد زميله الغائب، فوافقت الحكومة على مشروع هور - لافال. وبهذه الموافقة تحملت حكومة بلدوين المسؤولية، وابتدأت إذ ذاك عشرة الأيام البئيسة. . .
في الأيام التالية نشرت الصحف الباريسية مضمون الاتفاق بصورة غير رسمية، فانقسم الرأي العام الفرنسي إلى فريقين: فريق يعضد الحكومة ويدافع عن (المشروع) واجداً فيه خير حل للمعضلة الحبشية، وكثرة هذا الفريق من أحزاب اليمين والوسط؛ وفريق آخر ينقم على اقتراح لافال - هور، ويرى فيه الضربة القاضية لعصبة الأمم؛ وللبقية الباقية من الثقة في سياسة (السلام المشترك). والناقمون هم أحزاب اليسار من اشتراكيين وكومنيست. وأخذ كل فريق يدعم رأيه ببراهينه وحججه، ويدحض أقوال الآخرين على صفحات جرائده؛ ومما لا شك فيه أن حجج المدافعين عن سياسة لافال الخارجية كانت واهنة لا تقوم على أساس قانوني. أما نظريات الناقمين على (اتفاق باريس) فكانت مبنية على دعائم قانونية وسياسية متينة؛ وبخاصة ما كتبه الزعيم الاشتراكي مسيو بلوم في جريدته (الببولير)
أما موقف الحزب الراديكالي الاشتراكي فكان حرجاً لاسيما موقف زعيمه (هريو)
والحزب الراديكالي أقوى حزب في مجلس النواب وهو مشترك في حكومة لافال، ورئيسه (هريو) وزير دون وزارة، وقد فقد هذا الحزب شهرته في البلاد بعد فضيحة ستافسكي وتخليه عن مسيو دومرج. والحزب يعلم أنه لا يستطيع في ظروف مجلس النواب الحالية أن يؤلف وزارة ذات أكثرية. ورئيسه هريو لا يود أن يكون على رأس وزارة والانتخابات العامة على الأبواب. . . لهذه الأسباب يتحاشى مسيو هريو حدوث أزمة وزارية في البلاد. ويجد نفسه مضطرا إلى معاضدة مسيو لافال، على رغم مخالفته لسياسته الخارجية. وقد أفضى إلى حزبه بذلك قبل اجتماع مجلس النواب لمناقشة سياسة لافال الخارجية.
فانقسم الحزب أي فريقين؛ فريق معه، وفريق يرى من الضروري تغيير سياسة لافال وإسقاطه بعدم الموافقة على مشروعه لحل المشكلة الحبشية. وكان من بين هؤلاء مسيو (كت)
وفي صباح الثلاثاء الموافق 17 ديسمبر كان اجتماع مجلس النواب. وكان اجتماعاً صاخباً مضطرباً شديد الجدل. وكان أهم المتكلمين في تلك الجلسة ثلاثة: لافال وكت وبلوم.
نهض لافال وألقى خطابه في جأش رابط متزن؛ ودافع عن سياسته الخارجية ولاسيما (مشروع الصلح). وأقوى حججه أن سياسة العقوبات ليست الطريق الوحيدة لحل المشكلة
الحبشية، وأن حصر إيطاليا اقتصادياً وعلى الأخص منع البترول عنها مما يقود أوربا إلى حرب لا تعرف نتائجها، وأن روح مبادئ عصبة الأمم توجب حل كل خلاف عن طريق سلمي إن أمكن، وأن الخطة التي وضعها لإيقاف الحرب في الحبشة تتمشى مع مبادئ عصبة الأمم (!). . .
ومسيو كت يرى غير ما يراه مسيو لافال: يرى في اتفاق باريس هدم مبادئ العصبة، إذ هي تقدم إلى المعتدي مكافأة على تعديه ومخالفته واجباته الدولية. ومسيو لافال بعمله هذا يقدم سابقة إلى عصبة الأمم لتحل بموجبها التعدي الذي سيحصل على شرقي أوربا الوسطى. وبذلك يكون لافال قد ساعد الهر هتلر وجرأه على أن يحذو حذو موسوليني!. وقد هاجم مسيو كت لافال وقال إن عمله هذا ليس إلا تقسيماً للحبشة وجعلها فريسة للمعتدي، وهذا العمل مخجل لفرنسا. . .
وقد لاحظ لافال أن الجو مكفهر وأن النقاش إن دام ربما أدى إلى سحب الثقة منه؛ فطلب تأجيل النقاش على سياسته الخارجية إلى يوم الجمعة الموافق 27 منه. ولافال ماهر في أصول المرافعات البرلمانية؛ يعرف كيف يتخلص من المآزق الحرجة، فإنه بطلبه هذا قد حول المناقشة من مهاجمة سياسته إلى البحث فيما إذا كان من الصواب تأجيل المناقشة كما يطلب أو المضي فيها؛ وكان على رأس القائلين بوجوب المضي في المناقشة مسيو بلوم الزعيم الاشتراكي. وبرغم فصاحته وقوة حجته وافق المجلس على تأخير المناقشة بأكثرية 52 صوتاً. ومما تجدر ملاحظته أن الكثرة التي كانت في جانب الحكومة هبطت إلى ما يقرب من مائة نائب بانضمام كثير من الراديكاليين إلى فريق المعارضة.
ومجمل القول أن مسيو هريو الزعيم الراديكالي لم يشترك في المناقشة، ولم يبد حركة ما تدل على أنه يؤيد فريقا على آخر. . .
وفي اليوم التالي ذهب لافال إلى جنيف. . .
على مسرح جنيف
في يوم الأربعاء الموافق 18 ديسمبر كان اجتماع مجلس عصبة الأمم: فقام مستر أيدن ولم يدافع عن مشروع لافال - هور - بل قال إن الحكومتين وضعتا هذا المشروع وللمجلس أن يرفضه أو يقبله؛ والحكومة البريطانية ليست مرتبطة به. . .
ثم نهض مسيو لافال وقال إن عمله هو وزميله السير هور كان بموجب السلطة التي أعطيت للحكومتين لايجاد حل سلمي للمعضلة الحبشية. . . وللمجلس أن يقول الكلمة الأخيرة في الاقتراح. . .
وقبل فض الاجتماع العام قام سكرتير المجلس وألقى تصريح حكومة الحبشة وهو مؤلف من (5000) كلمة ومبني على نقط قانونية ترمي إلى أن اقتراح باريس مخالف كل المخالفة لمبدأ العصبة
وقد قابل الأعضاء المشروع بمعارضة شديدة. . . وجاء في المناقشة أن السلطة التي خولت إلى بريطانيا وفرنسا لإيجاد حل سلمي قد انتهت، وكل عمل من هذا القبيل يعود إلى مجلس العصبة أو إلى هيأتها العامة - وكان هذا رداً على ادعاء لافال - وفي اليوم التالي قرر المجلس بأسلوب - دبلوماسي دولي - رفض المشروع.
على مسرح لندن
أخذت الصحف الإنكليزية تنقل أخبار اتفاق باريس ومحتوياته عن الجرائد الفرنسية، وأخذت الجرائد التي كانت تناصر الحكومة وعلى رأسها التيمس تعارضها وتظهر سخطها على المشروع، وأخذت جرائد المعارضة تهاجم الحكومة مهاجمة عنيفة وتصفها بأوصاف قاسية منها الجبن وخيانة الشعب وعصبة الأمم والحبشة. . .
وفي اجتماع مجلس النواب الذي عقد في العاشر من ديسمبر دافع مستر بلدوين عن خطة باريس وقال: لو كانت أستطيع أن أميط اللثام عن المشاكل التي تعترضنا، لما كان هناك رجل من أي هيئة ومن أي حزب يعارضنا. . .
ومع ذلك اخذ يزداد عدد الثائرين من حزب الحكومة، مظهرين سخطهم على سياسة الحكومة الجديدة؛ وأخذ آخرون يبدون قلقهم من موقف الحكومة الشاذ. فحدث من جراء ذك انشقاق عظيم في حزب الحكومة. وانقسم أعضاء الوزارة إلى قسمين: قسم مع بلدوين وقسم غير راض عن (اتفاق باريس) ومن بينهن مستر إيدن الوزير لدى عصبة الأمم إذ ذاك، وقد صرح بذلك في جنيف في الثالث عشر من ديسمبر.
ومن الرجالات البارزين الذين عارضوا المشروع في حزب الحكومة السير أوستن شمبريلن: فقد اجتمعت لجنة الشؤون الخارجية التي يرأسها هو في 17 منه لدرس (اتفاق
باريس) وإبداء رأيها فيه. وصرح السير أوستن أنه غير راض عن (الاتفاق) ولا يقبله مهما كان تشبث الحكومة به. . . فتبعه أعضاء اللجنة. . . وكان ذلك صدمة عنيفة لمستر بلدوين.
أما الصحافة فقد أخذ يشتد نقدها للحكومة، طالبة منها بلهجة عنيفة التخلي عن (المشروع) والعودة إلى السياسة السابقة، سياسة جنيف والسلام المشترك:
أمام ثورة الرأي العام العالمي على اقتراح هور - لافال، وأمام رفض الإمبراطور (المشروع) وتردد موسوليني في قبوله؛ وأمام هجمات الحزب المعارض العنيفة وأمام انقسام حزبه عليه؛ أمام امتعاض الرأي الإنكليزي من تخليه عن العصبة وسياسة السلام المشترك، وأمام ثبات العصبة ورفضها (الاقتراح)؛ أمام كل هذه الصعوبات رأى مستر بلدوين أنه لا يستطيع أن يسير خطوة إلى الأمام بسياسته الجديدة؛ فقرر أن يكون على رأس القائلين بعدم قبول الاقتراح!. فدعا السير صمويل هور من سويسرا. وجمع أعضاء وزارته في 18 ديسمبر وقرر التخلي عن هور ورفض اتفاق (باريس).
وفي هذا التاريخ قدم السير هور استقالته فقبلها مستر بلدوين
وفي يوم الجمعة الموافق 19 ديسمبر كان موعد اجتماع مجلس اللوردات ومجلس النواب لمناقشة اقتراح هور - لافال، وكان الجميع متفقين على التخلي عن (اتفاق باريس).
كان اجتماع مجلس النواب غير عادي: فقد حضره البرنس أوف ويلز وحضره السفراء. . . وبعد إلقاء الأسئلة والإجابة عليها قام السير صمويل هور مبيناً الأسباب التي قادته إلى توقيع الاقتراح، ومما قاله إنه كان أمام عينيه هدفان:
(اتقاء حرب أوروبية والحيلولة دون نشوب حرب منفردة بين إيطاليا وبريطانيا).
(إن منع البترول عن إيطاليا ربما يؤدي إلى هزيمة إيطاليا وخسرانها الحرب الحبشية، وعندما تجد نفسها في هذا الوضع الذليل تقوم بمهاجمتنا، وعندئذ تنشب الحرب بينها وبيننا دون أن ينهض لمساعدتنا أحد، إذ لم تقدم دولة ما إلى الآن باخرة واحدة ولا جندي واحد في سبيل الأمن المشترك؛ والرأي الفرنسي ضد الحرب ولا يريد أن يتورط في مشاكل جديدة. . . (لهذا اضطررت وأنا في باريس إلى أخذ قرار عاجل لأن مسألة البترول لا يمكن تأجيلها إلى تاريخ آخر.
ثم أخذ يدافع عن مواد الاتفاق بحجج واهية. . .
أما مستر أتلي رئيس حزب العمال فقد طلب رفض (اتفاق باريس)، وأثبت أن مسؤولية الحكومة لا تزول باستقالة السير هور. ثم أخذ يسائل الحكومة:
ما فائدة الابتداء في العقوبات إذا كان أمرها سيهمل عند مجابهة أي خطر؟!. لماذا صرح في شهر أكتوبر بأن العمل المشترك مفيد وفي شهر ديسمبر أنه غير مفيد؟! إذا كان يوجد الآن خطر عظيم فخير من الوقوف بجانب المتعدي أن يقال بأن العصبة قد فشلت. . .
ثم ألقى مستر بلدوين كلمة طويلة شديدة، صرح فيها بأن اتفاق باريس قد قضى عليه تماماً، وطلب من حزب الحكومة معاضدته، وأعلن بأن الحكومة عائدة إلى العمل المشترك ضمن مبادئ جنيف. . .
وقال اللورد هارتنكتن إن (عشرة الأيام البئيسة) قد انتهت.
وقد ختم النقاش في كلا المجلسين بقبول وجهة النظر القائلة بأن الحكومة قد ارتكبت غلطة فادحة في توقيعها (مشروع الصلح). وأنها بعملها هذا تقضي على النية الخالصة والأمل القوي في نظام السلام المشترك.
وقد جاء خطاب السير نفيل شمبرلين الذي ألقاه في برمنجهام مساء 20 ديسمبر مؤيداً لتصريح الحكومة، ومما قاله:
(. . . هذه الاقتراحات قد ماتت إلى غير بعث؛ وإنني أعتقد الآن بأن كل سعي للوصل إلى حل سلمي فاشل).
(فيجب أن نعود إلى سياسة العقوبات. . .)
وإن تعيين مستر إيدن وزيراً للخارجية لدليل ساطع على أن الحكومة عائدة إلى السياسة التي تحدث عنها السير شمبرلين على أن الحكومة البريطانية لا تود العمل منفردة، ولذلك أخذت تفاوض أعضاء عصبة الأمم الذين على البحر الأبيض المتوسط، ولقد أجاب حتى الآن كل من تركيا واليونان ويوجوسلافيا بأنهم على استعداد لمساعدة بريطانيا وللعمل على مبدأ عصبة الأمم. . .
(البقية في العدد القادم)
يوسف هيكل
دكتور في الحقوق من (حكومة فرنسا)
في ميدان الاجتهاد
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
أستاذ الأدب العربي بكلية اللغة العربية بالأزهر
كيف منع الاجتهاد
ينشد المسلمون الإصلاح في هذا العصر، وتنشده جامعتهم الأزهرية الكبرى في مصر، ويعالجون في سبيل ذلك طرقاً ملتوية يمشون فيها إلى أن تنتهي بهم إلى أسوأ مما كانوا فيه، فتعلو كلمة الجامدين بالرجوع إلى قديمهم الممقوت، ويوافقهم على ذلك بعض من يتظاهر بحب الإصلاح إذا أقبل عهده، ويخفى في قلبه كرهه وبغضه. ولو أنعم هؤلاء الناس النظر لرأوا الذنب في لذلك يرجع إلى تلك الطرق الملتوية، لا إلى الإصلاح المنشود الذي دعا إليه جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبدة، وغيرهما من كبار المصلحين في هذا العصر.
وهذا الإصلاح المنشود يتلخص في كلمتين: فتح باب الاجتهاد في علومنا عامة والعلوم الدينية منها خاصة، وتأليف كتب جديدة في هذه العلوم تسري فيها روح الاجتهاد بدل تلك الكتب الميتة الجامدة؛ أما ما عدا ذلك من أمور الإصلاح فمن الأمور الكمالية ألقى ضرنا الاهتمام بها أكثر من هذه الأمور الأساسية.
ولست بسبيل الكلام في هذا الإصلاح فقد قطعت شوطاً من حياتي في الجهاد فيه، حتى آل الأمر بنا إلى تلك الطرق الملتوية، ووجدت في ذلك غرائب وعجائب صرفتني عن العناية بذلك الأمر إلى أمور أخرى في العلم والأدب؛ وقد حاورت فيها أناسا آخرين وحاوروني، فوجدت علماء الأدب أكرم الناس أخلاقا، وأسلمهم طوايا، وأطهرهم أقلاما، ووجدت الخير فيهم مرجوا، والشر منهم مأمونا؛ ولست أدري وقد تركتهم إلى هذا الموضوع الديني الخطير أأجد أقلاما مثل أقلامهم، ونفوسا سمحة مثل نفوسهم، أم أجد النفوس لا تزال على عهدي بها، وإن تظاهرت بحب الإصلاح والانتصار له؟ وقد أكون مخطئا في ظني، وأرجو من الله أن أكون مخطئا فيه، وأن نكون قد بدلنا نفوساً أخرى تبحث مثل هذه الأمور المهمة في هدوء، وتعرف الصواب للمصيب فلا تحسده عليه أو تتعامى عنه، وتحسن الظن
بمن يطلب الصواب فيخطئه طريقه، فتأخذه بالتي هي أحسن، حتى يعرف خطأه واضحا فيرجع عنه، ويشكر للذي دله عليه.
وهكذا كان حال سلفنا الصالح رضوان الله عليهم. كان باب الاجتهاد بينهم مفتوحاً على مصراعيه لا يحمل أحد منهم بسببه ضغينة على أخيه، ولا يحاول قهره على موافقته في رأي خالفه فيه، إلى أن نبتت فتنة الخوارج المعروفة، ولعبت السياسة بعقول الناس فيها، فكانوا أول من سن في الإسلام أخذ المخالف في الرأي بوسائل القهر؛ ثم تتابعت الحوادث وأتى عصر بني العباس فرأوا من الأئمة المجتهدين في عصرهم انكماشاً عن سلطانهم فأخذوا ذلك عليهم، وجعلوا يصطنعون الوسائل لإيذائهم، فآذوا في ذلك أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة الجماعة، وصاروا ينصرون عليهم خصومهم من المعتزلة، واستباحوا في ذلك ما استباحوا من الحجر على حرية الرأي، وتعذيب المخالف لهم فيه بالسجن والضرب والقتل، وبلغ ذلك شدته في مسألة خلق القرآن المعروفة.
وكان التعليم من أول الإسلام يتخذ المساجد دوراً له، فتتولاه الرعية بعيدة عن الحكومة، كما تتولاه الأمم الآن في الشعوب الراقية في أوربا وأمريكا. وينشأ التعليم في كنفها حراً لا يتأثر بهوى حاكم، وينشأ رجاله أحراراً لا تلين قناتهم لظالم وقد أخذ حكام المسلمين في آخر الدولة العباسية يدخلون في أمور التعليم ليكون لهم نفوذ عليه، وسلطان على رجاله، فأنشئوا له المدارس الخاصة به، وحبسوا عليها من الأوقاف الكثيرة ما رغب العلماء والمتعلمين فيها، وجعلهم يتنافسون على أبواب الملوك والحكام من أجلها، فضاعت كرامة العلم والعلماء، وخضع أهله لمن بيدهم أمر تلك المدارس والأوقاف.
ومن أقدم ما بني في الإسلام من المدارس المدرسة البيهقية المنسوبة إلى البيهقي المتوفى سنة 450هـ، والمدرسة السعيدية بنيسابور بناها الأمير نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود حين كان والياً بها، والمدرسة النظامية التي بناها الوزير نظام الملك وزير السلطان ألب أرسلان وابنه ملكشاه ببغداد سنة 459هـ واحتفل بافتتاحها يوم السبت عاشر ذي القعدة من هذه السنة، وجمع الناس على طبقاتهم ليحضروا دروس الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، فجاء الشيخ ليحضر فلقيه صبي في الطريق، فقال يا شيخ كيف تدرس في مكان
مغصوب؟ فرجع الشيخ واختفى. فلما يئسوا منه ذكر الدرس بها أبو نصر الصباغ.
ولما ملك السلطان صلاح الدين بن أيوب مصر لم يكن بها شيء من المدارس، فبنى بها المدرسة الناصرية لتعليم المذهب الشافعي سنة 566هـ ثم بنى المدرسة الصلاحية بالقرافة الصغرى سنة 572هـ مجاورة للإمام الشافعي رضي الله عنه، وجعل لناظرها أربعين ديناراً في كل شهر؛ ورتب له في كل يوم ستين رطلاً من الخبر، وراويتين من ماء النيل؛ ثم بنى أخرى مجاورة للمشهد الحسيني، وجعل دار عباس الوزير العبيدي مدرسة للحنفية.
وكان من دواعي إنشاء هذه المدارس تأييد المذاهب التي كان السلاطين يشتدون في نصرتها، كما فعل صلاح الدين حين استولى على مصر، فقد حارب فيها مذهب الشيعة الفاطميين الذين حكموا مصر قبله، وكانت دروس هذا المذهب تلقى في الأزهر وغيره من مساجدهم، فأبطل هذه الدروس، وأحيا مذهبي الشافعي ومالك وبنى لهما كثيراً من المدارس.
وفي هذه المدارس أقفل باب الاجتهاد؛ وقبرت المذاهب الفقهية عدا هذه المذاهب الأربعة الباقية؛ وقد كانت هناك مذاهب كثيرة لأهل السنة والجماعة بقى بعضها إلى القرنين السابع والثامن الهجريين؛ ومن هذه المذاهب مذهب البصري والثوري ولم يطل العمل بهما لقلة اتباعهما؛ ومنها مذهب الأوزاعي، وقد بطل العمل به بعد القرن الثاني للهجرة؛ ومنها مذهب أبي ثور، وقد بطل العمل به بعد القرن الثالث؛ ومنها مذهب ابن جرير الطبري، وقد بطل العمل به بعد القرن الرابع؛ ومنها مذهب الظاهري، وقد طالت مدته وزاحم المذاهب الأربعة حتى جعله المقدسي في أحسن التقاسيم رابع المذاهب في زمنه (القرن الرابع) بدل الحنبلي، وذكر الحنبلية في أصحاب الحديث، وعده ابن فرحون في الديباج الخامس من المذاهب المعمول بها في زمنه (القرن الثامن)؛ ثم درس بعد ذلك ولم يبق لأهل السنة والجماعة إلا المذاهب الأربعة. وذكر ابن خلدون أن الظاهري درس بدروس أئمته، وإنكار الجمهور على منتحله، ولم يبق إلا في الكتب، وربما يعكف متكلفو انتحاله عليها لأخذ فقههم منها؛ فلا يحلون بطائل، ويصيرون إلى إنكار الجمهور عليهم.
وهكذا أخذت المذاهب الأربعة تتغلب مع الزمن على غيرها من هذه المذاهب حتى تم لها التغلب عليها في القرن السابع الهجري. وأخذ فقهاء هذه المدارس تبعاً لهوى أصحابها من الأمراء يتعصبون لها، ويفتون بوجوب اتباعها. قال المقريزي في خططه: (فلما كانت
سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداري ولي بمصر والقاهرة أربعة قضاة، وهم شافعي وحنفي ومالكي وحنبلي، فاستمر ذلك من سنة 665هـ حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعقيدة الأشعري، وعملت لأهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه؛ ولم يول قاض، ولا قبلت شهادة أحد، ولا قدم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب. وأفتى فقهاء هذه الأمصار بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم)
وإذا لم يكف هذا الإجمال في بيان ما أتت به يد السياسة من وسائل القهر والإغراء في إحياء بعض هذه المذاهب وإماتة بعضها، ومحاربة الاجتهاد إلى حد القضاء عليه في تلك المدارس، فأنّا نسوق مثلاً من ذلك في المدرسة المستنصرية التي أمر بانشائها، المستنصر بالله العباسي، وشرع في ذلك سنة 625هـ وقد تكامل بناؤها سنة 631هـ وأنفق عليها أموالاً كثيرة، واحتفل بافتتاحها في تلك السنة احتفالاً عظيماً حضره بنفسه، وحضره نائب الوزارة وسائر الولاة والحجاب والقضاة والمدرسون والفقهاء ومشايخ الربط والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء وجماعة من أعيان التجار الغرباء، واختير لكل مذهب من المدارس وغيرها اثنان وستون نفساً، ورتب لها مدرسان ونائبا تدريس؛ وكان المدرسان محي الدين محمد بن يحي بن فضلان الشافعي، ورشيد الدين عمر بن محمد الفرغاني الحنفي؛ وكان نائباهما جمال الدين عبد الرحمن بن يوسف بن الجوزي الحنبلي، وأبا الحسن علياً المغربي؛ وجعل لها معيدون لكل مذهب أربعة، وقسمت إلى أرباع، فجعل ربع القبلة الأيمن للشافعية، وجعل ربع القبلة الأيسر للحنفية، وجعل الربع الذي على يمين الداخل للحنابلة، وجعل الربع الذي على يساره للمالكية. وقد شرط المستنصر في وقفه عليها أن يكون عدة فقهائها ثمانية وأربعين ومائتي فقيه، من كل طائفة اثنان وستون، بالمشاهرة الوافرة، والجراية الدارة، واللحم الراتب، إلى غير ذلك من وسائل الإغراء التي لم تتح لغير هذه المذاهب. وقد كان قبر الاجتهاد في هذه المدرسة، وحجر النظر فيها على العلماء بهذا الشكل.
في سنة 645هـ أحضر مدرسوها إلى دار الوزير، فتقدم إليهم ألا يذكروا شيئا من
تصانيفهم، وألا يلزموا الفقهاء بحفظ شيء منها، بل يذكروا كلام المشايخ تأدباً معهم، وتبركاً بهم. فأجاب جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي مدرس الحنابلة بالسمع والطاعة. وقال سراج الدين عبد الله الشرمساحي مدرس المالكية:(ليس لأصحابنا تعليقة، فأما النقط من مسائل الاختلاف فمما أرتبه). وقال شهاب الدين الزنجاني مدرس الشافعية، وأقضى القضاة عبد الرحمن بن اللمغاني مدرس الحنفية:(إن المشايخ كانوا رجالاً ونحن رجال) فكانا أفضل القوم إجابة. ثم أوصل الوزير أمر ذلك إلى المعتصم بالله، وكان قد ولى أمر الدولة بعد أبيه المستنصر، فتقدم إليهم أن يلزموا بذكر كلام المشايخ واحترامهم فأجابوه بالسمع والطاعة. وذهب إباء مدرس الشافعية والحنفية في الهواء. ولو أنهما استمرا على إبائهما لكان جزاؤهما القتل أو نحوه.
ونستطيع بعد هذا أن نحكم بأن منع الاجتهاد لم يتم إلا في عصور الظلم، وبأن قصر الناس على هذه المذاهب الأربعة حصل بوسائل غير مقبولة من القهر والإغراء. وفي يقيننا أنه لو أتيح لغير هذه المذاهب ما أتيح لها من تلك الأوقاف والرواتب لكان حظها من البقاء مثل حظها، ولبقيت معروفة مقبولة ممن يجهلها اليوم أو ينكرها.
وقد حوّلت هذه الوسائل لإلزام الناس بهذه المذاهب قبل هذه العصور فلم يرض بهذا المسلمون حتى أصحاب هذه المذاهب. روى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن أنس أنه قال: شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه؛ فقلت لا تفعل، فان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب. فقال وفقك الله تعالى يا أبا عبد الله.
وروى ابن سعد في الطبقات عن مالك بن أنس قال: لما حج المنصور قال لي قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوا إلى غيره، فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم.
فنحن إذن في حل من أمر هذه المذاهب التي فرضت علينا فرضاً، وفي حل من ذلك الحظر على الاجتهاد في أحكام ديننا، لأنه أتى بطريق القهر، ولم يتم برضا المسلمين
وتشاورهم، وإنما أمر المسلمين كما حكم الله تعالى شورى بينهم.
عبد المتعال الصعيدي
8 - معركة عدوى
للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان حرب الجيش العراقي
تتمة
وأراد الجنرال (باراتيري) أن ينسحب إلى (أديكايه) ليقصر خط المواصلات إلا أنه لم يجسر على ذلك خوفاً من تأنيب رومة فقرر القيام باستطلاع تعرضي في اتجاه نهر مارب شأن كل قائد متردد. وكان يرمي بذلك إلى وقف حركات الأحباش في اتجاه غوندت وأسمره، وبعد أن تأهبت الفصائل للحركة سحب أمره. ولا شك في أن هذه الأوامر المتناقضة مما أزال اطمئنان الفصائل وجعلها تخشى العاقبة.
ومما زاد الموقف حروجة قلة الأرزاق. وكلف مدير الميرة والتموين الجنرال بتقليل مقدار الأرزاق اليومي للجنود لأن مواد التموين لا تكفي وأن القوافل أخذت تتأخر والكثير منها يقع في أيدي الثوار، فاضطرت القيادة إلى تقليل أرزاق الجندي اليومي، وكان الجندي الأهلي يأخذ قليلاً من الشعير، ويفضل الدراهم مقابل الأرزاق الباقية، إلا أن الأرزاق كانت مفقودة. وتناول الضباط الأرزاق كالجنود. وأخيرا أضاف القائد العام خطيئة إلى خطيآته السابقة فكانت نذير الخذلان. فانه عقد مجلساً حربياً واستشار القواد فيما يعمل، ومعنى ذلك أنه أراد أن يلقى تبعة الحركات عن عاتقه وكان هو المسؤول الوحيد عنها.
والظاهر أن القائد العام كان يخشى حساب رومة بعد أن تلقى تلك البرقيات المرة منها، وكان قرار أعضاء أكثرية المجلس القيام بالهجوم وعدم الانسحاب لأن البقاء في ادجرات بسبب مجاعة الجيش، ولأن الأرزاق كانت على وشك النفاد برغم تقليل مقاديرها اليومية، لأن القوافل أمست لا تصل بانتظام. أما الانسحاب إلى الوراء فلم يكن من شك في أنه أحسن تدبير لتقصير خط المواصلات وتموين الجيش بصورة منتظمة، وبعد أن يتقوى بالنجدات المرسلة من إيطاليا وتكمل التدابير الإدارية وتنتظم سوق التموين والذخيرة يتقدم للهجوم بخطوات ثابتة متينة، بيد أن القائد العام والقواد الآخرين لم يكن لديهم من حب التبعة (المسؤولية) ما يجعلهم يتخذون هذه الخطة.
وفي الوقت الذي قرر المجلس الحربي فيه القيام بالهجوم وردت البرقية التالية من رومة إلى القائد العام:
(رتب الجيش بحيث يقوم الهجوم ويقاوم هجوم العدو) ومعنى ذلك أن الحكومة الطليانية لم توافق على الانسحاب وأنها تريد المقاتلة مهما كانت النتيجة.
نشوب المعركة
يظهر لنا مما تقدم أن أحد الفريقين المتحاربين شعب متوحش ملتف حول ملكه ومتعطش للقتال، ويعرف بلاده، ومستعد للاستفادة من جميع ظاهراتها للضربة القاضية على عدوه، وعلى رأسه ملك يعرف كيف يستفيد من رجاله، فاستطاع بدهائه وحنكته أن يحصل على العدد الكافي من السلاح، ويجمع الأحباش حوله ويقودهم إلى ميادين القتال.
أما الفريق الآخر فيجهل أحوال البلاد، وهو غير قادر على تحمل مناخها، وقد أساء قواده قيادته، فلم يضمنوا له ما يحتاج إليه من مواد التموين وأسباب الراحة التي تمكنه من القتال في هذه البلاد القاسية. وقد أدى التردد في التنفيذ إلى زوال اعتماد الجنود على ضباطهم والضباط على رؤسائهم.
والواضح من هذا أن المعركة سوف تنشب في ظروف غير متعادلة، وقد لا يفيد التدريب المتقن والأسلحة الحديثة في التغلب على كثرة الأحباش المتشوقين إلى القتال.
والغريب في أمر هذه الحركات أن القيادة العامة كانت لا تملك خريطة صالحة تساعدها على وضع الخطط العاجلة. ومن الضروري معرفة حالة الأرض لتسيير القوات عليها. فالخطيئة التي ارتكبت في الحركات السوقية سوف يزداد شمولها بالخطأ في التعبئة، وهذا النقص مما سبب تسيير الأرتال في ميدان المعركة بحيث لا يستطيع بعضها مساعدة بعض، وذلك مما جعل القيادة الحبشية تغتنم الفرصة وتنقض برجالها على الأرتال وتقضي عليها على التعاقب.
عسكرت القوات الطليانية في 29 فبراير سنة 1896 في (صورية) وكانت القوات كما نعلم مؤلفة من أربعة ألوية بقيادة حاكم المستعمرة العام لجنرال (باراتيري)، وكان قواد الألوية الجنرال البرتونه والجنرال دابروميدا والجنرال أريموندي والجنرال اللانا.
وكانت الأوامر الصادرة من معسكر (صورية) ترمي إلى تحريك القوات في الساعة التاسعة
على ضوء القمر في اتجاه (عدوى).
وكان يؤدي إلى عدوى طريقان، وهما طريق شمالي وطريق جنوبي، وكلاهما يمتد في منطقة وعرة فيمر الطريق الشمالي بمضيق (رابي أريان)، والطريق الجنوبي بمضيق (شدان موت) قبل وصولهما إلى عدوى، وبين الطريقين جبل (راجو) الوعر الذي لا يمكن تسلقه لشدة انحداره وللصخور المكدسة فيه. وتبلغ المسافة بين المضيقين أكثر من خمسة عشر كيلو متراً. فالتقدم على هذين المضيقين يجعل الأرتال الطليانية معرضة لهجمات القوة الحبشية المتمركزة حيث تتحرك على الخطوط الداخلية، وبلغ الجنرال (باراتيري) أوامره مقتنعا بأن الأرتال بعد اجتياز المضايق يجتمع بعضها ببعض وتتقدم نحو العدو. إلا أن هذا الاقتناع لم يصح، وقد يأمل هذا القائد النصر إذا جمع الرتلين في شرقي جبل (راجو) واستفاد بعد ذلك من كثرة المدافع.
وبدلاً من تقسيم الألوية على الرتلين وتسيير لوائين في كل رتل لكي يكون لكل منها القوة الكافية لمقابلة العدو تقدمت الألوية على الترتيب التالي:
لواء البرتونه في الجنوب نحو مضيق (شدان موت)، ولواء (دابورميدا) في الشمال مضيق (رابي أريان) أما لواء (أريموندي) ففي القلب، وبقى لواء اللانا في الاحتياط إلى الوراء، ولما وصل لواء (أريموندي) إلى سفح الجبل رأى أن له. فوجه الجنرال (باراتيري) إلى الشمال وراء لواء (البرتونه) أما لواء (اللانا) فسار في المؤخرة وراء (البرتونه). وهكذا تكدست ثلاثة ألوية على طريق واحد بينما بقى لواء في الجنوب.
والحقيقة أن مضيق (رابي أريان) لم يكن فيه مجال لانفتاح لواء واحد، وكان اللواءان يتقدمان بصعوبة نحو المضيق، وذلك يجعل لواء (اللانا) يتأخر في الوراء بطبيعة الحال.
وكان القسم الأكبر من لواء (البرتونه) من الأهليين، وتقدم اللواء ليلاً على ضوء القمر، وكان الجنود يسيرون بنشاط، بينما كان الأحباش يترقبون اقترابهم بفارغ الصبر، وكانت طلائعهم تنسحب أمام هذا اللواء دون أن تحرك ساكناً.
وعلى ما يظهر كان النجاشي ينتظر مرور هذا اللواء من المضيق وابتعاده عن الرتل الشمالي لينقض عليه ملتفا حوله من كل جهة. واعتمد قائد اللواء على الخريطة غير الصحيحة فأراد أن يريح لواءه في رابية بعد اجتياز المضيق ظنا منه أن الرابية تسيطر
على الأرض في شرقي المضيق. ولما وصل إلى الرابية باغت الأحباش لواءه من كل جانب وهاجموه بحرابهم وخناجرهم.
وفي الساعة السابعة صباحاً سمع الجنرال (باراتيري) صوت النار من الجنوب فكلف لواء (دابورميدا) بنجدة (البرتونه) عندما يجتاز المضيق، بيد أن الأحباش كانوا قد احتلوا الوديان والروابي في جنوبي مضيق (رابي أريان) فاضطر (دابورميدا) إلى مقاتلتهم، إلا أنه بعد مدة قصيرة رأى نفسه أمام قوة فائقة من الأحباش أحاطت بجانبه فألجأته إلى الوقوف للدفاع.
ولما علم (باراتيري) أن لواء (دابورميدا) أيضا اشترك في القتال وتأكد أنه لا يستطيع نجدة (البرتونة) أمر لواء (أريموندي) بألا يعقب لواء (دابورميدا) بل يتوجه رأساً إلى الجنوب لمساعدة (البرتونه).
ولما اجتاز هذا اللواء المضيق وتوجه إلى الجنوب وصل المنهزمون من لواء البرتونه إلى رأس الرتل فعلم منها أن الأحباش قضوا على اللواء بالإحاطة به من كل جانب وأن قائده قتل في المعركة، فتقدم اللواء في الاتجاه الجنوبي الغربي، وكان لواء (اللانا) يسير وراءه، إلا أن وعورة الأرض وكثرة الوديان والأخاديد فيها عرقلت المسير.
وكان الأحباش قد كمنوا لهذا اللواء مستفيدين من الوديان والأخاديد، فلما اقترب اللواء منهم باغتوه من كل جانب، ثم أعادوا الكرة على لواء (اللانا) فكانت مباغتة هائلة، وكان قتال وجها لوجه، فلم تستطع المدفعية مساعدة المشاة لاختلاط الحابل بالنابل. وكان بعض المدافع في المؤخرة فلم تستطع تلك المدافع أن تسلك الروابي لدخول الموضع. وكلما تقدمت قوات الاحتياطي لنجدة الخط الأول كان الأحباش يحيطون بها ويشتتون شملها. وعقب هذا القتال الشديد انسحاب، ولكن لا على الصور المعروفة بل كان أشبه بالهزيمة. فترك المشاة المدافع وولوا هاربين في طلب النجاة، فتكدسوا على الطرق وفي المضايق وفي الوديان فلم يسلم منهم إلا القليل.
أما لواء (دابروميدا) فبقى وحده يقاتل الأحباش ويظهر أن القوة التي هاجمته لم تكن كبيرة فقاتل إلى المساء بعد أن فقد قائده وانسحب بصعوبة في اتجاه آخر. أما القائد العام فلما رأى النكبة التي حلت بجيشه أصدر أمر الانسحاب في الساعة الحادية عشرة وأسرع مع أركان
حربه منسحبا إلى موقع (عدي كيه) البعيد عن ميدان القتال مسافة 70 كيلومتراً فكان ذلك فراراً لا انسحاباً.
وبلغت خسائر الجيش الطلياني في هذه المعركة ما يلي: جنرالان مقتولان وهما (دابورميدا) و (إريموندي) وأخذ الجنرال (البرتونه) أسيراً.
زعيمان من سبعة زعماء مقتولان وزعيم في الأسر.
خمسة عشر قائد فوج من (أربعة وعشرين) قتلى.
والخلاصة أن مجموع الخسائر من قتيل وجريح وأسير بلغ 284 ضابطاً و 15. 400 جندي. أما الذين نجوا فكانوا 262 ضابطاً و4369 جندياً منهم 276 جريحاً.
انتهى
طه الهاشمي
علماؤنا المجهولون
عبد الرءوف المناوي
952 -
1031هـ
للأستاذ محمد إبراهيم العفيفي
للسائر في شارع باب البحر بالقاهرة أن يعرج على حارة سيدي مدين ليرى بناء متهدماً درست معالمه إلا من جدران قائمة حول مقام وزاوية ومدرسة أهملتها جميعاً وزارة الأوقاف كأنها لا تدري أنه لفخر العلماء وإمام المحدثين ومن تصدى للإفتاء يوما ما، ومن أكب على الدرس والتأليف حتى قاربت تآليفه المائة: ذلك مقام سيدي عبد الرءوف المناوي.
عصره:
انتهى القرن العاشر الهجري والدولة العثمانية تبسط سلطانها على كثير من البلاد الشرقية، فكان لزاما أن تكون الطبقة الحاكمة في مصر عثمانية، وأن تكون اللغة المتداولة بين الأوساط الراقية تركية، يشجعها الحكام ويساعدون على انتشارها بشتى الأساليب؛ فلغة الدواوين ولغة المجالس ولغة التهاني والتناظر والمديح كلها تركية؛ أضف إلى ذلك ما يترتب عليه من ذيوع التأليف ودواوين الشعر بتلك اللغة؛ وأهملت اللغة العربية في شتى الأبحاث، وأقفرت تلك الحقبة من ذيوع لغة القرآن؛ فجفت أقلام المفسرين والمحدثين والمؤرخين والشعراء إلا من نفر قليل قبضهم الله للاحتفاظ بالبقية الباقية من مجدها الأثيل.
مولده
أنجبت القاهرة سنة 952هـ فخر العلم والأدب: زين الدين محمد المدعو عبد الرءوف بن تاج الدين بن علي بن زين العابدين (أو العارفين) الحدادي المعروف بالمناوي.
نشأته
أكب على الدرس منذ حداثته، (وحفظ القرآن قبل بلوغه، ثم حفظ البهجة وغيرها من متون الشافعية، وألفية ابن مالك، وألفية الحديث للعراقي، وعرض ذلك على مشايخ عصره في
حياة والده، ثم أقبل على الاشتغال فقرأ على والده العلوم العربية، وتفقه بالشمس الرملي، وأخذ التفسير والحديث والأدب على النور علي بن غانم المقدسي، وحضر دروس الأستاذ محمد البكري، والتفسير والتصوف، وأخذ الحديث عن النجم الغيطي والشيخ قاسم والشيخ حمدان الفقيه والشيخ الطبلاوي؛ لكن كان أكثر اختصاصه بالشمس الرملي وبه برع، وأخذ التصوف عن جمع، وتلقن الذكر من قطب زمانه الشيخ عبد الوهاب الشعراوي، ثم أخذ طريق الخلوتية عن الشيخ المناخلي أخي عبد الله، وأخلاه مرارا، ثم عن الشيخ محرم الرومي حين قدم مصر بقصد الحج، وطريق البيرامية عن الشيخ حسين الرومي المنتشوي، وطريق الشاذلية عن الشيخ منصور الغيطي، وطريق النقشبندية عن السيد الحسيب النسيب مسعود الطاشكندي، وغيرهم من مشايخ عصره، وتقلد النيابة الشافعية ببعض المجالس، فسلك فيها الطريقة الحميدة، وكان لا يتناول منها شيئاً).
أكب على الدرس منذ حداثته؛ وكان يقتصر يومه وليلته على أكلة واحدة من الطعام زهداً في الدنيا واستجماماً للدرس والتحصيل، يميل إلى العزلة.
ثم علق المنقول والمعقول، واستهوته العلوم العويصة كالفلسفة والتصوف حتى أصاب منها بغيته، ثم التفت إلى التاريخ فألف فيه المطولات لمن يريد الاستيعاب، ثم المختصرات لمنم يبغي الاطلاع، كما ضرب بسهم في السياسة والاجتماع. ثم واصل الدرس فتعمق في فقه اللغة وعالج الكتابة غير أنه كان يميل إلى السجع والمحسنات اللفظية مما كن يعجب به أهل زمانه؛ وتعرض للتاريخ الطبيعي حسبما مكنه الأوان، ثم كان محدث عصره فجلس إلى الناس يحدثهم ثم ولى التدريس بالمدرسة الصالحية فحسده أهل عصره؛ وكانوا لا يعرفون مزية علمه لانزوائه عنهم.
ولما حضر الدرس فيها ورد عليه من كل مذهب فضلاؤه منتقدين عليه، وشرع في إقراء مختصر المزني، ونصب الجدل في المذاهب، وأتى في تقريره بما لم يسمع من غيره فأذعنوا لفضله، وصار أجلاء العلماء يبادرون لحضور مجلسه، وأخذ عنه منهم خلق كثير منهم الشيخ سليمان البابلي، والسيد إبراهيم الطاشكندي، والشيخ علي الأجهوري، والولي المعتقد الشيخ أحمد الكلبي، وولده الشيخ محمد؛ وغيرهم.
تصدره للإفتاء
أما ما قيل من انه تصدر الإفتاء فذلك يرجع إلى أنه ذكر في مقدمة زائفة لسيرة نسبت إليه: (قال شيخ الإسلام ومفتي الأنام الشيخ عبد الرءوف المناوي) ونحن نشك في ذلك، وربما كان ذلك يرجع إلى أن جده الشيخ شرف الدين يحيى تولى مشيخة الأزهر وأن له مجموعة فتاوى.
وفاته
ومع ذلك لم يخل من طاعن وحاسد حتى دس عليه السم فتوالى عليه بسبب ذلك نقص في أطرافه وبدنه من كثرة التداوي، ولما عجز صار ولده تاج الدين محمد يستملي منه التآليف ويسطرها. ولا ننسى أنه كثيراً ما اعتزل الناس وامتنع من مخالطتهم، وأنه كان إلى أواخر حياته بحراً فياضاً ومعيناً لا ينضب. وافاه قدره في صبيحة الخميس في الثالث والعشرين من شهر صفر سنة 1031هـ ودفن بجانب زاويته التي أنشأها بين زاويتي الشيخين احمد الزاهد ومدين الأشموني بعد أن ترك للأجيال ما يفخر به عصره.
تآليفه
1 -
كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق: يشمل على 100000 حديث استخرجها من 44 كتابا ما بين مغاز ومسانيد وسير بينها الكتب الستة رامزاً للأسانيد. فرغ من تأليفه سنة 1026هـ وطبع بمصر سنة 1286هـ، سنة 1305هـ.
2 -
الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية: يبدأ بمقدمة في التصوف رداً على آراء المعتزلة، ثم يتبعها بثمانية أبواب في سيرة الرسول ثم بالخلفاء الراشدين، وبلى ذلك تراجم الصوفية مفرداً طبقات كل قرن على حدة حسب سني وفياتهم، مرتبا إياهم أبجدياً؛ فكانت إحدى عشرة طبقة ينتهي الجزء الأول بانتهاء الطبقة السادسة والباقي في الجزء الثاني، فرغ من تأليفه سنة 1011هـ في 880 صفحة ولم يطبع.
3 -
الطبقات الصغرى أو إرغام أولياء الشيطان: جمع فيه تراجم صوفية العجم والروم والحجاز واليمن والشام ومصر، وصدره بمقدمة مرتبة على خمسة أبواب: في التنبيه على جلال كرم الأولياء، والرد على منكري كراماتهم بالأدلة النقلية والعقلية، وبيان منازلهم ومقاماتهم والحكمة في ظهور الكرامات على أيديهم، والترغيب في مجالستهم، والأخذ عنهم،
وبيان طبقاتهم وأحوالهم ومكان أصحاب الوظائف منهم، وفي ذكر شيء من أصول علم التصوف المهمة التي لا يستغني عنها ثم، ذكر التراجم مرتبة أبجديا. مخطوط في 276 صفحة ألفه بعد سابقه.
4 -
آداب الأكل والشرب: في آداب اللياقة يناسب أهل ذلك الزمن. مخطوط في 80 صفحة.
5 -
شرح خطبة القاموس: في صفحات قلائل.
6 -
الدر المنضود في ذم البخل ومدح الجود: من الأدب الرائع رغم ما به من سجع. مخطوط في 112 صفحة.
7 -
إتحاف السائل بما لفاطمة من المناقب والفضائل للمناوي مخطوط ضمن المكتبة التيمورية في مناقب السيدة فاطمة الزهراء في خمسة أبواب:
الباب الأول: ولدت سنة 41 من مولد الرسول صلى الله عليه وسلم. وقيل قبل الرسالة بخمس سنين.
الباب الثاني: تزوجت علياً في (خلاف من الخامسة عشرة من عمرها إلى الحادية والعشرين) وعمره إحدى وعشرون سنة في رمضان سنة 2هـ وبنى بها بعد العقد بنحو أربعة أشهر ولم يتزوج قبلها ولا عليها، وأولدها حسناً وحسيناً ومحسناً (مات صغيراً) وأم كلثوم الكبرى التي تزوجت عمر فعون بن جعفر فمحمد فعبد الله أخويه وأمهرها درعاً باعها بمبلغ 480 درهماً وكان جهازها: سرير مشرط بالشريط، وإهاب كبش، ووسادة من أدم حشوها ليف، وقربة، ومنخل، ومنشفة، وقدح.
الباب الثالث: الأحاديث الواردة فيها: 52 حديثاً.
الباب الرابع: مناقبها ومزاياها.
الباب الخامس: عشرة أحاديث روتها ثم أشعار بين فاطمة وعلي ضعيفة التأليف.
8 -
غاية الإرشاد في معرفة أحكام الحيوان والنبات والجماد لم أره ولعله يشبه حياة الحيوان للدميري أو الحيوان للجاحظ أو عجائب المخلوقات للقزويني.
9 -
الجواهر المضيئة في الأحكام السلطانية: في آداب السلطان وعلم الاجتماع.
10 -
سيرة عمر بن عبد العزيز.
11 -
التوقيف على مهمات التعريف: مخطوط بالمكتبة الأهلية بباريس.
وهو ذيل لكتاب التعريف للشريف الجرجاني ويشمل الاصطلاحات العلمية العربية في عهدهما أفاض فيه المناوي في ذكر المسميات الفنية التي تساعدنا الآن في تسمية أجزاء الآلات وغيرها مما له مساس بأغراض المجمع اللغوي الملكي.
12 -
فيض القدير: طبع في مصر:
وهو شرح كبير مستفيض لكتاب الجمع الصغير للحافظ جلال الدين السيوطي في علم الحديث.
13 -
80 مؤلفات تامة ذكرها المحبي في خلاصة الأثر فليراجعها من أراد.
81 -
93 مؤلفات لم تتم.
ونحن نرجو من يعثر على مؤلفات لعبد الرءوف المناوي غير ما ذكرت أن يتفضل بذكر مكان وجودها خدمة للرجل وفضله.
(الزقازيق)
محمد إبراهيم العفيفي
الكذب والصدق
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
الكذب أسعدني والصدق أشقاني
…
والكذب أضحكني والصدق أبكاني
الكذب صيَّر أعدائي ذويِ مقةٍ
…
والصدق أبعد عني كل أخداني
كم ورطة كاد فيها الصدق يوقعني
…
وبعد ذلك منها الكذب نجَّاني
حرمتُ أكثر ما عيشي يطيب به
…
والصدق قد كان من أسباب حرماني
ما كنتُ أرعى نجومَ الليل في سهري
…
بل كان فيه نجومُ الليل ترعاني
لولا أكاذيبُ آمالٍ تخادعني
…
من كان يذهب أشجاني وأحزاني
إن الأمانّي تسلى وهي كاذبة
…
وليس في الصدق من سلوى لأَسوان
الصدق مستنقعٌ في مائه أَسَنٌ
…
فليس يملك إِرواءً لظمآن
والكذب بحر خِضَمُّ لا قرار له
…
يحوي جواهر من درّ ومرجان
الصدق يلقاك بالأشواك جارحةً
…
والكذب يبسم عن وردٍ وريحان
وقد يفوز أخو صدق بمأربه
…
وقد يؤوب أخو كذب بخسران
لكن هذا قليلٌ غير مطرّد
…
فليس يبني عليه رأيه الباني
إن الحياة بدنيانا لقائمة
…
على الأكاذيب من زور وبهتان
الصادق الحرّ ذو فقر ومسكنة
…
والكاذب الغِرَّ ذو مال وسلطان
إذا كذبتَ فقد أصبحتَ ربَّ تقي
…
وإن صدقتَ فأنت الملحد الجاني
ما كنت تلعنني لو كنت تفهمني
…
أو كان عندك وجدانٌ كوجداني
وربَّ أحدوثةٍ في صدقها سببٌ
…
إلى إثارة أحقادٍ وأضغان
ورب أكذوبةٍ أدّت بحكمتها
…
إلى زوال حزازات وعدوان
الصدق في بثه نارٌ مؤججة
…
فليس يطفئها إلا الدمُ القاني
كم دولةٍ أنشأتها ساسةٌ كذبوا
…
فأصبحت ذات أبراج وأركان
ودولةٍ بعد كذْب صان بيضتَها
…
أضاعها الصدق، صدقُ العاهل الواني
لا تنكروا ما به قد جئتُ أخبركم
…
إني إذا قلتُ فالتاريخُ برهاني
هل السياسة إلاّ كذبُ باقعةٍ
…
على جماهير من بُلهٍ وعميان
هل الحياة وإن كانت مثقفةً
…
سوى نفاقٍ وتدليس وإدهان
إن الحياة لسرٌّ ظلّ مختفياً
…
والروح أكبرُ من عقلي وعرفاني
هل كان في الأولين السابقين لنا
…
حقاً عبادةُ أصنامٍ وأوثان
الكذب بالحور والغلمان ذو هِبةٍ
…
والصدق يقصيك عن حور وغلمان
نزلت في ليلة مقرورةٍ بها
…
فالصدق عبّس لي والكذب حياني
الكذبُ كان بما فيه الرغادة لي
…
في العيش يأمرني والصدق ينهاني
إذا صدقتُ فان الناس تمقتني
…
وإن كذبت فان الناس تهواني
يصحّح الكذبُ ما للصدق من الخطأ
…
والكذب والصدق في الإنسان صنوان
وأعذب الشعر ما قد كان أكذبه
…
قد قال هذا قديماً كل إنسان
وطالب المثل الأعلى وإن عجزت
…
منه اليراع على هذا هو الباني
للنابغين شياطينٌ تساعدهم
…
وما شياطينهم أشباه شيطاني
إبليس أنجبَ شيطاني وأدّبه
…
وبالأكاذيب أوصاه وأوصاني
جميع ما فيّ أمسى تحت سلطته
…
إلاّ ضميري وأخلاقي وإيماني
إما مفارقةُ الشيطان لي فكما
…
يفارق الروحُ عند الموت جثماني
ولا يفارقني إلاّ غداة يرمي
…
سيري إلى العالم الباقي من الفاني
الشعرُ أنِشدُه كالشعر يقرضه
…
على لساني فأنّا فيه سيان
يبكي ويضحك شعري حين أرسله
…
إلى الجماهير من أنسٍ وجنّان
لقد جرى الشعر شوطاً في تطوّره
…
وظل يُبدل ألواناً بألوان
لم يكبر الشعرُ معتزاً بقوته
…
حتى تربيتُه طفلاً بأحضاني
ولست أرضى بسلطانٍ على أدبي
…
إن لم يكن ذلك السلطان سلطان
وربّ شعرٍ جميل بعد قائله
…
يشدو به الناس من قاص ومن دان
الشعر باللفظ والمعنى يفوق كما
…
يطير في الجوّ الجناحان
وأفتنُ الشعر ما قد هز سامعَهُ
…
بما به بثّ من وجد وأشجان
وسوف يبقى جديداً في رسالته
…
إلى الجماعات ما كَرّ الجديدان
بغداد
جميل صدقي الزهاوي
أختي
للأستاذ أحمد رامي
رزئ الشاعر الوجداني الرقيق الأستاذ رامي في أخته منذ
أسابيع فبكاها بهذه العبرات المنظومة:
أنا للحزن وما يبعث
…
في خيالي من تهاويل الشجن
كلما صرت بنفسي خالياً
…
يتبدّى من غيابات الزمن
يغرض الماضي فيسقيني الذي
…
ذقت فيه من أفانين المحن
يشتكي ذو الوجد ما يعتاده
…
ويغنى فيه مسلوب الوسن
هي أختي درجت في كنفي
…
ثم أمست وهي للروح سكن
عُلْتُها طفلاً على بُعد أبي
…
وهو نائي الدار عني والوطن
ثم دلّلت صباها فنمت
…
كالنبات الغضّ في ظلً الفنن
شربت طبعي وحاكت خلقي
…
ثم كانت هي سرّي المؤتمن
إن شكوت الدهر مما نالني
…
سكن القلب إليها واطمأنّ
هي أختي صبّرت نفسي على
…
فقد أهلي كلما ضمّ كفن
لو تذاكرنا أبي أو اخوتي
…
ساجلتني دمع عيني ما هَتَن
قلت ترعاني وترعى ولدي
…
وتربيه على قصد السِّنَن
وتواسي علّتي في وحدتي
…
وتناجيني إذا الليل سكن
فطواها الموت عني بغتة
…
في الشباب الغضّ والوجه الحسن
تركت لي مَلَكاً في صورة
…
من جنين واضح النور فتن
وعيون تسحر اللبّ بما
…
أرسلته من ذكاء وفطن
وفم حلو اللمى مبتسم
…
فرّ عن دّرٍ توارى واستكن
فيه منها ما يعزينَي عن
…
بعدها إما هفا قلبي وحنّ
وابن أختي قطعة من كبدي
…
أفتديه العمر روحاً وبدن
أحمد رامي
صمت الشك
علم أم ضعف
للأستاذ عبد الرحمن شكري
ألا لا أُبيح العيش مدحاً ولا ذما
…
سكتُّ فلا عذراً نطقت ولا لوما
ولا يستقيم القول إلا لمُنْتَش
…
من العيش والآمال لا من صحا غما
مللت أساطير الحياة فان أُفِقْ
…
فمن لي بحلم قد حلمت به قِدْما
حلمت بحسن العيش والصدق والنهي
…
أمانُّي لا صُمًّاً تبدت ولا بُكْماَ
وإنْ لم يكن عيش الفتى حلم حالم
…
فما عذر قولي إن حسبت الدُّنى حلما
فان شئت كان الشك ضعفاً وخيبة
…
وإن شئت كان الشك منطقه علما
وإن كان أصل الوحش والناس واحداً
…
فَلِمْ فقدوا ظلفاً وقد كسبوا لؤما
وكيف أرى في مقبل الدهر للورى
…
علاء ومحيىً يجمع الخلق والفهما
إذا كان صدق الناس كذباً وفضلهم
…
رياء وود منهم الغدر والسما
صحوت كصحو اَلمْيت من نوم عيشه
…
أترجعني للعيش ألعقه رغما
كما يلعق الآسي العلي دواَءه
…
وإن مج منه علقما قد نبا طعما
وهل ثقة بالعيش والناس تشتري
…
لأّنثرها نثراً وأنظمها نظما
وإن كان مدح المرء للعيش خشية
…
من اليأس كان المدح من وجل دما
يسوغ بيان السخط إن كان من هوى ال - حياة وإن أغرى بك الأمل الجما
وإلاّ فإن الصمت أولى بقائل
…
إذا قال قولاً جدد اليأس والهما
على تافه لا ينقع الدهر غلة
…
ولم يك بين الناسْ ربحاً ولا غُنْما
رأيت زوالَ الكائناتِ فلا أسًى
…
إذا لم أُخلَّدْ لي مقالاً ولا نظما
سيحدث بعد القول قول يُذيلُه
…
وإن زال أقوام تجد بعدهم قوما
وما الخلد إلا غرة وطماعة
…
وأنبلِ كذْب يخدع اللهب والفهما
يكون الفتى في اليأس دهراً وفي المنى
…
(كأرجوحة بين الشقاوة والنعمى)
وقد حل بي دهر إذا ما مدحته
…
أظل كحاسي المر يفتعل البسما
وإنْ لم يُنِلك القول إلا مذلة
…
فمن بر نفسي أن ترى تركه حزما
فمن شاء فلينطق ومن شاء فليكن
…
صموتاً فحسبي أن أرى الحمق والحلما
مللت نضال الناس في غير طائل
…
وإن كان شراً يصقل الذهن والفهما
وكم شبهوا فهما بسهم ومورد
…
ويا طالما أشوى الصوابَ وكم أظما
فيا ليت هذا العيش يبدو كصورة
…
لعينيَّ أو خطأ على الطرس أو رسما
كما تهدأ الهيجاءُ في رسم راسم
…
تراها فلا قتلا تراها ولا كَلْما
ترى حسن إحسان وتجويد صانع
…
وقدرة فنان وجهداً له تما
عبد الرحمن شكري
القصص
صور من هوميروس
20 -
حروب طروادة
بريام الحزين. . .
للأستاذ دريني خشبة
تفرق القوم إلا أخيل. . .
لقد أوهنه الحزن، وشف قلبه الأسى؛ وكأن قتله هكتور لم يشف ما في نفسه من شجو، ولم يخفف عنه ما يلقه من عذاب البعد عن أعز أصدقائه. . . الفقيد بتروكلوس!
وخرج لبعض شأنه فرأى جثة عدوه في طريقه، تثير في نفسه الكوامن الشواجن، فينقض عليها كالمجنون، ويشبعها ركلا بقدمه، وكلوماً بخنجره، ويربط القدمين في عربته، ثم يلهب جياده بسوط نقمته، فتعدو كالريح حول قبر بتروكلوس، جارة وراءها جثمان هكتور، تقلبه في الأديم المندى، وتلته في التراب الهامد. . .
ويكون أبوللو مطلاً من سحابة سارية، فينتابه من الهم على صديقه ما يثير في قلبه الحنان المقدس، ويلقى درعه الذهبي على القتيل المهين، فتقيه الدرع من الصخر والحصى. . .
أما فينوس! فإنها ترف هي الأخرى فوق الجثة، وما تنفك تصب عليها من خمر الأولمب ما تنضح به من دمائها. . . وطلائها. . .
وتطلع الآلهة من ذروة جبل إيدا، فترثي لما يحل بالميت المسكين من هوان، ويلحظ أبوللو ما ينقدح من عيني سيد الأولمب من شر، فيجد فرصته، وينهض خطيباً مصقعاً كيماً يثير زيوس على أخيل. . . عسى أن يحل عليه غضبه. . . بعد إذ حماه طويلاً. . .
وينجح أبوللو في إثارة رحمة الآلهة، وتأليبهم على زعيم الميرميدون، وجعلهم إلباً عليه واحداً؛ لولا أن نهضت حيرا مغضبة، فانطلقت تدفع عن أخيل، وتذكر سادة الأولمب بهذا المهرجان الفخم الذي أقامه بليوس، أخوهم ونجيهم، هناك. . . هناك، في أعماق المحيط احتفاء بقدومهم للمشاركة في عرسه، وبنائه على ذيتيس المسكينة. . . التي يعلم الجميع أنها ثكلى. . . وإن لم تفقد بعد أخيل!!
وتذكرهم حيرا بالموثق الحرام الذي قطعوه على أنفسهم أن يباركوا نسل بليوس، وأن يدفعوا عنه الضر. . . حتى تنفذ مشية ربات الأقدار.
ويحار زيوس بين سخط الآلهة، ودفاع حيرا. . . ثم يبدو له أنه ينفذ رسوله الأمين (إيريس) إلى ذيتيس الحالمة في أعماق البحر، فتوقظها، وتلقي إليها برسالة السماء. . .
(. . . أن هلمي من فورك هذا إلى سيد الأولمب. . . فانه يأمرك ان تسعى إليه في مهمة تعرفينها فيما بعد. . .)
وتنتفض الأعماق بالأوسيانيد والنربيد وسائر عرائس البحر وعذارى الماء. . . يسعين خبباً في إثر ذيتيس. . . حتى تكون في أفق جبل إيدا. . . فينثنين. . . تاركات مولاتهن في ثوبها الحريري الأسود، وزنارها القاتم الحزين، تسعى وحدها حتى تكون فوق الثبج، ومن ثمة تعرج في الأديم الأزرق حتى تلج أبواب السماء. . .
وألفت حشد الآلهة ما يزال يتحاور، وما يزال أبوللو يحاج حيرا وحيرا تقرعه، حتى نظر زيوس فرأى ذيتس تتهادى في طليانها الأسود، ووجها المشرق المترع بالمفاتن يزيده الحزن روعة، ويضفي عليه الأسى جلالاً. . . فتبسم سيد الأولمب، واهتز فوق العرش، ثم قال: (مرحبا ذيتيس! فيم هذا الأسى يا فتاة! آه. . . مسكينة. . .! ولكن أصغى إلي: لقد دعوتك إلى الأولمب لتذهبي برسالتي إلى أخيل العزيز، فتوصيه بجثة هكتور؛ لقد أثار بما ينزله بها من هوان غضب الآلهة جميعا. . . بل قد أثار غضبي أنا أيضاً. . . أنا. . . حاميه ومنقذه ومرشده في كل مثار نقع. . . اذهبي إليه فأمريه أن يقلع عن هذه المثلة، فانه لا شيء يحنق الآلهة مثلها. . . وليسلم القتيل لأهله، فهذا خير له، وليقبل القَوَدَ العظيم الذي يقدمه إليه بريام الملك الشيخ الحزين. . . الذي حطمه الرزء، وعظمت عليه البلية، وصدعت قلبه المصائب. . . أما نحن. . . فسننفذ إيريس إلى طروادة تأمر الملك بإعداد القود والتجهز للقاء أخيل في معسكره. . . وسنرسل ولدنا هرمز إلى بريام يحدو ركبه إلى معسكر أخيل، ويعمى أبصار الميرميدون حتى لا يثوروا به، وحتى يكون أمام زعيمهم وجها لوجه. . .
(ذيتيس! حسب أخيل ما حل بابن بريام. . .)
وهمت ذيتيس فانطلقت إلى ولدها، حيث ألفته يتناول وجبة الصباح، فأبلغت إليه الرسالة
الأولمبية وعيناها تفيضان بالدمع، وقلبها يخفق ويضطرب، ونفسها تذوب على شبابه الغض حسرات. . .
وهش أخيل لأمه، وتقبل رسالة الإله الأكبر قبولاً حسناً، فنهضت ذيتيس وعادت أدراجها، بعد إذ طبعت على جبين ولدها قبلة خاطفة، كانت. . . وا أسفاه. . . آخر وداع منها له في الحياة. . .
وانطلقت إبريس إلى بريام الملك، فوجدته ما يفتأ يبكي هكتور، ومن حوله أبناؤه التسعة، خضراً كأفراخ القطا، نضرا كأكمام الزهر، والرجل مع ذاك يقلب فيهم عينين تفيضان حسرة، ووجهاً يتشح باليأس والهم. . . وإلى جانبه جلست هكيوبا المرزّأة تئن وتتفجع، وترسل من أعماقها زفرات الهم والأسى. . .
وبلغته إيريس رسالة ربه، وعادت أدراجها إلى الأولمب؛ وما كاد الملك يخبر زوجه بما أوحى إليه من ربه، حتى اضطربت هكيوبا وأعولت، وطفقت تضرب صدرها لتهدم بيديها الوانيتين لما اعتزم زوجها من تنفيذ ما أشارت به السماء، والذهاب إلى أخيل يرجوه أن يهب له جثمان هكتور، خشية أن يأسره زعيم الميرميدون ويستبقيه عنده رهينة حتى يسلم الطرواديون. . .!
ولكن الرجل كان مؤمناً حتى لا يتسرب إلى قلبه الشك بما رسمت له الآلهة، أو يساوره ريب في أي مما تشير به أربابه؛ فزجر الملكة، ونهض إلى خزائنه العامرة بالتحف فتخير أثنى عشر قرطقا من أغلى ما نسجت مصر، ومثلها من المعاطف المصنوعة من القاقم والسنجاب، وعدداً كبيراً من الوسائد الرائعة والطنافس ذات التصاوير؛ ثم أمر بعشر؟؟؟ فأحضرت من بيت المال، وبدستين كبيرين من الذهب، ذوى قوائم من الفضة، وأيد من الجوهر؛ وبأربعة قدور مهداة من ملوك الشرق، أحدها يزن بما يملأ خزائن بن بليوس ذهباً. . . وبكأس من الإبريز الخالص بها من النقوش والصنعة ما يعجز عن مثله عباقرة الجن. . .
أمر بريام بكل أولئك فوضعت في صناديق كانت هي الأخرى تحفاً من صناعات مصر والشام والهند. . . تهيم فوقها تصاوير فارس. . .
وصاح بأبنائه التسعة فهرعوا من كل مكان. . باريس المشئوم وهيلانوس واجاثون؛
وبامون وأنتيفون وبوليت؛ ثم ديفوبوس وهيوثوس وديوس. . . كلاب الأزقة كما كان يدعوهم أبوهم. . . (ليت المنية التي تخطفت هكتور تلقفتكم وخلت سبيل هكتور. . . أوليتها أصابت ألف ألف من أمثالكم وعميت عن ليكاون وبوليدور. . .؟)
وأمرهم فرتبوا الهدايا ورفعوها فوق ظهور البغال. . . وما ثقل منها وضعوه في عربة كبيرة يجرها بهيمان؛ وتقدمت هكيوبا فصبت على يدي زوجها خمراً يطهر بها، وأخذ هو في صلاة طويلة لزيوس. . . أن يحميه ويوقيه. . . ويرشده في طريقه إلى أخيل؛ ويرسل إليه الرسول الذي وعد، يقوده إلى فسطاط زعيم الميرميدون!!
ولم يكد ينهض من صلاته، ويختم توسلاته؛ حتى رف فوقه طائر ظل يضرب الهواء بخافيتيه، ويهوّم ويدوم، ويرنق في سماء الهيكل تارة، ثم يستقر عند المذبح أخرى، حتى أيقن الملك وملؤه أنه الرسول المنتظر، والقائد المنشود فخفقت قلوبهم، وفرحوا واستبشروا.
وتقدم إيديوس الحكيم فألجم البغال، وأسرج الخيل، وشد البهائم إلى عربة الملك، وأقبل بريام فركب، وأصدر أمره إلى حكيم طروادة وفيلسوفها فسار بين يدي الركب، يحدوه ويباركه ويضمن له رعاية السماء.
أما الطائر الميمون فقد انتفض انتفاضة هائلة، وراح يحلق فوق طروادة،. . . ثم غاب عن الأبصار. . . إلى أين. . .؟ إلى حيث لا يدري أحد!!
وتهادى الركب. وانطلق إيديوس يحدوه، حتى كان عند مقبرة إليوس الأكبر، وحتى كانت طروادة الخالدة وراءهم، حالمة في غبشة المساء ساهمة مستسلمة، كالفكرة الشاردة في دماغ الشاعر الغرير.
وغابت الشمس في مياه الهلسبنت، واختلط البنفسج الشاحب بسواد الليل، ونقت ضفادع الأبالسة في فضاء البرية، فملأت القلوب وحشة، وأرسلت في المفاصل رعدة، فلم يكن بد من أن ينيخ القوم حتى يأذن القضاء بالرحيل.
وفيما كان إيديوس يسقي الدواب من الغدير النائم في كِلَّة الغسق، إذا شاب يافع يقبل نحوه ويسأل عن الملك. . . ويكون بين يديه بعد لحظات. . .
ويسأله الملك عن شأنه فيحدث أنه جندي آبق من جنود أخيل، وأنه ينصح الملك ألا يجازف بنفسه وبما يحمل من اللُّهى والعطايا في هذه الرحلة المهلكة، التي قد تنتهي بما لا
يدور للملك في خلد، أو يقع له بحسبان؛ ولكن الملك يبدي تصميمه ويلح في سؤال الشاب عن هكتور. . . (أما يزال مسجى بين يدي أخيل يشفى بمرآه حرده، أم هو قد أسلمه للسباع وجوارح الطير تنوشه وتغتذي به؟. . .) ويطمئنه الشاب اللعاب الداهية ثم يرثى له فيعده أن يكون قائده إلى فسطاط أخيل. . . (لأن أحداً من الناس لا يستطيع أن يخترق صفوف الميرميدون الدواهي ما لم يكن مخاطرا بنفسه، أو ملقيا بيديه إلى التهلكة. . .) ويستسلم الملك الشيخ، ويلقي في يدي الجندي الشاب بزمامه، ويأذن له فيمتطي الجواد الأمامي الذي يتقدم سائر الدواب. . . وتبدأ الرحلة إلى مرابض الميرميدون. . .
ويتحدث الشاب إلى الملك، ويتحدث الملك إلى الشاب. . . حتى إذا كانا قيد خطوات من معسكر أخيل، مد الشاب ذراعيه المفتولين، ولفهما حول جذع الملك، ثم رقاه رقية قصيرة، وإذا سأله الملك عما يبتغي بها أنبأه. . . (كي لا تمتد إليك عين ولا يلمحك أحد، ولا يحس بمسرانا أي من أولئك الميرميدون. . .) فيسكن جأش بريام الشيخ، ويطمئن قلبه، وتتضاعف ثقته في الجندي الشاب. . .
ويكون فسطاط أخيل تلقاءهما!
فينهض الشاب من جانب الملك، ثم ينتفض انتفاضة تكشف عن حقيقة، ويقول ضاحكاً:(أيها الملك أنت الآن في جوار أخيل، وعليك أن تلقاه في غير هيبة ولا وجل، فادخل غير مستأذن، ولتكن رابط الجأش ساكن الروع، واركع بين يديه ثم ازرف أغلى دموعك حتى تلين ما قسا من قلبه، وتحجر من مشاعره، واذكر له حاجتك فانه راد عليك جثمان هكتور. . . وثق أن السماء قد قضت بذلك، ولا مرد لقضائها. . . أما أنا. . . فلا تنتظر أن أسعى بك إلى زعيم الميرميدون. . . وليس سراً أن أذكر لك أنني. . . هرمز. . . أرسلني أبي إليك لأجيء بك إلى هذا المكان. . . انهض. . . انهض. . . ماذا أخافك مني؟. . . أجل. . . أنا ربك. . . ولكن لتقصر صلاتك هذه، فالفرصة تكاد تفلت. . . تشجع يا بريام. . . قف. . . آمرك)
وينهض الملك من غشيته التي كادت تذهب به حين ذكر له الشاب أنه هو هرمز. . . هرمز نفسه الذي ذكره له إيريس أنه سيقوده إلى فسطاط أخيل. . .
وينظر بريام فيرى إلى. . . الجندي الشاب. . . يرف في الهواء المندى، ثم يرتفع
ويرتفع، حتى يكون في السماء التي تتفتح له أبوابها!؟. . .
ويصلح الملك من شأنه، ثم يتقدم بخطى وئيدة إلى فسطاط أخيل، ويدخله. . . ويرى زعيم الميرميدون في الصدر، وبين يديه وزيراه العظيمان أوتوميدون وألكيموس، ثم قادة الجند منتثرين ههنا وههنا. . . يهمسون ولا يكادون يبينون. . .
وكان السماط ما يزال أمام الزعيم، وزقاق الخمر ما تزال تقبل الكؤوس المغرمة، والشواء العظيم يملأ الخياشيم بقتاره. . . فلم يبال بريام. . . بل تقدم وتقدم. . . حتى كان أمام أخيل. . . فركع ذاهلاً عن نفسه، ولف ذراعيه حول ساقي الزعيم، وراح يوسعهما لثماً وتقبيلاً، ويمطرهما بأحر العبرات!. . .
وشده أخيل!. . .
بيد أنه كان يعلم من أمر هذه المفاجأة كل شيء، فلم يزد أن قال:(بريام!؟)
- (أجل يا بني أنا بريام!!. . .)
وبهت القادة مما رأوا، وأذهلهم ما سمعوا!. . .
أهذا حقا هو بريام ملك طروادة يبكي بين يدي أخيل وينتحب؟. . . إذن. . . فيم هذه الحرب؟. . . وختام ذاك الصراع؟. . . وإلام تذهب هذه المهج؟. . .
- (أجل يا بني. . . أنا هو. . . أنا الرجل المرزأ المحزون الذي قتلت أبناءه، وهرقت دماءهم لأنهم يحاربون من أجل وطنهم، ويذودون عن بلادهم. . . سعيت إليك. . . إليك يا أخيل العظيم، لأمطر هذه اليد التي ذبحتهم بدموعي، ولأوسعها لثماً وتقبيلاً؟!
أتمنى يا بني أن تعود قريباً إلى أبويك سالماً، فيهش أبوك للقائك، وتبش أمك لعناقك، ويفرح ذووك بك، لأنك عدت إليهم بالنصر والفخر. . . أستغفر الآلهة، بل عدت إليهم سالماً من نكبات الحرب وكوارثها. . . فهل أكون قاسياً أن أرجوك. . . حين تعود إلى ديارك وتلقى فيها أحباءك. . . أن تذكر أن أبوين آخرين قد خلفتهما وراءك يشقيان ويبكيان، ويلبسان السواد أبد الدهر، لأن أبناءهما لم يعودوا من ساحة الحرب كما عدت أنت، بل هم قد سقطوا فوق أديمها، مضرجين بدمائهم، شاكين إلى أربابهم ما حل فيها بهم، تاركين آباءً شيوخا فانين، وأمهات ضعيفات معولات، وقلوباً تتفجر أسى عليهم، وعيونا تختلط دموعها بدمائها من أجلهم، وأرامل يلطمن الخدود ويشققن الجيوب، ويتامى لا حول
لهم ولا قوة على الزمان الغادر، والحظ العاثر، والصبر الجميل. . .؟. . .
هل أكون قاسياً يا بني إذا رجوتك أن تذكر ذلك أو بعض ذلك، حين تعود إلى ديارك وتلقى أبويك الفرحين بك؟. . .
أخيل! لم أسع إليك يا بني إلا بأمر الآلهة، ووحي سيد الأولمب. . . أرجوك في هكتور. . .!. . .
وأحر قلباه يا هكتور. . .! وا أسفاه عليك يا ولدي!. . .
صدرت إليك يا أخيل عن أمر السماء أرجوك في هكتور أن تسلمه إلى حتى نؤدي له فرائض الآلهة، وطقوس الموت، وما أحسبك إلا ملبياً ندائي الحزين، حتى تتيح للآلاف المؤلفة من جنوده وذويه وزوجه وابنه أن يبكوا جميعا عليه، وأن يشيعوه إلى الدار الآخرة بما رضيت أن تؤديه لبعض أصحابك، حتى تقر روحه، ويؤذن لها فتلج إلى هيدز. . .
أخيل. . . لب ندائي أيها الزعيم الباسل. . . لب نداء هذا الشيخ الضعيف،. . . وارحم فيه هذا الذي حمله إليك. . . وأسعده بتقبل هذه الهدية التي أمرت بها السماء. . . وإن تكن يا أشجع المحاربين في غَنَاء عنها، ولا حاجة بك إليها. . .)
وأحس أخيل كأنما تخاطبه السماء كلها بلسان هذا الشيخ المتهدم، وكأنما الآلهة جميعا تنطلق من فمه لتكون بياناً ورحمة في قلبه، فأنهضه من بين يديه، وأجلسه إلى جانبه فوق أريكته ثم أخذا معاً في بكاء حار طويل.
وتقبل أخيل هدايا الملك، وأشار إلى اوتوميدون وزميله فأخذاها إلى الأسطول، ثم أمر الخادمات فغسلن هكتور بالماء الساخن المعطر بدهن الورد، ولففنه في مدارج بأكملها من كتان مصر، وتقدم هو فوضعه على وسادة الموت، وأشار إلى جنوده فرفعوه إلى إرانه، ثم أخذ يهون على بريام ويواسيه، ودعاه إلى تناول العشاء معه، فلبى الشيخ وهو يعول ويبكي. . . بكاء يفتت الأكباد ويذيب نياط القلوب. . .
وكان الليل قد انتصف أكاد، وكان بريام الملك قد لبث الليالي الطوال يتفجع على ولده، ولا يذوق جفنه طعم الكرى فأحس بعد العشاء بإعياء وجهد، وميل شديد إلى النوم، فصفت له ولرجاله وسائد فاخرة، عليها طنافس وملاءات من الهند، واستأذن أخيل واستلقى على متكئه. . . وقبل أن يسلم عينه للكرى، سأله أخيل أن تكون هدنة بين الجيشين المتحاربين
حتى تؤدي كل الطقوس اللازمة لتحريق هكتور؛ واتفقا على أن تكون هذه الهدنة لمدة أحد عشر يوماً.
وفي الهزيع الأخير من الليل، أقبل هرمز الكريم فأيقظ بريام الملك، ونبهه إلى الخطر الذي يحيق به إذا أشرقت الشمس وأقبل أجاممنون وسائر القادة الهيلانيين ورأوا كبير أعدائهم، وصاحب إليوم، في معسكر أخيل. . . هنالك يحجزونه لديهم رهينة حتى تسلم مدينته. . . (فهلم أيها الملك وانج بنفسك، وسأقودك إلى طروادة بحيث لا يشعر بك أحد، ولا يحس الميرميدون لركبك رِكزاً. . .)
ويسير الركب في هدأة الفجر، ويحدو هرمز القافلة حتى تكون لدى البوابة الاسكائية الكبرى، فيسلم على الملك ويبارك الميت. . . ويعرج في السماء. . .
وتكون كاسندرا، ابنة بريام الكبرى، أول من يلمح الركب مقبلاً، فتبشر الأهالي المحزونين، ويرتفع اللغط، وتشتد الضوضاء، ويتكبكب المواطنون حول العربة تحمل الأران حتى ليتعذر السير، ويبطئ السعي، فيصيح الملك بالملأ، فتنفرج الطريق، ويعم الصمت، ولا يحس إلا وجيب القلوب وخفقانها.
وتقبل أندروماك فتذرى دموعها، وتندب حظها، وتبكي زوجها، وتمزق قلوب الطرواديين بما يبدو عليها من أسى وحزن ووجد وكمد. . .
وأم هكتور!. . . ويا لمصاب الأمهات في فلذات أكبادهن، وأعز الأبناء عليهن!!. . .
وهيلين!! والعجيب أن تبكي هيلين هي الأخرى!! هيلين الآبقة. . . هيلين الأثيمة. . .!!
ويأمر الملك فينتشر الجند يجمعون الوقود من كل فج، حتى تكون كومة عالية؛ ويوضع الجثمان المبكي فوقها، وتصب الخمر تحية لآله الموت وتكرمة، وتشتعل النار فتكون ضراماً. . .
أنشد يا هوميروس!
يا شاعر الأحقاب الخالية!
يا صدى الزمان القديم!
أيها القيثارة المرنة في أنامل الأيام!
أرسل من الأزل أنشودتك تملأ الأسماع في الأبد!
واعصف مع الريح. . .
واهتف مع البلابل. . .
وتقبل تحيات المعجبين. . .
(تمت الإلياذة)
(بقية الحروب في العدد القادم)
دريني خشبة
البريد الأدبي
ترجمة لكير هاردي
منذ أكثر من قرنين يتناوب الحكم في بريطانيا العظمى حزبان عظيمان هما المحافظين وحزب الأحرار؛ ولكل من الحزبين في ميدان الكفاح السياسي مواقف وتقاليد عريقة؛ ولكن حزباً ثالثاً ظهر فجأة في ميدان السياسة الإنكليزية هو حزب العمال؛ وكان ظهوره إيذاناً بوقوع الثورة الاجتماعية التي لبثت أسبابها تجتمع طوال القرن التاسع عشر؛ وظهر حزب العمال ونما بسرعة مدهشة، ولم يمض على قيامه نحو ثلاثين عاماً حتى استطاع أن ينتزع مقاليد الحكم من الحزبين القديمين الكبيرين (سنة 1942)، ثم تولاها مرة أخرى في سنة 1929
وقد كان كير هاردي من أقطاب مؤسسي هذا الحزب الجديد ومن أعظم الزعماء الذين أمدوه بأسباب الحياة والقوة؛ وحياة هذا الزعيم المجاهد هي موضوع مؤلف جديد صدر أخيراً بالإنكليزية بقلم هاملتون فايف، وهي مثل رائع من صور الكفاح الخالد بين الطبقات. كان كير هاردي عاملاً منذ نعومة أظفاره، وقد نشأ في بيت فقر وبؤس، وذاق مرارة الكفاح الشاق منذ طفولته، ولم يتلق تعليماً ولا ثقافة، ولكنه تعلم القراءة في منزله، وصقل ذهنه بالدرس المتواضع، ودرس الحياة بصورة عملية، وظهر في مجتمع العمال منذ حداثته، واشتهر بكفاحه في سبيل قضية العمال. وفي سنة 1892 أسس كير هاردي مع نفر من صحبه الحزب الذي قدر له أن يتبوأ بعد قليل مركزاً خطيراً في السياسة البريطانية وهو حزب العمال المستقل؛ وكان هو أول رئيس لهذا الحزب؛ وفي نفس العام دخل البرلمان نائباً عن إحدى المناطق الصناعية، وكان دخوله في هذا المجلس العريق في مظاهرة اشتهر ذكرها في هذا العصر؛ ولبث كيري هاردي يسهر على مصاير حزبه وعلى مصاير قضية العمال، ويبث روح الكفاح والقوة في الحزب الجديد، تارة بقلمه وتارة بخطبه، حتى أصبح حزب العمال قوة يخشى بأسها. وفي سنة 1906 كان لحزب العمال في مجلس النواب زهاء ثلاثين مقعداً؛ وبدأ الكفاح الحقيقي بينه وبين الأحرار والمحافظين، وبدأت الحكومات البريطانية المتعاقبة تحسب حسابه، وتنزل عند مض رغباته، وما زال سائرا في طريق الكفاح الاجتماعي حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم من القوة والنفوذ.
على أن الكفاح السياسي لبس أغرب صفحة في حياة كير هاردي، ولعل أغرب ما في هذه الحياة هو ما تميزت به حياة هذا المجاهد من بسالة ومقدرة على مغالبة الشقاء والفاقة، وما بذله من عزم وجلد. هنا تبدو حياة كير هاردي بديعة مؤثرة؛ ولعل أحدا من الناس لم يصف في هذه الحياة المؤثرة بقدر ما وصفها كير هاردي نفسه، فقد كتب كثيرا في متاعب هذه الحياة وشقائها. ومما يذكر أنه في صباه تأخر ذات يوم بعض الوقت عن عمله، فطرده صاحب العمل، وكان أبوه عاطلا وأخوه يعاني الحمى، ولم يكن لأسرته عائل غيره. وقد وصف لنا كير هاردي فيما بعد هذا المنظر المحزن فيما يأتي:
(لبثت مدى حين أتجول في الشوارع تحت وابل المطر المنهمل، خجلاً من أن أعود إلى بيت لا طعام فيه ولا وقود؛ وأسائل نفسي دهشا أليس أفضل شيء أن ألقي بنفسي في نهر (كلايد) وأنتهي من حياة كهذه ليس فيها ما يرغب؛ وأخيرا ذهبت إلى الدكان، وقابلت صاحبه وأوضحت له سبب تأخري، ولكني لم أظفر منه بطائل. ولم يدفع لي أجري؛ وإني لأرتجف الآن ويتفطر قلبي كلما ذكرت الحادث؛ ومازلت أرتد إليه وأرتد على أجنحة الخيال، وتصور أنه في نفس الليلة كان ثمة آلاف من التعساء يعانون مثل هذا العذاب؛ وهي فكرة لا يطيق الإنسان احتمالها).
ويصف لنا مستر هامستون فايف حياة كير هاردي المؤثرة في جميع أطوارها؛ وإنها لقصة مؤثرة مبكية من الكفاح في هذه الحياة الشاقة؛ ثم هي في نفس الوقت صورة رائعة من البسالة وقوة النفس، والصبر على المكاره، وعظمة البؤس التي تحمل على الاحترام والإكبار.
وكان كير هاردي صحفياً وكاتباً، وقد كتب كثيرا عن الاشتراكية وتحرير الطبقات العاملة، وتوفى في سنة 1915 دون الستين من عمره، بعد أن نفث في حزب العمال كثيراً من روحه القوى الوثاب.
وثائق هامة عن حياة زعيم مسلم
من أنباء موسكو أن بعض الباحثين في محفوظات الدولة قد عثروا أخيراً على طائفة من الوثائق والرسائل الهامة التي تلقى أقوى الضياء على سياسة القياصرة نحو مسلمي القوقاز في أواخر القرن الماضي، وعلى حياة شاميل الزعيم القوقازي المسلم الشهير، وعلى
علاقات مسلمي القوقاز بإخوانهم في تركيا وبلاد العرب وفارس. ويرجع الفضل في اكتشاف هذه الوثائق إلى جهود المعهد الشرقي الروسي؛ وقد كتبت كلها في عصر شاميل واليه بالعربية؛ ومعظمها رسائل أصلية وجدت في بعض محفوظات تقليس وجروزني، وعددها خمس عشرة وثيقة؛ وينتظر أن تنشر بنصها الأصلي خلال انعقاد المؤتمر القادم للمباحث الشرقية.
وقد وجدت إلى جانب هذه الوثائق طائفة من المخطوطات والكتب الأدبية ترجع أيضا إلى عصر شاميل؛ ومنها مؤلف تاريخي وضعه الزعيم شاميل نفسه بالاشتراك مع صديقه وزميله محمد طاهر؛ وهو الآن في المعهد الشرقي قيد البحث والإعداد للنشر. واكتشاف هذه الوثائق والمؤلفات يعدل كثيراً من الوقائع والآراء التي جرت حتى اليوم في شأن علائق القوقاز المسلمة بحكومة القياصرة، وكفاحها ضد مظالمهم، والتي استقيت معظمها من أقوال ووثائق رسمية مغرضة، ويلقي في نفس الوقت ضياء كبيرا على حياة شاميل زعيم القوقاز المجاهد وعلى حسن بلائه في مقاومة سياسة القياصرة، وفي بث روح الوطنية والعزة القومية والدينية في بني وطنه ودينه.
حول كتاب (الإسلام الصحيح)
ألف هذا الكتاب الأستاذ إسعاف النشاشبي منذ أشهر، وكتب عنه في (الرسالة) الأستاذ محمد كرد علي منذ أشهر؛ ثم درجت عليه الأيام دون أن تتاح لنا الفرصة لقراءته؛ ومنذ أسابيع أخذت مجلة (العروبة) تنشر منه فقرات تتصل بالشيعة أخطأ التوفيق فيها المؤلف، فثار على الكتاب والكاتب النقد العنيف من النبطية والنجف، وعاتب بعض فضلاء الشيعة (الرسالة) على قبولها تقريظ هذا الكتاب. والرسالة التي تدعو إلى اتحاد الأمة العربية وائتلاف الملة الإسلامية تبرأ إلى الله من سوء النية فيما نشرت؛ إنما هو رأي أستاذ كبير في كتاب قرأه ولم تقرأه؛ وكل مقال تنشره بإمضاء كاتبه إنما تكون تبعته عليه لا عليها.
ضريح ابن الأثير في الموصل
يشغل ضريح العلامة ابن الأثير بقعة صغيرة من الأرض خارج الموصل على شارع الحزامية المؤدي إلى المستشفى الملكي؛ وقد راع بعض الأفاضل حاله السيئة ففكر في
تشييد ضريح غيره يليق بشهرة صاحبه ومكانته في التاريخ العربي؛ وهو عمل جليل نرجو أن تساهم فيه إدارة الأوقاف وإدارة الآثار في العراق؛ فان من حق الذين أولونا الفضل في الحياة، أن نوليهم الإجلال في الموت.
الدكتور الرافعي
عاد من أوربا منذ قريب، الدكتور محمد الرافعي، نجل صديقنا الأديب الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، بعد أن أتم دراسة الطب بجامعة ليون، وكان مبعوثاً إليها على نفقة جلالة الملك، تقديراً لنبوغه وكفايته.
وقد كان الدكتور الرافعي في دراسته، وفي رسالته لنيل الدكتوراه، وفي درجاته العلمية التي حصل عليها، مفخرة مصرية ودعاية ناطقة للشباب المصري في أوروبا.
وحسبه أن يعلن رئيس جامعة ليون في اجتماع لجنة القضاة المحكمين لمناقشة رسالة الدكتور الرافعي: أن هذه الرسالة تعتبر أماً لجميع الرسائل والكتب والمؤلفات التي وضعت في بابها من سنة 1910 إلى الآن، وأنها جاءت بالحل الأخير لمناقشات كادت لا تنتهي. وكان الدكتور الرافعي قد اكتشف مرضاً مما يصيب الأطفال لم يتنبه إليه أحد، ووضع له اسماً خاصاً به.
وقد منحته الجامعة درجة (جيد جداً)، مع (درجة تقدير القضاة)، و (مبادلة الرسالة لجميع الجامعات الأجنبية). وهي درجات رفيعة حقيقة منا بأن نتقدم إليه وإلى والده الكريم بالتهنئة فخورين معجبين.
بعض آراء الزملاء في الرسالة
لا تزال تنثال على (الرسالة) تهنئات الأصدقاء من مصر وسائر الأقطار العربية على دخولها في عامها الرابع؛ وهي تشكر لهم هذا العطف الجميل، وترجو أن تظل من توفيق الله على الحال التي يرتضيها الحق والجمال والخير؛ ثم تثبت هنا بعض آراء الزملاء الفضلاء فيها تسجيلا للوفاء منهم وللشكر منها:
قالت الجهاد الغراء في عددها الصادر في 8 يناير سنة 1936:
دخلت زميلتنا (الرسالة) الغراء في عامها الرابع، فحق لصاحبها الأديب الضليع الأستاذ
أحمد حسن الزيات أن يغتبط بما أصاب في رسالته من نجاح، وما كتب لجهوده الصادقة من توفيق ونحن إذ نقول التوفيق لا نشير فقط إلى ما لقيت (الرسالة) من ذيوع في مصر وفي سائر الأقطار العربية، وإنما نشير إلى السبيل التي سلكها الأستاذ الزيات بمجلته، حتى بلغ بها هذا النجاح الذي يغتبط به كل ذي غيرة على الأدب العربي، فهو لم يسلك إلى النجاح واجتذاب الجمهور تلك السبيل الممهدة الرخيصة وهي النزول إلى مستوى العامة واقتناص الربح منهم بأرخص المغريات، ولكنه تطلع في عزم وإيمان وهمة لا تحد نحو غاية أسمى، وتصدى لمهمة أنبل وأكرم، فراح يرفع الجمهور إلى المستوى الذي يحبب إليه الأدب الصافي القويم.
وقد سلخت (الرسالة) ثلاثة أعوام لم تنثن فيها عن تحقيق هذه الغاية، بل لقيت من النجاح ما حفزها إلى المثابرة والمضي فيما سلكت من سواء السبيل.
فللصديق القدير تهنئتنا الخالصة ولمجلته اطراد التوفيق والنجاح
وقالت (البلاغ) الغراء في عدد 8 يناير سنة 1936:
أتمت مجلة الرسالة لصاحبها ومحررها الأديب الكبير الأستاذ أحمد حسن الزيات سنتها الثالثة، ودخلت بالعدد الأخير منها في عامها الرابع من عمرها الطويل المبارك إن شاء الله. والرسالة تؤدي مهمة ثقافية سامية، وتصل ما بين الأقطار العربية، وتسمو بالأدب عن التجارة، وتحرص على الرفعة والجد، وهي تمثل في الأدب المذهب السديد الذي يزاوج بين القديم والجديد، فلا يهمل القديم من كنوز الآداب ولا سيما العربية لقدمها، ولا يفتتن بالحديث لطرافته؛ ومن هنا كانت (الرسالة) كاسمها (رسالة) حقيقية إلى أمم العرب قاطبة، ولهذا فازت بحقها في كل قطر من الأقطار العربية من التقدير والإكبار. فنهنئها بعامها الجديد، ونشكر لزميلنا وصديقنا جهده الصادق المخلص في خدمة العربية والأدب الرصين.
وقالت روز اليوسف اليومية في عددها الصادر في 7 يناير سنة 1936:
دخلت زميلتنا (الرسالة) الغراء في عامها الرابع مزودة بما قدمت لقرائها بل الأدب العربية من خدمات سيرويها التاريخ فخورا بها. وسترى فيها الأجيال القادمة مرآة صادقة للمثل الأعلى في ثقافة هذا الجيل وأدبه.
وإذا كانت (الرسالة) باعتراف قادة الفكر رسول العلم والأدب إلى العقول، فهي باعتراف
قرائها الذين أقبلوا عليها طوال هذه السنين رسول الروح المهذبة والعقلية المؤدبة والعاطفة الملهمة، تحمل إلى رواد الأدب والعلم والشعر كل رائع وكل بديع.
وإذا كان واجبا علينا أن نهنئ حضرة الزميل الكبير الأستاذ أحمد حسن الزيات بدخول الرسالة في عامها الرابع فأوجب من هذا أن نهنئ القراء بما سيقرءونه في العام الجديد بين صفحات الرسالة في عامها الجديد.
فهنيئا لزميلنا الكبير رسالته النبيلة، وهنيئا لقرائه ما سيقرءون
وقالت المقطم في عدد 8 يناير سنة 1936:
دخلت مجلة الرسالة الغراء في عامها الرابع بعددها الأخير وقد حفلت مجموعات سنواتها الثلاث بطائفة طيبة من الأدب العربي الصافي المورد، فكانت مسرحا لأقلام فحول أدباء هذا العصر من المحافظين على متانة الأدب العربي القديم، والناهلين من أدب الغرب الحديث، من أدباء مصر وسورية والعراق وغيرها، فنهنئ حضرة الزميل الفاضل الأستاذ احمد حسن الزيات صاحب الرسالة الغراء ونتمنى لرسالته ذيوعاً وانتشاراً حتى يشمل نفعها أكبر عدد من أدباء العرب الذين قدروها قدرها وعرفوا لها منزلتها.
وقالت الأهرام في عدد 8 يناير سنة 1936:
دخلت مجلة (الرسالة) الغراء في عامها الرابع وهي المجلة الأسبوعية للآداب والعلوم والفنون لصاحبها ومديرها ورئيس تحريرها الأديب المعروف الأستاذ أحمد حسن الزيات. وقد برز العدد الجديد في صدر هذا العام بحلة قشيبة تدل على ازدياد العناية بها. وهو يضم مقالات طريفة وقصائد متينة السبك لبلغاء الكتاب وفطاحل الشعراء في موضوعات متنوعة لا تخرج عن الخطة التي نهجتها منذ إنشائها وتنطبق على الحاجة التي تشعر بها الأمة في موقفها الحاضر: فنهنئها ونتمنى لها اطراد التقدم.
النقد
رد على نقد
2 -
كتاب تاريخ الإسلام السياسي
للدكتور حسن إبراهيم حسن
مؤلف الكتاب
ص398 - يزعم حضرة الناقد أننا قد اتبعنا رأى نيكلسون في أمر انتصار معاوية، وفي أن المسلمين اعتبروه انتصاراً للأرستقراطية الوثنية التي ناصبت الإسلام العداء.
وهذا الزعم غير صحيح، فإننا بنينا هذا الرأي على مقدمات صحيحة رواها ثقاة المؤرخين عن جمهرة المسلمين في القرن الأول الهجري. وهذا علي بن أبي طالب يقول في معاوية مخاطباً أصحابه:(انظروا إلى من يقول كذب الله ورسوله. إنما تقاتلون ابن رأس الأحزاب وابن آكلة الأكباد من قتلى أحد. وإنما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء ممن أسلم كرها وكان للرسول حربا وكان عن الدين منحرفاً). ربما تقول إن كلام علي لا ينهض حجة في رأي جمهور المسلمين حيال معاوية وشيعته، وإن التنافس في الحكم يدعو إلى أكثر من ذلك، فإن هذا القول في معاوية لم ينفرد به عليّ، فهؤلاء كبار الصحابة والتابعين يرددون هذا القول بل أشد منه. وهذا قيس بن سعد يقول للنعمان بن بشير (انظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلا طليقاً أعرابياً أو يمانياً مستدرجاً. وانظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه، ثم انظر هل ترى مع معاوية غيرك وغير صويحبك ولستما والله بدريين ولا عقبيين ولا لكما سابقة في الإسلام ولا آية في القرآن)، وقول ابن عباس: هذه الحرب بدأها عليّ بالحق وانتهى فيها إلى الغدر؛ وبدأها معاوية بالبغي، وانتهى فيها إلى السرف)، وهذا أبو حمزة الخارجي يقول في خطبته:(معاوية لَعِين الرسول وابن لعينه، وجلف من الأعراب، وبقية من الأحزاب، مؤتلف طليق، فسفك الدم الحرام، واتخذ عباد الله خولاً، ومال الله دولاً، وبغي دينه عوجاً ودغلاً. . . الخ).
لم نذكر هذه الأقوال معتقدين بصحتها كلها في معاوية، إذ رأينا الشخصي أنه مسلم عظيم خدم الإسلام خدمات جليلة، ولكنا اضطررنا إلى ذكرها لنبرهن على أن من استندوا إلى
رأي نيكلسون وجدوا في هذه الأقوال بعض المبررات لما ذهبوا إليه
وليت الناقد راجع تلك الأقوال التي تفيض بها المصادر التاريخية ليعرف أننا نعني بقولنا جمهور المسلمين، فيريح نفسه ويريحنا أيضا من هذا التعليق الطويل.
ص340 - كان خيراً للناقد ألا يرجع إلى هذه الصفحة بعد أن تركها عمدا أو سهوا - لا أدري - ويظهر أن شغفه بالتنقيب وتحميل اللفظ فوق ما يستحق، واستخراج ما توهمه مؤاخذة، هو الذي حمله على عكس الدورة ومعاودة المراجعة لهذه الصفحة بعد أن تركها في أول مرة. ولينظر القارئ إلى ما قال عنها بعد أن أرجع البصر كرتين: إنه لم يرضه إلا أن يرمينا بالخطأ لأننا وقعنا في أمر جسيم حيث تابعنا المصادر العربية التي تعين موقعة (ذات السواري) بزمانها ومكانها، ويريد أن يقسرنا على متابعة المصادر اليونانية في أن تاريخ الموقعة كان سنة 34هـ لا سنة 31 كما تثبته المصادر العربية، وأن مكان الموقعة كان قريبا من ساحل آسيا الصغرى الجنوبي لا قريباً من الإسكندرية.
ولحين اطلاعنا على السبب في ولع الناقد بتفضيل المصدر اليوناني على العربي، نقول له إن رأيك هذا فيه تحكم وترجيح بلا مرجح؛ على أن حضرته لم يذكر لنا ولو مصدراً واحداً من هذه المصادر اليونانية لنقف منها على مبلغ صحة اعتماده وأسباب ترجيحه، اللهم إلا كتاب العصور الوسطى لكمبردج، وهو عبارة عن سلسلة مقالات بالإنجليزية، كما أن حكمه علينا بأننا نتابع السير وليام ميور الذي يأخذ عن جبون هو من قبيل الرجم بالغيب، وأن قوله:(كلا هذين المؤرخين أصبح قديما ولا يصح التعويل عليه بصفة مطلقة) يحتاج إلى فك رموزه وأحاجيه. . .
ص450 - يظهر أن الناقد سريع النسيان. فبينا هو يأخذنا بلاذع اللوم والتعنيف إذا روينا آراء جمهور المسلمين في الأمويين، نجده هنا لا يعجبه أن دافعنا بحق عن أحد خلفائهم بأنه لم يرد أن يحط من شأن الكعبة، وأن رميها بالمجانيق أحدث فيها من غير قصد ما أحدث، وأن الحجاج لما نصب المجانيق على الكعبة جعل هذه الزيادة التي زادها ابن الزبير في الكعبة هدفاً، إذ كان الأمويون يعتبرونها بدعاً في الدين). وما أسرع هذا الناقد في سحب ثقته من هؤلاء المساكين، فيقول عنهم: (وبنو أمية كانوا إذا تعارضت المصلحة السياسة مع أي اعتبار آخر رجحوا جانب المصلحة السياسة كائناً ما كان ذلك الاعتبار الآخر.
وتاريخهم يشهد بذلك!!) ثم ما أدري وجه الضحك من قولنا إن الحجاج جعل الزيادة التي زادها ابن الزبير في الكعبة هدفا لمجانيقه، وإنه كان من الممكن الانتظار حتى تضع الحرب أوزارها ثم تنقض الكعبة وتبني على أسسها القديمة. فالواقع يقرر ما قلنا والتقرير غير الرد، والتفسير غير النقد، وأما هذه الزيادة فقد كانت متميزة عن سائر بنية الكعبة يمكن نقضها دون هدم الكعبة، بدليل أن الحجاج بعد أن قتل ابن الزبير عمد إلى تلك الزيادة فأزالها وأعاد الكعبة إلى ما كانت عليه زمن الرسول، وليس من الصعب على العرب، وهم مشهورون بتسديد الرماية، أن يجعلوا الزيادة هدفهم بدون أن يلحقوا بسواها ضررا؛ وقد فصلنا الكلام في ذلك مقالنا الأول. أما قول الناقد إن الهدف الحقيقي للمجانيق هو ابن الزبير نفسه ولما جعل الكعبة حائلا بينه وبين المجانيق ضربت الكعبة، فقول لم يأت الناقد فيه بجديد عن قولنا ولا يتنافى مع ما قررناه.
ص471 - يقول علماء الأصول والتشريع إن الحكم على المجموع لا على الجميع. فإذا حكمنا على الخوارج بأنهم اشتطوا بالحكم على مخالفيهم حتى ساووا بينهم وبين الكفار عبدة الأوثان، فلا يضرنا أن تشذ فرقة كالاباضية عن هذا الحكم، ولا يخفى أن هذه الفرقة لم تشترك مع الخوارج بظفر ولا يناب فيما ألحقوا بالأمة الإسلامية، فليست مقصودة في كلامنا لأنها غير معتبر من الخوارج ذوي البأس الشديد.
ويصدق هذا أيضاً على ما نقلناه عن (السيد أمير علي) على نظام الإمارة على البلدان في العصر الأموي، وبعد أن كان يفرض على ولاة الأقاليم الإقامة في حواضر ولاياتهم أصبحت الولاية في عهد الأمويين تسند إلى بعض أفراد البيت المالك وإلى كبار رجال البلاط، فكانوا يبقون في دمشق ويعينون من قبلهم رجلاً يقومون بحكم الولايات نيابةً (عنهم). وإذا رجع القارئ إلى كلامنا يلحظ أننا نقرر ذلك نظراً لما حدث أثناء حكم هذه الدولة، وأننا لم نجعل تطرق النقص منسحباً على العصر الأموي كله بدليل قولنا إن هناك نقصاً قد تطرق إلى النظام الإداري في عهد بني أمية، وجر إلى أسوأ العواقب فيما بعد، إذ لا يخفى أن التطرق أمر عارض لم يكن موجوداً ثم وجد، فكيف يحمل على التعميم والاستفاضة؟.
ص576 - من المحسنات البديعية أن يذكر الإنسان شيئاً أجنبياً عن موضوعه لمناسبة
وفائدة. فإذا كنا تكلمنا عن نظام العدول في معرض الكلام على نظام القضاء في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين، وقلنا إن سنة التقدم والارتقاء دعت إلى اتخاذ الشهود المحلفين حين فشت شهادة الزور، فقضى النظام الجديد بتعيين شهود عدول عرفوا بحسن السمعة والفقه فصاروا من هيئة المحكمة يعمل برأيهم القاضي فيما له علاقة بالمتقاضين، إذا ذكرنا هذا فليس معناه أننا نجهل تاريخ هذا النظام ونجهل أنه كان في الدولة العباسة لا الأموية. والمنصف يرى أن مثل هذا الاستطراد له شواهد كثيرة من كتاب الله وكلام رسوله وكلام العرب. وقد لاحظ العلماء فيه أنه يكسب الكلام رونقاً وجدة ويذهب بالسآمة التي يشعر بها القارئ أحياناً من موضوع استطال الكلام فيه.
يخيل إلينا أن الناقد أحس بتهافت ملحوظته هذه فعمد إلى ستر الموقف وتدعيم المأخذ بكلام أرسله إرسالا وكال فيه التهم جزافا، فأبرم حكما مقضياً بأن كلامنا لا يجلو هذا النظام على حقيقته وفيه تخليط كثير!! ويا للعجب! هو لم يقبل منا أن نستطرد بذكر نظام العدول موجزين ويريدنا أن نفصل الكلام عنه. ولا بأس أن تترك الكلام عن موضوع الكتاب بالمرة لنفسح له في الميدان ليصول ويجول ويكون لنقده حينئذ بعض القوة!
ص627 - كنا نتفكه بحكاية ذلك التركي الذي كان مغرماً بأن يأمر فيجد مأموراً، وينهي فيجد منهياً، ولما كانت مؤهلاته لم تسعفه بإشباع رغبته اقتعد غارب الطريق ووضع أمامه بعض أباريق مملوءة بالماء، حتى إذا ما أجهد أحد المارين العطش وأراد تناول إحداها ليشرب نهره ذلك التركي قائلا: دع هذا واشرب من ذاك! فإذا ذهب حضرة الناقد في غالب كلامه يلومنا بأننا نقلنا كذا عن فلان، وكان أولى بنا أن ننقله عن سواه، فانه - ولا شك - يذكرنا بهذه الحكاية المضحكة. ولقد رأينا حضرة الناقد يسلك هذا الطريق معنا في أمر موقعة ذات السواري ونفقات المسجد الأموي.
وبعد، فمن شيم العلماء وكرام النقاد ألا يلجئوا إلى التمويه والإيهام عما ينقدون ويمحصون، وإنما عملهم هو قرن الدعوة بالدليل، ووضع الصحيح إزاء العليل، وبذلك يخدم العلم، وتشكر الحقيقة مجليها. أما إذا لجأ الناقد إلى التعميم، وعبارات التفخيم، واعتذر عن الإدلاء بالحجج والبينات بقصر الوقت وبكثرة السيئات، فليس معنى هذا في نظر الناس إلا الرغبة في الهدم، وعدم القدرة على البناء.
(يتبع)
حسن إبراهيم حسن
الكتب
المقتطف والمتنبي
المقتطف شيخ مجلاتنا؛ كلهن أولاده وأحفاده. وهو كالجد الأكبر، زمن يجتمع، وتاريخ يتراكم، وانفراد لا يلحق، وعلم يزيد على العلم بأنه في الذات التي تفرض إجلالها فرضا، وتجب لها الحرمة وجوباً، ويتضاعف منها الاستحقاق فيتضاعف لها الحق.
وهل الجد إلا أبوة فيها أبوة أخرى، وهل هو إلا عرش حي درجاته الجيل تحت الجيل، وهل هو إلا امتداد مسافاته العصر فوق العصر؟
والمقتطف يكبر ولا يهرم، ويتقدم في الزمن تقدم المخترعات ماضيةً بالنواميس إلى النواميس، مقيدةً بالمبدء إلى الغاية. فلقد أنشئ هذا المقتطف وما في المجلات العربية ما يغني عنه، ثم أسفت الدنيا حوله بأخلاقها وطباعها، وتحولت مجلات كثيرة إلى مثل الراقصات والمغنيات والممثلات. . . وبقي هو على وفائه لمبدئه العلمي والسمو فيه والسمو به، كأنما أخذ عليه في العلم والأدب ميثاق كميثاق النبيين في الدين والفضيلة؛ فبين يديه الواجب لا الغرض، وهمه الإبداع بقوى العقل لا الاحتيال بها، وهديه الحقيقة الثابتة في الدنيا لا الأحلام المتقلبة بهذه الدنيا، وطريقه في كل ذلك طريق الفيلسوف من هدوء نفسه لا من أحوال الدهر، فهو ماض على اليقين، نافذ إلى الثقة، متنقل في منزلة منزلة من يقينه إلى ثقته، ومن ثقته إلى يقينه.
وقد بدأ المقتطف مجلده الثامن والثمانين بعدد ضخم أفرده للمتنبي. ولئن كانت الأندية والمجلات قد احتفلت بهذا الشاعر العظيم، فما أحسب إلا أن روح الشاعر العظيم قد احتفلت بهذا العدد من المقتطف.
ولست أغلو إذا قلت إن هذه الروح المتكبرة قد أظهرت كبرياءها مرة أخرى، فاعتزلت المشهورين من الكتاب والأدباء ولزمت صديقنا المتواضع الأستاذ محمود شاكر مدة كتابته هذا البحث النفيس الذي أخرجه المقتطف في زهاء ستين ومائة صفحة تدله في تفكيره، وتوحي إليه في استنباطه، وتنبهه في شعوره، وتبصره أشياء كانت خافية وكان الصدق فيها، ليرد بها على أشياء كانت معروفة وكان فيها الكذب، ثم تعينه بكل ذلك على أن يكتب الحياة التي جاءت من تلك النفس ذاتها، لا الحياة التي جاءت من نفوس أعدائها وحسادها.
ولقد كان أول ما خطر لي بعد أن مضيت في قراءة هذا العدد - أن المؤلف جاء بما يصح القول فيه إنه كتب تاريخ المتنبي ولم ينقله؛ ثم لم أكد أمعن في القراءة حتى خيل إليّ أنه قد وضع لشعر المتنبي بعد تفسير الشرّاح المتقدمين والمتأخرين تفسيراً جديداً من المتنبي نفسه؛ وما الكلمة الجديدة في تاريخ هذا الشاعر الغامض إلا الكلمة التي نشرها المقتطف اليوم
إن هذا المتنبي لا يفرغ ولا ينتهي، فان الإعجاب بشعره لا ينتهي ولا يفرغ. وقد كان نفسا عظيمة خلقها الله كما أراد، وخلق لها مادتها العظيمة على غير ما أرادت. فكأنما جعلها بذلك زمنا يمتد في الزمن.
وكان الرجل مطوياً على سر ألقى الغموض فيه من أول تاريخه، وهو سر نفسه، وسر شعره، وسر قوته؛ وبهذا السر كان المتنبي كالملك المغضوب الذي يرى التاج والسيف ينتظران رأسه جميعاً، فهو يتقي السيف بالحذر والتلفف والغموض، ويطلب التاج بالكتمان والحيلة والأمل.
ومن هذا السر بدأ كاتب المقتطف فجاء بحثه يتحدَّر في نسق عجيب متسلسلا بالتاريخ كأنه ولادة ونمو وشباب، وعرض بين ذلك شعر أبي الطيب عرضاً خيل إلي أن هذا الشعر قد قيل مرة أخرى من فم شاعره على حوادث نفسه وأحوالها. وبذلك انكشف السر الذي كان مادة التهويل في ذلك الشعر الفخم إذ كانت في واعية الرجل دولة أضخم دولة عجز عن خلقها وإيجادها فخلقها شعرا أضخم شعر، وجاءت مبالغته كأنها أكاذيب آماله البعيدة متحققة في صورة من صور الإمكان اللغوي.
ومن أعجب ما كشفه من أسرار المتنبي سر حبه، فقال: إنه كان يحب خولة أخت الأمير سيف الدولة، وكتب في ذلك خمس عشرة صفحة كبيرة، وكأنها لم ترضه فقال إنه كان يؤمل أن يكتب هذا الفصل في خمسين وجهاً من المقتطف. وهذا الباب من غرائب هذا البحث، فليس من أحد في الدنيا المكتوبة (أي التاريخ) يعلم هذا السر أو يظنه. والأدلة التي جاء بها المؤلف تقف الباحث المدقق بين الإثبات والنفي؛ ومتى لم يستطع المرء نفيا ولا إثباتا في خبر جديد يكشفه الباحث ولم يهتد إليه غيره، فهذا حسبك إعجاباً يذكر، وهذا حسبه فوزا يعد ولعمري لو كنت أنا في مكان المتنبي من سيف الدولة لقلت إن المؤلف قد
صدق. . . فهناك موضع لابد أن يبحث فيه القلب الشاعر الذي وضعت في الدنيا حكمتها، وطوت فيه القوة سرها، وبث فيه الجمال وحيه، وأصغر هذه الثلاث أكبر من الملوك والممالك، ولكن الحبيبة أكبر منها كلها. . . . . . .
مصطفى صادق الرافعي