المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 133 - بتاريخ: 20 - 01 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٣٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 133

- بتاريخ: 20 - 01 - 1936

ص: -1

‌مجمع اللغة العربية الملكي

يفتتح دورته الثالثة

في الضحى الأكبر من يوم الخميس الماضي افتتح مجمع اللغة العربية الملكي دورته الثالثة في حفل متواضع من رجال العلم والأدب؛ فألقى الأستاذ الرئيس خطبة مجمعة، أجمل فيها ما عالج المجمع من المسائل اللغوية في دورته الثانية، وأشار إلى وفوده عن المجمع العربي إلى عيد المجمع الفرنسي، وإلقائه أول الناس خطاب التهنئة (باسم أحدث المجامع نشأة في أقدم بلاد العالم حضارة)؛ ونوه بهدية الأستاذ فيشر إلى المجمع وهي جزازات جمع فيها جمهرة الموثوق بصحته من متداول الكلمات في القرن الأخير للجاهلية، والقرون الثلاثة الأولى في الإسلام، واستهلك في جمعها وترتيبها نيفاً وأربعين عاماً؛ ثم ألم إمامة يسيرة ببعض ما وجه من نقد إلى خطة المجمع.

وقام من بعده الأستاذ حسين والي فألقى محاضرة سابغة سائغة أدلى فيها بحجيج المجمع في القرارات السبعة التي أصدرها في عامه الثاني. ثم نهض على أثره الأستاذ محمد كرد علي بك فدافع عن حداثة المجمع وأشاد بفضل جلالة المليك. وجاء دور الأستاذ جب فعقب على بعض ما قال الخطباء بكلمة بارعة أداها عن ظهر قلبه. ثم ختم الأستاذ الجارم هذا الحفل الوقور بقصيدة من حر الكلام سلسل فيها أطوار العرب وأدوار اللغة، وأهاب (بعصبة الخير) أن ينشطوا لتجديد الفصحى:

فالدهر يسرع والأيام معجلة

ونحن لم ندر غير الوخد والخبب

كانت حفلة افتتاح هذه الدورة نفثة من روح المجمع، شاع فيها سره، وسطع في فورتها ريحه، فكان اهتمامها برضى القاموس أبلغ من اهتمامها بذوق السامع؛ وكأني رأيت يومئذ في بعض العيون بوادر الدمع رأفة بأولئك السيدات اللائى تظاهرن بالإصغاء إلى حقائق اللغة ودقائق الصرف وهن من الضجر على حال لا تسر! وهذه الحال نفسها ملحوظة بين المجمع والمجتمع في وضع الكلمات للشؤون العامة، فإن من الأعضاء من يسرف في بعث الحوشي الممات، أو الغريب المتنافر، ليحل من لغة الجمهور محل الدخيل الذي لا يثقل في الآذان ولا يعسر على اللسان ولا ينبو على أوزان اللغة، فيضع الجماز للترام، والنهبوع لليخت، والعنقاش للبائع الجوال، والكشَّاءة للكماشة، والضريم للبنزين، والطربال للعمارة!

ص: 1

وليس من شك في أن هذه الكلمات المرغوب عنها وأمثالها مما يحاول المجمع طرده من الاستعمال أدق في الدلالة، وأقوى على الحياة وأسهل على الطبع، من تلك الألفاظ الجافية التي نقضها الدهر عن وجه البيان العربي لأسباب طبيعية منذ عمره الأول. . . ما للترام واليخت والفلم والبنزين والكنبة ما دامت سائغة في المنطق جارية على سنن الفصيح واردة على أسلوب المعرب؟ إن الشاكوش أدل من الخصين، والريال أجمل من الرقين، والفسيخ أدنى من القريب، والبشكير أولى من النشير، والمندالة أخف من الميطدة. لقد أفتتن الظرفاء طول العام في الإضحاك مما أشبه الأرزيز والجماز حتى استراب الناس في ذوق المجمع.

والواقع أن الصفة الغالبة على أكثر الأعضاء هي الضلاعة القاموسية المحافظة، فهم يريدون أن يتجاهلون الاصطلاح والعرف، ويتناسوا الكتاب والعامة، ويفرضوا على الأذواق الفنانة كلمات لا تقطر من جمودها على قلم، وعلى الطبقات العاملة لغات لا ينطبق مدلولها على عمل.

أن اللغة العربية لابست مرافق العصر الحديث قبل أن ينشأ المجمع بقرن ونيف، فاستحدثت الضرورة في مدى هذا الزمن ألفاظاً بالاشتقاق والتعريب والترجمة، ربطت اللغة بأسباب المدنية، ووصلت الأدب بمعاني الحياة. ووظيفة المجامع أن تقر ما وجد وتنشئ ما لم يوجد؛ والاستعمال الذي لا يقف ولا ينتهي، يتمم القاموس الذي انتهى ووقف. أما إطلاق العربي المهجور على المعرب المشهور مخافة أن تطغى العجمة (ويصبح الفصيح بين لغتنا أقل من القلة، بحيث لا يصح لنا وقتئذ أن نزعم أننا نتحدث بلسان العرب) كما قال الأستاذ الرئيس، فلا يستقيم في منطق اللغات، ولا يجري في نظام الطبيعة؛ لأن عربية القاموس لا تكاد تجاوز منتصف القرن الثاني، وما اقتبسته اللغة بعد ذلك من حضارة الفرس ومدنية الروم أوشك أن يؤلف قاموساً آخر، ومع ذلك لم تستعجم الفصحى ولم ينهم بيان العرب! ويخيل إلى أن الأستاذ جب كان يرد على معالي الرئيس حين قال في خطبته (ويل للغة مصادرها معجماتها دون الشعور الحي للناطقين بها! وويل كذلك للغةٍ ينطق الناطقون بها ويكتب الكاتبون فيها طوع أهوائهم ويضربون بمعجماتها عرض الحائط!).

إن ما أخذناه وأخذه الناس على ما وضع أعضاء المجمع من الألفاظ إنما ينحصر في شؤون

ص: 2

الحياة العامة؛ أما ما وضعوه أو أقروه لعلوم الأحياء والطب فلا وجه فيه لآخذ، ولا سبيل عليه لمنكر، لأنه يتعلق بالعلم ويتصل بالتعليم ويجري بين الخاصة، ومن السهل أن تراض عليه الألسنة في المدارس، وتؤخذ به الأقلام في المعاجم، وتجمع إليه الناس في الكتب. . . كذلك كانت قراراته الأربعة التي تعلقت بالتوسع في طرق القياس صادرة عن رأي حصيف ودرس ناضج. وسيكون لها كما رجا الرئيس أثرها البعيد في التيسير على أهل العلم ومن يعالجون الصناعة ويزاولون الترجمة إن في إقرار المجمع عرض ما يضعه من الكلم على الجمهور قبولاً سابقاً للنقد النزيه والقول الأسد؛ وأن فيما كتب الكاتبون عن خطة المجمع وزانة يجب أن يروى فيها طويلاً قبل أن يمضي على نيته؛ وإن فيما تبيناه من مضامين الخطب في الاحتفال دليلاً على استصغار المجمع لما عمل واستعظامه لما سيعمل! والشعور بالنقص مبدأ الكمال، والنفور من العجز سبيل القدرة، والركون إلى الأمل الحافز دليل الفوز! أيد الله المجاهدين الصادقين بروح من عنده، وسدد خطى العاملين المخلصين في الطريق القاصد.

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌سلطة الآباء

للأستاذ أحمد أمين

رحم الله زماناً كان الأب في بيته الآمر الناهي، والحاكم المطلق، والملك غير المتوج؛ ينادي فيتسابق من في البيت إلى ندائه، ويشير فإشارته أمر، وطاعته غنم؛ تحدثه الزوجة في خفر وحياء، ويحدثه الابن في إكبار وإجلال؛ من سوء الأدب أن يرفع إليه بصره، أو يرد عليه قوله، أو يراجعه في رأي، أو يجادله في أمر. أما البنت، فإذا حدثها لف الحياء رأسها، وغض الخجل طرفها؛ قليلة الكلام، متحفظة الضحك، خافضة الصوت؛ تتوهم أنها أخطأت في التافه من الأمر فيندي جبينها، ويصبغ الخجل وجهها، وتنكس بصرها؛ وإذا جاء حديث الزوج والزواج فإلى أمها الحديث لا إلى أبيها، وبالتلويح والتلميح لا بالتصريح؛ والأمر إلى الأب فيما يقبل وفيما يرفض، وفيما يحدث وما لا يحدث.

في جملة الأمران أن البيت ينقسم إلى قسمين: حاكم وهو الأب، ومحكوم عليه وهو سائر الأسرة؛ منه الأمر ومنهم الطاعة، له السيادة ولهم الخضوع، يرسم الخطط وهم ينفذون، يجلب الرزق ويتولى الإنفاق وهم يسيرون على ما رسم؛ وويل لمن تبرم أو عارض! فأن أحس الابن حاجة ملحة إلى مال، أو شعر بضرورة ملجئة إلى أكثر مما أخذ، لم يجرؤ أن يجابه بالطلب؛ إنما يحاور ويداور، ويلمح ويرمز؛ فان أعياه الأمر وسط الأم لعلها تستطيع أن تعبر تعبيراً أوضح وأصرح، وقل أن تنجح.

وبجانب سلطة الأب الدنيوية كانت سلطته الدينية. فهو يوقظهم قبل الشمس ليصلوا الصبح أداء لا قضاء، ويسائلهم في أكثر الأوقات عن صلاتهم كيف صلوا، وعن وضوئهم كيف توضئوا؛ يعلم الجاهل ويؤم المتعلم، ويجمعهم حوله من آن لآن يصلي بهم، ويذكرهم ويعظهم، ويقص عليهم قصص الأنبياء، وحكايات الأولياء والصلحاء - وان أنس لا أنس جمال المواسم الدينية - كيوم نصف شعبان، إذ تشعر في البيت من الصباح بحركة غير عادية: هذا ينظف، وهذه تعد الأكل الحافل ويتهيأ الجميع قبل الغروب استعداداً لصلاة المغرب، قد لبس النساء البياض، وتقنعن بالشاش الأبيض، وإذا رب البيت يؤم جميع من في البيت، ثم يخرج دعاء نصف شعبان من جيبه ويتلوه عليهم، يقول جمله فيرددونها، ويبتهل معهم إلى الله أن يسعده ويسعدهم، ويصلحه ويصلحهم، ويبارك له في ماله وفي

ص: 4

نفسه وفي ذريته، ثم يأخذون حظهم لبطونهم، كما أخذوا حظهم لأرواحهم، وشملتهم السعادة وعمهم اللطف والهناءة.

لقد ودعنا ذاك الزمان بخيره وشره وحلوه ومره، واستقبلنا زماناً صار فيه الأبناء آباء، وأرادوا أن تكون لهم السلطة كآبائهم فأبى عليهم الزمان.

قالت الزوجة لزوجها: الناس أحرار، وأنا إنسان وأنت إنسان، فإن اعتززت أنت بالكسب اعتززت أنا بالإنفاق، وان اعتززت بالرجولة اعتززت بالأنوثة، وان اعتززت بأي شئ فأنا اعتز بمثله وبخير منه؛ فأنا وأنت شريكان، لا سيد وأمة، ولا مالك ومملوك؛ لي كل الحقوق التي لك، وقد يكون على بعض الواجبات التي عليك، فان سفرتَ سفرتُ، وإن غشيت دور الملاهي غشيتها؛ عليك أن تحصل المال وعلي الإنفاق ولك السلطان التام في اختصار طرق التحصيل، ولي الخيار التام في وجوه التبديد أنت للبيت والبيت لي. إن كان لك أم فقد شبعت سلطة في الماضي أيام كانت زوجة، فلا حق لها أن تنعم بسلطانها وسلطان غيرها، فليس لها الحق إلا أن تأكل، كما ليس لك في حبها؛ فالحب كله للزوجة، إنما لك أن ترحمها؛ والدين لا شأن لك فيه بتاتاً فهو علاقة بين العبد وربه، وكل إنسان حر أن يحدد هذه العلاقة كما يوحي إليه قلبه؛ فأن شئت أنت أن تتدين فتدين، على شرط ألا تقلب نظام البيت، وتقلق راحتي وراحة الخدم، بإعداد ماء ساخن في الشتاء وما إلى ذلك. ورأى الزوج أن الأحكام قاسيه، والشروط فادحة، وهام يبحث عن المتمدنات عمن يرضى به زوجاً على الشروط القديمة فأعياه البحث.

وأخيراً نزل على حكم القضاء، وأسلم نفسه لسلطان الزمان وقدم الطاعة للزوجة، بعد أن كانت هي تقدم الطاعة له؛ ولا يزال في دار الآثار في المحاكم الشرعية قضايا اسمها قضايا الطاعة، يحكم فيها للأزواج على الزوجات؛ حفظ شكلها، وبطل روحها؛ ولو كانت المحاكم محاكم عصرية لحكمت بالطاعة على الزوج لزوجته، وحكمت بالنفقة على الزوجة لزوجها.

وتم الزواج، وفرحت الزوجة بالظفر فغالت في المطالب، وابتدعت كل يوم مطلباً جديداً، وأرادت أن تنتقم لأمهاتها من آبائه في شخصه، فطالما أطَعْن، وطالما خضعن! فليطع هو دائماً وليخضع دائماً، جزاء وفاقاً على ما جنى أبوه وأجداده قالت أن رقصتَ رقصتُ، فذلك حقك وحقي؛ قال نعم. قالت بل أن لم ترقص رقصت لأنك أن أضعت حقك لم أضع حقي؛

ص: 5

وأن خاللتَ خاللتُ، فالجزاء من جنس العمل، بل أن لم تخالل ربما خاللت، لأن حياة الزوجية البحت قد يعتريها الركود والسأم والملل. فصرخ ولف الغضب وجهه، وحاول أن ينكل بها فتراجعت، وسحبت مطلبها الأخير ورأت الحكمة أن تتريث بعض الشيء حتى يبلغ ريقه من أثر الصدمة الأولى، ويستعد للصدمة الثانية، فان لم يسعفها الزمان أوصت بناتها بشروطها الجديدة.

قالت وسيكون من أول ما أوصي به ابنتي أن تتخذ قياس خطيبها، ثم يكون من أول جهازها أن تفصل له برذعة ولجاماً على قدره، فتضع البرذعة عليه وتركبه إذا شاءت، وتشكمه باللجام إذا حاول أن يتحرك يميناً أو شمالاً على غير رغبتها.

وشاء الله أن يرزقا بنين وبنات.

وقد رأوا أن الأم لا تجل الأب فلم يجلوه، ولم تعره كبير التفات فلم يعيروه؛ ورأوها تبذر في مال الأب فبذروا، ورأوها حرة التصرف فتحرروا، ورأوها تخرج من البيت من غير أذن الأب فخرجوا خروجها، وتعود متى شاءت ففعلوا فعلها، ورأوها لا تتدين فلم يتدينوا، ورأوها تطالب الأب ألا يفتح رسائلها فطالبوا، ورأوها تتكلم في المسائل الدقيقة أمام أبنائها وبناتها في صراحة فتفتحت شهواتهم، وتحركت رغباتهم، وغذتها تخيلاتهم.

وقال الأبناء لأبيهم: أنّا مخلوقون لزمان غير زمانك فاخضع لحكم الزمان؛ وقد نشأت في زمن حرية في الآراء، وحرية في الأعمال، وحرية في التصرف، لا كما نشأت في جو من الطاعة والقيد والأسر والتقاليد، فمحال أن يسع ثيابك الضيق أبداننا، وتقاليدك العتيقة البالية نفوسنا، فان حاولت ذلك فإنما تحول إدخال الثور في قارورة، أو لف القصر الكبير بمنديل صغير! قال نعم. قالوا وأنت الذي سمح لنا بادئ ذي بدء أن نغشى دور السينما والتمثيل، وأن نسمع الأغاني البلدية، ونشاهد المراقص الأوربية، فإذا أقررت المقدمة فلا تهرب من النتيجة. وأنت الذي عودنا ألا نضع للبيت (ميزانية) فأنت تعطي (ماهيتك) لأمنا تنفق من غير حساب، فإن انتهت في نصف الشهر طلبت منك أن تقترض فاقترضت، وأن تشتري ما لا حاجة لنا به فاشتريت، وأن تقدم الكمال على الضروري فأطعت؛ فليس لك أن تطالبنا بالاقتصاد في الجدول الصغير، والنهر الكبير ليس له ضابط. وخرق أن تحاول أن تضع ميزانية لمصلحة، وميزانية الدولة مبعثرة! قال نعم. قالوا وقد أضعت سيادتك على أمنا فلم

ص: 6

تفرض سيادتك علينا؟ ورضيت بالخضوع لها فلم تأباه علينا، وهي أم الحاضر وأنت أبو الماضي ونحن رجال المستقبل؟ قال نعم. قالوا وأنت نشأت في زمن خضوع تام: خضعت لأبيك في المهد صبياً، وخضعت للفقيه في المكتب، والمدرس في المدرسة؛ فإذا قلت برأسك هكذا، قال الأستاذ بعصاه هكذا، فنكست رأسك، وغضضت بصرك، وأسعفتك عينك بالبكاء، ولم يسعفك لسانك بالقول، فلما صرت (موظفاً) وقفت من رئيسك موقفك من أبيك وأستاذك، تنفذ دائماً وتطيع دائماً - ولم يجر على ذهنك يوماً تفكير في استقلال، ولا على لسانك نداء بحرية؛ أما نحن فحريتنا في بيتنا: حررتنا على أساتذتنا، فحملناك كرهاً على تملقنا؛ ونادينا بالحرية فتبعتمونا في شئ من الرياء، تظهرون الطاعة لرؤسائكم وتبطنون الرضا عن حركاتنا، وتريدون أن تجمعوا بين الحرص على ماهيتكم والحرص على وطنيتكم المكبوتة. قال نعم. قالوا: فلما قدناك وقدنا رجالنا في السياسة فلنقدكم جميعاً في كل شئ: في البيت وفي المال وفي العلم وفي رسم الخطط: ولنقلب الوضع فنكون قادة وتكونوا جنوداً وإلا لم نرض عنكم جنوداً ولا قادة.

وقالت البنات لأبيهن:

يا أبانا الذي ليس في السماء! رقصت أمنا فرقصنا، وشربت أمنا فشربنا، وشربت سراً فلتسمح لنا بحكم تقدم الزمان أن نشرب جهراً، ورأينا في روايات السينما والتمثيل حباً فأحببنا، ورأينا عريا على الشواطئ فتعرينا، وتزوجت أمنا بإذن أبيها فلنتزوج نحن بإذننا. قال نعم. قلن وقد أوصتنا أمنا أن نركب الزوج، ولكننا أمام مشكلة يشغلنا حلها فأنّا نرى شبان اليوم كاخوتنا متمردين لا يخضعون خضوعك ولا يستسلمون استسلامك، فإرادتهم قوية كإرادتنا، وهم يحبون السلطة حبنا؛ فهم أحرار ونحن أحرار، وهم مستبدون ونحن مستبدات، فكيف نتفق؟ هل يمكن أن يبقى البيت بعدة استبدادات؟ ولكن لا بأس يا أبانا! هل البيت ضرورة من ضرورات الحياة؟ أو ليس نظام الأسرة نظام عتيقاً. من آثار القرون الوسطى؟ قال نعم. قلن على كل حال فيصح أن يجرب جيل النساء الجديد مع جيل الرجال الجديد، فان وقع ما خشينا عشنا أحراراً وعاشوا أحراراً، وطالبنا بتسهيل الطلاق وبهدم المحاكم الشرعية على رؤوس أصحابها، وتعاقدنا تعاقداً مدنياً. قال الأب: وماذا تفعلن بما ترزقن من أبناء وبنات؟ قلن لك الله لا أبانا! إنك لا تزال تفكر بعقل جدنا وجدتنا! لقد كنت

ص: 7

أنت وأبوك وجدك تحملون أنفسكم عناء كبيراً في التفكير في الأولاد، وتضحون بأنفسكم وأموالكم في سبيلهم، وتعيشون لهم لا لكم. أما عقليتنا نحن أهل الجيل الحاضر فأن نعيش لأنفسنا لا لغيرنا. لقد ضحك عليكم الدين والأخلاق ففهمتم أن الواجب كل شيء، وكشفنا اللعبة ففهمنا أن اللذة كل شئ، فنحن نمنع النسل، فإذا جاء قسراً فليعش كما يشاء القدر؛ ولنقدم حظنا على حظه، وسعادتنا على سعادته، ولا نفكر فيه طويلاً، ولا يتدخل في شؤوننا كثيراً ولا قليلاً قال الأب: وأمر المال كيف يدبر؟ كيف تعشن أنتن وأولادكن إذا كان طلاق وكان فراق؟ قلن هذا ظل آخر ظريف من ظلال تفكيرك، دع هذا يا أبانا والبركة أخيراً فيك.

أما بعد فقد خلا الأب يوماً إلى نفسه، وأجال النظر في يومه وأمسه، فبكى على أطلال سلطته المنهارة، وعزته الزائلة، ورأى أنهم خدعوه بنظرياتهم الحديثة، وتعاليمهم الجديدة - قال: لقد قالوا إن زمان الاستبداد قد فات ومات، فلا استبداد في الحكومة، ولا استبداد في المدرسة، فيجب ألا يكون استبداد في البيت؛ إنما هناك ديمقراطية في كل شيء، فيجب أن يكون البيت برلماناً صغيراً يسمع فيه الأب رأي ابنه ورأي أبنته ورأي زوجه، وتؤخذ الأصوات بالأغلبية في العمل وفي المال وفي كل شيء؛ وقالوا تنازل عن سلطاتك طوعاً، وإلا تنازلت عنها كرهاً، وقالوا أن هذا أسعد للبيت، وأبعث للراحة والطمأنينة، وقالوا أن هذا يخفف العبء عنك، فنحن نقسم البيت إلى مناطق نفوذ، فمنطقة نفوذ للمرأة، وأخرى للرجل، وثالثة للأولاد، وكلهم يتعاونون في الرأي ويتبادلون المشورة. سمعت وأطعت فماذا رأيت؟ كل إنسان في البيت له منطقة نفوذ إلا إياي، ولم أرى البيت برلماناً، بل رأيته حماماً بلا ماء، وسوقاً بلا نظام، إن حصلت على مال أرادته المرأة فستاناً، وأرادته البنت بيانو، وأراده الابن سيارة؛ ولا تسأل عما يحدث بعد ذلك من نزاع وخصام. وإن أردنا راحة في الصيف أردت رأس البر لأستريح، وأرادت الأم والبنت الإسكندرية قريبا من ستانلي باي، وأراد الابن أوربا؛ وإن، وأن، ' إلىما لا يحصى، ولا يمكن أن يستقصي؛ وأخيراً يتفقون على كل شئ إلا على رأي. فوالله لو استقبلت من أمر ما استدبرت ما تزوجت، فان كان ولابد ففلاحة صعيدية، لم تسمع يوما بمدينة، ولم تركب يوما قطاراً إلى القاهرة والإسكندرية، لها يد صناع في عمل الأقراص) ورأس صناع في حمل (البلاص)

ص: 8

أيتها الزوجة! وأيها الأبناء والبنات! ارحموا عزيز قوماً ذل.

أحمد أمين

ص: 9

‌3 - المشكلة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

أما البقية من هذه الآراء التي تلقيتها فكل أصحابها متوافقون على مثل الرأي الواحد من وجوب إمساك الزوجة والإقبال عليها، وإرسال (تلك) والانصراف عنها، وأن يكون للرجل في ذلك عزم لا يتقلقل ومضاء لا ينثني، وأن يصبر للنفرة حتى يستأنس منها فأنها ستتحول، ويجعل الأناة بازاء الضجر فإنها تصلحه، والمروءة بازاء الكره فإنها تحمله، وليترك الأيام تعمل عملها فانه الآن يعترض هذا العمل ويعطله، وإن الأيام إذا عملت فستغير وتبدل، ولا يستقل القليل تكون الأيام معه ولا يستكثر الكثير تكون الأيام عليه.

والعديد الأكبر ممن كتبوا إلى يحفظون على صاحب المشكلة ذلك البيان الذي وضعناه على لسانه في المقال الأول ويحاسبونه به ويقيمون منه الحجة عليه، ويقولون له أنت اعترفت، وأنت أنكرت، وأنت رددت على نفسك، وأنت نصبت الميزان فكيف لا تقبل الوزن به؟ وقد غفلوا عن أن المقال من كلامنا نحن وأن ذلك أسلوب من القول أدرناه ونحلناه ذلك الشاب ليكون فيه الاعتراض وجوابه، والخطأ والرد عليه، ولنظهر به الرجل كالأبله في حيرته ومشكلته تنفير الغيرة عن مثل موقفه ثم لنحرك به العلل الباطنة في نفسه هو فنصرفه عن الهوى شيئاً فشيئاً إلى الرأي شيئاً فشيئاً، حتى إذا قرأ قصة نفسه قرأها بتعبير من قلبه وتعبير آخر من العقل، وتلمح ما خفي عليه فيما ظهر له، واهتدى من التقييد إلى سبيل الإطلاق، وعرف كيف يخلص بين الواجب والحب اللذين اختلطا عليه وامتزجا له امتزاج الماء والخمر. وبذلك الأسلوب جاءت المشكلة معقدة منحلة في لسان صاحبها، وبقى أن يدفع صاحبها بكلام آخر إلى موضع الرأي.

وكثير من الكتاب لم يزيدوا على أن نبهوا الرجل إلى حق زوجته ثم يدعون الله أن يرزقه عقلاً. . . وقد أصاب هؤلاء أحسن التوفيق فينا ألهموا من هذه الدعوة، فإنما جاءت المشكلة من أن الرجل قد فقد التمييز وجن بجنونين: أحدهما في الداخل من عقله والثاني في الخارج منه، فأصبح لا يبالي الإثم والبغض عند زوجته إذا هو أصاب الحظوة والسرور عند الأخرى؛ فتعدى طوره مع المرأتين جميعاً، وظلم الزوجة بأن استلب حقها فيه، وظلم الأخرى بأن زادها ذلك الحق فجعلها كالسارقة والمعتدية

ص: 10

وقد تمنى أحد القراء من فلسطين أن يرزقه الله مثل هذه الزوجة المكروهة كراهة حب، ويضعه موضع صاحب المشكلة ليثبت أنه رجل يحكم الكره ويصرفه على ما يشاء ولا يرضى أن يحكمه الحب وأن كان هو الحب. وهذا رأي حصيف جيد فإن العاشق الذي يتلعَّب الحب به ويصده عن زوجته لا يكون رجلا صحيح الرجولة، بل هو أسخف الأمثلة في الأزواج، بل هو مجرم أخلاقي ينصب لزوجته من نفسه مثال العاهر الفاسق ليدفعها إلى الدعارة والفسق من حيث يدري أو لا يدري؛ بل هو غبي إذ لا يعرف أن انفراد زوجته وتراجعها إلى نفسها الحزينة ينشئ في نفسها الحنين إلى رجل آخر؛ بل هو مغفل إذ لا يدرك أن شريعة السن بالسن والعين بالعين، هي بنفسها عند المرأة شريعة الرجل بالرجل. . . . .

والمرأة التي تجد من زوجها الكراهية لا تعرفها أنها الكراهة إلا أول أول؛ ثم تنظر فإذا الكراهة هي احتقارها وإهانتها في أخص خصائصها النسوية، ثم تنظر فإذا هي إثارة كبريائها وتحديها، ثم تنظر فإذا هي دفع غريزتها أن تعمل على إثبات أنها جديرة بالحب، وأنها قادرة على النقمة والمجازاة، ثم تنظر فإذا برهان كل ذلك لا يجيء من عقل ولا منطق ولا فضيلة، وإنما يأتي من رجل. . . . رجل يحقق لها هي أن زوجها مغفل وأنها جديرة بالحب.

وكأن هذا المعنى هو الذي أشارت إليه الأديبة ف. ز. وإن كانت لم تبسطه؛ فقد قالت: وإن صاحب هذه المشكلة غبي، ولا يكون إلا رجلاً مريض النفس مريض الخلق، وما رأيت مثله رجلا أبعد من الرجل. . . ومثل هذا هو في نفسه مشكلة فكيف تُحل مشكلته؟ إنه من ناحية زوجته مغفل لا وصف له عندها إلا هذا؛ ومن جهة حبيبته خائن والخيانة أول أوصافه عندها.

وهذا الزوج يسمم الآن أخلاق زوجته ويفسد طباعها، وينشئ لها قصة في أولها غباوته وإثمه، وسيتركها تتم الرواية فلا يعلم إلا الله ما يكون آخرها. وبمثل هذا الرجل أصبح المتعلمات يعتقدون أن أكثر الشبان إن لم يكونوا جميعاً هم كاذبون في ادعاء الحب، فليس منهم إلا الغواية؛ أو هم محبون يكذب الأمل بهم على النساء، فليس منهم إلا الخيبة.

قالت: وخير ما تفعله صاحبة المشكلة أن تصنع ما صنعته أخرى لها مثل قصتها، فهذه

ص: 11

علمت بزواج صاحبها قذفت به من طريق آمالها إلى الطريق الذي جاء منه، وأنزلته من درجة أنه كل الناس إلى منزلة أنه ككل الناس، ونبهت حزمها وعزيمتها وكبرياءها فرأته بعد ذلك أهون على نفسها من أن يكون سبباً لشقاء أو حسرة أو هم، وابتعدت بفضائلها عن طريق الحب الذي تعرف أنه لا يستقيم إلا لزوجة وزوجها، فإذا مشت فيه امرأة إلى غير زواج، انحرف بها من هنا، واعوج لها من هنا، فلم ينته بها في الغاية إلا أن تعود إلى نفسها وعليها غباره، وما غبار هذا الطريق إلا سواد وجه المرأة. . . وقد جهد الرجل بصاحبته أن تتخذه صديقاً، فأبت أن تتقبل منه برهان خيبتها. . . وأظهرت له جفوة فيها احتقار، وأعلمته أن نكث العهد لا يخرج منه عهده، وأن الصداقة إذا بدأت من آخر الحب تغير أسمها وروحها ومعناها، فإما أن تكون حينئذ أسقط ما في الحب، أو أكذب ما في الصداقة

ثم قالت الأديبة: وهي كانت تحبه، بل كانت مستهامة به، غير أنها كانت أيضاً طاهرة القلب، لا تريد في الحبيب رجلاً هو رجل الحيلة عليها فتخدع به، ولا رجل العار فتسب به، وفي طهارة المرأة جزاء نفسها من قوة الثقة والاطمئنان وحسن التمكن؛ وهذا القلب الطاهر إذا فقد الحب لم يفقد الطمأنينة، كالتاجر الحاذق إن خسر الربح لم يفلس، لأن مهارته من بعض خصائصها القدرة على الاحتمال والصبر للمجاهدة.

قالت: فعلى صاحبة المشكلة التي عرفت كيف تحب وتجل أن تعرف الآن كيف تحتقر وتزدري.

وللأديبة ف. ع وأي جزل مسدد؛ قالت: إنها هي قد كانت يوما بالموضع الذي فيه صاحبة المشكلة، فلما وقعت الواقعة أنفت أن تكون لصة قلوب، وقالت في نفسها: إذا لم يقدر لي، فإن الله هو الذي أراد، وإني أستحي من الله أن أحاربه في هذه الزوجة المسكينة، ولئن كنت قادرة على الفوز إن انتصاري عليها عند حبيبي هو انتصارها على عند ربي، فلأخسر هذا الحب لأربح الله برأس مال عزيز خسرته من أجله، ولأبقى على أخلاق الرجل ليبقى رجلاً لامرأته فما يسرني أن أنال الدنيا كلها وأهدم بيتاً على قلب، ولا معنى لحب سيكون فيه اللؤم بل سيكون ألأم اللؤم.

قالت: وعلمت أن الله تعالى قد جعلني أنا السعادة والشقاء في هذا الوضع ليرى كيف

ص: 12

أصنع، وأيقنت أن ليس بين هذين الضدين إلا حكمتي أو حمقي، وصح عندي أن احسن المداخلة في هذه المشكلة هو الحل الحقيقي للمشكلة.

قالت: فتغيرت لصاحبي تغيراً صناعياً، وكانت نيتي له هي أكبر أعواني عليه، فما لبث هذا الانقلاب أن صار طبيعياً بعد قليل. وكنت أستمد من قلب امرأته إذا اختانني الضعف أو نالني الجزع فأشعر أن لي قوة قلبين. وزدت على ذلك النصح لصاحبي نصحاً ميسراً قائماً على الإقناع وإثارة النخوة فيه وتبصيره بواجبات الرجل، وترفقت في التوصل إلى ضميره لأثبت له أن عزة الوفاء لا تكون بالخيانة، وبينت له أنه إذا طلق زوجته من أجلي فما يصنع أكثر من أن يقيم البرهان على أن يصلح لي زوجاً. ثم دللته برفق على أن خير ما يصنع وخير ما هو صانع لإرضائي أن يقلدني في الإيثار وكرم النفس ويحتذيني في الخير والفضيلة، وأن يعتقد أن دموع المظلومين هي في أعينهم دموع، ولكنها في يد الله صواعق يضرب بها الظالم قالت: وبهذا وبعد هذا انقلب حبه لي إكباراً وإعظاماً وسما فوق أن يكون حباً كالحب؛ وصار يجدني في ذات نفسه وفي ضميره كالتوبيخ له كلما أراد بامرأته سوءاً أو حاول أن يغض منها في نفسه. واعتاد أن يكرمها فأكرمها، وصلحت لها نيته فاتصل بينهما السبب، وكبرت هذه النية الطيبة فصارت وداً، وكبر هذا الود فعاد حباً، وقامت حياتهما على الأساس الذي وضعته أنا بيدي،

أنا بيدي. . . . . .

أما أنا. . . . . .؟

وكتب فاضل من حلوان: إن له صديقاً ابتلى بمثل هذه المشكلة فركب رأسه فما ردَّه شيء. عمد الزواج بحبيبته، وزُفَ إليها كأنه ملك يدخل إلى قصر خيالة وكأن أهله يعذلونه ويلومونه ويخلصون له النصح ويجتهدون في أمره جهدهم، إذ يرون بأعينهم ما لا يرى بعينه، فكأن النصح ينتهي إليه فيظنه غشاً وتلبيساً، وكان اللوم يبلغه فيراه ظلماً وتحاملاً؛ وكان قلبه يترجم له كل كلمة في حبيبته بمعنى منها هي لا من الحقائق، إذ غلبت على عقله فبها يعقل، وذهبت بقلبه فبها يحس، واستبدت بإرادته فلها ينقاد؛ وعادت خواطره وأفكاره تدور عليها كالحواشي على العبارة المغلقة في كتاب؛ واستقرت له فيها قوة من الحب أمرها إذا أرادت شيئاً أن تقول له كن. . .

ص: 13

ثم مضت الليلة بعد الليلة وجاء اليوم بعد اليوم والموج يأخذ من الساحل الذرة بعد الذرة والساحل لا يشعر، إلى أن تصر مت أشهر قليلة فلم تلبث الطبيعة التي ألفت الرواية وجعلتها قبل الزواج رواية الملك والملكة، وقصة التاج والعرش، وحديث الدنيا وملك الدنيا - لم تلبث أن انتقلت عليّ فجأة فأدارت الرواية إلى فصل السخرية ومنظر التهكم، وكشفت عن غرضها الخفي وحلت العقدة.

قال: ففرغ قلب المرأة من الحب وظمئ إلى السكر والنشوة مرة أخرى من غير هذه الزجاجة الفارغة. . . وبرد قلب الرجل وكان الشيطان الذي يتسعّر فيه ناراً، شيطاناً خبيثاً فتحوا إلى لوح من الثلج له طول وعرض. . . .

وجدت الحياة وهزل الشيطان، فاستحمق الرجل نفسه أن يكون اختار هذه المرأة له زوجة، واستجهلت المرأة عقلها أن تكون قد رضيت هذا الرجل زوجاً، وأنكرها إنكارا أوله الملالة، وأنكرته إنكارا آخر أوله التبرم؛ وعاد كلاهما من صاحبه كإنسان يكلف إنساناً أن يخلق له الأمس الذي مضى. وضربت الحياة ضربةً أو ضربتين فإذا أبنية الخيال كلها هدم هدم، وإذا الطبيعة مؤلفه لرواية. . . . قد ختمت روايتها وقوضت المسرح، وإذا الأحلام مفسرة بالعكس، فالحب تأويله البغض، واللذة تفسيرها الألم، و (البودرة) معناها الجير. . . . وتغير كل ما بينهما إلا الشيطان الذي بينهما، فهو الذي زوج وهو بعينه الذي طلق. . . .

وكتب أديب من بغداد يقول: إنه كان في هذا الموضع القلق موضع صاحب المشكلة، وأن ذات قرباه التي سميت عليه كانت ملفقة له في حجب عدة لا في حجاب واحد، وقد وصفت له باللغة. . . . وفي اللغة ما أحسن وما أجمل وما أظرف، وكأنها ظبي يتلفت، وكأنها غصن يميل، وكأن سنة وجهها البدر!

قال: وشبهت له بكل أدوات التشبيه وجاءوا في أوصافها بمذاهب الاستعارة والمجاز، فأخذها قصيدة قبل أن يأخذها امرأة. وكان لم ير منها شيئاً وكانت لغة ذوي قرابته وقرابتها كلغة التجارة في ألسنة حذاق السماسرة، ما بهم ألا تنفيق السلعة ثم يخلون بين المشتري وحظه.

قال: فرسخ كلامهم في قلبي، فعقدت عليها، ثم أعرست بها ونظرت فإذا هي ليست في الكلمة الأولى ولا الأخيرة مما قالوا ولا فيما بينهما. . . . ثم تعرفت فإذا هي تكبرني

ص: 14

بخمس عشرة سنة. . . . ورأيت اتضاع حالها عندي فأشفقت عليها وبت الليلة الأولى مقبلاً على نفسي أؤامرها وأناجيها وأنظر في أي موضع رأيي أنا، وتأملت القصة فإذا امرأة بين رحمة الله ورحمتي، فقلت إن أنا نزعت رحمتي عنها ليوشكن الله أن ينزع رحمته عني، وما بيني وبينه إلا أعمالي؛ وقلت يا نفسي:(إنها إن تكُ مِثقالَ حَبةً من خَردَلٍ فتكنْ في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأتِ بها الله) وإنما أتقدم إلى عفو الله بآثام وذنوب وغلطات، فلأجعل هذه المرأة حسنتي عنده، وما عليّ من عمر سيمضي وتبقي منه هذه الحسنة خالدة مخلدة.

إنها كانت حاجة النفس إلى المتاع فانقلبت حاجة إلى الثواب، وكانت شهوة فرجعت حكمة، وكنت أريد أن أبلغ ما احب فسأبلغ ما يجب. ثم قلت: اللهم أن هذه امرأة تنتظرها ألسنة الناس إما بالخير إذا أمسكتها، وإما بالشر إذا طلقتها، وقد احتمت بي؛ اللهم سأكفيها كل هذا لوجهك الكريم.

قال: رأيتني أكون ألأم الناس لو أني كشفتها للناس وقالت انظروا. . . . فكأنما كنت أسأت إليها فأقبلت أترضاها، وجعلت أُماسحها وألاينها في القول وعدلت عن حظ نفسي إلى حظ نفسها، واستظهرت بقوله تعالى:(وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)؛ واعتقدت الآية الكريمة أصح اعتقاد وأتمه، وقالت اللهم اجعلها من تفسيرها.

قال: فلم تمض أشهر حتى ظهر الحمل عليها، فألقى الله في نفسي من الفرح ما لا تعدله الدنيا بحذافيرها، وأحسست لها الحب الذي لا يقال فيه جميل ولا قبيح لأنه من ناحية النفس الجديدة التي في نفسها (الطفل). وجعلت أرى لها في قلبي كل يوم مداخل ومخارج دونها العشق في كل مداخله ومخارجه، وصار الجنين الذي في بطنها يتلألأ نوره عليها قبل أن يخرج إلى النور، وأصبحت الأيام معها ربحاً من الزمن فيه الأمل الحلو المنتظر

قال: وجاءها المخاض، وطرقت بغلام؛ وسمعت الأصوات ترتفع من حجرتها: ولد! ولد! فبشروا أباه. فوالله لكأن ساعة من ساعات الخلد وقعت في زمني أنا من دون الخلق جميعاً وجاءتني بكل نعيم الجنة. وما كان ملك العالم - لو ملكته - مستطيعاً أن يهبني ما وهبتني امرأتي من فرح تلك الساعة. إنه فرح إلهي أحسست بقلبي أن فيه سلام الله ورحمته وبركته. ومن يومئذ نطق لسان جمالها في صوت هذا الطفل. ثم جاء أخوه في العام الثاني،

ص: 15

ثم جاء أخوهما في العام الثالث؛ وعرفت بركة الإحسان من اللطف الرباني في حوادث كثيرة وتنفست على أنفاس الجنة وفسرت الآية الكريمة نفسها بهؤلاء الأولاد، فكان تفسيرها الأفراح، والأفراح، والأفراح.

ويرى صديقنا الأستاذ محمد حسين جيره، أن صاحب المشكلة في مشكلة من رجولته لا من حبه؛ فلو أن له ألف روح لما استطاع أن يعاشر زوجته بواحدة منها إذ هي كلها أرواح صبيانية تبكي على قطعة من الحلوى ممثلة في الحبيبة. . . . ولو عرف هذا الرجل فلسفة الحب والكره لعرف أنه يصنع دموعه بإحساسه الطِّفلي في هذه المشكلة؛ ولو أدرك شيئاً لأدرك أن الفاصل بين الحب والكره منزوع من نفسه، إذ الفاصل في الرجل هو الحزم الذي يوضع بين ما يجب وما لا يجب.

إنه مادام بهذه النفس الصغيرة فكل حل لمشكلته هو مشكلة جديدة، ومثله بلاء على الزوجة والحبيبة معاً، وكلتاهما بلاء عليه، وهو بهذه وهذه كمحكوم عليه أن يشنق بامرأة لا بمشنقة. . . هذا عندي ليس بالرجل ولا بالطفل إلى أن يثبت أنه أحدهما فان كان طفلاً فمن السخرية به أن يكون متزوجاً، وإن كان رجلا فليحل هو المشكلة بنفسه؛ وحلها أيسر شيء: حلها تغيير حالته العقلية.

ونحن نعتذر للباقين من الأدباء والفضلاء الذين لم نذكر آراءهم، إذ كان الغرض من الاستفتاء أن نظفر بالأحوال التي تشبه هذه الحادثة لا بالآراء والمواعظ والنصائح. أما رأينا ففي البقية الآتية.

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

(حاشية): تمثل في نفسي وأنا أُبيض هذه المقالة أنها ستشير في نفس إحدى قارئاتها موضعا ذا شأن وخطر، وان هذه القارئة ستتردد في الكتابة إلي وألا فضاء بمعناها. وقوى ذلك في الخاطر حتى كأنه واقع فما هو ذلك الشأن يا ترى؟ إن سطراً صغيراً فيه شئ من حكمة الدنيا قد تكون فيه مقالات فلا يبخلن أحد على أحد.

الرافعي

ص: 16

‌الشاعر الأندلسي المجهول

رثاء الأندلس وما يحتويه من العناصر واللمحات التاريخية

للأستاذ محمد عبد الله عنان

نشرت (الرسالة) في الأسبوع الماضي قصيدة رائعة هي رثاء مؤثر للأندلس بقلم شاعر أندلسي مجهول؛ ومهد الأديب المغربي الذي بعث بنصها إلى الرسالة بكلمة ذكر فيها أن هذه القصيدة نشرت بنصها الكامل في الجزائر لأول مرة سنة 1914 وأن صحيفة الزهرة التونسية نشرت منذ أعوام بعض مقاطيعها وطلبت إلى الأدباء أن يدلوا على ناظمها إذا استطاع أحدهم إلى ذلك سبيلا، ولكن أحدا منهم لم يظفر بالجواب؛ وأنه عرضها على مؤرخ المغرب الكبير السيد الدكالي السلاوي، فذكر أن ناظمها ربما كان أبا جعفر بن خاتمة وهو من أدباء المرية كما يستدل من بعض أبياتها، وأنها ربما كانت من محتويات كتابه المسمى (مزية المرية) الذي توجد منه نسخة مخطوطة بمكتبة الأسكوريال؛ ويرجو الأديب المغربي في خاتمة كلمته أن يوفق أحد الأدباء المشتغلين بالأدب الأندلسي إلى معرفة ذلك الشاعر المجهول فيعلن اسمه

والحق أن القصيدة رائعة مبكية، وليس من ريب في أن ناظمها أديب كبير وشاعر بارع؛ ومن حق الأدب أن يُعرف هذا الشاعر المبدع وأن تحقق سيرته؛ بيد أننا نترك هذا البحث لمؤرخ الأدب الأندلسي في عصر السقوط؛ وفي رأينا أن أهمية القصيدة ليست في قيمتها الأدبية، بل أن أهميتها ترجع بوجه خاص إلى ما تضمنته من الإشارات واللمحات التاريخية لحوادث المأساة الأندلسية؛ وهي بهذا الاعتبار وثيقة تاريخية لها قيمتها؛ ولهذا رأينا أن نؤثرها بتحليل عناصرها الواقعية، وإيضاح ما فيها من الإشارات واللمحات التاريخية.

وأول ما يجب تحقيقه هو الفترة التي وضعت فيها القصيدة؛ وفي تعيين هذه الفترة تحقيق للعصر الذي عاش عيه الشاعر، وللظروف والملابسات التي أحاطت به؛ هذه الفترة على ما يبدو من كثير من مقطوعات القصيدة هي الفترة التي تلت سقوط غرناطة مباشرة؛ ونحن نعرف أن غرناطة سقطت في أيدي النصارى في صفر سنة 897هـ (ديسمبر سنة 1491) ودخلتها جنود فرديناند الكاثوليكي في الثاني من ربيع الأول (2 يناير سنة

ص: 18

1492)؛ وكانت قواعد الأندلس قد سقطت قبل ذلك كلها تباعاً في أيدي النصارى؛ فسقطت مالقة في شعبان سنة 892 هـ (1487م)، ووادي آش والمنكب والمرية في أواخر سنة894 هـ (1489م)، وبسطة في المحرم سنة 895 (ديسمبر سنة 1489)، وهي آخر قاعدة أندلسية سقطت قبل غرناطة؛ أما رندة التي يستهل الشاعر قصيدته بالإشارة إليها فقد سقطت في يد النصارى في سنة 1485 (890 هـ)؛ ويبدو من أقوال الشاعر المؤسية عن رندة أنه ربما شهد سقوطها، وأن هذا الحادث قد ترك في نفسه أثراً عميقاً يتردد بقوة في روعة استهلاله، وهو أبدع مقطوعة في القصيدة:

أحقاً خبا من جو رندة نورها

وقد كسفت بعد الشموس بدورها

وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت

منازلها ذات العلا وقصورها

أحقاً خليلي أن رندة أقفرت

وأزعج عنها أهلها وعشيرها

وهدت مبانيها وثلت عروشها

ودارت على قطب التفرق دورها

بل يلوح لنا أن الشاعر ربما كان من أهل رندة وقت سقوطها، وأن إشارته فيما بعد إلى المرية بقوله:

منازل آبائي الكرام ومنشئ

وأول أوطان غذّانيَ خيرها

لا يذهب إلى أكثر من أن المرية كانت موطن أسرته ومسقط رأسه، وأنه قضى بها حداثته الأولى وربما كان ذلك حوالي سنة 860 هـ وأنه وقت سقوط رندة كان رجلاً ناضجاً يقف على مجرى الحوادث العامة وقوفاً تاماً.

ولنرجع إلى الفترة التي وضعت فيها القصيدة، فنقول إنه من المحقق مبدئياً أنها كتبت بعد سقوط غرناطة؛ وليس هناك ما يدل على أنها كتبت لترسل إلى السلطان بايزيد الثاني العثماني كما يظن الأديب المغربي الذي تولى نشرها. ذلك أن رسائل الاستغاثة التي وجهها زعماء الأندلس إلى السلطان بايزيد الثاني، وإلى الأشرف قاتيباي ملك مصر، وجهت منذ بدء الصراع الأخير، أعني منذ حصار مالقة وقبل سقوطها في سنة 893 هـ (1487م)؛ ولكن الاستغاثة لم تغن شيئاً، وسقطت قواعد الأندلس تباعاً في يد النصارى على النحو الذي فصلنا ولما اشتد النصارى في معاملة المسلمين بعد سقوط غرناطة؛ وأرغموهم على التنصر، وعصفت بهم محاكم التحقيق (محاكم التفتيش)، كتب بعض كبرائهم إلى بايزيد

ص: 19

الثاني في أواخر عهده يستغيث به، وذلك حوالي سنة 1505م، أعني بعد سقوط غرناطة بنحو أربعة عشر عاماً، وقد استطال عهد بايزيد الثاني حتى وفاته في سنة 1512م؛ وقد نقل إلينا المقري هذه الرسالة في كتابه (أزهار الرياض) ونقل إلينا معها شعراً مؤثر يصف به صاحب الرسالة عسف محاكم التحقيق، ويبدو من أسلوب هذه الرسالة والشعر كيف انحدرت اللغة العربية وآدابها في الأندلس في تلك الفترة بسرعة مدهشة، وكيف استطاعت السياسة الأسبانية في مدى قصير أن تخمد جذوة الشعر والأدب.

أما القصيدة التي نحن بشأنها فيبدو أنها كتبت قبل ذلك بحين، والمرجح أنها كتبت في سنة 904 أو 905 هـ (سنة 1500م). ولنا على ذلك أدلة عديدة، منها قوة القصيدة وروعتها مما يدل على أنها كتبت عقب الفاجعة بأعوام قلائل قبل أن يخف وقعها في النفوس، وقبل أن تحدث السياسة الأسبانية أثرها في قتل اللغة العربية؛ ومنها الترتيب التاريخي الذي اتبعه الشاعر، فهو يورد الحوادث تباعاً بترتيبها التاريخي، إذا استثنينا إشارته إلى غرناطة؛ وبيان ذلك أنه يبدأ بالإشارة إلى سقوط رندة، وقد كانت أول قاعدة سقطت في أيدي النصارى سنة 890هـ (1485م) كما قدمنا؛ ثم يتبعها بالإشارة إلى سقوط مالقة في قوله.

فمالقة الحسناء ثكلى أسيفة

قد استفرغت ذبحا وقتلا حجورها

وجزت نواصيها وشلت يمينها

وبدل بالويل المبين سرورها

وقد كانت الغريبة الجنن التي

تقيها فأضحى جنة الحرب سورها

وفي هذا البيت الأخير إشارة فطنة إلى موقع مالقة ومناعتها وكونها كانت حصن الأندلس من الغرب، فلما سقطت سقطت قواعدها في يد العدو تباعاً؛ ويشير الشاعر بعد ذلك إلى سقوط بلش مالقة في قوله.

وبلَّش قطت رجلها بيمينها

ومن سريان الداء بان قطورها

وضحت على تلك الثنيات جحرها

فأقفر مغناها وطاشت حجورها

وكان سقوط بلش وهي حصن مالقة من الشمال الشرقي في جمادى الأولى سنة 892هـ (إبريل 1487م) وعلى أثر سقوطها حاصر النصارى مالقة واستولوا عليها في شعبان من هذه السنة (أغسطس سنة 1487).

ص: 20

ولما استولى النصارى على مالقة أخذت ثغور الأندلس وقواعدها الباقية تسقط تباعا في يد النصارى فسقطت المرية والمنكب في أواخر (سنة 894هـ - 1489م)، وسقطت بسطة في المحرم سنة 895هـ (ديسمبر 1489م)؛ ثم استولى النصارى على وادي آش قاعدة مولاي عبد الله (الزغل) في صفر من تلك السنة (يناير 1490م)؛ ويشير الشاعر إلى هذه الوقائع بعد ذلك في قوله:

وبالله إن جئت المنكب فاعتبر

فقد خف ناديها وجف نضيرها

وقد رجفت وادي الأشى فبقاعها

سكارى وما استاكت بخمر ثغورها

وبسطة ذات البسط ما شعرت بما

دهاها وأنى يستقيم شعورها

وما أنس لا أنس المرية إنها

قتيلة أوجال أزيل عذارها

ولم يبق بعد سقوط هذه القواعد في يد المسلمين سوى غرناطة، وقد سقطت في يد العدو في صفر سنة 897هـ (ديسمبر سنة 1491م) وإلى ذلك يشير الشاعر خلال ما تقدم:

ألا ولتقف ركب الأسى بمعالم

قد ارتج باديها وضج حضورها

بدار العلى حيث الصفات كأنها

من الخلد والمأوى غدت تستطيرها

محل قرار الملك غرناطة التي

هي الحضرة العليا زهتها زهورها

ترى الأسى أعلامها وهي خشع

ومنبرها مستعبر وسريرها

ومأمومها ساهي الحجى وإمامها

وزائرها في مأتم ومزورها

فهذا الترتيب التاريخي خلال قصيدته من عميق تأثره بالحوادث التي يصفها، مما يدلي بحداثة عهده بالمأساة حسن وضع رثاءه المفجع؛ بيد أن هنالك أيضاً في قصيدته ما يكاد يعين هذا العهد في نظرنا وهو قوله:

وجاءت إلى استئصال شأفة ديننا

جيوش كموج البحر هبت دبورها

علامات أخذ ما لنا قبل بها

جنايات أخذ قد جناها مثيرها

فلا تمتحي إلا بمحو أصولها

ولا تنجلي حتى تخط أصورها

معاشر أه الدين هبوا لصعقة

وصاعقة وارى الجسوم ظهورها

أصابت منار الدين فانهد ركنه

وزعزع من أكنافه مستطيرها

فهذه الإشارات تنصرف في نظرنا إلى أول محاولة قام بها الأسبان لتنصير المسلمين،

ص: 21

ونقض عهودهم التي قطعوها لهم عند تسليم غرناطة باحترام دينهم وشرائعهم، وتأمين أشخاصهم وأعراضهم وأموالهم وحرياتهم. وكان ذلك سنة 904هـ (1499م) حينما قرر مجلس الدولة أن يفرض التنصير على المسلمين، وذلك لأعوام قلائل فقط من سقوط غرناطة. بل يلوح لنا أن الشاعر يشير بقوله:

ألا واستعدوا للجهاد عزائما

يلوح على ليل الوغى مستنيرها

بأسد على جرد من الخيل سبق

يدعُّ الأعادي سبقها وزئيرها

بأنفس صدق موقنات بأنها

إلى الله من تحت السيوف مصيرها

إلى الثورة التي حاولت بعض المناطق الإسلامية أن تقوم بها مقاومة لقرار التنصير؛ ويلاحظ هنا أن الشاعر يقف عند هذه الواقعة في الإشارة إلى الحوادث التاريخية مما يدل على أنها آخر حادث أدركه وقت نظم مرثيته؛ فإذا صح الاستنتاج الذي سقناه على النحو المتقدم، فأنا نستطيع أن نقول إن الشاعر وضع مرثيته كما قدمنا حوالي سنة 904 أو 905 هـ (نحو سنة 1500م).

وهذا ومما يلاحظ أيضاً أن الشاعر قد تأثر في مواطن كثيرة من قصيدته بالقصيدة الطائرة الصيت التي نظمها سلفه ومواطنه أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس، وأنه أستمد منه بعض الوحي والمعنى؛ فقوله مثلاً:

فوا حسرتا كم من مساجد حولت

وكانت إلى البيت الحرام شطورها

ووا أسفا كم من صومع أوحشت

وقد كان معتاد الأذان يزورها

فمحرابها يشكو لمنبرها أحوى

وآياتها تشكو الفراق وسورها

مستمد من قول أبي البقاء في مرثيته:

حيث المساجد قد صارت كنائس ما

فيهن إلا نواقيس وصلبان

حتى المحاريب تبكي وهي سجادة

حتى المنابر ترثي وهي عيدان

وقوله:

وكم طفلة حسناء فيها مصونة

إذا أسفرت يسبي العقول سفورها

تميل كغصن البان مالت به الصبا

وقد زانها ديباجها وحريرها

فأضحت بأيدي الكافرين رهينة

وقد هتكت بالرغم منها ستورها

ص: 22

مستمد من قول أبي البقاء:

وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت

كأنما هي ياقوت ومرجان

يقودها العلج للمكروه مكرهة

والعين باكية والقلب حيران

وهكذا في مواطن أخرى. بيد أن شاعرنا يفيض في نظمه وفي تصويره قوة وطرافة. وليس من ريب أن مرثيته المفجعة من أبلغ وأروع ما رثيت به دولة الإسلام في الأندلس.

محمد عبد الله عنان

ص: 23

‌قصة المكروب كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور احمد زكي وكيل كلية العلوم

بستور والكلب المسعور

- 1 -

لن يدور بخلدك أيها القارئ أن بستور ترك اسمه للنسيان، وشهرته للنقصان، أثناء الزوابع التي أثارها كوخ في الدنيا وهو يثبت أن المكروب يقتل الناس. وكيف يجوز هذا على بستور وفي عوده ما نعلم من صلابة، وفي أنفه لتصيد المكروب ما في أنف الكلب، وفي نفسه ما في نفس الشاعر من الحس والخيال؛ وهو فوق ذلك رب الدعاية الذي يعرف كيف يأتي الجماهير فيشهدهم فيتركهم صرعى حيارى مما رأوا أو سمعوا؟

في أواخر العقد الثامن من القرن الماضي - وكان كوخ قد اكتشف بذور داء الجمرة فأدهش الأطباء وأفرغ وأبدع - قام بستور ينفي بهزة من كتفه، وكلمة من أنفه، وتلويحة من يده، ما تمخضت عنه تجارب الأطباء ألوف السنين. يا لها صفاقة من كيميائي! وحكاية ذلك أنه جاءت فترة من الزمان صارت فيها مستشفيات الولادة بباريس مخابئ للوباء، تدخلها الأمهات يملؤهن الأمل ويحدوهن الرجاء، ولكن القدر الصائد الخبيء فيها كان يختطف منهن أما من كل تسع عشرة، تذهب بها حمى النفاس تاركة ولدها يلقى الحياة بغير حب الوالدات. وماتت عشر نسوة متتابعات في مستشفى واحد فأسماه الناس (بيت الإجرام)، وارتاع النساء فلم يثقن بالأطباء حتى أغلاهم أجورا، ًوبلغت بهن الريبة فأخذن يقاطعن المستشفيات، وخشي كثيرات منهن مواجهة مخاطر الحمل فرغبن بحق عن النسل، والأطباء أنفسهم فزعوا وافتضحوا بمرأى رسل الموت قائمة هكذا على أبواب الحياة وهي تولد. وذات يوم اجتمعت أكاديمية الطب بباريس، وقام فيها طبيب شهير يخطب ويجلجل في أسباب حمى النفاس - وهو وا أسفاه يجهلها كل الجهل - وامتلأ خطابه الرنان بكثير من الكلمات الإغريقية الطويلة، وكثير من الألفاظ اللاتينية الفخمة، وبينا هو في إحدى جملهُ الطنانة قاطعه صوت كالرعد جاء من مقاعد البهو الأخيرة. قال صاحب الصوت: (إن الذي يقتل النساء بحمى النفاس ليس الذي تقول، ولا شيئاً يشبه الذي تقول. إن الذي

ص: 24

يقتلهن أنتم أيها الأطباء، فأنتم الذين تحملون المكروبات القتالة من المرأة المريضة إلى الأخرى الصحيحة. . .!) وما كان صاحب الصوت إلا بستور، وكان قد قام عن مقعده، وكانت عيناه تتطاير شرراً.

قال الخطيب: (قد تكون على صواب، ولكن أكبر ظني أنك لن تجد هذا المكروب أبداً. . .) وأراد أن يعاود خطابته المقطوعة، ولكن بستور كان في هذه اللحظة قد اخترق الصفوف ومشى إلى المنبر يجر وراءه رجله، وقد كانت شُلت بعض الشلل. ولما بلغ السبورة أمسك بعنف قطعة من الطباشير وصاح في الخطيب وهو في ضيقه، وفي أعضاء المجمع وهم في دهشة مما جرى، قال:(أنت تقول إني لن أجد هذا المكروب. أيها الرجل، إني وجدته، وشكله هكذا!) ورسم بستور على السبورة سلسلة من دوائر صغيرة، فأنفض الاجتماع في اختلاط كالعِقد انقطع نظامه.

كان بستور قارب الستين من عمره، ولكن كان لا يزال به عنف الخامسة والعشرين وتهورها، وكان كيميائياً، واختص في تخمير سكر البنجر، وعلم الخمارين كيف يدفعون الفساد عن خمورهم، وترك هذا العمل فجأة وأخذ في تخليص دودة القز مما اعتراها، وقام في فرنسا بالدعاية إلى تحسين البيرة الفرنسية وفعلاً تحسنت عما كانت، وقضى تلك السنين الطويلة يشتد على نفسه في العمل فأنجز فيها ما يستنفد أعمار عشرة رجال، ولكنه ظل يحلم دائماً طوال هذه السنين بالمكروبات وبأمل إصطيادها، لأنه عَلم عِلم اليقين أنها سبب مصائب الإنسان ومنشأ أمرضه الخبيثة

ولكنه استيقظ يوماً فوجد كوخ سبقه إلى ما أمل فحل العقد التي رجا هو أن يحلها. وإذن تحتم عليه أن ينهض لكوخ هذا وأن يلحق به. وكأني به يتمتم لنفسه فيقول: (وعلى كل حال فالمكروبات من بعض الوجهات من متاعي وحقي، وأنا أول من أبان خطرها منذ عشرين عاماً لما كان كوخ طفلاً صغيراً. . . .)

على أن لحاق بستور بكوخ قامت دونه عقبات. منها أن بستور لم يجس نبضاً قط، ولم يقل قط لرجل مصفور أخرج لسانك. ولقد يشك في قدرته على تمييز الرئة من الكبد. ومن المؤكد أن يده لم تكن تعرف كيف تأخذ بالمشرط. أما تلك المستشفيات القاسيات فبعداً لها وسحقاً، فقد كانت روائحها تبعث الألم في قرارة معدته، وكانت أصوات مرضاها وأناتهم

ص: 25

تخرج من حجراتها إلى دهاليزها القذرة فيألم لها صاحبنا فيهم بسد أذنيه ويفر منها هارباً. على أن بستور لم يلبث أن تخطى هذه العقبات وذلل هذه الصعوبات. فهذا كان دائماً دأب هذا الرجل الذي لا يغلب، إذا قامت في سبيله صخرة فلم يستطع أن يقفز من فوقها دار من حولها. فاتخذ لنفسه أعواناً ثلاثة من الأطباء فبدأ أولا بالطبيب جوبرت ثم بالطبيبين وشمبرلاند وكانوا أحداثاً صغاراً. في آرائهم أحراراً، بل بلاشفة ثائرين على الطب القديم وتعاليمه السخيفة. وجلسوا في المجمع الطبي يستمعون لمحاضرات بستور، وكانت مما يزهد عامة الأطباء فيه، ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا ينصتون ويغتبطون معجبين ببستور عابدين مؤمنين بكل نبوءة يتنبأ بها من كل وباء فتاك يثيره كل خبيث دقيق يخفي على البصر من الأحياء. تفضل بستور ففتح لهذا الثالوث أبواب معمله، فعلموه عوضاً من هذا تركيب جسم الحيوانات وكيف تعمل وتحيا، وعرفوه المحقن فأبانوا له الفرق بين إبرته وكابسته، وأقنعوه بأن الحيوانات مثل الأرانب والخنازير الغينية لا تكاد تحس إبرة المحقن وهي تضرب في جلدها، وكان رجلا يسوؤه أن يرى الألم أو أن يفعله. وعقدوا الخناصر فيما بينهم على أن يكونوا لوليهم هذا عبيداً طائعين، وأن يكونوا لهذا العلم الجديد رسلاً مبشرين.

إن صيد المكروب ليس له سبيل واحدة يقال لها هذه، وهذه فحسب. وتلك حقيقة لا مراء فيها. ودليلنا عليها السبيلان اللتان اتخذهما كوخ وبستور لنفسيهما، فقد اختلفا اختلافاً بيناً على الرغم من اتفاق الغاية التي قصدا إليها. أما كوخ فكان يطبق المنطق في برود قاتل، حتى لكأنه كتاب هندسة في يد طالب - فقد بحث بِشلة السل بتجاريب غاية في التنظيم، وخال عنها كل الاعتراضات التي يخالها الشكاكون الناقدون، وذلك قبل أن يعلم هؤلاء بوجود شئ ينقد. وكان كوخ ينشط إلى ذكر خيباته كما ينشط إلى ذكر فوزاته، وبمقدار واحد لا يزيد في هذه على تلك أبداً. فقد كان له إحساس بالعدل غير إنسي. وكان ينظر إلى كشوفه نظرة الناقد المتغالي حتى لكأنها لغيره. أما بستور فقد كانت في قلبه شهوة على البحث متقدة، فكانت تخرج من رأسه النظريات الصائبة تتلوها أخواتها الخاطئة في تتابع سريع كأنها صوارخ النيران انطلقت في مهرجان، ولكن في قرية، فخرجت على غير عمد وفي غير نظام.

ص: 26

بدأ بستور يبحث عن مكروبات الأمراض فثقب دملا في عنق أحد أعوانه وربّى مما أخرج منه جرثومة؛ وما أسرع ما أيقن أنها أصل الدمامل وسببها. وبغتة ترك ما هو قائم فيه من ذلك وهرع إلى مستشفى فوجد مكروبه المتسلسل في أجسام النسوة وهي تموت، فما أسرع ما قال إنه مكروب حمى النَفّاس! ومن المستشفى طار إلى الريف ليكتشف أن دود الأرض يحمل بشلة داء الجمرة من جثث الأبقار الوبيئة المدفونة في باطن الأرض ويخرج بها إلى ظهرها، ثم هو لا يثبت كشفه هذا إثباتاً كاملاً. كان بستور عبقرياً في العباقرة، غربياً يحس بحاجة دفاعة إلى القيام بعشرة الأمور في آن واحد، ولا يحتفل بمقدار الدقة التي ينجزها بها فهي قد تنقص وقد تزيد، كل هذا ليكشف عن تلك الذرة من الحقيقة التي تتراءى في أكثر أعماله

خبط بستور في كل أرض، وهب مع كل ريح، وليس بعسير عليك أن تدرك في كثرة خبطاته وتنوع هباته أنه كان يتلمس طريقاً تؤدي به إلى سبق كوخ والتفوق عليه. أثبت كوخ في وضوح جميل أن الجراثيم تحدث الأمراض؛ لا شك في هذا. ولكن ليس هذا كل شئ. ليس هذا الإثبات أهم شئ. فأهم منه اكتشاف طريقة تمنع هذه الجراثيم من قتل الناس؛ أهم منه حماية الإنسان من الموت. وفي سبيل هذا ظل بستور يخبط طويلاً على غير هدى. قال رو يصف تلك الفترة من حياة بستور بعد أن فاتت بزمان طويل:(أي تجربة سخيفة لم نبتكر! أي تجربة مستحيلة لم نتخيل! ثم يصبح الصباح فنضحك من أنفسنا من جرائها ملء أفواهنا طويلاً).

لا بد لفهم بستور من تفهم أخطائه وانهزاما ته بمثل ما نتفهم إصاباته وانتصاراته. لم يكن لبستور صبر كوخ ولم تكن له دقته، فلم يهتد إلى ما اهتدى إليه كوخ من تربية الميكروبات نقية. فذات يوم أغلى بستور بولا في قبابة وزرع فيها بشلات الجمرة ثم نظر إليه بعد ذلك فساءه وغلظه أن وجد به ميكروبات دخيلة جاءته من الهواء. وفي الصالح التالي نظر إليه أخرى فلم يجد به من مكروبات الجمرة شيئاً. لقد ذهبت بها جميعاً مكروبات الهواء! وعندئذ يقفز بستور قفزة بارعة إلى الفكرة الآتية:(حيث أن مكروبات الهواء المسالة استطاعت أن تخنق بشلات الجمرة التي في القبابة فلا شك أنها فاعلة ذلك في الأجسام. والظاهرة واضحة: مكروب يأكل مكروب). وما أسرع ما صاح بذلك في الناس! وما أسرع ما كلف

ص: 27

عونيه رو وشمبرلاند بإجراء تجربة بديعة في الخيال مؤداها حقن مكروب الجمرة في خنازير غينية ثم اتباعها بحقن مكروبات هادئة مسالمة رجاء أن تطارد في الدم تلك المكروبات الثائرة اللعينة فتقتلها وتزدردها ازدراداً. وأعلن بستور في جِدّ عابس قال: (إن هذه التجربة قد يكون من ورائها انفتاح الأبواب لعلاج الأمراض وشفائها). وهذا آخر ما تسمع منه عن هذه التجربة التي أثارت كل هذا الأمل الهائل. فهكذا كان بستور يخفي إخفاقاته عن العلماء فيحرمهم من درسها، وقد يكون في درسهم إياها الإصلاح والنجاح.

غير أنه لم يمض قليل من الزمن حتى كلفته أكاديمية العلوم أمراً غريباً وبعثته إنابة عنها رسولاً، وفي أداء هذا الأمر وإيجاز هذه الرسالة عثر بستور غير عامد على حقيقة أنارت له السبيل فاهتدى على نورها إلى طريقة يؤنس بها شوارد المكروبات فتنقلب من بعد عدائها للإنسان أمناً عليه وسلاماً. نعم وقع على هذه الحقيقة فأخذ بناء عليها يخط الخطط ويحلم الأحلام، فيجد نفسه قد أثار المكروب الحي بعضه على بعض، وبث فيه الخصام فأباد نفسه بنفسه، فنجا الحيوان والإنسان من الموت، وكفى الله المؤمنين القتال. وقصة ذلك أنه شاع في ذلك الوقت أن بيطرياً اسمه لوفرييه اكتشف علاجاً لداء الجمرة، وذلك في جبال الجور بشرق فرنسا. وذاع أمر هذا العلاج واشتهر. وشهد أعيان الناحية بأن مئات الأبقار شفيت به وهي على باب الموت، وإذن آن أوان العلم أن يقر هذا العلاج الجديد.

- 2 -

وبلغ بستور تلك الناحية من جبال الجورا، وصحبه أعوانه الشباب فوجدوا أن هذا العلاج المعجز يتلخص أولا في أن يقوم نفر من الفلاحين بدعك البقرة المريضة دعكا شديدا لتحتر ما استطاعت إلى الاحترار سبيلا، ثم يشرط جلد البهيمة المسكينة شرطا، ويصب زيت التربنتينة على هذه الشروط صباً، وبعد التمثيل بها هذا التمثيل الشنيع يغطى جسمها إلى رأسها بطبقة سميكة من مادة لا نذكرها تأدباً، وذلك بعد نقيعها في الخل الساخن، وتظل البقرة تصعق بالخوار شديداً من الألم ولا سامع ولا راحم. أما وقد تم كل هذا، وقد ودت البائسة المعذبة لو تموت، فيغطى جسمها أجمع بثوب شامل ليستبقي هذا المرهم الغريب عليها زمناً مقدوراً.

قال بستور للوفرييه: (إن البقر الذي تصيبه الجمرة لا يموت كله بل يشفى بعضه من ذات

ص: 28

نفسه. وعندي تجربة لا أرى عدلا لها ترينا هل حقا علاجك هو سبب خلاص هذه الأبقار. فهيا بنا يا عزيزي نجرب)

وأحضر لهما أربع بقرات، وقام بستور في حضرة لوفرييه وبشهود وفد عليه سيما الجد من المزارعين، فطعن الأبقار في أكتافها أربع طعنات من محقنه بعد أن ملأه بزريعة من مكروبات الجمرة، فانساب في أجسامها مقدار يقتل الشاة الواحدة بالتحقيق ويقتل من الخنازير الغينية عشرات. وفي الغد عاد بستور ولوفرييه ووفد المزارعين فوجدوا الأبقار جميعاً قد علت أكتافها أورام حادة محمومة، وهي تتنفس شخيراً. فلم يعد شك في أنها في إبان مرضها.

قال بستور لصاحبه: (والآن يا دكتور، تقدم فاختر بنفسك بقرتين من هذه الأربع المريضة. ولنسمها أ، ب فخذها وعالجها على نحو ما تفعل. أما هاتان البقرتان الأخريان ج، د فدعهما بلا علاج) وقام لوفرييه على البقرتين البائستين يصب عليهما النقمة التي تدعى علاجاً. فكانت النتيجة ضربة قاضية على العلاج وعلى صاحبه الذي أحسن النية وقصد الخير - ذلك إن إحدى البقرتين اللتين عولجتا ماتت وسلمت الأخرى، وإحدى البقرتين اللتين لم تعالجا ماتت وسلمت الأخرى.

قال بستور لصاحبه: (حتى هذه التجربة كان في إمكانها أن تخدعنا، فلو أنك أعطيت دواءك للبقرتين ا، د بدلا من ا، ب وحدث الذي حدث، أذن لظننا أنك وقعت للجمرة على خير علاج) مات في التجربة بقرتان، وسلمت فيها بقرتان وشفيتا لكن بعد أن عانت من الداء الأمر. ففكر بستور فيما هو صانع بهما، قال:(أظن أنه لا بأس من حقنهما مرة أخرى بنسل من مكروب الجمرة أخبث من الأول. إن عندي في باريس نسلاً شديد الفتك لو أنه حقن في كركردن لسود ليلته وأفسد عليه نومته) وبعث بستور في طلبه من باريس فلما جاء حقن منه قطرات في كتف البقرتين، واصطبر ينتظر مرضهما فلم يمرضا، حتى الورم لم يحصل حيث ضرب بإبرة المحقن من كتفيهما. وبقيت البقرتان سليمتان هنيئتين ولم تحفلا بالذي كان!

فقفز بستور إلى إحدى استنتاجاته السريعة، قال: (أن البقرة التي تصاب بالجمرة ثم تشفى لا تأتيها الجمرة مرة أخرى ولو حقنت بما على ظهر البسيطة من مكروب هذا الداء - إنها

ص: 29

إذن تصبح حصينة). وأخذت هذه الفكرة تدور بفكره ثم تدور، يلعب بها وتلعب به فلم تسمع أذنه ما ألقت زوجه عليه من سؤال، ولم تر عينه ما وقعت عليه الأشياء. (كيف أستطيع أن أعطي الحيوان شيئا قليلاً من مرض الجمرة، شيئاً يعطيه الداء ولا يقتله، ولكن يتركه من بعد ذلك حصيناً. . . . كيف السبيل إلى ذلك. . . . لا بد من سبيل. . . لا بد أني واجده)

ومضت أشهر وبستور على هذه الحال. وكان يقول لرو ولشمبر لاند (أي سر في الدنيا أشد خفاء من أن المرض الخبيث إذا زار مرة وارتحل، فلن يعود مرة أخرى) وبقى يردد بين شفتيه: (لا بد من الحصانة لا بد أن نحصن من المكروب. . . . لابد. . . . لابد.)

(يتبع)

احمد زكي

ص: 30

‌نظرية النسبية الخصوصية

المقال الثاني وحدة قوانين الطبيعة والبعد الرابع في النسبية

للدكتور إسماعيل احمد أدهم

عضو أكاديمية العلوم الروسية

- 5 -

إنه من غير الممكن التوفيق في نظام غاليلي (نسبة لغاليلو العالم الفلكي الإيطالي) بين سنة النسبية الكلاسيكية ومبدأ انتشار النور بسرعة ثابتة إلا برد مبدأي إطلاق الزمان والمكان والرجوع بهما إلى هيئات القياس، أعني إلى مبدأ نسبتيهما إلى الهيئة التي تقاسان بالنسبة لها. فإذا فرضنا نظاماً مادياً مثل (ع) ومن نقطة مثل (م) فيها لنفرض أن شعاعة ضوئية مثل (ص) صدرت، فستكون سرعة هذه الإشارة الضوئية واحدة في كل الاتجاهات. فإذا فرضنا أن هذه الإشارة الضوئية حددت في زمان مثل (ت) وكان مرموزاً لسرعة الضوء بالرمز (ن) فهذه الشعاعة ستتبع القانون الآتي:

ك2 + ي2 + ز2 - ن2ت2=م

لننتقل إلى نهاية امتداد نظامها، وهنا الرموز ك، ي، ز، تمثل ثلاث حوادث حدثت في الكون (ع) فإذا فرضنا نظاماً مادياً أخر مثل (ع) متعامدة على النظام الأول وتتحرك حركة نسبية إزاءها فأن الدستور أو القانون الدال على الحادثات يتغير من الأول إلى آخر هو:

ك21 + ي21 + ز21 - ن2 ت21=م

وفي هذا القانون يكون الرمز (ت1) لأوان الزمن الذي بدأ فيه انتشار الشعاعة الضوئية والمقادير

ك، ي، ز، ت، ك1، ي1، ز1، ت1

لما كانت ظواهر مستمدة من الإشارات الضوئية حدثت في الكون (ع) كان معنا المعادلة:

ك2 + ي2 + ز2=ن2ت2=أ (ك21 + ي21 - ز21 - ن2ت21=م

وهنا (أ) رمز لسنة التقلص، ولما كان خط الانتقال من النظام (ع) إلى (ع1) لا يؤثر في الحادثات لثبوت قوانين الطبيعة كانت القوانين الطبيعية في النظام (ع) هي القوانين التي

ص: 31

بالنظام (ع1)؛ واستناداً إلى ما تقدم نقرر أن: أ=1 فيكون القانون الدال على حركة انتقال الشعاعة من (م) إلى نهاية امتداد حد النظام بالنسبية للنظام المادي (ع) هو نفسه القانون الدال على الانتقالية بالنسبة للنظام المادي (ع1) وينشأ بذلك معنا المعادلة الآتية:

ك2 + ي2 + ز2 - ن2ت2=ك21 + ي21 - ز21 - ن2ت21

لأن سرعة النور تنتشر بسرعة ثابتة في جميع الاتجاهات وإذا ما فرضنا أن في النظام (ع) المادي المحاور: م1ك1، م1ي1، م1ز1

موازية للمحاور م2ك2، م2ي2، م2ز2 في النظام (ع1) وفرضنا أن المحورين (م1ك1) و (م2ك2) موازيان لاستقامة السرعة النسبية (س) فبالنسبة لراصد مثل (ص) يرصد الحادثات ك، ي، ز في النظام (ع) والحادثات ك1، ي1، ز1 في النظام (ع1) أن حدثت في الزمان (ت2) حوادث النظام (ع) فلتحقيق المساواة العليا يجب أن يتحقق أن:

ك2=ق (ك1 - س ت1)

ي2=ي1

ز2=ز1

ت2=ق (ت1 - س ك1ن2)

ك1=ق (ك2 + س ت2)

ي1=ي2

ن1=ز2

ت1=ق (ت2 + س ك2ن2)

حيث كان فيها ق رمزاً لقانون التقلص أعني أن

ق=أ=1 (1 - س2ن2)

هذه المقادير الرياضية شهيرة بقوانين التحويل اللورانتزي نسبة إلى كاشفها العلامة لورانتز الهولندي، وهذه المقادير ما دامت قد استخرجت مرة واحدة فيجب قبول مبادئ الميكانيكا التي أذاعها لورانتز كنتيجة مسلسلة من نظرية النسبية الخصوصية.

- 6 -

ص: 32

أوضحنا فيما سبق أن أفكار اينشتين في النسبية الخصوصية تقوم على أساسين:

الأول: انتشار الضوء بسرعة ثابتة في الأكوان المختلفة أعني أن الأمواج النورية ليست تتبع مصادرها من حيث الحركة والسرعة، فبمجرد انطلاق موجة نور من منبعها تستقل عن مصدرها وتنتشر خلال الفضاء وفي رحاب المكان بحركة منظمة ذات سرعة ثابتة

الثاني: الحوادث التي تقع داخل أكوان تتحرك بازاء بعضها تنظم من حدوثها قوانين طبيعية تكون في جميع أطوارها ثابتة لا تتغير.

والمبدأ الثاني نتيجة للأول. ومن هذين المبدأين يستنتج انشتين القاعدتين الآتيتين:

الأولى: أن سرعة النور لها مقدار ثابت لا يتغير

الثانية: ينظم من حدوث الحوادث التي تقع في أكوان تتحرك بازاء بعضها حين انتقالها من كون إلى آخر قوانين التحويل التي كشف عنها العلامة لورانتز.

وبذلك تحافظ معادلات المجال الالكترومغناطيسي على صبغتها التقديمية بينما قوانين غاليلو تغير من هذه الصيغة

إن قوانين لورانتز لا تتفق مع قوانين غاليلو، ذلك لأن الثانية تقوم على مبدأ إطلاق الزمان في الوقت الذي تقوم فيه قوانين لورانتز على مبدأ نسبية الزمان، ومن بين قوانين لورانتز وغاليلو تكونت تجربة (ميكلصون - مورلي)

كان من المنتظر أن تعطي تجربة (ميكلصون - مورلي) نتيجة إيجابية بالنسبية لمجاميع غاليليو التحويلية بينما كانت ترجح لها نتيجة سلبية بالنسبة لمجاميع لورانتز التحويلية من حيث كونها تتضمن مفهوم كل من الزمان والمكان نسبياً.

لقد تأيدت معادلات التحويل التي أذاعها العلامة لورانتز بنتيجة (ميكلصون - مورلي) السلبية وكانت نتيجة هذا التأييد أن رجعت بالميكانيكا الكلاسيكية إلى مبادئ الالكتروديناميكا.

وعلى وجه عام فقوانين المجال الالكترومغناطيسي صحيحة إلا أن قوانين ومبادئ الميكانيكا الكلاسيكية يمكن تطبيقها على السرعات العادية التي هي كسر ضئيل من سرعة الضوء. وفي السرعات الكبيرة يلزم الرجوع لقوانين المجال الالكترومغناطسي. وفي حالة تطبيق المبادئ الميكانيكية الكلاسيكية للسرعات البسيطة يجب أن توفق مع قوانين لورانتز

ص: 33

التحويلية.

إن نظرية كلارك ماكسويل في الكهرب مغناطيسية تقوم على أساس ثبات سرعة الضوء، وعلى التأثير القربي في انتشاره، وبذا تتحقق دساتير وقوانين التحويل التي أذاعها لورانتز ويتقرر مبدأ نسبية الزمان وينتفي إمكان وجود أية علاقة تربط أثراً ذا سرعة لا متناهية كالضوء بالمؤثر، أعني منبع الضوء.

وخلاصة القول إن علم الحركات الذي كشف عنه اينشتين هو علم الحركات التجريبي، وهو يستند على دساتير لورانتز التحويلية وتومئ إلى وحدة قوانين علم الحركات.

(تم المقال الثاني)

إسماعيل أحمد أدهم

ص: 34

‌تاريخ الأدب النسوي في فرنسا

للأستاذ محمد بك كرد علي

بقية ما نشر في العدد الماضي

وما ظهرت تباشير القرن التاسع عشر، حتى صحت العزائم على تعليم المرأة تعليماً رسمياً، ففي سنة 1836 منحت حق التعليم الابتدائي العالي، وفي سنة 1850 نشر قانون يقضي بإنشاء مدرسة في كل كورة يتجاوز سكانها ثمانمائة إنسان، وبعد سبع عشرة سنة عم هذا القانون الأقاليم بأسرها ولاسيما ما يجاوز سكانه الخمسمائة. وفي سنة 1878 نشر أحد عظماء الكتاب كتاباً أسماه (الجوارب الزرقاء) أورد فيه عدة مقالات في المتأدبات والكاتبات، وقال أن هذا الجنس من النساء الكاتبات قد خرجن عن الأنوثة، وما هن إلا الرجال، بيد أنهن لم يبلغن مبلغهم، يريد بقوله صاحبات الجوارب الزرقاء النساء اللائي كن لكثرة ما صرفن من همتهن العقلية قد بلغت حالهن أن يذهدن في التجميل ويلبسن جوارب زرقاء مثل المعجبات بأنفسهن في إنجلترا.

واستطاعت المرأة بعد هذه الحقبة من الزمن أن تظهر بظهور مدام كوري تلقى دروساً في (كوليج دي فرانس)، وما بقيت قلعة للذكور إلا وتخطاها النساء، حتى ولا مدرسة المعلمين العليا ولا منابر الجامعات، ولم يبق أمامهن عائق يعوقهن عن التعلم، ونشر ما يستهوى قلوبهن، ويرضي نفوسهن، وأصبحن في حل من أن يتعلمن كما شاء لهن الهوى؛ وغدا منهن الأساتيذ والصحافيات ومديرات دور الطباعة، وأخذن ينافسن الرجال في جوائز الأدب والمجامع الأدبية العامة والخاصة، فتمت لهن كل أدوات الثقافة في بيوت العلم، ولكن القرائح تخلق خارج المدارس، وللنساء أن يتوسعن ما شئن، وليس في مقدورهن أن ينبعثن إلى الحد الذي يطمحن إليه، ولا يسرح النساء ويمرحن إلا في ظل الحرية، فإذا أخذن من عنان قرائحهن يفقدن أجنحتهن. ولذا بقين إلى أول القرن العشرين يمشين على أثر الرجال، ولم يتحررن التحرر المطلوب إلا في هذا القرن. حتى لقد قال ستندال إن قلة استعداد المرأة لبلوغ مراتب الكمال في تأليف النساء منبعث من كونهن ما جسرن ذات يوم أن يتحللن من قيودهن إلا نصف تحلل، ومتى حاولن الحرية المطلقة فكأنهن يخرجن بلا

ص: 35

خمار، على أنهن بعد هذا القول خرجن بلا براقع، وأحياناً بدون دثار ولا شعار؛ والسعادة لم تحالف العاملات من هذا الطراز، فإنهن إذا أغلقن أبواب غرفهن وصرن إلى خلوة لا يسعهن العزاء بعلمهن العقلي، على حين يحاولن أن يجدن لأنفسهن عزاء، فيأتي الشيطان يعبث بأهوائهن، وقلَّ فيهن من تنسى الحب والغرام، فإذا اشتد إغواؤهن أصبح عسرهن إلى مياسرة، وتداعت كل قوة كن يعتصمن بها.

والواقع أن النساء بأسرهن عبيدات حواسهن وأعصابهن وقلوبهن، لا ينجع فيهن اعتراض إذا خالف قانون الطبيعة وأعني الحب. وكان الأديبات منهن إذا مجدن الحب بالمعنى الوجيز يجهلن حب الأمومة على ما تجلى ذلك في مكتوباتهن، ومع هذا تراهن يتكلفن فيما يكتبن ويتطلبن إلى حواسهن وقلوبهن أن تعطي اكثر مما لها، وما كتب لهن إلا أن يكن أدوات تحس وتهتز، وأن يجعلن من العالم مجموعة أحاسيس. وإذا فحصت الأدب النسوي المعاصر من حيث الإنشاء تسقط فيه على قرائح عظيمة وعلى نبوغ أيضاً، ولكن قل أن تقع فيه على شئ اسمه فن. ويقال إن النساء ما عدا اثنتين أو ثلاث منهن لا يحسن التفريق بين المواد التي تتطلبها الحياة، فمنهن من تجتهد اجتهاداً ينتجن به آثاراً طيبة، وكثيرات يرسلن أقلامهن على فيضها كما يشاء الهوى، لا يحفلن التنقيح ولا سلامة التراكيب. وفيهن من اتخذت الأدب للسياسة، ومنهن من عانين فلسفة الأخلاق، ومنهن من مارسن في التربية وظللن فيها متوسطات لم يأتين بإبداع، وفقد في أدبهن التجدد على حين رأينا الأدباء والكتاب بعد الحرب أحدثوا طرائق لهم جديدة خالفوا فيها طرائق الآداب قبل الحرب العامة.

لا جرم أنهن لم يكتب لهن التفوق على الرجال أن التدقيق يصعب عليهن، حتى أن القصصيات منهن لم يتوخين إلا وصف الحب في كل مظاهره، جعلنه موضوع قصصهن؛ وكذلك كان القصصيون، ولهؤلاء قدرة على معرفة المداخل والمخارج في أقاصيصهم، يتبعون العقل، ويحسنون تطبيق الأصول اللازمة، ولم يعهد لامرأة أن برزت، فكانت مؤلفة في الدرامة، وما جاء منهن مؤرخة. فالمرأة تحسن أن تضحك من مثيلاتها، ولكنها لا تحسن الإضحاك. أما الرجل فيحسن نقد نفسه، كما يحسن أن ينتقد غيره؛ والنساء يحاذرن كثيراً من المزاح الذي يأتي على الاعتبار والحرمة والحب. وهن مجموعة عواطف تحس

ص: 36

بالحاجة كل الإحساس وتخشى أن تقع فيها، حتى لتضن بالابتسامة صادرة عن امرأة لا تنافسها، وكذلك حالها في التاريخ، فقد نشأ في النساء مدونات مذكرات بكثرة، وقصصيات، ومنهن اليوم أستاذات في التاريخ وأستاذات في استخراج المكتوبات والمخطوطات، يستطعن بما ثقفن من معارف أن يعملن عملاً علمياً وما كان منهن إلى اليوم مؤرخة من عيار (أوغستين تيري)، ولا (ميشليه)، لأن اللازم للتبريز في هذا الشأن معلومات كثيرة ليس في مكنة النساء احرازها، بل الواجب أن يكون لها مع ذلك فكر نقاد عار عن كل هوى للتمييز بين الحقائق والظنون، وعقل مجرب لإدراك ألوف من الروابط تجمع الحوادث بعضها إلى بعض، ورأي أكيد قادر خال من التفصيل في العواطف، وقدرة على النظر إلى عصر واحد نظرة واحدة؛ ولهذا لم ينشأ من النساء امرأة عظيمة واحدة في باب النقد الأدبي والفني، ولا كان منهن فيلسوفة تلفت النظر. ومن النساء من كانت لهن مقدرة على الاستفادة من دروس أساتيذهن، ليس فيهن واحدة ابتدعت مذهباً، وما قام منهن واحدة استطاعت أن تنتج مثل (خطاب في التاريخ) ولا (الأفكار لباسكال) فهن قاصرات في جميع الفروع التي تستلزم من المؤلف التجرد المطلق من نفسيته، وما لمعت أعمالهن إلا في موضوعات لا فن فيها؛ وقلائل منهن من كتب لهن التفوق في الإنشاء والكتابة، إلا من قادهن الرجال في عملهن، فان (مدام دي لافاييت) أشرف عليها (سكري) و (لاروشفو كولد)، و (مدام دي ستال) سارت بسير أصحابها العديدين، و (جورج ساند) قادها عشاقها، (ومدام كوليت) راقب أعمالها (فنيلي).

فإذا لم تتح مواهب النساء الطموح لهن إلى منزلة في الأدب المجرد، فقد شهدنا في آثارهن أحياناً أنها خالية من الصنعة، فصح أن يقال أن ليس لهن قدرة على التفكير الصحيح، والتوسع اللازم لوضع الفكر المجرد والإنشاء الفني؛ ولذلك تساءل (بول فاليري) عما إذا كانت المرأة ستظل إلى الأبد ظاهرة التوسط في معاناة الأعمال الفكرية، ناقصة في معاني الإبداع والحرية، وعما إذا كان هذا الضعف الملازم هو ثمرة استعبادها زمناً طويلاً. قال: وأنا أود أن يكون الأمر كذلك، ففي الحالة الأولى تكون قد عبثت بها الأقدار الفسيولوجية، وفي الحالة الثانية يحكم عليها بأن انحطاطها ناتج من أخلاقها. قال ولا يخفى ما تؤثره الأخلاق التي تخلق البشر بها والقوانين التي ساروا عليها قروناً في مجموعة التركيب

ص: 37

البشري.

ولم يكتب للنساء درجة عالية حتى في فن الطهي، ورأينا كبار الطهاة من الرجال لا من النساء، وتراهن في باب الأزياء، والأزياء من أخص خصائصهن، ينثنين على أنفسهن ليتجملن، فهن في هذا الباب أيضاً مقودات بأيدي الرجل، بل إن النساء الملكات كما لاحظ (باربيه دورفيلي) قد فقدن البداهة والعمل الذاتي وما ساعد الملكة (اليزابيث) الإنجليزية إلا بورليخ، وإذا ذكرت (كاترين) الروسية ذكرت معها بطرس الأكبر.

وقد ظهر من أبحاث العلماء في جميع الأمم أن الطبيعتين الأنوثة والذكورة متخالفتان، لا في ظواهرهما بل في أعمق تراكيبهما؛ والأطباء يقولون إن كلا من الفتى والفتاة ينشأ نشأة طبيعية متخالفة، ويكثر الموت والضعف في الصبيان، ويتجلى الذكاء والإحساس والحكمة في الطفلة، قبل تجليه في الطفل؛ ولا تزال الفروق بينهما تتزايد من الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة؛ ويبدو في الصبيان الاستعداد لتعلم الحساب والعلوم المقررة كما يبدو للفتيات بفضل خصوبة إحساسهن، جمال إنشائهن ورقة نشوئهن بالقياس إلى خشونة كتابة الصبيان؛ وبعد اجتياز هذه السن الصعبة يرتقي الصبيان ارتقاء دائماً، أما الصبايا فيقعن فجأة مأخوذات بحالة جديدة، وهي حالة المرأة؛ وكثيرات فيهن من يتركن عندئذ كل عمل. وادعى بعضهم إن ذكاءهن يضمحل في ذاك الدور ليقوم مقامه حس ينصرف إلى الذل، والغزل، والموسيقى، والقراءة، وأعمال الإحسان؛ وكثيراً ما يكون أحسن التلميذات في سن الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة ممن تأخر نموهن؛ وبينما يكون البلوغ في الصبي داعياً إلى توسع فكره، وحاملا له على معاناة المسائل الكبرى فوق الطبيعة، تنثني الفتاة على نفسها، وتمشي مع إحساسها، ثم تعاني مشاكل الحب والأمومة، خلافا لما ادعته (مدام دي ستال) من أن الأرواح ليس لها جنس معين.

وقد قرر العلماء إن تشريح الجنسين متخالف كل التخالف، فالقامة وثقل الجسم أقل في النساء منهما في الرجال؛ وقوة الأعصاب في الفتيات أقل مما هي في الرجال بنحو الثلث؛ وجماجم البنات أقل استعداداً للنمو وأدمغتهن أقل وزناً، حتى بالقياس إلى الوزن العادي. وقرر العلماء أن حاسة الشم والذوق في النساء أقل مما هي في الرجال؛ ولذلك قل أن استخدم أرباب المعامل النساء في الأعمال التي تتطلب التمييز بين الألوان والأذواق، مثل

ص: 38

التفريق بين الخمور والشاي، ومراقبة الصوت وإصلاح (البيان). قالت (مدام دي رموزا): إن الحس أكثر ملازمة لنا معاشر النساء من الملاحظة. واستنتج من هذا أن ذاكرة النساء أقل اضطلاعاً بالمسائل من كل وجه من ذاكرة الرجل. واضطراب المرأة اعظم بكثير من اضطراب الرجل. وتزيد في بعض أدوار حياتهن اضطراباً حتى تكون مرضاً وحرضاً تبعث على الغضب، وتصبح مدة الحمل أحياناً في مثل جنون عارض. وهكذا انفرد الرجل بالذكاء والمرأة بالشعور؛ والرجل في كل حين يفكر ويقدر، والمرأة تشعر وتحس. فالشعور فيهن هو كل ما لهن من آيات النبوغ. قالوا إن المولى أبى أن يرزق النساء قرائح لتتجمع كل جذوتهن في القلب.

قال وقد يعترضني أناس كثيراً من الفتيات أحرزن المقام الأول في المسابقات العلمية والأدبية الصعبة، ولكن (خيركوف) بحث في فتيات الجامعات فانتهى به البحث إلى أن الطالبات قد أهبن بالحافظة والمعلومات الجدية التامة المدققة أكثر من الطلاب؛ فالطالبات ينقصهن الاستقلال والتعمق في الفكر. فهن آخذات غير موجدات. وقارن المؤلف بين ثلاثة من الكتاب:(بوسويه) و (فلوبير) و (بول فاليري)، وبين ثلاث كاتبات (مدام دي سيفينه) و (جورج ساند) و (مدام كوليت)، فثبت له أن في إنشاء الرجال منطقاً سليماً، وفكراً مستقيماً، كانت فيه متانة جملهم، ورنة أصواتهم الموسيقية وتساوق المجموع من أقوالهم، على خلاف كتابة أولئك الكاتبات العظيمات.

قال ولا سبيل إلى إنكار تأثيرات العرف من القرون في تربية المرأة. ولعل أوربا تشهد في مستقبل الأيام حالة تشبه ما نراه من مثلها في الولايات المتحدة اليوم، وهي أن الرجل يشتد في اقتناص المال عاملاً له كل ساعة، والمرأة مستغرقة أبداً في تثقيف نفسها، وعندئذ ينشأ من النساء الهواة المنورات، والكاتبات البارعات، والمغنيات الباهرات، يكن مناراً يهتدي به الرجل الساري في الحياة. أما الآن فالنساء ينقلن عن الرجل، والناقل بنقله معترف ضمناً بتفوق من ينقل عنه.

محمد كرد علي

ص: 39

‌للتاريخ السياسي

عشرة أيام بئيسة مشروع

لافال - هور والرأي العام دواعي هذه الخطة الوخيمة العواقب

للدكتور يوسف هيكل

بقية ما نشر في العدد الماضي

موقف كل من الإمبراطور وموسوليني:

في 16 ديسمبر أبدت الحكومة في ديسي رأيها في اقتراح باريس، وهي تعتبر أن إعطاء إيطاليا المعتدية قسماً من الحبشة يكون مشجعاً لها أن تعمل على اكتساح الحبشة مرة ثالثة، وأن الاقتراح القائل بإعطاء إيطاليا امتيازاً اقتصادياً في جزء كبير من الحبشة لأشد ضرراً من الانتداب، وأن حكومة الإمبراطور موقنة بأن مجلس العصبة سوف يرفض الاقتراح عند اجتماعه في 18 من ديسمبر.

وبهذا التصريح أظهر الإمبراطور مهارة دبلوماسية لا تقل عن مهارة كبار السياسيين اليوم. إذ رفض (الاتفاق) بصورة غير مباشرة؛ ووضع عصبة الأمم أمام حقائق قانونية لا يمكن أن تحيد عنها دون أن تحيد عن مبدئها الأساسي.

وقد أجاب الإمبراطور أحد الصحفيين عند ما سأله رأيه في (الاتفاق) قائلاً: (إن جنودي لم تقهر بعد)!.

أما السنيور موسوليني فقد أخذ يماطل في الإجابة. لقد طلب من باريس ولندن إيضاحاً عن بعض النقط في (الاقتراح) وأجل الجواب إلى ما بعد انعقاد المجلس الفاشستي الكبير في 20 ديسمبر.

وفي خلال ذلك أخذت الصحافة الإيطالية تعلن أن (الاقتراح) لا يسد حاجة إيطاليا!. . . .

اختط موسوليني هذه السياسة اعتقاداً منه بأنه يستطيع بذلك أن ينال زيادة على ما جاء في (الاقتراح). وقد فقد بذلك بعض أصدقائه في فرنسا، وأخذ كثير من الصحافيين الذين كانوا يمجدون اسمه ويدافعون عنه ينتقدون سياسته ويلقون عليه تبعة الأزمة الدبلوماسية الحالية.

ولما رأى موسوليني أن الرأي العام العالمي ضد الاقتراح وضد أي اعتراف له بحق

ص: 40

الحبشة، عاد إلى سياسته الكلامية التهديدية، فألقى خطاباً في يوم الأربعاء الموافق 18 ديسمبر وصرح فيه بأن إيطاليا ستستمر في سياستها الحبشية إلى أن تخرج منها ظافرة.

ومما جاء في قرار المجلس الفاشستي الأكبر الذي انتهى انعقاده صباح السبت الموافق 21 ديسمبر: إن المجلس يثبت بأن عمل إيطاليا سيستمر، وأن القرار لقاطع للوصول إلى الهدف الذي اختطه الدوتشي.

ولما رأى موسوليني إن مجلس النواب في لندن قد رفض (الاقتراح) وأن جمعية الأمم لم تقبله، طلب من سفيريه في باريس ولندن إخبار الحكومتين بأن روما سوف لا ترسل جواباً على (اتفاق باريس) نظراً لموته.

الأسباب الحقيقية التي دعت مسيو لافال إلى وضع

(المشروع):

منذ أن وضع مسيو لافال يده على زمام سياسة فرنسا الخارجية بعد وفاة مسيو برتو في فاجعة مرسيليا وهو يتبع سياسة مسيو (دلكاسيه) المؤدية إلى حصر ألمانيا.

لهذا قام بتصفية الخلاف مع إيطاليا، وبعقد معاهدة مع الروسيا، وقد حاول أن يحتفظ بصداقة بريطانيا ولكن دون أن يثق بها كل الوثوق؛ ويمكن القول بأن هذه المحاولة كانت ظاهرية، إذ أن لافال يكن ضغينة في نفسه لحكومة لندن، وذلك من جراء عقدها المعاهدة البحرية مع برلين دون أخذ رأي باريس في ذلك.

ومن المؤكد أن لافال قد أكد لموسوليني بأنه سوف لا يقف ضد مناهجه في شرق أفريقيا، وأن السياسة التي اتبعها لافال في المسألة الحبشية تثبت لنا ذلك.

لقد حاول لافال قبل إعلان الحرب أن يتوصل إلى إقطاع موسوليني امتيازات كبيرة في الحبشة عن طريق سلمية ففشل في ذلك. ثم أخذ يحاول تخفيف شدة العقوبات الاقتصادية التي وضعتها العصبة على إيطاليا فأخفق سعيه. وأخيراً بذل جهده في تأجيل عقوبة البترول فوفق؛ ولما رأى أنه لا يستطيع تأجيلها مرة ثانية وان لجنة العصبة ستبحثها في الاجتماع الذي حدد لها وذلك في 12 ديسمبر، وضع (المشروع) وورط هور في توقيعه؛ وذلك بإظهاره له أن إيطاليا ستعتبر حظر البترول عملاً حربيا وتهاجم البواخر الإنكليزية.

ص: 41

وإذ ذاك تتحول الحرب إلى حرب إيطالية إنكليزية فقط. إذ أن فرنسا لا تستطيع مساعدة بريطانيا فوراً كما انه لا توجد دولة من أعضاء العصبة مستعدة لذلك. أمام هذا التحذير وأمام الصعوبات التي تجابهها حكومة لندن في هذه الأيام من أحزاب عمال مناجم الفحم، ومن الصعوبة التي تجدها في المؤتمر البحري المنعقد في لندن؛ ومن اضطرابات مصر. . . . أمام هذه العقبات خشي هور الحرب مع إيطاليا فوقع (المشروع). وبذلك تمكن لافال من تأجيل مسألة الحصر البترولي بصورة غير مباشرة إن لم يكن قد قتلها.

ولكن لماذا يبذل لافال هذه الجهود الجبارة في مساعدة موسوليني؟.

إن سياسة وزارة خارجية فرنسا كانت منذ حرب السبعين تعمل على توطيد العلاقات مع كبرى الدول الأوربية بعقد معاهدات معها. . . لتكون في مأمن من الخطر الجرماني. ولما وضعت الحرب أوزارها وأنشئت عصبة الأمم، رأت وزارة الخارجية الفرنسية أن تستغل هذه المؤسسة وتستعيض بها وبسياسة السلام المشترك عن سياسة المعاهدات. وقد بذل مسيو بريان في سبيل ذلك جهوداً جبارة. . . .

غير أن لافال حاد عن سياسة فرنسا الجديدة وعاد إلى سياسة ما قبل الحرب: سياسة المعاهدات. . . وحصر ألمانيا وتكوين جبهة قوية ضدها، فتمكن من إيجاد تحالف بين فرنسا وإيطاليا من جهة، وبين فرنسا والروسيا من جهة ثانية. . . .

وهو في سبيل المحافظة على صداقة إيطاليا والعمل معها ضد ألمانيا قد ضحى بمبدأ عصبة الأمم وسياسة السلام المشترك - ضحى بذلك برغم تصريحاته العديدة بأنه لا يزال يعمل ضمن سياسة جنيف ومن اجل المحافظة على صداقة إيطاليا يبذل لافال جهده في تثبيت مركز موسوليني الدولي - إذ هو يعتقد أن زوال حكم موسوليني في روما أو زوال نفوذه ربما يغير مجرى السياسة الإيطالية، فلا تستفيد فرنسا من المعاهدة التي عقدتها مع موسوليني، هذا إذا لم تتقرب إيطاليا من ألمانيا وتكونا جبهة قوية. . . خطرة على فرنسا. وفي سبيل ذلك قد وتر علائقه مع بريطانيا، إذ من المحال الاحتفاظ بمحالفة موسوليني وصداقة بريطانيا معا في الظروف الحالية.

فهل أصاب لافال بسياسته هذه؟ وهل مكن مركز فرنسا الدولي وأبعد عنها كل خطر جرماني؟

ص: 42

إن ألمانيا تتسلح الآن بكل ما لديها من قوة، وأنها ستضع قوتها يوماً ما في حيز العمل، غير أنها قد أخذت درساً كبيراً في الحرب العالمية، وهو أنها لا تستطيع قط محاربة العالم، وأن أي حرب تكون فيها فرنسا وبريطانية في صف واحد خطرة عليها. لهذا يبذل ساسة ألمانيا جهدهم في تفريق وحدة دول جنيف وإضعاف سياسة الأمن المشترك من جهة، وفي التقرب من بريطانيا وإبعادها عن فرنسا من جهة ثانية، وهم إن تمكنوا من ذلك اتسع المجال لعملهم وتنفيذ مناهجهم.

ومن الغريب أن نرى أن سياسة لافال الحالية، تعمل بصورة غير مباشرة على تطبيق المنهاج الألماني! وفي تطبيقه زوال مركز فرنسا الدولي، وهو رفيع، وإضعاف سلطانها.

وإننا نعتقد أنه لا أضمن لسلامة فرنسا واستمرار عظمة نفوذها الدولي من تقوية جنيف وتثبيت سياسة الأمن المشترك؛ وبتثبيت هذه السياسة وبالمحافظة على الصداقة البريطانية يزول عن فرنسا كل خطر جرماني.

ومن هنا نرى أن لافال قد أخطأ كثيراً في تضحية هذه القوى الجسيمة في سبيل المحافظة على موسوليني وكيانه، وأن مشروعه كان غلطة فادحة تجر على فرنسا ضرراً جسيماً لو نفذ، ناهيك بالأضرار الجسيمة الأخرى التي تنال السلم العام وحقوق الدول الصغرى.

(لندن)

يوسف هيكل

دكتور في الحقوق من (حكومة فرنسا)

ص: 43

‌3 - سكان أعالي النيل

بقلم رشوان احمد صادق

المجموعة الحامية النيلية

البادي

يسكن جنوبي منطقة الدنكا أي (في أعالي بحر الجبل) عدة قبائل تتكلم اللهجة البادية نسبة إلى شعب البادي، وبهم بعض الشبه من شعب الدنكا، ولابد أنه حصل اختلاط في المنطقة التي يسهل أن يحتك فيها الدنكا بالقبائل البادية خصوصاً في المجموعة المسماة الشير، ومع ذلك فهم ليسوا زنوجاً نيليين، وهم وإن كانوا ثقافة ولغة وجنساً يتبعون النصف حاميين في شرق أفريقيا لتغلب العنصر الحامي في تكوينهم إلا أنهم يعتبرون ضمن مجموعة قائمة بنفسها وهي، (المجموعة الحامية النيلية).

ويمكن تمييز نوعين من الجماعات التي تتكلم اللهجة البادية: جماعة شرقي بحر الجبل، وجماعة غربة. والمجموعة الشرقية تنقسم إلى عدة قبائل، ويظهر أنهم كانوا يتبعون النظام الطوطمي لوجود بقاياه في بعض القبائل، إذ يعتقدون بانتقال روح الميت إلى حيوان مخصوص عندهم.

والرجل الذي يقوم بعملية استنزال المطر هو رئيس القبيلة، ومركزه يختلف عن مركز الرئيسالروحاني عند الزنوج النيليين، فإذا أخفق في استنزال المطر فانه يذبح في الحال، ويدور البحث عن غيره ليحل محله. كذلك يوجد عدة رؤساء يطلق على كل منهم اسم (صاحب الأرض أو الأب)، وهو اسم يعطى لكل من جهز قطعة أرض وزرعها، وكذلك يمنح هذا الاسم لخلفة؛ وينحصر عمل هذا الرئيس في القيام ببعض التعاويذ والسحر عند بذر الحبوب وأثناء نمو النبات وقبل عملية الصيد؛ ولهذا الرئيس مقام محترم بين البادي إذ بدونه يفشل الصيد والزرع.

وحفلة استنزال المطر تعتبر من المظاهر الممتازة بين البادي؛ وتجري هذه الحفلة على النحو الآتي: يحضر الرئيس قطعاً من حجر الكوارتز بعضها ابيض اللون والبعض الآخر أخضره، ثم يضعها في إناء، وبعد غسلها يضعها على صخر كبير يسمى صخر المطر

ص: 44

وهو بقايا آلة قديمة لطحن الحبوب ، ثم يلطخ الحجر بزيت السمسم، ثم يذبح عنز أسود بجوار هذا الحجر، ويأكل الرئيس ومساعدوه وبعض الشيوخ من لحمه، ثم تؤخذ بقايا الغذاء الذي في معدة العنز وتوضع أيضاً على هذا الحجر، ثم يأتي المطر بعد ذلك. وكثيراً ما تجري هذه الحفلة بجوار مقبرة شيخ مطر قديم أو بعض الأماكن المقدسة التي تنتمي إليه.

اللوتوكو

ولهجة اللوتوكو تتكلمها القبائل الآتية: (1) اللوتوكو (2) الكويَا (3) اللنجو. ويلاحظ في هذه القبائل الثلاث أن الرأس طويل، أما القامة فقامة اللوتوكو أطول منها في القبائل الأخرى بمقدار بوصتين. وهم ينقسمون إلى قبائل طوطمية، وأهم مظهر للطوطمية عندهم هو أن كل فرد بعد موته تنتقل روحه إلى الحيوان الذي تقدسه القبيلة؛ فهناك قبيلة تقدس التمساح، وأخرى تقدس القرد، وثالثة تقدس الفيل، ورابعة تقدس النمل الأبيض، وخامسة تقدس الثعبان وهلم جرا؛ وأقوى هذه القبائل هي التي تقدس التمساح، ومنها ينتخب الرؤساء الذين يقومون بحفلة استنزال المطر، ويستعملون في هذه الحفلات حجر المطر السابق ذكره كذلك يستعملون بعض الحراب المقدسة كمساعد، والمياه التي توضع فيها هذه الحراب تحضر من بركة مقدسة يعيش فيها التماسيح التي تنتقل إليها أرواح أجدادهم رؤساء المطر.

ومن عاداتهم إخراج عظام الميت بعد دفنه بثلاثة أشهر، وأحياناً من ثلاثة إلى ستة عند اللوتوكو، ويعتقدون أن في ذلك سعادتهم ورفعتهم. كذلك عند موت الميت يسرعون إلى دفنه، ثم بعد ذلك يقيمون له تذكاراً ينوب عن الميت حيث يقيمون له المراسم الجنائزية المختلفة.

ص: 45

‌المجموعة الزنجية

الأزندي

رؤوسهم متوسطة، وقاماتهم أقصر من قامة الزنوج النيليين، ولونهم أفتح من لونهم، إذ يختلف ما بين لون (الشكلاته)، ولون بشرة سكان البحر الأبيض المتوسط. وبعض العلماء يعلل ذلك باختلاطهم مع البربر والحامي، وربما كان هذا الاختلاط مع جماعة الفولاني. ويمكن اعتبار الأزندي من زنوج غرب افريقا، إذ تظهر عليهم جميع المميزات التي تميز زنوج غرب أفريقيا من غيرهم. ومن الصعب التفرقة بين رجل من الأزندي وآخر من سكان أفريقيا الاستوائية الفرنسية أو نيجريا. كما أن لغة الأزندي خالية من الأثر الحامي، على حين أنه توجد بها آثار من لغة البانتو، وهذا ينعدم وجوده في لغة الزنوج النيليين السابق الكلام عليهم. والأزندي من جهة الثقافة يتبعون غرب أفريقيا بعكس الزنوج النيليين الذين يتبعون في ثقافتهم شرق أفريقيا. وهذا يتضح تماماً من نظام بناء كوخ الأزندي ومساكنهم وآلاتهم الحربية والموسيقية مثلا.

والأزندي عبارة عن عدة قبائل ولهم حكومة مركزية عليا وهم ينقسمون إلى ولايات مستقلة عن بعضها، وهي في حرب دائمة مع جيرانها، ولكنها جميعها تخضع لملك واحد من أسرة أرستقراطية مالكة ينتخب دائماً منها الملوك، وهذه العائلة المالكة تسمى (الافنجارا) ومنها ينتخب أيضاً رؤساء الإدارة والحكومة الذين يساعدون الملك، والملك هو الذي ينتخبهم ويوزع عليهم العمل. والملك وهؤلاء الرؤساء لا يشتركون في الحروب

ويتلخص النظام الإداري فيما يأتي:

1 -

الملك وهو الرئيس العام ويحكم في العاصمة وهو المرجع الأعلى ويحرم عليه أن يدخل الحرب بنفسه.

2 -

مقاطعات أو مديريات يديرها أبناء الملك أو أخوته أو غيرهم من العائلة المالكة، وكل من هؤلاء مطلق السلطة إلا أنهم مسئولون أمام الملك مباشرة عن حفظ الأمن والعدل كما إن عليهم واجبات نحو الملك؛ مثلا إذا أراد الملك عملا لبناء منازله أو جنداً للحرب فعلى هؤلاء المديرين أن يقوموا بجميع العدد اللازم حسب طلب الملك، وهؤلاء المديرون لا يدخلون الحرب.

ص: 46

3 -

تنقسم كل من هذه المديريات إلى عدة أحياء أو مناطق على كل منها نائب أو وكيل، وهذا النائب يباشر الأمور المختصة بالعدل بواسطة عقد مجلس يكون هو عضوا فيه يساعده الرجال المعترف بكفاءتهم في حيه أو منطقته. فإذا ظهر نزاع بين فردين وجب أن تعرض المسألة على نائب الحي أولا، فأن كان موضوع النزاع بسيطاً حله النائب، ولكن إذا كانت المسألة معقدة مهمة فان النائب يحولها مباشرة إلى المدير الذي يحكم المديرية، وهو طبعا أحد أفراد العائلة المالكة؛ ولا يمكن عمل استئناف من المدير إلى الملك، لأن المدير مستقل بشؤون مديريته.

فإذا أراد الملك أن يعلن حرباً أو يقوم بعمل اقتصادي مهم فانه يرسل في الحال إلى المديرين يخبرهم بالعدد اللازم، وعند ذلك يقوم كل مدير بعقد مجلس برياسته يدعو إليه جميع النواب الذين يحكمون الأحياء التي تنقسم إليها مديريته، ويشاورهم في العدد الذي يمكن أن يقدمه كل منهم؛ وهؤلاء النواب يقومون بعد ذلك بجمع العدد اللازم من كل منهم بواسطة قرع الطبول. وبذلك يمكن إرسال العدد المطلوب من العمال والجنود إلى الملك. والملك نفسه يدير مقاطعة في وسط بلاده وهي بمثابة العاصمة وضواحيها، ولكنه يستعين بالمديرين في المسائل القومية المهمة.

(بقية في العدد القادم)

رشوان أحمد صادق

ص: 47

‌بمناسبة أربعين الزعيم الخالد

يوم هنانو

للأستاذ أمجد الطرابلسي

صُعق الناسُ حَسرةً فأهابوا

مَنْ صَريعُ الِحمى فقيل الشِّهابّ

ضربوا في الدُّجى البهيمِ سُكارى

أين منهمْ هُداهُمُ والصواب

وَسَروا خُشَعَ النواظر يَغشا

هُم من الليلِ والدموعِ حجاب

يتناجوْن بالِّلحاظِ من الهو

لِ؛ أصدقٌ ما قدَرووْا أم كذاب

شرِقوا بالدموع إذ هَتف النَّا

عي مُهيباً، ومادتِ الألباب

هَتفاتٌ فوق المآذِن تعلو

فيضجُّ الباكونَ والندّاب

ورنيُن الناقوس من كلِّ فج

تَتَفَرَّى له القلوبُ الصِّلاب

زفراتٌ هي الكبوُد تَلظَّى

ودموعٌ هي النُّفوسُ تُذاب

هاهُنا لِلُّبى عويلٌ مُرِنُّ

وهنا ثَمَّ للِشِّبالِ انْتحِاب

من يواسيهُم وكلُّ طعينٌ!

من يُعزيهمُ وكلٌّ مصاب!

لا تُلمْهُمْ! خلا العرينُ، فمن يد

فعُ عنهمُ إذا اسُتبيح الغاب

زُلزلت دارةُ الوليد ومادت

تحت عِبْءِ المُصابِ فيها الهِضاب

فَعليها من الهُزالِ شُفوفٌ

وعليها من الشُّحوبِ نقِاب

لبَسَتْ في نهارِها اللَّيلَ وجداً

وتوارى السُّمَّارُ والأصحاب

وتباكت حمائِمُ النَّيْربَ السا

جي وَأوْدى غِرِّيدُهُ المِطرب

ليت شعري أذاك (مروانُ) أوْدى

فَأهَلَّ الورى وَسَحَّ السحاب

أم تدعى عرشُ (الوليدِ) غَداةً

فتداعت منابرٌ وَقبِاب

يا لَسُورِيَّة الشَّهيدَةِ كم ذا

تتهاوى أبناؤُّها الأنجاب

يهْبطُ الكوكبُ اُلمحَجَّلُ منهم

أو يُقَدُّ المهَّندُ القِرْضاب

فإِلى صدرها تَضُمُّ الضحايا

وعلى صدرِها يُهال التراب

مَلأوا قلبها نُدوباً وشَجْواً

ليس يخبو وقودُه الَّلهّاب

أبداً للدموع فيها انسْكابٌ

أبداً للدِماء فيها انصْبابِ

ص: 48

رَوِيَتْ منْ دماءِ أَبنائِها الغُرِّ

م وفاضت رِباعُها والرَّحاب

أمس في الغَوطةِ الرَّؤوم تهاوَت

شُهبٌ كلها منُىً وَشباب

وعلى ميسلونَ سالت دِماءٌ

علَّمتْنا أنى يكونُ الغِلاب

شهداءٌ أعزةٌ عَدَدَ الزهْـ

رِ أيحُصْى زَهْرَ الشاّم كتِاب!

يا هنانو أَثَرْتها ذِكريَاتٍ

َضَمَدتها السِّنونَ والأحقاب

فلياِليَّ بعدَ منعْاك سُهدٌ

وشرابي قذىً وَشَهْدِيَ صاب

كنتُ في قريتي الوديَعةِ سهوا

نَ فلا غُصةٌ ولا أَوْصاب

تستبيني مِن الرُّعاةِ لحون

وأغانٍ عُلويَّةٌ، ورَباب

وَمِنَ الطَّيرِ في الرُّبى نغماتٌ

هن لِلُّبِّ مِزْهَرٌ وشراب

أدْفِنُ الهمَّ في ظِلالِ التمَنِّي

والأعاليلُ مورِقاتٌ رِطابُ

وأَُغَنيَ مع الطفولةِ لحناً

ذِكَرُ كله وشهد مذاب

وحواَلَيَّ صِبيةٌ كالعصف

ير مِراحٌ، أهِلَّةٌ، أتراْب

يتبارَوْنَ عابثين فما يد

رون ما الهمُّ، ما الأسى، ما العذاب

كدِتْ أسلو لَذْعَ الحنين وأنسى

بينهم ما يهيجُهُ الاغتراب

فأتاني الناعي يجُمَجْمُ في القْو

لِ فما إنْ يبينُ منه الخطاب

قالَ: مات الزَّعيمُ، قلْتُ: هوى الصَّر

حُ رُكاماً وَقُوِّضَ المحراب

يا الهي أكلما سُدَّ باب

من شَقاءِ الشام حُطِّم باب!

يا فقيدَ الآمالِ قُم فتأملْ

كيف تبكي آمالنُا والرِّغاب

رَزَحَ الموْطنُ الجريحُ وناءت

أُمَّهٌ لم يذلَّهَا الإرهاب

كنتَ في السَاح والندِىِّ زعيماً

ما دَعَوْتَ الشبالَ إلا أجابوا

ومشوا خْلفَ ضغيمِ الغابِ صفاً

ليس يخشى الردى وليس يَهاب

كلهم باسمون خلفَكَ للمو

تِ، سِراعٌ إلى الطِّعانِ طِراب

كنتَ حِصْناً فدكَّ ذيْالك الحِص

نُ وَحِرْزاً فَقُدِّتِ الأطناب

وشهِاباً يفترُّ في أفُقِ المج

د بهِيِاً لا يعتريه غياب

شَعَّ دهراً فأُرشِد ابن الدياجي

وأُنيَرت مسالكٌ وَشِعاب

ص: 49

ثم غشّاهُ من سكون المنايا

سُحُب مكْفِهَرَّة وَضبابُ

وطن سار خلف نعشِك يبكي

يا لهُ اللهُ صارخاً لا يجاب

كان يرنو إليكَ كالطِّفل إما

عَضَّهُ من أراقم الظلْم ناب

موِكب كالخِضمِّ سارَ خَشوعاً

جَلَّ ذا موْكبِاً وَجَلَّ الرِّكاب

مَن رأى محشراً يموجُ زِحاماً

وَعُباباً يبكي عليه عُباب!

ولواءً قد كنَت تفديهِ إمّا

رَوّع الغَابَ عاصِفٌ صَخّاب

ضمَّك اليومَ لوعةً وحناناً

أنت منه الشَّباةُ وْهوَ الِقراب

من لهُ اليومَ إن أناخ عليه

مُستبيح أو راعه غَصاب!

إيه (شهباءُ) أيُّ سِفرِ جِهادٍ

غالهُ فيكِ ريَّاب

وخَفوق يغْلي مُنىً وإباءً

وفتىً لا تغُّره الألقاب

كان تاجاً في مفرقيكِ وَدِرْعاً

لكِ تنبو عنه القنا والحراب

وأباً بالبنينَ براً شفيقاً

كلهم في فنائه أحباب

هزهُم للعُلى فكانوا صفوفاً

وْهَو ليث بين الصفوف مهاب

لهفَ نفسي أن غاض فيك نمير

كان بالنُّور والهُدى ينساب

تنتوي ساحَهُ الحيارى وتهفو

حول شطًّيْهِ عُطًّشٌ وسِغاب

جسد هدَّه الكِفاحُ فأبلا

هُ وقلب على المدَى وثّاب

كلما هاجه الإسارُ تنزَّى

فتنَزِّى فيه الصبى والشباب

إن مشى للأمامِ هان عصيب

وتوارت عن الطريق صعاب

حمل السيف طاوياَ في الصحارى

عادةٌ الليث عِزة وضراب

يرشُف الموت بالرماحِ ولا ير

ضيه هَضم لحقَّه واغتصاب

ذاب في حَوْمةِ النَضال شهيداً

ذاكُمُ المجدُ ساطعاً لا السراب

إنما المجدُ ثورة وجهاد

لا كلام مُنَمَّق وخطاب

يا جيوش الشبابِ، يا أُسُدَ الغا

بِ، ويا أيها الشبالُ الغضابِ

قد مضى القائدُ العظيمُ إلى الخُلْ

دِ وقد عاجلَ الرئيس التباب

فارقأوا هذه الدُموع الجواري

ليسَ في الدمعِ للفقيد مآب

ص: 50

ولسكبوا خلفهُ الدماء الغوالي

إنما الدمع هِّينٌ مْخِصاب

وصليل السيوف أجملُ لحنٍ

لبِكُاء الشهيدِ لا التِّنْحاب

لا تخوروا فإنَّ معركة النَّص

ر بدا فجُرها الضُحوك العُجاب!

أمجد الطرابلسي

ص: 51

‌سحر الطبيعة

للأستاذ عبد الرحمن شكري

كؤوس من النور هذي الزهو

ر أم هي أخْيلة الشاعر

وليست ِبحُلم ولكنها

أجل من الُحلُم الباهر

وما خلَّفت لفنون الخيا

ل فتنة حسن لدي الخابر

وما الحياة ونبع الخلو

د في مائها لسلسل المائر

وعشب قشيب وظل ظليل

أدنيا أرى أم مُنَى الساحر

ومما يزيد رواء الزهور

أذى العيش والقدر الجائر

لقد خفت أن تنطوي مثلما

يزول الخيال عن الناظر

فأسلمت نفسي لسحر الخيال

لأخلد في حسنها الزاهر

وغبت عن الحِسِّ حِس الوجود

كأنيَ روح لدى العابر

كأني نقلت إلى عالم

سينشأ في دهر أو غابر

كأني نقلت إلى جنة

نأت عن سطا القدر الدائر

ومما يزيد رواء الزهور

أذى العيش والقدر الجائر

عبد الرحمن شكري

ص: 52

‌قبلة الحب

بقلم فريد عين شوكه

هاتها هاتِها فإِنيَ ظمآ

نُ إلى وِردْك العفيف الطهور

هاتِها قبُلةً تهُدهدُ أحشا

ئي، وتشفي من الجنون شعوري

عطشت مهجتي إليك وضاقت

جَنبَاتي بما بها من سعير

فارْوِ ما جفَّ من حشاي وَرفِّهُ

عن فؤادي وخاطري وضميري

ويك يا قلبُ! ما لخفقك يشتد

وما للحشا يلجُّ وثوباً؟

إنها خمرة الهوى فارتشفها

لهباً في الضلوع حتى تذوبا

ضلِّةً للفؤادِ! رفَّ على النا

ر ولم يخش جمرها المشبوبا

كلما ذاق حَرَّها عاد لهفا

ن إليها حتى استحال لهيبا

يا لها قبلةً أحرَّ من الجم

ر على قلبَي اللهيف المعذَّب

رشفة كالندى النديِّ استحالت

شعلة في الدماء أيان تذهب

هيه يا ثغره الحبيب أنلني

منك ما يشعل الضلوع ويلهب

قبلة الحب لفحةٌ من جحيمٍ

هي أشهى من النعيم وأعذب

فريد عين شوكه

ص: 53

‌فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

26 -

تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

الناحية السلبية من مذهب نيتشه

الإنسان

للأستاذ خليل هنداوي

لكل فلسفة أجل موقوت، تظهر فيه حجتها على الناس. وكل فيلسوف يضم شتات فلسفته ويحبسها ضمن نظام منطقي كأنها عمل عقلي محض، ألا إن هذا باطل، فأن الحياة الواعية في كل إنسان لها جذور تمتص من الحياة غير الواعية فيه؛ وإن حبه لمعرفة الحقيقة يعود إلى غريزة فيه قوية خفية. عد إلى المذهب الفلسفي العددي المجرد من كل شخصية ومن كل هوى تجد شيئاً ينزل منزلة الإيمان فيه؛ وما نظريات الفيلسوف في الحقيقة إلا بنات مذكراته واعترافاته. إن هذا الفيلسوف ليس في الحقيقة - كما يخيل إلينا - مفكراً خالصاً، ولكنه محام خبيث يذب عن اعتقاداته الوهمية ولا سيما الأدبية منها. يجرب أن يجعل من اعتقاداته حقائق ثابتة ودساتير نافذة. على أن هذه الاعتقادات التي تنطوي عليها المذاهب الفلسفية التي تريد أن توجه الحياة في سبيلها، إنما هي اعتقادات مستمدة من المثل الذي يبشر بالزهد والمسكنة. . . وهكذا لم يكن الكاهن والفيلسوف بخصمين كما يبدو ظاهر الأمر - وإنما هما صاحبان وان كانا لا يدريان.

هذا هو (كانت) أبو الفلسفة الألمانية لا يرى فيه نيتشه إلا كاهناً مسيحياً تطور في بعض حالاته. وخلاصة فلسفته أنها تضع (شعبتين) من شعبها خارج القوة العقلية؛ في الأولى تلهج بعالم حقيقي مباين لهذا العالم المبني على الظواهر والحوادث، وفي الثانية تؤمن بالشريعة الأدبية الخلقية أنها مقدرة تقديراً. وإذا جرد المحقق هاتين الشعبتين وجد أنهما وليدتا نظريات الشريعة المسيحية ذاتها. إذ ما هو الإيمان بعالم حقيقي غير هذا العالم؟ أليست هذه الفلسفة تنطوي على الفكرة التي يبشر بها علم اللاهوت، فالإله هو العلة الأولى للوجود الذي تتلقفه الحواس، وحياة الإنسان الحقيقية هي الحياة في الله، وهكذا أخذ النظريون فكرة القول بإله صالح، بإله للمتألمين، ودققوها وسموا بها وبدلوا لونها حتى

ص: 54

أحالوها عنكبوتاً ضخماً ينسج الوجود من خيوطه. فكان منه (المثل الأعلى) والعقل الخالص، والواحد المطلق، والشيء القائم بذاته؛ على أن هذا الشيء القائم بذاته، وهذا العالم الحقيقي إن هما - إذا تجردا - إلا العدم الخالص.

إن إله المسيحيين - كما يراه نيتشه - هو إله كل ما يتألم، وكل ما يجنح إلى الموت؛ وهو بدلا من أن يبشر كالآلهة الوثنية بما يفيض على الحياة من بهجة ونعيم، ويبث الإرادة القوية التي تقول للحياة:(بلى)، ولكن ما تحمله (بلى)؛ نراه يحمل الناظر إلى كل منحط خسيس في فؤاد الإنسان، يكره الحياة الحقيقية ولا يحمل لها إلا مقتاً؛ ويجعل رجاءه في حياة وهمية ثانية. إن عالم النظريين يماثل في حقيقته هذا العالم المسيحي. أنه كلمة فارغة من كل حقيقة؛ إن الإله هو علامة (سلب الحياة)، وإله الفلاسفة هو العدم الخالص.

وتلك الإرادة التي تمثل هذا الإله إن هي إلا الجنوح إلى الفناء. وإن أبرز هؤلاء الفلاسفة الذين يعتقدون بأنهم مارقون من كل دين وكل إيمان هم في الحقيقة رجال إيمان لا يتزعزع. إن هؤلاء العلماء والفلاسفة اللابسين أثواباً مختلفة إنما لباسهم لباس واحد يلفهم ويضم بينهم، هو لباس الزهد.

لنحلل معتقدهم: أن إرادة إدراك الحقيقة مهما كان ثمنها - تتهيأ في طريقين مختلفين: تقول (لا أريد أن أخدع!) أو تقول (لا أريد أن أخدع نفسي ولا أخدع أحد) أما القول الأول فهو بعيد عن الحقيقة، لأن الإنسان ليقدر على أن يسمو إلى الحقيقة بفطنة منه أو خشية إذا كان يثق في نفع هذه الحقيقة السامي إليها. ولكن الحقيقة هي أنه إذا كانت هنالك حقيقة بدأت تنجلي شيئاً فشيئاً للعقول المستنيرة فهي أن الوهم ذو فائدة للوجود وضروري له كالحقيقة. وفي اعتقاد نيشته أن الوهم والكذب هما من الجواهر اللازمة للحياة.

إن مسألتنا التي نبتغي حلها ليست بجملة اعتراضات، ولا فوز في المنطق، وإنما مسألتنا هذه:(ما هو الأجدى نفعاً لحفظ الحياة وصيانة النوع ووقاية الحيوان؟) وأنّا لنستطيع أن نقول بدون تردد: أن الأفكار والأحكام الأكثر بعدا عن الحقيقة هي عندنا من الأشياء التي لا منصرف عنها: ولو أن البشرية استغنت عنها لما استطاعت الحياة، إذا كان الجحود جحوداً بالحياة نفسها وإعداماً لها.

ولكن لو فرضنا أن الكذب أكثر يمناً والحقيقة أكثر شؤماً، فأن رجل العلم لا يجنح - إذ ذاك

ص: 55

- إلى الحقيقة طمعاً في فائدة أو رهبة من شئ، وإنما يجنح إليها ويتواقع عليها لأنه نشأ على ألا يخدع نفسه ولا غيره مهما كلفه ذلك. تراه يضحي بسعادته وبالبشرية في سبيل الحقيقة، هذه الحقيقة المقدسة التي راح يسميها المسيحي إلهاً.

ومما لا ريب فيه أن ناشد الحقيقة يضع إيمانه في وجود غير هذا الوجود، وحياة غير هذه الحياة. فماذا تراه يضع في وجودنا هذا بعد انصرافه عنه؟ هل يجد غير الجحود به؟ ولكن رويداً! أريد أن أقول: إن اعتقادنا العلمي مبني على اعتقادنا النظري. وإننا نحن مفكري اليوم، الجاحدين الناكرين نستمد النار التي تحرضنا وتثيرنا من المجمرة التي أضرمتها نار العقائد كثيراً، ومن ذلك الإيمان المسيحي الذي شابه الإيمان الأفلاطوني القائل بأن الله هو الحقيقة وأن الحقيقة هي ألهيته.

إن رسول الجيل الحاضر لم يجرؤ على أن يشك في القيم الحالية الموروثة، لم يجرؤ على القول: ما هي قيمة الحقيقة وما هي قيمة ذلك الأمر المطلق للفضيلة التي تأمرنا بسلوك طريق الحقيقة؟ إنه وقف مكتوف اليدين إزاء مسألة الحقيقة والفضيلة. إنه لم يقل لماذا وجب على الإنسان أن يعرف كنه هذه الطبيعة التي نحسها اليوم كقوة عمياء، غير عاقلة لا تعبأ بالخير ولا بالشر، فيها قوة الخصب والتوليد؛ تنجب دائماً مخلوقات جديدة لتضحي بها لغايات لا معنى لها، ولا عاطفة في صدرها. . . . وإذا كانت هذه حالتها فلماذا كتب الإنسان على نفسه التضحية بها في سبيل مثل هذه الألوهية؟

يرى نيتشه أن الرغبة في الحقيقة مثلها مثل الصبغة العصرية لصرامة التنسك والزهد التي دفعت الإنسان إلى أن يضحي - في سبيل إلهه - بكل ما تملك يداه، فكان الإنسان يقرب له الضحايا البشرية، يضحي بأول غلام يأتيه، حتى إذا جاء العهد المسيحي أصبح الزاهد يضحي للإله بكل غرائزه وميوله الطبيعية.

والآن ماذا يملك عليه ليضحي به؟ ألم ينته دور التضحية له بكل عزيز؟ أليس الأجدر الآن تضحية الإله نفسه؟ وعبادة الحجر والمبهم والثقل والحظ والعدم إمعاناً في مجافاته؟ وهكذا تجد رسول المعرفة الذي لم يهو في مهواة الشك، المؤمن بالحقيقة، الجريء على خلق مثل أعلى، الشديد إيمانه بالعقل السامي والفضيلة، تجده إذا نزعت رداءه - زاهداً ينكر الوجود، ومتشائماً يفر من الحياة، لأنه يأبى أن يستسلم إلى الوهم، إلى الكذب اللازم للحياة، انه

ص: 56

عدمي كالمسيحي بعمل على أن يقذف بالإنسانية في هاوية العدم.

(يتبع)

خليل هنداوي

ص: 57

‌القصص

صور من هوميروس

21 -

حروب طروادة

1 -

مصرع أخيل

2 -

انتحار بوليكسينا

3 -

سهام هرقل

4 -

مقتل باريس

5 -

نهاية إيونوليه

للأستاذ دريني خشبة

انتهت الهدنة، واندلعت نيران الحرب كرة ثانية، والتحم الجمعان تؤجج العداوة بينهما ثارات وثارات؛ ولم يجد الطرواديين أن تنضم إليهم مليكة الأمازون تحارب بفصائلها في صفوفهم وتشد بجموعها أزرهم، فان أخيل هو هو لم ينقص ولم يزد. . . بل هو يزيد كل يوم ظمأ إلى دماء قاتلي صديقه وأحب الناس إليه. . . بتروكلوس الشهيد. . .

لقد انقض أخيل على مليكة الأمازون التي انقضت بدورها على جحافل الهيلانيين فأوقعت الروع في نفوسهم، وقذفت الرعب في قلوبهم. . . فلم يزل بها يصاولها ويطاولها حتى نهز منها نهزة أنفذ بها رمحه في صدرها، وعفر جبينها الملتهب بثرى المعمعمة، وجردها من سلاحها إذ هي جثة هامدة، وانكفأ أتباعها وبهن من الحزن على صاحبة الأمر فيهن. . . ما صرفهن عن طروادة والطرواديين.

وإن أخيل ليصول في الميدان ويجول، وإنه ليرتفع بصره عفواً، وعن غير قصد، إلى البرج الشاهق من أبراج إليوم، فوق البوابة الاسكائية، إذا به يلمح قمراً مطلاً من شرفة البرج يرنو بعيني ظبي، ويهطع بجيد رئم، ويشرق بخدين ناضجين من خدود ربات الخدور، يرسلان على الساحة كلها سناءً ورواءً. . . .

ص: 58

من هي؟. . .

من هذه العذراء البارعة التي تشرف هكذا على الساحة الحمراء فتطفئ جذوات الغل المتقدة بين أضلاع أخيل، وتضع حداً لهذه الثورة التي ظلت إلى تلك اللمحة تعصف بنفسه الغضبى، وتحز في قلبه المحزون؟. . .

أوه. . .!! إنها الأميرة الفتانة بوليكسينا، صغرى بنات الملك الشيخ. . . بريام البائس الباكي الحزين. . .

لقد أرسلتها العناية لتشرف على الساحة الصاخبة، ولينظر إلى هذا البطل الخرافي الجبار الذي لم يعد بيت في طروادة كلها إلا وفيه لسان يلهج بذكره، ويتحدث عن شجاعته، ويخوض في جبروته. . . ثم لم يعد بيت في طروادة كذلك، إلا وفيه عين مؤرقه تبكي على عزيزها الذي قتله هذا البطل، أو الذي سيقتله، أو الذي يخشى منه عليه أن يقتله. . . كأنه أصبح سفير هيدز إلى اليوم، أو وزير بلوتو العظيم!!

وأبصر أخيل بها. . . ويالها من نظرة أنبتت في قلبه دوحة من الحب وارفة، ذات ظلال وذات أفياء. . . .

وظل الرمح يهتز في يده. . . ولا يصيب أحداً. . . وظل هو يسارق قمر البرج المطل نظرة فنظرة، وظل مشدوهاً مسبوهاً. . . لا يعرف لم شبت هذه الحرب، ولم يقتتل هذان الجمعان؟!. . . وانثنى من الميدان ينظر في هذا الغرام الجديد. . .

ولم يجد بداً من العمل لإحلال السلم محل تلك الحرب التي طالت وتتابعت عليها السنون، من غير أن يظفر الهيلانيون بالطرواديين، أو الطرواديين بالهيلانيين، ومن غير أن يفكر أحد في هذه المجزرة الشائنة التي تفتدي كل يوم بقطوف الشباب من زهرات الأمتين على السواء.

فيا له من حب مهد السلم، لولا قساوة في القلوب زادتها الثارات عنفواناً، ولولا شرف أمة بأسرها تعبث به امرأة، ولولا الأحن التي ذهبت بأبناء الملوك الصيد!

واستطاع أخيل أن ينفذ رسله إلى بريام يستعتبه، ثم استطاع الرسل أن يخاطبوا الملك في بوليكسينا على أن تكون أحب أزواج أخيل وآثرهن إلى قلبه، فوعدهم الملك، بعد إذ لحظ من افتتان ابنته هي الأخرى بزعيم الميرميدون، أن تتم مراسيم الزواج حين تضع الحرب

ص: 59

أوزارها، وحين تنكشف هذه الغمة القاسية عن طروادة. . .

بيد أن الهوى المبرح قد ألح على قلب أخيل، والصبابة العاتية قد جمعت أفانين من السهاد في عينيه، وطيف بوليكسينا يراوحه ويغاديه، ويملأ عليه أخيلته، ويتهادى أمامه في كل نظرة ينفرج عنها هدبه، أو غمضة يتناعس بها جفناه! فلم يطق إلى صبر من سبيل!

وأنفذ رسله كرة أخرى فاتفقوا مع الملك على إجراء مراسم الخطبة، عسى أن تفل من غرب هذه الحرب القاسية، أو تبزغ منها تباشير السلام المنشود!

وأعلنت هدنة ليوم أو بعض يوم؛ وأقيم المهرجان الفخم في صميم الحومة الرائعة، وتقدم أخيل فصافح الملك، وأعلنت الخطبة، وانثنى الزعيم العظيم وقلبه يطفر من الفرح، أن أصبحت له بوليكسينا. . .

وما كاد البطل ينقلب إلى جنده، حتى كانت فينوس توسوس إلى باريس أن ينتهز الفرصة العزيزة النادرة، ويريش سهماً من سهامه المسمومة إلى أخيل التي لم تغمرها مياه ستيكس فيصميه. . . فيرديه!!

ووتر باريس قوسه، وأرسل السهم المسموم إلى عقب أخيل فنفذ فيه، وأنفذ فيه قضاء ربات القضاء. . . اللائي فرغن الساعة فقط من غزل خيط حياته، وقطعته أتروبوس الهائلة بمقصها الجبار الفظيع.

وهكذا أنهى باريس الخائن تلك الحياة الحافلة بغدرة سافلة من غدراته التي توشك أن تنتهي!

واستطير الميرميدون! وانقض أوليسيز كالعاصفة ينافح عن جثمان صاحبه، واستطاع أن يستنفذ القتيل العزيز من أيدي أعدائه الجبناء؛ وكان أجاكس العظيم يعاونه في دفع الجموع الحاشدة التي تكاثرت حول الجثة تطمع في عدة فلكان. . .

وانصرف الجيش الحزين يذرف دموعه على أخيل!!

واجتمعوا حول الجثة المضمخة بالطيب وحنط المسك يحرقونها!

ووقفت ذيتيس تلقى على ابنها نظرة الوداع. . . وتذرف عليه عبرة الوداع!!

وكانت ثيابها السود تبكي معها. . . وكانت السماء كلها تذرف شئونها على أخيل. . .

وعرائس البحر ساهمات على شواطئ الهلسبنت الفائض بالدم!

ص: 60

وبليوس المحزون يضطرب في الأعماق فيجعلها ضراما: والأولمب كله، ما عدا عصابة فينوس يعزى بعضه بعضاً!! وليس أولئك جميعاً شيئاً إلى ما حدث من بعد، قبيل أن تخمد النيران فوق أخيل. . . فقد ضج المكان الصامت بصيحات مفاجئة، نبهت ما سكن من هول هذا المحشر الرهيب. . . ونفت القوم، فإذا أجاكس العظيم قد أصابه طائف من المس، وإذا به يرغى ويزبد، ويعول وينشج، ثم يقذف من فمه صبياً من الدم، يتلوه شوب من العلق، وينبطح على الأرض ثم يثب على قدميه، ويروح ويغدو دون أن يلوا على شئ. . . ثم يستل جرازه ويركزه فوق الأرض، ويتكئ بصدره على سنانه، فينفذ السنان من ظهر أجاكس، ضحيه جديدة لهذه الحرب التي لا تشبع، وخيط حياة حافلة يمر وشيكاً بين الشفرتين من مقص أتروبوس!. . .

ويحك أجاكس! وللآلهة ما وفيت لأخيل يا بطل الأبطال!

وذهل القوم لانتحار أجاكس ولم يفيقوا من ذهولهم إلا ليروا إلى مأساة ضعضعت ما أبقى عليه الحزن من ألبابهم، وأطاشت ما بقى من حلومهم، وتركتهم سكارى وما هم سكارى

هذه بوليكسينا!!

إنها تقبل من طروادة كأنما بها مس. . .

وهي تطوي الساحة المزدحمة بالأشلاء. . . المضرجة بالدماء، بقدمين عاريتن، لا يقيمها حذاء. . . وأن الدم ليتفجر منهما. . . وهي تصرخ. . . وتلطم خديها الشاحبين، بكفيها الواهيتين

وهي تجفل كالظبية المراعة، وتدور حول نفسها. . . ثم تقف لحظة. . . وتنطلق. . . .

وهي تفعل هذا حتى تكون أمام البركان الخافت، المشتمل على رفات أخيل. . .

وإنها لتقف تلقاءه جامدة كأنها دمية. . . . ذاهلة كأنها تمثال. . . .

يا للهول!!

لقد انطلقت الفتاة فخاضت النيران. . . ودست رأسها في جمرات الغضى تبحث عن حبيبها المرجو. . . . . . عن أخيل. . . . . .!!

أخيل الجبار. . . قاتل ليكاون وبوليدور. . . وهكتور!!

ويجزع الهيلانيون مما ألم بهم من مقتل أخيل، وانتحار أجاكس حزناً عليه، فينصرفون عن

ص: 61

الحرب إلى استيحاء آلهتهم؛ وينفرد كالخاس يرسل نظرة في النجوم، ويناجي سكان السماء، ثم يقبل على القادة وقد فرغت قلوبهم من الصبر، وتبلبلت أفكارهم من طول الانتظار. . . فيقول:(سهام هرقل!! لا بد من سهام هرقل!! لن يفتح عليكم طروادة إلا سهام هرقل. . .!!)

سهام هرقل؟؟ وما سهام هرقل هذه؟؟)

آه! لعلها هذه السهام التي غمسها هرقل في دم هيدرا فتسممت به، وادخرت من الموت ما يكفي لإبادة الطرواديين جميعاً. . .

ولكن أين هي هذه السهام اليوم! وأنى للهيلانيين أن يهتدوا إليها؟!

جلس القادة يفكرون. . .

وذهب العرافون يقلبون صحف الغيب. . .

وطفق مشايخ الجند يفتشون في زوايا أدمغتهم. . .

ثم ادّكر أوليسيز، بعد لأي، أن هذه السهام المنشودة قد تركت مع الجندي القديم فيلوكتتيس الذي غادره الجيش فوق جزيرة لمنوس، في طريقه إلى طروادة. . . فجر الحملة. . . منذ عشر سنوات!

ولقد كان فيلوكتتيس قد أصيب بجرح كبير في قدمه جعل أصحاب الحملة له من المحال، لما كان يلقى أوانئذ من الآلام المبرحة، وما كان يملأ به آذان الجند من الصراخ والأنين. . . فأضطر أوليسس إلى تركه في جزيرة لمنوس، حيث أوى الجندي المسكين إلى كهف منعزل عكف فيه على جرحه يعالجه. . . دون جدوى!

واتفق القادة على أن يذهب أوليسس مصطحباً معه بيروس ابن أخيل؛ (أونيوبتلموس كما كانوا يسمونه أحياناً) إلى جزيرة لمنوس ليريا هل الجندي الجريح ما زال يحيا هنالك، وقد بحثا عنه في أنحاء الجزيرة حتى عثرا به يئن في كهفه ويتوجع، ويشكو إلى غير سميع، فعرضا عليه أن يصحبهما إلى طروادة فأبى وجعله يشتد في الأباء تذكره هذا اليوم الأغبر الذي آثروا فيه تركه فوق تلك الجزيرة القاحلة لا أنيس ولا سمير، ولا لسان يرفه عنه وحشة الألم ووحشة المنفى الذي لا يدله فيه؛ وكبر عليه أن ينطلق مع هذا الجيش الذي جحده وغمطه حق الجهاد في سبيل الوطن، والذود عن شرف هيلاس واسمها المقدس. . .

ص: 62

وتركه أوليسس ليبروس يأخذه بالحيلة والرفق. . . ولكن بيروس ما يستطيع قط أن يقنع فيلوكتتيس. . . فيكاد يدعه برما متسخطا. . لولا أن يظهر طيف هرقل فجأة مرفرفاً في العلو ثم يأمر فيلوكتتيس، بعد تهويمة هنا وتهويمة هناك، أن ينصاع لما يأمره أوليسس به.

ولا يسع الجندي الكريم إلا أن ينطلق مع أوليسس. . . فيركب الجميع في السفينة إلى طروادة، ويلقاهم العسكر المشتاق بالبشر، ويهرع إليهم بالإيناس!

أليس في سهام هذا القادم الأعرج. . . النصر كل النصر؟!

ونفخ في صور الحرب، واشتجرت الأسنة، واستحر القتال، وتبوأ فيلوكتتيس مقعداً للرماية لا يبصره فيه أحد؛ في حين يبصر هو منه كل ما في الميدان! وراش سهامه!

وتتطايرت المنايا عن قوسه المرنان! وسعت إلى الطرواديين مصارعهم تهدهدها سهام هرقل، وتمهد لها يمين فيلوكتتيس! ومرق سهم منها إلى باريس!. . .

وكان يشرف على المعركة من أسوار إليوم!. . . فوقع يتشحط في دمه، ويغص بريقه، ويصرح من الألم الذي يسري في عروقه مع الدم. . . والسم!!

واجتمع حول باريس أبوه وذووه وعشيرته. . . وهيلين!. . .

وطفق الجميع يبكون في باريس إخوته، والذكريات السود التي أقبلت من كل صوب ترف فوقه وترنق على جبينه. . .

وأخذ الألم من باريس مأخذه. . . وراح المسكين يصرخ ويتلوى. . . غير آبه لما تغرقه به هيلين من قبلات دنسة، ودموع مسمومة، كانت الويل كل الويل على طروادة والطرواديين

وذكر، وهو يتجرع غصص العذاب أن حبيبته الأولى وزهرة صباه، ووردة حبه القديم، أيونونيه، كانت قد ذكرت له أنها تعرف من خواص الأعشاب المختلفة ما يشفي أقله أشد أوجاع الجروح وأنكاها وصبأً. . . فأشار إلى بعض أهله، وطلب إليه أن يذهب إلى سيف البحر عله يجد إيونونيه. . . فإذا لقيها فليخبرها بما انتهى إليه (حبيبها!) باريس، والآلام التي تعذبه وتشقيه، من جراء جرح هذا السهم المسموم. . . . . . بيد أن إيونونيه التعاسة. . . إيونونيه المعذبة. . . إيونونيه التي أخلصت لباريس الحب حتى عبدته. . . ذكرت ما كان من هجر هذا الحبيب وقلاه؛ وذكرت دموعها التي ذرفتها مرة تحت قدميه ضارعه

ص: 63

متوسلة. . . وتلك القساوة التي كافأها هو بها لما أن خدعته فينوس. . . وأوقعته في أحبولة هيلين. . . . . . فرفضت أبية شماء أن تذهب إليه. . .؛ والآلهة وحدها تعلم مقدار ما كانت تكنه له برغم هذا الرفض من الحب النقي. . . والصبابة الحزينة. . . والهوى المتأجج المشبوب!!

وقضى باريس!!. . .

وأعدت النيران الضخمة لتحرقه، فما هو إلا أن أشعلت من حوله حتى شوهدت إيونونيه المتبولة تخرج من لجة الهلسبنت وتعدو، كأن قد أصابها مس، حتى تكون تلقاء النار. . . فتقف باهتةً. . . وتتنهد طويلاً. . . وتقذف بجسمها الجميل المرمري الممشوق في اللهب. . وتصرخ صرخة مشجية. . . و. . . وتنتهي قصة حبها الباكي. . .

وتخط بيدها آخر سطر في كتاب باريس. . .

(البقية في العدد المقبل)

درني خشبة

ص: 64

‌البريد الأدبي

الأدب قبل هوميروس

يقدرون أن هوميروس عميد الشعر اليوناني وصاحب الإلياذة الشهيرة قد عاش قبل المسيح بنحو ألف عام؛ والمعروف أن هيرودوت (أو هرشيوش) أبا التاريخ قد عاش في القرن الخامس قبل الميلاد؛ ولكن انتهى إلينا نص كامل من الإلياذة، وانتهى إلينا نص كامل لتاريخ هيرودوت مع أن الأثرين الخالدين وضعا في عصور لم تعرف الكتب، فكيف كانت حال الأدب والتاريخ، وكيف كانت تتناقل الآثار الأدبية في هاتيك العصور؟ كانت الرواية السماعية ولا ريب هي أنجع الوسائل لتوارث التفكير والأدب، وأن كانت الآثار والنقوش والكتابات البردية أيضاً من وسائل تدوينها، وهذا ما تناوله العلامة الإنكليزي الأستاذ طومسون في كتاب ظهر حديثاً عنوانه (فن الرواية) وكلمه (لوجوس) رومية معناها (ما يقال) والأستاذ طومسون حجة الأدب اليوناني القديم، وهو يتناول في بحثه العلمي القيم فن الرواية في عصور ما قبل التاريخ وكيف كان هذا الفن يشمل التاريخ والشعر والقصص، وكيف أنها جميعاً تكاد تمتزج بعضها ببعض ويعني الأستاذ طومسون بوجه خاص لتحليل رواية هيرودوت وما فيها من الحقائق التاريخية الخالدة؛ ثم يعني ببحث الأساطير اليونانية الكبرى وأصولها ومراميها، وأصل الإلياذة، والأوذيسة؛ وتأثير الرواية في تطور العقلية الشعبية خلال هذه العصور، كل ذلك بأسلوب علمي محقق، ممتع في وقت معاً

وما يتناوله الأستاذ طومسون في كتابه هو نفس الحالة التي كان عليها الأدب العربي قبل الإسلام، فالشعر الجاهلي الذي ورثه الأدب الإسلامي، ووقائع العرب وايامها، وما يتخلل ذلك كله من القصص والأساطير، والمنثور والمنظوم، إنما انتقل خلال العصور بالرواية والسماع؛ وقد كانت الرواية في الجزيرة العربية بلا ريب أقوى وأنفذ، وكان أثرها بلا ريب أقوى في تكوين الأدب الجاهلي؛ وتقدم إلينا كتب الأدب الكبرى مثل الأغاني، والعقد الفريد صوراً بديعة مما كان عليه أدب الرواية في عصور قد ترجع إلى ما قبل الإسلام عدة قرون.

من كنوز البردي المصرية

يذكر القراء تلك الضجة التي قامت منذ أشهر حول تسرب الآثار المصرية القديمة خارج

ص: 65

القطر ومنها مجموعات ثمينة من أوراق البردي التي ترجع إلى العصر الروماني؛ وقد ظهرت فداحة الخسارة الأثرية والعلمية التي أصيبت بها مصر من جراء تسرب آثارها على هذا النحو في حادثين: الأول ظهور مجموعة ثمينة من أوراق البردي المصرية في برلين، وهي بإقرار الخبراء أثمن مجموعة من نوعها لأنها تحتوي على نصوص عدة كتب كاملة من كتب ماني الفيلسوف الفارسي وصاحب المذهب المشهور؛ والثاني ظهور بعض قطع وشذور من أقدم إنجيل معروف، وقد كتب باليونانية على ورق البردي الذي تسرب من مصر أيضاً.

وقد اقتنت مكتبات رايلاندس الإنكليزية الشهيرة بمنشستر طائفة من هذه الأوراق الثمينة منذ أعوام، وبدأت بنشرها، فأصدرت مجلداً يحتوي على نصوص طائفة من أوراق البردي المصرية منذ العصر اليوناني؛ وأصدرت أخيراً مجلداً جديداً يحتوي على نصوص طائفة من أوراق البردي المصرية منذ العصر الروماني؛ وأهمية هذا الجزء الأخير هي أنه يحتوي على مقتطفات من الإنجيل الرابع (إنجيل يوحنا) هي أقدم نصوص من نوعها؛ وهي باللغة اليونانية، ولكنها كتبت بمصر في عصر يقدره العلماء والخبراء بالنصف الأول من القرن الثاني للميلاد؛ وقد كان المظنون حتى اليوم أن إنجيل يوحنا يرجع إلى عصر متأخر نوعاً، يقدر بأواخر القرن الثاني؛ ولكن ظهور هذه القطع من إنجيله، وما اقترنت به من شواهد في الكتابة والحبر والهجاء تدل على أنها كتبت بمصر في عصر الإمبراطور هادريان، مما يحمل العلماء على تغير نظريتهم، والرجوع بإنجيل يوحنا إلى أوائل قرن الثاني أعنى إلى نحو سنة 120 م أما مجموعة برلين من أوراق البردي المصرية التي تحتوي على كتب ماني الفيلسوف فيجري بحثها اليوم بمعرفة العلماء الأخصائيين تمهيداً لنشرها والتعريف عنها وهكذا يتسرب تراثنا الأثري والعلمي على هذا النحو، ونحن شهود نرمق هذه الاختلاسات المتوالية باسم العلم والبحث.

مذكرات صحافي شهير

هنري نفنتون من أشهر الصحافيين الإنكليز الذين جابوا أنحاء العالم وشهدوا عظائم الحوادث في مختلف الأقطار والمناسبات، وقد عرف خلال حياته الطويلة الحافلة مختلف الشخصيات في ميادين الحرب والسياسة والأعمال؛ واتصل بالعظماء والأقوياء وزعماء

ص: 66

الثورات، وتجار الرقيق وبالشعراء والأدباء، والقتلة واللصوص؛ وشهد بنفسه كثيراً من الحوادث والانقلابات التي وقعت في أنحاء العالم منذ أواخر القرن الماضي؛ ففي سنة 1897 شهد الثورة اليونانية في كريت ضد الترك، ودرس الفظائع التركية في البلقان كما درس تجارة الرقيق في أفريقية وشهد في سنة 1905 مؤتمر الشباب الروسي لإلغاء عقوبة الإعدام، ورأى فلول الجيش الروسي المنهزم أمام اليابان؛ وعرف تولوستوي وتحدث إليه في منزله الريفي فذكر له إن ما يراه ليس ثورة وليس انقلابا، ولكنه يرى خاتمة عهد مضى؛ وشهد في سنة 1907 جهود آني بيزانت ودعايتها في الهند؛ وتجول في ميادين الحرب أثناء الحرب الكبرى، وشهد وقائع الدردنيل، وانسحاب الإنكليز من غاليبولي؛ ثم شهد بعد ذلك الثورة الإرلندية الوطنية، ومؤتمرات الصلح، وشهد احتلال الجنود السود لمناطق الرور في ألمانيا سنة 1923، وتجول في بيت المقدس وبغداد، وكتب عن دراساته ومشاهداته مقالات ومذكرات لا نهاية لها.

وقد اخرج مستر نفنتون أخيراً كتاباً ضخماً ضمنه كل هذه المشاهدات والدراسات بعنوان (نار الحياة)؛ وكتبه بأسلوب قوي شائق يمتزج فيه صدق المؤرخ وخيال القصصي، ويمتاز الكتاب بما يطبعه من روح إنساني قوي؛ ذلك إن مستر نفنتون رجل يضطرم فؤاده إنسانية ورحمة، ويجيش ذهنه بأشرف المثل فهو يطري الثورات الوطنية أنى وقعت، ويحمل على سياسة العنف والغصب أياً كانت، وينوه بالحقوق حيثما استحقت، ويندد بكل ما فيه قسوة أو تحامل، وينصر المثل السليمة والإنسانية أياً كان مصدرها، ويعتبر كتابه سجلاً بديعاً لحوادث نصف القرن الماضي.

الإذاعة المدرسية

كان يوم الاثنين الماضي بدء الإذاعة المدرسية التي شرعتها وزارة المعارف في عهد سعادة وزيرها الحالي - لفائدة تلاميذ المدارس. والمشروع جليل يستحق الاحتفال والثناء والشكر لوزير المعارف وكانت أولى المحاضرات بعد كلمة سعادة وزير المعارف في مفتتح الإذاعة، كلمة الأستاذ مهدي علام في:(عتاب بين الأدب العربي والإنجليزي!) ماذا يوحي هذا العنوان؟ أما عندنا، فكنا ننتظر أن نسمع حواراً بديعاً طريفاً بين العربية وأختها، وما اكثر ما يقتضي العتاب بين اللغتين! ولكنا. . . ولكنا لم نسمع إلا قطعتين من نماذج العتاب

ص: 67

في الأدبين، نشرهما المحاضر من محفوظاته، ثم ربط بينهما بهذا العنوان. . .!

قد يكون اختياره حسناً، ولكن لغة الكتابة غير لغة الإذاعة، وهذا مشروع جديد في وسائل التربية، فما كان أحوجه إلى الجديد من أقلام أهل التربية. . .!

ثم جاء دور المدارس الابتدائية، فأرهفنا السمع على شوق وأمل. . . وكانت تلاوة شعرية في (عمرية حافظ)، وعمرية حافظ لون من الشعر التاريخي، حبيبة إلى نفوسنا، يسرنا ويرضينا كل الرضى أن يفهمها ويعيها أولادنا؛ ولكن هل كانت الإذاعة المدرسية من أجل ذاك؟ فماذا يعمل مدرس المحفوظات. . .! وهنا أيضاً كما هناك، كان أدب ولغة، وخطابة وشعر؛ ولكن للكتاب لا للمذياع. . .!

واسألوا التلاميذ بعد ذلك ماذا سمعوا مما كانوا يترقبون أن يسمعوا؟

إن مئات من المدرسين في الوزارة يحسنون التحدث إلى التلاميذ بأحسن مما سمعوا يوم الاثنين؛ لا لأنهم خير من الذين أذاعوا، أو أفهم لروح الطفل؛ ولكن لأنهم قد يكونون أقدر على خلع شخصياتهم حين يتحدثون إلى الطفل.

ما نريد من هذه الإذاعة أن نجتلي علم فلان وفلان فما نشك في ذاك، وإنما نريد أن نعرف كيف يتجاهل العلماء حين يريدون الحديث مع هؤلاء العقول الصغيرة الفارغة، حتى يعيش الأطفال في دنياهم على حقيقتها.

إن في الأدب القديم وفي الأدب الجديد كثيراً مما يروق التلاميذ صغاراً وكباراً أن يسمعوه، أكثر مما يروقهم أن يقرءوه، وما نرى التلاميذ يؤثرون أن يسمعوا شيئاً أكثر مما يؤثرون القصص. وفي ثنايا القصص يقال كل شئ؛ وهذا رأي لا نحسبه غريباً عن المكتب الفني في وزارة المعارف، وإن كان غريباً عن هذه الإذاعة المدرسية.

وللمعلمين أيضاً إذاعة كما للتلاميذ، وكانت الإذاعة لهم (في الخاتمة) محاضرة قيمة في شؤون التربية والتعليم، ألقاها الأستاذ أمين مرسي قنديل. وليس في المحاضرة مما ينقد إلا شيئاً واحداً، هو أن أستاذاً في التربية يحاضر المعلمين عامة في القطر ثم لا يصحح نطق الجمل ولا إعراب الكلام.

يا معلمينا الأجلاء. افهموا تلاميذكم قبل أن تحاولوا تفهيمهم. . .!

معلم

ص: 68

أشعة الإخفاء

من أنباء بودابست أن كيميائياً مجرياً فتي يدعى ستيفان بربيل أذاع أنه قد اكتشف نوعاً جديداً من الأشعة يخفي الأشياء إذا سلطها عليها، وأنه اخترع في نفس الوقت مادة تحول دون اختفاء الأشياء إذا سلطت عليها هذه الأشعة؛ وإنها إذا سلطت أخيراً على باب أو جدار أمكن رؤية ما وراءه. وقد أثارت هذه الدعوى في المجر دهشة واهتماماً عظيمين، ولكن المخترع الشاب لم يجد كالعادة ما يطمح إليه من التشجيع الجدي؛ ولذلك يمم شطر لندن ليقوم هنالك بعرض اختراعه، وقد صرح إلى الصحف الإنكليزية بأن الأشعة التي اخترعها إذا سلطت على سيارة اختفت في الحال عن الأنظار؛ وأنها إذا سلطت على غرفة تضم عدة أشخاص، فأن أولئك الأشخاص يتوارون عن العيان ولا يبدو منهم سوى أشباح كالظل؛ وهنالك أشياء عجيبة أخرى يحققها هذا الاختراع المدهش، فمثلا يمكن استعمال هذه الأشعة في المسرح وفي السينما، فتأتي بنتائج عجيبة في تسهيل المناظر وتغييرها

ومع أن ماهية هذا الاختراع لم تثبت بصفة قاطعة، فإنه يذكرنا بأي حال بما نقرأه في كتب القصص القديمة من طلاسم كانت تستعمل للاختفاء عن الأنظار، وليس بعيداً بعد الذي نشاهده اليوم من أعاجيب العلم أن يتحقق اختراع الفتى المجري وغيره من الأمور التي كانت تبدو فيما مضى مستحيلة، فإذا هي اليوم موضع المحاولة والبحث الجدي.

زينة المرأة الحديثة

هل يسير الجمال النسوي بما تختاره المرأة اليوم لنفسها من صنوف الزينة والتجميل إلى الكمال؟ أم أن المرأة أسرفت في الالتجاء إلى الصناعة حتى أصابت من جمالها الطبيعي؟ يقول الأستاذ أولان دي لو رئيس قسم الفنون الجميلة بأكاديمية بروكسل في محاضرة له عن (أحوال الجمال في عصرنا) إن المرأة الحديثة تؤذي نفسها وجمالها ومن حيث لا تريد، وإنها تبدو اليوم شاحبة سقيمة، وأن الأصباغ والمساحيق المختلفة تجعل من وجهها (قناعاً من الورق المقوى). أما تجميل الأظافر واحمرارها فمما يجعل المرأة الأنيقة تبدو كأنها وصيفة أو طاهية عاطلة.

بيد أنه يلاحظ من جهة أخرى أن الحكم المطلق على وسائل التجميل والزينة فيه تحامل

ص: 69

على المرأة، فمما لا ريب فيه أن المرأة في حاجة إلى التجميل، فقد نستطيع مثلا بالقلم الأسود أن نصحح عيباً في الحاجب، وليست وسائل التجميل كلها مغرقة أو مضحكة، والمرأة الفنانة ذات الذوق الحسن تستطيع أن تسبغ على وجهها من حسن الصنعة جمالا لم تمنحه إياها الطبيعة، وفي وسعها أن تعتدل في استعمال الدهان أو التلوين؛ أما الحكم فيجب أن ينصب على التجميل المفرق وعلى الإسراف في وسائله؛ والزينة هي بلا ريب ضرورة للمرأة الحسناء لا تستطيع عنها غنى، كما أنها لا تستطيع دون إضرار بجمالها وذاتها أن تهمل في زينة ثوبها أو شعرها أو قبعتها؛ ولو أن النساء الأنيقات عملن بنصح الأستاذ أولان وتركن ما يلجأن إليه من وسائل الزينة لفقدن كثيراً من أناقتهن وجمالهن.

ص: 70

‌النقد

رد على نقد

3 -

كتاب تاريخ الإسلام السياسي

للدكتور حسن إبراهيم حسن

مؤلف الكتاب

لاحظ القارئ في مقالينا السابقين مبلغ تلك المآخذ التي أوردها الناقد من الصواب وأنها لا تغني من قيمة كتابنا شيئاً. فأي تجنٍ وأي ظلم إذا ذهب هذا الأستاذ، بعد أن شغل قراء (الرسالة) بمقالين طويلين يزهو مقسماً بعمره - وليس بهين - إن هذه الأغلاط التي كشفها يذهب بعضها بمحاسن أي كتاب يرد فيه، فكيف بها كلها؟

نترك حضرة الناقد يزهو في غير عجب، ويتعلق بلا سبب؛ ونهمس في أذنه بأن إيراد تلك العبارة التي قدم بها كلمته الثالثة تذكرنا بالحكمة العربية (كاد المريب أن يقول خذوني). ثم نكِر على بعض تلك العيوب التي لحظها على طريقتنا في الأخذ من المصادر التاريخية لنتبين إن حظه فيها ليس بأحسن من حظه فيما سماه (مآخذ تاريخية وجغرافية)، وإذا كان يقول إن سوء حظه أبى عليه أن يقدم الثناء للمؤلف، فهناك من اطلعوا على كتابنا - وهم كثيرون - قد شاء حسن حظنا أن ننال تقديرهم ونغمر بفضلهم وتشجعهم. ولا أدل على هذا مما نشر في الصحف والمجلات في مصر والشام والعراق وغيرها، ومن أن الطبعة الأولى من الكتاب كادت أن تنفذ؛ ولا يعدم الحق مؤيداً وظهيراً.

يتهمنا حضرة الناقد بأننا حملنا متن الكتاب من الشروح والحواشي حملاً ثقيلاً، وكلفنا نفسنا شططاً وقراءنا مشقة وعنتاً، حيث أننا راعينا الأمانة في النقل، فنسبنا كل قول لقائله، وأسندنا كل رأي إلى مرجعه. ويرى حضرته أننا لم نقصد بذلك إلا ابتغاء السمعة، وأن نلقي في روع القارئ أننا في التاريخ واسعوا الاطلاع طويلو الباع ما كتبه الأوائل والأواخر!

لندع هذا الكلام الذي ينم عن الغرض من نقده، ونناقشه بكل هدوء في هذه العيوب التي حال تبينه وبين كلمة ثناء يكيلها لنا جزافاً.

ص: 71

كل من اطلع على كتابنا يدرك لأول وهلة أننا أردنا أن يكون مرجعاً علمياً تاريخياً لمن يريدون التوسع في التاريخ الإسلامي

وليس من المعقول أن كتابا سيقع في ستة مجلدات لا ينقص أحدها عن ستمائة صفحة قد قصد في وضعه أن يكون في متناول الطلاب الذين لم يتموا الدراسة الثانوية - فإذا أكثرنا من ذكر المصادر، وإحالة من يريد التوسع عليها، فليس الغرض أننا نبغي السمعة عند الناس كما يتهمنا الناقد - سامحه الله - وإنما هو انتهاج الطريقة الحديثة، مراعاة للأمانة، وكشفاً للطريق لمن يريد زيادة التحصيل، وتبرؤاً من قول قد لا يتفق ورأينا الشخصي. أما الزعم بأن كتابنا من الكتب المدرسية التي جرى العرف بأن يقتصر فيها من ذكر المراجع في صلب الفصول على الضروري فزعم لا يتفق ووضع الكتاب وطريقة البحث فيه، ويدرك ذلك من عنده أدنى تأمل؛ وإذا كان حضرة الناقد كلف نفسه بعض المشقة لوجد أننا عمدنا إلى الطريقة الثانية المختصرة في كتابنا (تاريخ العصور الوسطى في الشرق والغرب) للسنة الثانية الثانوية.

وليت شعري كيف يحكم حضرة الناقد بأن كثرة المراجع التي اعتمدنا عليها صورية لا حقيقة، وكيف يدعي بأن حرصنا على التكثر والتزيد قد حملنا في كثير من الأحيان على أن ندلل على ما لا يحتاج إلى دليل، وأن نعدد المراجع ولو كانت في مرد أمرها ترجع إلى مصدر واحد؟ أليس أحق بالغرابة والإشفاق أن يتخذ من إحالتنا القارئ لخطبة أبي بكر على أربعة كتب قديمة اختلفت رواياتها بعض الاختلاف، سبباً في أننا ندلل فيما لا يحتاج إلى دليل؟ أننا لا نشك في أن البحث التاريخي الحديث يوافقنا، بل يطلب أن نعدد المراجع ما استطعنا، ولو لم تخلف الروايات من تقديم أو تأخير، ما، أو إبدال لفظ بلفظ. فما بالك وتلك المصادر الأربعة قد ذكرت في كل منها الخطبة مختلفة عن زميلاتها بعض الاختلاف؟ على أننا لم ندر ما هو الضرر الذي يلحق بالكتاب ويصيبه في نظر الناقد من ذكر المصادر، أربعة أو أكثر أو أقل، حتى عن خطبة قيمة يعرفها طلاب المدارس وينكرها بعض الأساتذة.

ولقد طوح القلم بحضرة الناقد، ودفعه الحرص على إلصاق العيوب إلى التهجم على كتاب يعتبر أصح الكتب بعد كتاب الله بإجماع المسلمين، ذلك هو صحيح الأمام أبي عبد الله

ص: 72

البخاري. وإننا بدورنا نبادر ونطلب من الناقد أن يستغفر من ذنبه، فان إمام المحدثين البخاري هو الذي روى ذلك الحديث الذي جرى بين أبي سفيان وبين هرقل قيصر الروم في الشام (راجع باب بدء الوحي في البخاري)؛ كما أن هذا الحديث، وقد أجمع على صحته المحدثون، لم يحمل في ثناياه أدلة ضعفه وانتحاله - كما يقول الناقد - وأنه ذو خطر عظيم؛ فأنه يوضح بأجلى بيان كيف كان المشركون وعظماء قريش ينظرون إلى الرسول قبل إسلامه، وكيف كانوا يعرفون صدقه وأمانته كما يعرفون آبائهم وأبنائهم. وكيف لا يقدم هذا الحديث الصحيح في فهم سيرة الرسول ولا يؤخر؟ وقد كان أيضاً سبباً مباشراً فيما عرضه هرقل على بطارقته من الإسلام لولا أن حاصوا حيصة حُمر الوحش إلى الأبواب (راجع هذا الباب في البخاري)

أما أننا لم نقصد إلى مناقشة هذه النصوص التي وردت في شرح البخاري ومقارنة رواياتها المختلفة بعضها عن بعض، وأننا لم نبين ما اتفقت فيه وما اختلفت من حيث اللفظ والمعنى الخ، فان هذا ليس بذي خطر؛ فضلاً عن أنه يخرج بنا عن المقام. ومالا يترك كله

ولعل من الغرابة أن يجعل الناقد من أسباب الخطر على مقدرتنا في نقد المراجع وتقويمها أننا وافقنا على نسبة كتاب (فتوح الشام) للواقدي، وأننا استعنا به في الفصل الذي عقدناه لفتح العرب الشام، ثم أنبرينا لمناقشته ومجادلته، وأننا كذلك اعتمدنا في عدة مواضع على كتاب (الإمامة والسياسة) المنسوب لابن قتيبة. ويقول الناقد إن الكتاب ليس للواقدي، وان كل شئ في الكتاب الثاني يدل على أنه ليس لابن قتيبة، وإنما هو لكاتب أندلسي.

أما إن نسبة هذين الكتابين لهذين المؤرخين أو غيرهما فلا يقدم ولا يؤخر في الموضوع، - على كل حال - يوضحان الحياة العامة السياسية في العصور التي تناولناها في كتابنا. وقد تضافرت المصادر الأخرى على صحة القدر الغالب مما ورد فيهما. على أن مجرد إنكار نسبة الكتابين للواقدي وابن قتيبة لا يكفي، بل يدعو إلى الابتسام، اللهم إلا إذا اعتمد المنكر على غير (غالب الظن)، و (الاعتماد على بعض ما كتبه الإفرنج)، مما لا يعتد به المنطق التاريخي ولا يدعمه دليل مبين. وإذا كان الظن في كل المسائل لا يعني من الحق شيئاً، ففي المسائل التاريخية خصوصاً يكون أبعد من الحق منالا وأدنى للباطل مجالا.

(يتبع)

ص: 73

حسن إبراهيم حسن

ص: 74

‌الكتب

1 -

الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير:

لابن الساعي

2 -

الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة:

لابن الفوطي

للأستاذ محمد بك كرد علي

- 1 -

كتبت في مجلة المقتبس (م 3ص 93 - 1326 - 1908) مبحثا لفت فيه أنظار المشتغلين بالتاريخ إلى جزء من (الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير) لابن الساعي البغدادي (674) كان عثر عليه العلامة احمد تيمور باشا في دشت وضمه إلى خزانته رحمه الله. واليوم نشر الأستاذ مصطفى جواد بمعونة الأب انستاس ماري الكرملي هذا الجزء بعينه وهو التاسع من كتاب طويل. وللمؤلف اكثر من ثلاثين تأليفاً منها ما يدخل في بضعة مجلدات، وأكثرها في التاريخ والتراجم، ساعده على الاستكثار من التأليف كونه كان خازن كتب المدرسة المستنصرية ببغداد، إلى ما خص به من الدؤوب وثقوب الذهن ووفرة العلم. ولابن الساعي وهو على بن أنجب كتاب صغير طبع في المطبعة الأميرية بمصر 1309 وهو مختصر أخبار الخلفاء، يبدأ بظهور الدولة العباسية وينتهي بانقضائها.

وفي هذا الجزء التاسع من الجامع المختصر حوادث سنة 595 إلى 606 هـ يذكر فيها مجملة تم يترحم لمن ماتوا في تلك السنة من الأعلام، وفيه كثير من الفوائد التاريخية. ومعلوم عند الباحثين أن هذا العصر أحط عصور بني العباس، ولا ندري كيف يثبت ناشر الكتاب أن (العصر الذي تناول حوادثه هذا التاريخ من أزهر عصور بني العباس وأعظمها قوة ونظاماً)، وعصر الناصر على غلو المؤرخين من الشيعة فيه - لأنه تشيع - كان في الواقع عصر تراجع سلطان العباسيين، فاكتفوا ممن سلبوهم حكم بلادهم بالسكة والخطبة، وما كان يخطر ببالهم أن يتكرموا به على الخليفة من إتاوة، والخلفاء يكيلون لكل متغلب ما

ص: 75

شاء الله من الألقاب ويطلقون على أحد العلماء (ص234): (الأجل السيد الأوحد العالم ضياء الدين شمس الإسلام رضى الدولة عز الشريعة علم الهدى رئيس الفريقين تاج العلماء. . .) ويكتبون عن أنفسهم: (المواقف الشريفة المقدسة النبوية الأمامية الطاهرة الزكية المعظمة المكرمة الممجدة الناصرة لدين الله تعالى. . .).

وفي الكتاب تراجم بعض المشاهير في تلك الحقبة وعهود وتقاليد صدرت عن خليفة الوقت بأقلام المنشئين في ديوانه. وقد وقعت للناشر هفوات لغوية وتحريف بعض آيات الكتاب العزيز منها (ص 196)(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك الظالمون). وغلط (ص87) بأن حرف الآية هكذا (الذين كفروا بعضهم أولياء بعض) وصحة الآية الكريمة (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) إلى غير ذلك.

- 2 -

طبع الجامع المختصر في بغداد وقبله طبع فيها كتاب الحوادث الجامعة لابن الفوطي (بالفاء) البغدادي المتوفى سنة 723 بدأه بحوادث سنة 626 وانتهى بأخبار سنة 700. وللمؤلف يد طولى في التاريخ ووقوف تام على سياسة عصره، وأورد في تاريخه الممتع من الحوادث ما كملت به سلسلة التاريخ في العراق على عهد الانحطاط العباسي. ومن أهم فصول الكتاب وصف المؤلف فاجعة هولاكو التتري سنة 656 وقضاءه على الخليفة المستعصم وعلى جميع آل العباس مع ذراريهم وحرمهم وتخريبه بغداد ووضعه السيف في أهلها. وقد قدر القتلى منهم بأكثر من ثمانمائة ألف في بغداد فقط (عدا من ألقي من الأطفال في الوحول، أو من هلك في القنى والآبار وسراديب الموتى جوعا وخوفاً)(واحرق معظم البلد وجامع الخليفة وما يجاوره واستولى الخراب على البلد) وصف ذلك وصفاً ممتعاً لا إفراط فيه ولا تفريط وقد ساعد المؤلف على هذا التوسع والتبسط في الحوادث التي عرض لها أنه كان كأستاذه ابن الساعي أيضاً خازن كتب المدرسة المستنصرية. وذكر في حوادث سنة 631 ترجمة محمد بن يحيى بن فضلان، وفتح المدرسة المستنصرية، وأبن فضلان هذا كان من العلماء درس في النظامية والمستنصرية (وولى النظر بديوان الجوالي - أي جزية أهل الذمة. حكى عنه انه كتب للخليفة الناصر لدين الله لما كان يتولى ديوان الجوالي رقعة طويلة يقول فيها إن أجرة سكنى أهل الذمة في دار السلام والارتفاق بمرافقها لا يتقدر

ص: 76

في الشرع بمقدار معين، في طرف الزيادة، ويتقدر في طرف النقصان بدينار؛ وطلب إلى الخليفة أن يتضاعف على كل شخص منهم ما يؤخذ منه. وقال انهم ضروب وأقسام، منهم من هو في خدمة الديوان وله المعيشة السنية غير بركة يده الممتدة إلى أموال السلطان والرعية من الرشا والبراطيل؛ ولعل الواحد منهم ينفق في يومه القدر المأخوذ منه في السنة؛ هذا مع ما لهم من الحرية الزائدة والجاه القاطع والترقي على رقاب خواص المسلمين. . . ثم ليس لهم في بلد من الحرمة والجاه والمكانة ما لهم في مدينة السلام، فلو تضاعف المأخوذ منهم مهما تضاعف كان لهم الربح الكثير؛ ومنهم الأطباء أصحاب المكاسب الجزيلة بترددهم إلى منازل الأعيان وأرباب الأموال ودخولهم على المتوجهين في الدولة؛ والناس يتحملون فيما يعطون الطبيب زائداً على القدر المستحق، وهو أمر من قبل المروءات، فلا ينفكون عن الخلع السنية والدنانير الكثيرة، والطرف في الموسم والفصول، مع ما يخطئون في المعالجات ويفسدون الأمزجة والأبدان، ويخرج الصبي منهم ولم يقرأ غير عشر مسائل حنين، وخمس قوائم من تذكرة الكحالين، وقد تقمص ولبس العمامة الكبيرة، وجلس في مقاعد الأسواق والشوارع على دكة حتى يعرف، وبيديه المكحلة والملحدان، يؤذي هذا في بدنه، ويجرب على ذا في عينه؛ فيفتك من أول النهار إلى منزله ومكحلته مملوءة قراضة، فإذا عرف بقعوده على الدكة وصار له الزبون قام يدور، ويدخل الدور. ثم ذكر أصناف الحرف التي كان يحترفها أهل الذمة في ذاك العهد ويغشون فيها. وهذه الرقعة أو التقرير على ما يلمح فيه من التعصب يحمل حقائق من وصف المجتمع البغدادي في القرن السابع. وهذا التاريخ مجموعة حوادث وأفكار مهمة جداً. وقد قدم له العلامة رضا الشبيبي من علماء العراق مقدمة ذكر فوائده؛ ونظر فيه وعلق عليه الأستاذ مصطفى جواد.

محمد كرد علي

ص: 77