الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 135
- بتاريخ: 03 - 02 - 1936
محمد
لتوفيق الحكيم
وهذا كتاب آخر قد نسقه فن آخر، ليعين رواجح الأحلام على اجتلاء، شخصية سمت ببطولتها عن البيان، واكتناه سيرة جلت بقداستها عن الفهم. وشخصية الرسول الكريم وسيرته أصبحتا اليوم في الشرق والغرب موضوع الدرس المفصل، وموضع التحليل العميق. وأنى للبصر المحدود أن يدرك ما لا يحد؟ وللبصيرة المتناهية أن تبلغ ما لا يتناهى؟!
حاول هيكل تعريف هذا الإشراق الإلهي من طريق العقل فأتخذ الدليل، وحاول طه حسين أن يصوره من طريق القلب فأصطنع الأسطورة، وحاول توفيق الحكيم أن يمثله من طريق الغريزة فأستعمل الحوار، والحوار ولاشك غريزة الحياة وأسلوب المجتمع، تجري به الحوادث، وتنتقل عليه الأحاديث، وتتردد فيه المآرب، وتوشك لغة الخطاب لا تعرف من ضروب الكلام غيره. هو لسان الوجود اليومي، يترجم عن رغائب النفس في غير كلفة، وينقل عن سوانح الذهن من غير إجالة، وينم على مرامي الهوى في نبرات الصوت، ويكشف عن طوايا الصدر في لحن الكلام، ويشف عن أحاسيس الروح في لهجات الحديث، ثم يصطبغ بصبغة الزمان والمكان والموقف والمناسبة؛ فإذا أنت سجلته بالحق أو مثلته بالصدق، فقد صورت الوجود المعدوم أكمل صورة، وجلوت الماضي المبهم أتم جلاء؛ ولكن تسجيل الحوار على عمومه عمل من وراء الإمكان ومن فوق القدرة، فقصارى جهد الإنسان أن يروي معناه بالسند فيكون التاريخ، أو يموهه بالخيال فتكون القصة، أو يزخرفه بالوهم فتكون الأسطورة. أما تمثيله على النمط الذي جرى عليه فهو الفن المبدع الذي يمده الإلهام وتهديه الطبيعة. يجرد الحادث من فضول الرواية ونافلة الحديث فيرده إلى جوهره ويحيله إلى بساطته، ثم يبعث الأشخاص، ويجدد الأمكنة، ويعيد الملابسات، ويحيي البيئة، ويرجع بالقارئ إلى عصره، فيحيا حياته، ويعايش أهله، فيرى بعينه ما يعملون، ويسمع بأذنه ما يقولون، ويدرك بنفسه موانع الحال ودوافع الموقف؛ وذلك ما عمله توفيق الحكيم في كتابه الجديد (محمد): عمد إلى المواقف الخطيرة في حياة الرسول، والمواقع العظيمة في تأريخ الرسالة، فمثلها على الوضع الذي كانت عليه، بالعمل الذي حدث، وبالحوار الذي
جرى، وبالروح الذي انتشر، ثم صور البواعث النفسية التي أغفلها المؤرخ، وأظهر الألوان المحلية التي أحاطها الزمن، فاتصلت الأسباب، استبانت العلل، وتحددت الفروق، ووقع الأمر من حك موقع المألوف من غير التواء ولا فلسفة. أقرأ في كتاب توفيق الحكيم موقعة بدر أو حديث الأفك أو وفاة الرسول، ثم أقرأها في كتاب من كتب التاريخ تجد ما قلته لك قد صار أوضح في المثال وأوكد بالموازنة.
لم يرد توفيق الحكيم أن يجعل من سيرة الرسول رواية؛ فإنه لو أراد ذلك لما سلم من لوم رجل الدين، ولا برئ من نقد رجل الفن؛ إنما هي مناظر مجلوة على أسلوب الحوار لا يجمعها قانون الوحدة، ولا يربطها تسلسل الزمن. ولقد ظهر هذا النوع أول ما ظهر في (الرسالة) حين اقترحت على الأستاذ الحكيم أن يكتب على طريقته هجرة الرسول في أول عدد من أعدادها الممتازة؛ فتهيب الأمر بادئ ذي بدء، ثم تخوف المتزمتين أن ينكروا عليه فعله، ثم أقدم فعالج الموضوع في حذر وحيطة، ثم ترقب ما يكون من رأي الناس، فإذا هم يقرءون في لذة ويحكمون في نزاهة، فمضى بعرض جوانب السيرة هذا العرض الواضح في مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة طوى عليها هذا الكتاب. والأرجح أن هذا الأسلوب سيجد مكانة في تأريخ الأدب المعاصر، فإن شاعراً من شعراء مصر نحا نحوه في مقتل حمزة، وكاتباً من كتاب الشام حذا حذوه في موقعة بدر.
هذه كلمة عجلى كتبناها عن طريقة الكتاب على قدر ما أتسع المكان والوقت؛ وفي أكثر المناظر منه مواقف للإعجاب وفي أقلها مواقف للإعجاب وفي أقلها مواقف للمؤاخذة، وسيقف الناقد النزيه منها موقف العاذر أو العاذل على حسب رأيه في الفن وحريته. ولست اليوم بسبيل الكشف عن سر الكتاب وفنه، إنما هي تقدمة وتحية؛ وسنقرأ عنه ثم تقرأ في باب النقد أو في باب الكتب.
وبعد فإن للرسالة أن تغتبط بتفوق الله فيما تجاهد له، فلقد كان لها نصيب منتج في توجيه الأدب العربي الحديث في مصر وفي غير مصر إلى هذه الغاية العليا. كان أدبنا منذ قليل يتخلق بغير خلقه، ويتزيا بغير زيه؛ يرد المنابع البعيدة ونهره قريب، ويستجدي الأنامل الكزَّة وخيره عمم، حتى جف ما بينه وبين أصله، وانقطعت الأسباب بينه وبين أهله، فأصبح اليوم بفضل هذا التوجيه الحميد موصول الحبل بماضيه، معقود الرجاء بمستقبله،
مطوي الفؤاد على قصده، وما دام على الدرب الأمين القاصد فهو لا بد في القريب أو في البعيد واصل.
أحمد حسن الزيات
7 - كلمة وكليمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ليس في الشرف كأداء الواجب بشرف
الوعد السياسي جريء في الكذب، جريء في الاعتذار، حتى أنه ليعد بإحضار القمر حين يستغني عنه الليل في آخر الشهر. . . فإذا لم يجيئوا به قالوا: سيتركه الليل في الشهر القادم. .
الزمن ضعيف في نصرة الضعيف؛ فإذا قالت دولة أوربية لدولة شرقية: سأدعك في سنة (كذا)، فمعناها في سنة (دائماً) التي لا أعرفها لا أنا ولا أنت ولا الزمن. . .
كما تضرب السياسة بقنابل حشوها البارود والرصاص؛ تضرب بقنابل حشوها المطامع والمناصب. . . .
لا يجيء الاتحاد القوي من وحدة الأحزاب المختلفة، ولكن من وحدة الحالة الواحدة في الأحزاب المختلفة.
للسياسة أحياناً أسلوب كأسلوب المرأة ذات العشاق، إذا وافق بعضهم بعضاً على النكاية بها، فرقت بين حظوظهم منها، فما أسرع ما يختلفون.
قال ذئب سياسي لخروف سياسي: أريد الاتفاق معك (حالاً). فقال الخروف: ويلك! إذا كنت أنت ذئباً للحمى، فهل تكون (حالاً) هذه إلا ذئباً آخر لعمري؟
لم يضيع الشرقيين ضعف القوة أكثر مما ضيعهم ضعف البصيرة.
تالله ما أذل الشرق إلا هذا التصوف، وتالله ما يعز الشرق إلا هذا التصوف بعينه، إذا أنتقل عن رجاله إلى رجال المال والحكم والسياسة.
كنت مرة في ضيافة رجل من أهل القرى مع أحد علماء الفقه، وذهبنا مع القروي إلى أرضه وفيها نخلة متهافتة ليس أهون منها على صاحبها. فقال له الفقيه: أحب أن تهب لي هذه النخلة في مغرسها بحدودها الأربعة. قال قد وهبتها لك. قال الفقيه بحدودها الأربعة؟ قال الرجل الطيب: نعم.
فقال له الفقيه: الآن وهبت لي أرضك كلها وخرجت منها شرعاً. . . فهذا فضاء ولا حدود للنخلة إلا آخر ما تملك منه في الجهات الأربع. هكذا يملك دهاةُ الفقه السياسي البلاد
العريضة إذا ملكوا ولو نخلة فيها، غير أنهم يسمون حدود النخلة (تحفظات) النخلة. . .
يكاد يقال اليوم إذا عدت العناصر الأرضية: أنها النار والماء والهواء والتراب والأسطول الإنجليزي. . .
كل ما استعنت به على الحبيب الملول، أعان الملل في نفسه
لا تعاتب حبيبك الذي مل، فإذا مرض الحب مات العتاب
أكثر صبر العشاق من قلة الحيلة. . .
كذب الحبيب كذب مر، لأنه خرج من الفم الحلو
جمال التواضع في الصديق أن يستمر دائماً في شكل تواضع، وجمال الخضوع في الحبيب ألا يستمر دائماً في شكل خضوع.
تنظر المرأة بقلبها إلى أشياء لا تراها بعينها
أحترس في العداوة مما تبدأ به العدوة؛ وأحترس في الحب مما ينتهي به الحب
لا تنسى الإساءة امرأة لأنها قليلاً ما تذكر الحسنة
كيف تتحرر المرأة إذا كان حكم الطبيعة أن أفضل ما تحرر به نفسها أن تجد من تقيد به نفسها؟
يا ويل المرأة من قلبها حين يكون محروماً! يا ويل المرأة من قلبها حين يكون فيها كالمنفي في غربة!
أبت الدنيا أن تفسر كل عجيبة إلا بما هو أعجب منها. وهذه هي العجيبة
لو كانت اللذة في اللذة نفسها لما شقي أحد، لتيسرت لكل الناس كما تيسرت لكل البهائم؛ ولكن أكثر اللذات لا يلذ إلا في التركيب الوهمي الذي أكثره في الخيال وأقله في الواقع.
ما دامت أخلاق البهائم في الناس، فصلاح الإنسانية سيبقى دائماً في هذه المعاني الثلاثة: الراعي، والحبل، والعصا. . .
من لؤم الكذب وشره أنك لو صدقت بكلمتين وكذبت بثالثة، كنت كأنك صدقت باثنتين وكذبت بثلاث.
كيف تصلح الدنيا وفي كل أرض يعمل على عكس قوانينها - قانون الجو وقانون الأرض؟
شقاء العبقري من نفسه؛ فإن ظل يعمل تعبت به، وأن ترك العمل تعب بها.
أين الحقيقة الكاملة من العقل الإنساني ونحن نرى كل عقل لا يعطي منها إلا قدر ما يسع منها؟
أسكت عن السفيه فإن ذلك إلا يجعله كريماً مثلك لا يجعلك لئيماً مثله.
قيل لمغرور متكبر يُخَنخِنُ في خياشيمه إذا تكلم: لماذا تتكلم من أنفك؟ قال. لأني لا أجد في العالم من أكلمه بملء فمي. . . . . .
لو رد العالم على هذا المغرور لقال له: كل الحمير تنهق بملء أفواهها إلا أنت. . . . .
إذا صغرت النفس من لؤم صاحبها، كبرت بلسان صاحبها.
الصورة الثانية للرجل المضحك جداً، هي أن يظهر نفسه عظيماً جداً.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
السياحة في مصر
ومتى تغدو موردا قوميا؟
بقلم سائح
مصر بلد الآثار الباقية والذكريات الخالدة؛ آثارها وذكرياتها ترجع إلى أقدم عصور الخليقة، وتراثها الأثري والفني منوع في عظمته، ممتد على كر العصور والمدنيات؛ ومنذ عصر الفراعنة، حيث يغيض التاريخ في ظلمات المجهول، ومنذ الحضارة المصرية اليونانية، والحضارة المصرية الرومانية، إلى الحضارة المصرية الإسلامية، تتكدس الآثار والذكريات الخالدة في أرض مصر صنوفاً متعاقباً، حتى غدا تراث مصر الأثري والفني في روعته وفي عراقته وتباين أعصره وصنوفه، أغنى وأثمن ما عرف من بقايا الحضارات الذاهبة القديمة والوسطى.
وقد كان حرياً ببلد كمصر يتمتع بمثل هذا التراث الثري الباهر إلى جانب ما يتمتع به أثناء الشتاء من طبيعة ساحرة وشمس وضاءة ودفء لذيذ، أن يغدو كعبة حقيقية للسياحة والسياح من سائر أنحاء الأرض، وأن يجعل من السياحة مورداً قومياً لا بأس به، وأن يستغل هذا المورد بوسائل وأساليب جذابة مجدية، وان يسيطر على مرافقه ونواحيه بطرق عملية شاملة، وألا يدخر وسعاً في الحرص عليه كمورد قومي ثابت، أو في السعي بتنميته بجميع الوسائل والنظم.
ولقد غدت السياحة في كثير من البلاد مورداً قومياً للكسب، وأضحت وسائل استغلاله وتنميته في بلاد كثيرة لا تتمتع بمثل تراثنا الأثري، ولا مثل جونا الساحر، صناعة حقيقية؛ لكن مصر ما زالت في المؤخرة من حيث دراسة هذه الصناعة المحدثة وفهمها والانتفاع بوسائلها. نعم أن في مصر موسماً للسياحة، وما زالت مقصد ألوف من السياح من مختلف البلاد في كل شتاء ولكن هذا الموسم لا يقوم على أسس ثابتة، بل يترك أمره للظروف والمصادفات الخارجية، وتكاد مصر تقف منه موقفاً سلبياً محضاً؛ فإذا كان الموسم حسناً مزدهراً، فأن ذلك يرجع عادة إلى ظروف خارجية لا دخل لمصر فيها، وإذا كان الموسم سيئاً مجدباً، كما هو الشأن منذ أعوام، فأن مصر لا تبذل من جانبها أية جهود عملية مجدية لاجتذاب السياح، والعمل على مقاومة العوامل والأسباب التي يمكن أن يرجع إليها مثل هذا
الكساد.
على أن موسم السياحة المصري ليس في الواقع مصرياً إلا بالاسم، ومن الظلم أن يحسب على مصر بصورته الحالية، فليست مصر أو الهيئات المصرية هي التي تجني ثماره، وتستغل موارده بقدر ما يجنيها ويستثمرها الأجانب والهيئات الأجنبية؛ ذلك أن كل ما تجنيه مصر من هذا الموسم يكاد ينحصر في أجور السكك الحديدية ورسوم المتاحف والآثار وأجور التراجمة وأثمان بعض السلع والمنتوجات القليلة التي تعرض للبيع أثناء الموسم، وهذا كله قليل بالنسبة إلى ما تجنيه الوكالات والفنادق والمتاجر الأجنبية من الأرباح الطائلة؛ وهكذا يستغل موسم السياحة المصري باسم مصر، ومصر تقنع منه بالفتات الضئيل.
وهذه حقيقة مؤلمة؛ بيد أن أشد ما يؤلم فيها هو أن هذا الغبن الفادح الذي يلحق مصر في مورد من مواردها المشروعة ترجع التبعة فيه إلى مصر ذاتها، والى ما تبديه هيئاتنا الرسمية وغير الرسمية من قصور وتقصير في تنظيم الدعاية لمصر في الخارج، وفي تنظيم شؤون السياحة الداخلية بوسائل مجدية وطرق جذابة وفي توفير أسباب اليسر والراحة للسائحين؛ ومن الحقائق المعروفة في أوساط السياحة الخارجية أن نفقات السياحة في مصر تصل إلى حدود مرهقة، ولا يكاد يتحملها سوى كبار الأغنياء والموسرين، وأن السياح المتوسطي الحال يقاسون فيها من فداحة الأجور وعدم توفر أسباب الراحة؛ وهذه الحقيقة وحدها تبعد عن مصر عشرات الألوف من السياح الذين تسرهم زيارتها لو توفرت فيها أسباب الإقامة المعتدلة، كما هو الشأن في معظم مراكز السياحة في أنحاء العالم.
ولنبدأ بمسألة الدعاية، فنقول أن مصر ما زالت متأخرة في هذا الميدان بصورة يرثى لها؛ وما تنفقه مصر في هذا السبيل من الألوف العديدة يذهب هباء؛ إذ يغدق معظمه على بعض الصحف الأجنبية التي لا تفيد في الدعاية الحقيقية؛ والدعوى المنظمة هي روح السياحة الحديثة، ومصر مشهورة في الخارج بتراثها الفني ومزاياها الإقليمية، وميدان الدعوى إلى زيارتها خصب ممهد؛ على أن مما يؤسف له أن مصر لم تقم حتى اليوم بتنظيم هذه الدعاية بطرق عملية ناجعة، فليس لنا في الخارج مكاتب ولا وكالات مصرية للسياحة، وقنصلياتنا لا تبذل أي جهد في هذا السبيل؛ على حين أن جميع الأمم التي بها مراكز للسياحة تنظم
دعايتها في جميع أنحاء العالم تنظيماً عملياً واسع النطاق، فتنشئ لها مكاتب للسياحة في الداخل والخارج، وتذيع عن آثارها ومزايا السياحة فيها كتباً ونشرات بديعة جذابة توزعها بالألوف من مكاتبها وقنصلياتها، ولا تدخر في ذلك مالاً ولا جهداً.
ولكن مصر تقنع في هذا الميدان بنشرات قليلة تذيعها في بعض الصحف الأجنبية، وبعض لوحات تعلقها في عربات السكك الحديدية؛ هذا إلى أنه هناك دعايات مغرضة تنظم ضد مصر من منافسيها في ميدان السياحة، ومصر لا تبذل أي جهد لدحض هذه الدعاية السيئة.
ولقد أنشئ بمصر أخيراً مكتب رسمي للسياحة، وبدأ أعماله في ظروف سيئة عاقته عن القيام بالمجهود الذي تقتضيه هذه الحالة؛ وأنّا نؤيد الفكرة في ذاتها، ونرجو أن تتاح الفرص الملائمة ليقوم هذا المكتب الجديد بمهمته في بث الدعاية لمصر وفي العمل على اجتذاب السياح إليها. بيد أن مهمة المكتب لا تقف عند هذه المهمة؛ وفي رأينا أن مهمة المكتب الحقيقية هي وجوب العمل على تمصير موسم السياحة وجعله جهد الاستطاعة مورداً قومياً يتاح للهيئات المصرية ولأبناء البلاد قبل غيرهم إجتناء فوائده وثماره؛ وهذا يتطلب من مكتب السياحة أن يعمل في دائرة واسعة متعددة النواحي.
وإذا كانت السياحة قد أضحت كما قدمنا في بلاد السياحة صناعة وفناً، فأنه يجب علينا في مصر أن نفهمها بهذا المعنى؛ وعلينا إذا شئنا أن نجتني مغانم هذا الموسم أن نعنى بإنشاء الفنادق الفخمة والمتوسطة، وإنشاء المطاعم والأبهاء الأنيقة، وتنظيم السياحة الداخلية، وترقية طائفة التراجمة والمرشدين، وتخفيض أجور السكك الحديدية ورسوم الآثار والمتاحف.
وإذا أريد حقاً أن يكون موسم السياحة في مصر مورداً قومياُ، فعلى هيئاتنا الرسمية وغير الرسمية أن تبادر قبل كل شيء إلى العناية بصناعة الفنادق، فهي عماد الموسم في جميع مراكز السياحة؛ ولا ندري لماذا لا يفكر الممولون المصريون في النزول إلى هذا الميدان الذي ما زال يستأثر به الأجانب في جميع عواصم القطر؟
ولماذا لا يتجه الشباب المصري إلى المساهمة في هذه الصناعة وهي لا تحتاج إلى مجهودات فنية صعبة؟ ولا ريب أن عدم توفر الفنادق الأنيقة المعتدلة الأجور من أهم عوامل الضعف في موسم السياحة المصري، لأن للفنادق الأجنبية الفخمة التي تستأثر الآن
باستقبال السياح ترهقهم بفداحة أجورها ونفقاتها؛ وإذا تذكرنا الأرباح الطائلة التي توزعها شركة الفنادق المعروفة على حاملي أسهمها كل عام استطعنا أن نقدر إلى أي حد يرهق السياح النازلون في فنادقها؛ وهو إرهاق يترك أثراً سيئاً في نفوس ضيوفنا الأجانب حتى الأغنياء منهم.
ولا يسد هذا النقص سوى إنشاء فنادق مصرية أنيقة معتدلة الأجور؛ وهي صناعة رابحة يجب ألا يتوانى المصريون عن النزول إلى ميدانها. ولا ريب أن بنك مصر هو أقدر الهيئات المصرية الاقتصادية على فتح هذا الباب خصوصاً وهو يضم بعض الشركات والمرافق التي يتصل عملها بشؤون السياحة كشركة الملاحة وشركة الطيران ومكتب مصر للسياحة؛ وغزو هذه الصناعة التي يستأثر بها الأجانب وبجانبها المصريون بغير حق، يحقق لمصر غايتين: الأولى تمصير صناعة الفنادق واجتناء أرباحها، والثانية تيسير أسباب الإقامة للضيوف الأجانب وتشجيعهم بذلك على زيارة القطر المصري.
ونعتقد أن مكتب السياحة المصري مجالاً للعمل في هذا الباب من الناحية الحكومية؛ ذلك أن الحكومة المصرية لا يفوتها ما يترتب على إحياء صناعة الفنادق الأنيقة المعتدلة من توفير أسباب الراحة للسياح وتشجيعهم لا على زيارة القطر فقط، بل على إطالة مكثهم به أيضاً؛ ولا بأس من أن تتولى الحكومة نفسها أو إدارة السكة الحديدية، وهي من أوثق الإدارات الحكومية اتصالاً بشؤون السياحة، القيام بأول خطوة في هذا السبيل، وإنشاء فندق أو أكثر من طراز نموذجي يجمع بين الفخامة واعتدال الأجور.
بقيت مسألة نرجو أن يعنى بها مكتب السياحة عناية خاصة، وهي مسألة التأشيرات التي تمنحها القنصليات المصرية في الخارج لراغبي زيارة القطر. ومن المعروف أن نظام التأشيرات الحالي يكاد يقضي على كل اختصاص حقيقي لقناصلنا في هذا الشأن، ويجعل الاختصاص الحقيقي في منح التأشيرات ورفضها لقلم الجوازات التابع لإدارة الأمن العام (ورئيسه إنكليزي). وفي معظم الأحوال يضطر القناصل المصريون إلى مراجعة إدارة الأمن العام قبل المنح أو الرفض، وتستغرق هذه المخاطبات وقتاً ليس بالقصير، وإذا كانت تلغرافية فأنها تجري على حساب الطالب. وبذلك تمضي أسابيع وربما مضت أشهر قبل أن يبت في طلب الطالب، ولا تستطيع القنصليات أن تمنح تأشيرة دخول القطر من تلقاء
نفسها إلا للكبراء والأشخاص المعروفين. فهذا النظام المعقد يزهد الكثيرين في زيارة مصر. ولا ريب أنه يحق للسلطات المصرية في الداخل أو الخارج أن تعمل لمنع العناصر الأجنبية السيئة وغير المرغوب فيها من دخول القطر، ولكن الحرص على هذه الغاية يجب ألا يكون عقبة في سبيل العناصر الشعبية الطيبة التي ترغب في الزيارة البريئة. وأملنا أن يوفق ولاة الأمر إلى وضع نظام جديد للتأشيرات يسهل مهمة القناصل المصريين وبذلك العقبات الحالية.
هذه خواطر وملاحظات في شؤون السياحة أملت بها أزمة الموسم الحالي، وما نقرأ من آن لآخر عن الدعايات المغرضة التي تذاع ضد مصر وأحوالها في الخارج تنفيراً للسياح من زيارتها؛ فإذا أرادت مصر أن يكون لها موسم للسياحة يتناسب مع مكانتها الأثرية والإقليمية، وإذا أرادت أن تجتني كسبه وثماره، فعليها أن تعنى قبل كل شيء بجعله موسماً قومياً يكون لمصر وللمصريين في استغلاله أوفر نصيب.
(سائح)
رفعة المرأة
للأستاذ محمد بك كرد علي
بقية ما نشر في العدد الماضي
وعاد المؤلف فعقد فصلاً في الأعمال التي تبرز فيها المرأة على الرجل، وهي الإحسان وتعهد المرضى وتربية اليتامى إلى غير ذلك من أنواع البر. ومما نقله لمديرة عصبة الخير أن الناس يتوخون أن يعرفوا ما نشكو منه من الأوجاع، وما تشكو منه كل الأمم، ومنشؤه إفلاس تربية القلوب، فقد وسع القائمون بالتربية درجات الذكاء بالتأديب الذي أدبوا الناس به، وشددوا في تلقين التربية الجسمية، وظنوا في ذلك الكفاية وهو دون حدها. فقد رأينا في العهد الأخير أن خمسمائة مليون طن من الحنطة جعلت وقوداً، أو ألقيت إلى البهائم تقضمها، على حين نجد ملايين من البشر في الصين يموتون جوعاً. وألقوا في البرازيل 49500 كيس من البن في البحر، ثم 60000 ألفاً جعلوها سماداً للأرض. وأبادوا في ألمانيا مقادير من السكر. ودفنوا في أوستراليا مليون خروف في الأرض لئلا يستفاد منها؛ وفي كل مكان يطرحون الأثمار والبقول والأسماك التي لم تنفق، أو التي زادت على الحاجة، ولا يفكرون في أن بيوتاً كثيرة تشكو العوز وتصاب بالمخمصة. ويزيد هذا الانحطاط في الأخلاق كل يوم، وتزيد معه ويا للأسف هذه الأنانية كغيرها من النقائض التي تئن منها الإنسانية، وتردها إلى أرذل أطوارها. فالشعور بالإحسان والإخاء سواء في الحكومات أو في الشعوب لم يستثمر ولم يرب. وعصبة الإحسان تعاون على تربية عقلية الأطفال في المدارس التي تربي على حب الفضائل. وتعلم الإحسان ضروري في الحياة الاجتماعية كتعلم الصناعات والأعمال
وأفاض في وصف عقليات الأمم التي تخالف العقلية الفرنسية؛ فمما قال في وصف عقلية الأمريكان في الولايات المتحدة إنها مخالفة كل المخالفة لعقلية الفرنسيس في مسائل الزواج، فالزواج عند الفرنسيس بالنسبة إلى العزب نوع حديث من الحياة يتحتم أن يكون ثابتاً يسبقه على الأكثر شعور صادق عميق، اللهم إلا عند بعض شبابنا في السنين الأخيرة. واغلب الأمريكيين والأمريكيات (ما خلا الفلاحين والعملة في المدن وجمهور الفقراء) يعتبرون الزواج فقط حادثاً يبقى ما تيسر له البقاء، ويمكن حله لأسباب تافهة، أو لأنه فقد
فيه الرضا، كأن الزواج عندهم بحسب ما عرف شامنور الحب تعريفاً فيه سخرية بقوله أنه (تبادل هويتين واحتكاك بشرتين). وليس من النادر في الولايات المتحدة أن امرأة رجلاً كانا بالأمس لا يعرف أحدهما الآخر أن يتلاقيا ذات صباح ويتأهلا في نفس ظهر ذاك اليوم بمعرفة القس الذي يجمع وظيفة ضابط الأحوال الشخصية إلى وظيفته.
ووضع فصلاً عنون له (كلمات للتأمل) جاء فيه أن مدام ماكدلين شوميون قالت في جملة مقالات لها في جريدة النهار الباريزية: إن الفتاة عندما تبدأ في فهم الحياة تتمثل أن تدخل في ميدانها وحيدة بدون معين ولا استنصاح أحد. فيقال إنها تريد أن تعيش مستقلة وأنها تتجافى عن قبول آراء غيرها وتوبيخ أهلها، وأنها تود أن تعمل لتربح مالاً وتنفق على هواها، وأن تبدو للناس، وتسيح إذا اقتضت الحال، وهذا غاية أمانيها. وهذا الجمهور الذي لا يحصى من الفتيات والنساء ممن يخرجن عن أطوارهن هو الذي يدعونا إلى اللهفة والأسف. ولقد رأينا محاميات انقلبن خادمات في البيوت، ولدينا براهين كثيرة على انه خير للمرء أن يحسن صناعة من أن يحمل شهادات حسنة. ولقد نال كثير من النساء لقب دكتورات في الحقوق فاصبحن كاتبات بسيطات على الآلة الكاتبة. يتعلمن علماً كثيراً ولا يعرفن احتياجهن على كسب قوتهن. وذكر المؤلف ما تحمله السينما من مفاسد، ولا سيما للفتيات والصبيان، وقبح الأبوين اللذين يستصحبان أولادهما لمشاهدة هذه المناظر التي لا تعلم في الأكثر إلا المقابح والمفاسد.
وروى ما قاله أميل بيكارد العالم الطبيعي الرياضي أن مستوى الأخلاق في الجنس البشري يسفل بمقياس واسع، ولعلهم يقولون إن ذلك نشأ من الحرب العظمى؛ والحقيقة أن هذه الحرب لم تعمل غير تعجيل هذا الفساد كما عجلت في مسائل أخرى. وانتهى الحال ببعضهم أن ادعوا أن ذلك نشأ من العلم، وهذه الدعوى تصدق بعض الشيء، ذلك لأن الآلة قد أحدثت جنوناً في الإنتاج الصناعي، فأن السرعة التي تمت في المسائل الفنية لم تسمح للزمن أن يعمل عمله. والزمن يهزأ بشيء يعمل دون تدخله، بل ينتقم من صاحبه. ولم تكتف الآلة بإغراق العالم في الرفاهية بل قامت مقام الإنسان المنتج القوي، وأبطلت في الإنسان اعتياد العمل الشاق العميق الطويل، فأصبح سطحياً واستغرقته السهولة، وما نمت فيه القدرة المادية بل قل فيه العنصر الأخلاقي، والجسم إذا أتسع توقع أن يكون له ملحق
من الروح كما قال برجسون. وقد احتقرت الوطنية والتجارب وفقدت الحرمة الناتجة من الصبر والسن واختلاط العبقرية المريضة بالعبقرية السليمة وهي وليدة القوة
ونقل أقوالاً لعظماء من علماء العصر الحاضر تأييداً لقضيته؛ ومنها أن نصف علم يحرزه المرء يتولد منه من الأوهام ما يكون أضر على صاحبه من الجهل، لأن صاحبه يكلب على العمل فلا يأتي بكبير أمر، وتزداد عاقبته الشؤمى بالضرورة لامتزاجها بالمصالح الشخصية والشهوات والأهواء الرائجة في سوء الجدال الاجتماعي، وما يتبعه من عبث العابثين بالسياسة المتجرين بها. وحمل على الاشتراكية التي تحارب المثمرين والمتمولين، وتحاول القضاء على الطبقات الاجتماعية، وعلى رؤوس الأموال، وعلى النفرة من الحرب؛ ونقل أن رؤوس الأموال إذا انعدمت تموت الاشتراكية، لأنها لا تجد ما تحاربه فلا يبقى لها ما تقسمه من المال بين الاشتراكيين؛ والاشتراكية تؤدي إلى (البلشفة) البشعة. ومن المتعذر قيام الدعوى الاشتراكية إذا فقد المال، ولا شيء يعمل بلا مال. وما البلشفة إلا وضع حياة البشر في يد عصابة تزعم إنها تمثل الدولة. ومعنى ذلك بسط السلطة العامة على الناس في كل أمر يصدر من مصادر خفية. وقال هذا جنون شرقي ينساب على التدريج في عقل الغرب.
وختم كتابه بفصل في انتشار العهر والأسباب الداعية إليه في الغرب. وقال في الخاتمة إن الفرنسيس ما خلا أربعة أو خمسة آلاف امرأة ومثلهن من الرجال يطمعون في إعطاء حق التصويت للنساء لا يهتمون بتة في منح الحقوق المزعومة للمرأة لإدخالها في الحياة السياسية. ويخشى إذا تمتع النساء بحقوق الرجال أن يقلبن أوضاع الأمة إلى التي لا تريدها، شأن كثير من المتغلبين على الحكم في الأمم يعملون ما تزين لهم أهواؤهم، ويملون إرادتهم على من يتعذر عليهم طاعتهم. وكان على هؤلاء الدعاة أن يبدءوا أولاً بإقناع ملايين من النساء لا يريحه رأيهن في الاشتراك في الحياة السياسية. هذا والأفكار تسير سيرها؛ ولعله يأتي اليوم الذي تستعد فيه المرأة الفرنسية للاشتراك مع الرجل في الحياة العامة حذو القذة بالقذة. ويقضي على القائمين بهذه الدعوى ريثما تتحقق أمنيتهم أن يبدءوا بإصلاح أخلاق المرأة الحاضرة وتهذيبها على أسلوب لا يقبل كل رأي يدلى به إليها، ويحررها على الأقل من سلطان أزيائها وتبرجها، وأن يجهد الحاكمون أن يسيروا هذه
الدعوة في المجرى الصالح لخير المرأة والرجل والحب والسلام الاجتماعي، ومستقبل العنصر، والأخذ بأسباب الارتقاء الحق. والمرأة مهما حاولنا وصفها بالرقي الآن لا نخرج عن كونها تطمح في استقرار حياتها وفي الخلوة إلى دارها، وإن ألبسوها اليوم لباساً غير لباسها من النزوع إلى الاستقلال. وقد أخذ كثير من الشبان يحولون اليوم وجهتهم متقززين من النساء المولعات بالألعاب الرياضية والمدخنات والشريبات والراقصات والساهرات أي من طبقة النساء ممن قد يكون فيهن العفيفات وظاهرهن أنهن بنات سرور ومرح، ومن الطبقة التي يقول فيها الإنجليز إنهن لسن نساء ولم يبلغن مبلغ الرجال.
قال: أيتها المرأة إنك مهما فعلت مسوقة بنابل من الكبرياء وبعوامل أكرهتك على خوض غمار أزمة هذه الأيام لتخرجي عن حظيرة جنسك وتقطعي صلتك بعملك الأبدي السامي، لن تكوني إلا محبة وزوجة وأماً. وإذا أنسيت رسالتك فأن الطبيعة ستتولى عاجلاً أو آجلاً تذكيرك أن الأقدار ما خرجت بك إلا لتكوني شريكة الرجل، وأم أولاده، وجزؤه المتمم، ونصفه، وأحياناً الموحية إليه والمنقذة له. أنت أبداً مهد الآلام البشرية وستظلين على ذلك إلى يوم البعث والنشور.
محمد كرد علي
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور والكلب المسعور
وصل الفائت
حقن بستور في دجاج مكروباً قديماُ ضعيفاً لداء كوليرا الدجاج، فمرض الدجاج ولكن لم يمت. وكان ذلك مصادفة. ثم حقن فيه مكروباً جديداً فتاكاً فلم يمت. فتوصل بذلك إلى طريقة لتحصين الدجاج ضد الكوليرا، إلى طريقة اللقاح أو الفكسين المعروفة اليوم.
قلت فيما مضى إن بستور يضمر في نفسه عبادة هذا الشيء العظيم الرائع الخفي في هذا العالم المجهول، وكثيراً ما ركع وسجد لهذه اللانهائية المستورة. ولكن أحياناً كان يأتيه الأمل فيطلب القمر وينسى رب السماء. وكلما رفعت إحدى تجاربه الجميلة ستاراً عن خفية من خفايا ذلك المجهول الضخم الرائع بأسراره، ظن أن كل الخفايا انكشفت، وأن كل العقد انحلت. هكذا كان حاله ومزاجه في هذه الساعة التي نحن فيها. إنه استطاع حقاً أن يحمي الدجاج حماية تامة من داء مميت بأن أحتال له تلك الحيلة الجميلة فحقن في الدجاج شيئاً من المكروب القتال بعد تأنيسه وإضعاف شرته، ولكنه ما كاد يستيقن من نجاح حيلته حتى قال لنفسه:(وما يدريني؟ فلعل مكروب هذه الكوليرا يحمي الدجاج من كل داء خبيث آخر). وما عتم أن حقن عدداً من الدجاج بمكروب الكوليرا بعد إضعافه، ثم أتبع ذلك بحقنة من المكروب الجمرة الخبيث، واصطبر فلم يمت الدجاج! فهاج وماج وكتب إلى أستاذه القديم دوماس، ولمح له أن مكروب كوليرا الدجاج قد يكون لقاحاً عاماً يحصن من كل الأدواء. وكتب إليه يقول:(فإذا تأكد هذا، جاز لنا أن نأمل من النتائج أخطرها، حتى فيما يتعلق بأدواء الإنسان)
وفرح دوماس الشيخ بالذي قرأ، فنشر الخطاب في التقارير الرسمية لأكاديمية العلوم،
وهاهو ذا إلى اليوم ماثل في صفحاتها، يشهد باندفاع بستور وتسرعه، ويكذب من يقول أن بستور لا يقول دائماً إلا حقاً. ولقد بحثت ما استطعت فلم أجد أن بستور أسترد الذي قال، ونفى الأمل الخادع الذي أحيا في الناس. وبستور لم يطل به الزمن بعد ذلك طويلاً حتى عرف خطل هذا الرأي، واستيقن من أن النوع الواحد من البشلات لا يحصن من كل الأمراض على نحو ما كان أدعى، وإنما يحصن من المرض الواحد الذي هو سببه، وحتى هذا قد لا يدفعه أحياناً.
ولكن كان من خصائص بستور المحمودة أنه كان كلما انهدم له أمل، قام على أنقاضه له أمل جديد؛ وإذا احترق له رجاء، انبعث له من رماده رجاء طريف. يحدق به الخيال الوثاب حتى يصل به إلى السحاب، ثم يخونه جناحاه، فيهوى كالقنبلة على الأرض، فتحسب هذا الدوي هو آخر ما تسمع منه، ثم لا تلبث أن تراه قائماً من تلك الأنقاض على رجليه، يجري التجارب البارعة، ويبحث بجد عن كل حقيقة صلبة صماء. لذلك لا تستغرب أن تسمع انه في عام 1881 كان يعمل مع عونيه رو وشمبرلاند ليكشف عن طريقة جميلة لتأنيس مكروب الجمرة وتحضير لقاح منه. فبمجيء هذا العام اشتد البحث وراء الألقحة اشتداداً لم يدع لرو وصاحبه وقتاً لراحة. حتى الآحاد اشتغلاها، وأيام العطلة لم يتعطلاها، والإجازات تجنباها، وناما في المعمل إلى جانب الأنابيب والمجاهر والمكروبات. وهنا، وبإرشاد بستور، أضعافا بشلة داء الجمرة إضعافاً متدرجاً. فمن الضعيف ما قتل الخنازير الغينية وأبقى على الأرانب، ومن الضعف ما قتل الفئران وأبقى على الخنازير الغينية. وحقنا الميكروب الأضعف في الخراف، وأتبعاه بالأقل ضعفاً، فمرضت الخراف ولكنها شفيت، وبعد ذلك صمدت على ما يظهر لمكروب الجمرة القوي الذي يقتل الأبقار.
وما لبث بستور أن أذاع نصره الجديد في أكاديمية العلوم - وكان قد ترك أكاديمية الطب بعد عراكه الذي كان مع الدكتور جيران - وبشر لهم بلقاحات يرجو استحداثها قريباً تمحو كل الأدواء، من النكاف إلى الملريا. وصاح فيهم:(وهل أيسر من لقاح الجمرة هذا! سموم تضعف بالتدريج من شِرتها فتعطى الخراف والأبقار والخيول بعض الداء دون أن تقتلها، ثم تتعافى، فتعفى من الداء أبداً!) وظن بعض زملاء بستور أنه يبالغ في يقينه، ويغلو في
ثقته بهذا اللقاح، وتجاسروا على الجهر برأيهم، فانتفخت أوردة بستور في جبهته، ولكنه كظم غضبه هذه المرة واستطاع أن يحبس لسانه حتى خرج هو ورو وسارا في الطريق إلى منزليهما، وعندئذ انفجر بستور على هؤلاء وعلى أمثالهم ممن يعجزون عن الإيمان بالحق المحض الذي احتوته فكرته قال:(أنا لا أعجب إن أنت ذهبت إلى منازل أمثال هؤلاء فوجدتهم يضربون أزواجهن ضرباً)
صدقني، ما كان العلم لدى بستور جمع الحقائق بنفس مطمئنة باردة، فقد أثار فيه نفس الشيء الذي يثير الحيوان الآدمي إلى البكاء عند موت طفله، أو إلى الفرح والغناء عند نعي عم أو خال قد ترك له من بعد موته نصف مليون دولار.
وأخذ أعداء بستور يتبعون أثره ليثأروا منه شر ثأره. ولم يكن أعداؤه من الأطباء فحسب، بل كذلك كان البيطريون وهم رجال لهم مقام في الناس ونفع لهم. أساء بستور إلى هؤلاء وهؤلاء فتصدى له بيطري فنصب في طريقه فخاً عظيماً وأغراه بالوقوع فيه. وكان أسم هذا البيطار روسنيول قام ذات يوم في الجمعية الزراعية بميلان يغري بستور بإجراء تجربة عامة، يجريها على الملأ في سبيل العدالة العلمية ظاهراً، وفي سبيل القضاء على بستور وأم باطناً. قال للجمعية:(إن بستور يقول إن أسهل شيء في الدنيا صنع لقاح يحصن الشياه والأبقار من داء الجمرة تحصيناً كاملاً. فأن حق هذا القول عاد على زرّاع فرنسا بالنفع العظيم، ووفر عليهم عشرين مليون فرنك يخسرونها كل عام بسبب هذا الداء. إن بستور لو كان يستطيع حقاً إخراج هذا اللقاح العجيب، لما وجد على نفسه غضاضة أن يثبت لنا أنه يستطيعه. فهيا بنا ندعوه إلى تجربة عامة يجريها في الجمهور، فأن أصاب كان لنا الغنم نحن معشر المزارعين، والبيطريين، وان خاب سكت عن هذه الثرثرة الكاذبة ودعاويه الباطلة عن كشوفات هائلة تنجي من كل شيء، من ديدان الأرض إلى حيتان الماء). هكذا تمنطق هذا البيطار الماكر
وسرعان ما جمعت الجمعية مالاً كثيراً لشراء ثمانٍ وأربعين شاة، وعدد من الأبقار، وجَديَين، واختارت البارون دي لاروشت لمكانته وشهرته، فبعثت به إلى بستور ليدخل إليه من عجبه ليوقعه في هذه التجربة وفيها من الخطورة ما فيها.
ولم يشعر بستور أبداً بالذي يراد به، فقال للبارون: (بالطبع أنا راضٍ بالذهاب إلى جمعيتكم
لأريكم أن لقاحي ينقذ الحياة - إن علاج أربع عشرة شاة في معملي لا يفترق عن علاج ستين في ميلان!)
هذا هو الشيء الغريب العظيم في بستور: يريد أن يخرج البيضة من الديك، والأرنب من القبعة، ويدهش العالم، فيقوم بكل هذا في إخلاص عظيم وإيمان بما يصنع كبير، كان عرّاضاً كبيراً بارعاً، وكان يجوز عليه أن ينزل في سبيل ذلك أحياناً إلى ملاعيب بهلوانية يسيرة، ولكنه لم يكن يعمد إلى التدبير والتخطيط لشيء من هذا أبداً. وتعين موعد امتحانه في الملأ، فكان مايو ويونيه من ذلك العام.
وكان رو وشمبرلاند قد تعبا من العمل المتواصل تعباً كبيراً أثر في أعصابهما، فأخذا يريان رؤى مفزعة، فتارة تفلت في النوم إلى الأرض من أيديهما قبابة خطيرة بالذي فيها، وتارة يجدان نفسيهما ينظران إلى حيوانات غريبة نصفها دجاجة ونصفها الآخر خنزير. أو لا يأتيهما النوم فيأخذان في حقن الملايين من الأرانب وهم في الفراش راقدون، فلما ساء حالهم إلى هذا الحد طلبا الراحة في الريف، وما كادا يستقران فيه حتى جاءهما التلغراف الآتي:
(أرجعا إلى باريس حالاً. على وشك تجربة عامة أن لقاحنا يحمي الشياه من الجمرة - ل. بستور)
فرجعا مسرعين. فقال بستور للقوم: (في مزرعة بويي - وفي حضرة الجمعية الزراعية بميلان، سألقح أربعة وعشرين شاة وبضع بقرات وعنزة واحدة. وسأدع بدون لقاح مثلها في العدد عنزة وشياهاً ابقراً، فإذا جاء الوقت الموعود سأقوم وأحقن كل هذه الحيوانات بأخبث زريعة لدينا من بشلة الجمرة، أما الملقحات فستكون في حِمى من الداء، وأما الأخرى فستموت طبعاً في يومين أو ثلاثة.) تحدث بستور كالفلكي يتنبأ بكسوف الشمس.
قال صاحباه: (ولكن يا أستاذنا إنك تعلم أن عملنا هذا كالمشي على الصراط، فنحن لا يمكننا أبداً أن نأمن أمناً تاماً إلى ألقحتنا، فهي قد تقتل الشياه التي نريد أن نحميها. . .)
فزعق بستور فيهما: (إن اللقاح الذي يعمل بنجاح في أربع عشرة شاة في معملنا لا شك ناجح في خمسين شاة في ميلان). فإنه عندئذ لم يرد أن يسمع بالخيبة، أو أن يذكر أن
الطبيعة لها سر لا يفشى وخدعات لا تؤتمن، أو أن الغيب قد يخبئ كثيراً من العثرات ويأتي بكل غريب لا يحتسب. بل لقد تراءى هذا الغيب في عينيه رائقاً كالماء، شفافاً كالهواء، سهل القراءة كما تقول اثنان من اثنين ينتجان أربعة. فلم يكن لرو وشمبرلاند بدٌّ من رفع الأكمام وكشف السواعد والأخذ في تجهيز الألقحة.
وجاء يوم الامتحان الأكبر، فكانت المحاقن جاهزة، والقبابات حاضرة، وكل قبابة عليها أسمها. وصاح بستور فيهما وقد هموا جميعاً بركوب القطار:(إياكما يا ولدي أن تخلطا بين الألقحة). وكان قلبه مليئاً بالثقة ووجهه يطفح بشراً. ولما بلغوا بويي لو فرت - وصلوا إلى الحقل الموعود حيث الثماني والأربعون شاة وبضع الأبقار والعنزتان؛ تقدم بستور إلى الميدان، فدخله دخول مصارع الثيران، وانحنى وطيئاً للجمهور المحشود، وكان فيه أعضاء من مجلس الشيوخ الجمهورية، وكان فيه علماء وبيطريون وكثير من ذوي الأحساب ومئات المزارعين. فسار بستور بين صفوفهم يعرج قليلا ً - عرجة العظم والوجاهة لا عرجة الضعف والاستعطاف - فحيوه تحية صارخة، وتسخر به قليل.
وحضر جماعة من رجال الصحافة، وكان من بينهم رسول جريدة التيمس السيد دي بلاوتز هذا الرجل المعروف الذي أصبح اليوم في التاريخ كأنه شخص خرافي مما يحكى عنه من الأعاجيب.
وسيقت الغنام إلى فرجة من الحقل، وقام رو وشمبرلاند إلى مصابيح الكحول فأشعلاها، وإلى المحاقن الزجاجية فأخرجاها بحذر من لفائفها، وجاءا بلقاح الجمرة الضعيف الأول الذي يقتل الفئران ويبقى على الخنازير الغينية، فحقنا منه خمس قطرات في أفخاذ أربع وعشرين شاة وفي عنزة وفي نصف البقر. ونهضت البهائم وهزت برؤوسها، وأعلمت بثقب في آذانها. ثم قاد بستور جموع الناس إلى إحدى الزرائب، وخطبهم نصف ساعة خطبة فخمة في هذه الألقحة الجديدة، وبشر فيهم بالرحمات التي تحملها الإنسانية المعذبة.
ومر اثنا عشر يوماً، وجاء الناس مرة أخرى إلى الحقل واحتشدوا فيه، فقام أعوان بستور إلى اللقاح الثاني الأقوى الذي يقتل الخنازير الغينية ولا يقتل الأرانب، وحقنوا منه المواشي مرة ثانية، ونهضت بعد الحقن نشيطة كما يجب أن تكون الشياه والماعز والأبقار السليمة الصحيحة، وأقترب الموعد الخطير للحقنة الثالثة، وهي أقوى الثلاثة فتحرج جو
المعمل، وثقل هواؤه، وأشتد العمل على رجاله، فجرى الحديث بينهم اقتضاباً من وراء المصابيح. وصمت بستور صمتاً مخيفاً لم يعهد فيه أبداً، وكان يطلب ما يريد آمراً صارخاً يكاد ينط له صبية المعمل في إنقاذه نطاً. وكان أنضم إلى أعوان بستور عون جديد يسمى تويبيه كان أصغرهم سناً، فهذا كان يخرج إلى الحقل ليضع مقياس الحرارة تحت أذيال البهائم يرقب سير الحقنة فيها، ولكن حمداً لله لم يجد بها حمى، وكانت جميعاً قائمة على خير حال، صامدة للقاح الشديد صموداً عجيباً.
وبينما قلق رو وشمبرلاند وشاب رأسهما همَاً وحذراً وانتظاراً، احتفظ بستور بثقته بنفسه. كتب يتحدث برأيه القديم الصريح الجميل عن نفسه قال:(لو تم النجاح الذي أرجوه، فسيكون هذا مثلاً من أروع الأمثلة لتطبيق العلم على الحياة في هذه البلاد، وسيسجله التاريخ كشفاً من اخطر الكشوفات وأكثرها ثمراً).
قال أصدقاؤه همهمة، وهم يهزون الرؤوس ويرفعون الأكتاف:(نابليونيات رائعة أيها العزيز بستور!).
قال بستور: (نابليونيات ولا نكران يا أعزائي الأصدقاء)
(تتبع بنتيجة هذه التجربة في العدد القادم)
أحمد زكي
على هامش حوادث دمشق
أطفال دمشق
بقلم الأستاذ (ع)
لمن هذه الرشاشات منصوبة في الميادين والطرقات؟ لمن هذه المصفحات وهذه الدبابات، تروح وتغدو في الشوارع والساحات؟ لم تحوم في الجو هذه الطيارات؟
لماذا يساق هؤلاء الجنود من كل جنس وكل لون، فمن الشقر الفرنسيين الذين علموا أمم الأرض كيف تكون الثورة على الظالمين، وكيف تنتزع الحرية من بين أنياب الأقوياء المستبدين؛ إلى السمر المغاربة المسلمين، الذين جاءوا راغبين أو راهبين، ليحاربوا إخوانهم المسلمين؛ إلى السود السنغاليين،
من كل أشمط تدنى الموت طلعته
…
ينساب في لهوات الليل ثعبانا
زعانف وعباديد برابرة
…
لا يعرفون لهذا الكون ديانا
إلى الصفر الهنديين الصينيين؛ إلى هؤلاء (المتطوعة) أنصار الباطل، جزاة الخير بالشر، الذين أكلوا خبزنا وحاربونا!! أكُل ذلك لأن هذا الشعب الأعزل تحرك؟ أكُل ذلك لأن دمشق غضبت؟
تيهي إذن يا دمشق واعتزي، فما أنت بالضعيفة ولا بالهينة، وقد حشدوا لك مالا يحشدون أكثر منه لقوم هتلر، وشيعة ستالين!
كانت دمشق يوم الجمعة صابرة تتجرع حزنها على (إبراهيم) في صمت رهيب، وسكوت هائل، فلم تحرك ساكناً، وما دمشق بالتي تعرف أنه المكلوم، أو استغاثة العاجز، ولكنها تعرف الصبر الذي لا يصبر عليه الدهر، أو الصرخة التي تصدع الصخر، وتخرج الميت من القبر؛ وما دمشق بالتي تعرف هذا الاحتجاج الضعيف، احتجاج (أوسعته شتماً وأودي بالإبل). . . ولكنها تتلقى الضربات بصدر كأنه الجلمود لا يشقق ولا يرفض ولا يلين.
وباتت دمشق على هذا الصمت، فلم يمض هزيع من الليل حتى سمعت الصريخ، فأفقت فزعة، تسأل: - ما الخبر - قيل: اختطفوا (فخري البارودي)
ابن دمشق يختطف من حضن أمه وهي نائمة؟. . . يا للهول الأكبر! يا لهبة دمشق! يا لغضبة البطل الغَشَمْشَم!
أقبل أبناء دمشق بأيديهم، وأقبلت هذه الجيوش بحديدها ونارها، وكانت المعارك. . . التي يصطرع فيها الحق والقوة، والدم والنار، والصدور والحديد، فبينما معركة من هذه المعارك على أشد ما تكون عليه وإذا. . .
وإذا ماذا؟ ليس على وجه الأرض من يستطيع أن يُقدر ماذا كان، إلا هؤلاء الشاميون، وهؤلاء الفرنسيين الذين أكبروا جميعاً هذه البطولة التي لم يروا مثلها التاريخ. . .
وإذا خمسون من الأطفال الذين لا تتجاوز سن أكبرهم التاسعة، ينبعون من بين الناس، يخرجون من بين الأرجل، منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء والأزرار اللامعة، قد فر من مدرسته وقمطره لا يزال معلقاً في عنقه، وحمل مسطرته بيده. . . ومنهم صبي اللحام، وأجير الخباز، قد اتحدوا جميعاً، وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة وهي تطلق النار، وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة، التي تشبه الآلة السحرية التي غنى عليها الفارابي، فأضحك وأبكى. . . هذه الأنشودة البلدية المعروفة:
وصغارنا تحمل خناجر
…
وكبارنا عالحرب واصل
يا بِالوطن
…
يا بِالكفن
فوقف الناس ينظرون إليهم، وقد عراهم ذهول عجيب. فارتخت أيديهم بالحجارة التي كانوا يقاومون بها الرصاص. . . حتى رأوا الأطفال قد تسلقوا الدبابة وركبوها فأشتعل الدم في عروقهم، وفي أقحاف رؤوسهم، فأنشدوا أنشودة الموت:
(يا سباع البر حومي. . . . . .)
وهم يرعدون بها. فتهتز من جهْجَهتها الغوطة، ويرتجف قاسيون. وأقبلوا كالسيل الدفاع. . .
ولكنهم رأوا الدبابة قد كفت عن الضرب، ثم أنفتح برجها، وخرج منها شاب فرنسي يبتسم للأطفال، وإن في عينيه لأثر الدمع من التأثر، ويداعبهم، ويقدم لهم كفاً من الشكولاته، ثم يعود إلى مخبئه!
إنسانية قد توجد حتى في الدبابات!
ورأيت في هؤلاء الصبية تلميذاً في شعبة الأطفال من مدرستنا، وكان صغيراً جداً ما أظنه قد أكمل عامه السابع، فدعوته فأقبل حتى أخذ بيدي، وجعل يرفع رأسه إلي يحاول أن
يتثبت من وجهي، فقلت:
- لماذا عملتم هذا العمل يا بابا؟
- فقال: أخذوا فخغي الباغودي (يريد فخري البارودي)
- قلت: ومن قال لك ذلك؟
- قال: أمي. وقالت لي هّلي يموت بالغصاص يغوح عالجنة (يريد: من يموت بالرصاص يذهب إلى الجنة)
- قلت: وإذا أرجعوا فخري البارودي، هل ترضى؟
- قال: لأ. خلي يغوحوا (يروحوا) هدول كمان ما بدناياهم! (يريد فليذهب هؤلاء أيضاً، لا نريدهم)
فسكت. فقال:
- أستاذ، ليش الإسلام ما لهم عسكغ (عسكر)؟
فأصابتني كلمته في القلب، ووجدت كأن شيئاً جاشت به نفسي، ثم صعد إلى رأسي، ثم وجدته في قصبة أنفي، وآماق عيني، ودق قلبي دقاً شديداً، فتجلدت ومسحت عيني، وحككت أنفي، وقلت له:
- أنتم يا بابا عسكر الإسلام.
- قال: نحن صغار!
- قلت: ستكبرون يا بابا، أنتم أحسن منا، نحن لما كنا صغاراً كنا نخاف من البعبع، ونخشى القط الأسود، وأنتم تهجمون على الدبابة، فالمستقبل لكم لا (لهم). . .!
وبعد، فلمن هذه الرشاشات؟ ولمن هذه المصفحات وهذه الدبابات؟ ولمن هذه الجنود وهذه الطيارات؟ إنها لم تصنع شيئاً، ففتشوا عن شيء أكبر من الموت، لتفزعوا. . . (أطفال دمشق)!. . .
(ع)
علم غير مفيد
للأستاذ قدري حافظ طوقان
في النشرة الأخيرة للجامعة الأمريكية في بيروت مقال افتتاحي عنوانه (علم الفلك - علم غير مفيد) وقد أوحت إلي قراءته أن أكتب هذه العجالة في الفوائد التي جناها الإنسان من علم الفلك. ويلاحظ أن المتعلمين وطلاب المدارس العالية والكليات والجامعات يختلفون في نظرهم إلى هذا الفرع من المعرفة اختلافا بيناً فمنهم من يقول بوجوب تدريسه والاعتناء به، إذ فيه فوائد ومنافع عادت على البشرية بأطيب الثمار، ولولاه لما شعر الإنسان باللذة الروحية شعوره الحالي، ولبقى نظرنا إلى الكون في نطاق محدود، وفي محيط ضيق؛ وفريق آخر يقول بعدم فائدة علم الفلك، وبأن في تدريسه إضاعة للوقت فيما ليس فيه غناء، وأن الأولى لنا أن نهتم بشيء يعود على المدنية بالمتاع والنفع. ولا يقف هذا الفريق عند هذا الحد، بل يتعداه إلى الجهر بأن الاعتناء بعلم الفلك وإنفاق الأموال الطائلة على مراصده وآلاته ضرب من الهوس والسخف؛ ويتساءل هذا الفريق قائلاً: ماذا يستفيد الإنسان من معرفته أن الأرض كوكب من كواكب أخرى تدور حول الشمس، وأن لهذا الكوكب تابعاً - القمر - يدور حولها؟ وهل يزيد في سعادة البشر ورفاهيتهم إذا عرفوا أن لبعض الكواكب توابع كما للأرض؟ وهل في القول أن في السماء نجوماً لا عديد لها بعضها أكبر من الشمس وبعضها أصغر، وأن هناك أنظمة أخرى وسدماً ومجرات وعوالم، هل في كل ذلك ما يعود علينا بالتقدم؟ هذه بعض أسئلة الفريق الذي لا يؤمن بأهمية علم الفلك ومنافعه. ويسرني ألا أكون من هذا الفريق وأنني أخالفه وأن أكون من الفريق الأول القائل بسمو علم الفلك وأثره الفعال في تطور نظر الإنسان إلى الكون وما يحويه من أعاجيب
وفي رأيي أن علم الفلك من العلوم الواجب تدريس مبادئها لطلاب المدارس العالية والكليات والجامعات وجعله إجبارياً، حتى يخرج الطالب وقد جمع إلى العلوم العملية والفنون النافعة علماً ومعلومات عامة وهي أسمى أنواع المعلومات، توسع أفق التفكير وتنير العقل، وتزيد في الاعتقاد بقدرة الخالق وعظمته المبدعة. وأرجو ألا يساء فهم القصد من تدريس مبادئ علم الفلك لطلاب التعليم العالي، فقد يُظن أني أطلب تدريس الفلك على وجه مفصل حيث المعادلات العويصة والأرقام المخيفة والعمليات المرعبة. . .! أنا لا
أطلب هذا، إذ لا يتيسر الوقوف على كل ذلك إلا لمن كان له ميل إلى الرياضيات ورغبة في الطبيعيات وولع في علم السموات. ولكن أقول إن علم الفلك برغم دقة بحوثه وما يحويه من عويص الموضوعات فيه كثير من البسائط سهلة التناول قريبة المأخذ تسهل الإحاطة بها وفهمها بدون تكلف أو صعوبة فنية. وهذه هي التي أدعو إلى إدخالها في مناهج التعليم العالي حتى يخرج الطالب ولديه فكرة عن هذا الفرع السامي مما يعود عليه بأجل الفوائد من الناحية الروحية والمعنوية فيرفعه إلى ما هو أسمى من عالمه وأعلى من محيطه المادي
ولعلم الفلك فوائد عدة جليلة أهمها أنه وسع نظر الإنسان وأفق تفكيره في الكون، وجعله يدرك بوضوح وجلاء أن الكون وما يحويه من أجرام تسير على أنظمة ثابتة لا تتغير وأن الظواهر الجوية والطبيعية لا تحدث عفواً وأتفاقاً، بل إنها سائرة حسب قوانين ونواميس لا فوضى فيها ولا شذوذ، عرف الإنسان بعضها ولا يزال يجاهد في معرفة البعض الآخر، وأصبح في استطاعة الفلكي أن يتنبأ عن الخسوف والكسوف وغيرها من ظواهر طبيعية قبل حدوثها ووقوعها بعشرات السنين.
لقد كان العلماء في القرون الماضية يعتقدون أن أكثر ما يجري في هذا العالم هو من قبيل المصادفة وأن ليس هناك نظام شامل أو ناموس مسيطر، ولكن بحوث علم الفلك أفسدت هذا الاعتقاد وأقمت الأدلة على بطلانه، فثبت أن كل ما يجري حولنا سائر على أنظمة خاصة وسنن ثابتة، وأن ما يسيطر على أصغر أجزاء المادة يسيطر على أكبرها؛ فالنظام الذي تسير عليه الذرة بألكتروناتها ونواياها هو النظام بعينه الذي يسير بموجبه النظام الشمسي والنظم الأخرى بكواكبها ونجومها وشهبها ونيازكها، وهذه الفائدة هي من أجل الفوائد التي جناها العالم من علم الفلك، فكانت سبباً في تقوية أيمانه بوجود قوة خارقة منظمة مبدعة عن طريق البحث والاستقصاء والتفكير العميق.
وكيف لا يكون علم الفلك علماً مفيداً وقد حذر الإنسان من الانخداع بالظواهر وعدم الاعتماد عليها في كثير من الأحيان وعلمه كيف يعمل العقل والفكر في اكتناه حقيقة هذه الظواهر والوقوف على أسباب حدوثها. ألم يعتقد الإنسان في العصور الأولى والمتوسطة بأن الأرض هي محور هذا الوجود، وأن الشمس وغيرها تدور حولها، وأن كل شيء في
الكون تابع للأرض، فهي مركز دائرة هذا العالم والعنصر الأساسي فيه؟ كان هذا الاعتقاد سائداً يدين به كثير من نوابغ العلماء وفحول رجال الفكر، وبقى الأمر على هذا الحال إلى أن تقدم علم الفلك فرمى بهذه الأوهام عرض الحائط وبَيّن للناس أن الأرض ليست إلا ذرة تدور في فضاء الله الواسع، وأن الشمس وكواكبها وتوابعها ليست إلا جزءاً يسيراً جداً من هذا الكون الذي لا يعلم مداه إلا العليم القدير. لقد بين لنا أن علم الفلك أن الإنسان جرم متوسط بين الكوكب والذرة، وأنه يستطيع بفعل ذلك وبفضل ما وهبه الله من قوى روحية ومعنوية أن يدرك حقيقة الأشياء الصغيرة من جهة والكبيرة من جهة أخرى، واستطاع فوق ذلك أن يعرف الشيء الكثير عن حركات النجوم وطبائعها والعناصر التي تتكون منها، وثبت له أن النجوم ليست إلا معامل كيمياوية وبوادق هائلة ذات حرارة عظيمة جداً من الصعب تصورها؛ وقد يأتي يوم يستطيع فيه الفلكي أن يكشف أسراراً مغلقة عن كيفية تفاعلات عناصرها بعضها مع بعض، وسيجدون في هذه الاكتشافات ما يعود على البشرية بخير عميم. وما يدرينا لعلهم يستطيعون من دراسة النجوم وكشف غوامضها أن يقفوا على سر الحياة وهو ما يصبو إلى الوصول إليه كبار العلماء وعباقرة الفلاسفة ونوابغ المفكرين.
والذي لا أشك فيه أن في إدراك الإنسان لبعض هذه الحقائق وفي وقوفه على النواميس والأنظمة المسيرة لهذا الكون في صغار محتوياته وكبارها لمن العوامل الرئيسية التي جعلته يسيطر على كثير من عناصر الطبيعة وأفعالها، ومن هنا نتجت فوائد مادية عجيبة لم تكن في الحسبان ولا خطرت على قلب إنسان. وزيادة على ذلك استطاع الفلكيون أن يصلوا إلى نتائج باهرة في تاريخ الكون وعمره فثبت لهم أن الإنسان لا يزال عند مبدأ حياة جنسه، وأنه لا يزال عند فجر يقظته العقلية، وأن تاريخه كله إلا طرفة عين إذا قيس بأعمار النجوم، وأنه ليس في استطاعته أن يتفهم كل عجائب الأكوان وغرائب الوجود، ولما يمض على ظهور عقله إلا دقة واحدة من دقات ساعة الفلك، وأنه كلما تقدم في الزمن وقف على مدهشات وعجائب تحير العقل، وتخلب اللب، وتثير الدهش، وتزيد في العبر.
والآن. . . وبعد أن ظهر لك بعض الفوائد التي جنتها البشرية من هذا العلم السامي المبني على أدق القوانين الرياضية والطبيعية، وبعد أن تبين لك أثره بحوثه على عقلية الإنسان، بعد كل ذلك هل من الأنصاف أن يقال إنه علم غير مفيد؟
أو ليس الأنصاف والعدل يقضيان على الإنسان أن يعترف بسموه وسحره الحلال الأخاذ؟
أليس الوقوف على أسراره ومحاولة كشف غوامضه مما يزيد المرء اعتقادا بضآلته وشعوراً بأن الواجب عليه أن يكون كثير التواضع وفي الذروة العليا من سمو الخلق؟
ثم أليس هذا التواضع وذاك الخلق السامي من العوامل الأساسية في سعادة البشر وطمأنينتهم؟
وأخيراً أليست السعادة والطمأنينة هما الغاية التي يصبو إليها الإنسان على سطح هذه الكرة العجيبة. . . . . .؟؟
(نابلس)
قدري حافظ طوقان
بيوولف
أقدم ملاحم الإنجليز الشعرية
للأستاذ حسن عبد الحليم اليماني
تمهيد تاريخي:
يرجع أصل الإنجليز إلى قبائل الأنجلو سكسون التي كانت تنزل الأراضي المنخفضة الألمانية في الجزء الممتد من مصب نهر الألب إلى شاطئ البلطيق، وذلك قبل أن يدعوهم البريتون سكان الجزر البريطانية الأصليون في عام 449م لطرد قبائل الغال التي وفدت على بلادهم مستعمرة. وحلا لهم بعدها البقاء، وتكاثروا حتى غلبوا أهل البلاد على أمرهم؛ فبرزت إلى الوجود ثلاث ممالك إنجليزية ضمت تلك القبائل المتفرقة؛ وهي ممالك: نورتمبريا، ومريشيا، ووسكس ، وذلك في أواخر القرن السادس الميلادي. وكان الإنجليز قد حملوا معهم نصيباً من الأدب المتوارث تواتراً عن موطنهم الأول. ولم تكن لهم حروف صالحة لتدوينه؛ حتى إذا اعتنقوا المسيحية، عرفتهم إلى حروف الرومان الهجائية، فسجلوا به ما وعته حوافظهم من ذلك التراث. وقامت في هذا الصدد محاولات ناجحة، أزدهر بها سوق الأدب ونفق، وخصوصاً على يد أهل نورثمبريا التي قامت على رعاية الأدب وحفظه، فدونوا الملحمة الشعرية (بيوولف) التي سنتكلم عنها كما سجلوا غيرها من آدابهم وتواريخهم. ونمت تلك الحركة إلى أن صدمها الغزو الدنماركي الذي عاود البلاد مرتين؛ ثم شلها بعد الغزو النورماندي عام 1066م، فأوقف نماءها قرابة قرن ونصف قرن. فالذي خلص لنا من تراث ذلك العهد إنما يمثل لنا في صدق صميم الروح الإنجليزية، قبل أن تسمها مياسم جديدة من أثر الاختلاط بين الإنجليز والبربتون ثم بينهم وبين الدانماركيين والنورماند اجتماعياً وسياسياً؛ وقبل أن تطبعهم المسيحية بطابعها. كما أنها ترسم لنا تلك المحاولات الأولى التي قام بها الإنجليز في سبيل تدوين أدبهم والتعبير عنه؛ وتوقفنا على التدرج الطبيعي الذي لازم تلك الجهود من دور إلى دور.
بيوولف
بيوولف ملحمة شعرية طويلة فيما يزيد على ثلاثة آلاف بيت نظمت - على الأرجح - في مستهل القرن الخامس الميلادي، قبل أن يزايل الإنجليز موطنهم الأول إلى بريطانيا. وطابعها المميز لا يقوم على إنها أقدم قصائد الإنجليز عهداً، بل على إنها أصدق صورة للمجتمع الأنجلو سكسوني القديم، توضح لنا في جلاء حياة القوم في وطنهم الأول، وترسم لنا أخلاقهم وعاداتهم، وتنفذ إلى أكواخهم ودخائل معايشهم، وتسجل تاريخهم وأيامهم. فقيمتها لهذا لا ترتكز على الناحية الفنية فحسب. أما عبارتها فأنيقة موجزة، تطرد كل الطراد مع الموضوع الذي تؤرخه وتروي حوادثه الحربية، في سرعة وتسلسل لا يفقدانها توازناً، أو يبعثان إلى سطورها مللاً وسآمة. وهي أن كادت تخلو من التشبيهات التي لا تعدو خمسة، فيها كثير من الاستعارات الجميلة البسيطة. والشعر السكسوني لا يأبه للوزن والقافية، وإنما يعتمد كل الاعتماد على النبرات والمقاطع المشددة، يكاد يلتزمها في كل جزء من أجزاء البيت، فلا يكاد يخلو جزء من ثلاث كلمات مشددة، تتشابه كلها في حرفها الأول غالباً.
وبيوولف قطعة رائعة نادرة من الأدب القديم، ظلت حبيبة إلى قلوب الإنجليز ومشاعرهم خلال عدة قرون، وإن كادت تختفي اليوم وتنسى إلا من كتب الأدب. وكثيراً ما أوحت إلى الشعراء وأمدتهم ببضاعة حية زاخرة، وآخر من نلمس أثرها فيه منهم شاعر اسكتلندا الكبير وليام دنبر (من حوالي سنة 1460 إلى سنة 1513م). وهي إلى هذا لا تخلو من سطوة الخرافة عليها، شأن الملاحم القديمة، تلك الخرافة التي أنتجها الخيال الآري الخصب، والتي تظهر لنا واضحة جلية في آداب الإغريق والرومان والتيوتون (آباء الأنجلو سكسون)، والتي نراها تتسلسل إلى أساطير الفراعنة أيضاً. وهي في كل حالاتها تحاول أن تمجد الإنسان وترفعه - على صور عدة - إلى مصاف الآلهة وأنصاف الآلهة، وحتى تنتظمه وإياها في وشائج وأنساب متشابكة متداخلة؛ على أن أسطورتنا هذه لا تسمو ببطلها إلى حيث يختصم الآلهة وينتضل الأرباب، بل تقنع بتوجيهه إلى أغوار الجن والمردة، يصارعها وتصارعه، حتى يغلب أشدها مراساً وأقواها أيداً.
ولغة القصيدة لا تكاد تفهم اليوم، فقد نبت واستوحشت. وحوادثها تدور حول البطولة الوثنية وحول حياة قبائل البلطيق فتتخذ لها مسرحاً أرض زيلند وجوتلند وخليج البلطيق
الذي يفصلهما.
حكم زيلند - في الماضي السحيق - الملك روثجار وكان أبداً مظفراً في حروبه ظاهراً في غزواته، تضفي عليه تلك اسماً عريضاً، وتدر عليه هذه أسلاباً وغنائم، حتى إذا أتخمه الخير، وفاضت خزائنه غنى، أبتني له ولفرسانه قصراً منيفاً جميل الأبهاء فسيح الأرجاء، موشي الجوانب مستفيض الرونق، يقيمون فيه نهارهم لاهين فرحين، وليلهم قاصفين ثملين - وإلا فمن أولى من الأبطال الميامين بساعات تروح عنهم أكلاف الحرب وأثقال النزال؟
قام القصر على أرباض شاطئ رملي، ينداح حتى ينتهي إلى مجاهل موحشة تتاخم أغوار الماء حيث يقيم المارد جرندل المخيف في رفقة أمه، وكان الفرح والنور أعدى أعداء ذلك المارد؛ جرى في دمه بغض متأصل لهما، ما يكاد ينفذ إلى حواسه منهما دبيب أو بريق، حتى يثور داءه، وحتى يود لو ألتهم هذا القصر الذي ما عرفت حياته غير الفرح والنور، وبعث به إلى فمه لقمة تنساغ بالبرد والراحة إلى جوفه، وبيت أمراً ما زال يتربص له الفرص متلصصاً حول القصر، حتى إذا آنس من أهله غفلة ران بها عليهم كرى ثقيل، وذبلت الأضواء وخرس الصخب، أنساب إلى القصر خفية، ثم كر عنهم وفي قبضته ثلاثون فارساً. حتى إذا تنفس الصبح ألهب القصر شجيً وأقام بأرجائه مناحة!
وتمضي أثني عشر عاماً قاسية مريرة، يفجع فيها المارد قصر هيوروث في كل ليلة، وينفلت سالماً في كل مرة بضحاياه لا تطفأ له حفيظة أو يرد سغب، حتى أوشك القصر أن يقفر من رجاله، وحتى تهاوى الملك روثجار منحدراً إلى الضعف والهرم، يثقله الحزن وتتلقفه الفواجع وترامت الأنباء ومَلك الأسى كل قلب، حزناً على ذلك الملك المجيد، وعلى ما ألم به من مصائب لا تكاد تبين!
وفي قصر هايجلاك ملك جوتلند، حيث يعيش قريبه الفتى بيوولف ترددت أنباء الفجيعة، فدلفت من أسماع الفتى إلى قلبه، وحركت فيه توقاً إلى ملابسة هذا المشهد، والى الاستمتاع بمصارعة ذلك المارد، الذي طغى وطغى حتى لا مزيد على طغيانه. كان فتى خارق القوة، يختزن كفه بأس ثلاثين رجل، يملك على نفسه حب المخاطرة سعياً وراء الاسم ونشوة النصر، وفي خمسة عشر من صفوة رجاله احتواه السفين فجرا، ميمماً مملكة زيلند، حتى طالعتهم صخورها تلتمع في أضواء الغسق الخفيفة في فجر اليوم التالي. وقابلهم حارس
الشاطئ في شك، وما عتم أن صحبهم إلى القصر كما طلبوا. وهنالك على الأبواب ألقوا بتروسهم ومزاريقهم، وخفوا إلى لقاء الملك في خوذاتهم الذهبية وقد زادتهم بهاء وروعة (ودب إلى روثجار بمرآهم دبيب الصبا وعاودته أحلام الفتوة) وأفضى إليه بيوولف إنه جاء في طلب المارد، عله يريح الشعب الصديق من شره وأذاه. ورحب الملك بمعونته شاكراً. ودوت أبهاء القصر مرحبة بالضيوف البواسل، ومضى النهار وشطر من الليل في قصف وشراب وغناء ورقص. حتى إذا دنى موعد قدوم المارد تسلل كلاً إلى فراشه وخلا البهو لبيوولف، يلتفع الظلال ويتخفى بها متحفزاً للقاء معداً له عدته.
برز المارد من مكمنه فما هي إلا أن ولج باب القصر، حتى احتواه بهوه، تومض عيناه شرراً، وتنطلق ضحكاته عريضة، وقد وجد سبيله ممهدا؛ فالكل غاف مستغرق. وتناول أقرب النوّام إليه فعب دمه ثم التهمه، ودار إلى فريسة أخرى، وإذا بقبضة بيوولف الجبارة تشل ساعده. أذهلته فجاءة، ولكنه ما لبث أن أفاق إلى صراع عنيف مع بيوولف - وأهتز القصر تحت أقدامهما، وتهاوت السرر، وتحطمت المقاعد، وفزع النوام على ذلك المشهد المروع. وجاهد المارد طويلاً وأستجمع بطشه، لا ليحطم بيوولف كعهده ببني البشر، وإنما ليقنع بالإفلات تاركاً لقبضته كتفاً مخلوعاً وذراعاً مفصولاً!
وجاء الفجر، فخرج بيوولف برجاله في أثر دمائه المنزوفة، وهنالك على الشاطئ طالعهم الماء أحمر قانياً وقد صبغه الدم المسفوك، فأيقنوا أن المارد قد ودع الحياة إلى القاع قبراً يطويه، فلا نشور له ولا رجعى. فيا للفرح يثير البلاد ويملك عليها المشاعر! ويا بيوولف يخب في الخلع، وتثقله الجوائز!
استطاعت الأجفان أن تطعم النوم في ليلتها تلك، ولكنها نامت عن أم ثكلى، قرح الدمع أجفانها، وتحلبت شفتاها قرماً وعصف بها طلب الثأر. وفي هدأة الليل هاجمت أم المارد القصر، وأهله تستغرقهم أحلام النصر، ومضت عنه ومعها ذراع ابنها وأحد النبلاء انتقاماً للقتيل، وإرواء لهامته! وهب الغافلون فزعاً فإذا بها تمضي إلى وكرها كالريح الخاطف، الأمر الذي أحنق بيوولف فأقسم ليلحقنها بابنها وشيكاً.
خرج بيوولف برجاله صباحاً يقتصون أثرها، ويذرعون تلك المجاهل الموحشة، فإذا بها أرض عذراء تكتنفها الخوانق، وتقطعها الأخاديد، وترقشها برك ومستنقعات آسنة، تعج
بحياتها وثعابينها، يتحدر عليها الماء من شعب خفية في الصخور، فكأنه ينضح عن مزن ملئ وسحاب عامر، ثم تغوص هذه البرك مدومة إلى كهوف غائرة، بينما تلتهب هنا وهنالك - على سطح الماء - نيران خاطفة غريبة. (فلو أن قنيصة أنهكها الطراد، وحوم على عنقها الشرك، رأت في أكنافها خلاصاً من موت محقق، لآثرت عليها ذلك الموت، ولوجدت في ورده مشرعاً أعذب من وردها!) وإذا وصلوا في تطوافهم إلى حيث صرع جرندل المارد بالأمس فخضب الماء بدمه، رأوا الصخور تعمر أحجارها بنفر من الجن، وخف بيوولف إلى قوسه فأردى بسهم منها واحداً من هذا النفر - ثم استل سيفه الماضي وغاص بعيدا بعيدا إلى الأعماق في أثر الجن الغائص هرباً. ظل بيوولف على غوصه يوماً كاملاً، حتى إذا قارب القاع أطبقت عليه أم المارد - وكان خلقها وسطاً بين الإنسان والذئب - ثم حملته إلى كهفها، حيث ثار بينهما نضال لم يغن فيه سيفه ولم ينل من لحمها الصفيق العضب، وإنما أجدى عليه كفه الجبار يمسك الجنية فلا تحير منه خلاصاً، وواتته الفرصة فلمح سيفاً حديداً من سيوف المردة، سرعان ما خطفه وأهوى به على رأسها فعزله. وأدار بيوولف بصره فإذا جثة المارد صريع الأمس - لقي لا روح فيها، وبالسيف الذي أودي بالأم فصل به رأس الابن، وسبح بيوولف بالرأسين - مخلفاً وراءه كنوزاً لم يلهه لألاؤها - وما زال يعلو إلى السطح ورأس المارد ينزف دماً، حتى صبغ الماء، وملأ قلوب رفاقه عليه فزعاً، وقد طاف بهم أن دمه هو ذاك الذي خالط الماء ومازجه. وما كان أروع اللقاء وقد برز إليهم سالماً صحيحاً! وحمل الرفاق رأس المارد ورأس أمه وألقوا بهما تحت أقدام الملك، وأستأذنه بيوولف في الرحيل قائلاً:(آن لك أيها الملك أن تهدأ بالاً، وأن يعرف النوم سبيله إلى عيون فرسانك) انقلبت البلاد إلى شعلة من الفرح، وأقلع بيوولف في عصبته إلى جوتلند، تنوء رحالهم بالهدايا، وتسير بذكرهم الركبان.
وأتى حين بعد ذلك سعى فيه عرش جوتلند إلى بيوولف، واعتلى تاجها رأسه، فحكم شعبه خمسين عاما عادلا شجاعا، لا يمل الغزو والجلاد. وكان آخر عهده بهما خروجه لقتال مارد مخيف أقام في كهف من الكهوف يحرس فيه كنزاً نادراً. وفعلت قبضة بيوولف فعلها في المارد فأوردته الردى، إلا أن حر أنفاس الجني أتلفت جسمه، ونفذت إلى دمه فسممته، نتيجة لاشتباكهما في صراع عنيف طويل، واحتواه بعدها فراش السقم حيث غلبه الداء
ومات. وعلى صخرة عالية يستشرقها البحر، وتشرأب إليها المروج الخضراء، أقام أهل جوتلند نصباً من خشب الصنوبر الثمين، علقت عليه الدروع، ورفت عليه السيوف، مثوى لجثمان مليكهم العزيز. وتنفيذاً لوصية بيوولف أضرموا النار تلتهم النصب ووديعته، وتلاشت من أمام أعينهم رويدا رويدا صورة مليكهم الدنيوية، حيث وجدت طريقها إلى السماء على ألسنة اللهب الصاعدة مع الهواء!
حسن عبد الحليم اليماني
مكانة مصر في المغرب العربي
للأستاذ محمد السعيد الزاهري
يشاع اليوم في الجزائر أن الآنسة أم كلثوم قد أزمعت أن تقوم بسياحة في بلاد المغرب وأن حكومة مراكش قد رفضت أن تسمح لها بدخول المغرب الأقصى. قالوا ولذلك عدلت الآنسة عن زيارة المغربين الآخرين (الجزائر وتونس) وهذه هي المرة الرابعة التي نسمع فيها هذه الإشاعة تتردد في أرجاء المغرب العربي وتكون مشغلة الرأي العام فيه ويهتم لها الناس ويندفعون في شرحها والتعليق عليها بمختلف الآراء والأقوال: فهذا يقول لقد أحسنت السلطات بذلك إلى أهل مراكش ووفرت عليهم أعراضهم وأموالهم بمنع المطربة المصرية من دخول هذه البلاد، إذ لو أن هذه الآنسة زارت مراكش لملكت على أهليها قلوبهم وأهواءهم، ولذهبت بعقولهم وألبابهم، واستولت على أموالهم وعلى ما كسبت أيديهم، ولكانت عليهم في الآخرة نكبة مالية كبرى لا تقل في فداحتها وقسوتها عن هذه الضائقة العاتية التي أهلكت الزرع والضرع وأخذت بمخانق الدنيا كلها؛ ولذلك يقول لقد ضيقت السلطة بذلك على المغاربة حريتهم الشخصية ومنعتهم مما تهوى إليه أفئدتهم وحالت بينهم وبين ما يشتهون؛ وهنالك آخر يقول غير هذا
ومهما أختلف الناس في تفسير هذه الإشاعة وفي تأويلها فأنها تدل على شيء واحد وهو أن هذه الآنسة قد غزت بصوتها الملائكي الطروب قلوب هؤلاء الناس، وأن منزلتها في بلاد المغرب العربي لا تقل عنها في مصر، وأن المغاربة يتذوقون فنها وغناءها كما يتذوقهما المصريون.
قالت مجلة (السلام) الغراء التي كانت تصدر في مدينة تطوان في بعض أعدادها أن المغاربة مولعون بالموسيقى المصرية وبالتلحين المصري إلى حد الهيام، حتى أن العواتق في خدورهن ليهتفن بأم كلثوم ويترنمن بألحانها وأغانيها. ولقد رأينا بعض المراكشيين المشهورين بالتدّين والصلاح قد طرب وانشرح ونسى انه من أهل الورع والتقوى، ولم يزل به الطرب والانشراح حتى خرج عن رزانته ووقاره إلى حالة من العبث والطيش تشبه أن تكون جنوناً وذلك حين سمع في (الفونوغراف) صوتاً للأستاذ محمد عبد الوهاب. ولا تجد في المغرب الأقصى داراً فيها (فونوغراف) إلا وتجد كل أسطواناتها أوجلها
مصرية لأم كلثوم وعبد الوهاب وسامي الشوا ومن إلى هؤلاء. وتباع الأسطوانات المصري هنا بثمن مرتفع قد يفوق ثمنها الأصلي أضعافاً مضاعفة. ولقد مرت علينا أيام رأينا فيها أسطوانات أم كلثوم وعبد الوهاب تباع الواحدة منها بثلاثة جنيهات إنكليزية قبل هبوط الإسترليني.
والواقع أن الألحان والأغاني المغربية التي كانت إلى عهد قريب منتشرة شائعة في المغرب العربي قد اختفت اليوم من الميدان، وتخلت عن مكانتها من الذوق المغربي العام لألحان مصر وأغانيها، ولا نستثني هذا التراث الذي بقى بأيدينا من فن الأندلس وغنائها فقد تزحزح هو الآخر عن مكانه للغناء المصري وترك له المجال واسعاً فسيحاً.
ولما أعلنت الحكومة المصرية إنها ستفتح في القاهرة محطة للإذاعة اللاسلكية تهالك الناس في الجزائر وتونس ومراكش على أجهزة المذياع (الراديو) يشترونها ويقتنونها رجاء أن يستمتعوا بسماع ما تذيعه مصر من الأغاني والمحاضرات، ولكنهم عادوا فجعلوا يبيعون أجهزتهم ببعض قيمتها عندما تبين لهم أن المحطة المصرية لم تكن محطة عالمية يمكنهم سماعها.
كل هذا دليل على أن الذوق العام في بلاد المغرب العربي هو نفس الذوق العام في مصر ليس بينهما شديد خلاف. ولعل تونس ومراكش هما أرقى من هذه الناحية، فالحياة فيهما مترفة ناعمة تؤثر الطرب والسماع، وتميل إلى اللهو والاستمتاع، بخلاف الجزائر فأنها عريقة في البداوة مطبقة الجهل والأمية، لا تزال تغلب عليها حياة العشائر الأولى، تشعر القبيلة فيها بأنها قبيلة وكفى، وقلما تشعر بأنها شعبة من الجزائر فضلاً عن أن تشعر بأنها من الأمة المغربية أو الأمة العربية الكبرى. ولعل مدينة وهران قد ضربت الرقم القياسي في البداوة والأمية وفي البعد عن العالم العربي دون أنحاء الجزائر كلها، ومع ذلك فكل مقهى من مقاهيها، وكل بيت عربي فيها، فيه (فونوغراف) لا يخلو من الأسطوانات المصرية، وإننا لنسمع فيها الأنغام الساذجة البسيطة التي تحاكي رسيم النجائب وخبب الجياد إلى جانب الفن والإبداع في أنغام أم كلثوم وعبد الوهاب.
ولما عرض فيها للمرة الأولى الشريط المصري (أنشودة الفؤاد) أقبل عليه هذا الجمهور العربي في وهران إقبالاً منقطع النظير طيلة ثلاثة أسابيع، وبعد بضعة أشهر عرض للمرة
الثانية وأستمر عرضه ثلاثة أسابيع أخرى فكان الناس إلى الحفلة الأخيرة يتدافعون إليه بحماسة وشوق لا نظير لهما حتى أن منهم من شاهده عشر مرات!
وعندما أزمعت فرقة مصرية للتمثيل الهزلي أن تقوم برحلة في بلاد المغرب قالت عنها جريدة مصرية محترمة إنها ستبوء بالفشل الذريع، وستقنع من الغنيمة بالإياب، أو أنها على الأقل ستكابد في مهمتها ألواناً من المشقة والعناء ما لم تترجم مسرحياتها من اللغة المصرية إلى اللغة المغربية. وقامت هذه الفرقة برحلتها ونجحت في مهمتها نجاحاً باهراً لم يكن يخطر لها على بال، وتذوق المغاربة رواياتها وفكاهاتها وأدركوا مغزى (النكتة) المصرية من ملهياتها من غير أن تضطر إلى ترجمة كلمة مصرية واحدة إلى اللغات المغربية؛ وبعبارة أخرى أن هذه الفرقة وجدت نفسها في بيئة عربية مغربية لا تختلف عن مصر إلا كما تختلف الهيئة المصرية نفسها باختلاف المديريات والأقاليم، ووجدت أن كل ما يقال من وجود لغة مصرية ولغات مغربية هو من الأوهام الباطلة لا أصل لها، وإنما يوجد لسان عربي واحد تتكلمه الشعوب العربية (مصر وأخواتها) بلهجات تختلف اختلافاً لا يحول دون التفاهم بين الناطقين بالضاد، ولا توجد في الدنيا لغة إلا ولها لهجات تختلف فيما بينها اختلافاً كثيراً أو قليلاً.
وكثير من الغربيين من يعتقدون أن الشعوب العربية تتكلم اليوم لغات مختلفة متباعدة فيما بينها، وبعيدة كل البعد عن العربية الفصحى التي أصبحت في نظرهم لغة مواتاً. كما أن الشعوب اللاتينية تتكلم اليوم لغات متباعدة فيما بينها جداً حتى لا يمكن للفرنسي أن يفهم الأسبانية أو الإيطالية دون أن يتعلمها، وهذه اللغات هي الآن بعيدة عن اللغة اللاتينية التي هي أصلها.
وفي هذه الأيام نشرت صحيفة فرنسية تصدر بالجزائر مقالاً عن الحج إلى بيت الله الحرام عنوانه: (اللغة الفرنسية في مؤتمر مكة) زعم فيه كاتبه أن حجاج الجزائر ومراكش وتونس وطرابلس ومصر وسوريا ولبنان وفلسطين والعراق سيتفاهمون في (مؤتمر مكة) لهذا العام باللغة الفرنسية، لأن لكل فئة من هؤلاء الحجاج لغة قومية لا يفهمها الآخرون، ولأن الفرنسية منتشرة بين جميع الطبقات في هذه الأقطار. وأبى أن يرجع إلى الصواب إلا بعد أن رأى بعينيه وسمع بأذنيه بحارة مصريين يتحادثون مع بعض العملة الجزائريين
والمراكشيين من غير أن يكون بينهم ترجمان!
وكان عالم فرنسي من علماء المشرقيات جاء بلاد المغرب مندوباً من وزارة المعارف الفرنسية لدرس اللهجات العامية المغربية، فلبث في هذه البلاد يبحث ويدرس ويستقرئ، ثم رفع إلى الوزارة تقريراً بالنتائج انتهى إليها في دراسته وأبحاثه، ونشر هذا التقرير وأطلعنا عليه فإذا هو مملوء بالأغاليط والأضاحيك، فقد زعم فيه أن عربياً تونسياً تزوج فتاة عربية من بجاية (الجزائر) فلم يستطع الزوجان أن يتفاهما - لتباعد لغتيهما القوميتين - إلا بالفرنسية التي لم تكن تلم بها الزوجة إلا إلماماً قليلا. والحق أن هذا التقرير هو دعوة صريحة إلى إيجاد فروق بين اللهجات المغربية والى تجسيم ما يكون منها موجوداً بالفعل.
وحدثني ذات يوم فنان فرنسي قال: (كنت أعتقد أنه لا بد أن يأتي يوم على المغاربة يصيرون فيه فرنسيساً خُلصاً من حيث تذوق الفن والشعور بالجمال، غير أني رجعت الآن عن اعتقادي هذا، فقد مضى على فرنسا في الجزائر مائة وبضع سنين لم تستطع أثناءها أن تجعل العرب الجزائريين أن يقبلون على الأفلام الفرنسية، أو يطربون لسماع عازف فرنسي مهما كان محسناً بارعاً، أو يتذوقون غناء فرنسياً مهما كان منسجماً ساحراً يستهوي القلوب ويأسر الألباب، على حين نرى المغاربة جميعاً يقبلون الإقبال الذي لا نظير له على الأفلام المصرية وتستهويهم مصر بأنغامها وأغانيها، ويعجبون الإعجاب كله بالفنانين المصريين). ثم قال (ولقد راعني إقبال هؤلاء الناس على شريط الوردة البيضاء وتهالكهم على مشاهدته، فشاهدته أنا أيضاً، ولكنني لم أجد في هذا الشريط ما يعجبني، على أن جميع من في المسرح كانوا يشاهدون عبد الوهاب وكأنما هو ملك كريم قد هبط إليهم من السماء وينصتون لصوته وكأنما هو نغم إلهي يتنزل عليهم من الملأ الأعلى)
وما من شيء له أثر في حياة المغرب العقلية أو الاجتماعية إلا وهو مصري غالباً فمثلاً كتاب (مختصر قليل) في الفقه الإسلامي على مذهب الإمام مالك بن أنس هو كتاب مصري قد جعل أفئدة من الناس في المغرب تهوى إلى مصر، له منزلة سامية في قلوب المغاربة يخصونه بكثير من التقديس والاحترام، ومنهم من يتعبدون بتلاوته كما يتعبدون بتلاوة القرآن الكريم؛ ولم يعد خافياً أمر ذلك الفقيه المرحوم الذي كان يصلي (النافلة) بهذا الكتاب ويقوم به الليل عابداً متهجداً؛ ولا أذيع سراً حيناً أقول أن هذا (المختصر) لا يزال له إلى
الآن في كلية القروبين بفاس (حزّابة) كما للقرآن (حزّابة)، وهم يتقاضون أجوراً أوفر وأسنا مما يتقضاه (حزابة) القرآن العظيم؛ ولتلاوته هذه الراتبة أوقاف كما لتلاوة القرآن أوقاف. وفي بلاد المغرب طبقة من المحافظين يقولون عن أنفسهم إنهم (خليليون)، وأهل المغرب جميعاً هم مالكية ماعدا وادي ميزاب بالجنوب الجزائري وجربة بالقطر التونسي، فأن اكثر أهلهما أباضية، ولكنهم قليلون جداً فعددهم لا يتجاوز الخمسين ألفاً، بينما تعد الجزائر وتونس ومراكش من الأنفس خمسة عشر مليوناً يجلون هذا الكتاب ويرفعونه إلى أعلى مقام، حتى النساء في خدورهن لا يفصل الخصومات التي تثور بينهن إلا الحلف بهذا الكتاب!
ولا يزال المغاربة ينظرون بعين الاعتبار إلى كل من طلب العلم بالأزهر الشريف، ولو أنه كان قليل التحصيل، ويعترفون بالفضل لكل من أقام في مصر أو رآها.
وفي بلاد المغرب طرق صوفية منتشرة بين سائر الطبقات لها أكبر الأثر في العقائد والأخلاق، وأكثر هذه الطرق مستمد من الشيخ البكري المصري، فأتباع هذه الطرق ومريدوها يحبون البكري ويرون لهم فيه (الشيخ الممد) فيرفعونه فوق كل الاعتبارات.
وما أنت بواجد ولا مغربياً واحداً إلا وهو يحفظ كثيراً أو قليلاً من شعر أبن الفارض الصوفي المصري المشهور.
وكل حركة دينية أو أدبية في مصر لها صداها القوي في هذا المغرب العربي، فالأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده المصري أنصار ومريدون. وفكرة الإصلاح الإسلامي التي كان يدعوا إليها أصبحت اليوم في الجزائر مذهباً اجتماعياً تعتنقه الكثرة الكثيفة من الناس وتقوده (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين). وكل أديب كبير في مصر له أنصار وأشياع في بلاد المغرب، فللأديب الإمام الأستاذ مصطفى صادق الرافعي أنصار ومعجبون وهو أكثر الأدباء المصريين تلامذةً وقراءً في هذه البلاد. وللمرحوم قاسم أمين أنصار يدعون المغربيات إلى السفور وترك الحجاب، غير أن دعوتهم لم تجد ملبياً ولا مجيباً فأخفقت إخفاقاً شديداً. وللزعماء المصريين منازلهم من قلوب الناس هنا. والمطبوعات المصرية تحتل المقام الأول عندنا، سواء في ذلك الصحف والكتب والمجلات. والصحف المغربية لكثرة ما تروي عن مصر وما تنشر من أخبارها تكاد تكون طبعات مغربية لزميلاتها
المصريات. على أن هذه الصحف المصرية الكبرى لا تهتم لبلاد المغرب إلا قليلاً، ولا تتكلم عنها إلا كما تتكلم عن مجهل من المجاهل التي لم تطأها قدم إنسان، فمن خلط في أسماء المدن المشهورة بالمغرب وفي أسماء الأشخاص البارزين إلى حوادث تحوكها عن المغرب وتخبط فيها خبط عشواء.
ويقول الشبان المغاربة الذين يطلبون العلم في جامعات فرنسا إنهم تعرفوا إلى الطلبة السوريين فعرفوا فيهم العروبة والاعتزاز بها ووجدوا منهم إخوانهم وذوي قرباهم، وتعرفوا إلى الطلبة المصريين فعرفوا فيهم رقة الشمائل ودماثة الأخلاق وما شئت من لطف وأدب، وأنكروا منهم هذه (الفرعونية) الجافية التي تجعلنا وإياهم كما قال شاعر العروبة الأستاذ إبراهيم طوقان:
أحب مصر ولكن مصر راغبة
…
عني فتعرض من حين إلى حين
أن تأريخ هذه البلاد حافل بالشواهد والبينات على أن المغرب يرتبط بمصر منذ العصر الحجري بكثير من روابط النسب والحضارة والدين
وإن الذي هو ما بيننا
…
وما بين مصر لمحض النسب
رباط العروبة يجمعنا
…
ويجمعنا ديننا والحسب
ولكن هل يمكن أن يبعث من جديد ما كان بين المغرب ومصر من الروابط وصلات القربى؟
وهران (الجزائر)
محمد السعيد الزاهري
رسائل حاج
من ربوع الغرب إلى بلاد العرب
للمستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس
أستاذ التأريخ بجامعة بودابست
لثلاثين عاماً خلت وأمنيتي الوحيدة الاشتراك في موكب الحجيج والذهاب إلى مكة، حيث بزغ فجر الإسلام، وانتشرت دعوة النبي الكريم وتعاليمه المقدسة. وقد انبثق في نفسي هذا الشعور أثر مشاهدتي رسوماً فوتوغرافية نشرت في إحدى الصحف الأوروبية الكبرى عن سياحة قام بها أحد الرحالين وتحدث فيها عن عجائب الشرق حيث تسطع الشمس طول النهار، ويريق القمر أشعته الفضية فوق رمال الصحراء في الليل.
وكان الأثر الذي تركته هذه الرسوم والمناظر الفتانة عميقاً في نفسي وباعثاً لإقبالي على تعلم اللغة التركية، وعلى زيارة الشرق مهد الديانات الحديثة ومهبط الوحي المقدس.
ولكن الأمور جرت في شيء من البطء، أي أكثر مما تخيلته في البدء، فمشاغل الحياة والواجبات اليومية الملقاة على عاتقي وقفت عقبة في سبيل تحقيق تلك الأحلام الذهبية التي تطوف بذهني وتجذبني نحو الإسلام. . . وأخيراً دعيت إلى زيارة الهند حيث قضيت بين ربوعها سنوات ثلاثاً لإلقاء محاضرات عن التأريخ في جامعاتها، وهناك اعتنقت الدين الإسلامي في مسجد دلهي العظيم، ومن تلك الساعة أحسست من أعماق روحي بأنني أقترب من الغاية التي أرنو إليها بحيث يصبح في مكنني الطواف بالبقاع الإسلامية المقدسة في مكة، والتعريج على المدينة مقر القبر النبوي الطاهر ومثوى سيد الحق. . . .
ولكن كيف أذهب إلى الحج وأنا لا أعرف من العربية حرفاً واحداً؟. . . . كيف أدرس (أم اللغات) وأنا في أوربا وبالأخص في بلاد نائية كالمجر لا يوجد بها من يتكلم بهذه اللغة التي هي في نظري أصعب من تعلم أربع لغات أوروبية معاً!!؟ وتلك لعمري كانت من أقوى العقبات التي وقفت حائلاً بيني وبين تنفيذ رغبتي أو تحقيق أمنيتي في حينها.
على أنه كان لي من قوة الأيمان وثبات اليقين ما دفعني إلى الإقبال على تعلم هذه اللغة مهما بلغت العقبات وقامت الصعاب، فبدأت أولاً أدرس العربية بدون معلم وبواسطة كتب
حصلت عليها من المكتبات الأوروبية، ثم عكفت على قراءة القرآن الشريف بمساعدة المعاجم اللغوية، وحفظت عن ظهر قلب معاني الكلمات المبهمة والألفاظ المعقدة. وتابعت السير على هذه الخطة عدة شهور إلى أن أصبحت بفضل الله ورعايته ملماً بأصولها. وفي خلال شهور الصيف أخذت أطالع قصص (ألف ليلة وليلة) والمعجم إلى جانبي، وكثيراً ما لاقيت صعابا كادت تفت في عضدي وتوهن من قواي، كالشعر الجاهلي الذي كان يبدو على الرغم من جماله وموسيقاه مبهما معقدا، فكنت من حين لآخر أقذف بالكتب جانبا وقد قر في عزمي ألا أعود إليه مرة أخرى ليأسي من التقدم
وبمرور الزمان انتصرت على جميع الصعاب، ورحت أتفهم العربية في شيء من السهولة واليسر، مع إنني لم أسمع في حياتي صوت متكلم بها؛ ولما أيقنت مقدار ما تبطنه الظروف وأن هناك بعض النقص في إلمامي بالأدب العربي والشريعة السمحاء صممت قبل الشروع في زيارة البقاع الإسلامية المقدسة إلى أن أقيم فترة طويلة من الزمن في مصر حيث الأزهر الشريف مركز الثقافة الإسلامية ومحط العلماء.
وفي الواقع كنت أسعد مخلوق في العالم عند ما ألفيت نفسي أدخر مبلغاً من المال يساعدني على أن أطيل إقامتي على ضفاف النيل السعيد مهد المدنية والسلام.
وعندما وطئت قدماي أرض القاهرة قوبلت بحفاوة عظيمة من جانب أدباء مصر وصحفييها وغيرهم ممن مهدوا السبيل أمامي لاستكمال نواحي دراستي في الأدب العربي، والتعمق في شعاب الدين الحنيف، بحيث أصبح قادراً على صد هجمات كل من تسول له نفسه الاقتراب أو التشويه من عظمة الإسلام في أوربا.
وكانت فكرتي مقترنة دائماً بأن أدرس العربية دراسة جامعية لا دراسة هواية، شأن الكثير من المترفين ممن يعكفون على تعلم اللغات لغرض السياحة أو بقصد القراءة الخفيفة المسلية؛ وكنت أرمي من وراء دراستي إلى القيام بخدمة الإسلام والمسلمين الذين وقعوا تحت نير الاستعمار الأوربي منذ قرون؛ وقد كانت هذه الغاية من أقوى العوامل التي دفعتني للتقرب من المسلمين في الهند وتركيا ومصر. وإن أنس لا أنس الظروف التي لاقيت فيها كثيراً من فقراء المسلمين الهنود، وهم يعيشون في بطون أكواخهم المشيدة من القش، ويستضيئون بأنوار الإسلام فتتحول تلك الأكواخ في أنظارهم إلى قصور وجنات
بحيث يحتقرون مظاهر الجاه والثروة ويطئونها تحت أقدامهم
فالقرآن هو المثل الأعلى لتوجيه الإنسان إلى الطريق السوي الذي يحتم على كل مسلم غيور ألا يحيد عنه قيد شعرة؛ والمسلم الذي لم تعم بصيرته عن تلك الحقائق ويفقه تعاليم دينه فقهاً صحيحاً يرى أن القبس الروحي يتأجج في قلوب المسلمين جميعاً ممن لا ينكصون من التضحية وبذل الواجب، والذين يفنون ذواتهم في ذات الغرض الأسمى، ويأخذون على عواتقهم التغلب على كل أمر والتجول في أنحاء العالم لنشر الدعوة وإظهار فضائل دينهم ومحاسنه
والواقع أننا قد نجد بعض مظاهر هذه القوة في الأيمان عند بعض الأمم الأجنبية الأخرى، لكنني ألفيت في قلوب إخواني المسلمين كنوزاً تفوق في قيمتها الذهب والأحجار الكريمة؛ ولقد عاشرت مسلمين فقراء كانوا لا يحجمون عن أن يقاسموا رفاقهم آخر كِسرة يملكونها من الخبز. . . كم استضافوني في بيوتهم المتواضعة وأعطوني أعظم شيء في الوجود!. . إنهم منحوني إحساس الحب والتآخي، ولقنوني عمل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعندما أطلقوني من ضيافتهم فاهوا بحكمة نبيهم الكريم:(اطلبوا العلم ولو في الصين)
وعقب وصولي القاهرة قصدت فوراً للإقامة في الحي الوطني المعروف (بسيدنا الحسين)، لكني لم أوفق للحصول على سكن ملائم
لقد كنت من خلال إقامتي الطويلة بتركيا أقطن في غرفة رحبة مؤثثة بالطنافس الوثيرة والرياش الفخم، وكنت أتناول أفخر المآكل الشرقية وأشهاها؛ فمن مظاهر الحياة الإسلامية فن الطهي، إذ يؤثر على النبي الكريم أنه كان يحث الناس على العناية بمسائل الطعام وبالذبيح المحلل، ولا تخفى الفائدة من وراء ذلك، فاتباع الطرق الصحية ووسائل النظافة والعناية باللحم مما يزيد في صحة الأجسام ومناعتها
كانت آمالي إذن قبل القدوم إلى القاهرة أن أقيم في بيت من تلك البيوت العربية الطراز، وبين قوم يرتدون اللباس الشرقي الفضفاض ويتناولون الطعام بأيديهم، ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، فأنني لم أوفق في الحصول على سكن ملائم، فاضطررت إلى الإقامة في نزل أوربي.
ولكم تألمت إذ ألفيت أهل القاهرة لا يلبسون الثياب الشرقية المزركشة، ويستبدلون بالقفطان والعمامة شعار الإسلام - الأزياء الأوربية، كما راعني في البيوت المصرية التي زرتها خلوها من الأثاث الشرقي، وأن أجد الشباب المصري يوجه عناية خاصة للإلمام بأنواع الثقافات الأوربية المتعددة، ويفرطون في جانب لغتهم وقوميتهم ودينهم!!
ولقد قال أحد أصدقائي المصريين في معرض حديث له معي: (يستحيل علينا أن نعود إلى تلك الأثواب الطويلة المهلهلة عندما نبغي الصعود إلى المركبات أو عربات الترام).
ولكني رأيت كثيراً من الناس يرتدون تلك الأثواب وما كان أجملهم في نظري وهم يتسلقون الترام أو السيارة بكل خفة ورشاقة والواقع أن تلك الملابس أفضل بكثير من الأثواب الأوربية الضيقة، ولا سيما القبعات التي نضطر إلى أن نحملها بين أيدينا عندما نجلس أو نزور أو نحيي أحداً
ومن رأيي أن الحصول على الأثاث الشرقي واللباس العربي والتطبع بالعادات الشرقية أمور يسهل اتباعها في القرن العشرين من غير أن يفقد المصريون خصائصهم ومميزاتهم، أضف إلى ذلك أن إحياء الصناعات القومية وإنعاش حال الأسواق الشرقية متوقف على إقبال المصريون على عاداتهم الأصيلة، أما التقليد الأعمى والاتجاه شطر أوربا وترك الثقافة والتراث القومي جانبا فصفات يجب التخلي عنها. وليت الأمر وقف عند الحد الذي شرحته، بل أن آمالي انهارت دفعة واحدة بمجرد أن زرت الأزهر وتفقدت الأروقة التي كثيراً ما قرأت عنها في شبابي وتخيلتها في أحلامي،. . . فمقاعد التدريس لا تزال كما كانت منذ ألف سنة، وبرامج التعليم ناقصة وغير مستوفاة لشروط الثقافة الحق؛ ولم أر في الأزهر سوى خلية للحكمة وبث التعاليم الإسلامية وقشور من العلوم الحديثة؛ أما المعاهد الدينية فهي نماذج مصغرة لجامعاتنا إذ أن هذا النوع من التعليم يقود الطلاب في سبيل البحث والاستقصاء والتعلم
(يتبع)
عبد الكريم جرمانوس
4 - سكان أعالي النيل
بقلم رشوان احمد صادق
وكان أهم ما يميز الملك والمدير أن كلاً منهما قادر على التكهن في الفصل في الخصومات وكذلك في الأمور القانونية، فكل الأمور التي تؤدي إلى المنازعات مثل القتل والموت كل هذه كان يفصل فيها بواسطة التنجيم والتنبؤ، وكانت هذه مصدر ربح عظيم للأسرة المالكة
والملك هو مصدر القانون وهو مطلق التصرف، فله الحق أن يقتل من شاء حسب إرادته، فسلطته استبدادية. وجماعة الأزندي يكونون وحدة سياسية، ومركز الفرد وسلامته واستغلاله لموارد بلاده الاقتصادية كل ذلك متوقف على قيامه بالواجب عليه نحو النائب والمدير والملك
وكل قبيلة تعرف باسم عميدها، فمتى مات أو قتل تشتت أفرادها. والقبائل هنا ليس لها أي صبغة سياسية ولا اقتصادية ولكنها ذات صبغة دينية. فنظام القبائل مؤسس على النظام الطوطمي، إذ لكل قبيلة حيوان تقدسه وتحرم على أفرادها أكل لحمه، إذ يعتقدون أن أرواح موتاهم تنتقل إليه. والرجل واخوته وأنجالهم يسكنون سوياً على ضفة مجرى مائي، ويعملون معاً في الزراعة والصيد وغير ذلك من شؤون الحياة. ويهتمون بشؤون كل فرد منهم كما يشتركون في الدفاع عن أي فرد يصيبه أذى منهم؛ وأكبرهم سناً يقوم بإلقاء الوعظ والإرشاد على الصغار أما من حيث الزواج، فإذا أراد الرجل أن يتزوج فعليه أن يعطي أقارب زوجته من عشرين إلى أربعين حربة، وهذه الحراب لا تشترى بماله الخاص، بل يهديها إليه والده وأعمامه، وهذا قد أدى إلى توثيق صلة الابن بالأب والأعمام
ومن أهم المظاهر الاجتماعية الشائعة بين الأزندي، والتي يهتم بها كل فرد في مجتمع الأزندي سواء في ذلك الملك والصعلوك هي مسألة الحسد، تلك المسألة التي تلعب دوراً هاماً في حياة الأزندي الاجتماعية، فهم يعتقدون أن أناساً كثيرين يحملون في معدتهم الحسد، وهذا الداء ينتقل من شخص إلى آخر بواسطة الوراثة، فالرجل الحسود أبناؤه الذكور حسودون، وأما بناته فلسن كذلك؛ والمرأة الحسود بناتها حاسدات وأبناؤها بعكس ذلك؛ وكانوا يشقون بطون موتاهم لمعرفة ما إذا كانوا حسدة أم لا
وفي اعتقاد الأزندي أن السبب في سؤ الحظ هو الحسد. فالمرض والموت وفشل الصيد
وقلة المحصول كل ذلك سببه الحسد. ولذلك عند حدوث شيء من هذا القبيل يبحثون عن الحاسد الذي سبب المرض أو غيره، وبعد معرفته يخبرون الرئيس عنه وهو يستدعيه إليه ويأمره أن يكف حسده وأذاه عنهم
والطريقة التي يستعملها الأزندي لمعرفة الحاسد هي طريقة التكهن أو التنجيم وأهم طريقة يستعملونها للتكهن هي الطريقة التي يسميها الأستاذ بريتشارد (بنج والتي يسميها الأستاذ سلجمان - وهذه تتلخص فيما يأتي: يحضرون بعض أنواع السم ويعطونه لدجاجة ويسألونها عند إعطائها هذه المادة عن الرجل الذي يشتبهون في أنه هو الحاسد، هل هو متهم أو برئ؟ فان ماتت الدجاجة التي أكلت هذه المادة السامة فمعنى ذلك أن الرجل متهم، وأنه هو الحاسد، وأما إذا لم تمت فأن الرجل برئ. فان أعيدت العملية مرات وكانت النتيجة ثابتة كان ذلك زيادة في التأكيد، فإذا مات رجل فان أسرته تبحث عن الحاسد الذي كان سبب موته فان عرفوه بطريقة التكهن السابقة الذكر فأنهم يقتلونه أو يدفع غرامة، وهذه الغرامة تقدر بامرأة وعشرين حربة
وإذا قتل رجل فأنه يحنط، والمدير مسئول عن البحث عن الحاسد الذي تسبب في قتله وذلك بواسطة التكهن ولا يقوم بهذا العمل غيره.
وأما في الأحوال الأخرى التي تدل على سؤ الحظ من مرض وغيره كما سبق شرحه فانهم يقومون بالبحث لمعرفة الحاسد بواسطة هذا النوع من التكهن، فإن عرف فإنهم يخبرون النائب عنه حيث يستدعيه ويأمره بأن يكف عن أذاه وحسده عنهم.
وهكذا يفصل في كل الأمور القانونية والمشاكل الاجتماعية بواسطة التكهن، والحكم الأوروبي الآن يرفض الاعتراف بمسألة التكهن الذي شرحناه على الوجه السالف. ولكن الأزندي تمكن من إيجاد مفر من تشديدات الأحكام الجديدة فلجأ إلى السحر، فإذا مات شخص فأن ذويه يحضرون ساحراً ليقوم بعمل السحر والتعاويذ اللازمة لهلاك من تسبب في موته بواسطة الحسد. ثم ينتظرون أياماً وأشهر ليروا النتيجة، فإذا سمعوا بموت أحد من جيرانهم أو من أعدائهم أو ممن يشتبهون فيهم فأنهم يقومون بعمل التكهن بواسطة الدجاجة كما سبق ذكره ويسألونها فيما إذا كان هذا الشخص الذي مات هو الحاسد الذي أهلكه السحر أم لا
وهذه طريقة أخرى للتخلص من النظام الأوربي الجديد للانتقام من الشخص الذي يتخذ الحسد حرفة له
وللأزندي اهتمام كبير بزراعة الأرض بعكس (الزنوج النيليين أو الحامي النيلي الكثيري الاهتمام بتربية الماشية). فهم يهتمون بتنسيق حدائقهم ومزارعهم بشكل يستحق الإعجاب. وتبدأ الزراعة في شهر مارس إذ يعدون الأرض فيزيلون بقايا الحشائش ويقومون ببعض الأعمال لتطهير الأرض. وأهم المحاصيل التي تزرع عندهم:
1) الذرة تزرع في مارس وتحصد في يوليو
تزرع في أبريل ومايو
2) الحبوب وتحصد في أغسطس
- وسبتمبر
3) الذرة (العويجة) تزرع في يوليو وتحصد في أكتوبر ونوفمبر وديسمبر.
وعندهم نوعان من الدورة الزراعية: (1) الدورة الخماسية (2) الدورة السنوية والأحادية. فأما الدورة الخماسية، وتكون لمدة خمس سنوات، فهي كما يأتي:
السنة الأولى تزرع ذرة رفيعة وحبوباً زيتية
السنة الثانية تزرع ذرة رفيعة وحبوباً زيتية
السنة الثالثة تزرع ذرة رفيعة وحبوباً زيتية
السنة الرابعة تزرع حبوباً زيتية فقط
السنة الخامسة تترك الأرض للراحة (شراقي)
وأما الدورة السنوية أو الأحادية فهي في سنة واحدة حيث يزرع محصولان في سنة واحدة: الذرة والبطاطا ويلاحظ أن البطاطا تزرع كسماد وتترك في الأرض بعض الأحيان.
والدورة الخماسية هي الدورة التي يتبعها الأزندي في حديقة منزله أيضاً، كما أن الذرة تزرع كسياج يحيط بمنزل الأزندي ويقوم مقام السياج الحديدي حول حدائقنا.
والأستاذ سلجمان يقول إن الأزندي يعتقدون في مخلوق عظيم يسمونه (مبول) ولكنهم لا يدعونه إلا عند الجفاف والقحط.
ويقول إنهم يعتقدون أن الإنسان بعد موته تخرج منه روحان: إحداهما تذهب إلى الحيوان
الذي تقدسه القبيلة (الطوطم) والروح الأخرى تذهب إلى القبر فتبقى فيه إلى حين، ثم بعد ذلك تغادره إلى رأس مجرى مائي حيث تبقى مع أرواح أجدادها وهم الآن يقومون بعملية الختان.
الفروق في الحياة الاجتماعية
لكل من الزنوج النيليين وأصحاب الرؤوس المتوسطة
الزنوج النيليون
رعاة
الماشية عماد الحياة
ليس عندهم ضحايا بشرية
لا يأكلون لحوم البشر
الرجال عراة الأجسام وأحياناً يلبسون جلوداً على الكتف، يزينون الشعر بأشكال مختلفة
النساء يرتدين نصف جلباب (ملكوف من الجلد يغطي النصف الأسفل من الجسم من الوسط حتى الركبة ويلبسن أساور من العاج في أعلى العضد،
بعضهم يخلع أسنانه الأمامية مثل النوير
ليس عندهم رؤساء للحكومات وهم ديمقراطيون يحترمون السحرة والمشعوذين ويأخذون رأيهم في بعض الأمور والرابطة الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية مبنية على القرابة والجنسية
أصحاب الرؤوس المتوسطة (الأزندا)
زراع ويربون الدجاج
ليس عندهم ماشية
الزراعة هي أهم ما يحترفه السكان وكذلك الصيد
عندهم تضحيات بشرية
كذلك أكل لحم البشر قلت الآن بعد الحكم الأوربي
الرجال يرتدون جلد الأسد أو قميصاً من الخيش أو الخوص أو سراويل. يضفرون
شعورهم من منبت الشعر إلى الكتف، ويلبسون قلنسوات من الخوص محلاة بريش الديكة
النساء يستترن بشبكة من ورق الشجر من الأمام والخلف تربط بحزام حول الوسط وأحياناً يرتدين (مريلة) ولا يستعملن الأساور المصنوعة من العاج إلا نادراً
لا يخلعون أسنانهم
حكومتهم منظمة لها صبغة سياسية ورؤساء سياسيون، والرابطة العائلية قوية بينهم
رشوان أحمد صادق
سليل القرد
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
عاش في الغاب القرد دهراً طويلاً
…
قبل أن يلقى للرقيّ سبيلا
وُلد القردُ قبل مليون عام
…
بشراً فارتقى قليلاً قليلا
إنما هذه الطبيعة في تَجْ
…
ديدها للحياة ليست عجولا
أيّ شيٍء ألمّ بالقرد حتى
…
هجر الغابَ نجله والقبيلة
إنه لولا العقل كان ضعيفاً
…
وعليه الحياةُ عبئاً ثقيلا
واقتنى فطنةً وكان غبيّا
…
وابتنى عزّةً وكان ذليلا
وعلى رجليه مشى بعد أن سا
…
ر على أربعٍ زماناً طويلا
تخذ الصخرَ بعد نحتٍ سلاحاً
…
يتّقي الوحش ضارياً أن يغولا
حادثٌ لم ير الزمانُ على الأر
…
ض له في كل الدهور مثيلا
ليس إنسانُ اليوم في كل أرض
…
غيرَ قرد في وسعه أن يقولا
منح الدهرُ الأرضَ خيرَ وليٍّ
…
وبه كان في القديم بخيلا
إنه في لقائه للضواري
…
لم يكن خَوًّاراً ولا إجْفيلا
إن عقل الإنسان خيرُ سلاحٍ
…
ولقد تفْضل العقولُ العقولا
ياله من تطوّرٍ حَوَّلَ القر
…
دَ لإنسانٍ يُحسنُ التخييلا
سنةُ الله في النشوء على الأر
…
ض فما إن ترى لها تبديلا
ليس من قدره يحطّ فيَخزَى
…
إنه كان للقرود سليلا
ولقد فارق القبيلةَ إلاّ
…
أنه ظلّ حبلُهُ موصولا
قبلَ إخلادِه لعائلة لم
…
يك إلاّ عن نفسه مسؤولا
ولدته عروسة الغاب من قر
…
دٍ جميل فكان قرداً جميلا
عاش أبناؤه دهوراً وما إن
…
عرفوا تحريماً ولا تحليلا
بعد فجر الإنسان كان غدُوٌّ
…
وأرى أن للغدوّ أصيلا
إن للشمس بعد كل شروق
…
يملأ الأرضَ بالضياء أفولا
دُوَلٌ فوق الأرض ذات احتشام
…
غير أني في خشية أن تدولا
إنني أخشى للنشوء انقلابا
…
فيعود الإنسان قرداً كسولا
وإذا ما خلا من الناس وجهُ ال
…
أرض كان الخلوُّ خطباً جليلا
وإذا ما بالعكس عاشوا وجدّوا
…
فسيمحون الموتَ حتى يزولا
وليأتي باسم السبرمان نسلٌ
…
هو أرقى منهم وأهدى سبيلا
يتقصى كنه الطبيعة حتى
…
ليس يبقى شيءٌ له مجهولا
إنما في حياته الصدقُ دينٌ
…
لا خداعاً يأتي ولا تضليلا
وترى فوق المنكبين له رأ
…
ساً كبيراً وساعداً مفتولا
وعلى رأسه الكبير ترى شع
…
راً أثيثاً تخاله إكليلا
وإذا ما أبصرت عند اللقاء ال
…
عينَ منه حسبتها قنديلا
وإذا ما تكاثروا حكموا الأر
…
ض بعدل جبالَها والسهولا
أخضعوا أصناف الأشعة حتى
…
جعلوا منها للسماء رسولا
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي
البعث!
للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير
مات الغرام وقد بكيتهْ
…
ورثيته ما قد رثيتهْ
كفنته ودفنته
…
وبدمعيَ القاني سقيته
وأتى الزمان يَصُوْرني
…
عن ذكره حتى سلوته
يا ليت شعري، كيف عا
…
دَ إلى الحياة اليوم مَيْته؟
أحببته عفَّ اللِحا
…
ظ سمعت عنه وما رأيته
كالخلد يرجوها أخو ال
…
تقوى ولم يرها - رجوته!
فكرت فيه فشاقني
…
وثوى الفؤاد وما دعوته
وطفقت أعبد طيفه
…
وأنا الذي بيدي بَرَيته!
بفمي اسمه، أروي به
…
ظمأ الفؤاد وما شفيته!
كالثلج فيه، وكلما
…
أمسسته قلبي كويته!
بيني الزمان وبينه!
…
وتجاورا بيتي وبينه!!
سميته (لولا) مخا
…
فة أن يساء وما كنيته
أوحى إلي وما دري!
…
وكتبت عنه وما نويته!
ماذا عليه لو صغا
…
وعلى مسامعه تلوته!
وهَمَي على عيني سنا
…
هـ، وسال في أذنَيَّ صوته!
علي أحمد باكثير
الحرمان
بقلم محمود حسن إسماعيل
أسدلت سترها! وقالت رويدا
…
عابد الحسن، واتئد في صلاتك
غب قليلا عن العيون وأنشد
…
خفقات الغرام في خلواتِكْ
إن همساً يرفُّ في ساحة المعْ
…
بد أخشى ذيوعه من وشاتِكْ!
غب قليلا وفي دمي لك عَهْدٌ
…
أنا والحبُّ. . والمنىَ. . لحياتِكْ
خمرتي شعرك العفيف، ويا طُهْ
…
ري إذا ما انتشيت من (كاساتك)
وجلالُ الهوى وقُدْس جمالي
…
صَبَواتٌ نفحن من أُغنياتِكْ
ريُّ روحي إذا ظمئتُ خيالٌ
…
مستطار يَرنُّ من أبياتِك
فترنم! فإن روحيَ تصغي
…
خلف أستارها إلى نغماتك!
قلت: والنار في دمي كيف تهدأ
…
إن حجبت الضياء من قسماتك
إن زادي من الحياة وميض
…
رشفته العيون من بسماتك
فتنتي إن رنوت موجة نورٍ
…
أشرقت في الجنان من نظراتك
كم طغى البؤس عابثاً بشبابي
…
فقبست النعيم من وجناتك
وتوجعتُ فانتحبتِ لشجوي
…
سكبت الهناء من قبلاتك
كيف أحيا وفي دمي تُقلق الرو
…
ح نوازٍ مفجعاتٌ فواتك!
أنا لهفان والنعيم بكفَّي
…
ك دعيني أمت على عتباتك!
قالت: اهدأ! فما عهدتك يوماً
…
تستثير النوى دفين شكاتك
كم غزا البين قربنا فتصبر
…
ت، ورمت السلوان من ذكرياتك
قلت: يا لوعتا لظمآن جنّت
…
روحه لهفة على رشفاتك!
كم وقفنا حيال قصركِ نبكي
…
وخلسنا الغرام من شرفاتك!
وشدونا الهوى ملاحن سحر
…
رقرق النور طيفها من سماتك
وشكونا النوى فكاد يطير الحس
…
ن فرط الحنان من غُرُفاتك!
آه يا زهرتي! لقد شفَّ روحي
…
ظمأ محرق إلى نفحاتك
فارفعي الستر بيننا، ودعيني
…
أتحسى الضياء من هالاتك
رب ومض من لحظ عينيك ساج
…
فجر السحر من سنا لمحاتك
نهلته عيناي فانساب شعراً
…
عبقرياً يفيض من نظراتك
وهنا. . أسدل الستار! ورنت
…
خفقة: لهفتا على أمنياتك!
(دار العلوم)
محمود حسن إسماعيل
نسيم الفجر
بقلم وهيب رشيد
(من الشاعر الإنجليزي
هب عند الفجر يجتاز البحار
…
قائلاً للسحب خلي الطرُّقا
هاتفاً بالسفْن قد جاء النهار
…
بزغ الفجر جميلاً عبقاً
أيها الملاح قم شُدَّ القلوع
وسرى في الأفق حراً جذلا
…
مرَّ بالناس جميعاَ نائمين
سيطر النوم عليهم فَجَلَا
…
سلطة النوم ببرهان مبين
صائحاً قد آن للشمس طلوع
مرَّ بالزهر مكباً نائماً
…
في ربى الغابة وسْنان العيون
فجرى فيها نشيطاً باسماً
…
يوقظ الزهر بتلويح الغصون
ومضى والغاب بالعطر يضوع
دخل العشَّ على الطير الجميل
…
راقداً يحلم أحلام المنى
فأحس الطير بالريح العليل
…
هز برديه سروراً ورنا
لحقول القمح بالعين الولوع
وغدا يقطع أرجاء الحقول
…
قاصداً ديك الصباح الغَرِدا
فتلقاه بلطف وقبول
…
وبلحن ساحر جذل شدا
مرحباً بالصبح، بالفجر الوديع
واتى المعبد قفراً موحشاً
…
ما به غير سكون مطبق
أيقظ الحارس فيه فمشى
…
يقرع الناقوس قرع المحنَقِ
يا نسيم الفجر أَحييت الربوع
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
28 -
تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية الإيجابية من مذهب نيتشه
السوبرمان أو الإنسان الأعلى
للأستاذ خليل هنداوي
وهذه هي الميزات التي يراها نيتشه تميز السوبرمان من الإنسان، يرى أن فضيلة الإنسان فضيلة تحمل إلى الناس جميعهم بدون فرق ولا استثناء، بيناً يرى أن فضيلة السوبرمان لا تعني إلا فريقاً منتخباً ضئيلاً سامياً. ألا ترى أوروبا اليوم جميعها تؤمن بديمقراطية تساوي بين طبقات الناس مهما اختلفت أصولاً وفروعاً. ونيتشه لا يرى في هذه الديمقراطية شيئاً طبيعياً، وهو يؤمن (باللامادة) ويريد أن يخلق طبقة أرستقراطية تتألف من أنواع محدودة، لكل نوع تعاليمه وأعماله وواجباته المكتوبة عليه، وأسفل هذه الأنواع هو مجموع الفئات المتوسطة التي يدور بأيديها دولاب المجتمع. فالنقش والتجارة والصناعة والعلم والفن تحتاج إلى عمال يخدمون برضاهم هذه الصناعات. يطيعون مختارين ويعملون مريدين. هؤلاء هم عبيد لأنهم ينفذون إرادة من هم أسمى منهم. وحق لهم أن تكون منهم الطاعة، وأن يحتملوا من الألم كثيراً لأن الحقيقة قاسية. على أن هؤلاء يجب أن تضمن لهم أسباب حياتهم فيكونون أكثر هناء واطمئناناً وسعادة من رؤسائهم، لا شغل لهم إلا أن يواصلوا دورة الحياة. . . أما الأيمان الديني عندهم فهو نعمة لا تثمن، لأنه كأشعة الشمس فاقة وجودهم المظلم، يعلمهم القناعة والسكينة ويجعل واجباً عليهم احتمال إرادة غيرهم. وهو الذي يبث في أرواحهم هذا الوهم الجميل القائل بأن هنالك نظاماً للأشياء. وأنهم هم أنفسهم لهم مكان نافع في نظام الكائنات والأشياء. هؤلاء يقول لهم زرادشت:(لكم لكم العبودية والأيمان!). وفوق هذا الفريق المديرين وحارسي الشريعة والذائدين عن النظام والبلاد والمقاتلين وأمير البلاد. أن هؤلاء يدبرون الأمر ويسوسون الملك بسلطتهم. أن هؤلاء هم الذين تخضع لهم إرادة العبيد حين يريدون. أما الفريق الأول فهو فريق السادة والعقلاء وخالقي (القيم الاجتماعية). هؤلاء يجب أن ينفذ تأثيرهم في قلب المجتمع، هؤلاء يجب أن
يهبطوا إلى الأرض ينزلون فيها بين الناس منزلة الآلة الذي يقدسه النصارى. هؤلاء هم السادة ولهم وحدهم صنعت فضيلة السوبرمان.
وهذه الفضيلة لا تتميز من غيرها بأنها فضيلة أرستقراطية فحسب، ولكنها تخالفها في المثل الأعلى الذي ضربته، أما الإنسان الفاضل في الشريعة المسيحية أو شريعة الزهاد فهو الذي يخضع حياته لمثل أعلى، ويضحي بميوله ورغابه في سبيل عبادة الخير والحق. أما العاقل في شريعة نيتشه فهو غير ذلك. العقال هو خالق (القيم) وليست مهنته إلا خلقها! لا شيء في الطبيعة له قيمة بنفسه، أن عالم الحقيقة هو مادة واحدة لا معنى لها ولا غاية إلا المعنى أو الغاية التي نراها نحن فيها ونعطيها إياها. الفيلسوف الحقيقي هو الرجل الذي ينطوي على شخصية قادرة على خلق الوجود، ويبعث في الناس الرغبة ويستهويهم، هو الشاعر العبقري الذي تتألف في نفسه (القيم الاجتماعية) التي يؤمن بها رجال العصر! هو مفكر في الأشياء، لكن تفكيره ليس إلا الشريعة السامية التي تهتز لها أمم! يبدع بحرية ما يشاء مستقل الفكر سائماً من الخير والشر، من الحقيقية وغير الحقيقة. هو يبدع حقيقته، ويخلق شريعته وفضيلته. إنه رجل مجرب لا يفتأ يتحرى عن صور لعوالم جديدة. تراه يضحي بحياته وبسعادته، ويفادي بحياة الآخرين الذين يجرون في مضماره وبسعادتهم دون أن يتزعزع. إنه لاعب جريء يتحدى الحظ، لا يحفل إذا كانت لعبته الحياة أو الموت.
أن العاقل عند نيتشه ليس بذي لروح الهادئ المسالم. هو من لا يعد الناس بالسلام وبالفرح الهادئ باقتطاف ثمرات عملهم. ولكنه يدفعهم إلى الحرب يلمع بين عيونهم الرجاء بالنصر والأمل بالظفر يقول زرادشت:
(إنكم ستتحرون عن أعدائكم، إنكم ستقاتلون وستحاربون من أجل فكرتكم، فإذا غلبت فكرتكم فليدفعكم إخلاصكم إلى السرور بهزيمتها. إنكم تحاربون السلم كوسيلة لحروب جديدة، على أن السلم الصغير هو خير من السلم الكبير
أنا لا أنصح لكم بالعمل، ولا انصح لكم بالسلم، ولكن أوصيكم بالظفر. ليكن عملكم حرباً وسلمكم ظفراً.
يقولون: أن السبب الشريف يقدس الحرب. وأنا أقول لكم: أن الحرب الشريفة هي التي تقدس كل سبب.
لا يجب أن يكون لكم من الأعداء إلا المبغضون لا الحقيرون، وإذ ذاك تكونون أولي زهو وكبرياء بأعدائكم، حتى ليغدو ظفرهم عليكم ظفراً لكم.)
أن القتال عند نيتشه هو خير سبب يعمل على التقدم، لأنه يرى مواضع الضعف ومواضع القوة. يرى الصحة والمرض في المادة والأخلاق. وقد يكون القتال تجربة خطرة يريده العاقل ليزيد في حيوية الحياة ويزيد آفاقها سعة. وليدرك قيمة فكرة ما وقدرتها على الإحاطة بمعاني الحياة. الحرب نعمة حسنة في ذاتها وتنبأ نيتشه بأن أوروبا ستدخل في عصر قتال تتطاحن فيه شعوبها في سبيل سيادة العالم.
وبينما كانت (القيم الاجتماعية) الأولى تضع الشفقة في رأس هذه القيم، كان زرادشت يِعلم رفاقه بأن الإرادة هي الفضيلة العليا (هذه هي الشريعة الجديدة التي أوصيكم بها، كونوا قساة أشداء) إذ يجب في الحقيقة على المبدع بأن يكون قاسياً عنيفاً إذا أراد أن يخضع الحظ، أو أراد أن يوحي بتعاليم جديدة. أن الشفقة ليست عنده بفضيلة، ولكنها خطر من أكبر الأخطار التي تلاقيه.
ألم يسمع (زرادشت) حول كهفه أصوات اليأس يرددها الرجال الذين يدعونه (تعال! تعال! قد حان الوقت) فلو أن الشفقة عليهم استهوته إليهم لكتب عليه الغلبة. إنه يحتاج إلى قوة قاسية تصرف عنه تأثير هذا الدعاء الباكي.
بينما كان زرادشت يغادر بيته لاحقاً اليائسين الذين يجأرون له، نزل مكاناً موحشاً خيل إليه إنه مدينة الموتى. هناك الصخور البارزة السوداء والشماريخ الحمراء، حيث لا تنبت عشبة ولا ينجم كوكب ولا يزقزق عصفور. هذا هو واد ينفر منه الحيوان، لا يأوي إليه إلا الأفاعي العظيمة الزرقاء، تأتيه في كهولتها لتعانق الموت فيه. في هذا المكان المروع أبصر (زرادشت) هيكل إنسان قبيح، فلم يشأ أن يتأمله، وَهَمَ بأن يركض ما استطاع فراراً من هذا المسخ. ولكن صوتاً أهاب به كأنه غرغرة محتضر أو بقية ماء في منحدر.
- زرادشت، زرادشت! نبئني بِسري! ما هو الانتقام من الشاهد؟
وفجأة استولت على زرادشت شفقة غريبة، ولكنه سرعان ما استعاد قسوته وصرامته، فأجابه
- أنا أعرفك. . . أنت قاتل الإله، دعني أسر في طريقي؛ أنت لم تحتمل من كان يراك
ويطلع عليك في كل ارتعاشك وشناعتك واشمئزازك أنت يا أقبح الرجال! فأخذت ثأرك من هذا الشاهد) خرج زرادشت ظافراً من هذه التجربة التي هلك فيها الإله. أن إله المحبة قد مات وقد خنقته شفقته بإطلاعه على كل نقائص الإنسانية وشناعاتها الخفية. أن شفقته لا تعرف حداً. إنه وطأ الأماكن الأكثر عمقاً والأسحق بعداً من النفوس البشرية. ولهذا مات، لأن الإنسان لم يعد بقادر أن يحتمل شاهداً يقظ العين على خزيه وعيوبه. أحس زرادشت بموجة الحياة تغمر نفسه إزاء هذا المشهد، فغض من طرفه وَهَمَ بان يتابع سبيله، معتقداً بأن متابعته للطريق أجدى عليه من أن يهدر أيام عمره هدراً في سبيل الجلوس إلى (جسد) لا ينفع فيه دواء. وفي صنعه هذا لم ينج من الموت وحده فحسب، بل اكتسب مع نجاته حب هذا الإنسان الكريه. أما الإنسان الكريه الذي كان يبغض الإله والرحماء فانه انحنى خضوعاً إزاء صرامة زرادشت وقبل أن يكون أحد الطارقين باب مثواه
(يتبع)
خليل هنداوي
القصص
من صورة الحياة
الآباء البيض
بقلم حبيب الزحلاوي
عرفته في المدرسة فتى وسيم الطلعة، صبوح الوجه، حيي الطبع، هادئ النفس، فتوددت إليه واكتسبت صداقته
عرفت من خصاله العبوسة والخشونة والتجهم والغضب كما عرفت منها الطيبة والسلاسة والصدق والوفاء.
كان تارة عنيف الحركة حتى الجنون، وطوراً ساكناً كأنه غارق فيها!
عرف معلموه فيه الإقدام بدون تردد، والأحجام بغير سبب، وعرفوا فيه الاندفاع نحو تحقيق رغباته وإرضاء ميوله وبداوته، كما عرفوا فيه الانصراف عنها كأن ليس له رغبات ولا ميول وبداوات!
تسرعوا فسموه (المتناقض) ثم اعتدلوا فأطلقوا عليه أسم (ذي الحدين) الأقصى والأدنى.
كان انكبابه على الدرس، ودقته في المحافظة على الواجب يثيران إعجاب المعلمين به وغيرة رفاقه منه، كما كان توقفه عن الدرس، وإضرابه عن تلقيه بدون سبب، وانتفاضه على الواجب، وتمرده على العلم، وقيامه على النظام، مدعاة للدهشة والاستغراب.
كنا تلميذين متلازمين متجاورين، يفضي كل منا لصاحبه بطوية نفسه ودخيلة أمره، إلا أني كنت ألمح فيه حرصاً على دفن سر شاغل خطير يكتمه عني في أعماق نفسه تفضحه نظراته الحزينة الباكية الذابلة.
كان (ذو الحدين) خشناً في لعبه، بريئاً في تعبيره عن خواطره كالأطفال، صدوفاً عن المعاشرة، مستغرقاً في الوحدة والانفراد كالنساك، وكانت بسماته النادرة حلوة كالجمال الصامت في مظهر عروس ترملت بُعيد الزواج
ما كان أقرب نفسه إلى الرضا والطمأنينة والبشر عندما يكون في المدرسة بين دروسه وفروضه ورفاقه، وكم كان يفارقه مرح النفس وغبطة الروح عندما يعود إلى البيت إذ كان
تلازمه فيه الوحشة والكآبة والحزن!!
كانت ثياب (ذو الحدين) تختلف عن ثياب وهندام التلاميذ، وكان لأمه شغف في إبراز وحيدها بثياب مخملية ليكون بين رفاقه - على حد تعبيرها - كالكوكب بين النجوم، ولعل ولع أمه به وعنايتها بملبسه واهتمامها ببزته هي التي نمت فيه خاصية التأنق والملاحظة والانتقاد، وصيرت لكلامه أداء فريداً ووقعاً خاصاً في النفوس ولكن أنى الخلاص لفتى مثله حسن البزة، صبوح الوجه، لامع الذهن، غريب الأطوار، عريق المحتد، صدوفاً عن المعاشرة، عزوفاً عن مخالطة الناس، أنى له الخلاص من مخالب فتيان تتوثب فيهم غرائز القوة البكر وإبراز قدرتها وسلطانها على الأقران، وتتمطى فيهم الغيرة الآكلة لفقدهم أكثر الصفات والمزايا المتوفرة لهذا الفتى الرفيق؟!!!
ولكن صاحبي كان يتخطى هذه البواعث الشائكة على قنطرة من تبين الفتوة وتعمل الكبرياء واصطناع الترفع عن الاختلاط بتلاميذ في غير ترتيبه! بذلك نمت فيه ملكة العنجهية والتسامي.
كانت ظاهرة الكبرياء عنده دخيلة على طبعه الرضي، غير أنه توسل بها لدرء عوارض طارئة لا شأن له في وجودها، فكان يداريها بالعطف الأخوي، والإحسان الإنساني، والشفقة التي كان يشمل بها كل محتاج من إخوانه التلاميذ، وما أكثر المعوزين في تلك المدرسة التي كانت تضم جميع أبناء العمال في ذلك الحي.
جاءني مرة بثغر باسم ووجهه متهلل متلألئ يقص علي خبر اعتزامه على الالتحاق ببعثة (الآباء البيض) ليتلقى العلم في مدرستهم (الصلاحية) في القدس ويقول: إن الآباء رضوا أن يلحقوه بها، وأنه دفع لهم مبلغاً من المال كان يدخره، وأن رئيس البعثة وعده بأن يصحبه معه وينتزعه من أهله إذا مانعوا، وأنه سيتعلم علوم القساوسة ويعود فيرغم جميع الناس على تقبيل يده باحترام، والاستماع إلى أقواله والإنصات إلى عضاته بخشوع!
لم يكن اهتمامي بالخبر ليوازي فضولي الحافز إلى معرفة العامل الذي جعل صاحبي يطرب للرحيل عن أهله كطرب عصفور في قفص يسقسق ويصفق بجناحيه، وأنت في الحقيقة لا تدري إذا كان طربه للطعام المقدم أو للانطلاق الموموق.
لم يكن الخبر هاماً في ذاته، إنما كانت الأهمية عندي في اكتشاف الدوافع التي جعلت هذا
الفتى دائم التأرجح بين كفتي الفرحة القصوى والحزن الأقصى، فتوهمت الفرصة موانيه تدنيني من مكمن السر!!
رفيقي هذا الذي يحدثني عن سفره بطرب، وعن اعتزام رئيس البعثة انتزاعه من أهله بسهولة، هو وحيد لوالديه، محبوب منهما حتى العبادة.
ما الذي في نفسه منهم يا ترى من البيت ومن أبويه حتى يؤثر المدرسة والتلاميذ عليهم؟
ما الذي في نفسه منهم وهو يفزع إلى الآباء البيض هرباً من والديه مفضلاً الرحيل على البقاء معهما؟
لم يكن في وسعي تحويل الأمر آنذاك وقد كنت فتى أملك قوة اختزان الحوادث لا تعليلها، أدخر عوارض الأشياء لا أنقدها، أنظر إلى كليات المسائل لا جزئياتها، وهكذا صرفت برهة في استقبال خبر السفر كأنها كانت برهة الاستجمام لأعود بعدها إلى صاحبي بنفس قوية، وعزم قاطع، أصرف بهما ذهنه عن هذا الخاطر الطارئ المستحيل التحقيق.
داورت صاحبي بحجة معرفة بواعث هذا السفر المفاجئ، لمحت بالكلام إلى أمر حسبت أنه يكون بمثابة مفتاح للسر، فانقبض مكتئباً وأشاح بوجهه عني كأنه ندم على ما قال؛ لم يمهلني لأعتذر عن سوء تصرفي وتوضيح قصدي وانصرف، أسقط في يدي وأضاع الفضول الفرصة المواتية. . . . . . ولكني صممت على عمل شيء.
نجحت أولاً في إبلاغ والده خبر سفره سراً مع الآباء البيض وحاولت إقناع صاحبي بأني لم أكن واشياً نماماً بل كنت المحب صادق المودة، أوثر صداقته وأرعى اطراد تقدمنا معاً في مسالك الدراسة. . .
لم ينصت إلى أقوالي؛ غضب مني وبكى من والديه؛ قاطعني وانقطع عن الإيواء إلى البيت، وصار كمكوك الحائط ينصرف من بيت عمته الأرملة وليس فيه رفيق أو صديق، إلى المدرسة التي لم يبق له فيها سوى الوحدة والانفراد ورفقة الكتب وحفظ الدروس.
عبثاً حاولت استرضاءه واسترداد وداده. قطع الرأي على قطيعتي، وثبت على عناده، وهكذا صرنا صديقين متباعدين.
جزنا الامتحان سوية، انتقلنا معاً من مدرسة إلى أخرى، زودتنا الكلية البطريركية بشهادتها العليا، طوحت بنا الأقدار فألقت بواحدنا في مصر وبالثاني في أمريكا لا يعرف الواحد عن
صاحبه شيئاً.
في شارع تتماوج فيه عشرات الألوف من نساء مستهترات وسيدات فضوليات من كل جنس متفرجات، يعج بأضعاف الآلاف برجال من كل سن وعمر وقطر ومصر، فيهم العابث المتهتك، وفيهم من هو غير متهتك ولا عابث.
في هذا الشارع الذي لا تهدأ فيه حركة، لا في الليل المنار بمصابيح أضواؤها الجمال والحسن والفتنة، ولا في النهار الذي ينزع فيه الإنسان الدرهم من بين فكي أخيه الإنسان لينفقها في الليل على مباذل المرأة.
في هذا الشارع المكتظ بخلائق كأنها في مهرجان؛ في هذا الشارع تطلق البسمات من الشفاه والغمزات من العيون، وترشق القلوب بسهام النظرات الساحرات؛ فيه يطلق الرجل أعنة الحياء وينضو ثياب الخجل؛ فيه تخلع المرأة العذار وتتشح بالفتنة والشهوة؛ فيه يرتجل الأكمة أبرع عبارات الإطراء الغزلي، وتفتن المرأة في ابتداع شباك الاصطياد؛ في هذا الشرع أنقذني خاتم في إصبع يدي اليسرى من إغراء حسناء لعوب من بائعات البدن؛ في هذا الشارع تصدم البريئات والبريئين من الفضوليين الأغراب بمن لا براءة عندهم ولا فضول، فيحسب المصطدمون والمصطدمين الانزلاق حرية، والاستهتار مدنية، والفجور طابع الأمة.
هذه سيدة قلقة تنتظر المتخلف عن الميعاد! هذا الرجل واقف مطمئن إلى لقاء من وعدته. هذا يعانق تلك، وهذه تقبل هذا قبلات مسكرات، وهذا غريب مشدود يرى ويبصر وكأنه لا يرى ولا يبصر.
في هذا الشارع البهيج الذي يجمع قلب باريس في قبضة الحياة سمعت من يذكر اسمي ولقبي بصوت أيقظ في حاسة غريبة مدفونة في الأعماق منذ أيام الحداثة، فاتجهت صوب رفيق المدرسة الذي لقيني هنا فعرفني، فناداني فاستجبت.
مشينا على غير هدى، تبادلنا ألف تحية وأشواق، يممنا مقهى أعرفه، ولما جلسنا في زاوية منفردة فيه تأملت صاحبي فإذا بالأعوام بدلت من ملامحه وتركت في وجهه بعض التغضن حول العينين، وثنيات واضحة في الجبين، وشعرات رمادية ظاهرة في السالفين، قرأت في نظراته معاني التوطد والثقة بالنفس، ولمحت فيها بقية من آثار الذبول والحزن. أخذنا نتكلم
ونعيد تلاوة صحائف الماضي ونستعرض ذكريات المدرسة بلذة وفرح، ونسرد فصول رواية الحياة الكبرى بين مآسي المرآة وفواجع كسب المال.
أنبلج الصبح انطفأت مصابيح الكهرباء، تبدلت وجوه رواد القهوة وقد أورمها السهر وخنقتها الخمر بوجوه نضرة فياضة بقوة الراحة المستمدة من النوم تستقبل النهار لتستأنف الجهاد في ميادين العمل، بقيت وصاحبي وحدنا الجالسين الهانئين بذكر حوادث الماضي ثم افترقنا على موعد للتلاقي.
كان الليل يجمعني وصاحبي في باريس على مائدة طعام أو شراب، وكان لنا في كل جلسة جولة أو جولات في معترك الحياة، غير أن جلسة الليلة اختلفت عن سابقاتها في الجو الذي هيأه وجود كاهن شرقي أعرفه بصحبة سيدة في المطعم.
جال خاطر مفاجأ في ضميري فابتسمت، استطلعني صاحبي معنى الابتسامة فرغبت إليه أن يقرع بكأسه كأسي فنشرب النبيذ البكر على ذكر صداقتنا البكر!!
نظر إلى متعجباً وقال: هل من طارئ جديد؟
قلت: بلى قال: ما هو قلت: هل في وسعك الآن وقد طويت مرحلة من الشباب واكتملت رجولتك أن توضح لي أسباب حزنك في حداثتك ونفورك من والديك، وتوقك إلى البعد عنهما، وقطيعتك إياي وقد أفسدت عليك تدبير التحاقك بالآباء البيض؟
أبتسم صاحبي فذكرني بسمة العروس الأرملة وقال: أحسب وجود الكاهن في المطعم بثوبه الأسود الفضفاض ولحيته المسبلة على صدره هو الذي نبه ذهنك إلى هذا الموضوع.
قلت: هو ذاك
سكن صاحبي هادئاً كأنه يفيض ذهنه في قلبه، وأطبق أو كاد يطبق أجفانه كمن يقرأ سطور الضمير في سفر الغيب، وطفق يقول: اشكر لك هذا السؤال، لأن في الإجابة عليه تفريجاً عن كرب مستعص آن أوان البرء منه.
كانت عقدة نفسية عقدتها الحساسية المرهفة والشعور الوجداني فحللتها لوحدي على مهل. أُكرهتْ والدتي على الزواج من والدي الأرمل ولما يكن له من العمر تسعة عشر عاماً بعد، فكان جمالها، ووجاهة أهلها، وزواجها من فتى أرمل، علة جرحت كبرياءها بين أترابها الفتيات، وبثرة تنكأ النكد الأليم والنفور المتواصل ونزق الشباب، فكنت أستشعر أني
الجسر الذي يربط قلبين متنافرين.
كنت ثمرة زواج أنضجتها عناصر الجسد ولم تشملها موجات الروح بوحدات من الحنان والعطف الوالدي إلا بمقدار ما كانت الوسيلة تمهد للغاية!!
ودت لو أكون الوسيلة لإقرار الغاية المثلى من الزواج، ألا أن الغاية كأنها تكونت للاتصال الوقتي الذي يعقبه النفور، فكنت أتمنى لو يتهدم الجسر فيبقى كل قلب على ضفة يشطرها عن أختها نهر الحياة!!
آثرت الصدوف عن مرآي زهرة نبتت عفواً في ارض رملية، وعزفت عن تربة لا حياة فيها ولا رجاء، فلذلك كنت أنكر نفسي وأشفق على الناس يلمّ بهم حزني، وأبكي لشقاء والدي.
كان يعرف والدي في حدة الإحساس والشعور المرهف فأستبدل أبوته لي بأخوة.
أقنعني، لما أبلغته أنت خبر اعتزامي على الالتحاق بالآباء البيض، بأن في ابتعادي عنه مهدمة عاجلاً لحياة تنهار من نفسها ببطء، ويتمنى أن لا أتعجل انهيارها فيبلغ القبر قبل أن أشب وأقوى، وقال دع البيت يحترق بنار هادئة ثم أعمل أنت على بناءه من مواد لا تقبل الاحتراق.
ثم قال لي: لا فائدة من علوم الكهنوت للذين يتهيئون لأن يطلوا على أرجاء الحياة السحيقة من كوات الدين الضيقة، وأن علوم الدين على وجاهتها وقداستها، تغل العقول، وتضيق الأذهان، وتبلد طبيعة الرجولة في الإنسان، وأن الكهنوت صناعة يحترفها الكسالى والبلداء، وأن الرجل الذي يعارك الدهر ويظفر منه بسلاح من الخلق السامي ونبالة القصد، والذي ينصر الإنسانية بروح منبعث من فيض إنسانيته هو، لا من تعاليم تحورت فصيرت جماعات الإنسان عبيداً للأفراد من بني الإنسان.
رأيت دموعاً جالت في عيني صاحبي وتحدرت كالبرد على خديه، ولمحت صور نفسه تشرق وتتجلى في صفحة جبينه وتقاطيع وجهه، وتكور جفونه، وانقباضات حاجبيه وشفتيه.
تناولنا كأسينا فأفرغنا ما بقي فيهما، أترعناهما بالرحيق من جديد، زودت غليوني بالتبغ، وقبيل إشعاله سألت صاحبي: ماذا كان مصيرك لو ذهبت صحبة الآباء البيض وتعلمت
تعاليمهم، وتلقحت بمبادئهم، ونذرت الطاعة والعفة والفقر مرضاة لله وطمعاً في الآخرة؟
لا، لا، قال صاحبي: هذا سؤال لي أطرحه عليك، هذا عبء ألقيته عن ضميري منذ اتجهت صوب المادة أعالج شؤونها معالجة عامل عقله في ساعديه وذهنه بين ساقيه، وقلبه في (كرشه)، أجب أنت يا صديقي على هذا السؤال لأني آليت منذ هجرت الأهل والوطن أن ألتزم الآلة فأكون مثلها، تحركها القوة الدافعة، يغذيها الحريص على بقاءها بالزيت والشحم!! قل، أجب، أشرح لأني أتوق إلى معرفة ذلك المصير، مصيري لو صرت كاهناً، لأنه كثيراً ما أقض هذا الخاطر مضجعي، وعكر راحتي، وسلب الرقاد من جفوني على كره مني.
أشعلت غليوني، أخذت أنظر الدخان لأعقد حلقات تتمدد وتتبخر كخواطر الإنسان، وأرى النار تتأجج وتهمد في قلبه كالرغبات في ضمير رجل، ثم سمعت نفسي تناجيني وضميري يسارني فقلت:
ماذا تراني كنت أكون لو فعلت تلك الفعلة؟ هل كانت تتبلد مشاعري، ويتحجر إحساسي وتتكور نظراتي، ولا تعود آرائي تدور إلا حول نقطة مجهولة في مصير مزعوم طمعاً في وهم ملفق؟
هل كنت أتعامى عن الدنيا وما فيها من بدائع صنعها الإنسان بقدرته فصيرها جنة لمن يطيب له النعيم في الجنات، وجهنم لمن يرتاح إلى الشقاء في الجحيم؟
هل كنت أنطوي على جوفي الخالي ورأسي القحل كما تنطوي الحية على نفسها في الرمال تتلمظ السم من أنيابها في انتظار حياة رغده في فصل الربيع الذي لا شك في إقباله بالخيرات
هل كنت أتوسد فراشاً محشواً بشوك الحرمان!، التحف الكبد أتقلب على جمرات من عذاب الجسد، ليس لي من مجير سوى حقنات الكافور تخمد إلى حين ثورة الأعصاب المتشنجة، والنفس المحمومة، والروح الحائر؟
هل تراني كنت أتوجه صوب السماء الصامتة أطلب الغوث من سكانها الصامتين؟
ماذا تراني كنت أكون لو فعلت تلك الفعلة؟
هل كنت ألبس المسوح وأسكن الأديار النائية، أعد دقائق العمر بين السأم والملل، والرجاء
والخيبة، والشكوك والريب، والاستسلام والخمود؟ هل كنت أعزف عن الدير ومساجينه، والزهد وقتلاه، وأطمئن إلى سكن المدن حيث الزلفى إلى الأغنياء، والسلطان على الفقراء، والراحة للجسد، والشبع للمعد؟
هل تراني كنت أنطوي مع من انطوى قبلي من الأغنياء، أو أتمرد وأأتمر فأصل ذروة العرش فأحمل صولجان، وألبس تاج أتدثر طيالسة القياصرة، وأترك الصليب الثقيل للمتجردين، وأرغم الضعفاء على طاعتي باسم الصليب المقدس؟
صمت قليلاً وكان صديقي يصغي إلي، تجرعت جرعة من الشراب هدأت بها نفسي مما ساورها وباعدت بها عني حمم التصورات والتخيلات وقد ازدحمت في الذهن وأخذت تتدفق كسوائل صهرها البركان لتصل إلى العقل الذي يوازن ويقارن ويفاضل وإذا بي أسالها من جديد أسئلة عالجها لويجي بيرانديللو من قبل، وهي:
(أية سيادة لنا على عواطفنا وأفكارنا وإرادتنا وشخصياتنا؟ ألسنا كلنا خاضعين لضروب التأثيرات النفسية والجسدية وأن ليس لنا وجود شخصي معين؟ ألسنا وجدنا لنكون تبعاً لأعمال الآخرين؟ ألسنا نلعب الدور الذي يفرضه علينا مجتمعنا وبيئتنا وضعتنا، وأننا ننتهي إلى حيث لا نعرف أين نحن، وأننا لا ندري ما إذا كانت شخصيتنا الحقيقية هي التي نحلم بها، وهي التي نحياها، أو هي التي تتظاهر بها أمام الناس)
أسمع يا صاحبي وأصغي إلي، أن إنساناً واحداً في هذا الوجود له السيادة المطلقة على الفكر والعاطفة والإرادة الشخصية، وأنه وحده غير الخاضع لتأثيرات النفس على الجسد، هو وحده المتمرد على البيئة والمجتمع والعرف والقانون، هو الفريد في هذا الوجود، له وجود شخصي معين يعرف البداية كما يعرف النهاية هو صاحب الرسالة، الرسالة التي يضعها الإنسان لأخيه الإنسان، رسالة غير منزلة على القلب، ولا مكتوبة على الحجر، ولا مبعوث بها مع رسول، إنما هي أناة المجاميع، وتوجعات العبيد، وعويل الإجراء، يصورها بالقلم ضمير إنسان مثلي ومثلك يشعر بالأنين والوجع والعويل أكثر مما يشعر بها أولئك الصادرة عنهم أنفسهم، ويحس بالظلم والجبروت والطغيان والقهر الصادرة عن أفراد أشرار يعبثون بالمجاميع، يلهون ويلغون في جسومهم وأبدانهم ودمائهم كما لو أنها نازلة فيه ومنصبة عليه، هذا الإنسان من القلائل الذين يحملون رسالة مساواة الإنسان بأخيه، هذا
الرسول الذي تتمخض الإنسانية فتلده، لا يمكن مطلقاً أن تقيده قيود إكليريكية، أو علمانية، أو تغله سلاسل الملكية أو الإقطاعية، أو تعوقه البرجوازية أو الرأسمالية لأنه خلق في الأصل لأن يكون صاحب رسالة!!
شتان يا صاحبي بين رجل روحاني تطوح به الأقدار والمصادفات فتلقيه بين مخالب المادة فتكتنفه من كل جانب فتغرقه بين طيات لذاذاتها، وبين رجل موهوب لو اجتمعت عناصر الطبيعة، وأتمر الوجود على طمسه والطغيان على وجوده لسخر من الطبيعة والوجود وبرز كالظاهرة الكوكبية في أجواء الفضاء يلمع ويسطع بين عناصر الكون ليتمها بوجوده!!
شتان بين البارقة من الروح وإشعاعاتها كلها، في كل إنسان نسمة من هذا الروح. أما صاحب الرسالة فهو روح بذاته.
ستعود إلى أمريكا وأرجع أنا إلى مصر، وقد نتلاقى ثانيةً، وقد لا نتلاقى لا في هذا العالم ولا في العالم المجهول، وستبقى أنت كما كنت مجداً في تنظيم مشاريعك الاقتصادية تموه بها على نزعة النسمة من روحك التي أكسدها الاستغراب في المادة، وسأرجع أنا إلى مثل ما أنا كنت عليه في تصوير الجمال بالألفاظ المتناسقة إرضاء لنسمة الروح المصقولة باندماجي فيها، وستلد الأمهات الآلاف مثلك ومثلي، وسيكون لكل منهم اتجاهه الخاص. نعم، وقد تعوق اتجاهه بعض العوامل الخارجية وتعرقله في إظهار ما في وسع نسمة الروح إظهاره من رسالة، ولكنها لم تصده عن إتمامها على الوجه المقنن في خصائصها وعناصرها المقننة!!
كلنا أبناء الطبيعة الهوجاء، والقدر الأرعن، والمدبر العابث، كلنا صرعى الفوضى وضحايا التشتت، إنما الرسول الملهم هو الذي يستجمع من الهوج والرعن والعبث ألواناً زاهية يرسم فيها للحياة صوراً جميلة فاتنة مغرية تجتذب الجماعات المغمورة بالجهالة صوب الغاية من وجود الحياة!!
باخرتان: اتجهت الواحدة صوب الغرب تحمل رجلاً ينزف دمه في عبادة المال حيث أربابه هناك، وألقت الثانية مراسيها في ميناء شرقي تعيد إليه عابداً من عباد الحب والجمال والفن حيث آلهتها هنا!
حبيب الزحلاوي
البريد الأدبي
التعصب اللغوي بعد التعصب الجنسي
ظهرت في إيطاليا أخيراً حركة للعمل على تطهير اللغة الإيطالية من العبارات والكلمات
الأجنبية؛ وبطل هذه الحركة كاتب معروف هو السنيور باولو مونيلي، وقد أذاع دعوته في كتاب شديد اللهجة يدعوا فيه إلى تحرير اللغة القومية العريقة من ذلك السيل من الكلمات والعبارات الأجنبية (البربرية) ويعترف السنيور مونيلي بأن هناك كلمات أجنبية في دوائر الأعمال والرياضة يصعب الاستغناء عنها، ولكنه يرى أنه يمكن الاستغناء عن الكثرة الساحقة من الكلمات والعبارات الدخيلة التي تشوه جمال اللغة الإيطالية وتظهرها بمظهر القصور والفقر في حين إنها من أعرق لغات الأرض وأغناها.
وهذه الحركة التي يدعوا إليها الكاتب الإيطالي بالنسبة للغة الإيطالية ليست إلا طرفاً من الحركة العامة التي ظهرت من قبل في تركيا الكمالية وفي ألمانيا، ثم ظهرت أخيراً في إيران؛ ومما يلاحظ بنوع خاص إنها من أثار النظم الطاغية التي تسيطر على هذه الأمم وتمعن في فهم النزعة القومية وتدفعها إلى حدود التعصب الجنسي والعلمي. ففي تركيا تضطرم الحكومة الكمالية بنزعة بتعصب عميق نحو الإسلام ونحو اللغة العربية التي هي من أبرز مظاهره، وتبذل منذ بضعة أعوام مجهوداً عنيفاً لاستبعاد الألفاظ العربية من اللغة التركية مع إنها تكاد تتفوق فيها على العناصر التركية الأصلية، وإحياء الألفاظ التركية القديمة؛ بيد إنها مع ذلك تضطر إلى الاشتقاق من اللغات الأوربية بكثرة ظاهرة، مما يدل على أن الغاية الحقيقية ليست تحرير اللغة التركية من الألفاظ الأجنبية، بل قتل العناصر العربية فيها تحقيقاً لبرنامج الكماليين في محو كل آثار للإسلام والعربية من الحياة التركية الجديدة. وفي ألمانيا الهتلرية تجري حركة لاستبعاد الألفاظ الأجنبية وتطهير الجرمانية منها. وهذه حركة نستطيع فهمها، في أمة عظيمة كألمانيا ذات لغة عريقة محدثة، وإن كانت فكرة الهتلريين لا تخلوا مع ذلك من عناصر التعصب القومي والجنسي. كذلك أخذت إيران أخيراً تحذو حذو تركيا في حذف الألفاظ العربية من اللغة الفارسية؛ بيد أن حكومة الشاه تجري في ذلك هوادة واعتدال، وتؤكد للعالم العربي أنها لا تبغي سوى غاية لغوية ثقافية ترى تحقيقها بأحياء مجد اللغة الفارسية القديمة.
كتاب عن ضحايا الثورة الفرنسية
صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب جديد عن الثورة الفرنسية بقلم دونالد جرير؛ وعنوانه (حوادث عهد الإرهاب) فهو إذن يتناول هذه الناحية من حوادث الثورة فقط، وهي بلا ريب من أخصب نواحي الثورة وأحفلها بالحوادث الرائعة.
وقد ظهرت عن الثورة الفرنسية في معظم الآداب الحية كتب ومؤلفات لا حصر لها، ومنها آثار جليلة شاملة، ولكن الثورة الفرنسية تبقى أبداً موضوعاَ للتأمل والدرس، ولا ينضب معين الطرافة والجدة في حوادثها وأسرارها الدفينة. ومؤلف اليوم ليس قصة، وإن كان ما يورد من الحوادث يفوق القصص من غرابته وروعته، بل هو تأريخ محقق من الوثائق والسجلات والمراجع المحترمة؛ وفيه يقص المؤلف حوادث عهد الإرهاب الذي أزهقت فيه عشرات الألوف، ويصور لنا حالة الفرائس المسوقة من الكبراء والنبلاء، ويسرد حوادث محاكمتهم وإعدامهم في روية واعتدال، وقد انتهى المؤلف إلى القول بأن من اعدموا خلال هذا العهد بواسطة المقصلة يبلغون 594 ، 16 نفساً، وأن هناك عدداً أكبر يقدر بين ثلاثين وأربعين ألفاً هلكوا في السجون من المرض والبرد والمعاناة النفسية؛ وتقديره النهائي هو أن خمسة وخمسين ألفاً هلكوا ضحية الثورة الفرنسية، هذا بينما يقدر بعض الباحثين من هلكوا في الثورة الروسية الأخيرة (الثورة البلشفية) بخمسين ألف فقط، ويعرض لنا الكاتب في أسلوب قوي شائق العوامل والأسباب التي يعتقد أنها مبعث هذا العنف والسفك المنظم.
مشروع علمي جليل: سلسلة المعارف العامة
اعتزمت لجنة التأليف والترجمة والنشر إخراج كتب لطيفة الحجم يتناول كل كتاب منها موضوعاً خاصاً علمياً أو أدبياً؛ وترمي بذلك إلى تكوين سلسلة تشمل جميع النظريات الحديثة في الجغرافيا والتاريخ والفلسفة والتربية والطبيعة والكيمياء وغير ذلك؛ وقد سلكت في ذلك طرقاً مختلفة، فأحياناً تترجم كتباً أجنبية إذا رأتها صالحة كل الصلاحية، وأحياناً تؤلف في الموضوع بما يتفق وذوق الجمهور العربي.
وقد بدأت هذا الشهر في إخراج ثلاثة كتب.
(الأول) عرض تاريخي للفلسفة والعلم تأليف أ. وولف وترجمة الأستاذ محمد عبد الواحد
خلاف، وهو كما يدل عليه أسمه نظرة عامة في تأريخ الفلسفة والعلم من بدء نشأتهما إلى الآن.
(الثاني) الآراء الحديثة في علم الجغرافيا تأليف ل. ددلي ستامب وتعريب الأستاذ أحمد محمد العدوي مدرس الجغرافيا بالجامعة المصرية.
(الثالث) سكان هذا الكوكب تأليف الدكتور محمد عوض أستاذ الجغرافيا في الجامعة المصرية يبحث في سكان الكرة الأرضية من بني الإنسان من حيث نشأة النوع البشري وتعدد الأجناس ونمو السكان وتوزيعهم على سطح الأرض مع دراسة تفصيلية لحالة السكان ومشاكلهم في مختلف الأقطار.
وستخرج اللجنة في شهر فبراير سنة 1936.
(1)
كتاب (البراجماتزم) أو الفلسفة الأمريكية تأليف الأستاذ يعقوب فام.
(2)
كتاب (النقد الأدبي) تأليف لاسل أبر كرومبي وترجمة الدكتور محمد عوض.
(3)
كتاب (علم التاريخ) وهو بحث في النظريات الحديثة لعلم التاريخ ترجمة الأستاذ عبد الحميد العبادي.
وهكذا ستسير اللجنة على هذا النمط في إخراج أجزاء السلسلة تباعاً في فروع العلم المختلفة.
وقد شجعت وزارة المعارف العمومية اللجنة على هذا العمل بمساعدتها المالية والأدبية.
وترجوا اللجنة باستمرارها في هذا العمل أن تكون منه دائرة معارف عامة تشمل كل الموضوعات العلمية والأدبية.
رئيس لجنة التأليف والترجمة
أحمد أمين
تجربة لاختبار الذكاء
قامت بعض دوائر التربية في اليابان بتجارب عقلية لاختبار ذكاء التلاميذ في المدارس الابتدائية، وجعلت الحد الأعلى لمقدرة التلاميذ 150 درجة واختبرت بهذه الطريقة سبعة آلاف تلميذ فلم ينل منهم الحد الأعلى أعني 150 درجة سوى 165 تلميذاً فقط وظهر من
التجربة أن اختلاف السن بين الوالدين لا يؤثر تأثيراً سيئاً على الصفات العقلية للنسل؛ ذلك لأنه وجد بين هؤلاء المائة وخمسة وستين تلميذاً النابغين عدد كبير من الأبناء الذين ولدوا من آباء سنهم بين الثالثة والأربعين والخامسة والأربعين، وأمهات بين الخامسة والعشرين والسابعة والعشرين. بيد انه وجد في معظم الحالات أن هؤلاء التلاميذ ولدوا من آباء في نحو الثلاثين وأمهات في نحو الرابعة والعشرين.
وقد ظهر أيضاً أن الوالدين الفتيان لم ينجبوا أبناء في منتهى الذكاء، وأن الزواج الباكر جداً ينتج أبناء لا تفتح مواهبهم العقلية تفتحاً تاماً؛ هذا وقد لوحظ مع الدهشة أن الموظفين والمستخدمين الصغار هم آباء أذكى التلاميذ، ثم يأتي بعدهم التجار، ثم أرباب الصناعات فالمربون فالأطباء فالعمال.
ومما أظهرته التجربة أيضاً أن أذكى التلاميذ هم كذلك أصحهم بنية وجسماً.
آثار العمالقة
يقدم إلينا القصص القديم كثيراً من سير العمالقة والمخلوقات الضخمة التي لم تعرفها عصور التاريخ المدون؛ والظاهر أن أولئك (العمالقة) لم يكونوا مجرد خيال فقط صوره القصص القديم؛ ففي الأنباء الأخيرة أنه اكتشفت في منطقة مانيتوبا في كندا (أمريكا الشمالية) هياكل بشرية ضخمة يبلغ طولها نحو ثمانية أقدام (نحو مترين وثلاثة أرباع المتر)، وأحدها في حالة جيدة من الحفظ، وكان اكتشافها على عمق أربعة أقدام في أحد المحاجر التي تستغل في تلك المنطقة.
وقد استدعيت بعثه من الأخصائيين من علماء التشريح وعلم طبقات الأرض برآسة الأستاذ ديلوري أستاذ علم طبقات الأرض بجامعة وينبج، فصرح بعد بحث الهياكل أنها ترجع إلى عدة آلاف من السنين، وأنها تنتمي إلى جنس من العمالقة كان يسكن غرب كندا قبل مجيء الهنود الحمر بأحقاب بعيدة.
هذا عن العمالقة من بني الإنسان. أما المخلوقات الضخمة التي يذكرها القصص القديم، فتدل الأبحاث العلمية الحديثة على أنها كانت توجد في غابر الأزمان في بعض جهات الصين وأفريقية الجنوبية كما تدل على ذلك بقايا العظام والهياكل الضخمة التي اكتشفت في تلك الأنحاء. وأما الأحياء المائية الضخمة فما زالت توجد حية في بعض البحار وإن كانت
قد غدت نادرة بحالة تؤذن أنها أضحت على وشك الانقراض.
أثر خطي نفيس
لا تزال الأديرة القديمة في مختلف أنحاء أوربا تحتفظ بكنوز من الآثار الخطية القديمة؛ ومن هذه الأديرة دير كرمز منستر بالنمسا، فهو يحتفظ بطائفة من مخطوطات العصور الوسطى، وفي الأنباء الأخيرة أن مكتبة الدولة في بافاريا قد حصلت من هذا الدير على مخطوط اثري نفيس للشاعر الألماني هنيرنخ فون منخن وهو مخطوط يرجع إلى القرن الرابع عشر، وفيه قصص شعرية رائعة مأخوذة من التوراة، وقصص أخرى من العصر القديم حتى عصر كارل الأكبر، وقد تولى شراءه لحساب مكتبة بافاريا الهير فون بابن سفير ألمانيا في النمسا.
وفاة مؤلف موسيقي
من أنباء فينا (النمسا) أن المؤلف الموسيقي الشهير البان برج قد توفي، وكان مولده في فينا منذ خمسين عاماً، ومع انه من تلاميذ المدرسة الإمبراطورية القديمة، فأنه نحا في التأليف الموسيقي نحواً جديداً، وله مقطوعات موسيقية كثيرة، وقطعة (أوبرا) تسمى (فوتسك) نالت نجاحاً عظيماً، وكان إلى ما قبل وفاته بأيام قلائل يقود حفلاً موسيقياً عظيماً في أحد المسارح فينا الكبرى، فأثارت طريقته الجديدة استحساناً عظيماً كما أثارت نقداً عظيماً، ويرى النقدة أنه لم يبلغ ذروة قوته وفنه، وأن الموت عاجله، فأصابت الموسيقى النمسوية بفقده خسارة لا تعوض.
جوائز أدبية نمسوية
ومن أنباء النمسا أيضاً أن جائزة الدولة النمسوية عن الأدب لسنة 1935 قد منحت إلى الأستاذ بركونج، ومنحت جائزة الدولة للموسيقى إلى الأستاذ يوسف مسنر رئيس فرقة سالزبورج الموسيقية؛ ونال جائزة التأليف الموسيقي المؤلف الموسيقي الشهير الدكتور فريدريخ ريدنجر.
الكتب
كتاب اللآلئ
شرح امالي القالي
للأستاذ أحمد أمين
أخرجت المطابع الشرقية، آلاف الكتب العربية، ولكن - مع الأسف - لم يكن الإخراج في أكثر الأحيان على نمط علمي ولا قريب منه؛ فكثير من الناشرين تجار لا علماء، يهمهم الربح أكثر مما تهمهم الدقة والضبط، فهم يعهدون في تصحيح كتبهم إلى من ليسوا محل ثقة، ولا أمانة، فلا يكلفون بنفسهم عناء جمع النسخ من الكتاب ليستعينوا بها، بل يعتمدون على نسخة واحدة وقد يكون غيرها خيراً منها، ثم لا يرعون الأمانة فيما بين أيديهم. فقد لا يفهمون جملة فيغيرونها أو يحذفونها، وقد لا يستطيعون قراءة كلمة فيضعون كلمة أخرى من عندهم محلها، من غير إشارة ولا تنبيه، فخرج كثير من الكتب وعدمها خير من وجودها، والنار أولى بها من المكتبات. وأمامي الآن وأنا أكتب هذه السطور كتاب الحيوان للجاحظ فلا أستطيع أن أقرأ صفحة منه من غير أن أعثر فيها على عدة عثرات، من نقص، إلى تصحيف، إلى زيادة حرف، إلى لحن، إلى ما شئت من كل ضروب الخطأ - مع أن في مكاتب العالم نسخاً يمكن بموازنتها إخراج نسخة أقرب إلى الضبط أدنى إلى الكمال. ومثل كتاب الحيوان غيره من الكتب الأخرى يطول القول بتعدادها، فنحن إذا عددنا الكتب الصحيحة أو القريبة من الصحة سهل علينا عدها، وإذا عددنا السيئة المغلوطة أعيانا العد، وقد أعرنا بعض العناية لكتب الحديث كالبخاري ومسلم، وكتب اللغة كالقاموس واللسان. فأما غير هذين النوعين فقد كان مجال الخطأ فيه فسيحاً وفي ميدانه متسع للجميع.
وقد سبقنا المستشرقون في النشر وطرقه بمراحل ووضعوا له قواعد وأصولاً؛ ولست أنسى المحاضرات القيمة التي ألقاها في سنة المرحوم (برجستراسر) في كلية الآداب بالجامعة المصرية في كيفية معارضة النسخ القديمة بعضها ببعض وكيفية النشر وما يجوز للناشر وما لا يجوز. . . الخ
وكان كثير من الكتب التي أخرجها المستشرقون مثالاً صالحاً، لأنهم يعدون نشر الكتاب من
الناحية العلمية لا يقل قيمة عن التأليف، فالعالم كما يعد من مفاخره أنه ألف كتاباً، يعد من مفاخره كذلك انه نشر كتاباً؛ وكما لا يضن بجهده ووقته فيما ألف، لا يضن بهما فيما ينشر. ومن الأوليات عندهم أن يجمعوا كل النسخ من الكتاب الذي يريدون نشره من مكاتب العالم ما استطاعوا، ويصرفوا الزمن الطويل في مقابلة بعضها ببعض والتعليق عليها وضبط أعلامها وغريها، ولا يألوا جهداً في إيضاح الغامض وتبيين الشكل، ووضع الفهارس للأعلام والبلدان وما إلى ذلك. فلا عجب أن يصرف الأستاذ (ريت) عشر سنوات في تصحيح كتاب الكامل للمبرد ونشره لأول مرة؛ وفضله وجده ظاهران في الطبعات المصرية التي نشرت بعد، حتى سهل على العالم أن يدفع الثمن الغالي لكتاب طبع طبعة أوربية ولا يدفع الثمن البخس في طبعة له مصرية. أن شئت فوازن بين كتاب الشعر والشعراء لأبن قتيبة المطبوع في أوربا والمطبوع في مصر، فهو في مصر ناقص أكثر من نصفه، ومحرف تحريفاً شنيعاً، وهو في أوربا كامل مضبوط صحيح بقدر الإمكان.
ومما نغتبط أن نرى من أهل اللغة العربية أنفسهم من حذا حذو المستشرقين في نشر الكتب، بل فاق بعضهم أحياناً، فبذل الجهد في التصحيح والتعليق ومعارضة النسخ وعمل الفهارس، وهذه طليعة حسنة نرجو أن تستمر وترقى. فرأينا مثلاً من ذلك فيما تنشره دار الكتب من كتاب الأغاني ونهاية الأرب وغيرهما، وفيما تنشر لجنة التأليف من كتاب السلوك للمقريزي.
ولعل من أجل الأعمال في هذا الباب ما فعله صديقنا الأستاذ عبد العزيز الميمني في نشر كتاب اللآلئ في شرح أمالي القالي للوزير أبي عبيد البكري، فقد اختار كتاباً للنشر فأحسن الاختيار، لأن كتاب الأمالي عدّ - من قديم - أصلاً من أصول الأدب التي اعتمد عليها الأدباء في العصور المختلفة إلى الآن، وقد كان النواة الأدبية الأولى التي بذرها أبو علي في بلاد الأندلس من علوم المشرق فنمت وأثمرت ونضجت وآتت أكلها كل حين بإذن ربها وقد كانت أماليه المدرسية التي تخرج عليها مشهورو الأداء في الأندلس ولقيت منهم من العناية ما هي جديرة بها. وكان للأمالي طابع خاص غير الطابع الذي غلب على أمثالها من كتب الأدب كالبيان والتبيين للجاحظ، والكامل للمبرد؛ فكتاب البيان والتبيين طابعه مختار من الأدب صبغ بصبغة الجاحظ من ميل للاستطراد الكثير وتحدث في الشؤون الاجتماعية،
واقتباس من الثقافات الأجنبية، كالثقافة الفارسية والهندية واليونانية، وميل إلى الفكاهة والأحماض؛ وكتاب الكامل غلبت عليه طبيعة المبرد من ميل إلى النحو والصرف، لأن المبرد كان أديباً نحوياً فأحسن ما يعجبه من الأدب ما استطاع أن يخرج منه إلى مسألة نحوية أو صرفية ثم يطيل النفس في ذلك حتى كان الكتاب كتاب نحو؛ وهو لا يستطرد في الشؤون الاجتماعية كما يفعل الجاحظ، ولكنه يعنى بالثقافة العربية مصبوغة بالصبغة النحوية؛ فمظهر الجاحظ مظهر المتكلمين من سعة الإطلاع وتفتيق الموضوع، ومظهر المبرد مظهر النحويين الأدباء من تشقيق اللفظ وتخريجه وإعرابه واستعراض معاني الكلمات في أوضاعه المختلفة.
أما القالي فقد غلب عليه الأدب واللغة اكثر من غلبة النحو والحديث؛ وأكثر ما ألف في اللغة والأدب، فقد ألف البارع في اللغة، وشرح المعلقات، وكتب في الإبل ونتاجها، والخيل وشياتها الخ. فثقافته ثقافة عربية لغوية؛ ثم هو ليس عربياً كالجاحظ والمبرد بل هو مولى للأمويين: كان جده سلمان مولى لعبد الملك بن مروان، ولعل هذا ما حدا به إلى أن يرحل من الشرق إلى دولة مواليه الأمويين في الأندلس؛ وهذا يميزه عن الجاحظ والمبرد بأن علمه كان علم حفظ وجمع ورواية لا تعتمد على السليقة كما يعتمدان. فهو إذا أراد أن يخطب أرتج عليه، ولكنه في درسه واسع العلم غزير الرواية وكان كتابه الأمالي مظهراً لذلك، ينقل القطعة المختارة من العرب في شعرهم ونثرهم وحكمهم وخطبهم ووصاياهم - واكثر ما ينقل عن أستاذه أبي بكر بن دريد - ثم يتبع نقله بتفسيره بما ورد في القطعة الأدبية من ألفاظ لغوية، ويشقق الكلمة اللغوية ويبين معانيها، وكثيراً ما يستشهد على معنى الكلمة ببيت من شعر قديم أو مثل سائر أو نحو ذلك. وكتابه يمتاز بأنه يروي كثيراً من القصص العربية الأدبية، وهي نزعة أتت له من أبن دريد، فقد كانت على ما يظهر محباً لهذا النوع من القصص اللطيف. فأكثر ما يرويه القالي في أماليه من هذا القبيل: فأعرابيات يصفن آباءهن، ومحاورة للفرزدق مع بعض الأعراب، ووصف أعرابي للدنيا وقد سأل عنها، ووصايا رجل لبنيه وامرأة لبناتها الخ؛ فمختاراته ليست جافة جفاف (الكامل)، ولا أدباً بحتاً كأدب (الكامل)، إنما هو أدب فرش له فرش جميل وعد له إعداد أنيق. لم يجرد فيه الظروف من ظرفه، ولم تسلب فيه الحسناء حليها؛ وقل أن يتعرض فيه
للنحو والصرف الثقيلين كما يفعل المبرد ولا للاستطراد الخفيف الروح كما يفعل الجاحظ. إنما خفة روح الأمالي من نمط آخر غير نمط البيان والتبيين، نمط فيه التاريخ والقصص والأساطير أحياناً ممزوجة بالأدب، ثم تفسير لما ورد فيها من غريب اللغة.
ولكن أخذ عليه بعض أشياء في تأليفه، فجاء أحد موطنيه وهو أبو عبيد البكري الأندلسي أمير لبلة وصاحب جزيرة شلطيش، فأراد أن يخدم الأمالي بتكميل نقصها، وتحلية عاطلها، فألف في ذلك (كتاب اللآلئ في شرح أمالي القالي) وأجمل غرضه فيما قدم بين يدي كتابه فقال:(هذا كتاب شرحت فيه من النوادر التي أملأها أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي ما أغفل، وبينت من معني منظومها ومنثورها ما أشكل، ووصلت من شواهدها وسائر أشعارها ما قطع، ونسبت من ذلك إلى قائلي ما أهمل. . . وذكرت اختلاف الروايات فيما نقله ذكر مرجح ناقد، ونبهت على ما وهم فيه تنبيه منصف لا متعسف ولا معاند، محتج على جميع ذلك بالدليل والشاهد والمستعان الله).
ثم جاء الأستاذ عبد العزيز الميمني الهندي أستاذ اللغة العربية بجامعة عليكره فقام في هذا الكتاب مقام يستحق الإعجاب حقاً، ويستحق التقدير حقاً، وقد دلنا منه على علم غزير وإطلاع واسع وأن لم يكن ذلك خافياً علينا من قبل.
فقد أخرج كتاب (اللآلئ في شرح أمالي القالي) إخراجاً علمياً على النمط الذي ننشده، فعارض بين نسخة المختلفة من مكية وألمانية؛ وبذل أقصى الجهد في تصحيحها، ولاقى عرق القربة في ضبط أعلامها وبلدانها وأشعارها وغريبها، ووقف في كثير من المواضع موقف الحكم بين أبي على وأبي عبيد، ينتصر لهذا حيناً وذاك حيناً بالدليل والبرهان؛ ورأى أن أبا عبيد البكري أقتصر في شرحه ونقده على كتاب الأمالي دون الذيل فوقف الميمني موقف البكري في ذلك، وشرح الذيل ونقده - وراجع في كل ذلك مئات من أمهات الكتب. وسيعجب القارئ كيف وقف على الأبيات المختلفة المنتثرة في هذه الكتب العديدة وعرف مواضعها، ووفق إلى استخدامها، ثم ختم ذلك بتصحيح أغلاط وضبط روايات، وتقييد زيادات، لكتاب الأمالي وذيله المطبوع في مطبعة دار الكتب، فأوفى في ذلك كله على الغاية.
ومنطقه في أحكامه على القالي والبكري منطق صحيح غالباً، وأن أخذ عليه شيء فاستعماله
أحياناً عبارات قاسية في النقد مثل (أغلاط مستنكرة) و (متناهية في الاستبشاع) ونحو ذلك مما كنا نود أن يرفق فيه قلمه.
وعلى كل حال فقد أسدى (الميمني) إلى اللغة العربية خدمة لا تنكر، وقدم مثلاً للنشر يجب أن يحتذى.
وكان من فضل كتابه أنه (عصبة أمم) في كتاب، فأبو علي القالي شرقي استوطن قرطبة، والبكري أندلسي الأصل والنشأة، و (الميمني) هندي، ولجنة التأليف ناشرة الكتاب مصرية. فأنعم بهذه الرابطة بين القديم والحديث، وبين المحدثين في أوطانهم المتنائية وأرواحهم المتقاربة!
أحمد أمين