المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 136 - بتاريخ: 10 - 02 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٣٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 136

- بتاريخ: 10 - 02 - 1936

ص: -1

‌على ذكر حوادث دمشق

تاريخ يثور. . .

على ضفاف الوادي، وهضاب فلسطين، ورياض سورية، يثور تاريخ، ويغضب مجد، ويستغيث مظلوم. . .!!

على الوطن الذي ورفت على نيله أول حضارة، والبلدِ الذي هبط على طُوره أول دين، والقُطر الذي انبثقت من ساحله أول ثقافة، تُمتْحن الحرية بمن فرضوا على الملك أول دستور، وتُمْتهن العدالة ممن حملوا للهِ أول كتاب، وتُبتلى الإنسانية بمن أعلنوا للإنسان أول حق. . .!!

على هذه الأقطار الثلاثة التي شع منها السلام والإسلام والخير، يستكلب الطمع، ويشتجر الهوى، وينفجر البغي؛ فالمفاوضات وعيد، والاحتجاجات حديد، والمواعيد مراوغة، كأنما عيِّ المنطق من طول ما مارس العلم! ومات الضمير من كثرة ما دارس الخُلق! وزهق العدل من شدة ما زاول القانون!!

في القاهرة وأورشليم ودمشق، شباب يحمَي على لذع البنادق، ودم يفور على مسِّ الأسنة، وأمل يشرق فيالوجوه الوضيئة، وطموحٌ يومض في العيون الرغيبة، وماضٍ تميز في إبهام الدهر يتمثل في الأذهان الصافية، ومجدٌ تأثَّل في أربعة عشر قرناً يعصف بالنفوس الفتيَّة! فماذا تصنع مُدية اللص في قلب تدرَّع بالأيمان؟ وماذا تبلغ سطوة الباطل من حق تسجَّل في لوح الزمان؟!

يا لله! ألم يَأْن لدعاة المدنية. . . وحماة الحرية. . . ورسل العلم. . أن يروضوا عقولهم على الحقيقة، ويفتحوا عيونهم على الواقع؟! إن هذا الشعب الذي تتحلب أفواههم قَرَما لأكله، لا يزال يعيش في ملك آبائه الفاتحين، ولا يزال مطويَّ الحنايا على العزيمة التي قبض بها من قبل على زمام الدنيا، وشارك في تصريف الأقدار، وأملى إرادته على سجل الزمن! إن حلمه لثقيل، ولكن غضبته مفزعة؛ وإن نومه لطويل، ولكن يقظته مروَّعة! إنه على اختلاف أقطاره لا يزال يحمل في نفسه سر (الجزيرة) التي يعيش فيها الجمل الوقور الصابر، والأسد الهصور المتوثب!!

إن في كبد أوروبا جمرة من العرب منذ غزتها بالدين والمدنية والعلم سفائنُ طارق! ولقد

ص: 1

انطفأت البراكين ولما تنطفئ هذه الجمرة! أجْلت العرب عن أرضها بالبربرية الهوجاء والتعصب الحاقد والقسوة الجامحة، ثم كتَّبت الكتائب الحليفة وغزتهم في عقر بلادهم باسم الدين المظلوم في عهد (صلاح الدين)، ثم بالعلم المسموم في عصر (عبد الحميد)، ثم بالمدينة المغشوشة في عهد (عصبة الأمم)! فما كان الدين والعلم والتمدن إلا ألفاظاً حُمِلت بالكره على معاني الثأر والاستعمار والغصب! ثم أغروا بنا الجهالة والمجاعة والفوضى، ومضوا في ظلال الأمن، يعقدون من دمائنا الذهب، ويتخذون من لحومنا القوت، حاسبين أننا مخدَّرون بالأباطيل فلا نفيق، مُثْقلون بالتقاليد فلا ننهض؛ ولكن المعدن ياغُلْفَ القلوب كريم! وهذا الذي يعلوه غبار لا صدأ! وهاهي ذي سياسة الإرهاب والاغتصاب تجلوه عن شباب عرفوا كيف يموتون، أكثر مما عرفوا كيف يعيشون!! وهاهم أولاء يمشون على ما بلي من هياكل الشيوخ، كما يمشي المَرحون على ما جف من سفَير الشجر!! إنهم يسرعون الخطى إلى الربيع الباسم والجو الطليق، وفي أسماعهم المرهفة دويُّ لا ينقطع بهذا الهتاف: (لقد فتح آباؤكم ثلاث قارات في ربع قرن، أفتعجزون عن تحرير ثلاثة بلاد في نصف قرن؟!

إن شباب العرب مصريين وسوريين قد أخذوا موثقهم من الدم الشهيد أن يعيشوا أعزة أو يموتوا كرامَا! فلا تَتَحَدَّوا بالعذاب السفيهِ جنساً برمته وتاريخاً بأسره، ولا تعبثوا بالمعاجم التي تعب فيها اللغويون والمجامع فتسموا النهب تنظيماً والقتل تعليماً والغزو صداقة! جربوا الصداقة بمعناها اللغوي الصحيح تَفِرُوا المال والرجال والسمعة، فان هذا الشعب الذي وقعتم في صفوه، وتعبتم من غزوه، ويئستم من خداعه؛ كان له في السياسة العالمية شأن، وفي اللغة الدولية اصطلاح، وفي قيادة الإنسانية محل، ومن إصلاح المجتمع نصيب! فهو يفهم الصداقة، ويَقْدِر المعاونة، ويكبر التضامن، ويعقد صِلاته بالناس على ضوء شريعته وقرآنه!

إن سلام الشرق منوط بسلام العرب؛ وإن السلام والإسلام لفظان مترادفان على معنى واحد؛ وليس من معاني السلام المهانة، ولا من دلالات الإسلام الاستكانة! إنما هما الحياة القائمة على الحرية والإخاء والمساواة، وهي الأقانيم الثلاثة التي رسمتها الثورة على عَلَمكم المثلث!

ص: 2

بِغير هذا لا يرضى العرب! وبدون هذا لا يحيا العرب! فراجعوا في سياستكم العقل السالم من الهوى، والضمير الخالص من الرِّيبة، وحكموا بينكم وبينهم مبادئ الناس، فانهم - كما تحسون وتلمسون - من الناس!!

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌في وقع الموت

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

ضمني مجلس قال أحد من فيه - وقد ذكر بعضنا وفاة الملك جورج الخامس، وقول الأطباء إنهم لم يشهدوا أعراض مرض معين، وأن قواه كانت تهبط شيئاً فشياً -:(إن من الصعب على الإنسان أن يواجه الموت وهو محتفظ بعقله)، فقال آخر إن الذي يخفف عنه في هذه الساعة أنه يستسلم للموت ولقضاء الله فيه، فسألته: (هل معنى هذا أنه يقبل على الموت راضياً ويتلقاه مغتبطا؟

فكان جوابه: (نعم. . . . يستسلم فيفقد الموت لذعه ورهبته). . . ولست طبيباً ولا شبهه، ولكني لا أرى هذا ولا أستطيع أن أقتنع به؛ وعندي أن الإنسان لا يزال إلى آخر عمره يثور على الموت وبجاهد أن يدفعه عنه ويقي نفسه منه؛ ولكن جسمه يفقد الحيوية فتذهب معها الإرادة - لا إرادة الحياة، فإنها لا تفارقه أبداً، بل إرادة المقاومة والكفاح بعد استنزاف القوة، ويظل المرء كارهاً للموت مشتهياً للحياة متعلقاً بها، ولكنه يعرف من نفسه أنه لم يعد قادرا على المجاهدة، ويخطئه العون اللازم من الجسم فيكون كالذي فقد في المعركة سلاحه، أو فرغت ذخيرته والأعداء مطبقون عليه، فيوطن نفسه على الموت يأساً من النجاة

والمرء إنما يقاوم الموت بجسمه، وقد يستطيع بقوة الإرادة أن يطيل أمد المقاومة؛ ولكن استمرار المقاومة معناه أن جسمه لا يزال محتفظاً ببقية من القوة مذخورة - بالغة ما بلغت من الضآلة - وبهذه البقية يستطيع أن يجعل لإرادته أثراً ولمقاومته لعدوان الموت مظهراً، فإذا زالت هذه البقية ونضب المعين، لم يبق للإرادة عمل، لأن الأداة التي تعمل بها الإرادة تكون قد فنيت وذهبت

ولا فرق هناك بين من يكافح الموت - في الأحوال العادية الطبيعية - وبين من يقاتل مع جيش. فكما أن الجندي يثبت ويصمد ويتسنى له أن يكر ويفر، ويهاجم ويدافع ما بقي معه سلاحه وعدته، حتى إذا فقد ذلك لم يبق له عمل، كذلك يكون المرء حيال الموت الذي يدلف إليه ويدنو منه على الأيام ليثبت عليه آخر الأمر. وكل ما هنالك من الفرق أن الموت كامن فينا، وأن أداته الضعف الذي يصيبنا، والهرم الذي يدركنا، والعجز الذي يستولي علينا في النهاية، فهو ليس عدواً يهجم علينا، بل حالة نصير إليها حينما تنفد الحيوية لسبب من

ص: 4

الأسباب

وقد راقبت الموت أكثر من مرة، وشهدت كثيرين وهم في سياقه، ثم ماتوا بين يدي، وكان الموت في هذه الحالات كلها على أثر نضوب الحيوية ونفاد القدرة على المقاومة. وكانت إحدى الميتات بسبب النزف، فظل العقل حاضراً لا يغيب ولا تغيم سماؤه، ولا يتعكر صفوه؛ وكان الإحساس بدنو الأجل قوياً، ولاشك أن الرغبة في الحياة كانت عظيمة، والجزع من الفناء كان شديداً، ولكن الجسم لم تكن له قوة تستخدمها الإرادة، فخرج النفس الأخير في سلام ومن غير أن يبدو للناظر أثر للصراع. وبأي شيء يكون الصراع؟؟

وميتة أخرى شهدتها، كان الصراع فيها كأعنف ما يمكن أن يكون، لأن الجسم بوغت بعدوان المرض المنذر، فتنبه فيه كل كامن من قوته، وهبت إرادة الحياة تدفع هذه الغائلة، وكان يخيل إلى وأنا أنظر، كأن إنساناً ألقي به في الماء وهو لا يعرف من السباحة إلا لفظها، وكما يفعل المرء حين يلقي نفسه في الماء ويخشى عليها الغرق، فتراه يضرب بيديه ورجليه بغير حساب أو تفكير ويهز رأسه هزاً عنيفاً، وينفخ ويرغى، كذلك كنت أرى أمي لما أصابتها الذبحة؛ وسكنت الآلام بفضل العلاج يومين، وبدأنا نستبشر، ولكن النكسة جاءت، أو لا أدري ماذا حدث، فجعلت نوبات من الاختناق تعتريها، وبينها في أول الأمر فترات طويلة جعلت تقصر شيئاً فشيئاً حتى صارت دقائق. وكانت أول الأمر تقاوم الاختناق بشدة، وتعالج التنفس بجهد عنيف، يظهر أثره في كل عضلة من عضلات الوجه والعنق، وفي اضطراب الصدر وخفق القلب، وفي دفع اليدين والرجلين؛ وكان همي أن أقوي إرادة الحياة في نفسها وأن أمدها بما يكفي من الأمل والثقة والشجاعة، ولكن كرات الاختناق أوهت قوتها واستنفدت مجهودها، ولم يفارقها الحرص على الحياة، والنفور من الموت، وإنما خذلتها قواها؛ ولم يذهب عقلها ولا ضعف أو كل، ولكن ما خير العقل وما غناؤه وحده؟؟ وبأي شيء يشتد أزره؟ فلما جاءت آخر النوبات كان كل ما وسع الجسم أن يكافح به هذه الغارة أن الشفة السفلى اختلجت مرة أو مرتين، فهمد الجسم وكف القلب عن النبضان وانقطعت الأنفاس

وقد سقت هذه الأمثلة لأقول إن الإنسان لا يستسلم ولا يزهد في الحياة، ولا تفتر رغبته فيها، ولا يضعف كرهه للموت واستهواله للفناء، ولكنه لا يجد مؤازراً من جسمه فييأس؛

ص: 5

وليس هذا استسلاما وإنما هو إدراك لحقيقة بغيضة لا يبقى مفر من مواجهتها وتوطين النفس عليها، والإذعان لها كرها. وخليق بهذا أن يكون مؤلماً، ولكن فترته أقصر من أن يكون للألم فيها قيمة أو حساب، وعلى أن عجز الجسم عن المقاومة، يذهب في رأيي بالألم، لأن الألم فيها أعرف نوع من الاستجابة لوقع الشيء أو الحالة، ومتى فقد الجسم القدرة على الاستجابة للمؤثرات فانه يفقد أيضاً قدرته على الإحساس بالألم أو الحزن أو الجزع أو الفزع، لأن شعوره بذلك يقتضي أن تكون هناك بقية من الحيوية، ولو كانت هناك بقية، لاستمرت المقاومة ولظلت رحى الكفاح بين الحياة والموت دائرة

فلست أوافق الذين يستهولون أن يكون المرء مدركا لمجيء الأجل، لأن إدراك المرء لذلك، معناه أنه يدرك أن جهده نفد، وأن مَعين حيويته نضب وجف، وهذا الإدراك وحده وبمجرده، رياضة سريعة للنفس على السكون إلى المصير المحتوم، لأنه إشاعة للموت في الجسم قبل تجربة وقعه، فكأن الإنسان يوحي إلى نفسه الموت - بفضل هذا الإدراك وبقوته - قبل أن ينزل به، فإذا زاره ألفاه مستعدا له، مهيأ لتلقيه؛ والإدراك تهيّؤُ، والتهيؤ ينفي الألم ويستل اللذع.

ومن هنا كانت الشيخوخة - أي الضعف - والمرض الطويل أو المضني، بمثابة التدريب على الموت. وكل امرئ يقرن الشيخوخة أو المرض بالموت، ولا يستغربه حين يحل بالهرم أو الذي خامره الداء، ولكن موت الشاب يصدم النفس ويرجها، لأن الشباب - وهو أوان الحيوية الزاخرة - لا يقترن في الأذهان بفكرة الموت. أما الشيخ الهِمُّ فأن كل من يراه يجري بخاطره أنه هامةُ يوم قريب، وأخلق أن يكون الموت أقرب إلى خاطره وأجرى بباله، وأشد مثولاً وأكثر حضوراً، لأنه أحسَ بنفسه وأدق إدراكا لما خسر من قوته، وعلما بما صار إليه من الوهن والفتور بالقياس إلى ما كان عليه من المنة والنشاط والخفة والمرونة. ويَّألف المرء الضعف واليبس فيألف المصير الذي يرى نفسه ينحدر إليه بسرعة أو على مهل، فيكون هذا كالرياضة له على السكون إلى المآل المحتوم، وهذا هو معنى قولي إن الشيخوخة أو المرض تدريب على الموت.

وهذه الرياضة النفسية - أو التدريب الذاتي - على الموت أفعل وأوقع من كل ما يشاهده الإنسان من عدوان الفناء على الحياة في مظاهرها المختلفة. وأحسب أن المرء حين يرى

ص: 6

غيره يموت، أو يسمع بذلك، يستثني نفسه من هذا المصير وإن كان على يقين جازم من أنه حتم لا رادَّ له ولا حيلة فيه؛ ولعله في ضمير الفؤاد يهنئ نفسه بالنجاة ويشكر الله على أن الموت لم يخطفه هو، وعسى أن يكون الأمل المستمد من غريزة المحافظة على الذات هو الذي يغريه بالتعليق بوهم الاستثناء المستحيل، وهو على كل حال يخفف وقع الخبر، ويجعله محتملا، ويذهب ببواعث الجزع على النفس قياساً على المشهود.

ولكن قدرة المرء على مغالطة نفسه تضعف أمام دبيب الموت إليه على الأيام. ذلك شيء يحسه في نفسه فلا سبيل إلى تجاهله والإغضاء عنه. وكيف يسعه أن يتجاهل اليبس الذي في أعضائه، والتصلب الذي في شرايينه، والفتور الذي يجده، والضعف الذي يعتريه حين يهم بأيسر الأشياء، والعجز عن احتمال ما كان يمر به فلا يعيره لفتة، إلى آخر ذلك؟؟ وكل يوم يمضي به يزيده وهناّ على وهن، ويدنيه من القرار الذي يُلفي نفسه هابطاّ اليه، فلا يبقى سبيل إلى مغالطة النفس. وكل ما يقدر عليه أمله هو أن يرجو أن يُنسئ الله في أجله، على الرغم مما يكابد من ذلة الشيخوخة ومهانة الضعف والحاجة المتفاقمة إلى الإسناد. فهو مضطر أن يوطن نفسه على الموت، وأن يقصر الأمل على طول المهلة، وليس أجدى عليه ولا أفعل في تخفيف وطأة الموت من هذه الرياضة البطيئة. ومن هنا كان موت الفجاءة مزعجاً لنفوس الأحياء، لأن صدمته لها تجيء على غير انتظار. والله أعلم، فما جربَ الموت أحد وعاد إلينا ليقول لنا كيف كان وقعه - هذا طريق لا يحمل المسافر فيه (تذكرة) ذهاب وإياب، كما يقول ويندل هولمز.

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 7

‌الوزير أبن كلّس

واضع الحجر الأول في صرح الجامعة الأزهرية

للأستاذ محمد عبد الله عنان

سألني سائل كيف نشأت صفة الأزهر الجامعية، ومن صاحب الفضل الأول في إسباغها عليه؟ فرأيت أن أنتهز هذه الفرصة لأعرض في هذا الموضوع شيئاً من الشرح والتفصيل ويجب أولا أن ننفي فكرة ذائعة، هي أن الجامع الأزهر أنشئ ليكون جامعة أو معهداً للدرس، فليس ثمة في ظروف إنشائه ما يدل على أنه أنشئ لمثل هذه الغاية، وإنما أنشئ الجامع الأزهر ليكون مسجداً رسمياً للدولة الفاطمية في حاضرتها الجديدة، ومنبراً لدعوتها، ورمز لسيادتها الروحية. أما فكرة الدراسة بالأزهر فقد كانت حدثاً عارضاً ترتب على فكرة الدعوة المذهبية الجديدة؛ ففي صفر سنة 365 هـ، في أواخر عهد المعز لدين الله منشئ الأزهر، ولنحو أربعة أعوام من إنشائه، جلس كبير القضاة علي بن النعمان القيرواني بالجامع الأزهر وقرأ مختصر أبيه في فقه الشيعة في جمع حافل من العلماء والكبراء، فكانت هذه أول حلقة للدرس عقدت بالجامع الأزهر؛ ثم توالت حلقات بني النعمان بالأزهر بعد ذلك، وكان بنو النعمان من أكابر علماء المغرب الذين اصطفتهم الخلافة الفاطمية وجعلتهم دعاتها وألسنتها الروحية، فلحقوا بها إلى مصر، واستأثروا في ظلها برياسة القضاء زهاء نصف قرن؛ وكانت الخلافة الفاطمية تعتمد في توطيد سلطانها بمصر على عصبيتها المغربية، ثم على صحبها وخاصتها من الموالى الأجانب وجلهم من الصقالبة؛ وكانت حلقات أولئك العلماء المغاربة بالأزهر حلقات دعاية روحية وسياسية، تعقد في الغالب للأكابر والخاصة، ولم تكن لها في البداية صفة الدرس العام.

كانت هذه بداية جامعية في معنى من المعاني، بيد أنها لم تكن عامة ولا مستقرة؛ ولكن حدث في عهد العزيز بالله حدث جامعي آخر؛ ففي رمضان سنة 369 هـ جلس يعقوب بن كلِّس وزير المعز لدين الله، ثم وزير ولده العزيز من بعده بالجامع الأزهر، وقرأ على الناس كتاباً ألفه في الفقه الشيعي؛ وكان ابن كلس كما سنرى شخصية ممتازة، تجمع بين السياسة والعلم، وكان نصيراً كبيرا للعلماء والأدباء؛ وكان يعقد مجالسه الفقهية والأدبية تارة بالأزهر وتارة بداره فيهرع إليها العلماء والطلاب من كل صوب، وكانت في الواقع

ص: 8

أول مجالس جامعية حقة عقدت بالجامع الأزهر.

والظاهر أن ابن كلس كان أول من فكر في جعل الجامع الأزهر معهداً للدراسة المنظمة المستقرة؛ وعلى أي حال فهو أول من فكر في تنفيذ هذا المشروع الجامعي؛ ففي سنة 378 هـ استأذن ابن كلس العزيز بالله في أن يعين بالأزهر جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس يحضرون مجلسه ويلازمونه، ويعقدون مجالسهم بالأزهر في كل جمعة من بعد الصلاة حتى العصر؛ وكان عددهم خمسة وثلاثين؛ وقد رتب لهم العزيز أرزاقاً وجرايات شهرية وأنشأ لهم داراً للسكنى بجوار الأزهر، وخلع عليهم في يوم الفطر، وأجرى عليهم ابن كلس أيضاً رزقاً من ماله الخاص.

وهنا نجد أنفسنا أمام حدث جامع حقيقي، فق كان أولئك الفقهاء الذين رتبهم ابن كلس للقراءة والدرس بالأزهر، وأقرهم العزيز بالله، أول الأساتذة الرسميين الذين عينوا بالجامع الأزهر، وأجرت عليهم الدولة أرزاقاً ثابتة وباشروا مهمتهم العلمية تحت رعاية الدولة بطريقة منظمة مستقرة؛ وإذن فهنا نستطيع أن نقول إن الأزهر يكتسب لأول مرة صفته الجامعية الحقيقية كمعهد للدراسة المنظمة، وأنه يبدأ هنا حياته الجامعية الحافلة المديدة.

- 2 -

وإذا ما تقررت هذه الحقيقة، فأنّا نستطيع أيضاً أن نقول إن أكبر الفضل في تتويج الجامع الأزهر بهذه الصفة الجامعية الجليلة يعود إلى الوزير ابن كلس الذي أسبغ عليه لأول مرة صفة المعاهد الدراسية العامة، ورتب له أول فريق من الأساتذة الرسميين.

ولقد كان ابن كلس وزيراً عظيماً وعالماً جليلاً؛ بل كان عبقرية سياسية حقيقية؛ وهو أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس؛ واسمه يدل على أصله الذمي؛ أجل، فقد كان ابن كلس يهودياً، نشأ ببغداد، وغادرها في شبابه إلى الشام واشتغل هنالك حينا بالتجارة، وأثقلته ديون عجز عن أدائها ففر إلى مصر في عهد كافور الأخشيدي؛ واتصل به وقام له ببعض الأعمال والمهام المالية فأبدى في أدائها خبرة وبراعة، وطاف بريف مصر يحصل الأموال ويعقد الصفقات، حتى تمكنت منزلته لدى كافور، وأثرى وكثرت أمواله وأملاكه؛ ثم ثابت له فكرة في الأخذ بنصيب من السلطة والولاية، ورأى الإسلام خير طريق لتحقيق هذه الغاية، وكان قد بلغه أن كافوراً قال في حقه لو كان هذا مسلماً لصلح أن يكون وزيراً،

ص: 9

فدرس قواعد الإسلام وشرائعه سراً، وفي شعبان سنة 356 هـ، دخل جامع مصر (جامع عمرو) وصلى به الصبح في موكب حافل؛ ثم ركب في موكبه إلى كافور، فخلع عليه، واشتهر أمره، وعلت منزله، وقوي نفوذه؛ فتوجس وزير مصر جعفر بن الفرات من تقدمه وتمكن نفوذه شراً، وأخذ يدس له الدسائس، ويوغر عليه الصدور؛ فخشي ابن كلس العاقبة، وفر إلى المغرب في شوال سنة 357 هـ، ولحق بالمعز لدين الله الخليفة الفاطمي، وهو يومئذ ينظم مشروعه لغزو مصر، فقدر المعز مواهبه وكفاياته، ووقف منه على أحوال مصر ومواطن القوة والضعف فيها؛ ولبث ابن كلس في خدمته حتى تم فتح مصر على يد جوهر الصقلي. ولما قدم المعز إلى مصر بأهله وأمواله وجيوشه في رمضان سنة 362 هـ، قدم معه ابن كلس، وقلده المعز شؤون الخراج والأموال والحسبة والأحباس وسائر الشؤون المالية الأخرى، فأبدى في إدارتها وتنظيمها براعة وزاد الدخل زيادة واضحة، ثم عهد إليه المعز بشؤون الخاص؛ ولما توفي المعز بعد ذلك بقليل في ربيع الآخر سنة 365 هـ فوض العزيز بالله ولد المعز وخليفته إلى ابن كلس النظر في سائر أموره ثم لقبه بالوزير الأجل؛ ووقعت في حقه وشايات من بعض خصومه فاعتقله العزيز بالقصر بضعة أشهر، ثم أطلقه ورده إلى مناصبه؛ وتضاعفت منزلته لدى العزيز وغدا أقوى رجل في الدولة؛ وبذل ابن كلس جهوداً عظيمة في تنظيم الإدارة والدواوين، وكان من أكبر بناة الدولة الفاطمية بمصر وموطدي دعائمها ونفوذها.

وليس غريباً أن يحرز رجل مثل ابن كلس تلك المكانة الرفيعة في ظل الدولة الفاطمية مع أنه يهودي الأصل والنشأة؛ فقد كانت الخلافة الفاطمية تصطنع الذميين والصقالبة، وتولهم ثقتها؛ وقد ولى وزارتها فيما بعد، في عصر الحاكم بأمر الله، وزراء يهود ونصارى خلص مثل ابن رسوين، وابن فهد، وعيسى ابن نسطورس، وابن عبدون؛ وتولى بعد هؤلاء كثيرون في عهود مختلفة؛ ونستطيع أن نفهم سر ما كانت توليه الخلافة الفاطمية لوزرائها الذميين من العطف والثقة إذا ذكرنا أنها تتهم من بعض خصومها بالانتماء إلى أصل يهودي، وإنها كانت تتهم في عقائدها.

ولم يكن ابن كلس وزيراً وسياسياً عظيما فقط، بل كان عالماً وأديباً كبيراً أيضاً، وكان يعقد بداره مجالس علمية وأدبية دورية ينتظم في سلكها أكابر الفقهاء والأدباء والشعراء؛ وكان

ص: 10

يشرف بنفسه على هذه المجالس، ويشترك في أعمالها، ويغدق العطاء على روادها. وقد أخذ ابن كلس بقسط حسن في التأليف والكتابة، فوضع كتاباً في القراءات، وكتاباً في الفقه، وكتاباً في آداب رسول الله، وكتاباً في علم الأبدان والصحة، ومختصراً في فقه الشيعة مما سمعه من المعز لدين الله، وهو المعروف بالرسالة الوزيرية. وكان يقرأ كتبه على الناس تارة بالجامع الأزهر وتارة بداره، ويجتمع لديه الكتاب والنحاة والشعراء فيناظرهم ويصلهم؛ وكانت موائده دائماً منصوبة معدة للوافدين؛ وكان كثير الصلات والإحسان، وبالجملة فقد كان هذا الوزير والعالم الأديب مفخرة في جبين عصره، وقد أشاد شعراء العصر بجلاله وجوده، ومن ذلك ما قاله أحدهم حين أصابت الوزير علة في يده:

يد الوزير هي الدنيا فان ألمت

رأيت في كل شيء ذلك الألما

تأمل الملك وانظر فرط علته

من أجله واسأل القرطاس والقلما

ومرض ابن كلس في شوال سنة 380 هـ، فجزع عليه العزيز أيما جزع، ولبث يعوده ويرعاه، حتى توفي في الخامس من ذي الحجة؛ فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتجهيزه تجهيز الأمراء والملوك، وخرج من القصر إلى داره في موكب صامت محزن، وشهد تجهيزه وصلى عليه بنفسه، ووقف حتى تم دفنه وهو يبكي بدمع غزير، واحتجب في داره ثلاثاً لا يأكل على مائدته والحزن يشمل الخاص والقصر كله؛ وأفاض الشعراء في رثاء الوزير الراحل ومديحه، فوصلهم العزيز جميعاً؛ وعلى الجملة فقد سما ابن كلس في ظل الدولة الفاطمية إلى أرفع مكانة، وترك بوفاته فيها أعظم فراغ، وكان له أعظم الأثر في توطيد حكمها وإدارتها بمصر.

- 3 -

هكذا كانت حياة ذلك الوزير الخطير الذي يدين إليه الأزهر بأول خطوة عملية حقيقية في سبيل الحياة الجامعية؛ ومن المحقق أن تلك الخطوة الأولى في ترتيب الأساتذة والدروس بالأزهر بطريقة منظمة مستقرة، كان لها أثر كبير في تطور الغاية التي علقتها الخلافة الفاطمية بادئ ذي بدء على إنشاء الجامع الأزهر؛ فقد كانت هذه الغاية كما رأينا أن يكون المسجد الجامع الجديد رمز الخلافة الجديدة ومنبرا لدعوتها؛ ولكن يلوح لنا أن الخلافة الفاطمية لم تكن ترمي في المبدأ إلى توجيه الأزهر إلى تلك الناحية الجامعية؛ ذلك لأن

ص: 11

الجامعة الفاطمية الحقيقية أقيمت بعد ذلك في عصر الحاكم بأمر الله باسم دار الحكمة أو دار العلم الشهيرة في سنة 395 هـ (سنة 1005 م)؛ ولكن الأزهر كان يومئذ بفعل الظروف والتطورات التي أشرنا إليها قد بدأ حياته الجامعية؛ ومع أن دار الحكمة لبثت مدى حين تنافس الأزهر وتستأثر دونه بالدراسة المتصلة المنظمة، فإنها لم تنبث لصرامة نظمها وإغراق برامجها في الشؤون المذهبية، أن اضطربت أحوالها وضعف نفوذها العلمي؛ هذا بينما كان الأزهر يسير في سبيل حياته الجامعية الوليدة بخطى بطيئة ولكن محققة، ويسير في نفس الوقت إلى التحرر من أغلال تلك الصبغة المذهبية العميقة التي كادت في البداية أن تقضي على مصايره الجامعية الصحيحة.

ونحن نعرف أن هناك مشروعاً للاحتفال بالعيد الألفي للأزهر - وهو عيد يقع بعد نحو أربعة أعوام - ونعرف أن من مظاهر ذلك الاحتفاء بتلك الذكرى الجليلة أن يكتب تاريخ حافل للجامع الأزهر منذ إنشائه إلى يومنا؛ فمن حق الوزير العالم ابن كلس أن يتبوأ في ذلك التاريخ مقاماً يجدر بفضله في وضع الحجر الأول في صرح تلك الجامعة الكبرى.

محمد عبد الله عنان

ص: 12

‌الفلم المصري

بمناسبة فلم دموع الحب

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

لا يسع المصري إلا أن يغتبط أعظم الاغتباط عندما يرى تلك الأفلام المصرية الجديدة التي أقدم أبناء مصر على إخراجها بين حين وحين؛ ولا شك في أنها فتح جديد يجب أن نفخر به، ونحرص على المزيد منه؛ وإذا كان الجمهور المصري قد أقبل على رؤيتها ذلك الإقبال الباهر فان في ذلك دليلاً قوياً على مقدار تطلعه إلى أن يرى تلك الصناعة تنمو وتنجح. فالشعب يؤدي واجبه في تشجيع أبنائه من أهل الفن ويجيب مجهود المقدمين منهم إجابة كريمة مستنيرة.

والفلم المصري له مكان لا يستطيع فلم آخر أن يحل محله. فانه يشبع من عواطف المصريين مالا يشبعه خير الأفلام العالمية الأخرى، وذلك أثر من آثار النهضة المباركة التي نحسها في كل ناحية من النواحي. فالشعب المصري يحس بنفسه ويريد أن يرى تلك النفس مصورة أمامه تصويراً فنياً كما يحتاج الإنسان إلى أن ينظر في مرآة ليرى صورة وجهه أو هندامه، وكما يرتاح إلى أن يسمع ترديد آماله ونزعات نفسه ومُثُله العليا.

فكل فلم من تلك الأفلام حديث نفسي يتحدث به الفنان إلى بني قومه. فهي ليست قطعة من الفن فحسب. بل هي رسالة عاطفية يرسلها الفنان من نفسه إلى نفوس الجماهير المتعطشة إلى الحياة والعلو والقوة. ولهذا فنحن إذا ذهبنا لإجابة الداعي إلى فلم مصري كانت إجابتنا أولاً قومية وثانياًفنية.

ومن هذا الاعتبار لا يسع المصري أن يقارن أو يوازن بين الأفلام المصرية، وبين ما تخرجه الشركات العالمية من آيات الفن. لأن الأفلام العالمية إنما تؤدي رسالة واحدة وتشبع ناحية واحدة هي رسالة الفن المحض والناحية الأدبية الصرف، ومنهما كانت تلك الناحية الفنية فهي في المحل الثاني من نفوسنا، ولا يمكن بأي حال أن تحل المحل الأول الذي استولت عليه الآمال والأماني، والرغبة القوية في الحياة، والسمو والاعتزاز بالنفس.

غير أنا نطلب من النفس المصرية أكثر مما تستطيع بذله إذا نحن وقفنا عند حد الأماني القومية؛ بل أن تلك الأماني نفسها قد تخيب ولا تجد ما يستثيرها، أو يعبر عنها إذا لم تتقدم

ص: 13

الناحية الفنية وتعلو إلى المستوى الذي تتطلبه النفوس من الجمال والقوة؛ ولهذا نجد من أنفسنا جرأة على أن نتناول ما يظهر من الأفلام المصرية بالتحليل والنقد حتى نشير إلى ما كنا ننتظر، وما كانت نفوسنا تصبو اليه؛ ولهذا نرجو أن يدرك قراء هذه الكلمة قصدنا منها، وهو أن نشير إلى أمور نحب أن تراعى في الأفلام التي يقدمها المخرج المصري. فإذا ظهر أننا على حق فيما نذهب إليه كان مخرج الفلم المقبل على هدى فيما يتطلبه الجمهور المصري منه فيعمل على تحقيقه، وبذلك يكون الغد أقرب إلى الكمال من اليوم. إننا لا نستطيع أن ننكر فضل أولئك الرواد الذين قدفتحوا باب ذلك الفن، ولا نستطيع أن ننكر ما مهدوا من العقبات، ولا ما عانوا من المشقة في سبيل عملهم المجيد، وإنما ندعو بهذه الكلمة إلى التطلع إلى العلا، وبلوغ درجات جديدة من الإتقان. فإذا تكلمنا هنا عن فلم دموع الحب فلسنا نريد أن نخصه بالنقد، بل إنا نتخذه مثلاً في النقد لأنه أحدث الأفلام وأقربها مثولاً في الأذهان.

إن الفلم لا يكون ذا أثر بالغ في النفس إلا إذا كان يخدع الناظر عن المقصد المباشر الذي يرمي إليه الفنان. فان الناظر إذا استغرق في تأمل القصة التي أمامه، كان ميالاً إلى نسيان الحقيقة وأنه إنما ينظر إلى قصة - بل يخال أنه يعيش ويتأمل منظراً من مناظر الحياة؛ وتبلغ مقدرة الفنان ذروتها إذا استطاع أن يخدع الناظر فيجعله لا ينتبه إلى أنه إنما يطالع صفحة صور متحركة بل ينظر منظراً من مناظر الحياة الحقيقية، ويكون هذا الخداع ممكناً إذا عمل الفنان على أن تكون كل الوقائع المعروضة تسير سيراً طبيعياً لا تكلف فيه، وتتابع تتابعاً طبيعياً من غير تعسف ولا شطط. فإذا شعر الناظر أن هناك قفزة في الوقائع، أو أن هناك ثغرة في التسلسل، انتبه إلى نفسه وصحا من سحر المنظر، وفسدت عليه الغاية التي يقصدها الفنان.

وإذا أردنا أن نضرب أمثلة من فلم دموع الحب على تقصير الفنان في هذا الجانب النفسي لم يصعب علينا الأمر. فأن تصور أية حادثة من الحوادث في تلك القصة يتيح لنا فرصة للتمثيل. فلنأخذ الموقف الأول الذي ظهر فيه فكري أفندي (عبد الوهاب) في حديقة المنزل وقابل الفتاة ابنة صاحب المنزل، فأن المنظر لم يزد على مقابلة جاءت عفواً، ولم يطل أكثر من مدة صب الشاي، ثم استأذن فكري أفندي في الخروج لمقابلة صديق، ومع ذلك قد

ص: 14

كانت هذه المدة الوجيزة كافية لأن تجعل الشاب فكري أفندي يهوى الفتاة، ولأن يجعل الفتاة تحب ذلك الشاب، كأنما قد عزم كل منهما ابتداء على أن يحب الآخر إذا رآه! حقاً إن هناك نوعاً من الحب ينشأ للنظرة الأولى، ولكن ذلك الحب لا يستطيع أن يكون من نظرة عابرة جاءت عفواً؛ ولئن كانت النظرة السريعة تعقب الحب فلا بد أن يكون هناك عامل قد ساعد عليها، وأنه من حق النظارة أن يروا ما هو ذلك العامل الذي أسرع بالحب إلى هذا الحد.

على أننا إذا سلمنا أن الحب قد ينشأ من النظرة العجلى، فأنا لا نستطيع أن نسلم أن تبادل ذلك الحب يكون بغير تدرج ولا تقديم، وذلك على الأقل بين أصحاب النفوس المثقفة المهذبة، فكان لا بد للمخرج أن يدبر من الحوادث ما يساعد على إتاحة الفرص لتبادل ذلك الحب وإنمائه، ولكن فلم دموع الحب سار من المقابلة القصيرة الأولى إلى نزهة في الفجر في الحديقة يلتقي فيها الشاب بالفتاة ويبادلها أول ألفاظ التعارف فلا يكادان يسيران معاً دقائق قليلة حتى ترتفع الكلفة، وحتى يندفع الاثنان في تصريحات ودية، وحتى تبادلا الحب تصريحاً. ثم يسير الفلم بعد ذلك إلى نزهة لا مناسبة لها، ولا تفسير يعلل حدوثها، وفيها يتبادل المحبان العهود والمواثيق على أقدس أنواع الارتباط.

ومثل آخر لا يستطيع الناظر إلا أن يصطدم به وهو عندما عاد فكري أفندي من السفر بعد أن تبسم له الحظ ليحمل إلى حبيبته بشرى تحقيق الأمل في الزواج فيجد حبيبته في الحديقة إلى جوار حلمي صديقه، ولم يكن يعرف أن ذلك الصديق له أية علاقة بحبيبته وكذلك لم يكن ينتظر أن يجد تلك الحبيبة في مثل تلك الجلسة الخاصة مع شاب آخر. ومع ذلك فأنه لم يفعل شيئاً أكثر من أن وقف وجعل يتكلم عما جاء له، وكأنه لم يلاحظ شيئاً في وجود حبيبته في الحديقة منفردة مع شاب يناجيها وحيداً. ألم يكن من حق الناظر أن يرى علامة من علامات الاستياء على وجه المحب المتيم؟ ألم يكن على الأقل من حقه أن يرى علامة من علامات الدهشة أو الارتياع على وجه الشاب الذي أتى يحمل كل آماله إلى حبيبته فلا يجدها تطير نحوه كما كان ينتظر؟ وأين كرامته المجروحة؟ وأين حبه الثائر؟ وأين غيرته ونيران حقده؟ ثم ذلك الصديق الذي خانه مع سابق إخلاصه إليه وآسر على سعادته مع ما قدمه له في الأيام الماضية من وده وإخائه. ألا يستحق منه غير ذلك الموقف الفاتر الخامد؟

ص: 15

ويعود فكري أفندي بعد ذلك إلى الدار التي كان قد بناها لتكون داره مع زوجته المنشودة فيبكي ويتضاءل حتى يبلغ مكان صورة تلك الحبيبة الغادرة - ولكنه يقف فيطيل البكاء إلى جانبها ولا تحدثه نفسه بثورة ما - أحقا هكذا يفعل المحب الثائر الحب؟

إننا نخطئ كثيراً لو زعمنا أن الفلم يستطيع أن يبلغ المستوى المطلوب بالغناء وحده، فإذا شئنا الغناء فليكن الفلم صورة لعرض غنائي لا محاولة فيه للتمثيل. فإذا كان ولا بد من المزج بين الغناء والتمثيل فليكن الدور الأكبر مسندا إلى من يستطيع أداءه، وليختر موضوع الفلم اختياراً يسمح بأن يكون للمغني دور لا يحتاج إلى كبير دراية في فن التمثيل. فالحق أن الأدوار الثانوية في فلم دموع الحب كانت لا نسبة بين أدائها وبين أداء الدور الأكبر. فلقد أتقن المعلم حنفي (عبد القدوس) ما شاء له الفن وكذلك أتقن حلمي أفندي (سليمان نجيب) دور الصديق الغادر والغني المستهتر اتقانا يستحق كل الإعجاب، ولو كان هذان الفاضلان هما بطلا القصة لكان الإخراج الفني أبرع وأبدع.

وأما عن الغناء فلست أدري ماذا يرى كل من شهد الفلم فيه، لأن الغناء مرجعه إلى الذوق ولا يستطاع فيه النقد المنطقي الذي يصح في التمثيل، على أني لا أستطيع أن أكتم ما أحسست به، وذلك أنني لم أسمع إلا تلك الأغاني التي اعتدنا سماعها في الصالات، وفي ليالي الغناء المعتادة، وفي أسطوانات الأدوار الشائعة. وبعد فأنّا نتساءل: أهذا هو الغناء المقصود في روايات الأوبرا أو الأوبريت؟ إننا لم نشهد بعد من تقدم الغناء ما كنا شهدنا بوادره في روايات السيدة منيرة المهدية أمثال كرمن وروزينا وتابيس وغيرها مما عرضته تلك الفنانة الماهرة في وقت ما منذ عشرات السنين، وقد كنا ننتظر أن يسمو الغناء المسرحي بعد ذلك إلى درجة أعلى من تلك، فإذا بنا نعود إلى تلك الأغاني الساذجة المكررة التي اعتدنا سماعها على التخوت أو في الصالات. وإنا لا نشك في أن تلك الأغاني لها جمالها الخاص، ولا سيما عند بعض الأذواق التي يجب أن تخرج عن قيود المألوف إلى التعبير عن عواطف النفوس، وتستدرج السامعين إلى أنواع منوعة بدل تلك الآهات المكررة والأنغام الواحدة المعتادة. وإنه لمن العجيب أن نسمع صوت العود والكمان، بل نقر الدف لحفظ الوحدة في تلك الأغاني كأنما نحن نستمع إلى تخت لا إلى شخص حي يفيض بعواطفه ويترجم عن وجدانه! والحق أن تلك الآلات الموسيقية وذلك النقر الناشز

ص: 16

كان له أثر عظيم في تحويل العقل عن الاستغراق في القصة، وإلى إزالة غشاء الخيال عن جو القصة وإعادتها إلى جو آخر تنبه فيه العقل إلى أن الصور التي أمامه إن هي إلا صور متحركة وليست قصة حياة.

ولقد جرى مخرجو الأفلام المصرية إلى الآن على عادة لا نظنها تؤدي بهم أبدا إلى التفوق المنشود، وذلك أنهم يحاولون الاستغناء عن المؤلف الأديب. ولو كان المؤلف الأديب غير ضروري لكان لهم العذر فيما يذهبون اليه، ولكانت رغبتهم في الاقتصاد مفهومة واضحة، إذ لا نستطيع أن نلومهم على اقتصاد مبلغ من المال بدل أن يبذلوه للأديب الذي لا فائدة منه، ولكن الأمر على غير ذلك، فان أول أساس لنجاح القصة أن تكون قصة صالحة مكتوبة كانت أو مترجمة. ولقد رأينا فيما مضى أن أقوى مهارة في التمثيل تضمحل وتنتهي إلى الفشل التام إذا لم يكن دعامة ذلك التمثيل موضوعاً سامياً وقصة رائعة ذات جمال وفن وأدب؛ ونحن إذا استعرضنا المحاولات التي حاولها المخرجون إلى الآن لم نجد أنهم خصصوا لناحية القصة عناية تذكر. وقد يشكو المخرجون من أن الأدباء لا يواتونهم بالمؤلفات اللائقة كما أنهم قد يشكون من أن الأدباء يظهرون لهم من صعوبة المراس ما يجعلهم ييئسون من تعاونهم، ولكننا مع ذلك نريد أن نذكرهم ببعض أرقام قد تكون لها دلالة كبرى فان متوسط ما يناله الأديب الإنجليزي نظير قصة من قصص الأفلام يتراوح بين خمسمائة جنيه وألف جنيه، في حين أن متوسط ما يناله الأديب من هوليوود أكثر من ألف جنيه بلا نزاع؛ وليس من العجيب ولا المحرم أن يفوز المغني بآلاف الجنيهات؛ وكذلك ليس من العجيب ولا المحرم أن يفوز المخرج أو الممثل أو عارض الأفلام بآلاف مثلها، ولكنا نضيف إلى ذلك أنه ليس من العجيب ولا من المحرم أن يفوز الأديب ببعض تلك الألوف، لأنه شريك أساسي في المجهود الفني. ولهذا نرجو أن يعني المخرجون باختيار الموضوعات وألا يضنوا على الأدباء بما يشجع المبرز منهم على التخصص في إخراج ما تحتاج إليه الأفلام المصرية من القصص.

هذه كلمة لا نقصد بها إلا خدمة ذلك الفن الوليد ونحن على يقين من أن القراء مدركون قصدنا منها، وكذلك نرجو أن يحملها المخرجون والفنانون على المقصد السامي الذي نرمي إليه.

ص: 17

محمد فريد أبو حديد

ص: 18

‌قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور احمد زكي

وكيل كلية العلوم

بستور المسعور

وصل الفائت

نصب أعداء بستور له فخاً فدعوه إلى أن يجري تجربته عن اللقاح الذي اكتشفه في جمع عام. فأجابهم إلى ذلك، وحقن البهائم على رؤوس الأشهاد بالمكروب الأضعف، وبعد أيام حقنها بالضعيف ثم بعد أيام بالأقل ضعفا. واصطبر إلى اليوم الذي يحقنها فيه بالمكروب الحي القتال.

- 4 -

وجاء اليوم الكبير الموعود، اليوم الحادي والثلاثين من مايو، فحقنت المواشي جميعها - ما حُصّن منها باللقاح وما لم يحصن - بحقنة قاتلة لاشك فيها من مكروب الجمرة، وقام بحقنها رو، فنزل في الوحل إلى ركبتيه، ومن حوله مصابيح الكحول وقوارير المكروب، فأدهش النظارة بحسن ضربه الإبرة في جلود الحيوانات، وبهدوئه ورزانته وبروده وهو يضربها.

أودع بستور كل سمعته العلمية هذه التجربةَ الدقيقة التي لا تؤتمن، وما فرغ منها حتى أدرك حقيقة الموقف، وأيقن أنه أجاب داعي الرجولة والشجاعة برضائه إجراءها، ولكنه أيقن إلى جانب ذلك أنه أذن للجمهور، وهو المتلوّن المتذبذب، في تقدير علمه والحكم عليه. فلم يطب له نوم تلك الليلة، وقصاها يتلوى ويتقلب على فراشه، وكلما عزه النوم قام عن سريره يطلب الراحة في القيام، ثم هو لا يجده فيعود إلى النوم، وهكذا دواليك، وأوصته زوجته بالصبر ومنّته خيراً فصمت عنها، ودخل معمله وخرج منه مُقطِّب الجبين عابساً، ولا شك عندي أنه هرع إلى الله فصلى ورجا وابتهل، ولو أني لم أقرأ شيئاً من

ص: 19

ذلك في الأوراق.

كره بستور الصعود في البالونات، وخشي دائماً عواقب الخصومات في المبارزات، ولكنه لم يجبن ولم يتردد لما دعاه هؤلاء البيطريون إلى هذه التجربة وساقوه عامدين إلى هذا المأزق الخطير.

وجاء اليوم الأكبر الموعد، يوم الثاني من يونيو عام 1881، فجاء الناس من كل حدب وصوب لحضور اليوم المشهود، يوم يحكمون في أمر بستور، فإن خيراً فله، وإن شراً فعليه، وكثر عددهم حتى ضاق بهم المكان الرحيب، وتضاءل إلى جانب هذا الاجتماع كل اجتماع سبقه، وكان في الحاضرين نواب الأمة وشيوخ من شيوخها، وكان فيهم عظماء، وكان فيهم كبراء، ومن كل حسب ونسب لا يظهر في الناس إلا في أعراس الأمراء وجنائز الملوك، وكان فيهم الصحافي الشهير دي بلوفتس حوله جمهرة من رجال الصحافة ومكاتبيها.

ودقِّت الساعة الثانية، فخرج بستور إلى الميدان يصحبه رجاله، وفي هذه المرة لم يكن له ولهم من الجمهور إلا الترحيب الصارخ والهتاف المتعالي. فأما الشياه الأربعة والعشرون التي كانت لُقّحت ثم حُقنت فيها الملايين من المكروبات القاتلة فقد وجدوها قائمة تأكل وتجري فرحة مرحة هانئة بالحياة، ولم يجدوا بواحدة منها أثراً من الحُمىِّ، فكاْن مكروب الجمرة لم يخالط دمها، وكأنما كان بينه وبينها ما بين الأرض والسماء.

أما الشياه الأربعة والعشرون الأخرى التي لم تُلقِّح، تلك الأربعة والعشرون التي حقن المكروب القتال تحت جلدها من غير أن تُحمى منه وتُحصّن، فقد وجدوا اثنين وعشرين منها راقدة على جنوبها في خط واحد رقدةً تبعث الأسى والحزَن. أما الاثنتان الأخريان فكانتا لا تزالان قائمتين على أرجلهما ولكن في غير اتزان، تجاهدان في سبيل العيش هذا العدوَّ الأخفى الذي ما غالب الحياة إلا غلبها، وكان دم أسود ينضح من أنفيهما ومن شفتيهما ينذر بقرب لحاقهما بالشياه المنبطحة الصريعة من أخواتها.

صاح بَيْطار لأخيه البيطار: (انظر، انظر، فهذه أخرى من التي لم يلقِّحها بستور قد سقطت إلى الأرض!).

- 5 -

ص: 20

حضر عيسى المسيح عرس (كانا) الشهير، فلما نَفِد الخمر وكاد يتعرض أهل العرس للفضيحة شاء يسوع أن يستحيل الماء خمراً فاستحال، ولم يذكر لنا الإنجيل تفصيل ما ظن الناس بصاحب هذه المعجزة، ولا ما فعلوا به عندها. وهذا بستور في الثاني من يونيو عام 1881 يأتي في هذا العصر الحديث بمعجزة لا تقل إعجازا عن تلك التي وقعت في ذلك العصر المقدَّس العتيق فيقوم هذا الجمع الحاشد، على الرغم مما كان من اختلاف أهوائه يحنون رؤوسهم لهذا الرجل القليل، المشلولِِ بعضُه، الذي حمى مواشيهم تلك الحماية التامة الرائعة من قرصات هذه الخلائق الصغيرة التي تقرص فتقتل في الظلام قتلاً مُؤكّدا. إن هذه التجربة الجميلة التي أجراها بستور على الملأ في بُحبوحة هذا الحقل تقع في نفسي موقعاً شاذاً غريباً، لأنها قصة شاذة غريبة في تاريخ الإنسان وجهاده هذه الطبيعة القاسية. أما شذوذها ففي هذا التهليل والتكبير الذي صحبها، وهذا الترحيب الصاخب الذي ناله بستور من أجلها. فعهدنا بكشوف العلم ألا تقدِّر في حينها، وعهدنا بها أن ينال صاحبها الأذى من أجلها. ألم يودع جاليليو السجن من أجل أبحاثه التي تسببت أكثر من غيرها في الانقلاب الهائل الذي أدى بالدنيا إلى حالها الحاضرة؟ وكم لجاليليو من أشباه وأمثال. كذلك عهدنا بصاحب الفكرة أن تبقى فكرته ويزول فلا يَنْعم حتى بالذكر طيباً كان أو خبيثاً. وإلاّ فما العباقرة الأولون الذين اخترعوا النار واصطنعوا العجلات وابتدعوا الشراع وأنّسوا الخيل؟.

- 6 -

أما بستور فحظه غير حظ هؤلاء جميعاً. فهذا هو قائم في هذا الحقل ومن حوله الأغنام الأربعة والعشرون تشطح وتمرح بين جُثثٍ أربعِ وعشرين لأخوات لها ماتت شر ميتة. رجلٌ قدير في تمثيله، ومسرحٌ فخم في بشاعته، ورواية خالدة على الدهور، وقد اجتمعت الدنيا إليه تسمع وتنصت، وتُثبت ما تسمع، ثم تدخل في دينه أفواجاً تحارب معه الموت لَّما بان لها أن النصر قريب أكيد.

وأحدثت هذه التجربة في الناس تحوّلاً كبيراً. مثال ذلك رجل يدعى الدكتور بَيُوت كانت صناعته علاج الخيل والسخرية ببستور سخريةّ مُرَّة. فلما رأى أخيرة الشياه تموت جرى

ص: 21

مندفعاً إلى بستور يصيح به: (بالله عليك يا سيدي إلاّ ما حصنتني بهذا اللقاح كما حصَّنت هذه الشياه، ثم حقنتني بذلك المكروب القاتل كما حقنتها فنجَّيتها، فالعالم لابد أن يقتنع بصدق هذا الكشف العجيب!).

وجاءه خصيم آخر مخفوض الجناح يقول: (حقاً إني قصفت بالنُّكات الكثير عن هذه المكروبات، أما اليوم فأنا مخطئ توَّاب!). فأجابه بستور مقتبساً من الإنجيل: (سيكون الفرح في السماء لخاطئ واحد يتوب أكثر منه لتسعة وتسعين من العُدوُل الذي لا يحتاجون إلى التوبة).

أما الصَّحفيِّ الكبير دي بلوفتس فهتف لبستور وهرع يرسل تلغرافه إلى جريدة التيمس والى جرائد الدنيا. قال فيه: (إن تجربة قرية بولي - نجاحاً كاملاً لم يسبق له مثيل.

وتلقت الدنيا هذا الخبر، وأخذت تنتظر ما بعده، فكأنما حسبت في شيء من التخليط أن بستور بعض الأنبياء أرسله الله رحمة بالناس، يحمل عنهم الأثقال ويدفع عنهم الآلام. وخرجت فرنسا عن وعيها فيه فسادت به أعظم أبنائها ومنحته وسام الكردون لأكبر لليجيون دونير وبعثت إليه الجمعيات الزراعية والبياطرة وفقراء الفلاحين ممن حلّ بحقولهم داء الجمرة اللعين، بعثوا أجمعين إلى بستور برقيات عديدة يسألونهُ ألوف الحُقَن من لقاحه الشافي، وأجاب بستور وأعوانه الثلاثة رجاء هؤلاء في نخوة مجيدة أنستهم صحتهم - والعلم كذلك. وكان بستور شاعراً، فأثارت شاعريته في قلبه ايماناً بتجربته، التي كانت، زاد حتى أربى على إيمان من دخلوا في دينه حديثاً.

نعم أجاب بستور السائلين، فقلب معمله الصغير بشارع مصنع للقاح، فكنت ترى الأوعية الكبيرة بأحسيتها على النار تغلي وتتفقَّع ليزُرع فيها مكروب الجمرة بعد إضعافه وتأنيسه. وكنت ترى رو وشمبرلاند يقومان على إضعاف البشلة القوية والتخفيف من عنفها لتعطى شياه فرنسا بعض المرض دون أن تقتلها، وتوخيا الدقة فيما يعملان، ولكن أين الدقة من المسرع الهلع؛ وتهيأ اللقاح، فقام الأعوان جميعاً والعرق يتصبب منهم بتعبئة الجالونات الكثيرة منه في زجاجات تسع الأوقيات القليلة. وكان لا بد أن تكون الزجاجات طاهرة من المكروب كل الطهارة فطهروها؛ كل هذا دون أن يكون لديهم كل الأجهزة اللازمة لضمان العاقبة، يا عجبا لبستور! كيف قام بذلك كله؟ بل هي تجربة واحدة واضحة ابتدعها - أم

ص: 22

هو القدر أعثره بها؟ - ملأنه ثقة عمياء ليس عهدي بالتجارب الفُرادى الواحدة أن تملأ رجلا بمثلها.

وفي أثناء تحضير هذه الألقحة كان الأعوان الثلاثة يتحينون الفرص فيفلتون منها ليلقحوا البهائم في شمال فرنسا وفي جنوبها، وأدى بهم المطاف يوما إلى هنغاريا. لقحوا مائتي شاة هنا، ولقحوا خمسمائة وستا وسبعين شاة هنالك، حتى بلغ ما لقحوه في دون العام مئات الألوف منها؛ ثم يعود هؤلاء اللقّاحون الأفّاقون يجرون أرجلهم من التعب إلى باريس، وفي حلوقهم عطشةُ إلى شراب يسوغ، وفي قلوبهم عطفةٌ إلى حُبّ يطيب، أو لعلهم كانوا يتوقون إلى ساعة هادئة يقتلونها على دخان الطُبّاق: ولكن أين لهم ذلك وبستور كان يكره رائحة الطباق، أما الحب والشراب فكيف يجوز أن عنده وشياه فرنسا تثغو ثغاء عالياً تطلب الخلاص ممن عنده الخلاص، فلا يكون لهؤلاء الثلاثة الأرقاء رغم شبابهم مندوحة من إطاعة هذا المجاهد المجنون الذي تعبِّدوا له اختياراً، هذا المأمون الذي تجمع فكره وتركّز كيانه وانحشد عزمه على إيجاد هذا المكروب الذي يقتل بعضه بعضاً. فيقومون بالتخففّ من ملابسهم والتشمير عن سواعدهم ثم يقضون الساعات الطويلة إلى جانب مجاهرهم يُحملقون فيها حتى تحمرَّ جفونهم وتتساقط رموشهم. وفي أثناء ذلك يزداد الفلاَّحون صياحا طلباً للقاح، ويزداد أصحابنا انهماكا في تجهيزه فيقعون أثناء ذَلك ومن جرائه في متاعب غربية لم تكن في الحسبان: دخلت بعض الجراثيم الغريبة إلى الأحسية مع مكروب الجمرة، وإذا باللقاح الضعيف الذي يكفي لقتل الفأر صار يقتل الأرنب الكبير. فقام هؤلاء الأبالسة يتعرفون أصل الخطأ حتى عرفوه، ويتعقبون مدخل هذا المكروب الضال فسدوه، فيأتيهم بستور بعد هذا كله ساخطا صاخبا. ولم ذا؟ لأنهم أضاعوا في هذه التجارب وقتا طويلا ثمينا!.

وأراد بستور أن يكشف عن جرثومة داء الكَلَب.

كان ليل المعمل هادئاً إلا من صوت الخنازير وعراك الأرانب، أما الآن فقد غطى على هذا نباح الكلاب المسعورة، وهي تعوي عواءاً يملأ الآذان وقرا والقلوب رعباً، ويطير بالنوم عن أعين الأعوان الثلاثة رو وشمبرلاند وتويبيه. . . لهم الله من ثلاثة! ليت شعري ما كان يصنع بستور في حربه رسلَ الموت لولا هؤلاء الثلاثة.

ص: 23

ومضى عام أو دون عام على المعجزة التي جرت على يدي بستور في قرية - حتى أخذ يتضح للناس أن بستور، هذا الصياد الماهر في صيد الميكروب، ليس إلّها معصوماً بل بشراً مخلوقا يخطئ ويصيب. وجاءته كتب عدة تراكمت على مكتبه من مونت بتييه وعشر مدنٍ أخرى في فرنسا، وكذلك من هنغاريا، وكلها تشكو أن الشياه تموت من الجمرة، لا الجمرة الطبيعية المألوفة، ولكن جمرة جاءتها من هذا اللقاح الذي قصد إلى خلاصها، وأنت الأنباء بالسوء من أصقاع أخرى تقص حكايات أخرى عن خيبة هذا اللقاح. ففي بقعة من تلك البقاع اشترى الفلاحون هذا اللقاح، ودفعوا ثمنه نقدا، ولقحوا به قطعانا كاملة من الأغنام، ولما جاء المساء عادوا إلى منازلهم وأراحوا جنوبهم في مضاجعهم وهم يقولون حمدا لله الذي منَّ علينا برجلنا العظيم بستور، ثم طلع الصباح عليهم، فما انفتحت عيونهم حتى وجدوا الحقول قد غطَّتها جثث الشياه النافقة - تلك الشياه التي زعموها حصينة قد ماتت من بزور الجمرة التي تخبَّأت في ثرى هذه الحقول.

وأخذ بستور يكره كل صباح أن يفضّ الكتب التي تأتيه إشفاقاً على نفسه مما كتب كاتبوها، وودَّ لو سدَّ أذنيه فلم يسمع بسخرية الساخر وضحكة الهازئ يأتيه صداها من وراء الأركان. وأخيراً حدث شر ما يحدث له: تقريرٌ خرج من معمل كوخ، تقريرٌ محكمُ في بروده، دقيقٌ في فظاعته، كتبه ذلك الرجل الألماني القصير الخسيس، وفيه نَفى أن يكون للقاح الجمرة لدى التطبيق نفع أبداً. وزاد همَّ بستور علمُهُ أن كوخ أدق صَيادٍ للمكروب في الدنيا.

قطف بستور القطفة الأولى من ثمار تجربته فكانت حلوة طيبة، ثم أتى يقطف القطفة الثانية فأجزعته مرارتها يقيناً. ولكنه، طيَّب الله ثراه، كان شهماً لا يثنيه الحَدَث الجليل. فلم يكن في جِبلَّته أن يعترف للناس أو لنفسه بأن دعاواه العريضة الطويلة ليس لها هذا العرض ولا هذا الطول الذي ادعاه. وكأني بك تسمعه يتمتم لنفسه:(ألم أقل إن هذه الألقحة تُمرض الشياه قليلاً ولا تقتلها، ثم هي بعد ذلك تحصَّنها من الداء تحصيناً تاماً كاملاً. فهو ذاك، فلألزمْ ما قلت فليس عنه من مَحَيد)

ياله من باحث عظيم! ومع هذا فما أقل حظه من تلك الصراحة النبيلة التي نسى فيها سقراط نفسه ذاته، فلم تخدعهما عن الحق المظاهر، ولم تستهوِهِما عنه المنافع. على أن

ص: 24

بستور لا يلام هذا اللوم كله، ففرْقُ ما بينهما واسع واضح، فهذان إنما طلبا الحق على الأسلوب الذي ارتأياه ولم يتطلبا شيئاً سواه، أما بستور فقد ساقه بحثه رويداً رويدا إلى حيث يفقد المرء لبَّه ويُضيَّع رشدَه، إلى صناعة تخليص الأرواح من براثن الموت، وهي صناعة ليس الحق بأهمَّ ما فيها.

وفي عام، 1882 بينما التقارير مكدسة على مكتبه تحمل أنباء المصائب الكثيرة من هنا وهنا، قام بستور وسافر إلى جنيف وألقى على الزبدة المختارة من مجاهدي الأدواء في العالم خطبة رنَّانة موضوعها:(كيف نخلص الأحياء من خبيث الأدواء بحقنها بالمكروبات بعد إضعافها).

وفيها أكَّد لهم بستور: (أن المبادئ العامة قد وجدناها فلا يستطيع المرء أن ينكر أن المستقبل ملئ بآمال عظام. وصاح فيهم: (إننا جميعاً مدفوعون بعاطفة قوية نبيلة، هي حب الحق وحب التقدم بالإنسانية إلى خير مما هي فيه). ولكنه وا أسفاه لم يذكر في هذا الخطاب البديع شيئاً عن الشياه الكثيرة التي ذهب لقاحه بها وقد كان لحفظها وتحصينها.

وكان كوخ حاضراً في الاجتماع، وظل يَطرِف إلى بستور بعينه من وراء نظارته الذهبية ويبتسم في لحيته الكثَّة كلما سمع بستور يقصف بالجمل الرنَّانة، قد عَمِرت باللفظ البديع وأقفرت من العلم الصحيح. وكان بستور يخطب وهو يحس كأن سيفاً خفياً مُصلَتا فوق رأسه. ولما فرغ من خطابه تحدّى كوخَ أن يجادله على رؤوس الأشهاد علماً منه أن كوخ في صيد المكروب خير منه في الحِجاج. فقام كوخ فقال:(سأقنع نفسي بالرد كتابةً على السيد بستور، وسيكون هذا قريباً). وكحَّ، ثم جلس.

(يتبع)

أحمد زكي

ص: 25

‌الحياة الأدبية في دمشق

للأستاذ علي الطنطاوي

لا شك أن (الرسالة) بسموها عن الفكرة الإقليمية الضيقة، وفتحها أبوابها لأبناء العربية جميعاً، ودعوتها إلى الاجتماع على التوحيد في الدين، والفضيلة في الأخلاق، والوحدة في السياسة، والصحة في اللغة، والجمال في الأسلوب، والتجديد في الأدب. . سيكون لها أثر كبير في تاريخ الصحافة العربية بما سنت من هذه السنة الحسنة التي لم تعرفها من قبل كبريات مجلات مصر إلا قليلا، وبما بلغته من الجمال والإتقان، في الشكل والموضوع؛ وسيكون لها أثر كبير في تاريخ الأدب العربي، بما وضعت للأدب من منهج مستقيم، وما أحيت من الأسلوب العربي، وما قبست من روائع الآداب الأجنبية؛ وسيكون لها أثر كبير في التاريخ العربي العام، بما دعت إليه من الوحدة العربية، وما نشرت من أمجاد السلف، وما وضعت في نفوس الناشئة من قرائها، من العمل للجامعة العربية الواسعة، لا للإقليمية الضيقة. . .

ولا شك أن (الرسالة) اليوم للأقطار العربية كلها، لا لمصر وحدها؛ فكما تفتح (الرسالة) أبوابها للمقالات الوصفية والقصصية، وللقصائد والبحوث التي يبعث بها إليها أدباء الشام والعراق وغيرهما، فلتفتح أبوابها للفصول النقدية، والبحوث المستفيضة عن الحركة الأدبية في هذه البلاد، ولو كانت قاسية شديدة على النفوس، ولو كشفت عن حقائق يحب بعض الناس ألا ينكشف عنها الستار؛ وليس من مصلحة الأدب في شيء أن يظل أدباء مصر والعراق جاهلين مدى الحركة الأدبية في الشام - مغترين بها - وليس من المصلحة أن يبقى أدباء الشام ومصر جاهلين مدى الحركة الأدبية في العراق، بل يجب أن يصف أدباء كل قطر من الأقطار الحياة الأدبية في قطرهم، ومبلغ قوتها أو ضعفها، وسبب تقدمها أو علة قصورها، وأن يحللوا أدواءها وأمراضها، لنتعاون جميعاً على علاجها ومداواتها، وتقويتها وشد أزرها؛ والحياة الأدبية في الشام أحوج شيء إلى المداواة والعلاج، إذا كان في الشام حياة أدبية، لها وجود، ولها آثار يستطيع الناقد أن يصفها ويتحدث عنها؛ وأنا أشك في وجود هذه الحياة، فلا أستطيع أن أجزم بوجودها لأني لا أرى علامة من علامات الحياة في أدباء دمشق وأدبها، ولا أستطيع أن أنفيها، لأن في دمشق أدباء كباراً معروفين، ولأن

ص: 26

دمشق - كما يعلم الناس جميعاً - عاصمة من عواصم البيان العربي. . . .

ولقد رجعت أعرض تاريخ الأدب في دمشق منذ عهد الاحتلال إلى اليوم، وأنظر الآثار الأدبية الخالصة التي أخرجها أدباء دمشق هذه الخمسة عشر عاماً، فلا أجد إذا استثنيت مجلتي الرابطة الأدبية والميزان، ورواية سيد قريش لمعروف الأرناؤط، وكتابي المتنبي والجاحظ لشفيق جبري، ورسائل أئمة الأدب لخليل مردم بك، إذا استثنيت هذه الكتب، وكتابين آخرين أو ثلاثة قد أكون نسيتها، لا أجد أثراً أدبياً له قيمة. وهناك كتب محمد بك كرد علي: خطط الشام، والإسلام والحضارة، وغيرها، ولكنها ليست من الكتب الأدبية الخالصة، وإنما هي كتب تاريخ لا تدخل في موضوع مقالي.

على أن هذه الكتب التي استثنيتها ليست في درجة واحدة من حيث قيمتها الأدبية، فبينا نعد (سيد قريش) عملاً فنياً كبيراً على ما فيها من ضعف العقدة الروائية، وتشابه المناظر، وتكرار الأوصاف، وغلبة النصرانية على أجمل صفحاتها، نعد رسائل (أئمة الأدب) لخليل مردم بك، كتباً مدرسية، موضوعة لطلاب البكالوريا لا تبلغ أن تعد في الدراسات القوية التي تستند إلى طريقة في البحث معروفة، وتكشف عن نواح مجهولة من حياة الأديب الذي تبحث عنه ومن أدبه؛ ثم إن هذه الكتب نفسها إذا قيست بمدينة كدمشق، في مدة طويلة كهذه المدة، لا تعدو أن تكون أثراً ضئيلا لا يدل على حياة. . . . وهذا الأثر على ما فيه من ضعف ينحصر في فنين من فنون الأدب هما: القصة التاريخية، والدراسة التحليلية؛ أما سائر فنون الأدب كالقصة التمثيلية، والأقصوصة القصيرة، والصورة الوصفية، والمذكرات الأدبية، التأملات الفلسفية والشعرية، والدواوين القيمة، والخطب البليغة، وغيرها من فنون الأدب، فلا نكاد نجد لأدباء دمشق فيها أثراً يذكر.

من أجل ذلك لم أقل إن في دمشق حياة أدبية، لأن ما نحن فيه ليس بالحياة ولا بشبه الحياة، ولم أنف هذه الحياة لأن في دمشق أدباء ينتجون، أو يستطيعون أن ينتجوا شيئاً، وإنما أقول إن أدباء دمشق في منزلة بين الموت الكامل، والحياة الصحيحة، هي السبات العميق، والنوم الطويل الذي يشبه نوم الضفادع طول الشتاء، إذ تدخل في ثقب من الثقوب، فتلبث الفصل كله كأنها قطع الحجارة، لا تأكل ولا تشرب، ولا تنق ولا تتحرك. . .

وإلا فما يصنع كتاب دمشق وشعراؤها؟ وأين هي منتجاتهم الأدبية؟ وهل يكفي الشاعر أن

ص: 27

يقول كل خمسة أعوام قصيدة واحدة تضطره إليها المناسبات اضطراراً، ثم لا يكون فيها أثر من نفسه، ولا تصف شيئاً من عواطفه؟ وهل يكفي الكتاب أن ينشر كل عامين مقالة تطلب منه، أو مقدمة كتاب يسأل كتابتها؟ بل هل يستطيع أن يملك لسانه الشاعر فلا يقول شيئاً وهو يرى كل يوم ما ينطق الصخر بالشعر من مصائب الأمة ونكباتها، بل وهمومه هو ومصائبه وما يشاهده في حياته في بيته، وحياته في عمله؟. . أليس في حياته سرور وألم، وأمل وقنوط، وضحك وبكاء؟ أفيضحك الشاعر فلا يغني، ويبكي فلا ينوح، وتهز قلبه الحادثات فلا يقول شيئاً؟ أنا لا أستطيع أن أتصوَّر كاتباً أو شاعراً، لا يكتب ولا ينظم، وكل ما حوله يهيج نفسه، ويثير عاطفته. . .

إن أدباءنا يحتجون بأنهم لا يجدون مكاناً ينشرون فيه، وإذا لم يجد الأديب سبيلاً إلى النشر ضعفت همته، وانكسر نشاطه، ولم يجد حافزا إلى العمل، لأن فقد عنصر النشر من أكبر الأسباب في هذا الركود الأدبي. . . وهذا صحيح لا غبار عليه.

وليس في دمشق مجلات أدبية، إلا مجلة صغيرة اسمها (الطليعة) يصدرها نفر من الشباب المثقفين الذين يحملون الشهادات العالية من أكبر معاهد أوربا، ولكن لها منحى خاصاً لا يرضى عنه الناس كلهم، وهي تمشي بخطى مضطربة. وربما اضطر أصحابها إلى إغلاقها كما اضطر من قبل أصحاب (الثقافة) إلى إغلاقها، برغم أن أصحابها من صفوة أدبائنا ومفكرينا، كخليل مردم بك وجميل صليبا وكاظم الداغستاني؛ ثم إن الجرائد اليومية لا تعنى بالأدب عناية كبيرة، ولا تخصص له صفحات دائمة تنفق عليها بسخاء، وإن هذه الصفحات الأدبية التي تزيَّن بها صدور بعض جرائدنا اليومية صفحات فارغة، لا أظن أن أحداً ممن له صلة بالذوق الأدبي يرضى عنها، وما أظن أن أصحاب الجرائد والقائمين عليها يرضون عنها، أو يجدون فيها وفاء مما يؤملون. وإذا ألَّف الأديب كتابا أو قصة لم يجد الناشر، وإذا أنفق عليها من ماله لم يشترها أحد، لأن دمشق بلد تقرأ كثيرا ولكنها لا تشتري؛ وهذه مجلة (الرسالة)، لا تجد في دمشق أديباً أو متأدباً إلا اعترف لك بأنها خير مجلة أخرجت للناس، وأن العالم العربي لم يعرف مجلة مثلها منذ أنشئت أول مطبعة في مصر، ولا تجد أديباً أو متأدبا إلا وهو ينتظر يوم الثلاثاء ليقرأ الرسالة، وبعد ذلك كله يباع من أعداد الرسالة في دمشق كلها أقل من خمسمائة عدد. . .

ص: 28

هذه حجة الأدباء في تقاعسهم عن النشر، وهي كما ترى حجة مقبولة، ولكنك إذا سألت القراء لم لا يشترون، احتجوا بأن الأدباء لا ينشرون، وإن تقاعسهم وكسلهم علم القراء الزهد في الآثار القيمة والانصراف عن شرائها.، وأنه لابد من أن يضحي الأدباء بقسط من أموالهم وشهرتهم حتى يستعيدوا القراء الذين فقدوهم. على أن الذنب في رأيي ذنب المدارس والمدرسين، لا ذنب الأدباء ولا ذنب القراء، فليس في الشام اليوم من دروس الأدب إلا هذا المقدار القليل الذي يتعلمه الطالب في مقرر البكالوريا. وهذا المقدار لا يحق حقاً، ولا يبطل باطلاً، ولا يصنع شيئاً أكثر من تبغيض الطلاب في الأدب، وتسويده في أعينهم، ذلك لأن شعب الأدب في صفوف البكالوريا تسير في طريق عوجاء أبعد ما تكون عن بث الملكة الأدبية في نفس الطالب. وكيف تكوِّن الملكة الأدبية طائفة من أخبار الشاعر وأشعاره يستظهرها الطالب من غير أن يفهمها غالباً، ويحتفظ بها دماغه إلى يوم الامتحان، فإذا أدَّاه ونال الشهادة أهملها، أو دخله الغرور فظن أن معنى (بكالوريوس في الآداب) كاتب أو أديب، فزهد في المطالعة، وانصرف عنها أو طالع ما يقع تحت يده من الكتب والمجلات حتى ابتلى بسوء الهضم، وأصيب بالتخمة العقلية. . . فترْك القراءة وذهب إلى الندَّى (القهوة) يقطع عمره في النرد والشطرنج ثم يعمد إلى الكتابة في موضوع علمي أو فلسفي دوَّنت فيه عشرات المجلدات من غير أن يقرأ منها شيئاً. . .

ثم إن طلاب شعب الأدب في صفوف البكالوريا لا يستطيعون أن يستعينوا بالثقافة العامة التي يتلقونها في المدرسة، ولا يعرفون كيف يستفيدون من علم الغريزة (الفسلجة) أو علم النفس أو التاريخ في بحوثهم الأدبية ولا يعرفون شيئاً من مناهج النقد، وقواعد التحليل الأدبي، لا لأن الطلاب كسالى أو بلداء، فالطلاب يدرسون الأدب الفرنسي فيسيغونه، ويدرسون الرياضة فيفهمونها، ويدرسون أشياء كثيرة غير هذه يضيقون ببعضها ويتبرمون به، ويقبلون على بعضها ويحبونه، ويجدون لذلك كله أثراً في نفوسهم، فإذا جاء الأدب العربي وجدت أكثر الطلاب لم يلذَّوه ولم يبق في نفوسهم أثراً.

وسبب ذلك أن أكثر المدرسين عاجزون عن أداء هذه المهمة التي انتدبوا أنفسهم لها، أو اندبهم لها من بيدهم مقاليد الأمور، لشهرتهم الأدبية أو لشهادتهم العالية، أو لشيء غير ذلك له صلة ضعيفة، أو لا صلة له بالأدب قط. وأكثر المدرسين اليوم بين رجلين: رجل ثقف

ص: 29

الأدب العربي القديم ثقافة حسنة، وضرب بالسهم الوافر في علوم العربية نحوها وصرفها، وبلاغتها وعروضها، ونقدها وروايتها، وحفظ أيام العرب وأمثالهم واستطاع أن يفهمها حق فهمها، وينقدها نقد بصير بها، ولكنه عجز عن أن يدرسها ويدرس رجالها دراسة تحليلية صحيحة لجهله الآداب الأجنبية، وجهله قواعد النقد الحديث.

ورجل درس الآداب الأجنبية أو واحداً منها دراسة عميقة، وعرف مناهج البحث، ومذاهب النقاد، وأحسن نقلها إلى الأدب العربي، ولكنه عجز عن فهم الشعر العربي، وجهل علوم العربية، فغدا لا يستطيع إدراك معنى النص العربي فضلا عن نقده أو الحكم عليه.

ثم إن أكثر المدرسين من غير رجال الأدب؛ وإن فيهم من لم يعرفه الناس شاعراً مطبوعاً، ولا كاتباً مجيداً، ولا ناقداً بصيراً، ولا أكثر من ذلك ولا أقلّ. فكيف لعمري نطلب منه غرس الملكة الأدبية في نفوس الطلاب؟ إن مثل هذا الطلب هدم للمنطق الذي يقرر أن فاقد الشيء لا يعطيه.

هذه قيمة الحياة الأدبية في الشام؛ وهذا موطن الضعف فيها؛ فلا صلاح لها إلا بتقويته، ولا نجاح لأمة لا تسخّر أدبها لخدمة قضيتها. فهل يبدأ في حياتنا الأدبية (عهد الإصلاح) المنتظر؟

علي الطنطاوي

ص: 30

‌أزمة أوربا الدينية في العصر الحاضر

بقلم محمد جلال

يخيل إلينا - كما يرى الكثيرون - أن التصوف هو أظهر حالات النفس وأقدرها على محاسبة الضمير وكشف حقيقته. قال ابن خلدون: (وأصله - أي التصوف -. . . طريقة الحق والهداية) وقال أيضا: (ويتم (بالمجاهدة) وجود النفس الذي لها من ذاتها وهو عين الإدراك) وقال الأستاذ لَالَنْد:

. ، ? ' ' ،

أي أن التصوف هو اعتقاد في إمكان حصول اتحاد تام مباشر بين الروح وحقيقة الإنسان. وقال الفيلسوف بِرْجِسون:

? ' ، '

ومعناه أن الصوفي الحقيقي هو الذي يتخطى حجاب الحس الذي وضعته الطبيعة البشرية ليواصل بذلك العمل الإلهي.

يتضح من ذلك أن التصوف يحقق شرطي الدين وهما الاعتقاد والعمل. فتلاحظ إذاً أن معظم المتصوفة قد نشأوا في بيئة دينية إلا القليل منهم من ظل يعمل بعيدا عنه في الظاهر. ولما كان للروح العلمية اتجاه يختلف عن الاتجاه الديني في كثير من أغراضه وميوله، مال العلماء إلى التخلي عن الدين ورميه بالنقص. لهذا سنقصر بحثنا الآن على حقيقة الإيمان مع اتصاله بالعلم والفلسفة والتاريخ.

1 -

العلم:

أحدث تقدم العلم في القرن التاسع عشر اضطرابا في الحياة الدينية أفضى إلى تمحيص الدين على ضوء القوانين العلمية. من ذلك لوحظ أن نظرية خلق العالم في سبعة أيام - كما هو وارد في معظم الكتب المقدسة - لم تتفق وقوانين العلم الكوني.

فإن اليهودية والمسيحية والإسلام ومعظم الأديان الأخرى نشأت كلها في الشرق فمن المحتمل إذا أنها تكاد تتحد في فكرة علمية واحدة. في فلسطين مثلاً ساد الاعتقاد قديماً أن الأرض محاطة بطبقة صلبة معلقة فيها الكواكب يعلوها عرش الله الذي يثبت الأرض وما عليها وهو منفصل عنها؛ ولكن علم الفلك أثبت أن العالم لا نهاية له، فيكون عرش الله

ص: 31

واقعاً في حيز العالم تجرى عليه سنة هذا الوجود من حركة وسكون. أدى هذا الخلاف إلى رأيين: الأول اتحاد العلم والدين، والثاني انفصالهما

أما الرأي الأول فانه يقرر - على رغم ظواهر الأشياء وما في الكتب المقدسة من اختلاف - أن هناك صلة بين العلم والدين يسهل تحديدها إذا اتفق العلم والدين على معاني الكلمات؛ ففي المثال السابق مثلاً جاء في التوراة أن معنى كلمة يوم: مدة مقدارها عصر لا أربعاً وعشرين ساعة كما نعتقد نحن اليوم؛ على هذا الاعتبار تكون الأرض قد تم تكوينها في ستة عصور - وهذا هو رأي علماء الجيولوجيا.

ويقول الرأي الثاني إن للعلم والدين أسباباً ودواعي خاصة بكل منهما، وقد يتفاوت محيط أحدهما بالنسبة لمحيط الآخر دون أن يتعارضا في شيء. فمقتضى الدين اعتقاد وأمر ثم عمل؛ وأما مقتضى العلم فكشف قوانين هذا الوجود - بما في ذلك الإنسان - وتحقيقها بالطرق التجريبية. وليس من العلم في شيء أن تحمل الجماعة على اتباع هذا النظام أو التخلي عن هذا العرف.

يستوي عنده البار والفاجر؛ وبعكس ذلك الدين، فانه حب وعاطفة ومفاضلة بين البار والفاجر؛ فهو لذلك ضرورة للنظام الاجتماعي، وهذا رأي برجسون في كتابه المشار إليه آنفاً.

أفي ذلك طمأنينة للنفوس؟ قد يكون ذلك. . ولكن ظاهر الشيء غير حقيقته؛ إذ النفس لا تعرف السكون الذي يُزيَّن لها التخير بين طريق وطريق؛ فهي إن خضعت للدين بالأمس فذلك من طبيعتها، وإذا خضعت للعلم اليوم فذلك أيضاً من طبيعتها. وقد لا تخضع غداً لا لهذا ولا لذاك، وعليه فإن هذا التقسيم لم يحقق مأرباً.

2 -

الفلسفة:

أما في الفلسفة فالنزاع قائم بين أنصار مذهب الفكر وبين أنصار مذهب العمل يقرر الفكريون أن الذكاء هو خير وسيلة لفهم الحقيقة الواقعة، وفي رأي العمليين أنه وسيلة لتكوين صور لأعمالنا نستعين بها على فهم الأشياء.

فعند الفكريين (أي معظم فلاسفة الغرب والفرنسيين منهم خصوصاً يتقدمهم ديكارت) تتعين الحقيقة بنفسها؛ وليس في مستطاع الفرد - مهما كانت قدرته - أن يحددها دفعة واحدة،

ص: 32

ولكننا نقرب منها شيئاً فشيئاً مع وفرة مجهودنا الفكري خلال العصور المتطاولة. كان العلم عند اليونان مثلاً مبادئ وأوليات، وقد ترقى بعض الشيء عند العرب، وفي عصر النهضة بأوربا، ومازال يرتقي وستخلص أسسه من شوائب كانت سبباً في تغيير معالم الحقيقة التي لم تغير جوهرها بالنسبة لحاجة الإنسان.

ويرى آخرون أن ليس للحقيقة وجود ذاتي، فهي محض فكرة دعت إليها حاجة الإنسان. فعند اليونان تدل كلمة حقيقة على شيء نسبي - أي أن حاجة الإنسان الفكرية تتطلب حقائق مختلفة حسب الزمان والمكان، وهي بدورها تحقق رغبة علمية واحدة؛ وبما أن حاجة الإنسان غير ثابتة فتكون تلك الحقيقة أيضاً غير ثابتة، وذلك لاختلاف وسائل تحقيقها. فمطرقة الحداد مثلاً كانت حقيقة في الماضي - كذلك مطرقة النجار هي حقيقة اليوم، ورغم ما أثبته العلم والعمل حتى عهد قريب من صحة نظرية نيوتن الخاصة بتجاذب الأجسام، فان أبحاث اينشتين تثبت حقيقة أخرى بعد ما هدمت الأولى؛ أعني أن هناك تناسباً خاصاً في الحياة الفكرية لكل عصر؛ ولا غضاضة إذا أقبلنا بجميع جهودنا على تلك الحقيقة المتغيرة فهي لم تتحدد بغير منفعتها.

مثل وليم جيمس هذا الرأي في أمريكا - وأخذ برجسن ببعض منه، أي الجزء الخاص بتطور الفكر، وتبع المسيو ادوارلروا أستاذه برجسون في ذلك إذ رأى أنه يصعب على الرجل العملي فهم الدين من الوجهة المنطقية. وعليه فان عبارة (الأب والابن وروح القدس) معناها تصوير حقيقة واقعة تنشأ عن ارتباط الفرد بغيره. ويقال مثل ذلك في تفسير وجود عبادة الله وحده - أي كونه ماثلا حقيقة روحاً ودماً (عقيدة سر القربان عند المسيحيين)؛ ويراها آخرون أنها صيغة أمر، أي وجوب تصور حالة العبد أمام ربه كما يجب أن يكون عليها أمام إنسان يرى فيه أصل الحب والتقديس. هو أصل اليقين والشعور الطاهر، وقال بمثل ذلك الأب بالمعهد الكاثوليكي بفرنسا في إحدى جلسات مجمع باريس الديني الأخير إذ رأى أن أوضاع الدين لم تكن غير نواميس للحياة.

3 -

التاريخ

شك علماء التاريخ في مصادر التوراة، لأن فيها أجزاء وضعها قديسون، وقد نُقحت من بعدهم. وللآن لم يستقر الأمر على معرفة كيفية حصول ذلك لعدم توفر الوثائق التاريخية

ص: 33

الكافية؛ فلا يبعد إذن أن يكون قد وقع فيها بعض التغيير أو الحذف. مثال ذلك أسفار موسى الخمسة فانه لم يزل أمرها غامضاً حتى اليوم. يوجد عدا هذا بعض تناقض في الآيات من حيث الصورة والمعنى. آمن عيسى عليه السلام في عودته ثانية إلى الأرض، وإن الساعة آتية قبل أن ينقضي العهد الذي نزل هو فيه.

يلاحظ هنا تباين نشأ عما رمز إليه في التوراة من أعمال دنيوية، إذ انقضى عهده وانتهى النظام الوراثي للملك وهو لم يعد بعد. أدى هذا الاعتراض إلى أحداث انشقاق في الكنيسة الكاثوليكية في أواخر القرن التاسع عشر. أخذ رجال الكنيسة من جديد يدرسون الإنجيل من حيث التاريخ والجغرافيا والتشريع، وقد قضى الأب لوازي حياته في التوفيق بين الدين والتاريخ.

نشأ عن تلك الحركة اتجاه جديد في الرأي سمي بمذهب (المثل الاعتقادي) يرى أخذ الأشياء على أنها أمثلة بسيطة شأنها أن تحدث معتقدات تتناسب مع قوة إيمان الفرد؛ فيكون مرمى نظرية نزول المسيح تحديد قيمة مثلى.

على رغم كل ذلك ما زال في النفس بقية تدعوها إلى كشف معتقد جديد وحقيقة أخرى، فيرى برجسن وهنري بوانكاريه أن العقل غير كاف وحده لكشف الحقيقة التي دأب وراءها الإنسان منذ نشأته. فلا بد له أن يتبع هدى روحه كما فعل أفلاطون وغيره.

ويرى أوجست كنت وأتباعه أن الدين نظام اجتماعي قابل للتطور مثل الجماعة في تاريخها من تشريع وأخلاق. ويرى الأستاذ شارل مورا الدين الكاثوليكي لإصلاح النظم الاجتماعية في فرنسا لما فيه من عناصر السلام

ما هي حالة الفرد النفسية إزاء ذلك الانقسام؟

عبر علماء النفس عن ذلك بأنه شعور جديد بشخصية الفرد يدعوه إلى تحديدها من حيث اتصاله بالجماعة، ومن حيث اتصاله بنفسه، مما أدى إلى ترك بعض المعتقدات والتمسك بأخرى. ولما كانت الجماعة تحمل في ماضيها عناصر مدنيات مختلفة فهي إذاً الدافع إلى هذا الشعور في الفرد. ويختلف الأفراد في قبول ذلك حسب استعدادهم النفسي، وهذا ما نشاهده في القديس بولس إذ اضطربت نفسه متأثرا بعصره، فخرج على الدين ثم عاد إليه متحمساً لتجديده، وذلك بالدرس والمجاهدة النفسية.

ص: 34

يرى بعض رجال الدين أن مثل هذا النوع من المجاهدة محاولة من العبد أن يتصل بالله ليظفر بالغفران. ولكن بعض أتباع لوثر ليسوا في حاجة إلى ذلك، إذ الغفران في رأيهم ملك للجميع، وثقتهم بالله عظيمة لتوزيع هذا الغفران، فلم يكن عندهم إذا هذا النوع من المجاهدة.

وهناك فريق آخر يقال لهم الوصوليون وغايتهم فعل الخير لأنهم مجبرون عليه، وهذا عمل خلو من الشعور بالاتجاه نحو الله كما رأى ذلك رينان

عرضنا في تلك الكلمة الموجزة نشوء بعض تطورات الدين بأوربا، مما يدعونا إلى الاعتقاد أن هناك عوامل أخرى أدت إلى تلك الاختلافات الطائفية غفل عنها رجال الدين والفلاسفة، وهي التي دعت علماء الاجتماع للتعبير عنها بطريقة أخرى غير ما سبق. وذلك موضوع كلمتنا القادمة.

باريس

محمد جلال

بجامعة باريس

ص: 35

‌بين الماضي والآتي

للأستاذ أديب عباسي

(وصلنا عدد (الرسالة) المائة والسادس والعشرون، وقد انتهينا إلى جزء هذه المقالة الأخير، وكم كانت دهشة المفاجأة إذ فضضت غلاف الرسالة ووجدت بين بحوثها مقال الأستاذ الكبير أحمد أمين (أمس وغداً). وكانت بادرة الفكر التي تلت دهشة المفاجأة أن أهمل الموضوع وأوفر على نفسي عناء المراجعة والتنقيح. ولكنني عدت وقلت قد أكون طرقت الموضوع من ناحية غير التي طرقها الأستاذ، وقد أكون على خلاف معه في الرأي أو بعضه. وقرأت المقال فوجدت أننا نسير والأستاذ بعض الطريق ونفترق في بعضه الآخر. ومن أجل هذا الافتراق أبعث بمقالي هذا إلى (الرسالة) العزيزة).

تمرُّ بزمرة من الشيوخ خلوا إلى أنفسهم وأرسلوا أحاديثهم إرسالاً لا تحده موضوعية البحث الجدي، ولا اندفاع العاطفة المثارة، ولا عصبية الجدل؛ فتكاد لا تحسُّ في حديثهم إلا اللهفة العميقة، والالتياع الشديد على الزمن الفائت، حيث اللذة لا يكدرها ألم، والصفو لا يرنَّقه كدر، وحيث النعيم أبداً مقيم، والمنى أبداً حُفَّل دانية! وينبثُّ إليك من صدق اللهجة واجتماع الرأي وخلوص النية في حديثهم ما يوحي بأن أعصر السعادة المطلقة قد تلكأت عند شبابهم، وترخَّصت فقط لماضيهم، فأقامت ثمِّ لا تبرح ولا تريم؛ لهذا أقحل الحاضر، وعقم المستقبل، وغادر الناس طيب العيش وبشاشة الأمل!

تسمع هذا وخلافه مما تفيض به بقايا العمر وأعقاب السنين من الشيخوخة، فتتدسَّس إليك الحسرة ويغمرك الألم إن تأخر بك الزمن، ولم يحشرك في زمرة الشيوخ هذه، ويجعلك في حشدهم، فيكون لك من السعادة مثل ما يتحدثون ويصفون.

وتقودك رجلاك من حيث أنت إلى زمرٍ أخرى وأفراد آخرين، بعضهم ما يزال - في رأي نفسه - يستعدُّ لخوض معركة الحياة، وبعضهم الآخر - كذلك في رأي نفسه - قد أعدَّ لها العدَّة، وهيأ السلاح، فهو الآن يخوض غمارها ليصطلي بنارها، أو يستاف العطر الذكي عن أزهارها.

وتقف تتسمع، فما يروعك من هذه الزمر مثلُ انشغالها بمستقبلها عن حاضرها، وغفلتها عما في اليد إلى ما يمنيها به الغد، كأن حياة اليوم ليست في العمر ولا في تقدير الزمن،

ص: 36

ويمضون هذا المضي، الغفلةُ عن حاضر الحياة غريبة مدهشة، والثقة في المستقبل قوية آسرة، ويظلُّ هذا دأبهم إلى أن يؤذَّن بركود الشباب، ووشك الانخراط في سلك الشيخوخة المتهدمة. عندها - وعندها فقط - يصحون، ولكن لات ساعة صحو.

وهنا ينقلب الوضع وينكفئ الاتجاه، فتحل الذكرى القريبة أو البعيدة محل العزم، والركود محل النشاط، والعجز محل القدرة، وهكذا بي ماضي الحياة وآتيها، يُسقط الناس كل رصيدهم فيها، ويجعلون منها - على حد تعبير الرياضيين - الكمية المهملة.

وليست هذه الصور التي رسمنا بالصور الخاصة أو الطارئة طروءاً زائلاً، إنما هي صور لها من طبيعة الشعور وخصائص الإحساس ما يجعلها من ألزم الصور للحياة وأكثرها لصوقاً بها وشيوعاً فيها. فالشيخ، أو من كان في حكمه من شبان السنين، يتَّجه إلى الماضي ليلطف عنده مرارة الحاضر، وليتعوض بذكراه عما يفيته العجز وضعف الُمنة من لذائذ راهنة يراها ولا يرى السبيل إليها كيف يكون. وقد تقول: لم يؤثر الشيخ أن يرتد بخياله إلى ماضي العمر ولا يرى أن يرسله في مطاوي المستقبل ليلتمس عنده الفرار وينشد السلوان؟ والجواب سهل هين إذا علمنا أن خيال الشيخ يخونه هنا، كما يخونه كذلك منطق الواقع ومنطق الاحتمال. فالشيخ يدرك أن سبيله من بقية العمر هي سبيل نازلة لا صاعدة، وأن كل يوم يمضي يدنيه من النهاية ويقلص لديه بقايا الأمل وأصداء السعادة؛ وإذاً فالحاضر فسحة مسدودة، والآتي سبيل مظلم مخيف؛ أما الماضي فهو السبيل الوحيد الذي يستطيع أن ينساب فيه الخيال دون أن يشله برد الواقع أو تروِّعه بشاعة الحاضر.

وقد تسأل: ألم يكن في ماضي الشيخ الألم كاللذة، والنعيم كالشقاء، والحرمان كالإنالة؟ فكيف يؤثر أن يعيش في ماضيه دون حاضره وآتيه؟ وهنا نرجع إلى حقائق الشعور الراهنة، فيستبين لنا أن الألم الفائت يفقد قيمته مع الزمن حتى لا يبقى منه إلا ذكراه وصداه. وهذه الذكرى - إذا لم يصحب أسباب الألم عند نشوئه حالات ملازمة - تضحى باعثاً على الاطمئنان والراحة. فأنت إذ تفقد كل ما تملك أو تصاب إصابة جائرة في سمعتك أو تجلس إلى حبيب إليك علَّقه المرض بين فكي الفناء والبقاء، بشعر بالغبطة وانفراج الشعور بزوال الخطر، حينما يعوض عليك السعي بديلاً من مالك، وحينما يردُّ إليك الوضع العادل سمعتك، وحينما يتخطى غول الفناء حبيبك فيرده سليماً معافى تنعم بلقائه نعمتك بكل عزيز

ص: 37

عليك. وعليه فتلك الأحداث التي كانت يوماً ناراً يقلب عليها الإحساس ويضرَّم الشعور أضحت بعد زوالها مجلبة للراحة والاطمئنان، فلا عجب إذاً من ارتداد الخيال إلى الماضي وعكوفه عليه.

بيد أننا لا ننكر أن ثمة عللاً أخرى غير ما أسلفنا لهذا العكوف من الشيخ على ماضيه وانصرافه إليه عن آتيه وحاضره: منها أن الشيخ إذ يرتدُّ إلى ماضيه يُسِّير الشعور في مسارب أضحت بتكرار الحدوث ممهدة لا تعترضه فيها عقبة ولا تتصدى له عثرة. ومن هنا فكرة (الماضي السعيد) عند الشيوخ، ومن هنا أيضاً ميلهم الميل الشديد إلى المحافظة وإبقاء القديم على قدمه وتجنب كل جديد يصدم الشعور ويدعو إلى تحويله من مجراه المعتاد.

ومن هذه العلل أيضاً ذهاب الرفقة وتخطُّف الموت أبناء الجيل الواحد، بحيث يجئ اليوم الذي يشعر فيه الشيخ أنه غريب في بيئة غريبة، فيزداد حنينه إلى ذلك الرهط الذاهب من جيله، فيستعيد بخياله ذكراهم المحبَّبة وأيامه وأيامهم الحافلة.

يضاف إلى هذا لون معهود من ألوان الدفاع عن النفس بتهوين الحرمان عليها وطلب العزاء لها عنه في الماضي؛ وهو نوع من أنواع تخدير الإحساس ينشأ أول الأمر في دائرة الوعي، ولكنه مع الزمن وتوالي الحدوث والتأثير يتسرب إلى دائرة العقل الباطن ويتخفى في تيه اللاشعور. وعندها يصدر ذمُّ الحاضر عن عقيدة وينطلق عن يقين. وهذه الظاهرة تبدو أجلى وأوضح في حياة الجماعات منها في حياة الأفراد. ومن هنا أن الأمم كلما أهمل حاضرها وأزداد تخلفها عن غيرها من الأمم ازدادت حفولاً بالماضي وتفطناً إليه وعكوفاً عليه. ولعل عبادة السلف عند بعض الشعوب ترجع في معظم الأمر إلى هذا الميل النفسي العميق.

ونعود إلى صورة الشعور كما يرسمها طماح الشباب ويحددها أمله، فنجد أن الشاب إذ يتجه في أمانيه وأخيلته وعمله إلى المستقبل، إنما يجري على طبيعة الشعور وبموجب قواعده. فالحاضر لدى الشاب الذي لم يحدد الضعف وقصر المجال وضيق المضطرب أمله فيه وحدود مسعاه، هو مرقاة منها يرقى إلى غيرها. وإذاً فحاضر الحياة من الشاب هو الدرب، والمستقبل الأفق، ما يفتأ متجدداً مغرياً بالسعي والسير ما بقيت في النفس حوافز السعي

ص: 38

والسير. ثم أن حاضر الحياة مزيج من الخير والشر واللذة والألم والنجاح والفشل. أما آتيها فهو كما يرسمه الخيال ويحدده الأمل، خير ونعيم ونجاح. أما الماضي فقد كان يكون من خياله ما يكون من خيال الشيخ لولا أن صورة المستقبل صورة قوية رائعة لا تدع للتفكير في الماضي إلا ما يدعه القوي للضعيف. وعلى كل فقد ترى من الشباب من ينزوي عن مستقبله ويتجه إلى ماضيه، إن يكن له ماض، فعل الشيوخ الذين غادرهم الأمل وأحالهم الكبر

هذا تحليل مجمل لصور الشعور في ثلاثة أطوار الحياة وفي أزمنتها الثلاثة، لا نعتقد أننا نتحكم فيه أو نفرضه فرضاً على القارئ، لاسيما إذا أزلنا من الصورة جانبي المبالغة والإغراق من تفاؤل رخيص يجعل الحياة ابتسامة طويلة كاذبة، وتشاؤم عبوس دائم التقطيب، كما يتمثلان في حياة نفر من الناس، شأنهم الحقيقي من الحياة شأن الهامش من الصحيفة، فيها وليسوا فيها.

مما وصفنا ترى جليّاً أن حاضر الحياة - وهو كل حقنا فيها - لا ينال من فطنة الشعور إلاّ قدراً ضئيلاً عابراً إذا قيس بما يملأ أخيلتنا ويكظها من صور الماضي والآتي.

وقد تقول: ماذا علينا - إذا كان هذا هو الحال - لنخلِّص الحياة من هذا العبث الذي يضيع فيه العمر بين لهفة على الماضي وغفلة عن الحاضر واستشراف للمستقبل؟ وجوابنا أن من طبيعة الحياة أن يتمازج فيها الخير والشر وتُساير اللذة الألم، وانه يستحيل أن تكون الحياة خيراً كلها أو شراًّ كلها، وانه لهذا أضحى واجباً أن يقبل عليها الناس إقبالاً لا يُفيتهم ما يتيسّر لهم من نعيمها، ولا يفيتهم - كذلك - النظر إلى المستقبل والسعي في سبيله؛ ولن ينقص نظر الناس إلى المستقبل من استمتاعهم بلذات الحاضر إذا عرفوا كيف يحسنون السير في سبيله سيراً معتدلاً حتى لا يضحى مشغلة لهم تزحم حاضر الحياة على نصيبها الذي يجب أن يكون لها من وعي الشعور، بل نحن نعتقد أن المرء يتيسّر له من سعادة الواقع، مع السعي السليم والتطلع إلى المستقبل الذي لا يقطعُ المرء من حياته الحاضرة، أكثر مما يتيسّر له حينما ينقطع عن ماضيه وآنيه ليكبّ على الحاضر وحده يرضع فيه اللذة ويترشف النعيم على الطريقة الخيَّاميَّة.

وهذه الحالة السليمة من الشعور لا تحلُّ حلولا مفاجئاً، كما يحلُّ الوحي، ولا تجئ بالسعي

ص: 39

الهين أو المعتدل، إنما هي حالة تقتضي السعي الأكيد، والتعاون الشديد، من جميع مصادر التوجيه النفسي. ولعل البيت والمدرسة يفوقان في هذا الشأن جميع مصادر التوجيه الأخرى في طول مدى التأثير وعمقه، فالبيت والمدرسة يستطيعان أن ينشئا الجيل الذي لا يقتله الفشل فيرتد إلى الماضي يخدِّر فيه الشعور، ولا يستخفه النجاح، فيستعبده المستقبل ويستذله. ويكون ذلك بأن يتعاون البيت والمدرسة على تعويد الطفل بالتلقين والإيحاء تلقى مؤثرات الحياة برحابة في الصدر، وتوطين للنفس على خير الحياة وشرها على السواء.

ويساعد على تكوين هذه الحالة السليمة من التصور مثل التربية الاستقلالية التي يُرباها أبناء الأمم السكسونية، حيث يتخذ الألم معنى الواقع الذي لابدَّ منه، واللذة معنى الخير يجئ بالسعي، فلابدَّ من تذوُّقه واستمتاعه إلى أقصى حدود الاستمتاع.

ويجب كذلك أن يتعاون البيت والمدرسة تعاوناً حكيماً في الحد من أنانية الصغار الصارخة، وإفهامهم أن فرص النجاح مثل حقهم؛ فلا تمضي حياتهم آمالاً مخيَّبة، وآلاماً موصولة.

كذلك على المدرسة والبيت أن يعوِّدا الناشئ كيف يقف من حوادث الحياة موقف الحياد والاستقلال في التقدير، ومن نفسه موقف المحاسبة والتحليل الدقيق للأوضاع التي تسوقه إليها مجريات الحياة. بذلك يكتسب ثقة في النفس وتقديراً عادلاً للأوضاع، يربحانه من خصومة النفس وغربة الوضع وغرابة الإحساس. . . .

ومن واجب البيت والمدرسة - كذلك - أن يعتاد الصغار تقدير آلام الغير ويستيقنوا أن الناس يتألمون كما هم يتألمون، وأن ما نشاهده من ظاهر السعادة عندهم هو في أغلب الأحيان دون ما نقدِّر ونتوهم.

ومن أول واجبات البيت والمدرسة أن ينشئا الصغار على التفطن إلى جميع مظاهر الجمال وتذوقه في الطبيعة والحياة والفن، فأن في ذلك توسيعاً لمدى اللذة وتغليباً لأسباب السعادة على أسباب الشقاء.

وأخيراً يجب على البيت والمدرسة أن يفقهاأن عملية التربية ليست إعداد المرء للحياة كما تصر نظم التربية القديمة، إنما هي - كما يقول جون ديوي - فيلسوف النزعة الحديثة في التربية:(الحياة) بذاتها.

أديب عباسي

ص: 40

‌الرابطة الثقافية بين مصر والشرق العربي

دعوة إلى توثيقها

للأستاذ رفيق اللبابيدي

أحب أن أقرر أولاً أن الأمة العربية مهما تكن شتى في نوازعها السياسية، هي أمة متماسكة ذات وحدة أو كيان واحد في ثقافتها وفي تفكيرها.

وقد اختلفت على هذه الأمة أدوار من الزمن، كما اختلفت فيها أطوار من التاريخ، وكانت تجتمع كلما حز بها أمر من الأمور عند هذه الوحدة الفكرية في قوالب شتى، فالدين كان ولا يزال واحداً، واللغة كانت ولا تزال لغة واحدة، والخوالج النفسية العامة واحدة، والأدب في مقاييسه ونوازعه كان واحداً؛ ولو عدنا رَجْعَنا إلى التاريخ وقلبنا صفحاته، لوجدنا أن الأقطار العربية كانت تجتمع عند الاحتفال بالشاعر النابه والأديب مهما يكن موطنه ومهما تكن نزعته؛ وقد كان الشعر أو الأدب يطوفان في أرجائها يحملان أسم الشاعر أو الأديب طواف الفكرة الدينية أو المذاهب الفقهية، أو النحل الشتى من بلد إلى آخر، أو من قطر إلى قطر.

وبينا كانت هذه الأقطار تسودها النزعات السياسية المتباينة كانت تفسح صدورها للآراء الدينية والمذاهب الكلامية، والاستنباطاتِ التشريعية، تتسرب إليها عن طريق السفارات العلمية بارتحالِ العلماء في مختلف العصور.

وفي بغداد، وفي دمشق، ثم في القاهرة، وبين هذه العواصم التاريخية العريقة في تاريخنا الواحد وماضينا أمثلةٌ صادقة تسجَّل هذا الاتحادَ الثقافي أو هذه الرابطة العلمية، وإن تكن في غير ما نألفه الآن من وسائل يسَّرتها عواملُ الرقي، وسننُ التطور.

ولقد كانت رحلات الفقهاء، وجماعات الأدباء، ورجالات التاريخ من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب تُوثِّق من عُرَى هذه الروابط فاجتمع للعرب من هذا تراث واحد يمثل ذلك الاتجاه الفكري، وإن تكن قد اختلفت طرقه إلى النتائج، وتباينت وسائله فيها؛ ومذاهب الفقه، والنحل المبسوطة في المدوَّنات والمظان التي تسربت إلى المغرب الأقصى والأندلس في أيام ازدهارها ومن هذه إلى الشرق - لونٌ من ألوان هذا الاتجاه كما كان من قبل ذلك للأدب سفاراته في طواف الشعراء والكتاب من دولة إلى دولة، ومن إقليم إلى آخر، ولم

ص: 42

تستطع الأحداث السياسية أن توهن من هذه الروابط أو تفلَّ منها، وإن استطاعت بعضَ الاستطاعة أن تعوق وسائلها، وتقف تقدمها؛ على أني لا أزعم أن أثر هذه الأحداث لم يكن قوياً، ولكني أجيز لنفسي أن أقول إن هذه الرابطة لم تضعف بالرغم من هذه الحوائل، بل صمدت لها حتى اجتاحها الزمن، وانطلقت الأقطار العربية من عقالها فعادت إلى طريقها الأولى ماضية فيها تساير أطوار التاريخ رفعة وضعة، سنة الله في الكائنات جميعها.

ولمصر في نهضتها العلمية والأدبية الآن يد لا تُجحد على الشرق العربي؛ ففي صحافتها روح قوية توحي بهذه الرابطة التي لم تنهزم أمام أحداث الزمن، وفي نتاج بنيها النابهين، وعلمائها ومعاهدها وما تخرجه المطابع من مختلف الكتب والمؤلفات، وما يظفر به القراء في الأقطار العربية من ثمرات هذه الجهود المشكورة - ما يُحِلَّ مصر الكريمة محلَّ الزعامة المختارة المصطفاة؛ والشرق العربي أحوج ما يكون اليوم إلى توثيق الروابط بمختلف ألوانها وأشكالها منه في آونة أخرى؛ فقد تدافعت هجمات الأحداث عليه من كل جانب، وما أشده حين يكون كتلة واحدة على دفعها، وما أهونه عليها حين تتسع شقة البين في روحه وفي تفكيره بين بعضه وبعضه الآخر؛ وأقول في كثير من الاطمئنان إن دعامة هذه الجبهة الشرقية القوية لا تقوم إلا على وحدة في الثقافة ترتكز على رابطة متينة بين الأقطار العربية وبين مصر الزعيمة.

وبعد، فلست أقترح رأياً فطيرا لا يدعمه البحث أو الأخذ والرد بين الأدباء والقامة على هذه الرابطة؛ ولكني أقدم بين يدي هذه العجالة كلاماً يصح أن يكون دعوة إلى خطوات تمهيدية لمعالجة هذا الغرض المنشود، ويشجعني على القولِ أن الأستاذ الزيات في زيارتي الأخيرة له في دار (الرسالة)، قد ارتاح إلى ما بسطته من رغبة في توثيق هذه العُرَى الثقافية، وتعهد أن تقوم الرسالة بالسفارة الأدبية بين أشياع هذه الرابطة.

وإيماني ازداد رسوخا بنجاح هذه الفكرة أو هذه الدعوة، حين تحدثت بها إلى أكثر من أخ من إخواننا هنا في مصر، وهناك في سوريا وفي فلسطين؛ وأعتقد أن الحاجة ماسة إلى زورات علمية يقوم بها شباب مثقفون مؤمنون بفكرة هذه الرابطة الثقافية بين الآونة والأخرى، لا يكون الغرض منها متعة النفس فحسب، بل يكون مع هذا اتصال وثيق بين البيئات العلمية والأدبية هنا وهنالك بإعداد بحوث تبسط فيها الأحاديث في الشؤون

ص: 43

الاجتماعية والأدبية والعلمية، وأن تكون من ثم حلقاتٌ في كل بلد من البلدان العربية تضع لها ميثاقا واحدا ينتظم الجهود الثقافية فيها، مع الحرص على ما للشرق من تقاليد تفرضها أو تحتمها أوضاع الكيان القومي، فقد أخر الشرق كثيرا هذا الاقتباس المشوَّه عن الغرب في أكثر من ناحية من النواحي التي لا تتفق مع تقاليده وروحه، وحالت دون أن يكون له لون من ألوان الامتياز الاجتماعي والأدبي والاستقلال العلمي إلى حد ما يحفظ كرامته. واتجاه الشباب المثقف في مختلف الأقطار العربية يكاد يكون متأثرا بأوضاع شتى ونواح كثيرة متباينة، وهذا يوسع من شقة الخلاف، ويباعد على الزمن بين ما ورثناه من هذه الروابط؛ ذلك لاختلاف الثقافات، واختلاف المناهج التي تفرضها هذه الثقافات؛ وقد يجوز أن يكون مثل هذا في الشرق العربي لو كانت اللغة غير واحدةِ، أو لو كان التاريخ غير واحد؛ ولكن الأمة العربية مهما تباعدت سياسياً، أمةٌ تراثها واحد روحا وتقاليد؛ فيجب أن يكون اتجاهها واحداً في الثقافة حتى يظل لها هذا التماسك القوي المتين.

فتنظيم هذه الرحلات بين الشباب المثقف وسيلة من الوسائل لتكوين هذه الحلقات الثقافية في الشرق العربي أو خطوة أولى إلى توحيد الاتجاه الثقافي فيه، وتلي هذه الخطوة مرحلة أخرى تكون بعقد المؤتمرات الأدبية وتناول ما تقترحه هذه الحلقات من اتجاهات قوية في النهضة الأدبية والاجتماعية، ووراء هاتين المرحلتين مراحل تقترح ليس هذا مجال بسطها؛ وبين يدي الأستاذ الزيات صاحب الرسالة وشباب مصر المثقف هذه الدعوة، ولعلنا إلى تحقيق هذه الأمنية واصلون.

القاهرة

رفيق اللبابيدي

ص: 44

‌رسائل حاج

2 -

من ربوع الغرب إلى بلاد العرب

للمستشرق المجري

الدكتور عبد الكريم جرمانوس

أستاذ التاريخ بجامعة بوادبست

وشعرت وأنا أجتاز دهاليز الأزهر وأستقبل لأول مرة أروقته وحلقات دروسه بنوع من الرهبة والخشوع والتسليم. فهذا المعهد العظيم موئل الإسلام ومعقله، ومنبع الثقافة الدينية، وحامي حمى اللغة العربية. كان من أسمى أماني أن أندمج في سلك طلابه. وكم كنت في شوق لاهف إلى أن أنهل من ينبوعه الفياض روح الإسلام الحق، وأضيء شمعة معرفتي الخافتة بحيث تتحول إلى شعلة وقادة، وإلى حماسة فائقة داخل جوانحي، وأتعرف إلى شيوخه الذين يقودون العالم الإسلامي بآرائهم وأفكارهم، كما كنت على يقين وثقة أنني بمعاونة هؤلاء العلماء الفطاحل سأمضي في ترجمتي للقرآن الكريم إلى اللغة المجرية بحيث أجعلها في متناول آلاف المسلمين من مواطني.

ومع أن هذه الترجمة كانت عملاً شاقاً مضنياً، فإني كنت أحس من أعماق روحي أنها فرض واجب علي كمسلم مخلص يريد أن يعلي منار الإسلام ويطمح في أن يضيف لبنة صغيرة إلى صرحه العظيم.

وخيل إليَّ وأنا في نشوة روحية عميقة أنني بدأت أظفر ببغيتي وأُجزى خير الجزاء عن تلك الليالي الطويلة التي لم أذق فيها طعم الكرى، بل أمضيتها منكباً على دراسة الإسلام وتفهم قواعده وأصوله، وأن كل ما حاق بي من مصاعب سيتبدد، وفشلي سيتحول إلى فوز عظيم وانتصار رائع بمعاونة شيوخ الأزهر ومدهم يد المساعدة إلى عملي المتواضع.

ولكنني رأيت والأسف يملأ جوانحي أن آمالي تنهار دفعة واحدة بحيث أصبحت عاجزاً عن خدمة الغرض الأسمى الذي خصصت حياتي له. علمت بأن هناك وشاة أوعزوا إلى الشيخ الظواهري بأنني دخيل أرمي إلى الوقوف على أسرار الإسلام وإذاعتها في البيئات العلمية في أوربا! وعلى الرغم من الظنون والشبهات السيئة التي حامت حولي بذلت جهداً

ص: 45

عظيماً لمقاومتها؛ وكان رائدي في تلك المقاومة أن الحق على الدوام في جانبي، وقد كانت سيرة المرحوم الإمام الشيخ محمد عبدة وما لقيه من خصومة صماء خفية، وانتصاره على خصومه أكبر مشجع لي في الثبات أمام حجة خصومي. وقلت لنفسي: أين أنت أيها المصلح العظيم لترى كيف ابتعد الأزهر عن مبادئك العالية، وتجاوز عن رسالتك الرفيعة التي سموت بها فوق الأغراض الوضيعة والمطامع الدنيوية والمنافع المادية.

وعلى الرغم من جهادي الضعيف في مقاومة خصومي، ما كنت لأستطيع أن أبرهن لفضيلة الشيخ الظواهري على إخلاصي وحبي للدين الحنيف، وأني لست دخيلا، ولكنني رجل يؤمن من أعماق روحه بالرسالة المحمدية النبيلة، وأريد أن أحصل على معاونة رجال الأزهر للوقوف على تعاليم الإسلام، مع علمي بأن هذه الشريعة السمحاء ليس بها أسرار يمكن إذاعتها في البيئات العلمية، لأنها ديانة مؤسسة على ثقافة ثابتة مكشوفة للعالم لا تمييز فيها بين الأجناس والألوان. وليس الأزهر سوى الجامعة الإسلامية الحق التي تضئ شعلة الحق، فلا أسرار في جوانبها يمكن إخفاؤها عن رجل أجنبي مهما كانت صفته. ألا يعاقب الله كل مسلم يرمي أخاه بالشرك والكفر والتشكك في عقيدته المقدسة؟ ألا يعاقب أيضاً أولئك الذين لا يقومون بواجب الدعاية والإرشاد للإسلام، والذين يخفون أسرارا في قلوبهم؟ يشهد الله أنني لا أرمي من وراء ذلك أن أوجه التهم جزافا، أني لا أملك هذا الحق، ولكنها صرخة ضعيفة أردت أن أنفس بها عن صدري.

إن الأزهر بحسب نظامه الحالي لا يستطيع أن يؤدي رسالة الإسلام كما يجب. فالنظام الحديث الذي أدخل عليه، والحيلولة دون اجتماع الطلاب في حلقات الدرس كما كانوا قبلا حول شيوخهم، مسخ الأزهر وشوهه، وأفسد ما كان قد بقي له من جمال وجلال وحرمة، وأفقده سيطرته الدينية والاجتماعية في العالم الإسلامي، تلك السيطرة التي ظل متمتعاً بها قرونا عدة. ويلوح لي أن البرامج الحديثة لم تقدم الأزهر خطوة واحدة، لأن المشرفين على تنفيذها جعلوا هدفهم الأسمى فتح أبواب العمل في وجوه الطلاب، وتمكينهم من احتلال الوظائف المدنية دون أن يفكروا في تحميلهم ثقافة الإسلام على وجهها الصحيح وإرشاد المسلمين إلى الخير وتفقيههم، ودعوة غير المسلمين إلى الدخول في دين الله كما نص ذلك القرآن الكريم. يجب إذن أن يترك الأزهر ليكون جامعة الإسلام الحق، وأن يعد طلابه

ص: 46

لحمل رسالة الحق، وتهيئهم للوعظ والارشاد؛ أما فتح أبواب العمل واحتلال الوظائف المدنية فأشياء ثانوية قد تصرف الأزهر عن الغاية التي أنشئ من أجلها.

وعلى الرغم من وجود عدد كبير من العلماء الجهابذة في هذا العهد الإسلامي العظيم فان الضغط أطفأ في قلوبهم روح المعرفة والتعطش إليها. على أن الإسلام في عرفي يحتاج إلى حرية كاملة في البحث والتنقيب والفكر. ولقد ولد الإسلام في مهد الحريات فيجب أن يظل كذلك، لأنه يحث على حب الحقائق والصدق والتغلغل في أعماق المعرفة. وتقدم الأزهر لا يتم بتشييد العمارات المهيبة العظيمة، وإقامة عمد من الرخام والمرمر، وصنع مقاعد الدراسة من الأخشاب الثمينة، وإنما يتم بالتمسك بالعروة الوثقى، وإزالة الصدأ الذي ران القلوب من التمسك ببعض التقاليد والعقائد المزيفة، وفي الإجماع على توحيد كلمة الحق ووضع الأنظمة الإلهية في المكان اللائق بها. ألم يقل الله عز وجل:(خلق لكم ما في الأرض جميعاً) أو كما قال الرسول الكريم (تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا).

ولما يئست من معاونة رجال الأزهر قر في عزمي أن أقوم بدراستي وحدي مستعيناً بمعلم خاص تكرم بتضحية جزء من وقته لتعليمي، كما ألفيت مساعدة عظيمة من بعض أصدقائي بالقاهرة، كالأستاذ محمود تيمور الذي يجمع بين ظرف الشباب وطهارة الشيوخ، والشاب النابه محمد أمين حسونه الذي عرفني إلى طائفة من أدباء مصر وصحفييها، وأعارني مكتبته طيلة إقامتي في مصر، والباحث محمد عبد الله عنان الذي يعد حجة في التاريخ الإسلامي، والشيخ الوقور عبد الوهاب النجار الذي له أتباع وتلاميذ منتشرون في أنحاء الأرض، وقد كان سبباً في تعرفي بكثير من إخواني المسلمين، وكانت كتب توصيته بمثابة مفتاح يفتح أمامي كل باب.

وفي أواخر فبراير زودني الأستاذ النجار بكتب توصية بمناسبة عزمي على أداء فريضة الحج؛ وكان له الفضل الأكبر في تقديمي إلى (بنك مصر)، ذلك الصرح المالي العظيم الذي يتناول من جملة مشروعاته الاقتصادية تنظيم سبل السفر إلى الأقطار الإسلامية المقدسة. ومما يذكر مع الأسف العميق أن أعمال الحج كانت تقوم بها قبل ذلك شركات ملاحة أوربية لا علم لها بما تتطلبه حاجات الحجاج المسلمين، فكانت بواخرها تحمل المشروبات

ص: 47

الروحية، وتقدم إلى الركاب الطعام الأوربي، ولا تكترث بأن تهيئ لهم الماء الكافي للوضوء ولا إقامة مصلى يؤدون فيه الفرائض الشرعية.

أما (بنك مصر) فقد نظم للحج باخرتين كبيرتين تعدان من أكبر البواخر، وزودهما بكل ما يحتاج إليه الحجاج من وسائل الراحة والمأكل بحيث يشعر المسافر أنه لم يفارق بلاده. وقد كانت بغيتي أن أستقل إحدى هاتين الباخرتين، لأنني عددت نفسي مصريا بعد أن شربت من ماء النيل، ولكني لم أتمكن وا أسفاه من نيل بغيتي، فان قانون شركة كلاحة مصر يمنع من نقل الحجاج الأجانب على هذه البواخر، وعلى الرغم من المجهود الذي قمت به وتوسط الهلباوي بك لم أوفق، واضطررت إلى السفر على إحدى بواخر الشركة الخديوية.

وقامت بنا الباخرة باسم الله مجراها تشق برزخ السويس، فرحت أفكر في تاريخ ذلك المضيق الذي كان سبباً في فصل أفريقيا عن آسيا، بل كان فاصلا بين حقبتين من أحقاب التاريخ؛ ومع أنه قرب مصر من أوربا فقد جعل لمصر مركزا سياسياً ممتازاً بحيث أصبحت جزءا من أوربا. وبينما أنا غارق في غمار تلك الأفكار إذ اقترب مني فريق من الحجاج وبدأ التعارف بيننا بسرعة. كان بينهم طبيب هندي تصحبه كريمته، ولكن لسوء الحظ لم يكن هذا الطبيب يعرف اللغة العربية حرفا واحدا، فاضطررنا أثناء السفر إلى التحدث باللغة الإنجليزية. وفي ذات يوم نظر إلى نسخة من القرآن الكريم في يدي، وهي الطبعة التي تولتها المطبعة الأميرية، فأعجب بها أيما إعجاب، وطلب إليَّ أن أبتاع لحسابه ألف نسخة من هذه الطبعة ليبعث بها إلى الهند إذ لا توجد هناك مصاحف جميلة من هذا النوع.

وكان بالباخرة أيضاً حاج مراكشي، يشغل وظيفة قاض في فاس، وكان صبوح الوجه، وقوراً، أميل إلى التزام الصمت، لكنه ما كاد يسمعني أتحدث بالعربية مع أحد الحجاج الأتراك حتى أقبل إلينا واشترك في الحديث. ولشد ما أعجبت بتبحر الرجل في العلوم الإسلامية والفقه، كما أن لباسه الشرقي الفضفاض كان يخلع عليه طابعاً من الرزانة والوقار؛ أما صاحبنا التركي فكان أحد ضباط الشرطة في دمشق، وبعد اعتزاله الخدمة آثر أن يبقى في سورية حيث تعلم اللغة العربية؛ وكان طيلة السفر يشكو مر الشكوى من الأنظمة الحديثة في تركيا وبالأخص ترجمة القرآن وتشويه هذه الترجمة بحيث لا تؤدي

ص: 48

المعاني المقصودة، ويظهر سخطه وتبرمه بالغازي الذي يحول دائماً بين المسلمين الأتراك وبين أداء فريضة الحج، ويرهق كل من أراد الحج بالضرائب الفادحة.

من ذلك ترى أننا كنا على ظهر الباخرة من بلاد متباينة، ولكن تجمعنا جامعة الإسلام، وتؤلف بين قلوبنا وتجعلنا نعيش كأفراد أسرة واحدة. فلما اقترب موعد العشاء أخذنا أماكننا على المائدة، وكان يخيل إلى كل من يرانا أننا في برج بابل، فكل منا يتكلم بلغة لا يفهمها الآخر، بيد أننا سوف نصل بعد بضعة أيام إلى جدة وتطأ أقدامنا الأرض المقدسة فنخلع عن أنفسنا تلك الملابس التي تفرق بيننا لنستبدل بها لباس الإحرام الفضفاض بحيث لا يصبح أي فارق بيننا بل نكون سواسية في حضرة رب البيت الكريم.

وبعد انتهاء طعام العشاء بقليل صفرت الباخرة صفيراً عالياً فغادرنا المائدة وتهيأنا للوضوء، ثم صلى كل منا ركعتين قرأ فيهما سورة الإخلاص وقل يا أيها الكافرون.

وكان البحر هادئاً والهواء ندياً والنجوم تتألق في القبة الزرقاء، وراحت الباخرة التي كانت تحمل على ظهرها أكثر من 700 حاج تلقى مراسيها بين هتاف الحجاج ودعواتهم الحارة.

وهكذا ظل الحجاج في هرج ومرج، فكنت ترى البعض يهتف بقوله: لبيك اللهم لبيك، والبعض الآخر مستغرقاً في صلاته، وآخرين صامتين لا يبدون حراكاً، شاخصين بأبصارهم في ذهول نحو الأرض المقدسة التي خرج منها سيد الخلق ورسول رب العالمين.

وما كنت بأقل من هؤلاء الحجاج شعوراً بالغبطة والابتهاج، ولزمت مكاني خاشعاً راكعاً لا تقوى قدماي على الحركة، ودقات قلبي تثب في قوة وعنف بينما يردد لساني في خفوت: لبيك اللهم لبيك. ثم انهمرت الدموع من مآقي ولم أملك أن أمنع نفسي من الاسترسال في البكاء. أجل! أدركت الحق الصحيح ولمست عظمة هذا الدين الحنيف، وعبثاً حاولت النوم في تلك الليلة، بل شرد عقلي واتجهت بتفكيري إلى أعمال الخلفاء، رضوان الله عليهم، وإلى رعايتهم الأمم الإسلامية، وتوزيع أسباب العدالة عليها طبقاً لأصول الشريعة السمحاء.

(يتبع)

عبد الكريم جرمانوس

ص: 49

‌رثاء

محمد جلبي الشهبندر أحد سراة العراق

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

- 1 -

تحطْمت الآمال من بعد محمود

فيا سلوتي شحّى ويا عبرتي جودي

قد اجتُثّ روحٌ كان قبل اجتثاثه

يزين بأثمارٍ له ألفَ أملود

خلا القصرُ ممن كان للقصر مالئاً

كأن لم يكن في رُدهتيه بموجود

لقد غمدوا السيفَ الصقيلَ بحفرة

ويا ليت ذاك السيف ليس بمغمود

تجرّد من جسم تضيق حدودُه

يجوب فضاءً واسعاً غير محدود

نعاه ليَ الناعي فكان نعيُّه

كصاعقة أو مثل صدمة جلمود

فأدركني يومٌ من الدهر أسودٌ

فكان لحزني شرَّ أياميَ السود

- 2 -

لقد غاب محمودٌ عن الصحب مضطراً

ولم يبق منه للصديق سوى الذكرى

كأن لم يكن قد سُرّ أصحابهُ به

ولا هو في يومٍ بأصحابه سُرّا

بربك لا تَلحُ الحزينَ على البكا

فإنك لا تدري بما فيه قد أورى

تقول عيوني للسحابة أقلعي

فأنكِ لا تبكين من كبدٍ حَرّى

على كل قبر مقلةٌ ذات عبرة

وماذا انتفاع القبر بالمقلة العَبرى

قسمتُ بكاَء الشعر بيني وبينه

فأعطيتُه شطراً وأبقيتُ لي شطرا

ولا تقترح قولاً على الشعر إنه

بموقفه في يوم محنته أدرى

- 3 -

لقد ظلَّ للموت الزؤامِ يجاذب

إلى أن علاه الموتُ والموتُ غالب

أطال الردى همساً بأُذن مريضة

كأن له ديناً فجاء يطالب

ولو حزتُ علماً بالمقادير جئتُها

أؤّنبُها فيما أتت وأعاتب

يقولون أمراض به أغرت الردى

وما هي أمراضٌ ولكن نوائب

ص: 51

فيا دمعُ أنت اليوم كالقلب نابضٌ

ويا قلب أنت اليوم كالدمع ذائب

لقد ندبته نسوةٌ حول نعشه

وأَشْجِ بما كانت تقول النوادب

إذا انطفأ النجمُ الذي كان ساطعاً

فليس ببدعٍ أن تسود الغياهب

- 4 -

أمحمودُ كنتَ الراجحَ العقل والخلق

من الباطل الخدّاع تفزع للحق

وكنتَ كنجم لا قرار لسيره

فتطلع من أفق وتغرب في أفق

وكان لموتٍ قد أصابك سهمُه

دوىٌّ بغرب الأرضِ أجمعَ والشرق

ولا رُزَء إلاّ كان رتقٌ لشقه

وليس لشقٍ يفتق الموت من رتق

مضى بصديقي الحرِّ يستعجل الردى

فليت الردى للحر قد كان يستبقي

بكتك عيون العارفيك بأدمع

تفيض وللأرض التي ظمئت تسقي

تجنبتَ ضوضاَء السياسة آخذاً

بأيديك أسبابَ التجارة في حذق

- 5 -

حياةٌ ومن بعد الحياة. مماتُ

وجمعٌ على الأعقاب منه شتات

وهل تغسل القلبَ الحزين من الأسى

إذا العين منها انصبّت العبرات

وإن أثقلت نفسَ الوفيّ فجيعةٌ

فلا النورُ يُسليها ولا الظلمات

أقول لقومي إن يكن عندكم لمن

تَفَجَّعَ سلوى في المصاب فهاتوا

وما أجَملَ الأيامَ إمّا لنا وفت

ولكنما الأيامُ منتقلات

لقد حملوا نعشَ الفقيد لقبره

فساروا وسارت خلقَه السروات

فما كنت من تلك الجماهير سامعاً

سوى صرخات بينَها شهقات

- 6 -

على الأرض أمجادٌ كثير قصورُها

وأكثر منها في العراء قبورها

وما من بقاع ليس يهلك أهلُها

ولا من سماءٍ ليس تردى نسورها

وما خيرُ دنيا بالزلازل أرضُها

تميد وبالأمواج تغلي بحورها

إن الجسمُ أودى فالبوارُ نصيبُه

ولكنما الأرواح ماذا مصيرها

ص: 52

إذا ما حياةُ المرء للمرء فارقت

فهل من حياة غيرها يستعيرها

وليس لنفسٍ أن تخِيرَ حمامَها

ولا هو إمّا زارها يستشيرها

إذا النفس دبّ الداء فيها فعالجت

منيتَها ماذا يكون شعورها

- 7 -

هل الحزنُ إلاّ مقلةٌ تتفجّر

وألاّ قلوبٌ نارُها تتسعّر

تبعثر شمل البيت بعد اجتماعه

وأيّ جميع عَوضُ لا يتبعثر

وأجساد موتى في القبور تأسّرت

وأرواح موتى للبقاء تحَّرر

على أن موتى السابقين إلى الردى

حياةٌ لأبناءٍ لهم قد تأخّروا

ولم يك يوماً للطبيعة غايةٌ

سوى النوع إن النوع أبقى وأثمر

لقد عرف الإنسان منها ظواهراً

ولم يدرِ ماذا في البواطن مُضمر

إذا مات طفل البيت فالخطبُ فادح

وإن مات ربُّ البيت فالخطب أكبر

- 8 -

لقد جاء ما قد كان يبنيه ذا حسن

فما تمَّ حتى قام يهدم ما يبني

حزنتُ وما حزني سوى ابن رزيئةٍ

وما دمعتي في العين إلاّ ابنة الحزن

وما أحدٌ في الناس يدري مصيرَه

ومن كان لا يدري فيفزع للظن

لقد زيّنت بالزهر قبرَك صحبةٌ

وعن كل هذا الزهر قبرك مستغن

يخال الفتى علماً له بحقائق

ولم ينتبه أن الحقائق في الذهن

وليست حياة المرء بعد مشيبه

وإن قل شكواه سوى التعب المُضني

سمعتُ أحاديثاً وإني لمبدلٌ

لما نظرت عيني بما سمعت أذني

(بغداد)

جميل صدقي الزهاوي

ص: 53

‌نذالة التعاسة

للأستاذ عبد الرحمن شكري

كدت أنسى دواعيَ الرفق مما

قد أرتني نذالة التعساء

يقضمون اليد التي تنتحيهم

بسخاء ونجدة وإخاء

ويكيدون في الخفاء أو الجه

رة أَلْئِم بجهرهم والخفاء

عشش اللؤم حيثما عشش البؤ

س سوى في القليل من كرماء

ليس بِدْعاً أليس ما نغص العي

ش من البؤس باعث الشحناء

كل قلب يبيت من حسك البؤ

س ملئ بخسة الأدنياء

يتلظى شراً ويرشح غدراً

ويداجي خوناً بثوب رياءِ

يلؤم المرء وهو غير شقى

كيف ينأى عن لؤمه في الشقاء

ليزيدنَّهُ اغتيالاً وحقدا

وافتراساً على حطام الرخاء

وسعُاراً لو أَنه نال من أر

ض لُجَنَّتْ زلازل الغبراء

وهو غلٌ لو حاق بالشمس أمسى

مثل ذر الرماد وجه ذُكاء

ليس شر البأساء قصراً على النح

س ولكن كم أشعلت من عداء

وحقود وخسة وسعار

واغتيال ومكرة ورياء

تفسد الأنفس الكرائم حتى

تغتدي مقل أنفس اللؤماء

ضاع عطف الرحيم إذ ضاع حسن ال

خلق في خيم أنفس التعساء

وعظيمٌ ما أفسد النحس من خل

ق هضيمٍ ورحمة الرحماء

كم شقاء يمضى وفي النفس منه

أثر واضح لغير فناء

من عوادي سخائم لست تدرى

هي بالمرء علة الأدواء

أم هي النفس سقمها مثل سقم ال

جسم من احنة ومن شحناء

مثل ذل الشعوب خَلَّف لؤماً

بعد فوت من عهده وانتهاء

وصفات الشعب الضعيف لَتُلْفىَ

في جسوم صحيحة أقوياء

من رياء واحنة واحتيال

وتعادى تخاذل وافتراء

شيم يدرأ الذليل بها من

عجزه سطوة من الأعداء

ص: 54

أصبحت شيمة النفوس وإن لم

يك ذل ولم يكن من عداء

فمنى يلبس الخلائق طرا

طيب نفس في شملة النعماء

ليس إلا بها نجاء نفوس ال

ناس طرا من خسة الغبراء

فاطلبنْهُ فيها وإلا فدع نشد

ان أمر بغير داعي الرجاء

عبد الرحمن شكري

ص: 55

‌الأمة العربية

بقلم حبيب عوض الفيومي

قد أصبحت وطعامها جِرَّاتُها

وتعَرَّفَتْ لِعَليمها نَكِراتُها

مبذولةً حُرُماتهُا مفتوحةً

أسدادها ملحوظةً غِرَّاتها

غلبت مطامعها على أخلاقها

فهوت بها أحقادها وتِرَاتها

فتخالفت من حقدها غاياتها

وتشابهت من موتها فتراتها

فكأن خالد لم يَفُزْ بدٍمَشقِها

يوماً ولا خَدَمَ الرشيدَ فُراتها

يا مُخْفِقَ الأسفارِ طَيَّاراً بها

قد أنجحت بك آنفاً بَكَرَاتُها

نَهَضَت بنفسِكَ فارساً أخلاقُها

وهَوَت بنفسك طائراً عَرَّاتُها

انظر لنفسك أين موضع فضلها

لا تلفحنَّك جامحاً جمراتها

ما بالغِنَى فتح البلادَ محمدٌ

بل بالهدَى دانت له داراتُها

ينجو الكريم مَعَ القليل صِيَانةً

وتُمِيتُ صاحب حاجةٍ حَسَرَاتُها

وكأنَّ ذلكم البريقَ غِشَاوةٌ

للنفس تَكْمُنُ تحته عَثراتُها

ومن الدليل على شقَاوَةِ أُمَّةٍ

أن يستنيم إلى النعيم سَرَاتُها

والأرض دارٌ إن تفاضل أهلُها

بغنى البطون فخيرهُم حشراتُها

الفيوم

حبيب عوض الفيومي

ص: 56

‌فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

29 -

تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

الناحية الإيجابية من مذهب نيتشه

السوبرمان أو الإنسان الأعلى

للأستاذ خليل هنداوي

لا ينبغي للعاقل أن يكون قاسياً على نفسه فحسب، ليكن قاسياً على الآخرين أيضاً لا يحفل بهدوء ولا بسلام؛ هو يدرك أن الإنسانية لا تنشط نحو غاية معينة معلومة؛ ولكنه يرى كل شيء في استحالة وتطور؛ يرى من واجب الحياة نفسها أن تعمل على أن تفوق نفسها، ويدرك أن الإنسان ليس من حقه أن يعلل نفسه بأنه بلغ المرفأ سالماً. ليكن كل سلام عنده ذريعة لحرب جديدة، ولتكن حياته طافحة بالحوادث العظام؛ هو لا يتحرى عن السعادة ولا يجهل أن الفرح والحزن هما توأمان متقارنان. وفي استطاعة الإنسان أن يجوز الحياة بدون فرح كبير يعروه، أو شقاء كبير يغزوه، على أن ينقص من قوة حيويته. أما الذي يريد أن يتذوق الأفراح الكبيرة فمن واجبه أن يعرف الأحزان الكبيرة، إذ كل ارتجاج في ناحية يقابله ارتجاج في ناحية أخرى. (أما خالق القيم المؤمن بالحياة، من يريد الحياة عنيفة قوية ما شاءت القوة، فهو يريد أن تكون الارتجاجات واسعة حول نقطة الموازنة؛ يريد أن يعرف القمم العالية للسعادة والشقاء. يريد أن يعرف الانتصارات المسكرة والهزائم الشنيعة. يجب عليه أن يمشي في وقت واحد إلى النصر والى الاندثار. وزرادشت نفسه قد هلك حين بلغ (قمة) وجوده. والسوبرمان هو - في وقت واحد - الظفر اللامع والاندثار القوي للإنسان.

وبينما ينبغي للعاقل أن يكون قاسياً على نفسه، لا يلتوي إزاء الألم، ينبغي له كذلك أن يكون قاسياً على الآخرين؛ هنالك مصائب وآلام يُعد مخففها فاقداً للإنسانية، وهنالك منحطون ناقصون، جاءوا الحياة اختلاساً، فلا يجوز تأخير فنائهم!.

يقول زرادشت: (في كل مكان ترن أصوات الذين يعظون بالموت، والأرض مفعمة بالذين يجب أن يوعظوا بالموت، أو (بالحياة الأبدية) حتى يقلعوا عن الحياة سراعاً. وللمتشائمين

ص: 57

والشكوكيين والمنحطين الذين يئنون ويقولون (ما الحياة إلا شقاء)، لهؤلاء يجب أن يقول العاقل (إذن! ضعوا لحيتكم وآلامكم حداً تنتهي تنتهي عنده وآلامكم، ولتكن شريعتكم مبنية على هذه الكلمة (الانتحار واجب، والانهزام من الحياة واجب)، إذ لا ينبغي للأرض أن تغدو داراً آهلة بالمرضى والبائسين، حيث يفني الإنسان الخالص الجوهر سأماً وشفقة. إذا أردنا أن نستنقذ السلالات الآتية من مشاهد الفاقة والشناعة فلنترك الموت ينزل بمن هو ناضج للموت. ولتكن فينا جرأة على ألا نصرف الساقطين عن السقوط؛ لندفعهم ولنقذف بهم قذفاً حتى يهووا سريعاً. ينبغي للعاقل أن يعرف كيف يتحمل مشهد الألم عند الآخرين، وأن يعرف كيف (يؤلم) ويبث الألم دون أن تجد الشفقة إلى قلبه سبيلا.

هذا هو ما تطلبه النفس العظيمة. يقول زرادشت: (أبالغ أنت شيئاً عظيماً إذا لم تشعر بقوتك وإرادتك التي تعاقب بآلام كبيرة. عرفانك أن تتألم، هذا شيء حقير؛ فالنساء الضعيفات والعبيد يصبحون أسياداً في فن الألم. ولكن ثبات جأشك وعدم انحنائك أمام المصائب المؤلمة والصيحات المؤلمة، هذان هما مظهر العظمة وسرها الصريح).

ينبغي للعاقل أن يتصف - في كل فصول حياته - بطهارة الطفل اللاعب، وصفاء الراقص الباسم، وهناء اللاعب المجدود، وفي مثل (الاستحالات الثلاثة للروح) ينبئ زرادشت بأن النفس الإنسانية يجب أن تكون في استحالتها الأولى (بعيراً) يحتمل بصبر أثقل الأعباء على ظهره، حتى يستطيع أن يجمع الشيء الكثير من التجارب، ثم يستحيل (البعير أسداً) يجأر قائلا:(أنا أريد!) ويتوعد بمخالبه الحادة كل من يحاول العبث بحريته. يجب عليه أن ينتصر على تنين الشريعة المكتوب على كل جزء من جسده بأحرف ملتهبة (يجب عليك!) ثم يسرع في نزع أثقالالمثل الأعلى والحقيقة والخير عن ظهره مما كان يظن حمله خيراً له، وأخيراً، لكي يستطيع أن يدخل في دور (الإنتاج والإبداع للقيم الجديدة) بعد تهديم القيم القديمة، يجب عليه أن يستحيل طفلا يلهو ويلعب؛ (إن الطفل هو صفاء ونسيان، هوأبتداء، هو لعبة، هو دولاب يدور بنفسه حول نفسه). وهكذا يجب على النفس التي تتوق إلى الصعود فوق قمم الحكمة أن تتعلم أن تلعب، وأن تفرح وتمرح طاهرة صافية، يجب أن تكون خفيفة غير واعية تنعتق من التشاؤم والكآبة، ومن كل ما يجعل حياتها سحابة دكناء.

ص: 58

تقول الشريعة القديمة: (ويل لمن يضحك)! وهذا القول عند زرادشت منكر قبيح. أما العاقل فيجب عليه أن يضحك الضحكة الإلهية؛ يجب أن يدنو من محجته وغايته بخطوات خفيفة راقصة طائرة، لا بليدة نادمة؛ إنه يتعزى بالضحك عن نقصه؛ إنه بالرقص والطيران يجوز مستنقعات الكآبة كالرياح العاصفة. يجب على الإنسان أن يتعلم الرقص بنفسه والضحك بنفسه وأن يرتفع وأن يسمو فوق نفسه، وأن تفوق نفسُه نفسَه على أجنحة الضحك والرقص.

يقول زرادشت: (إن إكليل الضحك، هذا الإكليل من الورد، ضفرته أنا على رأسي، وأنا قدست ضحكتي المرحة. إن إكليل الضحك، هذا الإكليل من الورد، أُلقى به إليكم يا رفاقي! أنا أقدس الضحك أيها الرجال السامون، فتعلموا أن تضحكوا).

- 3 -

(إن من كان مثلي مدفوعاً بشوق غريب للتأمل في مذهب التشاؤم إلى أقصى حد، قد يكون - من حيث لا يريد بذاته - فاتحاً عينه على المثل الأعلى للرجل الحي الطروب المبتهج بالحياة الذي لم يتعلم أن يتحمل الماضي والحاضر فحسب، بل يعمل على إحيائهما معاً، مهما كان الماضي ومهما ذهب المستقبل.) ولعل هذا التشاؤم المبطن عمقه بالتفاؤل هو الذي حدا بنيتشه إلى أن يطلب الحياة لنفسه، ولهذه الرواية الإنسانية الشاملة الكاملة، وللوجود الذي يقوم بتمثيل هذه الرواية.

في شهر أغسطس من عام 1881 هبت في رأس نيتشه فكرة القول بالرجعة الخالدة التي أصبحت أساس فلسفة السوبرمان، وما لبثت هذه الفكرة أن ملكت عليه مشاعره كلها. وقد تتلخص هذه الفكرة في هذه الكلمة: إن شحنة القوى التي تهيمن على العالم تتراءى لنا ثابتة سرمدية؛ لا نقدر على أن نفترض لها نقصاً لأنها لو كانت كذلك لوجب زوالها في هذا الدهر الطويل، ولا نقدر على أن نفترض لها نمواً - كالنمو العضوي الذي نعرفه - إذ لو كانت كذلك لافتقر نموها إلى غذاء؛ وما هو هذا الغذاء أو هذا الوقود؟ وعلى هذا لم يبق لدينا إلا الاعتقاد برسوخ هذه القوى وثباتها.

(يتبع)

ص: 59

خليل هنداوي

ص: 60

‌القصص

مأساة من أسخيلوس

أجامْمنون

للأستاذ دريني خشبة

(ولد أسخيلوس سنة 525 ق. م وعاش سبعاً وستين سنة، وحارب في موقعة ماراثون، وكتب تسعين درامة لم يبق منها غير سبع. وكان يكتب درامات ثلاثية أي تتركب الواحدة منها من ثلاث درامات - أو قل فصول - تستقل كل منها بنفسها، وتكون مع الأخريين وحدة رائعة. وكانت مآسي أسخيلوس غرة في حين عصر بركلس، أزهى عصور الأدب في التاريخ القديم؛ ودرامة اليوم (أجاممنون) هي الحلقة الأولى - أو الفصل الأول - من إحدى ثلاثيات إسخيلوس (الأورستية) نسبة إلى جل المأساتين الأخريين (أورست) بن أجاممنون وضحية الأمومة الأثيمة، ويعدها نقاد الأدب الكلاسكي أروع طرف الأدب اليوناني.

(وإسخيلوس هو أول من سار بتقاليد المسرح القديمة، بل ربما كان واضع أول لبنة في المسرح القديم. وقد كانت الدرامة - أو المأساة - قبله غير معروفة، وكانت المقالة هي المتداولة، وكان القصاصون يقومون بتأدية الأدوار جميعاً. فلما كان أسخيلوس حتم أن يخصص لكل دور ممثل بعينه، والمنشدون أو (الخورس) لهم مكانة رفيعة في درامتي اسخيلوس وسوفوكليس، وأناشيدهم هي شرح الأحداث التي تمهد للدرامة أو تتصل بها.)

- 1 -

نحن في الـ (بلوبيديه)، ذلك القصر العتيق الشاهق، الذي تكتنفه الأسرار، وتهوم في أبهائه وردهاته الألغاز. . .

ومن الـ (بيلوبيديه) تصدر الأوامر، فتصدع بها مملكة آرجوس. . . وتُجيّش الجيوش، وتتحرك الأساطيل. . . وتسيل الدماء أنهاراً!

ومن هذا القصر، يحكم الملكان الشقيقان أجاممنون، ومنالايوس. . . أما أولهما فقد تزوج من الفتاة الكاسرة، ذات الصولة، كليتمنسترا، بطلة المأساة التي نحن بصددها الآن. . .

ص: 61

وأما ثانيهما، فقد تزوج من الفتاة اللينة الغضة؛ المترعة بالمفاتن، هيلين! التي فرت مع عشيقها المجرم باريس. . إلى. . طروادة؟. . والتي شبت بسببها تلك الحروب الطويلة المروعة فذهبت بالنخبة الناضرة من شباب هيلاس وإليوم. . .

والفتاتان شقيقتان، وقد تبناهما تنداريوس العظيم، وزوجهما من هذين الملكين الشقيين، ليزيدا في شقائهما، وليكونا حرباً عليهما وعلى شعبهما البائس لا تنتهي! وليكونا كذلك، ليلاً على هذا القصر العتيق الشاهق - الـ (بيلوربيديه) مظلماً. . . لا تنجاب غواشيه. . . ولا تنقشع دياجيره!!

- 2 -

وفرت هيلين الآبقة، مع باريس الآثم،. . . فهاجت هيلاس، وهبت ريح الحرب، وتدفقت الجيوش إلى أوليس حيث الأساطيلِ في انتظارها، لتمخر بها البحر اللجي إلى مدينة بريام. . .

وودع أجاممنون زوجته. . . وذرفا، وهما يتعانقان، دموعاً حارة سخينة! وأنطلق مع شقيقة الملك البائس المفضوح في عرضه، منالايوس، إلى أوليس. . . ليركبا مع بقية الجند. . . وليبحرا إلى إليوم. . .

بيد أن البحر المضطرب كان ينذر بتحطيم الأسطول إذا هم أن يقلع.

والعاصفة التي أطلق بوسيدون عنانها كانت تثير في اليم موجاً كالجبال. . . وكانت تراوح الشاطئ المرتجف وتغاديه، فتهيل التراب وتسفيه، وتحط صخره من علٍ وتغرق به ما تهاوى عليه من أسطول هيلاس. . .

وانتظروا طويلاً حتى تسكن العاصفة، ويهدأ البحر المصطخب. . . ولكن. . . بلا جدوى!

ثم قيل لهم إن الآلهة عطشى، وأرباب الأولمب ظماء، وإنها لا يرويها إلا دم عزيز غال يسفح، ومهجة شابة غيداء تطل، وإن الآلهة لا ترضى بإحدى أبنتي أجاممنون بديلا!!

لا ترضى الآلهة أن يسفك دم إلا دم إفجنيا العذراء، أو أختها الكاعب إفياناسا، فإذا لم ترو الآلهة فلن تهدأ العاصفة، ولن يسكن العباب، ولن يفتأ البحر يضطرب، ولن يقلع هذا الأسطول اللجب.

وتردد أجاممون! وأضطرم قلبه بحنان الأبوة! ولكن القادة تكبكبوا حوله يلحفون عليه أن

ص: 62

يصغي إلى وحي السماء، ويستجيب لأمر الآلهة. . . فقبل. . . وبكى. . .

- 3 -

وجئ بالعذراء البريئة إفجنيا، ليحتفل بخِطبتها إلى أخيل فيما ادعى الوالد المحزون في رسالته إلى زوجه. . .

ولكن الزوجة تكتشف أن لا خطبة هناك. . . بل هناك قتلة شنيعة تنتظر ابنتها. . . لا لشيء. . . إلا أن تروى الآلهة. . . كما أرجف المرجفون!

وتصبح أضواء الحياة كلها ظلمات في عيني الأم. . . وتحاول إنقاذ الفتاة. . . ولكن. . . عبثاً!. . . لقد تقدمت إفجنيا إلى الكاهن الجلاد بقدم ثابتة، وجأش رابط، ونفس مطمئنة. . . وأعلنت أنها تهب نفسها للوطن. . .! ودمها للآلهة. . . وإنها تستودع الأولمب أباها. . . وأمها!. . .

وأهوى الجلاد. . . الكاهن. . . بسكينه. . . فهريق الدم العزيز الغالي!!

- 4 -

وعادت الأم المضعضعة إلى القصر الشاهق العتيق. . . إلى الـ (بيلوبيديه). . . تجتر هذه المصيبة الدامية، وتغص بتلك الداهية الحمراء!

وتحزن أياماً. . .

ويشمل السواد كل شيء. . . حتى أضواء الشمس، وأفواف الزهر، وآراد القمر!!

كل شيء أسود حالك. . . لا سيما. . . قلب الملكة. . .!

لقد انفردت في هذا القصر العتيق، فهي صاحبة الأمر والنهي فيه، وكل شيء يصدر عن إذنها ويقضى بأمرها. . . والمملكة بأسرها بيديها. . . ومع ذاك. . . ومع كل ذاك. . . فليس في الدنيا العريضة ما ينسيها افجنيا! أو يبعد عن عينيها ذلك المنظر الرائع الرهيب. . . منظر السكين اللامعة تهوى على عنق الفتاة. . .!

إنها أمامها أنى ذهبت وأيّان وجهت. . .

هاهي ذي تمرح في هذه الغيضة من حدائق القصر. . . وتلعب في تلك الردهة من الطابق العلوي. . . وتغرق في هذه اللجة من ديباج السرير. . . وتداعب الظباء في الحظيرة. . .

ص: 63

وتضفر أعواد الزنبق للتماثيل. . . وتنثر الورود والرياحين تحت أقدام الدُّمى. . . ثم. . . . . .

ثم هاهي مسجَّاة فوق المذبح يتفجر من غلاصمها الدم!!

- 5 -

وسكنت العاصفة، وهدأ البحر الجياش، وأقلع الأسطول بمن عليه. . . وحوصرت طروادة. . . وقتل الأبطال الصناديد من الفريقين. . .

وكرت أعوام عشرة. . .

- 6 -

(كيف يقتل ابنتي هذا الملك الذي قُد قلبه من صخر؟ كيف سوَّلت له نفسه أن يأذن لجلاديه بذبحها؟ أين حنان الوالد؟ قربان للسماء؟ أي سماء هذه التي تشره لدماء العذارى؟ لا ظفر أجاممنون بأعدائه! ولا حمله البحر إلى آرجوس كرةٌ أخرى! وروى ثرى طروادة من دمه، كما رويت آلهته من دم ابنتي!!).

ووقر في قلب كليتمنسترا أن تثأر لابنتها. . . ولكن. . . ممن؟ من أجاممنون. . . من أبيها أجاممنون. . .! إذن. . . فلتدبر غيلته في هذه السنين العشر، ولتحشد حولها أعداء هذا القصر العتيق الباذخ. . . ولْنُعَشَّش الأحقاد القديمة، والترات التي تتقلب في أحشاء الماضي. . . ولتجتمع عصابة الشرور فتدبر وتأتمر. . .

- 7 -

ترك أتربوس مُلْك أرجوليس العتيد لولديه، أجاممنون وأخيه، وترك لهما كذلك إرثاً عتيداً من الدم لم يسمع الناس بمثله. . . لن يسمعوا بمثله. . . لأنه دم أعز الأبناء. . . وشِواء لعين أيما شِواء. . .

ذلك أنه كان للملك أتريوس أخ يناوئه من أجل عرش أرجوليس ومايتاخمها من الاقطاعات. . . وكان هذا الأخ (ثيذتيس) يحاول أن يجعل الملك في أبنائه. . . من دون أبناء أخيه. . . ولكن أتريوس وقف على التدبير السيئ الذي يرسم خطط أخوه في الظلام؛ فما كان من أتريوس إلا أن دبر هو تدبيراً دموياً هائلاً. . . قضى به على أخيه وعلى أبناء أخيه. . .

ص: 64

إلا واحداً! تودد إلى أخيه أياماً، وعاتبه في هذه الجفوة التي لا يكون مثلها بين أخوين، فأعتبه. . . ثم دعاه إلى وليمة فاخرة يقيمها له في الـ (بيلوبيديه). . . فقبل ثيذتيس!

وفي اليوم المحدد. . . وبعد تدبير أحكمت حلقاته. . . أقبل ثيذتيس ليؤا كل أخاه، وليتصافح القلبان اللذان ينطوي كل منهما لصاحبه على الحب. . . واصرم الغل والحقد. . .

وحان موعد الغداء. . .

فنهضا إلى خوان عامر مجلل بما لذ وطاب من لحم يملأ قتاره الخياشيم الجائعة، ويسيل لعاب الأفواه المتلمظة. . .

وجلس ثيذتيس المنهوم فأكل حتى امتلأ. . . وما كاد ينتهي حتى كشف له الغطاء عن تلك الغيلة القاسية، التي يتنزه عنها أضرى الوحوش!!

لقد أكل ثيذتيس حتى امتلأ من الشواء الفاخر الذي أعد له من لحم أبنائه. . . وأكبادهم وقلوبهم. . . وهاهي الأصابع والأيدي والرؤوس والأقدام في سفط كبير على مقربة من الوالد البائس. . . شهيد على ذلك!!

وجن جنون الأب المسكين!

ولكنه عوجل هو الآخر بقاصمة الظهر. . . فذهبت روحه تتردى في ظلمات هيدز!

فيا للوحشية. . . وويل للمتوحشين!!!

- 8 -

وكان إبجستوس يتقلب على وجهه في البلاد.

فلما علم بالمأساة التي ذهبت بأخوته، وبأبيه. . . شرد في الأدغال، ونفر في التيه الذي لا أول له ولا آخر من غاب هيلاس وأنس إلى الوحشية، وسمر إلى الذئاب، وصحب اللصوص وقطاع الطرق. . . وتلبَّث حتى اسند ساعده، واشتد عوده. . . وعاد مستخفياً يدبر أمر هذا الثأر الثقيل، ويرسم الخطط لهذا الدم المطول. . .

ولكن. . . لقد مات أتريوس. . . وحكم من بعده ابناه أجاممنون ومنالايوس. . . وهما اليوم تحت أسوار طروادة يصطرعان مع الطرواديين.

فهل تزر وازرة وزر أخرى؟

ص: 65

أجل!! (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خانوا عليهم. . . فليتقوا الله!!).

إبجستوس!! هذه فرصتك فلا تُفلتها!!

- 9 -

وأتصل إبجستوس بالقصر، وتأكدت بينه وبين كليتمنسترا أواصر الود أولا؛ ثم انقلب الود واتحاد المقصد وبغض أجاممنون وأسرة الـ (أترديه) فصارت غراماً أثيماً وعشقاً فاسقاً ولذاذةً مجرمة.

وعمى قلب الأم. . . وحجبت الغواية بصيرتها؛ فنفت ولديها: أورست الغلام الحَدَث، وإفياناسَّا الفتاة الناعسة بعيداً عنها، لتزداد إغراقا في اللذة، ولينام ضميرها الميت فلا يوقظه هذا النسل البريء من صلب أجاممنون!!.

- 10 -

العاصفة تهب بشدة، والحارس المتعب يلفحه البرد القارس فوق سطح القصر الملكي العتيق، الـ (بيلوبيديه)، والليل الرهيب ينظر إلى القصر الفائض بالأسرار بعين قلقة من تلك النجوم المحملقة؛ وسنوات عشر قد تصرمت، وهذا الحارس المسكين في مكانه من هذا الميدان المعلق بين الأرض والسماء. . . أجل عشر سنين طوال كأنها عشر أحقاب كاملة، وهو يروح ويجئ كأنه آلة الزمن، أو قوس من دائرة الفلك. . وهو يشكو، ويحاول أن، يتسلى بأغنية أو صفير، ولكن الأسرار الهائلة التي يعج بها القصر من تحته تفزعه، فيعزف عن الغناء وعن الصفير. . . ويصل شكواه، ويرسل بثه.

وهن هناك فوق سطح القصر الملكي منذ قيام تلك الحملة المشئومة إلى طروادة. . . وهو إلى هذه الليلة يرقب النيران التي إذا تأججت في رؤوس الجبال كانت بشرى سقوط طروادة!.

وأومض البرق في الظلماء فجأة!. . . واندلعت النيران المنشودة! واستطير الحارس من الفرح؛ وفرك عينيه ليستيقن أنه ليس في حلم. . . ولكن النار تندلع وتندلع. . . إذن انتصرت جيوش هيلاس. . . وسقطت مدينة بريام!.

وأي بأس في أن ينطلق هذا الحارس المسكين فيزف البشرى إلى الملكة. . . لا بأس!

ص: 66

ولكنه ما يكاد يخطو خطوة واحدة، مفتراً في ظلمات الليل البهيم عن ابتسامة الجذل، حتى يذكر الأسرار الهائلة التي نسجتها عناكب القدر في القصر. . . فتقلب ابتسامته الجدلة إلى عبوسة قاتمة. . . فيقف مكانه ويصمت!!.

- 11 -

ويدخل المنشدون حديقة القصر، ويهزجون بنشيد طويل حلو ثم تقبل الملكة فيتقدم إليها رئيس الخورس محبياً ويتساءل:(هل من نبأ عن الحملة يثلج الصدر المكروب ويهج النفس المحروبة؟) وتبتسم الملكة ابتسامة خبيثة صفراء، ثم تزف بشرى انتصار الهيلانيين.

- (وكيف؟ لا نصدق! ولكن تكلمي. . . تكلمي أيتها الملكة!).

- (إليوم في قبضة رجالنا! هل أراك فهمت؟)

- (إنها مفاجأة تملأ أعيننا دموعاً. . .)

- (وإنها دموع تؤكد إخلاصكم وطهارة قلوبكم)

- (ولكن هل من برهان أيتها الملكة؟)

- (ما لم يكن بعض الآلهة يخدعني!)

- (ألا تكونين قد استسلمت لغفوة لذيذة فشهدت رؤيا طارئة؟)

- (إن أوهام المنام لم تخدعني قط!)

- (إذن منذ كم سقطت طروادة؟)

- (في نفس هذه الليلة التي كاد صبحها يتنفس؟)

- (وأي رسول حمل إليك النبأ في مثل هذه السرعة؟)

- (النار الآلهية ألمعت به إلى هنا من ذروة جبل إيدا. . . وهشيم الحلنج المتأجج في شعاف الجبال ورؤوس الآكام. . .).

واستطردت كليتمنسترا فذكرت كيف أشعل الهيلانيون النيران في قُلَل الشاطئ الأسيوي، ثم كيف تنقل الوميض فيالسماوات حتى عكسه أفق أرجوليس. . . وطفقت تحشد الكنايات في حديثها، وتنثر الألغاز في ثناياه. . . صادرةً عن غلها

المقيم وحقدها القديم على أجاممنون!

ص: 67

- (يا لطنين النصر في طروادة اليوم؟. . . . . . أحسب ألا يستطيع أحداً، يميز صيحات السادة الظافرين من صيحات العبيد المقهورين بين جدرانها! إنهم سواء منكودو الحظ، سود الجدود، حقيقون بالرثاء! ومن يدري؟ فلعل الآلهة تغضب فتنتقم ممن دنس هياكلها، وسطا على طُرفها وتحفها بجعلها في جملة الغنائم والأسلاب!. . . ولعل أرواح الضحايا (!) والشهداء تهب من مراقدها مغضبةً حانقة فتقف في سبيل الأبطال الظافرين فلا يعودون إلى أوطانهم!. . . ولكن قلما ساد حق. . . دون أن ترتكب ألف مذمة باسمه!. . .)

- 12 -

ويفطن الخورس إلى ما كان يتناثر في حديث الملكة من ألغاز، ويفطنون إلى هذا الفتور وذاك الضيق الذين كانت تزف في ظلامهما بشرى سقوط طروادة. . . فيعزونه إلى أسبابه التي باتت لا تخفى على أحد في المملكة. . . ثم يتشككون في كل ما انطلق به لسانها ويحسبونه هذياناً في هذيان!.

وما يكادون يفرغون من نشيد طويل رائع حتى يحضر البشير فيزف إليهم النبأ الصادق ويبشرهم بأوبة الملك، ثم يصف لهم شطراً مما لقيه الجنود تحت أسوار إليوم:(بل ما لقيه الطرواديون يومئذ من مصائب الحصار وكوارث القتل، ثم هذه النهاية التي أبادت دولتهم وقوضت بنيانهم. . .).

بيد أنه سرعان ما يفطن البشير إلى تلك الكآبة التي تُغشَّى نفوس القوم، فيسألهم، ويجيبه رئيسِ الخورس:

- (لقد كان الصمت. وسيظل. . . ملاذنا أيها البشير!)

- (وكيف؟ أترهبون أحدا في هذا القصر غير مولاكم؟)

- (. . .؟. . .!. . .)

- (أسرار. . . أسرار. . .

- 13 -

وتقبل الملكة كرة ثانية فتلمح تثلج مشاعر المنشدين وتحاول أن تخدعهم عن خافية نفسها فتقول: (هل صدقتم الآن أن إليوم قد سقطت؟! لقد كنتم في مرية من بشراي التي زففت

ص: 68

إليكم لأنكم لم تروا أماكم تلك الفتاة المزهوة التي تكاد تجن من الفرح لهذا النصر المفاجئ الذي انتظرناه طويلاً. . . يا لكم أيها الرجال! وأنت أيها البشير! أترى إلى قرباني الجسد ذي الخوار الذي أعددته أُضحِية لما بشرتنا به؟. . . وسترى كيف ينتشر البخور من مجار المد ومخارق العنبر فيؤرج أجواء آرجوس تحية لملك. تعال. . . تعال أيها البشير فقص علىَّ كيف سقطت طروادة وكيف رغم أنف ملكها!. . . ولكن. . . لا. . . ليست لي فيك حاجة. . . اذهب. . . فلن أسمع قصة ذلك إلا من رجلي. . . أجاممنون. . . ملك أرجوليس ومعقد آمالها!. . . أي فخار للمرأة أكبر من أن تستقبل فيض النور السماوي يتنزل عليها من العلو. . . حين يعود إليها بعلها وعلى رأسه! كليل من غار النصر؟ وأي فخار للرجل أكبر من أن يعود من حلبة الحرب فيجد زوجه وفية له كما تركها مخلصة كآخر عهده بها!؟ حريصة على أسراره. . . قائمة على بيته. . . ساهرة على أبنائه ككلبه الأمين!! ما تزال تحمل ذكرى عناقه الأخير، وتشدو بآخر قبلاته كأحسن أغاريد الحياة!

(يا للفخر. . . يا للفخر. . .)

وتخرج الملكة. . . ولا ينطلي ما زخرفت من قول على أحد!

- (ها قد سمعت مقالة الملكة، فلتكن أذنك ترجمانك الأمين!. . . ولكن. . . حدثنا بأربابك عن أمير هذه البلاد المحبوب، جليل المقام منالايوس. . . هل قدم معكم في أمان إلى أرض الوطن!. . .

ويربد وجه البشير، ثم يمهد لحديثه بمقدمة مجلوة، ويذكر كيف ثارت العاصفة فبعثرت الأسطول المنتصر. . . (وفصلت سفائن منالايوس عن سائر الأسطول، فلا يعلم أحد أين رست به إن كانت قد سلمت من غضبة البحر الذي طفق يتدجى فوقنا كأنه الليل. . .

. . . ولم نصدق أننا نجونا من فورة هذا العباب حتى انبلج الصبح، فصلينا للآلهة، وشكرنا للسماء. . . وابتهلنا إلى الأولمب أن يحفظ منالايوس، وأن يرده سالماً إلى أرض الوطن. . .)

ويأخذ الخورس في نشيد بعضه شدو وبعضه شجو. . . وبعضه سخط على هيلين. . . التي فاز بها من فاز بالحرب. . . وتزوج بها من تزوج بالحرب. . . والتي كانت على جميع من اتصل بها حرباً أي حرب!)

ص: 69

- 15 -

وبينا المنشدون يتغنون بألحانهم، إذا عربة مطهمة، تجرها صافنات جياد، تدخل فجأة فتكون تلقاء القوم. . .

ويكون في العربة أجاممنون الظافر المنتصر، قاهر طروادة؛ والى جانبه تلك النبية المباركة. . . حبيبة الآلهة. . . الفتاة العذراء. . كاسَّندرا ابنة بريام العظيم ملك إليوم المقتول. . . عاد بها أجاممنون من جملة السَّبْي لتكون له. . .

ويحي الخورس مليكهم بلحن حلو من موسيقى السماء، يبللونه بدموعهم ويصهرونه بحرارة قلوبهم، فيشكر لهم ويثني عليهم، ويقول:

(البقية في العدد القادم)

دريني خشبة

ص: 70

‌البَريد الأدَبيّ

حلم ليلة صيف

ظهرت أخيراً أول قطعة من مسرحيات شكسبير الخالدة على ستار السينما؛ وهو بلا ريب حادث عظيم في تاريخ الإخراج السينمائي؛ وقد كان رأى النقدة والفنانين أن مسرحيات شكسبير إنما خلقت للمسرح، ومن الصعب أن لم يكن من المستحيل إخراجها بنجاح على ستار السينما؛ ذلك أن مناظرها وخيالاتها لا تسمح رغم روعتها بذلك السبك الذي يطلب في الشرائط المصورة، ولأنها ترتفع أحياناً فوق الوسائل الفنية التي يسمح بها الإخراج السينمائي؛ ولكن فناناً عظيماً هو ماكس رينهارت رأى في مسرحيات شكسبير رأياً آخر، وجالت بذهنه فكرة جريئة هي الأقدام على إخراج بعض هذه القطع الخالدة على لوحة السينما؛ وقد تم إخراج المسرحية الأولى وعرضها، وهي (حلم ليلة صيف)، وقد أتيح لنا أن نشهد هذا الشريط الرائع أخيراً في إحدى دور السينما بالقاهرة، فألفينا فيه عبقرية المخرج العظيم تتجلى إلى جانب عبقرية الشاعر الخالد، ورأينا خيال الشاعر المبدع يبدو على صفحات الواقع الملموس في أروع ثوب؛ ولم يحل دون تحقيق هذه الأمنية. أن القصة كلها أحلام في أحلام، وأن هذه الأحلام تبلغ ذروة الخيال المغرق، وتفيض في عالم الأرواح والأشباح والعالم الآخر.

وسر هذا الإبداع المدهش في إخراج هذه القطعة الخالدة هو بلا ريب في عبقرية المخرج؛ والواقع أن ماكس رينهارت قد بلغ الذروة من قبل في إخراج المسرحيات الخالدة: مسرحيات شكسبير، وجيتي، وشيللر، ولسنج وغيرهم، على المسرح؛ وماكس رينهارت نمسوي يهودي، ولد في مدينة سالزبورج، موطن الفن والموسيقى الخالدة؛ وتلقى تربيته وخبرته الفنية في مدينة فينا أعظم موطن للثقافة الفنية والموسيقية، وظهر قبل الحرب بجهوده المسرحية في أعظم مسارح فينا وبرلين، ثم أستقر في برلين بعد ذلك، وهنالك تبوأ ذروة الفن، وأضحى مرجع المسرح في ألمانيا وكوكبه الساطع؛ ولكن حكومة هتلر جاءت منذ ثلاثة أعوام لتسحق العلوم والفنون والآداب في ألمانيا بكل ما وسعت من شهوات التعصب الجنسي والسياسي، فلم يطق الفنان العظيم - وهو يهودي غير مرغوب فيه - أن يعيش في هذا الجو الكدر، فغادر ألمانيا حيث سطع مجده، ليعمل حيثما تزدهر الأفكار

ص: 71

والحريات الفنية؛ وطاف بفينا وباريس ولندن وغيرها، ومر منذ شهر بمدينة سالزبورج مسقط رأسه، فلقي فيها أعظم مظاهر الحفاوة والتكريم، وأطلقت البلدية أسمه على شارع من أشهر شوارعها.

وفي (حلم ليلة صيف) تتجلى عبقرية شكسبير الرائعة في مزج المبكي بالمضحك، وإبراز المفاجآت والمدهشات في ثوب يأخذ باللب، ويذكي العواطف إلى الذروة؛ ومع أن القطعة كانت في بعض تفاصيلها مسهبة، فأن الموسيقى الرائعة التي اقترنت بمناظرها، وهي من مقاطيع مندلزون وفاجنر، كانت ترفع بجمالها وسحرها كل ميل إلى السأم.

والمفهوم أن ماكس رينهارت سيمضي في إخراج قطع أخرى من مسرحيات شكسبير؛ وربما رأينا قريباً هملت أو مكبث، أو تاجر البندقية أو يوليوس قيصر أو غيرها من آثاره الخالدة على مسرح السينما بفضل عبقرية ماكس رينهارت.

بييردي نولهاك

في الأنباء البرقية الأخيرة أن الكاتب والمؤرخ الفرنسي الكبير بييردي نولهاك قد توفي في السادسة والسبعين من عمره. وكان دي نولهاك عضواً بارزاً من أعضاء تلك المدرسة التاريخية الباهرة التي استطاعت أن تجمع بين التحقيق التاريخي والعرض الساحر، والتي تزعمها كتاب ومؤرخون يمتازون بالقوة والطرافة مثل فرانز فونك برنتانو، ولينوتر، ودي نولهاك، وقد كان لهذه المدرسة أكبر الفضل في الكشف عن طائفة من الوثائق والمحفوظات الشهيرة، ودرس دي نولهاك الفلسّفة والأدب القديم، وتفقه في الدراسات اليونانية واللاتينية، وعني منذ فتوته بالتنقيب في أقبية المكاتب العامة؛ ودرس مدى حين فيمدرسة الآثار الفرنسية برومة، وعثر في مكتبة الفاتيكان على طائفة من الوثائق التاريخية النفيسة، ونشر عن مباحثهعدة مؤلفات منها (مكتبة زعيم إنساني في القرن السادس عشر) و (ثبت المخطوطات اليونانية لجان لسكاريس) و (مباحث عن رفيق بومبونيوس لاكثوس) وغيرها، ووقع دي نولهاك أثناء هذه الفترة على خطية من كتاب (كانزونير) للشاعر الأشهر بترارك وبخطه أيضاً، وقدمها لأكاديمية الآثار، فكانت نقطة باهرة؛ وأثار هذا الاكتشاف اهتمام دي نولهاك بدراسة بترارك، فقدم عنه رسالته الشهيرة عنوان (بترارك والإنسانية) في سنة 1892.

ص: 72

والتحق دي نولهاك منذ سنة 1886 بوظيفة في المكتبة الأهلية، وانتدب للتدريس في نفس الوقت بمدرسة الدراسات العليا؛ ثم عين بعد ذلك مديراً لها واستمر في هذا المذهب حتى سنة 1900، وعين أيضاً أميناً لمتحف فرساي واستمر في هذا المنصب حقبة طويلة، وفي أقبية المكتبة والمتحف بدأت مباحث دي نولهاك المؤرخ، وهي مباحث دلت فيما بعد على أنه في هذا الميدان عبقرية بارزة، ووقع في الأقبية على طائفة من الوثائق والمحفوظات التاريخية النادرة، واستطاع أن يستخرج منها مادة بديعة لكتبه، وأشهر مؤلفات دي نولهاك التاريخية:(فرساي في القرن الثامن عشر) و (الملكة ماري انتوانيت) و (لويس الخامس عشر ومدام دي بومبادور) وغيرها، وفيها تبدو عبقرية نولهاك كمؤرخ وكاتب، ذلك أن حقائق التاريخ تعرض فيها في أثواب ساحرة كأنها الخيال المرسل، وتسطع فيها الصور حتى يخيل إليك أنها حية تغدو وتروح وكأنك تعيش معها وفي عصرها.

وكتب دي نولهاك عدة كتب أخرى ارتفعت باسمه إلى مصاف أقطاب النقد والتفكير الفلسفي منها: (رونسار والإنسانية)، ومنها (قصائد إيطاليا وفرنسا). وانتخب نولهاك عضواً بالأكاديمية الفرنسية وانتظم في سلك الخالدين قبل وفاته بأعوام طويلة.

كتاب عن ذكرى ابن ميمون

احتفلت الطوائف اليهودية في مصر وفي سائر أنحاء العالم، وكذلك احتفلت معظم الهيئات العلمية في مختلف الأقطار بذكرى العلامة والفيلسوف والطبيب اليهودي العربي الأندلسي موسى ابن ميمون، وكان الاحتفال في إبريل من العام الماضي، وذلك لمناسبة انقضاء ثمانمائة عام كاملة على مولد الطبيب الأشهر؛ ولابن ميمون في مصر ذكريات خاصة، فقد كتب فيها معظم مؤلفاته، وتوفي فيها، وكان كبير الربانيين بالقاهرة، وكان طبيباً للسلطان صلاح الدين الأيوبي؛ وكان مولد ابن ميمون في قرطبة في 30 مارس سنة 1135م، في عهد المرابطين، ثم نزح مع أسرته إلى المغرب فالقاهرة حيث اتصل بالسلطان صلاح الدين وعينه طبيبه الخاص. وعكف ابن ميمون على دراسة التلمود وكل ما يتعلق بالقصائد والفلسفة اليهودية، وألف فيها بالعربية، ولكن بحروف عبرية، طائفة من الكتب الفلسفية والدينية مازالت تتبؤا المقام الأول بين تراث اليهودية.

وقد عنيت الحاخامية اليهودية بالإسكندرية بإصدار مجلد ضخم عن هذا العيد العلمي

ص: 73

بالفرنسية بعنوان: (الذكرى المئوية الثامنة لابن ميمون) وضمنته ترجمة وافية للطبيب الفيلسوف، وشرحاً قيماً لأهم نظرياته ونصوصه، وشذوراً من مصنفاته بالعربية والعبرية والفرنسية والإيطالية، وأشرف على وضعه وإخراجه الأستاذ دافيد براتو حاخام الطائفية اليهودية بالإسكندرية، ومما يجدر ذكره بهذه المناسبة أن لابن ميمون بين مفكري اليهود وفلاسفتهم المقام الأول، حتى لقد اعتبره بعضهم الرجل الثاني في اليهودية بعد موسى. ولابن ميمون نظريات فلسفية ودينية عويصة، وله شرح نفيس للتلمود ما زال هو الحجة في موضوعه.

القصة في التعليم

في وزارة المعارف اليوم حركة تجديد تسير إلى غايتها بنشاط وقوة، نؤمل من ورائها انقلاباً في وسائلنا التعليمية يدنينا من الهدف الذي نقصد إليه من تعليم أبنائنا.

وقد كان آخر هذه المحاولات، هذا المشروع الذي أشارت إليه الصحف في الأسبوع الماضي، بأن الوزارة تفكر في تدريس كثير من المواد بالمدارس الابتدائية عن طريق القصة. وهو مشروع جدير بأن يثمر ثمرة طيبة لو حَسُنتْ القوامة عليه؛ فما نعرف شيئاً يروق الصغار ويجذب انتباههم مثل القصة، وما نعرف بابا من أبواب الأدب يتسع لكل شيء كما تتسع القصة، فالقصة عند الطفل لون من ألوان اللعب يقبل عليه بشوق ولذة، ولكنه عند أهل التربية فن من فنونهم يبلغون به مالا يبلغون بسواه من أساليب العلم.

وإذا كان لنا أن نغتبط بهذا المشروع، فإننا نخشى أن تؤدى طريقة تنفيذه إلى ما لا نرجو من جَدْواه، فان القصة فنٌّ واستعداد لا يتوفران لكل شخص، ولا يحسنهما إلا الموهوب؛ فلو أن وزارة المعارف وكلت أمر إنشاء هذه القصص إلى غير القادرين عليه لقضت على الفكرة بالموت قبل أن تظهر لها ثمرة؛ وفي وزارة المعارف رجال درسوا القصة وعالجوها فنجحوا فيما عالجوا إلى حد كبير، وإن لم يكونوا من رجال التعليم. وفي مختلف مدارس الوزارة مدرسون حاولوا القصة ووُفِّقوا في كثير مما حاولوا، فلعل الوزارة تنتفع برأي هؤلاء وهؤلاء.

الإسلام في اليابان

ص: 74

كتبت مجلة (آسيا) في عددها الأخير أنه لن تنقضي أعوام حتى تصبح اليابان كلها إسلامية.

وقد أشارت المجلة إلى الدعاية الإسلامية القائمة بين الشعب الياباني وقالت إن 32 ألفاً من اليابانيين اعتنقوا الديانة الإسلامية منذ ثلاثة أعوام، وإن الإقبال على الإسلام لا يزال مستمراً.

وقد تم إنشاء مسجد (باب الله) في الأسبوع الماضي واحتفل اليابانيون بافتتاحه احتفالاً عظيما.

ويتألف هذا المسجد من ثلاثة طوابق، ويمتاز بمآذنه الشائقة المزدانة بأجمل النقوش كما يمتاز بأبهائه وحدائقه والنقوش العربية التي تزين جدرانه.

وقد رأس حفلة الافتتاح مياه عبد العزيز، وكان يرتدي العباءة والكوفية والعقال؛ وقد ألقى خطاباً شكر فيه لجنة المسجد ثم قال:

(إنه ليسرني أن أرأس هذه الحفلة في اليابان إمبراطورية الشرق الكبرى، وأعتقد أن (باب الله) سيجد كثيراً من اليابانيين الذين يرغبون في دخوله. .).

وبعد أن أشار الخطيب إلى موقف الحكومة اليابانية من الديانة الإسلامية وتنشيط القائمين بالدعوة إليها شرح للحاضرين التعاليم الإسلامية ومبادئ المسلمين السامية وقال:

(إن الديانة الإسلامية التي أجمع العالم على أنها أفضل الديانات لابد أن تنتشر في جميع أنحاء العالم وخاصة في اليابان، ولابد أن تجد من الأنصار ما يجعلها سيدة العالم).

وأشار الخطيب إلى إعجاب العرب المسلمين بالشعب الياباني، وقال إن اليابان تسير في طريق الإمبراطورية الآسيوية الكبرى، وإن الإسلام سيكون في أول هذا الطريق.

من أعاجيب الراديو

أضحى (الراديو) أعجوبة الأعاجيب في عصرنا، يستعمل في كل ما لا يمكن أن يخطر في البال من عظائم الأمور وصغائرها؛ وسنرى في الأعوام القادمة إلى أي حد يمكن أن تقف أعاجيب هذا الاختراع المدهش؛ ومما قرأناه أخيراً في صحف فيينا أن الراديو كان وسيلة مدهشة لنجاة مريض من تناول دواء خاطئ؛ فقد وفد مريض على صيدلي وقدم إليه تذكرة

ص: 75

دوائه ليعدها، ثم أخذ المريض الدواء وانصرف، وبعد قليل تذكر الصيدلي أنه ارتكب في صنع الدواء خطأ قد يؤدي بحياة المريض، ولم يكن يعرف عن المريض أو اسمه أو طبيبه شيئاً؛ فهرع إلى شركة للإذاعة اللاسلكية، وفي الحال أذاعت الشركة خلال برنامجها نبأ هذا الخطأ في جميع أرجاء النمسا؛ ووقف الطبيب المعالج مصادفة على هذا النبأ حين كان يستمع إلى الإذاعة، فهرول إلى المريض في منزله ولحق به قبل أن يتناول الدواء القاتل.

ص: 76

‌الكتب

(محمد)

كتاب توفيق الحكيم

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

عملُ الأستاذ توفيق الحكيم في تصنيف هذا الكتاب أشبهُ شيء بعمل (كريستوف كولمب) في الكشف عن أمريكا وإظهارها من الدنيا للدنيا؛ ولم يخلق وجودها ولكنه أوجدها في التاريخ البشري، وذهب إليها فقيل جاء بها إلى العالم، وكانت معجزته أنه رآها بالعين التي في عقله، ثم وضع بينه وبينها الصبرَ والمعاناةَ والحذق والعلم حتى انتهى إليها حقيقة ماثلة.

قرأ الأستاذ كتب السيرة وما تناولها من كتب التاريخ والطبقات والحديث والشمائل، بقريحة غير قريحة المؤرخ، وفكرة غير فكرة الفقيه، وطريقة غير طريقة المحدَّث، وخيال غير خيال القاصَّ، وعقل غير عقل الزندقة، وطبيعة غير طبيعة الرأي، وقصد غير قصد الجدَل؛ فخلص له الفن الجميل الذي فيها إذ قرأها بقريحته الفنية المشبوبة، وأمرَّها على إحساسه الشاعر المتوثب، واستلَّها من التاريخ بهذه القريحة وهذا الإحساس كما هي في طبيعتها السامية متجهةً إلى غرضها الإلهي محققةً عجائبها الروحانية المعجزة.

وقد أمدته السيرة بكل ما أراد، وتطاوعت له على ما اشتهى، ولانت في يده كما يلين الذهب في يد صائغه؛ فجاء بها من جوهرها وطبيعتها ليس له فيها خيال ولا رأي ولا تعبير، وجاءت مع ذلك في تصنيفه حافلة بأبدع الخيال، وأسمى الرأي، وأبلغ العبارة؛ إذ أدرك بنظرته الفنية تلك الأحوال النفسية البليغة، فنظمها على قانونها في الحياة، وجمع حوادثها المدوَّنة فصورَّها في هيئة وقوعها كما وقعت، واستخرج القصص المرسَلَة فأدارها حواراً كما جاءت في ألسنة أهلها؛ وبهذه الطريقة أعاد التاريخ حياً يتكلم وفيه الفكرة وملائكتُها وشياطينُها، وكشف ذلك الجمال الروحاني فكان هو الفن، وجلا تلك النفوس العالية فكانت هي الفلسفة، وأبقى على تلك البلاغة فكانت هي البيان. كانت السيرة كاللؤلؤة في الصدفة، فاستخرجها فجعلها اللؤلؤة وحدها.

ص: 77

إن هذا الكتاب يفرض نفسه بهذه الطريقة الفينة البديعة، فليس يمكن أن يقال إنه لا ضرورة لوجوده، إذ هو الضروريَّ من السيرة في زمننا هذا، ولا يُغْتَمَزُ فيه أنه تخريف وتزوير وتلفيق، إذ ليس فيه حرف من ذلك؛ ولا يردُّ بأنه آراء يخطئ المخطئ منها ويصيب المصيب، إذ هو على نص التاريخ كما حفظته الأسانيد؛ ولا يُرمى بالغثاثة والركاكة وضعف النسق، إذ هو فصاحة العرب الفصحاء الخُلَّص كما رُويت بألفاظها؛ فقد حصنه المؤلف تحصيناً لا يُقتحم، وكان في عمله مخلصاً أتم الاخلاص، أميناً بأوفى الأمانة، دقيقاً كل الدقة، حَذِرا بغاية الحذر.

ومن فوائد هذه الطريقة أنها هيأت السيرة للترجمة إلى اللغات الأخرى في شكل من أحسن أشكالها يرغم هذا الزمن على أن يقرأ بالإعجاب تلك الحكاية المنفردة في التاريخ الإنساني؛ كما أنها قرَّبت وسهلت فجعلت السيرة في نصها العربي كتاباً مدرسياً بليغاً بلاغة القلب واللسان، مربياً للروح، مرهفاً للذوق، مصححاً للملكة البيانية.

وحسبُ المؤلف أن يقال بعد اليوم في تاريخ الأدب العربي: إن ابن هشام كان أول من هذَّب السيرة تهذيباً تاريخياً على نظم التاريخ، وأن توفيق الحكيم كان أول من هذبها تهذيباً فنياً على نسق الفن.

مصطفى صادق الرافعي

ص: 78

‌1 - علم تكوين الجنين (طبع دمشق)

للدكتور شوكت موفق الشطى

2 -

دليل الحج والسياحة (طبع الرباط)

للأستاذ أحمد الهواري

للأستاذ محمد بك كرد علي

- 1 -

أصدر الدكتور الشطي في دمشق الجزء الأول من هذا الكتاب، وهو (يبحث في التناسل والجهاز التناسلي في الذكور والإناث، والألقاح والذكورة والأنوثة والوراثة)، وقد تقدم للمؤلف أن نشر كثيراً من الأبحاث الطبية في كتب ورسائل ومقالات. والذي يعنينا هنا أن نقوله إن هذا الكتاب وبعض الكتب الطبية والعلمية التي ظهرت في العهد الحديث في جمهورية سورية تدل على اضطلاع المؤلفين الجدد بعلمهم، مضافاً إليه تمكنهم من العربية. وقد رأينا مصنف هذا الكتاب المفيد يضع ألفاظاً لبعض الكلمات الطبية والعلمية، هذا إلى ما في مجموع كلامه من الرشاقة والجزالة. أما البحث في موضوع الكتاب ودرجته من العلم فهو من شأن الأطباء.

- 2 -

جاءت رحلة الأستاذ الهواري الفاسي من الغرب الأقصى إلى الديار الحجازية المباركة في 310 صفحات محلاة بالرسوم البديعة. وقد قال في وصف كاتبها الأستاذ السيد عبد الحي الكتاني عالم فاس إنه رحل (ونقب، وسأل وكتب، وجمع وحطب، وإن كانت وجهة قلمه غلبت عليها نشوة الوظيف والاهتبال بالموظفين، والإدارات والمديرين، ولكن إذا عُلم أنه يكتب لأبناء هذا العصر زال العجب). ووصفه بأنه (صاحب القلمين واللسانين)، يعني العربية والفرنسية. وقد أورد الأستاذ الكتاني ثبتاً بديعاً بأسماء من رحلوا من القديم إلى اليوم، إلى الحجاز من بلاد الغرب والأندلس، ودل على أماكنها، ومنها المطوط المحفوظ في الخزانة الكتانية بفاس.

ص: 79

ولاحظنا أن المؤلف عني عناية خاصة بذكر أصحاب القبور أكثر من التنويه بأعمال الإحياء في مصر والشام. والقبوريون يظفرون متى شاءوا بما يحبون من الزيارات في كل بلد من بلادالإسلام، ولكن ما يحفظ على هذه الأمة دينها ودنياها هو اليوم الاستمداد من الأحياء، ولذا كان على المؤلف أن ينوه بما يجب أن يقتبسه بنو قومه من جلائل أعمال الحياة في البلاد التي زارها. وقد قدم صاحب الجلالة سيدي محمد سلطان المغرب الأقصى تقريظاً للكتاب على سبيل التنشيط. وعبارة المؤلف تدل على أنه عانى صناعة الكتابة في بلاده، بيد أنه جرى في تدوين رحلته على ما يرضي العامة وأرباب السلطان. . . .

محمد كرد علي

ص: 80