المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 137 - بتاريخ: 17 - 02 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٣٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 137

- بتاريخ: 17 - 02 - 1936

ص: -1

‌العزة

للأستاذ أحمد أمين

استعملت العرب كلمة (العزة) في مقابل (الذلة) فقالوا رجل عزيز ورجل ذليل. وجاء استعمال (العزيز والذليل) في القرآن متقابلتين، فقال تعالى:(أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين). وحكي عن المنافقين أنهم قالوا في حرب الغزوات: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، وهي كلمة قالها ابن أُبي، ويريد بالأعزة نفسه وصحبه، وبالأذلة محمداً (ص) وصحبه، فرد عليهم الله بقوله:(ولله العزة ولرسوله والمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون). وقد تصدى بعض المسلمين لأبن أُبي وسل سيفه عليه ومنعه من دخول المدينة، وقال: والله لا أغمده حتى تقول: (محمد الأعز وأنا الأذل) فقالها. والسبب في كل هذا أن العرب في الجاهلية كانوا يفهمون العزة في المال والجاه والرياسة والولد ونحو ذلك، فجعلها الإسلام في الدين الحق، وأداء الواجب للناس والله.

وأكثَر العرب من استعمال هذه الكلمة في الجاهلية والإسلام، فكان أبو جهل يقول:(أنا أعز أهل الوادي وأمنعهم)، وقال الشاعر:

بيضُ الوجوه كريمةٌ أحسابهم

في كل نائبةٍ عِزَازُ الآنُفِ

وفسر الراغب الأصفهاني (العزة) بأنها حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب، وجعل اشتقاقها من قولهم أرض عَزَاز أي صلبة، وتعزز لحم الناقة أشتد وصلب.

والحق في أن تحديد معنى العزة في منتهى الصعوبة، وأصعب ما في ذلك رسم الحد الفاصل بين العزة والكبر، وبين الذل والتواضع: وقديماً حاول الناس أن يفرقوا بينهما، فقد روى أن رجلاً قال للحسن بن علي:(إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً) فقال: (ليس بتيه ولكنه عزة). وروي عن عمر ابن الخطاب أنه قال: (اخشَوشِنوا وتَمَعْزَزُوا) كأنه خشي إذا أمر الناس بتعود الخشونة أن يلجئهم ذلك إلى احتقار النفس وذلتها فاستدرك ذلك بطلب المحافظة على العزة.

وحاول السهروردي أن يفرق بين العزة والكبر فقال: (العزة غير الكبر لأن العزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها، كما أن الكِبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منازلها)

ولست أدري لم أهمل علماء الأخلاق من المسلمين هذا الخلق فلم يكثروا الكلام فيه إكثارهم

ص: 1

في غيره من الصدق والعدل الكرم والتواضع.

ولو وضعت أنا (قائمة) الأخلاق مرتبة حسب أهميتها للمسلمين لوضعت في أعلاها (العزة)، ولاخترت من الأخلاق ما يبعث القوة والاعتداد بالنفس والرجولة والأنفة والحمية، ولأقللت جداً من الكلام في التواضع والزهد والخوف ونحو ذلك، لأن قائمة الأخلاق يجب أن تخضع في ترتيبها وتقويمها لعاملين: روح العصر، وموقف الأمة إزاء بقية الشعوب؛ بل أحياناً تنقلب الفضيلة إلى رذيلة، ويكون الحث على هذا النوع من الفضائل داعية إلى الإجرام. فإذا أفرطت أمة في التواضع كانت الدعوة إليه إجراماً، وإذا أفرطت أمة في الزهد كانت دعوة الأخلاقيين إليه دعوة إلى الموت والفناء.

كنت زمناً قاضياً في (الواحات الخارجة) وهي بلاد في منتهى الفقر والبؤس، أغناهم من ملك نُخَيلات وسُوَيعات في عين من عيون الماء، بؤس شامل، وجهل شائع، وضنك يستذرف الدمع، ويستوجب الرحمة. فذهبت يوماً إلى صلاة الجمعة في مسجدها البائس الفقير أيضاً. . فما كان أشد عجبي من خطيب يخطب من ديوان مطبوع يستحث الناس على ألا يقضوا صيفهم في أوروبا، وأنا على يقين أن الخطيب والمسلمين لم يعرفوا أوروبا، ولم يفهموا لها إلا معنى غامضاً، ولم تحدث أحداً منهم نفسه بالسفر إلى مصر فضلاً عن أوروبا، ولكنها قلة ذوق الخطيب وسماجته، وجهله التام بالواقع.

وأؤكد أن أكثر المتكلمين في الأخلاق من المسلمين في مثل حال هذا الخطيب، لا يعرفون زمانهم، ولا يعرفون أمتهم، ولا يعرفون موقف أمتهم من زمانهم. يرونهم أذلة فيدعون إلى الذلة، ويرونهم متواضعين فيلحون في طلب التواضع، ويرونهم زهاداً بالطبيعة لا يجدون الكفاف من العيش فيمعنون في طلب الزهد. فإن هم تلطفوا قليلاً طلبوا منهم الرضا بالبؤس وألصقوه بالقدر، وجعلوا ذلك كله ضرباً من التقوى والإيمان، وهم بذلك يداوون جوعاً بجوع، وجرحاً بجرح، وسماً بسم؛ وكان يجب أن يداووا جوعاً بشبع، وجرحاً بضماد، وسماً بترياق.

تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا ندعو إلى خلق يزيد الأمة ضعفاً، فلا ندعوها إلى الرضا بالقليل وفي إمكانها الكثير، ولا ندعوها إلى الاستسلام للقدر وفي وسعها مكافحة الصعاب ومواجهة الشدائد، ولا ندعوها إلى الذلة وفي استطاعتها أن تعز. والواقع أن أبيات

ص: 2

العزة وأدب العزة وأمثال العزة وقصص العزة إنما تكثر في الأمة أيام عزتها وتختفي أيام بؤسها، فلما كان العالم الإسلامي عزيزاً أنطقتهم بالعزة رماحهم، ثم غلبوا على أمرهم فنطقوا بالتواضع، وتواصوا بالاستكانة، وألفت الكتب والخطب من ذلك الحين تروّح على البائسين حتى لا يشعروا ببؤسهم ولا يملوا أشقاءهم، وما زال الحال على هذا المنوال حتى صار الداء صحة والدواء مرضاً.

وليس غريباً أن يسير الناس على هذه الخطة، ولكن غريباً أن يسير القادة عليها، وكان المفروض أن يكونوا أبعد نظراً، وأطهر قلباً، وأعرف بحقائق الأمور.

أريد بالعزة أن يشعر كل إنسان بكرامة نفسه ويشعر بما لها من حقوق، فلا يسمح لمخلوق كائناً من كان أن ينال منها مثقال ذرة، كما يشعر بما عليه من واجبات فلا يسمح لنفسه أن يعتدي على حقوق الناس مثقال ذرة أيضاً.

وللعزة مظاهر متعددة ووسائل مختلفة، فالناس كثيراً ما يتطلبون الغنى وسيلة من وسائل العزة، وآخرون يطلبون المنصب الحكومي أو العضوية البرلمانية أو العضوية في الجمعيات الراقية أو صداقة العظماء أو حسن الملبس على إنها وسائل العزة، والمتعلمون يطلبون العزة عن طريق الشهادات من ليسانس ودكتوراه ودبلوم ونحو ذلك، وهذه كلها عزة شخصية، وهناك عزة أخرى قومية وهي اعتزاز الفرد بنسبته إلى أمته كاعتزاز الإنجليزي بإنجليزيته والفرنسوي بفرنسيته والألماني بألمانيته، ولهذه كذلك مظاهر متعددة كاحترام كل أمة أعلامها والمحافظة على بعض تقاليدها والافتخار بلغاتها والفخر بآثارها ونحو ذلك؛ وليس يهمني الآن هذا ولا ذاك، إنما يهمني نوع من الشعور يتملك المرء ويشعر منه بأنه إنسان في الحياة لا يمتاز عنه أحد في الوجود في إنسانيته. قد يمتاز الناس عنه في المال أو في الجاه أو في المنصب ولكن لا يمتاز عليه أحد في أنه إنسان، فسائق السيارة وصاحب السيارة سيان في احترامهما أنفسهما وشعورهما بحقوقهما وواجباتهما.

ويسوءني أن أرى الشرقي لا يشعر بالعزة الشعور الواجب، ولا ينزل هذه الفضيلة من نفسه المنزلة التي تستحقها، وأكبر ما يؤلمني في ذلك مظهران:

الأول: استخذاء الشرقي أمام الأجنبي الأوربي وشعوره في أعماق نفسه كأنه خلق من طينة غير طينته، وكأن الطبيعة جعلت أحدهما سيداً والآخر عبداً، ترى هذا الشعور في المصالح

ص: 3

الحكومية وفي الحوانيت التجارية وفي المجتمعات وفي الشوارع، وفي كل معاملة وفي كل خطوة. بالأمس كنت في محطة السكة الحديدية فذهبت إلى شباك التذاكر وسألت الموظف - في أدب - هل هنا محل صرف التذاكر إلى بلدة كذا؟ فلم يجب، وأعدت السؤال فلم يجب فتولاني شعور ممتزج من غضب وخجل واحتمال لبرودة السؤال وغير ذلك، وما لبث أن جاء أجنبي فسأل مثل هذا السؤال بلغته الأجنبية، فترك الموظف ما في يده وأقبل عليه يكلمه، وأجابه إجابة فيها كل معنى التبجيل والتعظيم، وأختتم كل جملة من جملة بكلمة (سيدي)!، فدهشت من هذا الحال وثرت في نفسي، وتجمع الدم في وجهي، ونلت من الموظف بقدر ما نال مني، ولم أكسب من ذلك كله إلا أن أكتب هذا المقال.

وموقف هذا الموظف تقفه كل الأوساط على اختلاف في مقدار اللياقة والكياسة ولكن الجوهر واحد، فذلك هو الشأن في الأوساط العلمية والتجارية والسياسية، يتكلم الأجنبي كلمة عادية فتكون المثل، وتكون الحكمة، وتكون القول الفصل، ويبدي الرأي فيكون الرأي الناضج والقول الحكيم والغاية التي ليس وراءها غاية، ويطلب الطلب فلا بد أن يجاب، وإذا لم يكن فالاعتذار الحار والوعد بإجابته في ظرف آخر؛ ويدخل المحل التجاري أو يركب القطار أو يدخل النادي فموضع رعاية خاصة؛ ويعمل العمل فيقدر التقدير الغالي في قيمته الأدبية ومكافأته المادية إلى ما يطول شرحه.

وفي هذا من غير شك مذلة للشعور وكبت للنفس واستعباد للمواطن، ومع ذلك يطالبنا السادة الأخلاقيون بالتواضع! لابد أن يفهم الناس في كل مناسبة وفي كل ظرف أن القوم أناس مثلنا لهمك ما لنا وعليهم ما علينا، وأن هؤلاء القوم على أحسن تقدير ضيوفنا لا سادتنا، ومن لحم ودم كلحمنا ودمنا، ولهم عقل ولكن كعقلنا، وسلوك في الأخلاق كسلوكنا، وتصدر منهم الفضيلة والرذيلة كما تصدر عنا، وأنهم ككل البشر يستذلون من أذل نفسه، وأن واجبنا أن نحترمهم في غير مذلة، ونحترمهم لا على حساب احتقار المواطن، وأننا نبادلهم احتراماً باحترام واحتقاراً باحتقار، وأنه إذا حدثتهم أنفسهم بالاعتداء علينا لم نمكنهم، وأن الحكم بيننا وبينهم دائماً أن لنا حقوقاً وعلينا واجبات كحقوقهم وواجباتهم، فإذا طلبوا المساواة فالسمع والطاعة، وإذا طلبوا الإذلال قلنا (لا) بملء أفواهنا.

والأمر الثاني من مظاهر الذلة الذي لا يقل خطراً عن هذا، فهمُ الرئيس لمعنى الرياسة،

ص: 4

فهو يفهمها على إنها غطرسة من جانبه، وذلة من جانب مرءوسه، وإلا لم يكن المرءوس مؤدباً. فرئيس المصلحة ليس لأحد رأي بجانب رأيه، ولا لوكيله ولا لمديري إدارته، عليهم أن يسمعوا في ذلة والعزة له وحده، ثم يتكرر تمثيل هذا الدور من أعلى فنازلاً، فكل من بعد الرئيس الأعلى رئيس من جانب ومرءوس من جانب، فهو كمرءوس حاله ما بيّنا، وهو كرئيس يقلد تقليداً تاماً رئيسه في اعتزازه وإذلاله، وهكذا دواليك، حتى يصل الأمر إلى ما نرى من الباعة في الشارع والجندي، فمثلهم كالقاطرة تصدم العربة التي تقابلها ثم كل عربة تصدم ما بعدها إلى آخر القطار.

ليس لهذا من علاج إلا فهم العزة بمعناها الدقيق، وهو احترام نفسك في غير احتقار أحد، وأن تقف موقفاً له جانبان، فإن نظرت إلى من هو أعلى منك في المنصب والجاه والجنسية فلا تمكنه أن ينال من نفسك ولو ذرة، ولا أن يتعدى حدوده ولو شعرة؛ وإذا نظرت إلى من هو أسفل منك فلا تتعد حدودك، وإذا شعرت باستخذائه وذلته فأرفع مستواه ما استطعت حتى يصل إلى الحدود على أنه ليس هناك أسفل ولا أعلى إلا في مواضعات سخيفة، فمن الذي قال إن كناس الشارع وضيع وفراش المصلحة وضيع، والخادم في المنزل وضيع؟ نعم إن الحالة الاجتماعية فرقت بين الناس في المرتب ونحوه، ولكن القيمة الحقيقية للإنسان وهي ما له من حقوق وواجبات قدر مشترك بين الجميع.

فليس من حقك أن تنادي بائع الجرائد (يولد) ولا خادمك بأحقر الأسماء، ولا فراش المصلحة بما يشعر باحتقاره، وهو مطالب بالأدب معك، وأنت مطالب بالأدب معه، وليس للجندي حق أن يرفع عصاه على بائع لم يتجاوز حدوده، ولا لأي رئيس أن يخرج عن الأوضاع الأدبية في مخاطبته مرءوسه. فإذا فرغ الرئيس والمرءوس من العمل، وفرغ سائق السيارة ومالكها، وفرغ الضابط والجندي والمعلم والتلميذ فكلهم سواء في الحياة الاجتماعية، وكلهم سواء في الحقوق، لا ذلة لأحد على أحد، ولا اعتزاز من أحد على أحد

(مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!)

احمد أمين

ص: 5

‌السمكة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

حدَّث أحمد بن مسكين الفقيه البغدادي قال: حصلت في مدينة (بلخ) سنة ثلاثين ومائتين، وعالمهما يومئذ شيخ خراسان أبو عبد الرحمن الزاهد صاحب المواعظ والحكم، وهو رجل قلبه من وراء لسانه، ونفسه من وراء قلبه، والفلك الأعلى من وراء نفسه، كأنه يلقى عليه فيما زعموا، وكان يقال له عندهم (لقمان هذه الأمة) لما يعجبهم من حكمه في الزهد والموعظة. وقد حضرت مجالسه وحفظت من كلامه شيئاً كثيراً كقوله: من دخل في مذهبنا هذا، (يعني الطريق) فليجعل على نفسه أربع خصال من الموت: موت أبيض، وموت أسود، وموت أحمر، وموت أخضر، فالموت الأبيض الجوع، والموت الأسود احتمال الأذى، والموت الأحمر مخالفة النفس، والموت الأخضر طرح الرِّقاع بعضها على بعض (يعني ليس المرقعة والخَلَق من الثياب).

وقلت يوما لصاحبه وتلميذه (أبي تراب) وجاريته في تأويل هذا الكلام: قد فهمنا وجه التسمية في الموت الأخضر ما دامت المرقعة خضراء، فما الوجه في الأبيض والأسود والأحمر؟ فجاء بقول لم أرضه، وليس معه دليل، ثم قال: فما عندك أنت؟ قلت: أما الجوع فيميت النفس عن شهواتها ويتركها بيضاء نقية، فذلك الموت الأبيض؛ وأما احتمال الأذى فهو احتمال سواد الوجه عند الناس فهو الموت الأسود؛ وأما مخالفة النفس فهي كإضرام النار فيها، فذلك الموت الأحمر.

قال أحمد بن مسكين: وكنت ذات نهار في مسجد (بلخ) والناس متوافرون ينتظرون (لقمان الأمة) ليسمعوه، وشغله بعض الأمر فراث عليهم، فقالوا: من يعظنا إلى أن يجيء الشيخ؟ فالتفت إلي أبو تراب وقال: أنت رأيت الإمام أحمد بن حنبل، ورأيت بشراً الحافي وفلاناً وفلاناً، فقم فحدث الناس عنهم، فإنما هؤلاء وأمثالهم هم بقايا النبوَّة، ثم أخذ بيدي إلى الاسطوانة التي يجلس إليها إمام خراسان فأجلسني ثمَّة وقعد بين يديّ.

وتطاولت الأعناق، ورماني الناس بأبصارهم، وقالوا: البغدادي! البغدادي! وكأنما ضوعفت عندهم بمجلسي مرة وبنسبتي مرة أخرى، فقلت في نفسي: والله ما في الموت الأحمر ولا الأخضر ولا الأسود موعظة، ولو لبس عزرائيل قوس قزح لأفسد شعر هذه الألوان معناه،

ص: 6

وإنما يجب أن يكون كما يجب أن يكون. ولا موعظة في كلام لم يمتلئ من نفس قائله ليكون عملاً فيتحول في النفوس الأخرى عملاً، ولا يبقى كلاماً؛ وإنه ليس الوعظ تأليف القول للسامع يسمعه، لكنه تأليف النفس لنفس أخرى تراها في كلامها، فيكون هذا الكلام كأنه قرابة بين النفسين، حتى لكأن الدم المتجاذب يجري فيه ويدور في ألفاظه.

وكنت رأيت رؤيا (ببلخ) تتصل بقصة قديمة في بغداد، فقصصتها عليهم، فكانت القصة كما حكيتها أني امتحنت بالفقر في سنة تسع عشرة ومائتين؛ وانحسمت مادتي وقحط منزلي قحطاً شديداً جمع علي الحاجة والضر والمسكنة؛ فلو انكمشت الصحراء المجدبة فصغرت ثم صغرت حتى ترجع أذرعها في أذرع لكانت هي داري يومئذ في محلة باب البصرة من بغداد. وجاء يوم صحراوي كأنما طلعت شمسه من بين الرمل لا من بين السحب، ومرت الشمس على داري في بغداد مرورها على الورقة الجافة المعلقة في الشجرة الخضراء؛ فلم يكن عندنا شيء يسيغه حلق آدمي إذ لم يكن في الدار إلا ترابها وحجارتها وأجذاعها، ولي امرأة ولي منها طفل صغير وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفاً كما تهبط الأرض، فلتمنيت حينئذ لو كنا جرذاناً فنقرض الخشب، وكان جوع الصبي يزيد المرأة ألماً إلى جوعها، وكنت بهما كالجائع بثلاثة بطون خاوية، فقلت في نفسي: إذا لم نأكل الخشب والحجارة فلنأكل بثمنها؛ وجمعت نيتي على بيع الدار والتحول عنها وإن كان خروجي منها كالخروج من جلدي لا يسمى إلا سلخاً وموتاً؛ وبت ليلتي وأنا كالمثخن حُمل من معركة فما يتقلب إلا على جراح تعمل فيه عمل السيوف والأسنة التي عملت فيها.

ثم خرجت بغَلَسٍ لصلاة الصبح، والمسجد يكون في الأرض ولكن السماء تكون فيه، فرأيتني عند نفسي كأني خرجت من الأرض ساعة. ولما قُضيت الصلاة رفع الناس أكفهم يدعون الله تعالى وجرى لساني بهذا الدعاء: اللهم بك أعوذ أن يكون فقري في ديني، أسألك النفع الذي يُصلحني بطاعتك، وأسألك بركة الرضى بقضائك، وأسألك القوة على الطاعة والرضى يا أرحم الراحمين.

ثم جلست أتأمل شأني وأطلت الجلوس في المسجد كأني لم أعد من أهل الزمن فلا تجري علي أحكامه، حتى إذا أرتفع الضحى وابيضت الشمس جاءت حقيقة الحياة فخرجت أتسبب لبيع الدار وانبعثت وما أدري أين أذهب، فما سرت غير بعيد حتى لقيني أبو نصر الصياد

ص: 7

وكنت أعرفه قديماً، فقلت: يا أبا نصر! أنا على بيع الدار فقد ساءت الحال وأحوجت الخصاصة، فأقرضني شيئاً يمسكني على يومي هذا بالقوام من العيش حتى أبيع الدار وأوفيك.

فقال: يا سيدي! خذ هذا المنديل إلى عيالك وأنا على أثرك لاحق بك إلى المنزل. ثم ناولني منديلاً فيه رقاقتان بينهما حلوى وقال: إنهما والله بركة الشيخ.

قلت: ما الشيخ وما القصة؟

قال: وقفت أمس على باب هذا المسجد وقد أنصرف الناس من صلاة الجمعة فمر بي أبو نصر بشر الحافي فقال: مالي أراك في هذا الوقت؟ قلت: ما في البيت دقيق ولا خبز ولا درهم ولا شيء يباع. فقال: الله المستعان؛ احمل شبكتك وتعال إلى الخندق، فحملتها وذهبت معه، فلما انتهينا إلى الخندق قال لي: توضأ وصل ركعتين، ففعلت، فقال سم الله تعالى وألق الشبكة، فسميت وألقيتها، فوقع فيها شيء ثقيل فجعلت أجره فشق علي؛ فقلت له ساعدني فإني أخاف أن تنقطع الشبكة، فجاء وجرها معي فخرجت سمكة عظيمة لم أر مثلها سمناً وعظماً وفراهةً. فقال: خذها وبعها وأشتر بثمنها ما يصلح عيالك. فحملتها فاستقبلني رجل اشتراها، فابتعت لأهلي ما يحتاجون إليه، فلما أكلت وأكلوا ذكرت الشيخ فقلت أهدي له شيئاً، فأخذت هاتين الرقاقتين وجعلت بينهما هذه الحلوى وأتيت إليه فطرقت الباب فقال: من؟ قلت أبو نصر! قال: أفتح وضع ما معك في الدهليز وأدخل، فدخلت وحدثته بما صنعت فقال: الحمد لله على ذلك. فقلت: إني هيأت للبيت شيئاً وقد أكلوا وأكلت ومعي رقاقتان فيهما حلوى.

قال: يا أبا نصر! لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة! أذهب كله أنت وعيالك.

قال أحمد بن مسكين: وكنت من الجوع بحيث لو أصبت رغيفاً لحسبته مائدة أنزلت من السماء، ولكن كلمة الشيخ عن السمكة أشبعتني بمعانيها شبعاً ليس من هذه الدنيا كأنما طعمت منها ثمرة من ثمار الجنة. وطفقت أرددها لنفسي وأتأمل ما تفتق الشهوات على الناس، فأيقنت أن البلاء إنما يصيبنا من أننا نفسر الدنيا على طولها وعرضها بكلمات معدودة، فإذا أستقر في أنفسنا لفظ من ألفاظ هذه الشهوات، استقرت به في النفس كل معانيه من المعاصي والذنوب، وأخذت شياطين هذه المعاني تحوم على قلوبنا فنُصبح مُهيَّئين لهذه

ص: 8

الشياطين عاملين لها ثم عاملين معها، فتدخلنا مداخل السوء في هذه الحياة وتقحمنا في الورطة بعد الورطة وفي الهلكة بعد الهلكة. وما هذه الشياطين إلا كالذباب والبعوض والهوام، لا تحوم إلا على رائحة تجذبها فإن لم تجد في النفس ما تجتمع عليه تفرقت ولم تجتمع، وإذا ألمَّت الواحدة منها بعد الواحدة لم نثبت. فلو أننا طردنا من أنفسنا الكلمات التي أفسدت علينا رؤية الدنيا كما خلقت، لكان للدنيا في أنفسنا شكل آخر أحسن وأجمل من شكلها، ولكانت لنا أعمال أخرى أحسن وأطهر من أعمالنا.

فالشيخ لم يكن في نفسه معنى لكلمة (التلذذ)، وبطرده من نفسه هذا اللفظ الواحد، طرد معاني الشر كلها وصلح له دينه وخلصت نفسه للخير ومعاني الخير. ولو أن رجلاً وضع في نفسه امرأة يعشقها لصارت الدنيا كلها في نفسه كالمخدع ما فيه إلا المرأة وحدها بأسبابها إليه وأسبابه إليها.

وقد كنتُ سمعت في درس شيخنا أحمد بن حنبل هذا الحديث: لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات! فما فهمت والله معناه إلا من كلمة الشيخ في السمكة وقد علمنيها هذا الصياد العامي. فالشياطين تنجذب إلى المعاني، والمعاني يوجدها اللفظ المستقر في القلب استقرار فرض أو شهوة أو طمع؛ فإذا خلا القلب من هذه المعاني فقد أمن منازعتها له وشغله إياه فيصبح فوقها لا بينها، ومتى صار القلب فوق الشهوات ولم يجد من ألفاظها ما يعميه ويعترض نظره إلى الحقائق، انكشفت له هذه الحقائق فانكشف له الملكوت. فإذا وقع بعدُ في واحدة من اللذات ولو (كالرقاقتين والحلوى) استملت الأشياء عليه فحجبته، وعاد بينها أو تحتها، وعميَ عمى اللذة، والحجاب على البصر كأنه تعليق العمى على البصر.

وكنت لا أزال أعجب من سير شيخنا أحمد بن حنبل وقد ضرب بين يدي المعتصم بالسياط حتى غُشي عليه فلم يتحول عن رأيه، فعلمت الآن من كلمة السمكة أنه لم يجعل في نفسه للضرب معنى الضرب، ولا عرف للصبر معنى الصبر الآدمي، ولو هو صبر على هذا صبر الإنسان لجزع وتحول، ولو ضُرب ضَرب الإنسان لتألم وتغير، ولكنه وضع في نفسه معنى ثبات السنة وبقاء الدين وأنه هو الأمة كلها لا أحمد بن حنبل، فلو تحول لتحول الناس ولو ابتدع لابتدعوا؛ فكان صبره صبر أمة كاملة لا صبر رجل فرد، وكان يضرب

ص: 9

بالسياط ونفسه فوق معنى الضرب، فلو قرضوه بالمقاريض نشروه بالمناشير لما نالوا منه شيئاً إذ لم يكن جسمه إلا ثوباً عليه، وكان الرجل هو الفكر ليس غير.

هؤلاء قوم لا يرون فضائلهم فضائل ولكنهم يرونها أمانات قد ائتُمِنوا عليها من الله لتبقى بهم معانيها في هذه الدنيا؛ فهم يزرعون في الأمم زرعاً بيد الله ولا يملك الزرع غير طبيعته، وما كان المعتصم وهو يريد شيخنا على غير رأيه وعقيدته إلا كالأحمق يقول لشجرة التفاح: أثمري غير التفاح.

قال أحمد بن مسكين: أخذت الرقاقتين وأنا أقول في نفسي: لعن الله هذه الدنيا! إن من هوانها على الله أن الإنسان فيها يلبس وجهه كما يلبس نعله. فلو أن إنساناً كانت له نظرة ملائكية ثم أعترض الخلق ينظر في وجوههم لرأى عليها وحولاً وأقذاراً كالتي في نعالهم أو أقذر أو أقبح، ولعله كان لا يرى أجمل الوجوه التي تستهيم الناس وتتصبّاها من الرجال والنساء إلا كالأحذية العتيقة. . .

ولكني أحسست أن في هاتين الرقاقتين سر الشيخ ورأيتهما في يدي كالوثيقتين بخير كثير، فقلت على بركة الله ومضيت إلى داري؛ فلما كنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي فنظرت إلى المنديل وقالت: يا سيدي هذا طفل يتيم جائع ولا صبر له على الجوع فأطعمه شيئاً يرحمك الله، ونظر إلي الطفل نظرة لا أنساها حسبت فيها خشوع ألف عابد يعبدون الله تعالى منقطعين عن الدنيا، بل ما أظن ألف عابد يستطيعون أن يُروا الناس نظرة واحدة كالتي تكون في عين صبي يتيم جائع يسأل الرحمة. إن شدة الهم لتجعل وجوه الأطفال كوجوه القديسين في عين من يراها من الآباء والأمهات، لعجز هؤلاء الصغار عن الشر الآدمي وانقطاعهم إلا من الله والقلب الإنساني، فيظهر وجه أحدهم وكأنه يصرخ بمعانيه يقول: يا رباه يا رباه!

قال أحمد بن مسكين: وخيل إلي حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبع هذا الطفل وأمه، والناس عمي لا يبصرونها، وكأنهم يمرون بها في هذا الموطن مرور الحمير بقصر الملك، لو سئلت فضلت عليه الإسطبل الذي هي فيه. . .

وذكرت امرأتي وأبنها وهما جائعان مذ أمس، غير أني لم أجد لهما في قلبي معنى الزوجة والولد؛ بل معنى هذه المرأة المحتاجة وطفلها، فأسقطتهما عن قلبي ودفعت ما في يدي

ص: 10

للمرأة وقلت لها: خذي وأطعمي أبنك، ووالله ما أملك بيضاء ولا صفراء وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام، ولولا هذه الخلة بي لتقدمت فيما يصلحك. فدمعت عيناها وأشرق وجه الصبي، ولكن طمّ على قلبي ما أنا فيه فلم أجد للدمعة معنى الدمعة ولا للبسمة معنى البسمة.

وقلت في نفسي: أما أنا فأطوى إن لم أصب طعاماً، فقد كان أبو بكر الصديق يطوي ستة أيام، وكان أبن عمر يطوي، وكان فلان وفلان ممن حفظنا أسماءهم وروينا أخبارهم؛ ولكن من للمرأة وأبنها بمثل عقدي ونيتي؟ وكيف لي بهما؟

ومشيت وأنا منكسر منقبض وكأني كنت نسيت كلمة الشيخ (لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة) فذكرتها وصرفت خاطري إليها وشغلت نفسي بتدبرها وقلت: لو أني أشبعت ثلاثة بجوع أثنين لحرمت خمس فضائل وهذه الدنيا محتاجة إلى الفضيلة، وهذه الفضيلة محتاجة إلى مثل هذا العمل، وهذا العمل محتاج إلى أن يكون هكذا، فما يستقيم الأمر إلا كما صنعت.

وكانت الشمس قد انبسطت في السماء وذلك وقت الضحى الأعلى، فملت ناحية وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار ومن يبتاعها، فأنا كذلك إذ مر أبو نصر الصياد وكأنه مُستَطار فرحاً فقال: يا أبا محمد ما يجلسك ههنا وفي دارك الخير والغنى؟ قلت: سبحان الله! من أين خرجت السمكة يا أبا نصر؟

قال: إني لفي الطريق إلى منزلك ومعي ضرورة من القوت أخذتها لعيالك ودراهم استدنتها لك، إذا رجل يستدل الناس على أبيك أو أحد من أهله، ومعه أثقال وأحمال، فقلت له أنا أدلك ومشيت معه أسأله عن خبره وشأنه عند أبيك. فقال: إنه تاجر من البصرة وقد كان أبوك أودعه مالاً من ثلاثين سنة فأفلس وأنكسر المال، ثم ترك البصرة إلى خراسان فصلح أمره على التجارة هناك وأيسر بعد المحنة، وأستظهر بعد الخذلان، وأقبل جده بالثراء والغنى فعاد إلى البصرة، وأراد أن يتحلل فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في هذه الثلاثين سنة وإلى ذلك طرائف وهدايا.

قال أحمد بن مسكين: وأنقلب إلى داري فإذا مال جم وحال جميلة! فقلت: صدق الشيخ: (لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة)! فلو أن هذا الرجل لم يلق في وجهه أبا نصر في

ص: 11

هذه الطريق في هذا اليوم في هذه الساعة لما اهتدى إلي، فقد كان أبي مغموراً لا يعرفه أحد وهو حي، فكيف به ميتاً من وراء عشرين سنة؟

وآليت ليعلمن الله شكري هذه النعمة، فلم تكن لي همة إلا البحث عن المرأة المحتاجة وأبنها فكفيتهما وأجريت عليهما رزقاً، ثم اتجرت في المال وجعلت أربِّه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص حتى تمولت وتأثَّلت.

وكأني قد أعجبتني نفسي وسرني أني قد ملأت سجلات الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كتبت عند الله في الصالحين، فنمت ليلة فرأيتني في يوم القيامة والخلق يموج بعضهم في بعض، والهول هول الكون الأعظم على الإنسان الضعيف يسأل عن كل ما مسه من هذا الكون. وسمعت الصائح يقول: يا معشر بني آدم! سَجَدَت البهائم شكراً الله أنه لم يجعلها من آدم. ورأيت الناس وقد وسعت أبداًنهم فهم يحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقةً مجسمة، حتى لكأن الفاسق على ظهره مدينة كلها مُخزيات!

وقيل: وضعت الموازين وجيء بي لوزن أعمالي. فجعلت سيئاتي في كفة وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى، فطاشت السجلات ورجحت السيئات، كأنما وزنوا الجبل الصخري العظيم الضخم بلفافة من القطن. .

ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنعه فإذا تحت كل حسنة شهوة خفية من شهوات النفس كالرياء والغرور وحب المحْمَدة عند الناس وغيرها فلم يسلم لي شيء وهلكت عني حجتي، إذ الحجة ما يُبينه الميزان، والميزان لم يدلّ إلا على أني فارغ.

وسمعت الصوت: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا

وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وأبنها! فأيقنت أني هالك؛ فلقد كنت أحسن بمائة دينار ضربةً واحدة فما أغنت عني ورأيتها في الميزان مع غيرها شيئاً معلقاً كالغمام حين يكون ساقطاً بين السماء والأرض لا هو في هذه ولا هو في تلك.

ووضعت الرقاقتان وسمعت القائل: لقد طار نصف ثوابهما في ميزان أبي نصر الصياد. فانخذلت انخذالاً شديداً حتى لو كسرت نصفين لكان أخفُّ علي وأهون. بيد أني نظرت فرأيت كفة الحسنات قد نزلت منزلة ورجحت بعض الرجحان.

ص: 12

وسمعت الصوت: ألم يبق له شيء؟ فقبل: بقي هذا

وأنظر ما هذا الذي بقي، فإذا جوع امرأتي وولدي في ذلك اليوم! وإذا هو شيء يوضع في الميزان، وإذا هو ينزل بكفة ويرتفع بالأخرى حتى اعتدلتا بالسوية. وثبت الميزان على ذلك فكنت بين الهلاك والنجاة.

وأسمع الصوت: ألم يبق له شيء؟ فقيل بقي هذا

ونظرت فإذا دموع تلك المرأة المسكينة حين بكت من أثر المعروف في نفسها ومن إيثاري إياها وأبنها على أهلي. ووضعت غرغرة عينيها في الميزان ففارت فطمّت كأنها لجّةٌ من تحت اللجة بحر. وإذا سمكة هائلة قد خرجت من اللجة وقع في نفسي أنها روح تلك الدموع، فجعلت تعظم ولا تزال تعظم، والكفة ترجح ولا تزال ترجح، حتى سمعت الصوت يقول: قد نجا!

وصحت صيحة انتبهت لها فإذا أنا أقول: لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة!

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 13

‌أساليب الكفاح الدولي بين الأمس واليوم

بقلم باحث دبلوماسي كبير

تثير المشاكل العسكرية والسياسية المالية الحاضرة كثيراً من التأملات؛ وأول ما يلاحظ فيها أن أساليب الحرب والكفاح المادية بين الدول قد طرأ عليها تغيير جوهري حاسم، هذا بينما نرى أساليب الكفاح السياسي تقوم في جوهرها على نفس الأسس التي قامت عليها منذ قرون، ويكفي أن نرجع إلى عشرين عاماً فقط، أعني إلى الحرب الكبرى، لنرى إلى أي مدى هائل تطورت أساليب الحرب؛ ففي أثناء الحرب الكبرى كانت الحرب الجوية لا تزال في بدايتها، وكانت المخترعات والأسلحة الجديدة المهلكة مثل الغازات السامة والدبابات لا تزال في دور التجربة، ولم يعلم يومئذ مبلغ فعلها أو أثرها في تطور أساليب الحرب. أما اليوم فقد غدت الأساطيل الجوية أروع وأفعل وسائل الحرب السريعة المهلكة، وغدت الغازات السامة سلاحاً يعتمد عليه ويحسب حسابه ويتحوط لدرئه والوقاية منه في جميع الأمم المتمدنة، وغدت الدبابات الضخمة وحدة فنية ثابتة في معظم الجيوش الكبرى؛ وهذه أمثال فقط مما ذاع وعرف من أسلحة الحرب المعاصرة، ولكن لا ريب أن هناك أسلحة ووسائل مهلكة أخرى لم تعرف ولم تذع بعد، وإن كنا نسمع عنها بعض الروايات الغريبة المدهشة، ومن المحقق أنها يوم تنشب حرب عالمية جديدة، أو حرب طاحنة بين دولتين عظيمتين، ستقع على العالم وقع الصواعق، وتحدث ثورة جديدة هائلة في أساليب الحرب والقتال.

ونرى من الجهة الأخرى منظراً غريباً من مناظر الكفاح الدولي الحديث هو العقوبات الدولية، فهناك اليوم زهاء خمسين دولة من دول العالم، وبينها عدة من الدول العظمى، تبحث في جنيف في فرض عقوبة جديدة على إيطاليا تكون حاسمة في وقف اعتدائها على الحبشة، وذلك بعد أن فرضت عليها العقوبات الاقتصادية الإجماعية وأحدثت في شؤونها الداخلية والاقتصادية أزمات ومتاعب شديدة، وهذه العقوبة الجديدة تنحصر في حظر تصدير البترول والحديد والفحم إلى إيطاليا، والمقدر إن تنفيذ هذه العقوبة يكون ضربة قاضية على المغامرة الإيطالية في الحبشة، وإنه يؤدي سريعاً إلى شل الحركات العسكرية الإيطالية، لأن إيطاليا تعتمد على الخارج في استيراد هذه المواد الحيوية اللازمة لتموين

ص: 14

أسطولها وطياراتها ودباباتها، وكل حركاتها ومشاريعها العسكرية، وحرمانها من هذه المواد يقضي على كل هذه المشاريع والحركات، ويجعل من أساطيلها وطياراتها ودباباتها قطعاً من الحديد والصلب لا حياة فيها؛ ثم نرى الدول تذهب في تفكيرها إلى أبعد من ذلك، فتقدر أن إيطاليا قد استوردت من هذه المواد ما يكفيها زمناً، أو أنها ستظفر على أي حال باستيراد البترول من إحدى الدول التي لا توافق على حظره، فتفكر في وسيلة أخرى هي حظر نقل البترول إلى إيطاليا على سفن الدول المشتركة في توقيع العقوبات، وهذه الدول محدودة معروفة، وإيطاليا لا تملك من سفن نقل البترول ما يكفي لاستيراد ما تبغيه

فهذه وسائل جديدة مبتكرة في ميدان الكفاح الدولي؛ ولكنها لا تخلو من روح القديم أيضاً، بل لا تخلو من وسائله، فهي في الواقع نوع من الحصار السلمي العام، وهي تؤدي إلى نفس النتائج التي يؤدي إليها الحصار العسكري أو البحري، وكل ما هنالك أنه قد أسبغ عليها تأييد دولي عام يجعلها بعيدة عن صفة النضال الشخصي أو المباشر؛ ويقدم إلينا التاريخ الحديث مثلا من هذا الحصار العام الذي يراد به إذلال دولة أو سحقها بالوسائل الاقتصادية، وهو القرار الشهير الذي نابوليون في سنة 1806 والذي يعرف بقرار برلين نسبة إلى البلد الذي صدر فيه؛ فهذا القرار يقضي بوضع الجزائر البريطانية في حالة حصار تام، وبأن تقطع فرنسا وجميع الأمم التابعة لها جميع علائقها الاقتصادية والمالية مع إنكلترا، وأن تقفل جميع الثغور الفرنسية وثغور الأمم التابعة لها في وجه السفن البريطانية؛ وكان نابوليون يرمي بتنظيم هذا الحصار الاقتصادي المطبق إلى سحق تجارة إنكلترا التي هي سر عظمتها وغناها بعد أن عجز عن مكافحتها بالوسائل العسكرية، ولكن إنكلترا أجابت على هذا الحصار بتنظيم المقاطعة التجارية والبحرية ضد فرنسا واتخاذ الإجراءات الانتقامية المماثلة؛ وقد عانت إنكلترا مدى حين آثار هذا الحصار المرهق، ولكن فرنسا عانت أيضاً من آثاره، ولم يوفق نابوليون إلى تحقيق غايته، إذ كانت سياسته قائمة على الغايات والاعتبارات الشخصية، ولم تفز بنوع من التأييد الدولي العام؛ ومن الواضح أن العقوبات الاقتصادية التي توقعها الآن عصبة الأمم على إيطاليا تقوم على فكرة مماثلة في القصد إلى إضعاف الدول المعتدية (إيطاليا) وإخضاعها بالوسائل الاقتصادية، وهي وسائل فعالة في عصرنا، ولكن الفرق بين قرار برلين، وقرار عصبة الأمم أن قرار العصبة يفوز

ص: 15

بما يشبه الإجماع الدولي، وبذلك يتخذ طابعاً دولياً عاماً بدلاً من أن يتخذ طابع الكفاح الشخصي بين دولتين، ويغدو أثره أشد وقعاً وفعلاً.

أما وسائل الكفاح السياسي الذي يضطرم اليوم في أوربا، والذي يراد أن يمهد به للصراع الحربي المقبل، فما زالت تقوم على نفس الأسس التي عرفتها أوربا منذ قرون. وقد مرت عقب انتهاء الحرب الكبرى فترة لاح للعالم فيها أن وسائل الكفاح الدولي القديمة قد عفت، وأن العالم سوف يستقبل عهداً جديداً من الوئام والتفاهم الدولي، وأن المنازعات الدولية يمكن أن تسوى بالوسائل السلمية مثل التحكيم أو الالتجاء لمحكمة دولية عليا؛ وكان للعالم عذره في هذا الاعتقاد وهو يرى عصبة الأمم ومثلها العليا، ومواثيق السلام وعدم الاعتداء يتوالى عقدها منذ ميثاق لوكارنو، ثم يرى ميثاقاً يعقد بتحريم الحرب ونبذها كأداة للسياسة القومية وتنضم إليه أسرة الدول الكبرى كلها؛ ولكن سرعان ما تبدد هذا الحلم، وارتفع الطلاء الخلب الذي كان يغشى هذه المظاهر والدعاوى، وبدت السياسة الدولية في ثوبها الحقيقي القديم، قائمة على نفس الأسس القديمة التي تدفع أوربا ما بين آونة وأخرى إلى معترك الحروب القومية الكبرى.

أما هذه الأسس التي يقوم عليها معترك السياسة الدولية اليوم، فهي اعتبارات السياسة والخصومات والمطامع القومية القديمة، والتوازن الأوربي القديم، الذي يقسم القارة إلى كتل سياسية وعسكرية متشادة متكافئة، لا تكاد تهم إحداها بالتفوق حتى تناهضها أخرى أقوى وأكثر تحفزاً؛ وقد كانت السياسة القومية القديمة تلعب دورها من وراء الستار دائماً حتى إبان ازدهار الدعوة إلى السلام والتفاهم الدولي، أما اليوم وقد اضمحلت هذه الدعوة وانهارت المواثيق السلمية التي عقدت باسمها وفي ظلها، فإن السياسة القومية تسيطر في ميدان النضال بصورة ظاهرة غير منكورة؛ وأوربا القديمة تتجاذبها اليوم عدة جباه سياسية وعسكرية خصيمة؛ وإذا كانت هذه الجباه قد تغيرت أوضاعها عما كانت عليه قبل الحرب الكبرى لتغير في الأوضاع السياسية والجغرافية التي ترتبت على الحرب، فإنها ما زالت تحتفظ في جوهرها بهيكلها القديم؛ فالخصومة الفرنسية الألمانية ما زالت محور التجاذب السياسي والعسكري في أوربا، وحول هذه الخصومة تجتمع القوى المختلفة، فروسيا الشيوعية لأنها تخشى ألمانيا الهتلرية تجنح اليوم إلى الجبهة الفرنسية، بعد أن كانت تجنح

ص: 16

من قبل إلى الجبهة الألمانية؛ وفرنسا تحاول أن تستبقي إلى جانبها جميع حلفائها بالأمس؛ أعني بريطانيا العظمى وبلجيكا وإيطاليا؛ وهي تبذل في سبيل استبقاء صداقة إيطاليا جهودا واضحة، ولا ترى بأساً من أن تمالئها في مشروع اعتدائها على الحبشة لأنها تخشى إن هي سلكت سبيلاً آخر أن تلقي بإيطاليا في أحضان ألمانيا، وألمانيا رابضة متربصة تحاول أن تحدث هذه الثغرة في الجبهة الخصيمة؛ ثم إن فرنسا من جهة أخرى تبذل نفوذها في تسيير دول الاتفاق الصغير - يوجوسلافيا، ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا - نحو الغاية التي تعمل لها دائماً، وهي إحاطة ألمانيا بسياج قوي من الدول الخصيمة؛ والواقع إن ألمانيا ما زالت تشعر أنها بازاء هذه الحركة تقع في نوع من العزلة لسياسية والعسكرية يدفعها إلى البحث عن أنصار وحلفاء، وهي قد استطاعت أن تسلخ بولونيا من أحضان فرنسا، ولكن بولونيا ليست قوة كبرى يعتد بها؛ أما بريطانيا العظمى، فهي تشق سبيلها في هذا المعترك، إلى جانب فرنسا في الغالب، ولكن دون خصومة ظاهرة لألمانيا؛ وهي تخاصم اليوم إيطاليا من أجل المسألة الحبشية ومطامعها الاستعمارية في شرق أفريقيا، ولكنها تحاول أن تجتذب فرنسا إلى جانبها في هذه الخصومة، وقد استطاعت أن تحرز بعض النجاح في هذا السبيل.

والخلاصة إن المعترك الدولي في أوربا يقوم اليوم على نفس الأسس القديمة التي كان يقوم عليها قبل الحرب الكبرى: السياسة القومية، والتوازن الأوربي السياسي والعسكري؛ وإذا لم يكن هذا التوازن قد استقر الآن بصورة فعلية فإنه يسير في سبيل الاستقرار، ومتى تم هذا الاستقرار استطعنا أن نعين المعسكرات الخصيمة التي تشترك في الحرب الأوربية القادمة؛ وإذا قلنا الحرب الأوربية فإنما نعني الحرب العالمية، لأن التوازن الأوربي هو أساس التوازن العالمي؛ وليس في العالم بعد أوربا قوة يعتد بقوتها السياسية غير اليابان وأمريكا؛ فأما اليابان فإنها تتخذ لنفسها موقفا خاصا، ولا يمكن تصورها متحدة مع أي دولة أوربية في ميدان غير الشرق الأقصى، وأما أمريكا فإنه يصعب تصورها ملقية بنفسها في غمر المعركة الأوربية مرة أخرى، ومن المحقق أيضاً إن الذي يقود أوربا إلى ميادين الحرب أو السلام هي نفس الدول التي قادتها إلى الحرب الكبرى وهي ألمانيا وفرنسا وروسيا وبريطانيا العظمى وإيطاليا.

ص: 17

وهنالك عنصر لا يمكن إغفاله في تطور هذا المعترك، هو عنصر الدبلوماسية السرية؛ وقد بلغت الدبلوماسية السرية ذروتها قبيل الحرب الكبرى وفي خلالها، وكانت مبعث طائفة من المفاجآت والتطورات الخطيرة التي غيرت مصاير الحرب، ولم ينقطع هذا العنصر السري في الدبلوماسية الأوربية عن العمل في أي وقت، ولكنه هدأ قليلاً عقب الحرب، أمام اضطرام صيحات السلام والتفاهم الدولي؛ بيد إنه يستعيد الآن كل أهميته القديمة، وإذا لم يكن من المستطاع أن نتلمس آثاره الآن في المعترك الأوربي، فإنه بلا ريب سيحدث أثره في الوقت المناسب. وعلى أي حال فإن السياسة الصريحة لم تكن يوما عماد دول عسكرية استعمارية مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا وروسيا؛ وقد رأينا كيف لعبت المساعي السرية دورها في سلخ إيطاليا عن التحالف الثلاثي أثناء الحرب الكبرى فمثل هذه المساعي يبذل اليوم من جميع النواحي، وإيطاليا ما زالت تقف بين الخصمين القديمين - ألمانيا وفرنسا - في مفترق الطريق، ولا ريب أن المستقبل فياض بمختلف التطورات والمفاجآت

ص: 18

‌الاستعمار والتعليم

للأستاذ ساطع بك الحصري

مدير التعليم العام في وزارة المعارف العراقية

عندما طلب إلي نادي المعلمين إلقاء محاضرة عامة في هذه القاعة خطرت على بالي موضوعات عديدة، اخترت منها موضوع (الاستعمار والتعليم) ولما ذكرت هذا الموضوع في حديث لأحد أصدقائي اعترضني بقوله:(لم اخترت هذا الموضوع وقد تخلصنا من شبح الاستعمار؟) فقلت له حقاً لقد تخلصنا من الاستعمار ولكن بلادنا في اتصال ببلاد لا تزال تلعب فيها أيدي الاستعمار. ولا يسوغ لنا وهذه هي الحال أن نتغاضى عما يضمره الاستعمار من الكيد للأمم المستضعفة؛ زد على ذلك أن للاستعمار أساليب خداعة، فقد عرف المستعمرون كيف يدسون أساليبهم هذه تحت أستار جذابة قد تفوت المرء لأول مرة قبل أن ينفذ إلى دقائقها. وأخشى أن بعض هذه الأساليب قد يصل إلينا ويتسرب إلى أذهاننا وينخر في جسمنا من غير أن نشعر به وننتبه إلى منابعه. لذلك وجب علينا كأمة فتحت عينيها للحياة أن تهتم بهذه المباحث وتمعن في درسها.

لقد أخذ الأوربيون بعد الحرب العظمى يهتمون بسياسة التعليم تنفيذاً لأغراض الاستعمار. وقد عقدوا مؤتمرات عديدة - بعضها قومية وبعضها أممية - للمداولة في هذه الشؤون، وخليق بنا أن ندرس سياسة الاستعمار من حيث علاقتها بالتعليم، ولهذه الملاحظات جئت أتتحدث إليكم هذا المساء عن (الاستعمار والتعليم).

تتعلمون أيها السادة أن كل نظام تعليمي يتكيف عادة بمطالب السياسة العامة، لذلك لا بد لنا ونحن نبحث هذا الموضوع أن نعرف أهداف الاستعمار لنصل إلى أهداف السياسة التعليمية فيه. فلننظر ما هي غاية الاستعمار.

لقد اعتاد علماء الاجتماع أن يقسموا المستعمرات إلى ثلاثة أصناف أساسية من حيث الغايات المتوخاة من الاستعمار وهي: (1) مستعمرات الاتجار (2) مستعمرات الاستغلال (3) مستعمرات الاستيطان.

يبدأ المستعمرون عادة بالاستعمار التجاري، فيختارون ميناء أو نقطة جغرافية مهمة في بلاد ما، فيؤسسون فيها مستعمرة صغيرة يتخذونها مركزاً للاتجار، ومن هذا المركز يعقدون

ص: 19

صلاتهم مع داخل البلاد، فيعملون بذلك على احتكار تجارتها، دون أن يستولوا على داخليتها. فغايتهم من هذه المستعمرة تنحصر في (الاتجار)، غير أنهم كثيراً ما لا يقفون عند هذا الحد بل يتغلغلون في داخلية البلاد، ويستولون على جميع منابع الثروة الموجودة فيها، وهم في هذا السبيل لا يكتفون بتأسيس ما تحتاج إليه التجارة من مؤسسات، بل يتوسعون في مؤسساتهم داخل البلاد ويستولون على كل ما يجب الاستيلاء عليه لاستغلال مرافقها. فالغاية الأصلية من مثل هذه المستعمرات تكون (الاستغلال).

غير أن بعض المستعمرين لا يكتفون بذلك أيضاً، فإنهم لا يقصرون حظهم على استغلال المرافق الاقتصادية والثروة، وإنما يرمون أحياناً إلى تركيز سياسة الاستيطان جاعلين من البلاد التي يستعمرونها وطناً جديداً لأبناء جلدتهم. وهذا أهم أنواع الاستعمار وأشدها خطراً.

وهذه الأنواع لا يختلف بعضها عن بعض اختلافاً كلياً لأن كثيراً ما يحول جشع المستعمرين البلاد التي يستعمرونها من شكل إلى شكل آخر من الأشكال الثلاثة التي ذكرناها.

إن أبرز الأمثلة على (مستعمرات الاتجار) هي المستعمرات التي أحدثها الأوربيون في سواحل الصين. أما أحسن الأمثلة على (مستعمرات الاستغلال) فهي الهند حيث تغلغل الإنكليز وكانت أغراضهم الأولية استنزاف المنافع الاقتصادية من تلك البلاد الغنية المترامية الأطراف. وأما أوضح النماذج لمستعمرات الاستيطان فنجده ماثلاً في كندا وأوستراليا حيث أتخذ المهاجرون من الإنكليز وغيرهم وطناً جديداً لهم فيها.

وقد يتطور الاستعمار في بعض المستعمرات من طور إلى آخر. مثل ذلك تحول الاستعمار في الهند من شكل الاتجار إلى شكل الاستغلال، وتطور الاستعمار في كندا وأوستراليا من الاستغلال إلى الاستيطان، ونجد بعض المستعمرات ينفذ الاستعمار فيها بشكلين في وقت واحد. فقد حل الفرنسيون الجزائر مستعمرين لاستغلالها، ثم ما لبثوا أن أخذوا يرمون إلى سياسة الاستيطان في بعض أقسام الجزائر كما هو واقع.

إن الغايات الثلاث التي ذكرناها هي الغايات الأساسية التي عملت عملها في تأسيس المستعمرات. غير إن المستعمرين أخذوا يتوخون من الاستعمار غايات أخرى لا تقل أهمية

ص: 20

عنها. منها الغاية العسكرية، فبعض الدول تقصد من وراء استعمارها بلداً ما إيجاد قواعد ارتكاز وحركة لجيشها وأسطولها، وبعض الدول لا تكتفي بذلك بل تعمل على إيجاد جنود من أهل البلاد المستعمرة تضيفه إلى جيشها معززة به قواتها المحاربة، وقد تجللت هذه المطامع في الحرب الكبرى، إذ حاولت كل دولة من الدول الاستفادة إلى أقصى حد ممكن من مستعمراتها، فلم تكتف باستنزاف الثروة منها واستغلال خيراتها لمعيشة جنودها، بل عملت على أخذ أفراد من أهالي المستعمرات زادت بهم جيشها.

وإني لأذكر المارشال (ليوتي) الذي يعتبره الفرنسيون مؤسساً للإمبراطورية في أفريقية الشمالية، وقد أسهب هذا القائد الكبير في الخطبة التي ألقاها عند دخوله عضواً في الأكاديمية الفرنسية في وصف (فوائد المستعمرات للجيش) وأعترف بأن أبناء المستعمرات الذين جندوا في خلال الحرب العالمية قد وفروا على فرنسا بما قدموه من تضحيات بأرواحهم ملايين من الأنفس الفرنسية)

وزيادة على ذلك فقد بين المارشال ليوتي في خطبته أن فرنسا استفادت من مدرسة المستعمرات استفادة كبيرة من جهة (تكوين الضباط والقواد) أيضاً، لأن جل قوادها الذين بلغوا بها إلى النصر الأخير قد نشأوا في بيئة المستعمرات، وشب كبار رجالها على المعيشة في البلاد المستعمرة فنشأوا خير نشأة لأن حياة المستعمرات تربي في المستعمر الناشئ القوة المعنوية التي هي دعامة من دعامات الجيش. فالقادة المستعمرون في بلاد الاستعمار يضطرون إلى التذرع بالحزم والتدرب على اتخاذ القرارات الآنية وهم بذلك يتكونون رجالاً أشداء في عقولهم وأخلاقهم.

إن الكتاب والمفكرين من رجال الاستعمار لا يقفون عند هذا الحد في تعداد فوائد المستعمرات، بل يسترسلون في شرح فوائدها المعنوية أيضاً، فيقولون إن المستعمرات لا تكون للدولة المستعمرة مناجم ثروة مادية فحسب، بل هي مباءة استغلال للقوة المعنوية أيضاً، إذ تجد هذه الأمم في المستعمرات مجالاً واسعاً للجد والنشاط والإقدام فيزدهر أملها المرجو في المستقبل. فإن الأمم القانعة بحدودها تعتاد التراخي والكسل، بينما تغير المستعمرات نفسية الأمة وتخلق فيها نشاطاً حياً وآمالاً جديدة، ويمكننا أن نشبه تأثير المستعمرات في نفسية الأمم بتأثير الأولاد في نفسية العائلات، فالولد ينشئ للعائلة أمل

ص: 21

للمستقبل ويحملها على العمل، وكذلك المستعمرة تقدم للأمم المستعمرة دافعا جديداً للحياة والكفاح.

بعد أن ألقينا هذه النظرة العامة عن غايات الاستعمار ومراسيها نستطيع أن ننتقل إلى بحث (سياسة التعليم) في الاستعمار.

إن هذه السياسة تتجلى في ثلاثة أنواع من المعاهد التعليمية

أولا - المعاهد التي يؤسسها المستعمر في وطنه الأصلي لخدمة الاستعمار.

ثانيا - المعاهد التي يؤسسها المستعمر في المستعمرات لتربية أبنائه.

ثالثا - المعاهد التي يؤسسها في المستعمرات لتربية أولاد الأهلين في القطر المستعمَر.

فالنوع الأول من المعاهد التعليمية الاستعمارية سيبقى خارجاً عن نطاق بحثنا هذا، أما النوع الثاني من المعاهد التعليمية التي ينشئها المستعمر في المستعمرات لتربية أولاده فهي أيضاً لا تستدعي اهتمامنا كثيراً لأنها تشبه بوجه عام المعاهد التعليمية التي تنشأ في الوطن الأصلي ولا تختلف عنها إلا من حيث زيادة بعض الدروس لإعداد أولاد المستعمرين للقيام بأعمال استعمارية.

والمهم أن ندقق في النظم التي يرسمها المستعمر لتعليم أولاد الأهلين في المستعمرات وأن نستعرض السياسات المختلفة التي ابتدعت في ذلك. إن أقدم هذه السياسات كانت السياسة السلبية في التعليم، وهي تتلخص في عدم تعليم أحد من أبناء الأهلين، وقد ترمي إلى بذل الجهد في محو المتعلمين، وهذه سياسة تجلت بوضوح تام في أوائل القرن التاسع عشر في أمريكا.

ففي أمريكا الجنوبية عندما ثار الأهلون على المستعمرين الأسبانيين كتب القائد العام إلى مليكه يبشره بانتصار جيشه في إحدى المعارك، وكان مما قال في تلك الرسالة التاريخية:(إنه عامل المتعلمين من أبناء البلاد معاملة العصاة وقضى عليهم قضاء ومحاهم محواً، وإنه استأصل بهذه الصورة فكرة التمرد والعصيان من جذورها استئصالاً تاماً). وحتى في أمريكا الشمالية مثلا كان يحظر في الولايات المتحدة الأمريكية تعليم الزنوج القراءة والكتابة؛ وكان كل أبيض يعلم زنجياً يعاقب بالحبس والجلد. وعلى هذا المنوال كانت سياسة الاستعمار في التعليم بادئ ذي بدء في موقف عدائي مطلق تسعى إلى عدم التعليم،

ص: 22

وتعمل على محو المتعلمين.

غير إن سياسة الاستعمار لم تستطع الاستمرار على هذه الخطة السلبية ولاسيما في المستعمرات الاستغلالية، لأن المستعمرين وجدوا أنفسهم في تلك المستعمرات في حاجة شديدة إلى الاستعانة بأهل البلاد لاستغلال المرافق الاقتصادية والثروات الطبيعية، وشعروا بضرورة تعليمهم لإعدادهم لتلك الأعمال، ولذلك أخذوا يؤسسون معاهد التعليم في المستعمرات؛ وكان العامل الأساسي لتأسيس هذه المعاهد تخريج طائفة من أهالي المستعمرات يخدمون المستعمر في مصالح الحكومة والشركات؛ وفي المشروعات المختلفة التي تتطلبها مقاصد الاستغلال والاستعمار، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى فكر بعض المستعمرين في مسألة التعليم تفكيراً آخر فذهبوا إلى إنه يجب أن يرافق الفتح السياسي فتح معنوي، بحيث يقترب أهالي المستعمرات من المستعمرين إلى أن يندمجوا فيهم اندماجاً، وقد فكروا في سبيل تحقيق هذا الغرض أولاً بنشر لغة المستعمر، وثانياً بتعليم أهالي المستعمرات تعليماً ينشئ في نفوسهم حب المستعمر فيستسلمون له عن طواعية.

وقد برز النوع الأول من سياسة الاستعمار أكثر وضوحاً في الهند في ظل الاستعمار الإنكليزي، كما تجلى النوع الثاني في الجزائر بالاستعمار الفرنسي.

وكان الفرنسيون يأملون من سياستهم هذه تقريب المستعمرين إليهم، وظنوا أنهم بنشرهم لغتهم بينهم وإشرابهم ثقافتهم يغرسون حبهم في قلوب الأهلين، لذلك جعلوا للغة الفرنسية محوراً لكل درس في مناهجهم، وقالوا بصراحة إن المدرسة يجب أن تكون قبل كل شيء معهداً لتعليم اللغة الفرنسية، وكذلك اهتموا بمناهج الأخلاق في المدارس لتعليم أولاد المستعمرات كل ما يحبب الأهلين في الفرنسيين، فنجد في مناهج الأخلاق في مدارس الجزائر مثلا قسماً خاصاً في واجبات الأهلين نحو فرنسا، يشغل حيزا مهماً بين الواجبات الأساسية كالواجبات نحو الله، والواجبات نحو الناس. ومما جاء في هذا المنهج (ما يترتب على أهل الجزائر من الواجبات نحو فرنسا، مقابل الحماية التي تسديها إليهم والعدل الذي أدخلته إلى بلادهم، والأمن الذي نشرته في ربوعهم، ونعم التعليم والحضارة التي أغدقتها عليهم. . . الاحترام الذي يجب أن يشعروا به نحو من يدير البلاد باسم فرنسا، والاحترام الذي يجب أن يظهروه نحو العلم الفرنسي)

ص: 23

وهكذا نجد الاستعمار بعد أن ترك السياسة السلبية في التعليم التي وصفناها سلك طريقاً آخر يمكننا أن نسميه: (التعليم لتسهيل عمل الاستعمار)

على إن التجارب القاسية لقصر التعليم على خدمة الاستعمار وحده قد أسفرت عن نتائج سيئة إذ ما عتمت أن أحدثت رد فعل عند أولاد المستعمرات فقد تغيرت أحوالهم بعد مدة قليلة أو كثيرة من تخرجهم من المدارس، وبدلاً من أن يكونوا مطبوعين على حب المستعمر يتفانون في سبيل خدمته وفق الثمرة التي كانت مرجوة من التعليم الاستعماري، أصبحوا على نقيض ذلك يكرهونه ويكافحونه. فأسقط في أيدي المستعمرين وطفق ساستهم وعلماؤهم يفكرون في الموضوع ويدرسونه فيجدون أنفسهم كلما أمضوا في تعليم أولاد المستعمرات بطرائق تضمن محبة الأهلين لهم، تذهب الجهود سدى، إذ لا يلبث أكثر هؤلاء الأولاد بعد تخرجهم أن يقلبوا للمستعمر ظهر المجن، ففكر علماء المستعمرين في هذه المعضلة فوجدوا أن هذه نتيجة طبيعية، لأن ابن المستعمرات إذا ما قرأ تاريخ الأمة المستعمرة ودرس الثورات وقف على مطالب الشعب من الحكومة يتحمس بهذا الحس برغم أنف المستعمر فيشب راغباً في تطبيق ما درسه. وهكذا تطورت آراء المستعمرين في سياسة التعليم ووقعوا في حيرة مربكة لا يدرون ماذا يفعلون.

هل يركنون في المستعمرات إلى عدم التعليم؟ ولكنهم يعلمون إن عدم التعليم لا يمكنهم من استغلال البلاد المستعمرة، إذ يجبر المستعمر في تلك الحالة على ممارسة الاستغلال في المستعمرات بقواه الذاتية فيضطر إلى الإتيان بالعمال من وطنه الأصلي وهو لا يجد في أمته العدد الكافي منهم، وإذا وُجد فاستقدامهم إلى المستعمرات وتشغيلهم فيها يكلفه كثيراً فيغدو المنتوج الاقتصادي أغلى سعراً بحيث لا يستطيع أن ينافس منتوجات غيره في الأسواق العالمية، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن يكون العامل مفيداً في أي عمل ما لم يكن قد أخذ بنصيب من التعليم في عصر الصناعة الذي نعيش فيه.

وقد ظل المستعمرون في حيرة من هذه المشكلة: التعليم في المستعمرات يؤدي إلى ثورة الأهلين عليهم، وعدم التعليم في المستعمرات يعيقهم عن الاستغلال! ففكروا كثيراً وأخيراً وجدوا ضالتهم بطريقة مبتكرة في سياسة التعليم وهي:(التعليم بغير تثقيف). فقالوا نعلم أولاد المستعمرات من غير أن نثقفهم. نعلمهم تعليماً ضيقاً جداً يجعلهم آلات صماء في

ص: 24

أيدي الاستعمار. وقد بذلت الدول المستعمرة جهودها في وضع نظام للتعليم على هذا الأساس، بجعل التعليم وسيلة ميكانيكية بحتاً إذ يكون لغايات محدودة معينة بدون أن يدخل على هذا التعليم أي عنصر من عناصر الثقافة العامة. وقد تقننوا في إيجاد هذه الأساليب وابتكار طريقة خبيثة لتدريب أبناء المستعمرات على أن يكونوا مسامير في صفحة خشبية، أو عجلات في آلة ميكانيكية، محرومين من أي لون من ألوان الثقافة العامة

وهكذا اتفقت سياسة الاستعمار التعليمية على وجوب الأخذ بالتعليم بدون تثقيف، وهذا آخر ما وصلوا إليه لحل معضلة التعليم في المستعمرات. وقد بدأ المستعمرون من يوم تفتحت قرائحهم بهذا الابتكار يجاهدون في تحقيق غاياتهم، وقد أرادوا أن يموهوا على الناس ويستروا مقاصدهم المعلومة تحت أستار حيل مختلفة، فقالوا بأن هذا النوع من التعليم الابتدائي والعملي هو الذي يفيد أولاد المستعمرات أنفسهم؛ وادعوا بأن التعليم الثانوي والعالي وكل نوع من أنواع التعليم الأوربي بغير الأهلين؛ وقد بذلوا جهوداً عظيمة ليقنعوا الأهلين بذلك، وقاموا بدعايات كثيرة نشروها لبث هذه الفكرة وتوجيه الأمم المستعمرة إلى هذا الضرب من التعليم

مع هذا جابه المستعمرون مشاكل كبيرة: جوبهوا بحقيقة مرة وهي تعذر السيطرة التامة على التعليم في المستعمرات، إذ في وسع ابن المستعمرات الذي يرغب في التعليم ولا يجد في بلاده العلم الذي يريده أن يقصد إلى بلد آخر في طلب العلم

ويجدر بنا أن نذكر في هذا الصدد المناقشات التي جرت في إيطاليا لمعالجة مسألة التعليم في طرابلس الغرب، فعندما أقدموا على إلغاء المدارس الثانوية والعالية والدينية قال أحد رجال التربية في روما خلال مناقشة لهذا الموضوع: إنني لا أوافق على إلغاء هذه المدارس، إذ يجب أن نعلم أننا إذا ألغينا هذه المدارس لا نستطيع أن نمنع الذين يريدون الذهاب من أبناء طرابلس الغرب إلى الجامعة الزيتونية في تونس أو الجامع الأزهر في مصر، وهؤلاء الشبان يحتكون هناك بشبان من أمم مختلفة ويتلقون ثقافات واردة من أنحاء العالم ويرجعون بأفكار أشد وبالاً على سياستنا الاستعمارية. فخير من إلغاء هذه المدارس إذا أن نحدد التعليم في داخل طرابلس الغرب لنؤسس مدرسة عالية نحدد تعليمها ونجعل النشء مرتبطين بها فلا يضطرون إلى السفر إلى الخارج في طلب العلم ويعودون إلى

ص: 25

بلادهم وقد تسممت أفكارهم كما قلت.

إن الخطط التي وضعها المستعمرون في هذا الباب مختلفة باعتبار المشاكل العديدة التي يريدون حسمها فيعمدون لتحقيق كل مأرب من مآربهم بخطة منها. ومما يلفت النظر انتباههم إلى أمر انتقال الطلاب من أبناء المستعمرات من بلد إلى آخر حيث يقتبسون آراء جديدة ويستفهمون نزعات حديثة، لذلك عمدوا إلى تدابير يقدرون من ورائها فصل الأقطار عن بعضها لجعلها مختلفة اللغة.

فقد أخذ الفرنسيون في المغرب يفرقون بين البربر والعرب وغيرهم بحرمان البربر من تعلم اللغة العربية حتى يجعلوهم بعيدين عن التأثر بالمدارس التي تدرس العربية أو ما يكتب بهذه اللغة في الأقطار الأخرى.

وهناك فكرة أحيت بعض الأمل في نفوس المستعمرين وهي السعي لنشر اللغة العامية، وهذه الوسيلة تباعد بين الأقطار العربية وتسهل على المستعمرين أغراضهم. وقد بثوا لهذه الفكرة دعايات منوعة: دعايات بدأها المستعمرون فانطلت مع الأسف على بعض أبناء البلاد المستعمرة إذ أن بعضهم خدعوا بها وروجوا لها، وقد طلا المستعمرون هذه المكيدة تحت عنوان نشر التعليم بين طبقات الشعب وقالوا (ما دام الجمهور في الأقطار العربية لا يعرف اللغة الفصحى غالباً، فيجب تعليمه بلغته المحلية العامية. ولماذا نضيع عليه الوقت في تعليم الفصحى وقواعدها الكثيرة وأساليبها العويصة؟) وقد وجدت هذه الفكرة بعض الأنصار ولا يزال لها مؤيدون في بعض الأقطار العربية مع إنها وليدة الاستعمار!

ومن حسن حظ الأمة العربية أن هذه الفكرة لم تعمر كثيراً في حينها. مع هذا نجد بعض الأوربيين قد أخذوا يعودون إلى هذه الفكرة وصاروا يعتقدون بأن السينما الناطقة والراديو من المسائل التي ستجبر البلاد العربية على أن تفسح مجالاً أوسع للغة العامية لأن التمثيل والكلام باللغة العامية يرضي الدهماء أكثر من الفصحى؛ فيجب علينا نحن أن ننتبه إلى هذا الخطر الأخير خطر انتشار اللغة العامية كما يشتهيه المستعمرون، وهذا الخطر الذي يتمثل أمامنا ربما كان خطراً كبيراً لأن الموضوع يخالطه شيء كثير من المنفعة المادية: لأن التمثيل بالغة العامية يكسب الممثلين أكبر عدد من النظارة، ولا ريب في أن على كل مفكر عربي أن يحارب هذا السلاح الأخير الذي يرجو منه المستعمرون خيراً عظيماً لمقاصدهم

ص: 26

على حساب الضرر البليغ بالبلاد العربية.

ص: 27

‌قصة المكروب كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم

بستور والكلب المسعور

وصل الفائت

أكتشف بستور لقاحاً يحصن الشياه من داء الجمرة، وذلك بإضعاف مكروبها ثم حقنه في الشياه، فتقوى بعد ذلك على مقاومة الداء. ونجح اللقاح واهتزت الدنيا له. وبعد زمن أخذت ألقحة بستور تقتل بعض الشياه بدل تحصينها وكثرت الشكوى. فألقى بستور محاضرة في اللقاح ولم يذكر تلك الشكاوي، وتحدى كوخ وكان حاضراً إلى الحجاج فقام وقال إنه يجيبه بالقلم لا باللسان.

ولم يمض زمن طويل على هذا حتى جاء كوخ بجوابه الموعود، فكان جواباً بين الجد والهزل، شديداً فظيعاً؛ بدأ كوخ بقوله إنه أتى من بعض وكلاء بستور بشيء من هذه المادة الثمينة الغالية التي يقال لها لقاح الجمرة، ثم استطرد يسلقه بلسان سليط:

أحقاً قال بستور إن اللقاح الأول يقتل الفئران ويعفي الخنازير الغينية! إذن لقد قام كوخ بتجربته فوجده لا يقتل حتى الفئران. وبعض عينات غريبة منه قتلت الشياه!

وهل حقاً قال بستور أن لقاحه الثاني يقتل الخنازير الغينية ويعفي الأرانب؟ إذن لقد قام كوخ بتجربة هذا اللقاح أيضاً في دقة وعناية فوجده يقتل الأرانب، ويقتلها في الأغلب قتلاً سريعاً. ووجد أنه يقتل الشياه أحياناً، تلك الشياه التي أراد بستور من هذا كله أن يحصنها من الموت.

ثم أحقاً يعتقد بستور إن هذه اللقاحات لقاحات من مكروب الجمرة، ومن مكروب الجمرة وحده؟ إذن فقد قام كوخ على حذر بامتحانها، فوجدها تعج بمختلف الأحياء، فمن كل كُرَيّة ومن كل عصية دخلت إليها دخول الضيف الثقيل لا أهلاً به ولا سهلاً

وأخيرا، أحقاً إن بستور يتحرق تحرقاً إلى كشف الحقيقة خالصة؟ إذن فلم لم يخبر الناس بجميع النتائج التي جاءت من لقاحه بعد أن شاع استخدامه وذاع؟ لِمَ لَمْ يخبرهم بالحالات الفاشلة الخائبة كما أخبرهم بالحالات الناجحة الصائبة؟

ص: 28

ثم ختم جوابه بقاصمة الظهر، قال:(إن هذا مسلك قد يستساغ في الدعاية لبيت من بيوت التجارة، أما العلم فيجب أن يقيئه قيئاً)

فأجاب بستور على هذا النقد بنشرة تضمنت حجاجاً غريباً لا يجوز حتى على محكّمين في مناظرة بقرية في الريف. استكبر على كوخ أن يدعي أن ألقحته تحوي أخلاطاً من مكروبات. قال: (لقد كانت صناعتي من قديم فصل المكروب وتربيته خالصاً من كل شائبة. صناعة اصطنعتها عشرين عاماً قبل ميلاد كوخ في عالم العلم سنة 1876، فدعواه أني لا أعرف كيف أربي المكروب نقياً لا يمكن أن تكون إلا هزلاً وهذراً)

وأبت الأمة الفرنسية بوطنية صادقة أن تؤمن بأن كوخ استطاع أن يزحزح بطلها العظيم عن عرشه العالي، وأن يبطل ربابته للعلم، وشرك صغراء الأمة في ذلك كبراؤها، وعلى كل حال فما كان ينتظر الناس من ألماني غير هذا؟! وما أسرع ما انتخبوا بستور عضواً في المجمع الفرنسي فمنحوه كبرى المنح التي يطمع فرنسي فيها، وفي يوم جلوسه بين أعضاء المجمع الأربعين الذين يسمونهم بالخالدين قام ارنست رينان بالترحيب به، وهو العبقري الزنديق الذي جعل من يسوع الرب بشراً رجلاً غفر كل شيء لأنه فقه كل شيء؛ عرف رينان أن بستور لو كان ستر الحق لما ذهب هذا بكل فضله، ولم يكن رينان عالماً، ولكن كان له من الحكمة والفطنة ما يدرك به أن بستور أتى بشيء فخم عظيم لما أثبت أن الجراثيم الضعيفة تمنّع الأجسام فلا تنالها الجراثيم القوية، حتى ولو لم تبلغ هذه المناعة مائة في المائة

التقى هذان الرجلاًن في هذا اليوم المهيب، فالتقى منهما نقيضان: بستور المغامر المحارب الوثاب المليء بشتيت من عقائد هوشت عليه أحياناً وجه الحق، ورينان في ضخامته كالجبل يخاطبه جالساً من علٍ بنفس ساكنة مطمئنة لا تهزها الرياح الهوج، وكيف يهتز جسمه لشيء أو تتحرك نفسه لأمر، وهو قد بلغ به الشك أن أرتاب في وجود نفسه، وارتاب في قِيَم الأعمال فلم يقم لعمل فصيره طول القعود من أسمن رجال فرنسا.

رحب رينان ببستور إلى المجتمع فأسماه عبقرياً، وقرن أسمه بأسماء أكبر من عرف من العباقرة، ثم عرج يُقرّع صياد المكروب الشيخ المشلول المضطرب تقريعاً خافتاً خافياً، قال: (إن الحقيقة يا سيدي كالمرأة الغَنِجَة اللعوب، لا تملك بالعاطفة الكثيرة تُبذل لها،

ص: 29

وكثيراً ما تأتيك منصاعة بإعراضك عنها. وقد تسلم إليك قيادها فتظن أنك ملكتها فإذا بها تُفلت من قبضتك، فإذا أنت اصطبرت عليها عادت فوضعت عنقها في يدك. ولا يمنعها وداع وما سقط فيه من دموع أن تعود إلى الظهور، ولكنك إذا أحببتها فغلوت لم يكن لك منها غير البين والقطيعة)

لا أظن أن رينان، وهو الحكيم، خال أن كلماته الجميلات هذه سيكون لها أثراً ولو قليلاً في إصلاح المعوجّ من بستور، ولكنها كلمات ترينا في اختصار علة ما لاقى بستور في حياته من فواجع، وهي تعلمنا ما يجر الرجل المجنون على نفسه من المآسي والأحزان إذ هو خال أنه يستطيع قلب العالم في السبعين عاماً التي أذن الله له أن يحياها

- 7 -

بعدئذ أخذ بستور بضع أنابيب من الزجاج في حلوق الكلاب وهي تتلوى وتتضور من داء الكلَب. وكيف استطاع أن يضع هذه الأنابيب في هذه الحلوق لهذه الضاريات؟ لا يعلم هذا غير الله. هذان خادمان قائمان على فكي كلب قوي عصيّ يفتحان فاه كَرْهاً واغتصاباً. وهذا بستور قائماً في وجه هذا الكلب تكاد لحيته تمس هذه الأنياب وفيها الموت المرير. وهذا هو يمص في أنبوبته من حلق الكلب بعض رغائه، ليأتي منه بعينة يبحث فيها عن مكروب الداء. وأحياناً يناله الرشاش من هذا الرغاء فلا يأبه له وقد جاز أن يكون فيه القضاء

أريد الآن أن أنسى ما قلته عن حب بستور للدعاية، فتصوري عينيه الزرقاوين وهما تحدقان في حلق هذا الكلب الهائج المسعور لا يتفق مع هذه الذكرى

ليت شعري ما الذي وجه بستور إلى صيد مكروب الكلَب؟ لقد كان في الوجود عشرات من الأدواء يجهلها العلماء، أدواء قتلت من الناس أضعاف ما قتل داء الكلَب، ولم يكن بها من الخطر على بحّاثة مغامر مثل الذي كان بهذا الداء اللعين الذي لا ينجو صاحبه أبداً، فما هو إلا أن ينفك الكلب من قيده فتقع الواقعة التي لا مردّ لها

يترجّح عندي أن شاعريته، والفن الخفي في نفسه، هما اللذان دفعاه إلى اختيار هذا الداء على الأدواء جميعاً. قال بستور:(لطال ما ساورتني صرخات ضحايا هذا الذئب المجنون الذي كان يهبط على الناس في شوارع اربوا لما كنت طفلاً. . .). عرف بستور من صباه

ص: 30

كيف كانت دماء الناس تبرد لصوت كلب مسعور. وكر أنه قبل مائة عام أو دونها كان الفرنسيون يشتبهون في الرجل يحسبونه مصاباً بالكلب فيُذعرون فيقومون عليه فيَسُمونه أو يخنقونه أو يطلقون عليه الرصاص. وشاع هذا حتى سنت القوانين لحماية هؤلاء المساكين. ذكر بستور كل هذا فأعتزم أن يعيد في الناس السلام، ويمنع عنهم هذه الآلام والآثام

بدأ بستور هذا البحث الذي انتهى بأن كان أبدع أبحاثه وأصدقها، فإذا به يبدؤه على عادته بالأخطاء. جاء إلى طفل يموت من داء الكلب فأخذ بعض ريقه وامتحنه فوجد فيه جرثومة غريبة ساكنة فأسماها اسماً لا يتصل بالعلم كثيراً، أسماها (مكروبة الثمانية)، وما أسرع ما حاضر أعضاء الأكاديمية وأشار إلى هذه المكروبة بأن لها صلة بالسبب الخافي لداء الكلب، واستقر على هذا الرأي، واستمر يجري في اطمئنان وراء هذا المكروب، ولكنه لم يلبث غير قليل حتى اتضح له أنه إنما جرى وراء برق خُلّب. فإنه بمعونة عونيه وجد هذا المكروب في أفواه أناس أصحاء كثيرين لم يقتربوا من كلب مكلوب أبداً

على أن هذا الضلال لم يدم طويلاً حتى حملت بستور قدماه إلى الطريق الهادي إلى مخابئ هذه الأحياء، قال لنفسه:(لقد قلّت الكلاب المسعورة في هذه الأيام، والشيخ البيطار بوريل لا يبعث الآن لي منها إلا عدداً يسيراً، والمكلوبون من الناس أشد ندرة من الكلاب؛ فلا بد لنا من إحداث داء الكلب في حيوانات في معاملنا كي نستطيع دراسته في تواصل واستمرار)

وكان بستور فات الستين وكان مُتعباً مجهوداً

وذات يوماً جاءوا إلى المعمل بكلب سعران اصطادوه بالوهق ضربوه في عنقه ثم شدوا عليه، فأمرهم بستور فأدخلوه وهو ينذر بالشر إلى قفص به كلاب أخرى كي يعضها ويعطيها من الداء مثل الذي به، وجاء رو وشمبرلاند فأخذا من رُغاء فمه بعض الشيء ومصاه في محقن وحقنا به من الخنازير الغينية ومن الأرانب، واصطبرا ينتظران ظهور الداء فيها، فكان يظهر في بعضها أحياناً ويتخلف عن بعضها أحياناً أخرى فساءهما تخلفه، وعض الكلب المجنون أربعة من الكلاب، ومضت ستة أسابيع فإذا كلبان منها هائجان يضربان في جوانب القفص ويعويان، أما الآخران فمضت أشهر لم يظهر فيها عليهما من

ص: 31

الجنون شيء. أمر يحير الباحث ويغيظه، فهو دائماً ينتظر النتائج الواحدة تأتي من المقدمات الواحدة، وقد اتحدت المقدمات هنا فكيف اختلفت نتائجها؟ لقد ضاع اتساق العلم وانسجامه، لا في هذه الكلاب وحدها، بل في الخنازير والأرانب كذلك، فقد يصاب من الستة الأرانب المحقونة اثنان، يمدان برجليهما الخلفيتين إلى الوراء من الشلل، ثم يموتان بعد ارتجاجات من الصرع عنيفة، أما الأربعة الباقية فتظل قائمة تقضم الحشيش قضماً، فكأنما جرثومة الكلب لم تخلط دمها أبداً

وذات يوم خطرت فكرة على بستور، فأسرع إلى رو يحدثه بها، قال: (إن جرثومة الكلب تدخل أجسام الناس بالعض عن طريق الجلد، ثم هي تستقر بعد ذلك في أمخاخهم وقفار ظهورهم. . . . إن كل الأعراض تدل على أن هذه الجراثيم التي لا نراها ولا نستطيع كشفها تغير دائماً على الجهاز العصبي. ففي هذا الجهاز العصبي إذن يجب أن نبحث عن هذه الجرثومة. .

ومن هذا الجهاز قد نستطيع تزريعها وتربيتها حتى ولو لم نرها. . . ولعلنا نستطيع أن نتخذ من مخ الحيوان طعاماً لها فننمّيها في جمجمته بدلاً من قبابة الحساء. أن نتخذ من الجمجمة والمخ قبابة وحساء أمر غريب، ولكن من يدري؟. . . ثم إننا اعتدنا أن نحقن الرُّغاء الخبيث تحت جلد هذه الأرانب والخنازير، فما أدرانا أن الجرثومات التي به لا تضيع في أجسام هذه الحيوانات قبل وصولها إلى أمخاخها، لوددت والله أن أرشق هذه الجراثيم مباشرة في هذه الأمخاخ رشقاً)

أنصت رو لهذه الأحلام، وانفتحت عيناه وسعهما ولمعتا لهذه الخيالات. . . لو أن رجلاً غير رو سمعها لظن بستور أصابه مس من جنون. يريد أن يتخذ من مخ الكلاب والأرانب بديلاً من الأحسية! ويريد أن يتخذ من جماجمها بديلا من القبابات! أي عبث هذا وأية خرافة تلك! أما رو فكان أفهم لبستور من أن يظن به خبالاً. قال:(وما منعك من وضع المكروب في مخ الكلب مباشرة يا سيدي الأستاذ؟ أنا أستطيع أن أثقب لك به ثقباً صغيراً لا يؤلم الكلب ولا يفسد مخه. وهذا أمر علي يسير. . .)

فصرخ بستور في وجه رو حتى أخرسه. ولم يكن بستور طبيباً، فلم يدر إن الطبيب يستطيع أن يفعل هذا حتى في الإنسان وهو آمن. لهذا أجزعته الفكرة جزعاً كبيراً. (ثقب

ص: 32

يخترق جمجمة الكلب إلى مخه! يا للفظاعة! والكلب كيف يكون ألمه؟ والمخ بعد هذا كيف يكون صلاحه، إن الكلب يشل حتما! لا، لا آذن بهذا؟)

حنان قلب بستور كاد يفقده أكبر كشف أتاه، ويضيّع عليه بل على الإنسان أثمن تحفة أهداها إياه. وأمام هذه التجربة القاسية الغريبة خارت من بستور قواه، ولكن رو، رو الأمين لسيده، رو الذي نسيه اليوم الناس أو كادوا، رو هذا قام يحمي سيده من خور نفسه، فنجاه بأن عصاه. ذلك أنه اصطبر أياماً قلائل حتى غادر بستور المعمل لبعض حاجته، وعندئذ قام إلى كلب سليم فشممه قليل من الكلوروفورم حتى أفقده الإحساس، ثم ثقب رأسه ثقباً كشف عن مخه الحي، فكان يدق بالنبض دقاً بيناً، ثم أتى بقليل من مخ كلب كان قد مات مكلوباً فسحقه وحقن سحيقه في مخ الكلب النائم برفق شديد وهو يقول لنفسه:(لا شك إن سحيق هذا المخ مليء بمكروب الكلَب، فلعله مكروب دقّ فلم يكن باستطاعتنا أن نراه)

وأصبح الصباح فأخبر بستور بالذي كان. فصاح بستور فيه: (ويلك ماذا صنعت بالكلب المسكين! أين المخلوق التعيس. . . لا شك إنه شل. . . لا شك أنه يموت. . .)

ولكن رو كان سبق فنزل بسرعة على السلم، وفي لحظة عاد والكلب ينط أمامه، وإذا بالكلب يتمسح بساقي بستور، ثم يدور يتشمم بين قبابات الأحسية القديمة تحت مناضد المعمل. عندئذ أدرك بستور قدر رو ومبلغ ذكائه. وأدرك كذلك أن طريقاً جديداً للتجربة أنفتح أمامه. ولم يكن بستور يغرم بالكلاب، ومع هذا فإن اغتباطه بالذي سمع ورأى أغراه بملاعبة هذا الكلب خاصة. قال لسانه:(أهلا بكلبي العزيز! أهلا بسيد الكلاب). وقالت أحلامه: (إن هذا الكلب سيثبت أن فكرتي عن هذا الداء صائبة)

ولم يمض أسبوعان حتى تحققت أحلامه، فسيد الكلاب أخذ يعوي عواء أليماً حزيناً، وصار يمزق فراشه ويعض قفصه، ثم مات بعد أيام، نعم مات هذه الميتة القاسية، ولكنه ماتها ليحيا من بعده على نحو ما سنعلم ألوف من الناس كانت تموت مثل ميتته

بهذه الطريقة اهتدى بستور ورو وشمبرلاند أخيراً إلى نقل هذا الداء إلى الحيوانات نقلا أكيداً؛ أعني إنهم إذا حقنوا المكروب في مائة كلب أو خنزير أو أرنب أصاب الداء المائة كلها، وكأني بك تستمع إلى بستور يقول لصاحبيه: (إنّا لا نستطيع أن نرى المكروب ولا بأقوى العدسات، فلا بد أن هذا يرجع إلى شدة صغره. ولسنا نعرف طريقة واحدة لتربيته

ص: 33

في الأحسية بالقبابات، ولكن في استطاعتنا أن نبقيه حياً في مخ الأرنب، فهذه هي الطريقة الوحيدة لحفظه ونمائه)

أوجِد أو يوجَد أعجب من هذه التجربة في كل الذي كان ويكون من صيادة المكروب، أو في أي علم آخر من العلوم! أم هل مارست تلك العلوم أمراً أبعد ما يكون عن المألوف فيها مثل الذي مارسه بستور وصاحباه: مكروبةٌ غير منظورة، كل الذي يعلمونه عن وجودها أنهم يستطيعون نقلها في الأمخاخ والحبال الفقرية في سلسلة طويلة من الأرانب والخنازير والكلاب، وكل برهانهم على كونها، وأن للكلب مكروباً هي مكروبته، موت تلك الأرانب المحقونة في تشنج وارتعاص، والعواء المزعج لتلك الكلاب التي أعملوا في رءوسها المثقاب

ثم أخذ بستور وأعوانه يحاولون أمراً عجباً لا يقول عاقل بإمكانه، ذلك تأنيس تلك المكروبة الفتاكة التي تُرى. وتعطّلوا في محاولتهم هذه بعض التعطل، فذهب رو وتويييه إلى مصر يدافعون مرض الكوليرا ومات تويييه في سبيل ذلك على ما علمت، وذهب بستور إلى بعض زرائب الخنازير في الريف يبحث عن مكروب داء كان تفشى فيها ويطلب لها لقاحاً منه، ولم يطل هذا التعطل طويلاً. واجتنب بستور تلك المنازعات والحجاجات الوضيعة التي كانت تنتهي على الأغلب بذمه والنيل من اسمه وكرامته. وحبس نفسه مع عونيه والحيوانات الشلاّء الخطيرة في معملهم بشارع أُلْم وفي هذه الحبسة أتوا على عدد لا حصر له من التجارب

ووضع بستور رقباء على مساعِدَيه الشابين وأنزلهما المعمل على منضدتيهما فكنت تراهما مكبّين عليها صباح مساء كأنهما بعض الأرقّاء. وكان ينظر ما يصنعانه بإحدى عينيه، وينظر بالأخرى الباب الزجاجيّ للغرفة التي كانا يعملان فيها، فإذا هو رأى أحداً من أصحابهما جاء يدعوهما إلى كأس ببيرة في شُرفة مقهى قريب، أسرع فخرج إلى الدخيل فقال له:(لا، لا، ليس هذا وقته. ألا ترى أنهما مشتغلان؟ إنها تجربة في غاية الخطر ليس في الإمكان أن يقطعاها!)

ومضت على هذه الحال أشهر غبر حسبوا جميعاً عند ختامها أنه لا سبيل إلى إضعاف هذه الجرثومة التي لا ترى، فالمائة من الحيوانات التي يحقنونها بالمكروب بعد محاولة إضعافه

ص: 34

كانت تموت كلها، ومن ترى كان أقرب إلى اليأس في ختام هذه الأشهر؟ أضنك تقول الشيخ العجوز بستور، وأن عونيه الشابين، وقد ملأهما دم الشباب الحار، كانا أعصى من أن يثنيهما هذا الخذلان. إذن لقد أخطأت الحسبان يا سيدي، فالأمر كان على نقيض ذلك

(يتبع)

أحمد زكي

ص: 35

‌في ميدان الاجتهاد

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 2 -

كيف يعود الاجتهاد

ولا بد من عودة إلى ذكر نصوص أخرى فيما كان للسياسة من أثر في نصرة بعض هذه المذاهب على بعض، ولتلك المدارس وأوقافها من أثر في القضاء على الاجتهاد في نفوس العلماء؛ قال الشيخ أبو زرعة في شرح جمع الجوامع: قلت مرة لشيخنا البلقيني: ما يقصر بالشيخ تقي الدين بن السبكي عن رتبة الاجتهاد وقد استكمل الآلة؟ وكيف يقلد؟ ولم أذكره هو استحياء منه لما أريد أن أرتب على ذلك، فسكت عني، ثم قلت ما عندي أن الامتناع من ذلك إلا للوظائف التي قررت للفقهاء على المذاهب الأربعة، وأن من خرج عن ذلك واجتهد لم ينله شيء، وحرم ولاية القضاء، وامتنع الناس من استفتائه، ونسب إلى البدعة، فتبسم ووافقني على ذلك.

وقال الحافظ الذهبي في كتابه (بيان زغل العلم والطلب) عند الكلام على علم أصول الفقه: (أصول الفقه لا حاجة لك به يا مقلد، ويا من يزعم الاجتهاد قد انقطع وما بقي مجتهد، ولا فائدة في أصول الفقه إلا أن يصير محصله مجتهداً، فإذا عرفه ولم يفك تقليد إمامه لم يضع شيئاً، بل أتعب نفسه، وركب على نفسه الحجة في مسائل، وإن كان يقرؤه لتحصيل الوظائف وليقال، فهذا من الوبال، وهو ضرب من الخيال)

وجاء في نيل الابتهاج أن أهل الأندلس التزموا مذهب الاوزاعي حتى قدم عليهم الطبقة الأولى ممن لقي الإمام مالكاً، كزياد بن عبد الرحمن، والغازي بن قيس، وقرعوس ونحوهم، فنشروا مذهبه، وأخذ الأمير هشام الناس به، فالتزموه وحملوا عليه بالسيف إلا من لا يؤبه له

وجاء في نفح الطيب أن سبب حمل ملك الأندلس الناس على هذا المذهب في بعض الأقوال أن الإمام مالكاً سأل عن سيرته بعض الأندلسيين فذكروا له عنها ما أعجبه، فقال نسأل الله تعالى أن يزين حرمنا بملككم، أو كلاما هذا معناه، لأن سيرة بني العباس لم تكن

ص: 36

مرضية عنده، وقد لقي منهم ما لقي مما هو مشهور، فلما بلغ قوله ملك الأندلس مع ما علم من جلالة مالك ودينه، حمل الناس على مذهبه وترك مذهب الأوزاعي

والآن فللشرع في بيان الطريق إلى عود الاجتهاد، وإنه ليس هناك فرصة تنتهز لهذا أقرب من هذه الفرصة التي يتولى فيها أمر الأزهر شيخ من أنصار الاجتهاد، وهو الأستاذ الكبير محمد مصطفى المراغي، ولا ننكر أنه يحيط به هذه المرة عوامل من جهات كثيرة جعلته يصير إلى أمور لم يكن يصير إليها في المرة الأولى، وقد كان يأخذ بالإصلاح فيها غير متأثر بتلك العوامل، ومن هذه الأمور محاولة القضاء على العلوم الرياضية في الأقسام الثانوية بالمعاهد الدينية لتحشر حشرا في الأقسام الأولية، فلا يكون هناك فائدة من دراستها فيها، وكثير منها ليس في نفس طالب القسم الأول الاستعداد لدراسته. ويقال إن الغرض من هذا تفريغ طلاب الأقسام الثانوية لدراسة الكتب الأزهرية كما كانت تدرس قديماً في الأزهر، ولا شك أن ستتبع هذه الخطوة خطوة أخرى في القضاء على هذه العلوم في الأقسام الأولية لتفريغ طلابها أيضاً لدراسة الكتب الأزهرية على تلك الطريقة التي كانت تدرس بها، لأنه لا فرق عند علماء التربية بين هذين القسمين في حياة الطالب، وكلاهما في حياته طور ثقافة عامة لا طور تخصيص لناحية من النواحي العلمية، فما يجري عندنا على أحد القسمين لتلك العلة السابقة لا بد أن يجري على القسم الآخر من أجلها أيضاً، وهناك نعود كما كنا قبل أن نقطع في الإصلاح هذه الأشواط، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وإنه إذا كانت العلوم الرياضية قد زاحمت حقاً العلوم الأزهرية في الأقسام الثانوية، فطريق ذلك أن تختصر دراسة هذه العلوم فيها، لا أن يقضى عليها فيها لتحشر حشراً في الأقسام الأولية

ومن هذه الأمور ما نحن الآن بسبيله من أمر الاجتهاد والعمل على فتح بابه، إذ يخطو الأستاذ المراغي في ذلك خطوة لا يرضاها منه أنصار الاجتهاد، ويجعل دستور (لجنة الفتاوى) التي ألفها من علماء المذاهب الأربعة على هذا النحو (أن تجيب الطالب على المذهب أو المذاهب التي يريد الإجابة على مقتضاها، فإذا لم يعين المستفتي مذهباً أجابته بحكم الله المؤيد بالأدلة من غير تقييد بمذهب من المذاهب الشرعية) فلست أدري معنى لهذا التفريق بين المستفتين، وقصر الإجابة بحكم الله على من يريده منهم، وإنه ليجب أن

ص: 37

تخضع لحكم الله مذاهب الفقهاء لا أن يخضع هو لها، فلا يجاب به المستفتى إلا إذا لم يطلب الفتوى على مذهب من مذاهب الفقهاء، فإذا طلب الفتوى عليها أفتى له بها ولو كان حكم الله المؤيد بالأدلة على خلافها، وأنّا لننزلها بهذا منزلة لم يردها لها أصحابها، ونجعل حكمها فوق حكم الله الذي كانوا يطلبونه فيها، وهم بشر يصيبون ويخطئون، ولم يدع العصمة أحد منهم في اجتهاده. وقد حكى ابن عبد البر عن معن بن عيسى بإسناد متصل به قال سمعت مالكاً يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيبفانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه

وحكى أبن القيم عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما قالا: لا يحل لأحد يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه. وذكر صاحب الهداية في كتابه (روضة العلماء) أنه قيل لأبي حنيفة: إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه؟ قال اتركوا قولي بكتاب الله؛ فقيل إذا كان خبر الرسول يخالفه؟ قال اتركوا قولي بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقيل له: إذا كان قول الصحابي يخالفه؟ قال: اتركوا قولي بقول الصحابي

وروى البيهقي عن الشافعي أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت

وذكر الشعراني في كتابه (الميزان) أن الأئمة كلهم قالوا: إذا صح الحديث فهو مذهبنا وليس لأحد قياس ولا حجة

فإذا ثبت لنا الآن حكم مؤيد بالأدلة فهو حكم الله الذي يقول به أبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم، ولو كانت أقوالهم في حياتهم على خلافه، ولا شك أنا إذا أفتينا في ذلك على المذهب الذي يريد المستفتى الإجابة على مقتضاه نكون بذلك قد خالفنا حكم ذلك المذهب الذي جعل صاحبه حكم الله رائده، وتبرأ من قوله إذا صح حكم الله بخلافه؛ وقد كان من الواجب على الأقل أن يكون دستور هذه (اللجنة) ما ذكره الإمام الشوكاني، فإنه بعد أن ذكر أن المقلد لا يصلح للقضاء وأنه لا يحل له أن يفتي من يسأله عن حكم الله في أمر من الأمور قال: فإن قلت هل يجوز للمجتهد أن يفتي من سأله عن مذهب رجل معين وينقله له؟ قلت يجوز ذلك بشرط أن يقول بعد نقل ذلك الرأي أو المذهب إذا كانا على غير الصواب مقالا يصرح به أو يلوح ان الحق خلاف ذلك، فإن الله أخذ على العلماء البيان

ص: 38

للناس، وهذا منه، لا سيما إذا كان يعرف أن السائل سيعتقد ذلك الرأي أو المذهب المخالف للصواب

ومن المهم في ذلك أن الإمام الشوكاني لم يبح للمفتي المقلد أن يفتي إلا من يسأله عن قول فلان أو رأي فلان، ولم يبح له أن يفتي من يسأله عن الله أو حكم رسوله أو عن الحق أو عن الثابت في الشريعة أو عما يحل له أو يحرم عليه، لأن المقلد لا يدري واحدا من هذه الأمور على التحقيق، بل لا يعرفها إلا المجتهد؛ وهكذا إن سأله السائل سؤالا مطلقا من غير أن يقيده بأحد الأمور المتقدمة، فلا يحل للمقلد أن يفتيه بشيء من ذلك لأن السؤال المطلق ينصرف إلى الشريعة المطهرة، لا إلى قول قائل أو رأي صاحب رأي. وهذه (اللجنة) قد ألفت من علماء المذاهب الأربعة، فهم مقلدون لا مجتهدون؛ وقد أبيح لهم أن يفتوا من لم يبين مذهبا في فتواه بحكم الله المؤيد بالأدلة، من غير تقيد بمذهب من المذاهب الشرعية ولا يمكن لهم أن يفتوا بهذا إلا إذا خلعوا عن أنفسهم صفة التقليد، وادعوا لأنفسهم صفة الاجتهاد، ولا شك أن أكثر هؤلاء الأعضاء إن لم يكونوا كلهم لا يدعون لأنفسهم هذه الصفة وإنه ليسرنا أن يدعوها لأنفسهم. ولكنه يحول دون ذلك قبولهم أن يفتوا بحكم المذاهب الفقهية من يسألهم عنها وألا يبينوا حكم الله إلا لمن لا يعين في فتواه مذهبا من هذه المذاهب، اللهم إلا أن يدعوا لأنفسهم الجمع بين الصفتين، ويكون هذا من غرائب دستور (لجنتهم) ولكننا نجل إخواننا من أعضاء (اللجنة) عن هذه الدعوى، ونعتقد أنهم سيعملون على إصلاح وجهتها، وصرفها إما إلى الاجتهاد الخالص أو التقليد الخالص، ليكونوا إما مجتهدين بحق وإما مقلدين

فتلك الخطوة التي خطاها الأستاذ المراغي إلى الاجتهاد خطوة ضئيلة جدا، ولا يصح أبداً أن تكون نتيجة لذلك الجهاد الطويل الذي قام به الداعون إلى الإصلاح وفتح باب الاجتهاد من عهد جمال الدين الأفغاني إلى الآن، وهي خطوة من السهل أن ينظر إليها أنصار التقليد إذا آل الأمر إليهم وكأنها لم تكن، ونحن نريد أن نفتح باب الاجتهاد فتحاً صريحاً يكون في المستقبل حجة لأنصاره، وتكأة يعتمدون عليها، وحجة على أنصار التقليد يؤخذون بها، والفرصة الآن سانحة بالتفاف رجال الأزهر حول الأستاذ المراغي، واختيارهم له جميعاً على أنه رجل الإصلاح وخليفة الإمامين الصالحين: محمد عبده، وجمال الدين

ص: 39

فلنبادر من الآن بالدعوة إلى عقد مؤتمر يجمع علماء الدين الإسلامي في سائر البلاد الإسلامية على اختلاف مذاهبهم، من رجال المذاهب الأربعة، إلى رجال الشيعة الزيدية، إلى رجال الشيعة الإمامية، إلى رجال الأباضية الباقين من فرق الخوارج، إلى أنصار الاجتهاد الذين لا يأخذون بمذهب من هذه المذاهب ليكون فتح باب الاجتهاد في هذا المؤتمر أمراً حاسماً لا يمكن أن يجادل فيه بعد هذا أنصار التقليد، وينظم فيه أمر الاجتهاد تنظيما يفتتح بابه لأهله، ويغلقه دون من ليس أهلا له، ويخط له الطريق إلى معالجة المسائل المهمة التي أدت إلى جمود الفقه الإسلامي، وعدم تمشيه مع حاجة المسلمين، ويعلو به عما نشتغل به الآن من الخلاف في أمور لا أهمية لها، من قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، والزيادة المعروفة في الآذان، وما إلى ذلك من الأمور التي نضيع وقتنا سدى في الخلاف فيها

ولقد أراني أبعدت في الأمل بعد أن سكنت من زمن بعيد إلى اليأس، ومضيت في سبيلي لا ألوى على أحد؛ على أني سأمضي في هذا السبيل الجديد بعد أن فتحت بابه على نفسي؛ وأنا امرؤ لا يعرف الإحجام، ولم يعود نفسه إلا الإقدام.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 40

‌رسائل حاج

3 -

من ربوع الغرب إلى بلاد العرب

للمستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس أستاذ التاريخ

بجامعة بودابست

كنت لا أزال منزويا في مقدم الباخرة، حينما أسفرت أضواء الفجر الشاحبة عن هذه البقاع الإسلامية المقدسة، فإذا (بجدة) تسمو في السماء اللازوردية، بينما تترامى أمواج البحر على أقدامها، تشقه عشرات البواخر والزوارق في حركة متواصلة، يتصاعد منها صخب داوٍ اختلطت فيه كافة لغات الشرق، فأعادت إلى ذهني المكدود بابل بأسواقها وشعوبها، إلا إن المدينة الخالدة كانت تبدو فوق هذه الحياة اللاغطة، كأنما تسمو خلوداً فوق مظاهر مدنيتنا الحديثة الزائلة وقد برزت منها مآذن في دقة الحراب وقباب كانت شاحبة البياض قبل أن يدنسها دخان بواخر الغرب فكانت ترسو في ظلها المراكب الشراعية حاملة طوائف المسلمين من الهند وجاوة وسومطرا والصين وشواطئ أفريقيا

وأقترب الصباح فاستعد الركاب للنزول وبدءوا يستقلون الزوارق الخفيفة، وكان النساء يرتدين تلك الملابس البيضاء، سافرات الوجوه، لا يجرؤ أحد على أن يتطلع إليهن بنظرة، ومن ذا الذي في قلبه مرض فينظر إليهن في هذه الساعة الرهيبة نظرة اشتهاء؟ وفي الواقع إن الجاذبية الجنسية كانت منعدمة تماماً؟ وقد أبعد الحجاج عن خواطرهم شتى صور الحياة حتى لا يحول شيء بينهم وبين الوصول بقلوبهم إلى نور الله الواحد القهار

وكان على الشاطئ حشد من الحمالين والمطوفين ومراقبي جوازات السفر وفريق من موظفي الحكومة لجباية الضرائب وهم جميعاً يتكلمون لغات شتى. فما إن يهبط عليهم أحد الحجاج حتى يلتقطه المطوف ويقوده إلى الموظفين المختصين وبعد إتمام الإجراءات الرسمية يصحبه إلى المسكن المعد لإقامته

وجاء دوري، فلما سئلت أمام مراقب الجوازات تطلع إلى وسألني عن جنسيتي فأجبته: من بلاد المجر. . . عند ذلك أظهر ارتباكاً، إذ لم يسبق له أن سمع قبل اليوم ببلادنا؛ وأخيراً أسر إليّ بأن مسألتي من المسائل التي يبت الأمير فيها بنفسه. وأشار إلى أحد رجال الشرطة وأمره بأن يقودني إلى دار الأمير لأنه هو الذي بيده سلطة التصريح لي بالسفر

ص: 41

إلى مكة. وكانت دار الأمير تبعد عن الميناء مسافة لا تقل عن نصف ساعة سيراً على الأقدام. ولبيت الأمر فسرت مع ذلك الشرطي نتجاذب أطراف الحديث في طرق معبدة ملساء، غير أنه كان من سوء حظي أن أحد مسامير الخف الذي كنت أنتعله، برز من موضعه ودخل في قدمي فأحدث لي ألماً شديداً ظل أثره أياماً طوالاً

وما إن انتهت مقابلتي للأمير، وقد استغرقت نحو ساعة، حتى عدت إلى الباخرة، وكنت قد نسيت أني تركت أمتعتي في الزورق البخاري، ولقد كان أسفي لضياعها عظيماً، وكم عنفت نفسي لوقوعي في مثل هذا الإهمال الذي كانت نتيجته ضياع الأمتعة بما فيها الكتب! وكدت أقطع الأمل من العثور عليها، ولكن الله سلم، فإن النظام المحكم الذي يقوم به رجال الشرطة في الحكومة السعودية أتاح لي أن أعثر عليها بسهولة في إحدى قاعات الجمرك وعليها بطاقة باسمي. وبعد ساعة قادني المطوف إلى دار الأستاذ محمد ناصيف الذي كنت أحمل إليه كتاب توصية، وما كاد يتلوه حتى رحب بي على طريقة العرب في شوق وترحاب، وغمرني بكل صنوف الكرم التي لن أنساها؛ وتلك لعمري إحدى مفاخر الإسلام التي تتجلى عظمتها في كل مناحي الحياة

والأستاذ محمد ناصيف فوق أنه من سراة الحجاز رجل مثقف ثقافة عربية ناضجة، وتضم داره مكتبة زاخرة لا يكاد الإنسانيرى مثيلها في بعض الأقطار الأوروبية أو الأسيوية، وله رفاق يلتفون حوله كأسراب الطيور، ليلتقطوا من حديثه الشهي الحكم البالغة والآيات البينات

تبعد جدة عن مكة بمسافة 79 كيلومترا، وتشبه مبانيها الاستحكامات العسكرية، ودورها مرتفعة ارتفاعاً شاهقاً، وهي مكونة من جملة أدوار، بينما تتوج جدة قباب المساجد المقدسة، واسمة إياها بذلك الطابع الفريد الذي يميزها دون سائر مدن العالم

ومن الغريب أن قناصل الدول والوزراء المفوضين يقيمون في جدة دون أن يتخطوها إلى داخل الأراضي المقدسة؛ ويستحضر رجال الهيئة السياسية طعامهم من الخارج، حتى الماء يجلبونه من مصر، لأن مياه جدة أجاجية غير صالحة للشرب

وتستقبل أسواق جدة عادة زبائن من كافة بقاع العالم، ولا يفتأ تجارها يستحضرون أنواعا من السلع لا تناسب بينها مطلقاً، بل هي خليط من أذواق مختلفة ومشارب متباينة وبعد أن

ص: 42

قضيت في ضيافة الأستاذ محمد ناصيف بضعة أيام صدرت الأوامر بالسماح لنا بالسفر إلى مكة. والواقع أن الفترة التي قضيتها في دار ذلك الشيخ الجليل دفعتني إلى الإيمان الشديد بأن الفوارق الجنسية لا أثر لها مطلقا في الإسلام، بعكس ما نشاهده في الحضارة الأوربية من الإشادة بالقوميات والعصبيات وغيرها من المشكلات الاجتماعية التي تثيرها روح التعصب الأعمى. وصادف أن رافقني في السيارة إلى مكة خمسة عشر زنجياً من أهالي الصومال، وكنا في خلال الطريق لا ننقطع أن نهتف: لبيك اللهم لبيك! وهنا يجدر بي أن أنوه للمرة الثانية بعظمة الإسلام التي تتجلى في عدم التفرقة بين الكبير والصغير والرئيس والمرءوس، فالكل سواسية؛ وقد شعرت بتلك الحقيقة وأنا بصحبة هؤلاء العبيد الفقراء، وقارنت بين ذلك وبين الفروق الشاسعة في أوربا الموجهة نحو احتقار العناصر الضعيفة والتفرقة ين الألوان

كانت السيارة تنطلق بنا في طريق ممهد لا يمله النظر في كل جزء من أجزائه، الطريق سلكه قبلنا ملوك وعظماء وأنبياء منذ مئات السنين، وكانت السيارة كلما مرت بقافلة من القوافل نظر الأعراب إلى تلك الآلة الجهنمية التي تنبعث منها أصوات منفرة وروائح كريهة، في شيء من الحنق والغيظ. فقد أصبح النقل اليوم في أكثر طرق الحجاز بالسيارات تمشياً مع مقتضيات الحضارة الحديثة، مع إن البدو كانوا يربحون الشيء الكثير من نقل الحجاج بالإبل، وكانت النقود التي تدفع إليهم تبقى في حوزتهم، أما السيارة فإن ثمنها وأثمان وقودها وقطع تغييرها تتسرب الآن إلى خارج البلاد، فلا عجب إذا نظر إليها البدو في شيء من الحنق ونقموا على من كانوا سبباً في إدخال تلك (الآلة الجهنمية) إلى الصحراء، وهم يقولون إن الإنسان يجب أن يركب في سبيل الحج أشد الأمور، فلا يخال نفسه ذاهباً إلى سياحة هادئة، ويتذرع بوسائل الراحة والرفاهية مما يلقاه في السيارة؛ وبمقارنة الإبل بالسيارة، نجد إن للأولى قوة احتمال على الجوع والعطش، بعكس السيارة التي تحتاج إلى تجديد الماء كل أربعة ساعات، والوقود كلما نفد، فضلاً عن جهل السائق بميكانيكيتها مما يسبب عطلها في الطريق وتترك الحجاج في العراء إلى أن تقدم سيارة أخرى

أجل! لقد أزعجت السيارة ذلك الهدوء الشامل في الصحراء وأقضت مضاجع الأعراب

ص: 43

وحولت طمأنينتهم إلى نوع من الثورة على الحضارة الأوربية وما تقدمه إليهم من كهرباء وطيارات ولاسلكي

دخلت سيارتنا مكة في منتصف الليل تقريباً فراعني أن أرى الناس في الشوارع، يغطون في نومهم ويحلمون بالجنة التي هم بها موعودون، لا سيما وأنهم أصبحوا على قاب قوسين منها. أهاج هذا المنظر خاطري فأنبثق في نفسي شعور خفي وأنا أستقبل تلك الأرض المقدسة التي وطئتها قدما الرسول وكانت خير منارة للحق، فهددت الناس إلى السبيل القويم

وقصدت لساعتي إلى دار مطوفي، وهي دار رحبة عالية البنيان، بها غرف في الدور الأسفل، أعدت لاستقبال الحجاج الجدد عند وصولهم إلى مكة. وبعد أن رحب بي المطوف سألني عما إذا كنت في حاجة إلى طعام أو شراب فأجبته بالنفي، إذ كنت لا أزال غارقا في نهار من الأحاسيس الخفية، معللا النفس بقرب بزوغ النهار للطواف بالكعبة المقدسة

وما أن غشيت غرفتي واستلقيت على البساط حتى أغمضت عيني واستولى عليّ النعاس، فتخيلت الرسول الكريم وقد بدا أمامي في شكل نوراني، يكاد يخطف الأبصار، وكأنما هو ينشر كلمة الله فيضئ بها العالم يدعو الخلق إلى كلمة الحق، ورأيت الخلفاء الأربعة يتوسطون حلقات من الناس طبقا لقواعد الدين الحنيف، ويسودون العالم بالحكمة والمحبة لا بالعنف والشدة، ثم تخيلت هارون الرشيد وهو يجول أناء الليل في شوارع بغداد ويجوس في خلال أزقتها ودروبها، فيكافئ الأتقياء وينزل عقوبته بالمجرمين، وانبسطت أمامي بلاد الأندلس الزاهرة وقد سادها حكم العرب، فنشروا بين ربوعها العلم والحكمة والفلسفة والفلك والفقه حتى أصبحت هذه العلوم كشجرة مباركة فرعها في السماء، وأظلت بأوراقها اليافعة الخضراء تجاه مكة المكرمة والكعبة الشريفة؛ ولا يظن أحد أن ما شهدته كان من قبيل الرؤيا أو أضغاث أحلام، بل هي أشباح خالدة تطوف بذهن كل مسلم صادق العقيدة متوجه إلى الله بقلب نقي طاهر

وعند انبثاق الفجر نهضنا من النوم على أصوات ملائكية، كأنها هابطة من السماء، تلك هي أصوات المؤذنين يدعون المؤمنين إلى صلاة الفجر التي هي خير من النوم، فقمت مهرولاً، وبعد أن توضأت يممت شطر المسجد الحرام ومعي مطوفي، وكنت أؤدي الصلاة المفروضة طبقاً لإرشاده، ثم بدأت أطوف بالكعبة فسرني أن رأيت ألوفاً من الحجاج، من

ص: 44

كافة الألوان والأجناس، يقبلون في لهفة على لثم الحجر الأسود، وهو رمز تاريخي للإسلام، كان الرسول الكريم يتبرك به ويقبله؛ وتبعه في ذلك الخلفاء الراشدون، وظلت تلك العادة متبعة للآن؛ وقد حاولت ولقد حاولت مراراً أن أقترب منه فكان يبعدني عن بلوغه كثرة الزحام، وبعد مشقة لمست بيدي سطحه الرمادي الأملس، ولكن ما كدت ألثمه حتى رأيت سيدة من أهالي فرجانة تقع على الأرض إثر صدمات عنيفة من الخلف، وكانت تحمل على ظهرها طفلتها المسكينة التي ستصبح حاجة بعد حين، ولقد قدمت هذه المرأة التقية إلى الحج ممتطية صهوة جواد مع بقية أفراد أسرتها، من بلدها في أواسط آسيا فاستغرق سفرهم أربعة أشهر؛ ولقد أخبرتني هذه الحاجة أنها كانت تدخر لهذه الزيارة المقدسة من سنوات بعيدة، وأخيرا حققت حلمها وكانت مبتهجة أشد الابتهاج

وقمت بعد ذلك للسعي بين الصفا والمروة، وهناك نالني كثير من الشقاء والعناء، فجلست بجوار حلاق أخذ يقص خصلة من شعري المبعثر عملاً بالسنة الشريفة، ولبثت في انتظار مطوفي ليأخذني إلى جبل عرفات

إن اللقاء على جبل عرفات لهو الغرض الأساسي تقريباً للحج، فالحجاج الذين يفدون إلى جدة متفرقين، يجتمعون كلهم في يوم واحد ويحشرون إلى صعيد واحد، وهنا تظهر عظمة الدين الحنيف وحكمته، فقد كان مجموع الحجاج فوق عرفات لا يقل عن خمسين ألفاً، مع إن مكة بمساحتها الشاسعة لا تستطيع أن تأوي مثل هذا العدد الوافر

وجبل عرفات من أجمل جبال العالم، يصل الماء إليه من (عين زبيدة) في أنابيب، وهو عمل عظيم في ذاته، لأنه يخفف من متاعب الحجاج للحصول على الماء. وهناك تل يطلقون عليه (جبل الرحمة) به مصلى كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي فيه

ولقد رأيت الحرس الوهابي يقيم على تلك البقعة ليمنع الحجاج من إقامة الصلاة بالقرب منها، كما إنهم يحرمون على الحجاج السجود أمام العمد الحجرية المسندة إليها

والوهابيون يعارضون أشد المعارضة في تدخين التبغ، ولكني رأيت أن هذه العادة تكاد تتلاشى، وألفيت كثيراً من الناس يدخنون في الطرق العامة حتى في الجبل وبجوار المصلى، كما أبطلوا عادة الخطابة التي كانت تلقى على ظهر البعير

(يتبع)

ص: 45

عبد الكريم جرمانوس

ص: 46

‌بين الثريا والثرى

للأستاذ عبد الرحمن شكري

الحمل والجدي والسرطان: هي الأبراج المعروفة بهذه الأسماء، والمعنى هو أن الشباب لا يهتم بما يخبئ له القدر، كما يهتم من يرصد الأفلاك والأبراج ليعرف منها ما يخبئه له القدر

(الناظم)

الشباب

تذكرني الشباب، وقد علونا

به فوق المجرة والنجوم

ونحن الخالدون، وكان حقاً

خلوُّ الخالدين من الهموم

سوى الحزن الذي عقباه ضِحْكٌ

يرن صداه في ضحك الهزيم

وطئنا فوق أطلال الدرارى

وأشرفنا على بيد السديم

فلا حمل ولا جدي رقبنا

ولا السرطان ذو البرج العظيم

وما من صولة الأقدار خفنا

ولا لاحت لنا مثل الغيوم

بأرواح لها في الأفق مسعى

وتحليق على العيش البهيم

ركضنا في السماء لكل نجم

حُنُوَّ الطير للزهر العميم

وحوَّلنا وجوه الكون كأسا

حسوناها ولم تَكُ من كروم

ولم نعبأ بما تُخْفِي الليالي

ولم نَخْشَ المنية في الهجوم

وأسْلَفَنا الزمان نعيم عيش

ولم نحذر مقاضاة الغريم

وكنا في ائتلاف الشمل نحكي

نظام الشهب والدر النظيم

المشيب

سكنا الأرض بعد الأفق دارا

وأُنزِلنا إلى بطن الأديم

وأُفْهِمْنَا القضاَء، ما فهمنا

وقُلْ ما شئتَ في لغو العليم

وكُسِّرَت القوادم والخوافي

وهِيض العظم في الجسم الكليم

صحونا للحياة، وما تراه

من الخُلُقِ المُقَبَّحِ والذميم

ص: 47

فمن حذر إلى بخل وذل

وسوء الظن بالخلِّ الحميم

أَطَلَ الموت من كَثَبِ علينا

وظِل الموت أصبح كالنديم

تُرَوِّعُنَا الصروف بكل خطب

وخطب الموت أهون للفهيم

وضاعت جِدَّةُ الدنيا وصارت

كأطمار على جسم العديم

يحاربنا التذكر والتمني

كلا الأمرين يُفْضِي للهموم

وقدما قد نعمنا بالتمني

وأمَّلْنَا الخلود على النعيم

وليت الذكر، وهو نذير شجو

يدوم بروقة العهد القديم

سننسى أننا كنا قديماً

على هام الثريا والنجوم

عبد الرحمن شكري

ص: 48

‌الليلة الثانية عشرة

للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير

إحدى روايات شكسبير الخالدة يترجمها إلى العربية شعراً الشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير، وقد تصرف تصرفاً لا يضير بجمال الأصل، بل يزيده أحياناً وضوحاً وحسناً؛ كما فعل في التورية اللفظية التي قصد إليها شكسبير في كلمتي (الوعل)(القلب) فقد نقل المترجم الصيد من البر إلى البحر ليتسنى له الإتيان بمثل هذه التورية في اللغة العربية، وإلى القارئ المشهد الأول من الرواية:

المشهد الأول - في قصر الدوق

يدخل الدوق و (كريو) وأشراف آخرون، حيث فرقة الموسيقى على استعداد للدوق:

هات ألحانك يا عازف إن

تكن الألحان للحب غذاء!

هاتها! زدنيَ منها فعسى

أن يلاقي حتفَه منها امتلاء!

أعِدِ اللحن الذي غنّيتَه!

إنه طاب على السمع غناَء

كاد من رقته يفنى! فلم

يَدَعِ الشجو له الاذماَء!

رفَّ بالسمع جَنوباً عَطِراً

سرق الروض شذاه ثم جاَء

قَدْكَ! قف لحنك هذا لم يَعُدْ

عندي الآن وما قبلُ سَواَء

آه رُوحَ الحب! ما ألطف مس

راكِ في النفس وأقواك مضاَء

قوةٌ هائلة أنت، فقد

كدت تطغين على ماضي القضاءْ

قوة حُوَّلَةٌ قُلبه

أبداً تَبْدين في ألف رواءْ

أين منك البحر عُظماً وقُوَىً؟

إنه ماءٌ وأنتِ الكهرباءْ!

تسقط الأنهارُ في البحر فلا

تعدم التأثيرَ فيه والثّواء

وهمومُ النفس مهما عظُمت

وسمت أوجا، وشطّت في غلاءْ

دون أمواجكِ في ثانيةٍ

تتلاشى كالتماعٍ من ضياءْ!

فإذا الغالي رخيصٌ، وإذا ال

أوج قعْر، وإذا الأسْر عياء

كريو:

مولاي! هل لك في صي

د البال؟ فالجو حالي

ص: 49

الدوق:

ويلك! هل أنا إلاّ

في الصيد! والبال بالي!

أعزُّ شيءٍ بجسمي

قدراً. وأنفَسُ غالِ

أوّلَ ما زلزلْتني

بطَرْفها القتَّال

(أوليفيا)، وهدتني

للحبّ بعد الضلال

هناك صُيِّرتُ بالاً

مضرِّساً بالنكال

مطارَداً طول أيّا

مه وطول الليالي!

اكتنفَتْه شِباكٌ

من كل وجه وحال

خيوطها من همومي

ونجما من خيالي!!

(يدخل فالنتين)

- هات عنها! ماذا وراءك؟

- ما ير

ضيك مولاي! لو رُزِقتُ القبولا

سلّمتْني عنها الوصيفةُ هذا ال

ردَّ منها - وما أُراه جميلا -:

لن يرى الكون نفسه وجهَها السَّا

فرَ سبعاً كسبع يوسف طولا!

نذرَت أن تبقى كراهبة الدَّيْ

ر عليها نقابُها مسدولا

كل يوم تطوف بالبيت بالدم

ع يبل الثَّرى ويُحفى المسيلا

كل هذا من أجل موت أخ كا

ن إليها المحبب المأمولا

رُزئَتْه فأقسمتْ لَتُديمَنَّ (م)

أساها عليه دهراً طويلاً

الدوق:

زِهِ! ضمَّتْ إذا - إلهي لك الحم

د ُ! - إلى حسنها الشّعورَ النبيلا!

كان هذا وفاءها لأخيها

كيف بالله لو أحبّت خليلا!

لَوْ إليها (كوبيد) سدّد يوماً

سهمه المُذْهَب اللطيف القتولا!

فغدا في فؤادها كلُّ همٍّ

شاغلٍ - دونه صريعاً قتيلا

واعتلى عرشَ قلبها مَلِك فرْ

دٌ كفرعونِ مصر دانَ النيلا!

سِرْ أمامي إلى أريكٍ من الزَّه

ر أهدهِدْ بها الفؤادَ قليلا!

ص: 50

حيث تُلفى خواطرُ الحب في أك

نافها مرتعاً خصيباً ظليلا!!

علي أحمد باكثير

ص: 51

‌الشاعر

للسيد رياض معلوف

من كتابه (الأوتار المتقطعة) الذي صدر حديثا

شاعر في شفتيه

كلمات مُنْزَلهْ!

ضاقت الأرض عليه لطموحهْ

وخيالهْ

جذوة في مقلتيه

رُوحه المشتعلهْ

قطرة من محجر الله ورُوحِه

وجمالهْ

شاعر إن شدا وردَّدا شعرا

فنياط القلوب من أوتارهْ

ما ابتسام الربيع ألطف ثغرا

منه حتى لو كان في نَوَّارهْ

ودموع الصباح أطهر دمعا

منه فوق الخدود من أزهاره

أين شدْو الهزار في الروض منه

لا يجاريه روضه بهزاره

هو (مُوسِّيهُ) هل سمعت نواحا

في الليالي أرق من أشعاره

وهو (دَنْتِي) هلا رأيت جحيما

بكتاب حروفُه جَمْرُ ناره

والمعرى، رغم العمى (ضوء سقط)

يهتدي التائهون من أنواره

رياض معلوف

ص: 52

‌يد الأيام

للسيد الياس قنصل

لو كانت الأيام تقضى مرةً

للمرءِ ما يصبو إليه، معجبا

لخلعتُ عن نفسي ثيابَ رزانتي

ورجعتُ مسروراً إلى عهد الصَّبى

هي حقبةَ في العمر يحرس صفوَها

ظلٌّ من الطهر الصميم ظليلُ

وكأنها لخلوِّها من كلِّ ما

يئدُ العواطفَ للكمال سبيلُ

يسخو الزمان بما لديه على الذي

رضىَ الوجودُ بأن يريه ضياَءهُ

لكن حُمَّاه ترافق جودَه

سراً، وتتلف ما يفوق عطاَءهُ

إني بلغتُ إلى الشباب مضيّعا

من حيث لا أدري جمالَ هنائي

في كل يومٍ كان يهلك بعضُ ما

زخرتْ به نفسي من الآراءِ

فإذا التفتُّ إلى الوراء رأيتني

أشلاء ضمّتها الليالي الماضيَه

ووجدت حولي ما يماثل غربةً

تغشى بلاقعَها الأماني الذاويَه

والحق أني قد غُبنتُ ولم أفزْ

إلا بساعات من الآلامِ

ما خبرتي إلا شعور طهارةٍ

خنقْته في صدري يدُ الأيامِ

(عاصمة الأرجنتين)

الياس قنصل

ص: 53

‌فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

30 -

تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

الناحية الإيجابية من مذهب نيتتشه

السوبرمان أو الإنسان الأعلى

للأستاذ خليل هنداوي

لنفترض أن هذه القوى يتفاعل بعضها ببعض تتبعاً لقانون المصادفة والتدابير المتعاقبة، وأن الترتيب اللاحق مؤثر في الترتيب السابق، فما عسى يقوم في أزلية الزمان؟ أرانا إذ ذاك مضطرين إلى القول بأن هذه القوى لم تبلغ بعد نقطة التوازن ولن تبلغها أبداً، إذ لو كان هذا الترتيب في استطاعته أن يظهر يوما ما، لاستطاع إذا أن يظهر لتطاول الزمن الغابر. والعالم - عند ذلك - يصبح جامداً ساكناً لا يتحرك، لأن من المحال أن تضل هذه القوى عن (نقطة التوازن والاستواء) بعد أن أدركتها ووصلت إليها. فنحن إذا أمام القول بأن شحنة من القوى الثابتة المعينة تولد - في هذه الآماد - تدابير لا تنبتر وحالات لا تتناهى. وبما عن الزمان لا نهاية له، وبما إن هذه الشحنة من القوى هي معينة محدودة، فسوف تأتي لحظة - مهما كانت هذه القوى عظيمة ومهما كانت آثارها الناشئة عنها كثيرة - نرى فيها هذه اللعبة الطبيعية غير العاقلة تولد (تدبيراً) أو تهتدي إلى حالة تستقر عندها وتقف عليها.

ولكن هذه الحالة أو هذا الانتقال سيجر وراءه سلسلة تامة من الحالات المتسببة عنه، من حيث أن الحركة العالية تولد ذات الأشياء وتمشي باستمرار على دائرة واسعة. كل حياة خاصة هي جزء من هذا الدور الكلي. وكل فرد قد عاش الحياة ذاتها مرات لا تحصى وسيعيشها إلى الأبد. كل الحالات التي يمكن للوجود أن يبلغها قد بلغها في الماضي مرات متعددة. قد كان مرة، ومرات عديدة سيكون وسيعود. وكل القوى السابقة متوزعة اليوم توزعها بالأمس

أيها الإنسان! إن الحياة كلها كمرملة ترش دائماً وتجمع دائماً. وكل خليقة من هذه الخلائق لا تنفصل عن الأخرى إلا بقدر تلك اللحظة الطويلة الضرورية لها حتى تعود تلك

ص: 54

الضرورات التي كانت سبب ولادتها، فتعود إلى الظهور. والولادة حالة محلها في (الدور العالمي) وعند ذلك ستجد كل شقاء وكل غبطة، وكل صديق وكل عدو، وكل أمل وكل ضلال، وكل غرسة وكل شعاعة من الشمس، وكل نظام الأشياء، وهذا الدور الذي أنت فيه مثله مثل الحبة سينبثق من جديد

في كل دور من أدوار الوجود الإنساني، لكل إنسان - على الأغلب - ساعة تظهر فيها الفكرة القوية القائلة (بالرجعة الدائمة) لسائر الأشياء. وهذه الساعة التي تبلغها الإنسانية هي ساعة (الهاجرة)

وما إن بدأ نيتشه هذا المذهب حتى سرى في روحه، وغمر فكره، وغلب على قلبه؛ وقد عزم على أن يغامر بعشرة أعوام من عمره، يدرس التاريخ الطبيعي لكي يستطيع أن يبني مذهبه هذا على قواعد علمية ثابتة، ولكنه لاذ بالصمت وأدرك خيبته في زعمه هذا. ولكن فكرة الرجعة الدائمة ظلت تتجاذب فكره، وظل يدور حولها. وهذه الفكرة كانت إحدى هبات (زرادشت) الكبرى إلى رجاله

وقد وضح جلياً تأثير هذه الغمة التي غشيت نيتشه يوم أصبح يؤمن بهذه الرجعة الدائمة. ولن نستطيع أن نتخيل حلاً لمسألة الوجود أظلم وأبهم من هذا الحل، فالوجود لا يعني شيئاً، إنه وليد مقادير عمياء، ينتج من وراء مصادفاته الخالية من الشعور قوى يمتزج بعضها ببعض، فيخلق بعض النماذج على حسب المصادفات. أما الحركة الشاملة للوجود فهي لا تقود جزءاً منه ولا قسما. وإنما هي تدور حول نفسها بدون انقطاع في نفس الدائرة، وهذه الحياة التي نحياها سنكررها إلى ما لا نهاية، دون أن يكون هناك رجاء في التغير. وفي كل لحظة مشحونة بالكآبة والشقاء والسأم سنحياها مرات لا تحصى. فهل في الإمكان أن نتخيل ما يصنع هذا الافتراض في جماعات المنحطين والمرضى والمتشائمين، وفي كل من نرجح كفة شقائهم على كفة فرحهم؟ إن عند أغلب الناس - كما يبدو - فكرة تشبه فكرة العودة الدائمة؛ تظل وإن لم تكن مبنية على مبدأ معين - غير مؤذية ولا ضارة، لأنها تبغي فكرة مجردة خارجة عن الإدراك، لأن مخيلتنا غير قادرة على إخراج هذه الفكرة إلى حيز الحقيقة، ولأن المعارف التي يتلقاها عقلنا لا تعين إلا قليلاً من قوتنا الحاسة. ولكن نيتتشه هو الذي يهب الحياة لتعاليمه، وهو يتفلسف بكل وجوده

ص: 55

وقد يشاهد أن الرجعة الدائمة أخذت تظهر في بعض اللحظات ككابوس شيطاني يملأ قلبك رعباً ويقف دقات قلبك، وقسوته على المنحطين والأشقياء بدأت الآن ترتدي غير رداء، وقد وضح ما يريد في صيحته هذه (ليموتوا سريعاً. ليقتلوا أنفسهم، أو ليقتلوا، هؤلاء المنحطون. . . .!! من قبل أن يتمكنوا من قياس هاوية الآلام التي غرقوا فيها، وقبل أن يفقهوا معنى القدر الوحشي الذي يقضي عليهم بان يجرجروا صلبانهم بدون أمل في نجاة، وإذ ذاك تفهم إذا كانت الإنسانية في استطاعتها أن تتحمل هذا المذهب دون أن تزل سريعاً في هاوية اليأس والخوف، أو أن تعتبر فكرة العودة الدائمة كابتلاء يهوى به من لا تصلح حيويتهم

لابد من قوة نفسية خارقة لاحتمال فكرة العودة الدائمة وهذا هو صاحب هذه القوة النفسية يستطيع أن يقول (إذا لم يكن للحياة معنى بذاتها فأنا أعطيها معنى. إنما أنا قطعة من الطبيعة تريد أن تكون دائماً جديدة، تسعى بدون سأم ولا نصب إلى ما لا نهاية في الحلقة ذاتها. إنني سأرتفع وأصعد حتى يتسنى لي أن أتأمل كفنان روعة الحياة المخصبة التي لا تفهم. وسأهتز طرباً إلى لعبة هذه القوى التي أنتجت وحصلت كثيراً من الآثار اللطيفة الرائعة. والتي ولدت الإنسان وستلد السوبرمان. سأتمنى بكل قلبي وإيماني من القوة العمياء أن تبدع شيئاً لامعاً ساطعاً يسمو على الإنسان. وسأحيا يراودني هذا الأمل، وسأجعل وجودي كله وعاء لهذه الفكرة. أريد أن للدائرة التي تتحرك فيها الحياة تحور إكليلا باهراً زاهراً. سأقضي حياتي فرحاً مرحاً، راجياً أن يؤول دوري الذي أمثله إلى نتيجة حسنة. وإذا خسرتُ - في هذا الدور - فلي رجاء كبير فيمن يليني ويأتي بعدي. وهكذا لا يتلاشى من الوجود ضياء الحياة ولا يكفهر. وهكذا الإنسان المأخوذ بهذه الفكرة التي تزيده نشوة، يصبح في حالة يبصر فيها هزائمه وانكساراته كفدية يسيرة لأفراحه وانتصاراته. يجدها كالنخس الذي يدفعه دائماً إلى التعالي والتسامي، إلى تفوقه على نفسه. وهكذا إذا رجع إلى محاسبة نفسه يرى إن مقدار سروره كان أرجح من مقدار ألمه وإذ ذاك يرضى بكل حمية وشوق فكرة الحياة الخالدة، وفكرة القبول بالحياة التي يكررها إلى الأبد

ولهذه النتيجة تسامى أولئك الرجال المسلمون الذين جمعهم زرادشت في مغارته. فحين عرض عليهم تعاليمه الجديدة وفضائله الجديدة، وفتح عيونهم على جمال الحياة وروعة

ص: 56

الحياة، وحين شفاهم من تشاؤمهم ورفع نفوسهم التي أوشكت أن تنحني تحت أثقال الكآبة والسآمة، جمعهم تحت جنح الظلام أمام المغارة تحت قبة السماء

(جلسوا صامتين متهيبين. كلهم في سن الكهولة ولكن قلوبهم تفيض قوة وحياة، وكل منهم راضٍ بنفسه عن نفسه إذ غدا شيئاً صالحاً على الأرض، وكان سكون الليل المفعم بالأسرار يناجي قلوبهم. عند ذلك تمت أعجوبة الأعاجيب. فالإنسان الأكثر قبحاً جلس ينفخ للمرة الأخيرة، وحين دعاه داعي الكلام قال: هذا السؤال الذي خرج من فمه طاهراً نقياً عميقاً، وجميع من كان حوله يصغون إليه أحسوا إن قلوبهم تهتز وتخفق طرباً

قال: (هأنا - لأول مرة - غدوت راضياً عن حياتي

جميلة الحياة على الأرض. إن يوماً واحداً، إن عيداً واحداً مع زرادشت علماني بأن أحب الأرض

سألت الموت: هل - هنالك - الحياة؟

ألا لتأت مرة أخرى

أصحابي! ألا تريدون أن تقولوا للموت مثلي: هل هنالك الحياة؟ وفي سبيل محبة زرادشت لتكن مرة أخرى)

أفلح إذ ذاك زرادشت. فإن الرجل الأكثر قبحاً، والمسخ الذي قتل بعضه الإله، الذي يتمثل فيه كل قبح وشر وسوء في الإنسانية قد تلقى الآن جمال الحياة، وأدرك أن الألم هو فدية لا مندوحة منها للسعادة، فقال: - بلى للوجود. وبينما كان النبي محاطاً بأتباعه، يتذوق خمرة هذا النصر كان يتهادى ناقوس قديم ذي رنين حاد يعلن ببطء - مجيء نصف الليل - أن نصف الليل هو الساعة الواحدة التي يلتقي فيها النهار الذي انتهى بالنهار الذي سيبتدئ، حيث يصافح الموت الحياة. نصف الليل هو ساعة الصمت الأكبر، حيث النفس المتأملة تتفتح لها التأملات والأسرار الخفية. وبينما كان الناقوس القديم، الرسول الذي يقرع لأفراح الإنسانية وأوجاعها، يعلن بدقاته الأثنتي عشرة عن تلك اللحظة التي يجوز فيها الموت إلى الحياة؛ نرى زرادشت يترك رجاله السامين يلمحون الفكرة الكبرى للرجعة الدائمة غارقة في الألغاز كأنها مزمور رمزي ممطر بالنشوة الدينية

1: ألا احترس أيها الإنسان!

ص: 57

2: ماذا يقول منتصف الليل العميق؟

3: كنتُ أنام، كنت أنام

4: هأنا قد تيقظت من حلم عميق

5: الوجود هو عميق

6: اعمق مما لم يفكر فيه النهار

7: وعميق شقاؤه

8: وفرحه أعمق من ألمه

9: الشقاء يقول لك: اهلك

10: ولكن كل فرح يبتغي الخلود

11: يبتغي الخلود، الخلود العميق

(انتهى البحث في فلسفة نيتشه)

(خليل هنداوي)

ص: 58

‌القصص

مأساة من أسخيلوس

2 -

أجاممنون

للأستاذ دريني خشبه

(آرجوس!)

(وطني العزيز!)

(أربابي!. . .)

(لكم في عنقي دين أبدي من الشكر، وفي فمي لسان رطب لا يفتر عن ثناء؛ فلولاكم ما نسمت هذا العبق الحلو الذي يتأرج به هواء هذا البلد، ولا ظفرت باليوم الخالدة، دولة بريام، ودرة هذا الزمان! أجل! فلقد بدء الآلهة ما ألم بشرفنا القومي، وحاق بعزتنا الوطنية، فقضت أن تكون طروادة نهباً مقسماً لا يحل إلا للهيلانيين، فلا تزال ألسن النيران تعلن في الخافقين حكمة السماء من أبراجها الشاهقة، وصياصيها السامقة، وقصورها الشماء. . . وغداً تصبح صعيداً جُرُزاً وطللاً بالياً. . . من أجل من؟ من أجل امرأة!

أما أنتم يا رعاياي فأشكر لكم إخلاصكم ووفاءكم وتعلقكم بهذا العرش الذي يستمد قوته منكم وما يزال يرتقي بتأييدكم. . . وسننظر فيما تم إذ نحن نازحون عن الديار فنجزى كلاً بما عمل، ولا نقضي عن إساءة المسيء، ولا نتسامح في تألب المتألبين. . .

يا آلهة النصر. . . لك الحمد ولك الثناء. . . لا زلت تباركين آرجوس، ولا برحت أياديك تُنَضِّر هذا الوطن)

- 16 -

وما يكاد الملك ينتهي من كلمته حتى تدخل الملكة. . . الملكة كليتمنسترا. . . أو الحية الرقطاء!. . . التي لا تفتأ تتحدث إلى الملأ من حبها للملك، وعن الآلام المبرحة التي عصفت بقلبها أثناء غيابه، والوحشة التي ظلت تخيم على!! (بلببوديه) العتيق الشاهق طيلة هذه السنين العشر. . . وتتحدث عن الإشاعات المحزنة التي تناقلتها الألسن عن الملك المفدى في ميدان إليوم. . . ثم. . ترى ألا بد من كلمة عن هذا الأمير الصغير المنفي. . .

ص: 59

أورست. . . الذي هو (ثمرة حبنا وواسطة عقدنا، والنور الإلهي الذي يغمر قلبينا ويؤلف بين روحينا. . . إنه ينشأ ويشب ويترعرع في كف صديقنا وحليفنا، وحافظ ودنا، الأمير ستروفيوس، صاحب فوسيز، الذي تفضل فحماني في غيبتك، وذاد عن قصرك المنيف تكالب الأرجيف. . .

ولقد كنت أتقلب على إبر الشوك حنيناً إليك، وشوقاً إلى لقائك. . . وكنت أبداً حزينة كاسفة لأن النيران لم تشتمل مؤذنة بأوبتك. . ولكن. . . ها أنت تعود فنعيد الآمال إلى القلوب الواجفة، والإيمان إلى النفوس التي نكأها اليأس، والرجاء إلى كل من عزه الرجاء. . . .)

ثم تختل الملك وتخدعه، عسى أن تنطلي عليه تدبيراتها السود فيلج معها في القصر، وتنفذ فيه الغيلة الرائعة الرهيبة التي رسمتها له، والتي آلت إلا أن تكون بيدها. . . وبسلاح عاشقها الآثم إبجستوس. .

(. . . والآن هلم يا ملكي. . . يا رجاء آرجوس وفخر هيلاس كلها. . . هلم فترجل من تلك العربة الفخمة الفاخرة ذات الأوشية، وطأ أرض القصر العتيد بقدميك الراسختين كما وطأت بها عز طروادة ومنعتها.)

وتكون الملكة قد أعدت بساطاً كبيراً من الخز الأحمر الأرجواني ليمشي عليه الملك، فتأمر قيانها وجواريها أن يبسطنه على المرمر الناصع. . . (ليخطر عليه ملكي، وليتم بهاء اليوم. . . . وأبهة النصر. . . بما عاد رب البلاد ظافراً!)

- 17 -

وتصدع الجواري فيبسطنه

ولكن أجاممنون، الذي كان الوسواس يملأ قلبه، والشك يذوب في كل قطرة من دمه، وسرطان الهم ينهش نفسه الحائرة. . . ظل في عربته متردداً. . .

ذلك إن كاسندرا، تلك النبية الجالسة بجانبه، ابنة بريام التي جلبها معه لتكون خليلة له في الـ - (بلببوديه) - كانت قد تحدثت إلى الملك، فكشفت له أستار الغيب، وتنبأت عما ينتظره من دم. . . وغدر. . . وما ينتظرها هي أيضاً من مثل هذا المصير الأحمر. . . والقدر المخبوء. . .

وكانت أصداء النبوءة التي ملأت بها كاسندرا روع الملك، ما تزال تتجاوب أصداؤها في

ص: 60

قلبه، وتهتف به بألف لسان أن. . . يحترس! فقال للملكة:

(إيه يا ابنة ليداء، وحارسة عرشي وحامية صولجاني! لقد استطالت تهنئاتك بقدر ما استطال نأيي وشط نزوحي عن آرجوس! بيد أنني كنت أؤثر الثناء الموشى من غيرك، وكنت أؤثر ألا أرى فيك تلك الغادة اللعوب من غادات الشرق السحري. . . تتحوى وتتلوى. . وتلقي رجلها بكل مصنوع ومجلوب! ثم ما هذا البساط الأحمر الحريري؟ هل أصبح أجاممنون إلهاً؟ إن البسط الحمراء لا يخطر عليها غير الآلهة. . . فهي حق مقدس لهم. . أما بنو الموتى، فليس أجلب للذعر، وأدنى للرهبة، من أن يتطاولوا على حقوق الأولمب، ويؤثروا أنفسهم بما ينبغي أن يبقى للسماء!. . . . والمجد. . . . بعد كل ذلك. . . لا يعوزه أن يسير على مهاد من المخمل، أو أن يهز أعطافه في حلل الدمقس. . . إيه! الخلود والمجد لمن تنتهي حياته الحافلة في أمان وسلام!)

- (ماذا أيها الملك؟ هلم فحدثني. . . واجل في خافيتك؛ ماذا تريد أن تقول؟)

- (سأجلو لك كل شيء حتى لا يكون خفاء بيننا:)

- (قد تكون نذرت هذا في ملمة نزلت بك!)

- (بديهة حاضرة يا ابنة ليدا؟)

- (وما كان من أمر بريام؟ وبم أستحق هذه النهاية إذن؟)

- (أغلب ظني أنه فرش طريقه بالخز والديباج. . .؟ فحنقت عليه الآلهة؟)

- (أنت تأبه كثيراً لما عسى أن يتقول الغوغاء!)

- (وأي شيء هو أعنف من تقولات الغوغاء؟)

- (من لا حسود له، لا معجب به!)

- (آفة المرأة أنها أبداً تثير الشغب والاضطراب!)

- (حاشاي! بيد أنه من العظمة للمرأة أن تخضع فاتحاً عظيماً (كفاتح طروادة!))

- (أفنحن إذن في معركة حتى يشتد حرصك على الغلبة فيها؟)

- (هلم. . ترجل. . دعني أنتصر على قاهر طروادة!)

- (إذا كان لابد من هذا، فمري أحداً بنزع حذائي، فقد يطلع أحد الآلهة من ذروة الأولمب فيرى إلى أطأ الخز الأحمر الأرجواني بهما، فينقم علي ويثور بي. . . كم أضطرب حين

ص: 61

أخطو خطوة واحدة على هذا الديباج؟. . .)

(تتقدم جارية من جواري الملكة فتنزع حذاءه)

- (إيه. . . قُضي الأمر. . . ولكني أرجوك أن تتقبلي هذه الغريبة النازحة في حنان وفي حب. . . فما تزال السموات يتبسمن كلما اطلعن فشهدتنا نتلطف في استعمال جبروتنا!. . . لقد منحني الجيش إياها من سبي اليوم. . (يترجّل وتظل كاسندرا بمكانها من العربة). . . فأما وقد ظفرت بطلبتك، فإني أمشي على هذا الأرجوان إلى قاعة العرش)

وتتملقه الملكة بكلمات فيدخل إلى قاعة العرش، وتضرع كليتمنسترا إلى سيد الأولمب أن يحرس ما دبرت، وأن يتولى الغيلة التي أعدت للملك ببركاته!!

- 18 -

ويترنم الخورس بأنشودة شفافة، ينعكس في صفائها غدر المرأة وشدة مكرها. . .

ثم تتحضر الملكة فتشير إلى كاسندرا قائلة: (. . . هلمي فادخلي أنت أيضاً يا كاسندرا. . . أدخلي. . . ما دامت السموات قد ساقتك إلى هنا لنتقاسم أمواه هذا المطهر القرباني. . . هلمي. . . انزلي من هذه العربة المطهمة التي يبدو أنها نفخت أوداجك بريح الكبرياء!. . . . انزلي ولا يؤلمك ما أنت فيه من أسر وذلة ونفي. . . فما أنت بخير من ابن ألكمين العظيم الذي قضى ردحاً طويلاً في ربقة الأسار. . . عند ملك جبار. . . هنا. . . . في نفس هذا القصر! إنه لشرف أي شرف أن تخدمي في الـ (بيلوبيديه)، ما دمت قد استسلمت لنزوة أحلامك حتى فقت بها حدودك يا فتاة! انزلي. . . فآن لك أن تشمخي بأنفك، وتتيهي على أندادك، لأنك ستكونين جارية من جواري ملكة آرجوس!)

رئيس المنشدين: (لقد قالت وقد سمعتِ! وكلامهما بين. . . أوه! مالك مكدودة هكذا؟. . . قد تفكرين في الطاعة. . . ولكن. . قد يتجلى اشمئزازك بعد حين!)

كليتتمنسترا - (رضخت أو لم ترضخ. . . لابد من أن تصغي لي!)

رئيس الخورس - (أطيعي يا فتاة. . . قد يكون هذا لصالحك. . . انزلي!)

كليتتمنسترا - (إن النيران المتأججة تنتظر بفارغ الصبر أن تلتهم فرائس المذبحة، وقد نضب معين الرحمة، وغاض ماء الحنان، وليس هناك وقت نضحي به من أجل بكمك أيها الفتاة، فإذا لم تستطيعي التكلم بلساننا فلتؤد يدك ما تريدين أن تجيبي به. . . تكلمي!)

ص: 62

ولكن كاسندرا ما تزداد إلا صمتاً، وما تزداد إلا سكوناً، فيقول رئيس الخورس:

- (يبدو إنها في حاجة إلى ترجمان. . . . . .)

وتتميز الملكة من الغيظ، فتحدج الفتاة بعينين تقدحان الشرر. . . وتنطلق داخل القصر. . . .

- 19 -

ويرثي الخورس للفتاة المنكودة، ويروعه هذا الأسى الذي يتشح به وجهها، وتلك الكآبة التي تجلل جبينها، فيعطف عليها، ويدعوها لتنزل من العربة. . . فأسمع إذن إلى هذا الحديث الشجي:

- (انزلي. . . أصيخي للقضاء، وسلمي للقدر. . . انزلي!)

- (آى. . . آى. . . أوه. . . أبوللو. . . أبوللو!)

- (فيم ههتافك الباكي بأبوللو. . . .؟)

- (آى. . . أبوللو. . . أبوللو. . . أبوللو. . . آى، آى، أوه أبوللو. . .؟)

- (ما تنفكين تهتفين بالإله الذي أصم أذنيه عنك؟)

- (آه يا أبوللو يا إلهي! أيها الباني العظيم والمخرب العظيم! بنيت طروادة. . . وحطمتني! وها هي يدك تمتد في غير رفق مرة أخرى فتعبث بي!)

- (اسمعوا يا رفاق! إنها تتنبأ عما يخبئ لها القضاء. . . كأن فيها جذوة من السماء!)

- (أبوللو. . . أبوللو. . . يا باني طروادة. . . يا هادم بنياني. . ماذا هنا؟ أي سماء؟ فيم جئت بي هنا؟)

- (هذا قصر ألا تريديه إن لم تكوني تعرفينه بعد!

- (آه!. . . حاشا! بل هو كهف رهيب رائع! ممقوت من السماء! ملطخ بدماء الإثم، مضرج بأرواح الشهداء تجثم الجريمة في كل ركن من أرجائه!)

- (يا للآلهة! إنها تشم رائحة الدماء. . . وكأنها قريبة منها بل هي بين ناظريها لا شك!)

- (أجل!. . . أجل. . هناك. هناك. هناك. وهاكم برهان قاطع. . . تشمموا معي. . ولكن. . . لا. . . إني أرى. . . إني أنظر. . . الأطفال الأطهار الذين ذبحوا. . . هاهم يتصايحون بقاتلهم وهاهي لحومهم. . . الشواء!. . . مسكين أبوهم لقد أكل. . .! لقد قرت

ص: 63

لحومهم في بطنه!)

- (أيتها الفتاة! لقد طبقت شهرتك الآفاق كنبية تكشف الغيب ما كان منه وما يكون! ولكنك هنا. . . ولا حاجة لهذا المكان الرهيب بأنبياء!

- (آه!. . . وما ذاك أيضاً! ويلي! جريمة جديدة وحزن جديد، ثمرة مرة من ثمرات الطغيان! إنها تدبر الآن. . . تحت سقفك أيها القصر الهائل! طاعون! طاعون مهلك لا سبيل إلى الفرار منه! من عمل البغضاء العمياء للمحبة المبصرة! الغوث! ويلاه لا غوث!)

- (لا أكاد أستبين هذه النبوءة! لقد كانت الأولى جلية واضحة! وكل مدينتنا ما تزال تتحدث حديث الوليمة المجرمة!)

- (يا شقية! زوجك يا شقية! كيف تجسرين؟ ها هي! إنها تمد يدها الأثيمة! إن الضربة الهائلة تتلو الضربة الهائلة!. . .)

- (ولم أفهم بعد! إن نبيتنا تلغز. . . إن نبوءاتها طِلِّسمات)

- (يا للشبح! ويلاه! ما عساه أن يكون؟ شراك من الموت. . . . ومن الجحيم! بل هو شرك الغرفة السوداء. . . غرفة الشريك المجرم! هلمي يا غربان الويل. . . يا أبابيل الأثيم! هوى فوق هذا القصر. . . أو إن اسطعت فارجميها. . . . أرجميها. . . . .!)

- (أية أبابيل تستنزلين رجومها على القصر؟ إن دعاءك يذهلني! عن قطرات الموت المسمومة تتسرب إلى شغاف قلبي؛ حينما تتسرب لمع الحياة من جراح القتلى. . . . .! أوه. . . . ما أسرع الحزن انحداراً في القلوب؟. .)

- (ماذا أرى؟ آه. . . أسرعوا. . . أسرعوا فاحجزوا البقرة واحموا العجل! انظروا! انظروا؟ إنها تأخذ بتلابيبه. . . وتخوض في لبته بسلاحها. . . آه. . . . لقد سقط المسكين يتشحط في دمه الغزير. . .!)

- (لقد كنت أفخر بما أقدر عليه من كشف للغيب، أحدس الآن أن هذا الهذيان لا يدل على خير!! يا للآلهة؟ أبداً لم يكن الترجيم جلياً بيّناً! وأبداً لم يضف الأنبياء إثارة حبور على هذا الكون! إن الأشجان بضاعتهم دائماً، وإن للغو من القول آلتهم إلى أذهان الناس، وهم لا يضربون إلا على أوتار الذعر ليصلوا إلى غور قلوبنا!)

- (ويلي! يا لحظي العاثر! لقد أترعت الكأس بما رويت من قصتي السادرة! لم جئت بي

ص: 64

إلى هذا القصر معك أيها التعِس؟ ألأموت معك! وماذا أيضاً؟ لأموت؟ لأموت؟)

- (ما تزدادين إلا هذياناً وهذراً!؟ وما بك إلا مس؟ وأنا لا ندري: هل حملك إله إلى هذا القصر للتغني حظك العاثر، كما تفننت أختك البلبلة الحزينة من قبل. . .)

- (يا ويح لي! ومن لي بنصيب مثل نصيبها! الحورية الجميلة التي منحتها الآلهة ريشاً وأجنحة؟ لقد سلمت وودعت وفازت بحياة طيبة. . . أما أنا. . . فقريباً أشق بنصل حاد فأكون شطرين!. . .)

- (يا عجباً! أنى لك هذا؟. . . من بذر فيك هذه البذرة السوداء؟ أنى لك تلك الأغنية الكئيبة، وهذا اللحن الحزين؟ من أين تتنزل عليك موسيقاك الباكية؟ من أوحى إليك بهذا الوسواس الخبيث؟. . .)

(البقية في العدد القادم)

دريني خشبة

ص: 65

‌القفاز

بقلم حسين شوقي

(س) عنده الصفات التي تكفل عادة للمرء النجاح في ميدان الحياة: الذكاء والشباب وحسن المنظر. . ولكنه خجول لسوء الحظ إلى حد بعيد، وقد أفسد عليه خجله أموراً كثيرة وعاق مستقبله، إذ أن س لا يعمل غير عمل متواضع، في محل تجاري متواضع. .

ماذا يفعل (س) في خجله؟ ماذا؟ لماذا عالج هؤلاء الإغريق الحكماء الفهاهة بوضع قطع من الحجر في الفم ولم يفكروا في معالجة الخجل؟. .

وإذا كان خجل (س) عاق مستقبله المادي، فإنه كان اشد عليه ضرراً في ميدان العاطفة. . إذ انه برغم كونه في ريعان الصبا لم يعرف الحب بعد. . أو على الأصح لم يتصل بفتاة ما. . مع انه تواقاً بشدة إلى الحب. . كم خفق قلبه في (السينما) عندما يتلاقى المحبان على الشاشة بعد فراق طويل!. وكان إذا عاد إلى منزله بعد مشاهدة مثل هذه المناظر الغرامية، يرتمي إلى المخدة ليدفن فيها حزنه وألمه، ويأخذ في البكاء الشديد. . لم يجد (س) في حياته الجرأة لمغازلة الفتيات، حقيقة إن بعضهن غازلنه، ولكن س لم يكترث لهن، لأنهن كن يتفاوتن في الدمامة، و (س) لا ينظر إلا إلى الجمال، لان الحب في نظره أمر سماوي مقدس. . وكثيراً ما كان يذهب إلى المتنزه العمومي، حيث كان يأمل التعرف بسهولة إلى حبيبة القلب المرتقبة. . فهناك ربما تنسى فتاة منديلها، (أو حقيبة يدها) على أحد المقاعد، فيلتقطه ويقدمه لها، فتتم بهذه السهولة المعرفة بينهما. .

يا للعجب! هاهي أمنية (س) تتحقق، لان المقادير التي تضن علينا بكسب سباق (الدربي)، لاتضنّ علينا بتحقيق أمانينا المتواضعة. .

إليك كيف تحققت أمنية (س):

شاهد (س) ذات يوم سيدة رائعة الجمال (كما تخيلها في أحلامه) تجلس في المتنزه على أحد المقاعد وهي تقرأ كتاباً في يدها باهتمام شديد، فجلس (س) حيالها على مقعد يترقّب فرصة التعرف إليها. . ثم لم يمض زمن طويل على هذا، حتى نهضت السيدة من مكانها ونسيت حقيبة يدها على المقعد (كما تمنى س) فنهض من فوره ليلتقط الحقيبة ويقدمها إليها، ولكن قدوم شرطي في هذه الأثناء أفسد عليه الأمر إذ خشي س إن يحسبه الشرطي

ص: 66

لصاً. . وكان من حظ الشرطي تقديم الحقيبة لها، وقد شكرته السيدة بابتسامة ساحرة وانصرفت. .

مسكين (س)، كم كان مغتماً لخروجه من المتنزه في ذلك اليوم!. .

ولكنه لم ييأس، فعاد في اليوم التالي إلى الحديقة في المكان نفسه، عساه يجدها هناك مرة أخرى، فإذا بالسيدة الحسناء جالسة على المقعد نفسه تقرأ!. . وكان من حسن حظه إن السيدة نسيت في هذه المرة أيضاً حقيبتها على المقعد، لدى انصرافها، فالتقطها وهرع فقدمها إليها، قائلا في تردد شديد:

- إنها المرة الثانية التي تنسين فيها حقيبتك يا سيدتي!

- هذا حقيقي! ولكن كيف عرفت ذلك؟

- كنت هنا بالأمس عندما فقدتها، لقد هممتُ وقتئذ بالتقاطها وإعادتها إليك، ولكن قدوم الشرطي أفسد عليّ الأمر فقد خشيت أن يظنني سارقاً. .

فضحكت السيدة عندئذ ضحكة عالية لسذاجة الشاب وبساطته. . ثم أذنت له في مرافقتها في السير، كما تولت إدارة الحديث بعدما رأته على هذه الحال من الخجل:

- إني لا بد أن أنسى شيئاً عندما أقرأ كتاباً. .

- إن ما تقرئينه لا بد أن يكون ممتعاً جداً حتى ينسيك حقيبتك يومين متواليين. .

- هي رواية بوليسية. . إني شديدة التعلق بالروايات البوليسية لأن حبك الدسائس يتطلب ذكاء نادراً. .

كم أسف (س) عندئذ لعدم قراءته قصصاً بوليسية، ولقد بدا عليه الآسف واضحاً. .

قالت - ربما كان المشي يتعبك؟

- أبداً!

يا لسذاجتها! إن (س) ليصعد معها جبال الهملايا عن طيب خاطر!

- إني مضطرة إلى المشي كل يوم. . لمعالجة الأملاح. . .

تذكر (س) عندئذ اسم دواء للأملاح كان أوصى به طبيب لأخته فصاح قائلا:

- هناك دواء نافع للأملاح أسمه. . . .

ولكنها قاطعته في سحرية:

ص: 67

- دواء؟ صدقني ليس هناك ما هو خير من المشي. . .

وبعد أن تنزها نصف ساعة وصلا إلى باب الخروج فاستأذنت وانصرفت بعد أن وعدته بالحضور إلى الحديقة في اليوم التالي للتريض. . .

كم كان سعيداً في ذلك اليوم! هاهي ذي أحلامه تتحقق! إن جمال هذه السيدة هو أسمى ما يطمح إليه! أما هي، فقد شعرت من فورها (باستلطاف) نحو هذا الشاب الساذج الخجول، لأنها لم تشاهد حولها في وسطها الراقي (إذ كانت من طبقة الأشراف) غير رجال أشبه بالطيور الجارحة. .

وفي اليوم التالي بكر في الذهاب إلى الحديقة، حيث التقى بسيدة أحلامه، وقد تروضا هذه المرة ساعة بدل من نصف ساعة. . .

ثم تقابلا في الأيام التالية. . .

وكانت هذه السيدة الحسناء تلبس دائماً قفازاً أسود طويلاً، ودّ (س). لو نزعته حتى يستطيع أن يطبع قبلة على يديها المحبوبتين. . .

وكان كلما طلب منها ذلك رفضت في لطف. .

وقد ألح يوما عليها فقالت:

- سوف تندم يا عزيزي لو نزعت قفازي. . .

- هل تعنين إن يدك غير جميلة؟

- أجل إن يدي اليمنى بها ست أصابع. . .

- إذن الثم اليد اليسرى

- اليد اليسرى ينقصها إصبع. . .

- فليكن ذلك

- أقول لك إنك سوف تندم

ولكنه ألح إلحاحاً شديداً اضطرت السيدة إزاءه أن تخلع القفاز، ولكنه بدلاً من أن يلثم يدها التي نزعت عنها القفاز، صرخ صرخة مؤلمة ثم سقط مغشياً عليه إذ لمح في يدها خاتم الخطوبة. . .

حسين شوقي

ص: 68

‌البريد الأدبي

كتاب لزعيم الاشتراكية الفرنسية

منذ بضعة اشهر توفي الفريد دريفوس الضابط اليهودي الفرنسي وبطل القضية الشهيرة التي هزت فرنسا منذ ثلاثين عاماً وكادت تدفعها إلى غمر الحرب الأهلية؛ وقد صدرت عن هذه المأساة القضائية الشهيرة أثناء وقوعها وبعد عشرات من الكتب بمختلف اللغات، وصدرت بمناسبة وفاة بطلها عدة كتب ورسائل جديدة؛ ومن ذلك كتاب صدر أخيراً بقلم الزعيم الاشتراكي الفرنسي ليون بلوم وعنوانه (ذكريات عن القضية) ' أعني قضية دريفوس؛ ومسيو بلوم رئيس الحزب الاشتراكي الفرنسي، وله ولحزبه مكانة قوية في الحياة السياسية والبرلمانية الفرنسية؛ وقد كان لموقفه أثر فعال في التطورات السياسية الأخيرة وفي سقوط وزارة مسيو لافال، ومسيو بلوم فضلاً عن كونه سياسياً وخطيباً كبيراً؛ كاتب كبير أيضاً، وهو يتولى تحرير المقالات السياسية في جريدة (بوبولير) الاشتراكية، وله فيها جولات رنانة، وقد كان مسيو بلوم وقت وقوع مأساة دريفوس فتى في عنفوانه ولكنه كان قد شق طريقه السياسي، وخاض غمار الحوادث السياسية والحزبية التي أثارتها القضية الشهيرة؛ ونحن نعرف الآثار السياسية والاجتماعية والعقلية العميقة التي أحدثها النضال ببين أنصار دريفوس وبين خصومه، وكيف انشطرت الحياة العقلية الفرنسية يومئذ إلى شطرين: أحدهما يتجه إلى تأييد ما يسميه (الحقيقة والعدالة) بتأييد دريفوس، والآخر يتجه إلى تأييد النزعات القومية والعسكرية المغرقة التي أثارت هذه المأساة الشهيرة، ويصور مسيو بلوم في كتابه هذه الحوادث والتطورات تصويراً قوياً، ويشرح لنا البواعث النفسية والعقلية التي كانت تدفع أنصار دريفوس إلى العمل لنصرته وتبرئته، فهؤلاء كما يقول مسيو بلوم كانت تربطهم عواطف قوية هي الثقة في (قوة الحقيقة)، وتدفعهم حماسة مضطرمة إلى ما فوق أنفسهم، ويرى مسيو بلوم شبهاً قوياً بين حادث انهيار شركة بناما ومأساة دريفوس وهي أعظم حوادث هذا العصر، وبين نكبة استافسكي الأخيرة وما تلاها من الحوادث الدموية في فبراير سنة 1934؛ فقد كان من ورائها العسكريون والوطنيون دائماً يثأرون لهزيمتهم في انتخابات سنة 1932؛ وقد كانت دسائس العسكريين والوطنيين مثار قضية دريفوس، والخلاصة أن مسيو بلوم يقدم إلينا في أثواب اشتراكية واضحة، فإنه

ص: 70

مع ذلك يسبغ عليها بقلمه وبيانه كثيراً من الأناقة والطرافة. وكتابه جدير باهتمام أولئك الذين تذكي خيالهم وتشجيعهم حوادث المأساة الشهيرة.

وفاة مؤرخ وصحفي كبير

نعت إلينا الأنباء الأخيرة مؤرخاً وصحفياً فرنسياً كبيراً هو فرنسوا جاك بانفيل؛ توفي في نحو الخمسين من عمره، وفي ذروة حياته الأدبية وكان بانفيل كاتباً وصحفياً كبيراً، يحرر القسم السياسي في جريدة (لاكسيون فرانسيز) لسان الحركة الملوكية بفرنسا وكانت مقالاته وبحوثه يطبعها دائماً نفس الطابع الذي عرفت به هذه الجريدة المجاهدة والذي يسبغه عليها كتاب عظام ملكيون مثل شارل موراس وبانفيل. بيد أن بانفيل كان يحرر في صحف أخرى مثل (بتى بريزيان) و (لاليبرتيه) ليس لها مثل هذا الطابع. ومع إن بانفيل كان صحفياً بارزاً يدفعه الغمار الصحفي دائماً إلى المعترك، فإنه لم ينس نزعته الحقيقية، وهي نزعة المؤرخ الذي ينظر إلى الحوادث بروح علمي مستقل؛ وقد ترك لنا عدة كتب تاريخية تشهد ببراعته النقدية وحسن تقديره للحوادث والأشخاص منها تاريخ لفرنسا، وتاريخ للجمهورية الثالثة، ومنها تاريخ لألمانيا المعاصرة حتى قيام هتلر، وتاريخ للطغاة المعاصرين مثل ستالين وموسوليني وغيرها؛ وتمتاز كتبه وبحوثه بقوة التصوير، وسلامة العرض، والبحث العميق.

علم المثلثات والعرب

تعليق على مقال في مجلة نايتشر

في الشهر الماضي ظهر في مجلة نايتشر الإنكليزية مقال من قلم أدجر سمث تناول فيه البحث عن نوابغ العلماء والأدباء الذين ولدوا في الأعوام 1536، 1636، 1737، 1836 بمناسبة حلول العام الميلادي الجديد 1936، وقد جاء في هذا المقال أن ريجيو مونتانوس كان من أعظم رياضي زمانه، ومن رجالات العلم البارزين في عصره، وإنه كان أيضاً موضع إعجاب وتقدير من ذوي السلطات الزمنية والروحية، وإليه يرجع الفضل في نقل بعض علوم اليونان والمسلمين إلى الغرب، وفي تعريف الأوربيين إليها - كل هذا صحيح لا سبيل إلى نكرانه ولا يختلف فيه باحثان. . . ولكن هناك شيئاً واحداً أحببت التعليق عليه

ص: 71

وهو القول: (بأن ريجيو مونتانوس ألف في الرياضيات وأن كتاب المثلثات هو أول ثمرة من ثمار ريجيو مونتانوس، ومجهوداته في المثلثات على نوعيها المستوية الكروية، كما أنه أول كتاب بحث فيها بصورة منظمة علمية. . .)

اختلف العلماء في محتويات كتاب الذي وضعه ريجيو مونتانوس، وفي نسبتها إليه، فبعضهم يدعى أن كل محتويات الكتاب هي من وضع ريجيو مونتانوس وأنه لم يستعن في ذلك بأحد، وبعضهم يقول بخلاف ذلك، وبقي هذا الاختلاف زمنا طويلاً إلى أن ثبت حديثاً أن ريجيو مونتانوس أعتمد في بحوثه في هذا الكتاب على مؤلفات العرب والمسلمين. ولا عجب في هذا فإليهم يرجع الفضل الأكبر في وضع كثير من نظريات علم المثلثات وموضوعاته، وإليهم لا إلى غيرهم يرجع الفضل أيضاً في تقدمه ورقيه، ولولاهم لما وصل الغربيون فيه إلى ما وصلوا إليه

وينقسم كتاب ريجيو مونتانوس إلى خمسة فصول كبيرة منها ما يبحث في المثلثات المستوية، ومنها ما يبحث في المثلثات الكروية، وقد ثبت لدى الباحثين أن الأصول التي اتبعها ريجيو في الفصل الخامس هي بعينها الأصول التي اتبعها العرب في الموضوع نفسه في القرن الرابع للهجرة - هذا ما توصل إليه العالم المحقق التركي صالح زكي بعد دراسة مؤلفات ريجيو مونتانوس وأبي الوفاء اليوزجاني، ومما يزيد المرء اعتقاداً بهذا كله اعتراف كاجوري بأن هناك أموراً كثيرة وبحوثاً عديدة في علم المثلثات كانت منسوبة إلى ريجيو مونتانوس ثم ثبت حديثاً أنها من وضع المسلمين والعرب، ويوجد غير كاجوري أمثال سمث وسارطون وسيديو وغيرهم من اعترف بأن بعضاً من النظريات والبحوث نسبت في أول الأمر إلى ريجيو مونتانوس وغيره ثم ظهر بعد الاستقصاء خلاف ذلك.

نابلس

قدري حافظ طوقان

كتاب جديد لبول موران

بول موران من أعظم كتاب فرنسا المعاصرين، وهو بلا ريب أحدثهم نزعة، وأوفرهم طرافة؛ وربما كان ذلك يرجع إلى تكوينه وظروف حياته؛ فقد درس في باريس،

ص: 72

وأكسفورد، وأدنبورج، ودرس الأدب والقانون، وهيأت له حياته كموظف في السلك السياسي فرصة واسعة للسياحة والدرس؛ واتخذت أشعاره وقصصه الأولى أحدث طابع؛ وظهرت كتبه الأولى ومنها مجموعة القصص المسماة (مفتوح بالليل) و (مغلق بالليل) فكانت تحفا بديعة جديدة في الأدب الفرنسي؛ وأشد ما تبدو قوة بول موران وطرافته في تصوير حياة المدينة، وقد اشتهر بكتابيه عن لندن ونيويورك حيث يصور فيهما الحياة الظاهرة والخفية في تينك العاصمتين الكبيرتين أقوى تصوير وأبدعه؛ وبول موران سائح لا تخمد له رغبة أو هوى، يضرب في أنحاء العواصم الكبرى وينفذ إلى أعماقها وخفاياها، وقد أصدر أخيراً كتاباً عن عاصمة جديدة هي (بوخارست) وذلك بعد أن أقام في رومانيا ردحاً من الزمن؛ وعنوان الكتاب الجديد لا يثير لأول وهلة اهتماماً كبيراً لأن بوخارست ليست من العواصم الكبرى ذات الشهرة الرنانة، ولكن بول موران يسبغ عليها بكتابه سحراً وروعة؛ وهو يرى أن يثير بهذه المناسبة ذكرى بيزنطية وذكرى روسيا القيصرية؛ بيد أنه يتناول المدينة الحديثة وحياتها. ويرى فيها مفترق المدنية الأوربية، وبدء انسيابها إلى الحياة الآسيوية؛ ويصف المجتمع الروماني وخلاله، وميله إلى الطرب والاستهتار، وما يمتاز به من الدعابة والنكتة؛ ثم يصف مجتمع الريف في صور ساحرة، ويرى في خلاله وعاداته طرافة ليست لمجتمع المدينة؛ ويخصص موران فصولاً ونبذاً عديدة لحياة (النور) الذين يكثرون في رومانيا وخلالهم وفنونهم، ويقدم إلينا عن مختلف طبقات الشعب الروماني كثيراً من المعلومات والحقائق المفيدة الطريفة معاً

وبول موران لا يجاوز اليوم الثامنة والأربعين من عمره، ومع ذلك فهو يتبوأ منذ أعوام طويلة المقام الأول في ثبت الكتاب المحدثين

ذكرى مخترع القاطرة

احتفل أخيراً في إنكلترا بالذكرى المئوية الثانية لمولد جيمس وات مخترع القاطرة البخارية، واتخذ الاحتفال صيغة رسمية، فأقيمت صلاة على روحه في (وستمنسترابي)، ورفع الستار عن لوحة تذكارية أقيمت في بلدته (جرنيوك) من أعمال اسكتلندة، ونثرت زهور كثيرة على أثره التذكاري ببلدة برمنجهام أعظم مصنع لصناعة القاطرات في إنكلترا؛ وأقيم في لندن معرض علمي عرضت فيه نماذج من الآلات والقاطرات البخارية

ص: 73

منذ اختراعها إلى اليوم؛ وقد خصص المعهد الميكانيكي الإنكليزي بهذه المناسبة جائزة تعطى لمن يقوم بأفضل اختراع في ميدان الهندسة الميكانيكية، سواء في إنكلترا أو في غيرها من البلاد

وقصة وات شهيرة في تاريخ الاختراع، فقد ولد في سنة 1736 وكان طفلاً سقيماً فلم يتلق تربيته قبل الثالثة عشرة؛ ودرس الهندسة العملية، واشترك في أعمال وتجارب هندسية خطيرة؛ وفي سنة 1764 توصل إلى الوقوف على سر البخار كقوة محركة، وذلك أثناء إصلاحه آلة بخارية وضع تصميمها جون نيوكمن؛ وفي العام التالي استطاع أن يصنع جهازاً لحفظ قوة البخار، ثم وضع تصميماً لآلة بخارية جديدة صنعت في معامل سوهو بالقرب من برمنجهام، وكان هذا مولد القاطرة الحديثة.

ص: 74

‌الكتب

الفن الإسلامي في مصر

للدكتور زكي محمد حسن المساعد العلمي بدار الآثار العربية

هذا الكتاب الثمين ليس سوى الجزء الأول من ثلاثة أجزاء وعد المؤلف بإصدارها. إذ رأى أن لتاريخ الفن الإسلامي في مصر حلقات ثلاثا: تبدأ الأولى بالفتح العربي وتنتهي بسقوط الدولة الطولونية، وتشمل الثانية عصر الفاطميين، وتحتوي الثالثة على عصر المماليك. وخص هذا الجزء بالحلقة الأولى وكشف في مستهله عن سر النزعات في هذا الفن بإيراده مقدمة تاريخية سياسية تفصح للقارئ عن أثر كل تطور خاص بسياسة الدولة المصرية في الفن الإسلامي

وطبيعي أن يعني المؤلف الفاضل بناحية البحث في تاريخ فن العمارة وزخرفة البناء الإسلامية عناية خاصة. وليس ذلك لمجرد مطابقة هذه الناحية من الفن لطابع العرب الديني، بل ولأنه أيضاً استرعى أنظارهم وهم البدو ومساكنهم الشعر، ولاءم مزاجهم الرياضي الفني، واتفق وغرضهم من التعمير - على حد ما نعتقد

ولم يستكمل الفن الإسلامي في مصر وضوحه إلا في عصر الطولونيين. وكان فناً مستقلاً عن الفن الذي ازدهر في سامرّا مدينة المعتصم

واستعرض المؤلف تاريخ تلك المدينة منذ نشأتها، ثم واصل عرض آراء العلماء في شان فنها، وأخذ يوازن بين الخطأ في تلك الآراء والصحيح منها

ومن أهم النظريات التي أثبتها اعتبار زخارف سامرّا غير متأثرة بأساليب الفن السيتي إلى حد كبير، كذلك اعتبار أن الجند الترك لم يكن لهم من الناحية الفنية شيء يذكر في عهد الخلفاء العباسيين، وان الفرس بماضيهم الفني المجيد أكثر استعداداً من الترك للتأثير في الفنون الإسلامية، ولو أن ذلك الرأي قال به غيره، إلا أنه عززه بأدلة مما عثر عليه من صور في سامرّا، ولم يفت المؤلف ذكر توافد مهرة الصناع العراقيين والفارسيين والإغريق وغيرهم على سامرّا، فأصبح الفن هناك خليطاً

وتكلم المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب عن العمارة الدينية، ولا شك أن العمارة بلغ بها المسلمون شأواً بعيداً، إذ هي عندهم أجلّ الفنون، فابتدعوا فيها وأبدعوا؛ ويعد جامع احمد

ص: 75

بن طولون أهم الآثار العربية في مصر وأقدم شاهد على المدنية الإسلامية فيها. ودحض المؤلف فكرة أن هذا الجامع كان من مساجد المعسكرات. وهي فكرة رائجة بين عدد من علماء الفرنجة

ثم جاء في الفصل الثالث على ذكر العمارة الحربية والمدنية التي لم يبق منها لعهد الأسرة الطولونية سوى قاطر بن طولون. إلا أن مؤرخي العرب ومؤلفي الخطط أفاضوا في وصف مدينة القطائع والبيمارستان وكذا القناطر. وذكر المؤلف بعض تفاصيل شائقة عن تأسيس مدينة القطائع وعن قصر ابن طولون بها الذي حاكى به قصور الخلفاء في سامرّا. وجاء بوصف ممتع للقصر وما حوى وما أضافه ابنه خمارويه عليه من أبنيه وحدائق. وكان لتنقيب دار الآثار العربية وعثورها في صيف سنة 1932 على أطلال منزل طولوني بالتلال المجاورة لأبي السعود الفضل في الاستدلال على بعض قواعد وأصول العمارة المدنية الخاصة بالعصر الطولوني. وذكر المؤلف أن قناطر ابن طولون شيدت في الجهة الجنوبية الشرقية من مدينة القطائع. ولازالت بعض عقود القناطر قائمة حتى اليوم ومنها يستدل على متانتها وبديع الصناعة فيها: والمعروف أن المهندس النصراني الذي تولى لابن طولون بناء هذه العيون هو نفس المهندس الذي شيد له فيما بعد المسجد الجامع

أما زخرفة المباني للعهد الطولوني التي وردت في الفصل الرابع من الكتاب، فهي اكثر الفنون التي تأثرت بالصناعة العراقية والفن الذي ازدهر في سامرّا. وعالج فيها المؤلف مشكلة اختلف فيها العلماء وهي هل كان موطن هذه الزخارف ومكان نشأتها البلاد المصرية، أم أن الزخارف الطولونية مأخوذة عن الزخارف العراقية في سامرّا؟ ورأى المؤلف في الجمع بين الرأيين حلا لمشكلة: وقد حلل الدكتور محمد حسن الزخارف إجمالاً تحليلاً دقيقاً، لا نستطيع إلا أن نحيل القارئ إلى ما كتبه عنها

ثم انتقل في كتابه إلى الفنون القديمة، ومهد لها بكلمة جامعة قيمة. وأتى في الفصل الأول على تاريخ صناعة النسج في مصر وتطورها، فاستغنى شيئاً فشيئاً عن الرسوم الآدمية والحيوانية التي كانت في الفن القبطي، وقوى الميل إلى الزخارف الهندسية، كما لعبت الكتابة دوراً هاماً في هذه الصناعة. وكانت صناعة الحرير والقطن والكتان من الجودة بدرجة إن المباراة بين الكنائس والمساجد والأسواق الخارجية كانت تتزاحم للحصول على

ص: 76

منسوجات مصر. ومع كل فلم يطبع النسيج بطابع إسلامي إلا ابتداء من العصر الفاطمي.

ثم تكلم المؤلف عن الحفر على الخشب، وأبواب استعماله في مختلف أنواع المباني والزخرف. ويمكن اعتبار أن هذا الفن الفتي بقي حافظاً للتقاليد القبطية زمنا طويلاً، بدليل ما كان بقصر ابن طولون؛ وأبان المؤلف ذلك كما أبان النزعة إلى الكتابة على الخشب في عهد ابن طولون. ثم عالج في اقتضاب تطور الخط العربي، ورأى إن المناسبة حسنة لذلك.

وانتهى من ذلك إلى الكلام عن الخزف، ولو أن دراسة الخزف الإسلامي لا زالت صعبة المنال، ولكن مما لا جدال فيه أن الخزف الإسلامي يمتاز بالجودة عن الخزف المصري في العهد القبطي فكان الخزف في العهد الطولوني يصنع من طينة رقيقة. ويمتاز بزخارف ذات بريق معدني، ذي لون أصفر أو زيتوني على أرض بيضاء أو بيضاء مشوبة بالصفرة. وهذه المميزات نفسها نجدها في الخزف الذي عثر عليه في سامرّا

ثم ختم أبحاثه ببحث عن التصوير طريف. وفيه ذكر إن التصوير الذي ينسب إلى مدرسة بغداد كانت تعد سورية أو العراق أو إيران مصدره، وإن فن التصوير لم يزدهر إلا في تلك الأقاليم متأثراً بالتعاليم الفنية التي أخذها العرب عن المانويين واليعاقبة والصينيين. وظلوا لا يفكرون في مصر كمهد لمدرسة من مدارس التصوير الإسلامي حتى كان الاكتشاف المشهور في الفيوم، ذلك الاكتشاف الذي أثبت وجود صور مصغرة إسلامية ترجع إلى القرن التاسع والعاشر والحادي عشر. ولم يترك المؤلف هذا الفصل دون أن يعالج ما يسمونه تحريم التصوير في الإسلام، وقد أجمل القول بأن نظرة في الكتاب الكريم، وفي كتب التفسير، وفي أسباب النزول كافية لأن تثبت إن هذا الزعم باطل لا أساس له وإن كان مكروهاً

وعقد المؤلف للكتاب خاتمة ألم فيها بالصناعات التي عرفتها مصر في فجر الفنون الإسلامية، وذكر في لمحات سريعة تطورها حتى نهاية العصر الطولوني، وأشار إلى أن رجال الفنون والصناعات في القرنين الأول والثاني بعد الهجرة، كانوا من المصريين سواء في ذلك من أعتنق منهم الإسلام ومن ثبت على المسيحية

ولا شك في أن الدكتور زكي محمد حسن قد أحسن دراسة موضوعه وسار ببحثه سيراً هادئاً؛ وكان قديراً في مناقشة حجج علماء الفنون الإسلامية، وفي تدعيم آرائه بالبينة،

ص: 77

وليس ذلك بالأمر الصعب على مثله، وقد راجع عشرات الكتب، ومحص عديد التحف قبل أن يستقر على رأي يبديه في جملة متواضعة، وفي أسلوب سهل رصين، وكان موفقاً في تنسيق بحثه تنسيقاً محكماً حتى كاد يبدو تحفة في ذاته، وساعده جمال الطبع والورق والتجليد على زيادة بهائه ورونقه، وقد يهم القارئ أن يعرف إن المؤلف لم يترك كتاباً قرأه في ذلك البحث إلا وذكره ضمن مراجعه، كما ذيل الكتاب بتراحم أهم الأسماء الواردة في الكتاب وكذلك ذيله بلوحات فوتوغرافية غاية في الإتقان لإيضاح ما تكلم عنه

ولسنا وحدنا الذين نثني على حضرة الدكتور زكي محمد حسن وعلى عمله وجهده هذا، ولا عيب عليه سوى أن يتركك بعد قراءة هذا الكتاب، أو قل دراسته، تتلهف لقراءة المطولات من كتبه.

ص: 78