المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 138 - بتاريخ: 24 - 02 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٣٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 138

- بتاريخ: 24 - 02 - 1936

ص: -1

‌مصر في المعرض!

- 1 -

أليس من حسن توفيق الله أن يجلس المفاوض المصري في قصر الزعفران، ومن ورائه مصر العالمة العاملة محشودة كلها بسودانها وصعيدها وريفها في المعرض! تشدد قوته بروح النهضة، وتؤيد حجته بدليل الحس، وتسند هيبته بروعة الواقع؟

أليس من الجميل عون الله أن يتألف من ذات مصر ومعناها على النحو الذي تراه في المعرض قياس عجيب الإنتاج، وقصيد قدسي الإلهام، وخطاب سحري البيان، ودفاع قوي الأثر، في الوقت الذي بسَّ فيه اللورد لويد عقاربه هنا وهناك، يلسعون بالتمائم، ويدبون بالأراجيف، ويُقَسِّمون رأيهم في الأمر على أن مصر بطبيعة ضعفها متخلفة لا تلحق وتابعة لا تستقل؟!

تعالوا يا طلائع الاستعمار، وصنائع الامتيازات، وثعالب الكرامة! هذه هي مصر الحقيقية قد عرضت عقلها ويدها في ستين فدانا من الأرض لتيسِّر لكم وسيلة الحكم، وتقصر عليكم مدى النظر؛ فلطالما خدعكم عن حقيقتها مغرورٌ يريد الحكم، أو منهوم يرغب المال، أو محروم يطلب الوظيفة.

زوروا المعرض الزراعي الصناعي تجدوا مصر التي لا تقرئونها في صحيفة، ولا تسمعونها في خطبة، ولا تبصرونها في مظاهرة، ولا تقابلونها في ملهى، ولا تحادثونها في حزب! هي تجري مع الزمن في سكون، وتعمل مع الطبيعة في صمت، وتتشقق عن ثمار النبو غ كما تتشقق الأكمام عن أريج العطر في هدوء الغسق!

زوروا أيها المفاوضون عن الحليفة المتجنِّية معرض الجزيرة قبل أن تدخلوا سراي العباسية، تلمسوا في كل ناحية من نواحي النشاط الصناعي ألف دليل ودليلا على نضوجنا المدني؛ لأن الإنتاج الزراعي إذا رجع إلى عمل الله وفطرته، فأن الإنتاج الصناعي مرجعه إلى فكرة الإنسان وقدرته؛ وقد عَدَوْنا ذلك الطَّور منذ سنين، وأصبحنا نُصَرِّف عمل الطبيعة، ونستخدم ثروة الأرض، ونساهم بحذق في ترفيه الإنسان

بين الهرم والنيل شاهدي القرون وعَيْني الأسلاف، احتشدت مصر الحديثة حكومةً وأمة، تقدم إلى أمْسها الحساب الذي يبرى الذمة، وإلى يومها الذي يجدد الطريق، وإلى غدها

ص: 1

الأمل الذي يحدد الغاية!

الزارع والصانع والتاجر والعالم والأديب والموظف قد اثبتوا بهذا العرض الموفق في إخلاص غير غالٍ ولا مفتعل، أن مصر التي تسير في مؤخرة الدول بسياسة الكلام، تجرى في مقدمة الشعوب بسياسة العمل!

ودلالة ذلك أن بين الأمة وقادتها حجاباً من الجهل والعزلة لا ينفذ منه الشعاع، ولا تنعكس عليه الروح، ولا ترتسم فيه مقاييس التقدم! على أن أكثرنا لا يزيد علمه بهذا البلد المظلوم على علم هؤلاء القادة؛ فقد كنا نرى في المعروضات الأهلية والحكومية نفائس الصناعة ودقائق الفن، من ضروب اللباس والأثاث والآنية والزينة، فيداخلنا الشك في أنها مصرية؟ ولكنا نرى بجانبها الآلة تدور، والصانع يعمل، والمنتوج يخرج كالمعروض في دقته وأناقته، فيستولي على المرء شعور قوى غريب، فيه الخجل من سوء الظن، وفيه اللذة من دهشة المفاجأة، وفيه الاقتناع بصحة النهضة، وفيه الاطمئنان على سلامة الوطن. هذا الإنتاج الفاخر هو الذي يقدمه إليك التاجر الأوربي في بيوت البيع الكبيرة بلسانه المعسول وغلافه المقبول وكلمته الواحدة وسِمَته المزورة، فتشتريه بالثمن الغالي على أنه وارد من البحر، قد تجشم اكلاف النقل، وتكلف رسوم الجمرك وتكبد أضرار الخسارة، وهو مصري اشتراه الأوربي بالغبن وباعه بالخديعة، وحرم الصانع المصري المسكين أجر العمل بسرقته القِيمة، ومجد الصنعة بسرقته النسبة. وعلة ذلك كله أن المنتج المصري قد جعل الكذب جزءاً من رأس المال، وأن المستهلك المصري قد جعل المساومة شطراً من الثمن، فكان لابد من هذا الوسيط الأجنبي بينهما ليستر بخداعه كذب المنتج، ويبطل بمهارته مساومة المستهلك!

معرض هذا العام قطعة من الفن العجيب عملت فيها يَدٌ صَاعٌ وفكرةٌ فنَّانة؛ فالوزارات والمصالح تتقدمها وزارة المعارف ووزارة الزراعة من جهة، والشركات والجمعيات تتزعمهما شركات بنك مصر والجمعية الزراعية من جهة أخرى، تضافرت كفاياتها وتسايرت رغباتها على تمثيل النشاط المصري هذا التمثيل الناطق الصادق المعبر، فلا تجد عملاً من أعمال اليد، ولا أثراً من آثار الذهن، إلا منظوماً بفن، ومعروضاً بذوق، ومشروحاً بخبرة، حتى أخلاق الموظفين والمنظمين والعارضين والمتفرجين - إذا استثنيت

ص: 2

جزءاً من إدارة المعرض - تجري على هذا النسق البديع من الجمال والنظام والدقة! وسنقف بعد هذه النظرة الخاطفة والكلمة العجلى على كل قسم من أقسام المعرض فنستنبئه عن أمره، ونستكشفه عن سره، ثم نطالعك بما نلاحظ من أسبوع لأسبوع. . .

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌2 - الزاهدان

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال أحمد بن مسكين: وانتشر حديث السمكة في أهل (بلخ)، واستفاض بينهم، وكنت قصصتُه عليهم يوم السبت. فلما دار السبت من أسبوعه لقيني شيخهم حاتم أبن يوسف (لقمان الأمة) ومعه صاحبه أبو تراب، فقال: يا أحمد! لكأنك في هذه المدينة قمرٌ طلع بليلٍ فلا يعظ الناس في يوم السبت غيرك؛ ومن سمع فكأنه عاين، وليس على ألسنة أهل بلخ منذ تحدثتَ إلا بِشْرٌ وأبن حنبل، ولا على بال أحد منهم إلا موعظتك وحديثك. والكلام عن الصالحين في مثل ما وصفت وحكيت قُربٌ من حقائقهم، وسموٌّ إلى معانيهم؛ وليس في القول بابٌ له موقع كموقع القصة عن هؤلاء الذين يخلقهم الله في البشرية خلقَ النور، يضيء ما حوله من حيث يُرى، ويعمل في ما حوله من حيث لا يُرى، وفي ظاهره الجمال والمنفعة، وفي باطنه القوة والحياة. ولست أقول لك أذهب فحدِّث الناس، ولكني أقول أذهب فأعط الناس عقلا من الحديث

قال أبن مسكين: فلما صلينا العصر قدمني أبو تراب فجلست في مجلسي ذاك، وهتف بي الناس يريدون الحديث عن بِشر الحافي وما سقط لي من أخباره على الطريقة التي حدثتهم بها من قبل، فابتدئت بذكر موته رحمه الله وأن يومه كأنما اجتمع له أهل خمسٍ وسبعين سنة، إذ خرجت جنازته بعد صلاة الصبح فلم يحصل في قبره إلا في الليل مما احتشد في طريقه من خلق، حتى لكأن في نعشه سرا من أسرار الجنة في هذا، فخرجوا ينظرون إليه، وكانوا يصيحون في جنازته: هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة

ثم قلت: حدثني حسين المغازلي أن بشراً رحمه الله كان لا يأكل إلا الخبز تورعاً عن الشبهات واكتفاء لضرورة الحياة بالأقل الأيسر، وكان يقول في ذلك: يدٌ أقصر من يد، ولقمة اصغر من لقمة. وسئل مرة: بأيّ شيء تأكل الخبز؟ فقال: أذكر العافيةَ فاجعلها إداماً. وقد أعانه على ذلك أنه لم يتزوج، وكان يرى هذا نقصاً في نفسه حتى فضَّل الإمام احمد بن حنبل بأشياء منها أن له أهلا؛ غير أنه قيل له ذات يوم: لو تزوجت تمَّ نُسْكك؛ فقال: أخاف أن تقوم الزوجة بحقي ولا أقوم بحقها، فكانت هذه النية في نفسه افضل من زواجه

وكان مع هذا لا يؤاكل أحدا ولا يسعى إلى لقاء أحد حتى أنه لما رغب في مؤاخاة الزاهد

ص: 4

العظيم معروف الكرخي أرسل إليه الأسود بن سالم وكان صديقا لهما، فقال لمعروف: أن بشر بن حارث يريد مؤاخاتك وهو يستحي أن يشافهك بذلك، وقد أرسلني إليك يسألك أن تعقد له فيما بينه وبينك أخوة يحتسبها ويعتد بها، إلا أنه يشترط فيها شروطاً: أولها أنه لا يحب أن يشتهر ذلك، وثانيها ألا يكون بينك وبينه مزاورة ولا ملاقاة؛ فقال معروف: أما أنا فإذا أحببتُ أحداً لم احب أن أفارقه ليلا ولا نهارا أزوره في كل وقت، وأوثره على نفسي في كل حال؛ وأنا اعقد لبشر أخوةً بيني وبينه ولكني أزوره متى أحببت، آمره بلقائي في مواضع نلتقي فيها إذا هو كره زيارتي

قال حسين المغازلي: وكان هذا كله من أمر بشر معروفاً في بغداد لا يجهله أحد من أهلها إذ لم يكن لبغداد إماما غيره وغير ابن حنبل؛ فما كان اكثر عجبي حين كنت عنده يوماً وقد زاره فتح الموصلي، فقام فجاء بدراهم ملء كفه ودفعها إلي وقال: اشتر لنا أطيب ما تجد من الطعام، وأطيب ما تجد من الحلوى، وأطيب ما تجد من الطيب؛ وما قال لي مثل ذلك قط، وهو الذي رأى الفاكهة يوماً فقال: ترك هذه عبادة! وهو القائل لأبى نصر الصياد: لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة

فذهبت فاشتريت وانتقيت وتخيَّرت، ثم وضعت الطعام بين أيديهما فرأيته يأكل معه وما رأيته أكل مع غيره، ورايته منبسطاً إليه ومالي عهد كان بانبساطه إلى أحد. وقد كنت أخبرته في ذلك النهار بخبر احمد بن حنبل عَلمتُه من إدريس الحداد؛ فانه لما زالت المحنة بعد أن ضُرب بين يدي المعتصم وصُرف إلى بيته، حمل إليه مال كثير من سروات بغداد وأهل الخير فيها، فردَّ جميع ذلك ولم يقبل منه قليلاً ولا كثيراً، وهو محتاج إلى أيسره، وإلى الأقل من أيسره، وإلى الشيء من أمله، فجعل عمَّه اسحق يحسب ما ورد في ذلك اليوم فكان خمسين ألف دينار، فقال له الإمام: يا عم أراك مشغولاً بحساب ما لا يفيدك. قال: قد رددت اليوم كذا وكذا ألفاً وأنت محتاج إلى حبة من دانق. فقال الإمام: يا عم لو طلبناه لم يأتنا، وإنما أتانا لما تركناه

قال المغازلي: فنمت تلك الليلة وأنا أفكر في صنع الشيخ وقد تعلق خاطري به كيف انقلبت الحال معه، وأي شيء هذه الحال، وجعلت أكدُّ ذهني لأعرف الحقيقة العقلية التي سلَّطت عليه هذه الضرورة فتسلط النعيم على نفسه، وأنا اعلم أن للقوم علوماً روحانية ليست في

ص: 5

الكتب، فمنها ما لا يتعلمونه إلا من الفقر، ومنها ما لا يتعلمونه ألا من البلاء، ومنها ومنها، ولكن ليس منها ما يتعلمونه من اللذات والشهوات؛ وذهب قلبي إلى أوهام كثيرة ليست في جميعها طائل ولا بها معرفة حتى غلبتني عيناي وأنا من وهج الفكر نائم كالمريض وقد ثقل رأسي واختلط فيه ما يُعقل بما لا يُعقل

فرأيت أول ما رأيت ملكاً جباراً يحكم مدينة عظيمة وقد أطلق المنادي في جمع كل أطفال مدينته فجيء بهم من كل دار، ثم رأيته قد جلس على سريره وفي يده مقراض عظيم قد اتخذه على هيئة نصلين عريضين لو وضعت بينهما رقبة لفصلاها عن جسمها؛ فكان هذا الجبار يتناول الطفل من أولئك فيضع إصبع إحدى قدميه في شقي المقراض فيقرضها فإذا هي تتناثر أسرع مما يقرض المقَص الخيط، ثم يرمى بالطفل مغشياً عليه ويتناول غيره فيبتر أصابعه والأطفال يصرخون؛ وأنا أرى كل ذلك ولا أملك إلا غيظي على هذا الجبار من حيث لا أستطيع أن أمضِيَ فيه هذا الغيظ فاقرض عنقه بمقراضه

ثم رايته يأخذ طفلاً صغيراً، فلما جاءت قدم الطفل بين شقي المقراض صاح: يا رب، يا رب! فإذا المقراض يلتوي فلا يصنع شيئاً وكأن فيه حجراً صلداً لا قدماً رَخْصَة. فتميز الجبار من الغيظ وقال مَن هذا الطفل؟ فسمعت هاتفاً يهتف: هذا بشر الحافي! لا يبلغ تاج ملك في الأرض أن يكون لقدمه الحافية نعلاً عند الله!

وكان إلى يميني رجل يتضوأ وجهه صلاحاً وتقوى، فقلت له: من هذا الطاغية؟ ولم اتخذ المقراض لأقدام الأطفال خاصة؟

فقال: يا حسين أن هذا الجبار هو ذل العيش، وهذا وسمُه لأهل الحياة على الأرض يحقق به في الإنسان معنى البهيمة أول ما يدب على الأرض حتى كأنه ذو حافر لا ذو قدم

قلت: فما بال هذا الطفل لم يعمل فيه المقراض؟

قال: أن لله عباداً استخصهم لنفسه، أول علامته فيهم أن الذل تحت أقدامهم، وهم يجيئون في هذه الحياة لإثبات القدرة الإنسانية على حكم طبيعة الشهوات التي هي نفسها طبيعة الذل؛ فإذا اطرح أحدهم الشهوات وزهد فيها، واستقام على ذلك في عقد نية وقوة إرادة، فليس ذلك بالزاهد كما يصفه الناس، ولكنه رجل قوي اختارته القدرة ليحمل أسلحة النفس في معاركها الطاحنة، كما يحمل البطل الأروع أسلحة الجسم في معاركه الدامية. هذا يُتعلم

ص: 6

منه فن وذاك يُتعلم منه فن أخر، وكلاهما يرمى به على الموت لإيجاد النوع المستعز من الحياة، فأول فضائله الشعورُ بالقوة، وآخر فضائله إيجاد القوة

قال المغازلي: وضرب النوم على رأسي ضربة أخرى فإذا أنا في أرض خبيثة داخنةٍ قد ارتفع لها دخان كثيف أسود يتضرب بعضه في بعض، وجعلت أرى شعلاً حمراً تذهب وتجيء كأنها أجسام حية، فوقع في وهمي أن هؤلاء هم الشياطين: إبليس وجنوده وسمعت صارخاً يقول: يا بشرى! فلتبك السماءُ على الأرض، لقد أكل بشر الحافي من أطيب الطعام وأطيب الحلوى بعد أن استوى عند حجرها ومدرُها، وذهبُها وفضتها! فعارضه صائح أسمع صوته ولا أرى شخصه: ويلك يا زَلَنْبور! أن هذا شر علينا من عامة نُسكه وعبادته. فهذا ويحك هو الزهدُ الأعلى الذي كان لا يطيقه بشر؛ أنه إعنات سلَّطه على نفسه، فإني دفعت هذا (المغازليّ) الأعمى القلب ليزين له ما فعل احمد بن حنبل من رده خمسين ألف دينار على حاجته، زهداً وورعاً وقوة عزم ونفاذَ إرادة؛ وقلت عسى أن تتحرك في نفسه شهوة الزهد فيحسد أو يغار، أو تعجبه نفسه فيكون لي من ذلك لمَّةٌ بقلبه فأوسوس له فأنا نأتي هؤلاء من أبواب الثواب كما نأتي غيرهم من أبواب المعاصي، ونتورَّع مع أهل الورع كما نتسخَّف مع أهل السخف، ولكن الرجل وفيه حقيقة الزاهد، فقد أعطى القوة على جعل شهوته في اللذة قتل اللذة، وإذا جعلتها في الكآبة قتل الكآبة، وليس الزاهد العابد هو الذي يتقشف ويتعفف، ويتخفف ويتلفف، فإن كثيراً ما تكون هذه هي أوصاف الذل والحمق ويكون لها عمل العبادة وفيها إثم المعصية، ولكن الزاهد حقَّ الزاهد من أدار في الأشياء عيناً قد تعلمت النظر بحقه والإغضاء بحقه؛ فهذا لا يخطئ معنى الشر أن لبَّسناه عليه في صورة الخير، ولا معنى الخير أن زوَّرناه في صورة الشر، وبذلك يضع نفسه في حيث شاء من المنزلة، لا في حيث شاءت الدنيا أن تضعه من منازلها الدنيئة

وما أكل بشر من هذه الطيبات إلا ليبادر بها وسوستي ويردَّني عن نفسه وعن اللَّمة بقلبه، فلو أنه أعجبه زهد ابن حنبل ونظر من ذلك إلى زهد نفسه لحبط أجره. فبهذه الطيبات عالج نفسه علاج مريض، وقد غير على جوفه طعاماً بطعام، كما يبدِّل على جلده ثوباً بثوب، ولا شهوة للجلد في أحدهما

قال المغازلي: وثقل النوم على ثَقلةً أخرى فرأيتني في واد عظيم في وسطه مثل الطود من

ص: 7

الحجارة وقد ركم بعضها على بعض. ورأيتني مع بشر أقصُّ عليه خبر احمد بن حنبل؛ فقال أنظر ويحك؛ أن الناس يسمونها خمسين ألف دينار وهي هنا في وادي الحقائق خمسون ألف حجر لو أصابت احمد لقتلته ولكانت قبره آخرَ الدهر

إن المال يا بني هو ما يعمله المال لا جوهره من الذهب والفضة، فإذا كنت بمفازة ليس فيها من يبيعك شيئاً بذهبك فالتراب والذهب هناك سواء. والفضائل هي ذهب الآخرة؛ فهنا تجدد بالمال دنياك التي لا تبقى اكثر من بقائك، وهناك تجدد بالفضائل نفسك التي تخلد بخلودها

ومعنى الغنى معنى ملتبسٌ على العقول الآدمية لاجتماع الشهوات فيه، فحين يرد احمد بن حنبل خمسين ألفاً، يكون هذا المعنى قد صحح نفسه في هذا العمل وجهاً من التصحيح

قال حسين المغازلي: وغطَّني النوم في أعماقه غطَّةً أخرى فإذا أنا في المسجد في درس الأمام احمد وهو يحدث بحديث النبي صلى عليه وسلم: إذا عظَّمت أمتي الدينار والدرهم نزع منها هيبةُ الإسلام؛ وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حُرموا بركة الوحي. وهم أن يتكلم في تفسيره ولكنه رآني فمسك عنه وأقبل عليّ فقال: يا حسين! إذا اجتزأ شيخك بالرغيف فهذا عنده هو قدر الضرورة، فان أكل الطيبات فقد عرضت حالٌ جعلت هذه الطيبات عنده هي قدر الضرورة. وفي هذه النفوس السماوية لا يكون الجزء الأرضيُّ إلا محدوداً، فلا يكون محصوله إلا ما ترى من قدر الضرورة

ولما صغُر الجزء الأرضي في نفوس المسلمين الأولين ملكوا الأرض كلها بقوة الجزء السماوي فيها، إذ كانت إرادتهم فوق الأطماع والشهوات، وكانت بذلك لا تذل ولا تضعف ولا تنكسر؛ فالآدمية كلها تنتهي إلى بعض صورهم هؤلاء الذين محلُّهم في أعلاها

يا حسين! ألا وإن ردَّ خمسين ألف دينار هو كذلك قدرُ الضرورة

قال حسين: وذهبت أعترض على الإمام بما كان في نفسي من أن هذا المال وان لم يكن من كَسْبه، فقد كان يتحول في يده عملا من أعمال الخير؛ أنسيتُ أن هذه الصدقات هي أوساخ الناس وأقذار نفوسهم، فلم أكد أفتح فمي حتى رأيت الكلام يتحول طيناً في فمي ليذكرني بهذا المعنى؛ وكدت أختنق فانتفضت أتنفَّس فطار النوم والحلم

طنطا

ص: 8

مصطفى صادق الرافعي

ص: 9

‌اثر الحضارة الإسلامية في الإحياء الأوربي

للأستاذ محمد عبد الله عنان

عصر الإحياء أو إحياء العلوم من أعظم عصور التاريخ الأوربي؛ وهو بلا ريب مطلع النور والعظمة في حياة أوربا الحديثة وفي تكوينها السياسي والفكري الاجتماعي؛ وفي معترك الإحياء الساطع تذوب ظلمات العصور الوسطى التي خيمت على أوربا منذ سقوط الدولة الرومانية، ويفتر ليلها الطويل عن حياة جديدة تسرى إلى جنبات القارة القديمة، فتلقي من حولها غمر الماضي بقوة، وتستقبل عصوراً جديدة من القوة والعظمة والسيادة في جميع مناحي الحياة

وإنا لنشعر ونحن نستعرض تاريخ الإحياء أننا لا نتلو تاريخ أمم أو شعوب معينة، وإنما نتلو صفحة من أنبل صفحات الإنسانية تبهرنا بما حوت من المظاهر والمعاني السامية للعبقرية البشرية. ولقد كان تراث الإحياء وما يزال تراث الإنسانية كلها، ذلك أن ثمرات التفكير البشري هي ملك الإنسانية في كل زمان ومكان؛ ولم يكن تاريخ الإحياء مدى قرن ونصف في معظم الدول الأوربية سوى تاريخ العلوم والفنون والآداب التي تفتحت في ذلك العصر كما تتفتح الأزهار، والتي بثها إلى ظلمات العصور الوسطى أرواح وأذهان وعقول ارتفعت فوق العصور والمجتمعات التي ازدهرت بها، وسمت بمبادئها ومثلها كما سمت بعبقريتها

ولقد كتب تاريخ الإحياء مدى القرون وما زال يكتب في كل عصر؛ ولكنه يتخذ دائماً طابعه القومي أو المحلي، وقلما يكتب من الناحية الإنسانية المحضة؛ وانك لتشعر حتى فيما يكتب من الناحية الإنسانية أن العوامل القومية والمحلية تتبوأ دائما مكانتها وتغشى فيه كل نزعة أخرى؛ وكثيراً ما تساءلت وأنا استعرض هذه الصفحة الباهرة من تاريخ الإنسانية، كيف يغفل مؤرخو الغرب حين يكتبون تاريخ الإحياء عن استعراض صفحة أخرى من تاريخ الإنسانية لا تقل عن صفحة الإحياء قوة وجمالا وروعة هي الحضارة العربية الإسلامية، وما كان لها من اثر بارز في بعث عصر الإحياء الأوربي؟

والحقيقة أن هذه الناحية من تاريخ عصر الإحياء كثيرا ما تغمط حقها وتنكر علائقها وآثارها في بعثه وتكوينه. بيد أنها تستحق منا نحن الذين يفهمونها ويقدرونها عناية خاصة؛

ص: 10

وليس يكفي أن نكتب تاريخ الحضارة الإسلامية، بل يجب نعالج آثارها في تكوين مختلف المدنيات والحركات العقلية الأخرى؛ ولقد كان الإحياء الأوربي حركة عقلية عظيمة ومطلع حضارة جديدة رائعة، وكان لحضارة الغرب الإسلامي أثرها في بعث هذه الحركة، فمن واجبنا أن نستقصي هذا الأثر وأن نعرضه إلى جانب ما يعرض لنا من تطور حركة الإحياء الأوربي

ومن الصعب أن نحاول استعراض هذا الأثر في مقال أو فصل، ولكنا نحاول فقط أن نلم ببعض أطرافه العامة؛ وأخص ما يبدو هذا الأثر في النواحي الفكرية والاجتماعية من عصر الإحياء؛ ونلاحظ أن طوالع الإحياء ظهرت بادئ بدء في إيطاليا وبدت في الشعر بوجه خاص، وحمل لواءها الأول شعراء عظام مثل دانتي وبترارك، حاولوا أن يعيدوا مجد الشعر الروماني القديم؛ ولم تكن هذه النهضة الشعرية الرائعة رغم اتجاهها إلى مثل فرجيل عميد الشعر الروماني خالية من تأثير المثل الشعرية في غرب أوربا. ذلك أن النهضة الشعرية التي ازدهرت قبل ذلك بنحو قرن في بروفانس (جنوب فرنسا) والتي كانت حركة (التروبادور) الأدبية في الشعر والقصص من أقوى مظاهرها، كانت قد أحدثت آثارها في الحركة الأدبية في شمال إيطاليا حيث بزغ فجر الإحياء؛ ولم يكن شعر دانتي بعيداً عن التأثر بعوامل الشعر البروفنسي ووحيه، بل لم يكن أسلوب دانتي نفسه بعيداً عن التأثر بالأساليب البروفنسية، ويرى علماء اللغة فوق ذلك أن اللغة الإيطالية الحديثة والتي وضعت أسسها في عصر الإحياء قد تأثرت في تكوينها إلى حد كبير بالروح والتراكيب البروفنسية القديمة؛ ويشيد دانتي نفسه في بعض قصائده الكبرى بعبقرية زعماء الشعر البروفنسي ومثلهم الشعرية، ويرى في تيبول ملك نافار مثلاً أعلى للشاعر؛ فهذه الظواهر والعوامل كلها تدلل على آثار النهضة الشعرية الغربية في شعر الإحياء

هذا ومن جهة أخرى فقد كان الشعر البروفنسي ذاته عرضة لمؤثرات قوية، من الجنوب فيما وراء البرنيه. وكانت الحضارة الإسلامية في الأندلس تنفث آثارها منذ القرن التاسع في شمال أسبانيا وفي غاليس (جنوب فرنسا)، وكان أثرها بالأخص قوياً واضحاً في بروفانس التي كانت مركز الحركة الأدبية في الجنوب منذ القرن العاشر؛ وكانت بروفانس ذاتها مدى حين مستقراً لبعض المستعمرات العربية الغازية التي حملت إلى تلك الأنحاء

ص: 11

كثيراً من التقاليد والمؤثرات الإسلامية، ولاسيما في شعر الفروسية، بل لقد سرت هذه التقاليد والمؤثرات إلى الحركات الفكرية والأدبية في أنكربرديه (لومباردي)؛ فليس غريباً أن نستخلص من تفاعل هذه المؤثرات والعوامل كلها أن شعر الإحياء لم يكن بدايته بعيداً عن التأثر بمؤثرات الحضارة الإسلامية ومؤثرات الشعر الأندلسي عن طريق الشعر البروفنسي

ومما يبعث حقاً إلى الدهشة أن نجد شبهاً عجيباً في الموضوع والخيال والتصوير بين (جحيم دانتي) وهي أعظم وأروع آثاره وبين أثر عربي أقدم هو رسالة الغفران للشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري، مما قد يحمل البعض على الظن بأن دانتي قد وقف بطريقة من الطرق على موضوع رسالة الغفران، وقد كتبت قبل عصره بأكثر من قرنين، ومع أن هذا الرأي لم يؤيد بصفة علمية واضحة، إلا أنه مما يلاحظ في تأييده أن كثيراً من علوم العرب آثارهم العلمية والعربية كانت معروفة في شمال إيطاليا عن طريق البندقية منذ القرن العاشر الميلادي

هذا ونستطيع من الناحية العلمية العامة أن نقول أيضاً أن بعث الإحياء الأوربي لم يكن بعيداً عن التأثر بمؤثرات العلوم الإسلامية؛ فنحن نعرف أن الأندلس كانت منذ القرن التاسع الميلادي نبراس الغرب كله في العلوم، ونعرف أن مدارس قرطبة واشبيلية وغرناطة كانت فيما بعد كعبة الطلاب من سائر أنحاء أوربا، وأن النهضة العلمية في أوربا بدأت قبل عصر الإحياء على يد جماعة من الرهبان النصارى الذين تلقوا العلوم في مدارس الأندلس مثل جربرت الراهب الفرنسي الذي ارتقى عرش البابوية فيما بعد باسم سلفستر الثاني (سنة 999 م) وآبيار وهو أيضاً راهب فرنسي تفقه في الفلسفة والعلوم المعاصرة وطار صيته في أوائل القرن الثاني عشر؛ وكان اعظم ما يتلقى الرهبان العلماء - وهم يومئذ دعاة العلم في الغرب الأوربي - الفلسفة اليونانية عن طريق العلماء والفلاسفة المسلمين، ولاسيما ابن رشد الأندلسي الذي كان أول من عرف العالم الغربي بالفلسفة الأرسطوطالية، وقد ترجمت شروحه المستمدة من الفلسفة الأرسطوطالية في المنطق وما وراء الطبيعة اللاتينية منذ القرن الثاني عشر، وكانت أساسا لكثير من المباحث الفلسفية التي ازدهرت أيام الإحياء الأوروبي في شمال إيطاليا، بل يرى مؤرخو الفلسفة أن

ص: 12

الفلسفة الجدلية الأوربية استمدت من العرب والفلسفة العربية أكثر مما استمدت من قسطنطينية التي كانت مستودعاً لتراث المدنية اليونانية؛ وليس من ريب في أن جهود العرب في ميدان الكيمياء والطب كانت أكبر مستقي للغرب في هذا الميدان؛ فقد كانت الكيمياء العلمية علماً عربياً محضاً، وقد بلغت ذروة ازدهارها في العصور الوسطى في معامل قرطبة واشبيلية وغرناطة، وكان أطباء الأندلس أساتذة الطب في أوربا كلها، وإليهم كان يهرع الطلاب من سائر الأمم الشمالية؛ وكانت مدرسة سالرنو الطبية في جنوب إيطاليا تقوم على تراث الحضارة الإسلامية التي سادت صقلية وجنوب إيطاليا زهاء قرنين؛ وكانت آثار الطب العربي تبدو في هذا الميدان بصورة قوية بارزة؛ ويمكن أن يقال مثل ذلك على بعض العلوم الأخرى مثل الفلك والرياضيات، وقد بلغت أيضاً في الأندلس شأواً عظيماً

والخلاصة أن آثار الحضارة والعلوم الإسلامية في بناء النهضة العلمية الأوربية واضحة لا يمكن إنكارها؛ وإذا استثنينا ميدان الفنون في نهضة الإحياء، فأنه يصعب علينا أن نتصور ناحية من نواحي هذه النهضة الفكرية الرائعة؛ سواء في العلوم أو الآداب تبعد كل البعد عن التأثر بعبقرية التفكير الإسلامي، سواء مباشرة أو بواسطة عوامل أخرى. بيد أنه مما يؤسف له أن هذه الناحية لا تلقى في المباحث الغربية ما يجدر بها من الشرح والتقدير؛ ويلاحظ أن مؤرخ الإحياء الأوربي يكاد يغفلها بصفة مطلقة، هذا في حين أن مؤرخ العصور الوسطى لا يستطيع أن يغفلها

ولكن معظم مفكري الغرب ومؤرخيه ما زالوا ينظرون إلى تاريخ العرب والإسلام والحضارة الإسلامية ومؤثراتها نظرة خاصة قلما تنجو من مؤثرات الدين والقومية، بل لقد درج فريق منهم على اعتبار العرب ضمن القبائل والأجناس البربرية التي حطمت صرح الدولة الرومانية، واعتبار الغزوات الإسلامية لجنوب أوربا كوارث دينية وقومية؛ وما زالت المباحث التاريخية تبالغ في تقدير مؤثرات الحضارة الرومانية في أمم العصور الوسطى وتعتبرها دائما عاملاً حاسماً في كل تطور فكري أو اجتماعي، هذا بينما نراها تغفل تقدير الحضارة الإسلامية ومؤثراتها؛ ويلوح لنا أن الوقت قد حان لنعمل من جانبنا على تصحيح هذا الموقف، ورفع هذا الإجحاف الذي يلحق بتراث المدنية الإسلامية في

ص: 13

أوربا، والتنويه بما لهذا التراث من الآثار الحاسمة في المدنية الأوربية بوجه عام، وبما له من آثار خاصة في معظم الحركات الفكرية التي قامت في أوربا خلال العصور الوسطى

بيد أنه من الإنصاف أيضاً أن نقول أننا نلمح في بعض المباحث الغربية المستنيرة، أثر هذا التطور في فهم المهام الإنسانية التي أدتها الفتوحات الإسلامية في العصور الوسطى، وفي تقدير التراث العظيم الذي خلفته الحضارة الإسلامية، وما كان لها من آثار خطيرة حاسمة في تطور الحركات العقلية والاجتماعية في تلك العصور؛ ومن الحق أن نقول أن بحوث أولئك العلماء المستنيرين قد رفعت كثيراً من الحيف والإجحاف والريب التي لحقت ذكريات العرب والإسلام في أوربا من جراء الصور والروايات الخاطئة المغرضة التي مازالت تقدم منذ أحقاب عن العرب والإسلام إلى المجتمع الأوربي الحديث

محمد عبد الله عنان

ص: 14

‌الفردوس الإسلامي المفقود

تحت قناطر جامع قرطبة

للشاعر الألماني هنري هين

(مهداة إلى الأستاذ الزيات)

ترجمة الأستاذ معروف الارناءوط

محرر فتى العرب ومؤلف سيد قريش

(. . . . . أيتها القبة الرفيعة من المنار، لقد ظللت في

الماضي بيت الله. . .)

(هنري هين)

أرأيت سيدي السائح إلى مسجد قرطبة الجامع! أرأيت إلى تلك العُمُدِ المرمرية وقد نهضت على قباب فيحاء واسعة الأرجاء؟

أرأيت إلى مفاتن الفن العربي وقد راحت تطفو على القباب والحنايا والقناطر؟ أرأيت إلى سُوَرٍ من القرآن كيف أذابها الذكاء في شتى الألوان؟

في سبيل الله، وفي سبيل مجده الذي لا يبلى قام هذا الصرح المُشمَخر ثم تنَكَّر الزمن وجَهُمت نواحيه، فتنكرت الأشياء وجَهُمت المشاهد، وأرعد في الأفق الذي تسرب إليه صوت المؤذن حلواً صافياً، صوت النواقيس، وقام الرهبان يدعون في أغانيهم الشجية الكئيبة إلى المسيح في محراب كان بالأمس مزهواً بالمؤمنين، وامتلأت السُّوح بالدُّمى والتماثيل، وتقاصرت ظلال الشمس أمام أنوار شاحبة تريقها الشموع والمصابيح!

وقف (المنصور بن أبي عبد الله) في مسجد قرطبة تحت القبة المرمرية وهو يحدِّق إلى العُمُد والحنايا هادئا ناعم الجأش، ثم مضى يتخافت بصوته:

(أيتها القبة الرفيعة المنار، لقد ظللت في الماضي بيت الله، ثم عدت إليك فرايتك تظللين بيتاً غريباً، ثم أصغيت إليك، فإذا بك ترددين صلاة ما كانت لبناتك الأولين!

لقد هَدْهَد الزمن حماستك، وأطفأ كبرياءك، فجمدت على خطبك الكريه، وصبرت لبؤسك

ص: 15

الأليم، ولكن نفسي وقد صاغها الله من معدنٍ ضعيف مازالت - وا رحمتاه لها - ملتاعةً أسوانة حتى أعجزها اليأس عن الصبر فما عادت تطيق شجنها المجاهد!)

وانثنى الفتى العربي إلى الماء المقدس يمسح به رأسه ويغسل جبينه، ثم جفا المسجد وراح إلى فرسه فنهض على ذؤابته فانطلق به يعدو في الطريق، واخذ الهواء المستفيض في الأفق يعبث بغدائره المرسلة ويلاعب ريش قبعته المطرزة!

اشرف الفارس العربي على طريق القلعة حيث تجرى أمواه الوادي الكبير متطامنةً هادئة، فبدت له الخضرة والرياحين والأعناب وشجر اللوز الباسق المتهدل وأزهار البرتقال الكاسية الضافية فلذّ الغناء فغنى، وراحت نغماته العذاب تختلط بأغاني الطيور!

وإنه لكذلك إذا قصر القلعة يلوح له عن بعد فطفر إليه مستروحاً إلى غناء رقيق يستفيض من حواشيه!

في هذا القصر عزلات هانئة أوت إليها (كلارا الفاريس) وهي فتاة طفّارة وثّابة فارق أبوها مغناه إلى أرض (النافار) فاستغدى الغرق في المرح والأهواء خلال غيبته عن القصر!

وقف المنصور بن أبي عبد الله في ناحية دانية من القصر وطفق يُصغي إلى عزيف لذٍّ هادئ، وقد بهرته الأنوار وأشجته الأعراف، فتمايد من الطرب، فنحى ناحية القصر يريد التوغل في جنته بين ورده وأقحوانه!

وكان القصر يعج بالحسان والفرسان، فزرف المنصور إليه فإذا هو بين الراقصين والراقصات والمغنين والمغنيات، ثم عاد ينظر إلى نفسه فإذا هو أملح فرسان هذه الليلة الساهرة شباباً وأعذبهم حديثاً، بل لقد كان أمضاهم في الإغراء والاستهواء؛ ولما استوثق من فتون عينيه، مضى إلى هذه الأسراب الناعمة الطفَّارة، يحدث غانية عن حب أجَنَّهُ في قلبه وحرص ألا يذيعه إلا على مسمع منها، حتى إذا أمله العبث والمجون، طفر إلى غانية أخرى فاحتبسها بين ذراعين محمومتين مشبوبتين، ثم شعر بالملل فارتد عنها إلى ثالثة يعانقها ويخاصرها تحت قباب من المرمر، ثم جفاها إلى أختها ملولا من هوى شديد التقلب!

وكان يمضى إلى حسناء من حسان القصر فيسألها أن كانت عنه راضية وبه ناعمة، ثم يومض بيديه إلى صليب من الذهب يَخطِف بريقه على صدره، ويقسم للكاعب اللّعوب أن

ص: 16

مكانها من صدره مكان هذا الصليب! وإنه لنصرانيته على وفاء غريب!

سكن القصر، فسكنت فيه اللذات والأهواء، وانطفأت تحت قبابه الأنوار والأضواء، وأنقلب الفرسان إلى مضاجعهم صرعى هوى وصهباء، وخلا القصر إلا من ربته الحسناء، وفارسها العربي ذي البهاء، وإلا من شمع ضعيفة السنا والسّناء!

جلست الحسناء الأسبانية إلى فراش ناعم وثير، والفتى العربي جاثم على ركبتي الحبيبة، صريع سهد وأرق، يُريدُ عينيه على إغفاءة لذيذة فتملس هذه الإغفاءة من عينيه الضحوكين!

وإنه لسادرٌ في حمى شديدة من أرق شديد، إذا تلك الحسناء اللعوب تريق على غدائره ماء الورد من قوارير حفّت بالعجب، وازينت بالذهب، وهي بعد منزوفة سكرى من الحبّ والطرب، لقد كانت تفعل ذلك سادرة حيرى، والفتى العربي غريق هواجس وأحلام، وشهيد ذكريات وأوهام، وكان صدره يلوح محتدماً مشبوباً تمزقه الزفرات، وتقطعه الآهات!

ثم ابتعث الحب في قلبه سكراً فسلبها صحواً، فأقبلت إلى فتاها تسعى، وراحت تَلثمُ شفتيه وقد عادتا كاللّظى، وهو في سبحه غريق حب وهوى

وحدَّقت إليه مبهولةً واجمة، فرأت على جبينه وقد عاد مسفوعاً مقروراً غمامةً بلون الدجى! فشجيت حتى لقد هدَّها الشجى، وبكت وأنصبّ دمعها على جفنيه فاستفاق راعشاً من هذا الندى!

لقد هزَّته وهو يحلم! بلى لقد كان يحلم! وقد رأى في حلمه القصير كأنه لا يزال في مسجد قرطبة الجامع، وخيل إليه أنه لا يبرح يطوف بالماء المقدَّس يغسل به جبينه كأنه عريقٌ في النصرانية أشجاه هذا الذي تمثل ورأى، وشعر بأن جوانب المعبد تميد ميداً، وإن ألوف الأصوات أخذت تطفو على نفسه فلا يستطيع لها رداً!

ثم خيل إليه أنه يسمع قعقعة العمُد، وصليل القباب وهي تنهار، كأن مسجد قرطبة الجامع قد عاف عيشه الخابي، فتداعى مغيظاً مُحنقاً

وتمثّل الناس والرهبان وآلهة النصرانية وقد طوتهم الأنقاض، فاستفاق راعشاً، وأنطلق يعدو في القفر البعيد النواحي شاجناً ناشجاً، وقد خلف حبه في القصر يائساً

معروف الارناءوط

ص: 17

‌قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور احمد زكي

وكيل كلية العلوم

بستور والكلب المسعور

وصل الفائت

لم يستطع بستور رؤية مكروب داء الكلب لصغره ومع هذا رباه في مخ الأرانب فتربى، وذلك لان حقن لعاب كلب مسعور في أرنب، ثم أخذ نخاع هذا الأرنب فحقنه في مخ كلب فمات. فعلم بذلك أن مخ الأرنب ونخاعه غذاء طيب يتربى المكروب عليه. واتجه مع أعوانه الشباب إلى تأنيس المكروب ليصنعوا منه لقاحا ففشلوا، ويئس الأعوان الشباب، أما بستور الشيخ العاجز فلم تضعف عزيمته ولا قل رجاؤه

قال الشابان: (انه يا أستاذنا لا فائدة من كل هذا)، وأشاحا بأيديهما في تخاذل إلى الأقفاص بحيواناتها الشلاء وإلى ركام الأنابيب والقوارير

فصوب الشيخ عينه فيهما تصويباً شديداً، وعلته جَهمة خالا معها أن شعره الأشيب المخِفّ تصلب واستقام، وصاح فيهما:(أعيدا هذه التجربة نفسها مرة اخرى، ولو أنها خابت آخر مرة. قد تتراءى لكما الحماقة في الذي اقول، ولكن الشيء المهم الآن أن تظلا غامرين أيديكما في الموضوع الذي أنتما فيه فلا تغسلاها منه فتنفضا عنه). هكذا ظل ينخّسهما حتى يعيدا مرة بعد أخرى تجارب لا أمل فيها ولا رجاء. فهذا كان دأبه دائما؛ تُعْوِزه الحجة، ويصرخ المنطق والحقائق غاضبة في وجهه، ومع هذا يتشبث بالتجربة العقيمة، ويتغافل جنوناً عن وحي الرأي العادي السليم، ولكنه تشبثٌ وتغافلٌ يُفضيان أحيانا من طريق الخيبة إلى النجاح المأمول

لكأني بك تسألني لم كان عقيما محاولة تأنيس مكروب الكلب هذا؟ ولم وجبت إضاعة الرجاء في ترويضه؟ أوْجَبَ ذلك يا سيدي أن تاريخ الإنسان كله لم يذكر حالة واحدة

ص: 19

أصيب فيها إنسان أو حيوان بهذا الداء ثم اشتَفى. أن هي إلا أعراضه تظهر على المريض، وتبلغ جرثومة الداء إلى نخاعه ومخه، حتى يضيع فيه الرجاء. وأي جرثومة فتّاكة قتّالة! وهذه الجرثومة يا سيدي هي التي حملها بستور وأصحابه عارية على أطراف مشارطهم تكاد تهمّ أن تسقط البلاء عليهم. هذه الجرثومة هي التي مصها بستور وأعوانه في أنابيب الزجاج حتى بلغت إلى شفاههم إلا بوصة واحدة، وإلا قطعة من القطن فصلت بينها وبين أفواههم

وفي ظلمة اليأس الذي هم فيه أشرقت بارقة من الأمل؛ وفي صموت الكآبة التي هم فيها سمعوا نغمة موسيقية حلوة بعثت فيهم الرجاء. ذلك أنهم ذات يوم وجدوا كلباً من الكلاب حُقنت بالمادة الوبيئة شُفي بأعجوبة بعد أن ظهرت عليه أعراض الداء من ارتعاد وعواء، وبعد أسابيع قاموا في لهفة إلى هذا الكلب، وهو أول مشتفِ من هذا الداء، فحقنوا الوباء في مخه حقناً، ولكن ما أسرع ما أندمل جرح رأسه! وتربص بستور به الموت، ولكن الموت لم يأته، وظل أشهراً يلعب ناشطا في قفصه وقد تمت حصانته كل التمام

قال بستور لرجاله: (الآن أنفتح لنا ما استغلق، وعلمنا أن لنا أملاً في النجاح. . . أن الحيوان إذا جاءه داء الكلب ثم أشتفى منه فلن يعود إليه هذا الداء من بعد ذلك. . . فلم يبق علينا إلا أن نجد طريقة لإضعاف الجرثومة وتأنيسها). فأمّن رجاله على ما يقول وفي قلوبهم أن لا سبيل إلى تأنيس هذه الجرثومة أبداً

وأخذ بستور في اختراع تجارب مما لا يستطيعها الجن بَلهَ البشر، وانتثرت على مكتبه تخطيطات عدّة منها كأنها الخط الهيروغليفي، وكانت تجتمع عنده في صباح اليوم نتائج تجارب الأمس فيدعو إليه في الساعة الحادية عشرة صباحا عَوْنيه رو وشمبرلاند، فيقرأ عليهما خطة جامحة أخرى يختطّها ليصل بها تحسساً في الظلام إلى هذه الجرثومة التي لا تُرى ولا تُنال رجاء أن يُضْعفها - خطة تأخذ بإصبعه إلى باطن الأرض فتحط به على رأس الجرثومة حطاً

كان يقول لهما بستور: (جرّبا هذه التجربة اليوم)

فيقولان له في اعتراض: (ولكن هذا غير ممكن عملاً)

فيقول بستور: (ومع ذلك أجْرياها، أجرياها بالطريقة التي تتراءى لكما بشريطة أن

ص: 20

تُحسناها)

كان مثل بستور في ذلك مثل بتهوفن يُضمن سِنْفُونياته الموسيقية دورا لا يلعبه إلا البوق وهو ليس عنده، ولكنه لا يلبث بعد خلق الدور أن يخلق بوّاقاً. كذلك كان بستور في تلك الأيام يفتن في التجارب افتناناً، ثم بعد ذلك يجد من ذكاء عونيه وحرصهما ضميناً لإنجاحها

وأخيراً اهتدوا إلى طريقة لتأنيس جرثومة الكلب، وذلك بأن استخرجوا قطعة من نخاع أرنب مات من الداء، ثم علقوها مدة أربعة عشر يوماً في قارورة لا تدخلها جراثيم الهواء، فلما جفّت وانضمرت حقنوها في أمخاخ كلاب سليمة فإذا هذه الكلاب لا تموت!

قال بستور: (مات الجرثوم! أو خير من ذلك أُضعف إضعافاً كبيراً)، وتلك النتيجة الأخيرة نطّ إليها بستور نطاً بلا سبب مقبول ولا مبرر معقول. قال: (والآن فلنجفف قطعاً أخرى من النخاع الوبيء اثني عشر يوماً، ثم أخرى عشرة أيام، فأخرى ثمانية ثم ستة، ثم نرى أنستطيع بهذه القطع أن نعطي كلابنا قليل من الداء. . . إذن والله لتحصنت منه

وأخذوا جميعاً في سبيل هذه التجربة الخالية، ومضت أربعة عشر يوما ذرع فيها بستور أرض المعمل رائحاً غادياً بين القوارير والمجاهر والأقفاص المنثورة فيه، وعبس وتسخط، وخط في كراسته الشهيرة ما شاء له الخاطر أن يخط؛ وفي اليوم الأول حقنت كلاب بالنخاع الوبيء الذي جفف أربعة عشر يوماً، وفي اليوم الثاني حقنت بالنخاع الأقوى وباء، ذلك الذي جُفف في القارورة ثلاثة عشر يوماً، وهكذا إلى اليوم الرابع عشر وفيه حقنت الكلاب بالنخاع الذي جفف يوماً واحداً، وبه وباء لا شك يقتل الكلاب لو أنها فوجئت به أول مرة

وظلوا جميعا ينتظرون هذه الكلاب أياماً شابت فيها رؤوسهم، ولكن شيء من داء الكلب لم يظهر عليها أبداً. فانبسطت أسارير هذه الأغوار الثلاثة التي قامت تحارب الموت فتكشر له كما كشر. حقنوا في الكلاب أربعة عشر حقنة وبيئية فلم يصبها من الضرر قليل أو كثير. ولكن هل هي حقاً تحصنت من الداء؟

وخشي بستور أن لا تكون، فأجفل من ذكرى ضياع كل هذه الأعوام في عمل غير نافع. لكأني بك تسمعه يقول لنفسه:(أنا اليوم شيخ عاجز، والأيام تجيء فلا تزيدني إلا عجزاً. . .)، وكان لابد من إجراء التجربة الفاصلة الأخيرة. وكان لابد لبستور أن يتجلّد على

ص: 21

إجرائها مهما كانت عاقبتها. كان لابد له أن يعلم أتحتمل هذه الكلاب بعد كل الذي جرى لها حقنة قوية غير مضعفة من التي تحقن في الكلاب المائة السليمة فتقتل منها المائة

وذات يوم ثقب رو في رأس كلبين من هذه الكلاب ثقبا حقن فيه وباء قوياً لم يُضعف. وفعل مثل ذلك في كلبين سليمين لم يحقنا بحقنة أبداً

وبعد شهر أيقن بستور وأصحابه أن النصر أتاهم أخيراً بعد عمل ثلاث سنين. فالكلبان اللذان كانا حقنا أربع عشرة مرة ظلا يجريان في قفصيهما ويلعبان ولم يتوعكا أصلاً، أما الكلبان الآخران اللذان لم يتحصنا فنبحا آخر نباح وماتا من الداء

إن بستور له شخصيتان، فهو مخلص الأرواح وبحّاثة في آن، وهما شخصيتان دائماً متنازعتان، ودائما تجور أولاهما على أخراهما. لذلك ما كاد يطمئن إلى النتيجة الطيبة التي خرج عليها من هذه الكلاب، حتى دارت رأسه بالخطط الكثيرة يرسمها ليمحو بها داء الكلب من على ظهر هذه البسيطة. فكانت له في ذلك مئات المشروعات كلها سخيفة، دار منها في عالم أدكن من الخيال، وسلك فيها من الفكر سُبُلاً كثر ضبابها واشتد، فلم يستطيع رو وشمبرلاند أن يخترقاه فضلا فيه وضلت فيه زوجه كذلك. وكان ذلك عام 1884، وفي هذا العام نسي بستور مما هو فيه عيد زواجه، فأساء هذا النسيان إلى زوجه، وهي التي عانت في حياتها ما عانت، فكتبت إلى أبنها تشكو:(إن أباك غارق في أفكاره؛ وهو قليل الكلام، قليل النوم، وهو يستيقظ مع الفجر؛ واختصاراً هو يجري في هذا اليوم على نفس الأسلوب الذي جرى عليه منذ التقت حياتانا من خمس وثلاثين سنة كاملة)

ومن تلك الخطط الجامحة أنه رأى أن يحقن هذا المكروب المضعف في كل كلاب فرنسا في دفعة نابليونية واحدة. قال للبيطار الشهير نوكار (يجب أن نذكر أن الإنسان لا يصاب بداء الكلب أبداً إلا إذا هو عضه كلب مكلوب فإذا نحن محونا هذا الداء من الكلاب محوا كاملا. . .) فضحك نوكار من قوله وهزّ رأسه إنكارا، ثم قال له: (إن في باريس وحدها مائة ألف من كلاب وجِراء. وفي فرنسا مليونان ونصف مليون منها، فإذا أنت أردت أن تحقنها دفعة واحدة، وأن تحقن كلا منها أربع عشرة حقنة في أربعة عشر يوما، فمن أين لك بالرجال؟ ومن أين لك بالزمان؟ ومن أين لك يا عزيزي الأفخم بهذا العدد من الأرانب؟ بل من أين تأتي بأنخعة وبيئة تصنع منها ألف لقاح فحسب؟

ص: 22

وأخيراً طلعت على بستور فكرة بسيطة أخرجته من ورطته. قال لنفسه: (ليست الكلاب هي التي نعطيها الألقحة، بل الرجال التي عضتها الكلاب. ألا ما أحصر! ألا ما أيسر! يعض الكلب المسعور رجلا فلا يختمر الداء فيه ولا تظهر أعراضه عليه إلا بعد أسابيع. . . إن الجرثومة إذن تستغرق كل هذه الأسابيع لتصل من مكان العضة إلى مخ الرجل. . . إذن نحن نستطيع في هذه الفترة أن نحقن في الرجل حقناتنا الأربع عشرة وبذلك نحميه من المرض قبل اختماره.) وما أسرع ما دعا إليه رو وشمبرلاند وقاموا بتجربة هذا الرأي في الكلاب أولا

فوضعوا كلابا مريضة في أقفاص واحدة مع أخرى سليمة فعضتها. كذلك جاء رو بكلاب أخرى سليمة وحقنها بحقنة فاتكة من نخاع أرنب وبئ، ثم جاءوا بجميع هذه الكلاب، المعضوضة والمحقونة بالوباء، تلك الكلاب التي لاشك هي لاقيةٌ حتفها إذا تُركت لشأنها، فحقنوها جميعا بالأحقنة المحصنة الضعيفة فالأقل ضعفاً حتى استتمت أربع عشرة لكل منها، فما الذي كان؟ كان الفوز كل الفوز، فكل مخلوق من تلك الخلائق صد عن نفسه في استكمال وخفاء هجمة هذا الوباء. وبستور الذي عانى من ألقحة الجمرة الذي عانى، صاح يدعو إلى تأليف لجنة من خير رجال الطب في فرنسا تقوم بامتحان تجاربه والحكم لها أو عليها. وجاء حكم اللجنة فإذا به يقول:(إن الكلب إذا حُصِّن بأنخعة الأرانب الوبيئة التي ماتت من هذا الداء، بأن يُحقن بالتدرج بضعيف الوباء فالأقل منه ضعفاً، فهذا الكلب لا يأتيه الكَلَب أبداً)

فتساقطت الرسائل على بستور من كل صوب، رسائل هالعة من كتب وتلغرافات جاءت تنصب عليه أنصباباً من أطباء مداوين، ومن آباء جازعين، وأمهات راجفات يطلبن الغياث لأطفال لهن عضتها كلاب مسعورة. حتى إمبراطور البرازيل العظيم تنازل من عليائه فكتب إلى بستور سائلاً راجياً

ولن أحدثك كثيراً عن هم بستور في تلك الأيام، ذكر ما كان قاساه من لقاح الجمرة وشتان ما بين الجمرة والكلَب. ففي الجمرة إذا ازدادت قوة اللقاح عن القدر المقدور ماتت شياه من جراء ذلك. أما هنا في الكلَب فخطأ في التقدير يفضي إلى ضياع أرواح البرايا من رجال وأطفال. . . لم يقع أحد من صيادي المكروبات في حيرة مثل هذه، ولم تقع عليه مسئولية

ص: 23

كتلك. . قال بستور لنفسه: (لم يمت كلب من كلابي بسبب لقاحي أبداً. والذي عُضَّ منها فحقن بهذا اللقاح احتمى من الداء احتماء كاملاً. فلا شك أن الذي حدث في الكلاب يحدث في الإنسان. . . ولكن. . .)

ومرة أخرى عاود الأرق هذا البحّاثة المسكين من أجل أنه كشف كشفاً بلغ من الإبداع مبلغاً بعيداً. فكان يرقد على ظهره في سريره وينظر في كتل الظلام التي فوقه فيرى فيها خيالات من أطفال تصرخ في طلب الماء لحلوق جافة مخنقة بالداء، أول شيء تأباه وتخافه هو هذا الماء، ويخال أنه هو الذي جاءها بداء الكلَب بسبب خطأ في لقاحه فيُجفل من تلك الخيالات إجفالاً

ومرت به ساعة عاوده فيها حب المباغتات على نحو ما يجري على المسارح من المفاجآت، أراد أن يكون بطل الدرامة، فكتب إلى صديقه القديم فرسيل يقول:(أميل كثيراً إلى أن أبدأ بنفسي فاحقنها بهذا المكروب القاتل ثم أدفع فعله بلقاحي، فقد والله بدأت أحس في قلبي الثقة بنتائجه)

ولكن رحمة الله به ساقت إليه أخيراً من حل في التجربة محله فوقته شر ما أعتزم عليه في أمر نفسه: جاءته امرأة من الألزاس تسعى إليه دامعة العين، ودخلت معمله تجر وراءها ولداً لها اسمه يوسف في التاسعة من عمره جرحه كلب مسعور في أمسه الأول أربعة عشر جرحاً، وكان ينشج بالبكاء، وقد ملأه الرعب وارتعدت فرائصه فلم يكد يستطيع سيراً

صاحت ألام راجية: (سيدي بستور، أنقذ ولدي!)

فسألها بستور أن تعود إليه في مساء اليوم، وقام هو لزيارة طبيبين يدعى أحدهما يليبان ويدعى الآخر جرانشيه وكانا من أحبابه ونُصرائه، وكانا في معمله فرأيا فيه كيف استطاع أن يخلص الكلاب من بلواها بعد أن عضتها كلاب مسعورة عضاً شديداً، وفي المساء ذهبا معه إلى الطفل فلما رأى يليبان جروحه عابسة متقيحة ألح على بستور أن يقوم بتلقيحه تواً. قال:(قم يا رجل وابدأ علاجك، فانك أن لم تفعل مات هذا الغلام لا محالة)

وفي هذه الليلة، الليلة السادسة من يوليو عام 1885، حقنت أول حقنة من لقاح الكلَب في أدمي، وقضى الطفل أربعة عشر يوما أخذ فيها أربع عشرة حقنة من إبرة تحت الجلد فلم يصبه سوء، ثم عاد إلى الألزاس فلم يأته بعد ذلك عرض من أعراض هذا الداء المخوف

ص: 24

أبداً

في العدد القادم آخر مقال عن بستور

احمد زكي

ص: 25

‌أندلسيات:

ابن بسام صاحب الذخيرة

والشاعر أبو مروان الطُّبني

للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي

ومادمنا قد ترجمنا للفتح بن خاقان صاحب مطمح الأنفس وقلائد العقيان، وقد بان لك من هذه الترجمة أن ابن بسام كان معاصراً للفتح، وأنهما يتشابهان من وجوه شتى أن لم يكن منها إلا أنهما كليهما تصديا للكلام على أدباء عصرهما وشعرائه لكفى؛ نقول مادام الأمر كذلك كان جميلاً بنا أن نردف ترجمة الفتح بترجمة ضريبه ابن بسام. . . .

وسيمر بك قربا ما نتعرف به سبب ذكرنا الشاعر أبا مروان الطُّبْني مع ابن بسام في ترجمة واحدة. . .

(ثم وإما بعد) فإنا إلى هذه اللحظة التي تترجم فيها لابن بسام لم نعثر على ترجمة قد عقدها له وأفردها للقول عليه، وإن كان مؤرخو الأندلس وغير الأندلس كثيراً ما ينقلون عن هذا الأديب كعمدة لهم، وثبت فيما يعالجون من تاريخ أدباء الأندلس، حتى أن المقري ذكره في نحو من أربعين موضعاً من نفح الطيب ولم يفرد له على ذلك ترجمة، وكذلك كثيراً ما ينقل عنه ابن خلكان وغير ابن خلكان. . . .

ومن غريب الأمر في هذا الباب، ومن سوء حظ هذا الأديب، بل من تخبط الناس في أمره، أنك ترى النسخ المخطوطة للذخيرة في دار الكتب سواء أكانت المكتوبة بخط مغربي أم المنقولة عنها بخط مصري قد غُمَّ على نساخها وشبه لهم، واختلط الليل بالنهار، فظنوا أن صاحب الذخيرة هو ابن بسام المعروف بالبَسَّامي الشاعر الهجاء البغدادي المتوفى سنة ثلاث وثلثمائة، ونقلوا ترجمة هذا الشاعر من ابن خلكان كما هي وألصقوها بصاحب الذخيرة، وصدق فيهم بهذا التخبط الغريب قول عمر ابن أبي ربيعة:

أيها المنكح الثريا سهيلاً

عْمرَكَ الله كيف يلتقيان

هي شامية إذا ما استقلت

وسهيل إذا استقال يمان

واقْعَدُ من هذا في باب التخبط والتخليط أن خطبة الذخيرة الحقيقية كما سيمر بك. . وقد مر

ص: 26

على واضعي فهرس دار الكتب هذا التخليط فلم يتفطنوا إليه، وظنوه صحيحاً، وقالوا إن الذخيرة هي لابن بسام المعروف بالبسامي الشاعر الخ الخ ونقلوا نتفاً من هذه الخطبة المفتلة، وإن كان لهم في هذا الصنيع كل المعذرة. . . (وبعد) فأنا على هذا كله سنقدم إليك صورة وان مُصغَّرة لهذا الأديب الأندلسي العظيم لقد التقطنا أجزاءها من ههنا وههنا

أزلفنا في ترجمة الفتح أن أبا الحسن علي ابن بسام صاحب الذخيرة كان في زمن الملثمين - يوسف بن تاشفين وأولاده - ونزيد هنا أن حياته امتدت إلى أيام أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي رأس دولة الموحدين الذين أدبل لهم من الملثمين وآضوا بذلك ملوك المغرب والأندلس، إذ جاء في نفخ الطيب ما نصه:(وتأخرت وفاته - أي وفاة ابن بسام - إلى سنة 524) ويبدو من هذا أن ابن بسام عاش بعد الفتح بن خاقان نحواً من سبعة عشر عاماً. . .

ولد ابن بسام في شنترين وهي بلدة من الُكوَر الغربية البحرية من أعمال بطليوس، ومن ثم يقال له الشَنْتريني، ومن مؤرخي الأندلس من يقول الشَّنْتمَري نسبة إلى بلدة بالأندلس في الشمال الشرقي لقرطبة يقال لها شنْت مَريّه (أي مريم المقدسة)، وفي هذه البلدة يقول الأديب النحوي أبو محمد بن السيد البطليوسي:

تنكرت الدنيا لنا من بُعدكم

وحفَّت بنا من معضل الخطب ألوان

أناخت بنا في أرض َشنْتَ مرِيَّة

هواجس ظن خان والظٌّن خَوّان

رحلنا سَوامَ الحمد عنها لغيرها

فلا ماءها صدَّا ولا النبتُ سعدان

ولم يحدثنا المؤرخون عن مولده ونشأته، ولا عن مشيخته وكيف تعلم، فلا علينا إذا نحن تخطينا هذا واكتفينا بالكلام عليه من ناحية منزلته الأدبية وإيراد شيء من منظومه ومنثوره والقول على أثره الخالد كتاب الذخيرة. . .

كان أبو الحسن علي بن بسام صاحب الذخيرة أديباً كاتباً شاعراً، وكان المنثور أغلب عليه من المنظوم، مثله في ذلك مثل الفتح، فكان منثوره فائقاً بارعاً جميلاً وأن كان يغلب عليه السجع كسائر معاصريه، أما شعره فقد كان دون نثره. ومما عثرنا عليه من شعره أبيات أوردها العالم الأديب أبو الوليد إسماعيل بن محمد الشقندي الأندلسي المتوفي سنة 629 في رسالته البديعة التي يفضل فيها الأندلس وأهل الأندلس على بر العُدوه - مراكش - وأهل

ص: 27

بر العدوه، قال الشقندي: وهل منكم من يقول منادياً لنديمه، وقد باكر روضا بمحبوب وكأس، فألفاه قد غطى محاسنه ضباب فخاف أن يكسل نديمه عن الوصول إذا رأى ذلك وهو أبو الحسن بن بسام:

ألا بادر فلا ثان سوى ما

عهدت الكأس والبدر والتمام

ولا تكسل برؤيته ضبابا

تغص به الحديقة والمدام

فان الروض ملتثم إلى أن

توافيه فينحط اللثام

وجاء في نفح الطيب ما نصه: (وقال أبو الحسن علي بن بسام صاحب الذخيرة، وشهرته تُغني عن ذكره، ونظمه دون نثره يخاطب أبا بكر بن عبد العزيز

أبا بكر المجتَبىَ للأدب

رفيع العماد قريع الحسب

أيلحن فيك الزمان الخؤون

وُيعرب عنك لسان العرب

وان لم يكن أفقنا واحدا

فينظمنا شمل الأدب

أَصَدَّقْتَ أن منظومه دون منثوره! أذن لا تتوقع من ابن بسام الأديب الكاتب شعراً من النسق الأعلى، وهكذا شأن أكثر الكتاب كما نبهنا في كلامنا عن الفتح بن خاقان؛ وكذلك ترى أكثر الشعراء الفحول لا يجيدون المنثور وأظنك لا تجهل ما أورده العلامة ابن خلدون في مقدمته شرحاً لهذه الظاهرة: ويبدو لنا أن لابن بسام شعراً كثيراً في أكثر أبواب الشعر لم يتيسر لنا الوقوف عليه، يدل على ذلك تلك الأبيات التي يقولها الشاعر الوشاح الأندلسي أبو بكر بن عبادة القزَّاز في ابن بسام وهي:

يا منيفا على السماكين سامى

حزت خصل السباق عن بسام

أن تحك مدحة فأنت زهير

أو تشيب فعروة بن حزان

أو تباكر صيد المها فابن حجر

أو تبكي الديار فابن خذام

أو نذم الزمان وهو حقيق

فأبو الطيب البعيد المرامي

وعلى هذا فلنضرب عن ابن بسام الشاعر، ولنعرض لابن بسام الكاتب ولأثره الفذ الخالد كتاب الذخيرة. . .

نقول أن ابن بسام يمتاز من الفتح بأشياء: أهمها أنك لا ترى في أسلوبه ذلك التقعّر وتلك الطنطنة التي تراها في أسلوب الفتح، وإنما ترى أسلوبا هادئ متزنا رصينا جميلا،:. وانك

ص: 28

ترى ابن بسام ناقداً بارعاً كثيراً ما يُعقب على ما يختار تعقيباً يدل على تمكنه ورسوخه في الأدب، ومن ثم كان أكثر من الفتح تقييداً، وعلماً مفيدا،. . وانك تراه أعفَّ لساناً، وأنزه بياناً من الفتح، فلا ترى منه ذلك الإقذاع الذي تراه من الفتح. واليك نموذجاً من تراجمه هو مصداق لما نقول، وهو ترجمته للشاعر الأندلسي أبى مروان بن زيادة الله الطُّبْني

(يتبع)

عبد الرحمن البرقوقي

ص: 29

‌قصة واقعة:

أعرابيّ في حمام. . .

الأستاذ على الطنطاوي

صحبنا في رحلتنا البرية إلى الحجاز، دليل شيخ من أعراب نجد، يقال له (صْلَبّي) ما رأيت أعرابياً مثله، قوة جنان، وفصاحة لسان؛ ولولا مكان النبرة البدوية من لسانه، لقلت قد أنصرف الساعة من سوق عكاظ لبيان لهجته، وقوة عارضته، وكثرة ما يدور على لسانه من الفصيح. . . وكان أبيّ النفس، أشم المعطس، عالي الهمة، كريم الطباع، ولكن فيه جفوة الأعرابي. . .

رافقنا أياماً وليالي، فما شئنا خلة من الخير إلا وجدناها فيه: كان يواسينا إذا أُصبنا، ويؤثرنا إذا ضقنا، ويحمينا إذا هوجمنا، ويحرسنا إذا نمنا، ويقنع إذا قسمنا، ويشكر إذا أعطينا، ويصبر إذا منعنا، ويعذر إذا اعتذرنا، ويعفو إذا أسأنا ولين إذا اشتددنا، ولا يشتدّ إذا لنّا. . . على خفة روح، وسرعة جواب، ونكتة حاضرة، وشجاعة نادرة. . . قلنا له مرة:

- إن (صْلبة) في عرب اليوم، (كباهلة) في عرب الأمس، قبيلة لئيمة خسيسة، يأنف الكرام من الانتساب إليها، وأنت فيما علمنا سيد كريم، من سادة كرام، وليس لك في هذه القبيلة نسب، فما بالك تدعى (صْلبي) ولا تغضب؟

- فقال: صدقتم والله، ما أنا من (صْلبة) ولا (صُلبة) مني، أني لكريم العمّ والخال، ولكن لهذا الاسم قصة وأنا قاصّها عليكم

- قلنا له: هات

- قال: كان أبواي مُثكلَين لا يعيش لهما ولد، فلما رزقا بي تاسع تسعة ماتوا جميعاً، وأعجزتهما الحيلة، احتسبا عند الله مصيبتهما بذل الاسم، وسمياني صْلبي

- قلنا: أن سمياك صْلبي عشت؟

- قال: نعم! أن عزرائيل أكرم من أن يقبض روح صْلبي؟ وأرفع من أن يمسه بيد. . .

- وسألناه مرة: هل أنت متزوج يا صْلبي؟

- قال لقد كنت متزوجاً بشر امرأة تزوجها رجل، فما زلت أحسن إليها وتسيء إلي حتى

ص: 30

ضقت باحتمالها ذرعاً، فطلقتها ثلاثاً وثلاثين

- قلنا: أنها تبين منك بثلاث، فلم الثلاثون؟

- قال: صدقة مني على الأزواج المساكين الذين لا يجدون ما يطلقون. . .

وطال بنا الطريق إلى تبوك، وكاد ينفذ ما كان معنا من ماء، وخشي القوم الموت، فاقبلوا كلهم على صْلبي، يتذمرون من بُعد تبوك وطول الطريق، فتركهم حتى إذا أنفض كلّ جعبته قال لهم ضاحكاً:

- معكم الحق، أنها بعيدة، ولكني اقسم لكم بالله أني لم أضعها هناك. . . وليس لي في بعدها يدان

ولم يكن صْلبي يعرف المدن الكبيرة، ولم يفارق الصحراء قط إلا إلى حاضرته تبوك (وتبوك قرية فيها ستون بيتا. . .) فلما بلغنا - قافلين - مشارف الشام: أغريناه دخول الدينة، وجعلنا نصف له الشام: رياضها وأنهارها، وعظمها وعمرانها، فيأبى؛ وكنت صفيّه من القوم خليله ونجيّه، فجعلت أحاوله وأداوره وبذلت في ذلك الجهد، فلم أصنع معه شيئا، لما استقر في نفسه من كراهية المدن وسوء الظن بأهلها. . . فتركناه مرغمين، وودعناه آسفين!

وعدت إلى دمشق، فانغمست في لجة الحياة، وغصت فيها إلى أذنيّ، ونسيت صْلبي وصحبته، وكدت أنسى الصحراء وأيامها؛ ومرت على ذلك شهوراً. . . وكان أمس فلمحت في (باب الجابية) وسط الزَّحم الهائل وجهاً أعرفه، فذهبت أنظر إليه، فإذا هو وجه صْلبي بعينه وأنفه. . . فأقبلت عليه مسروراً:

- صْلبي. . . هذا أنت؟

- قال: لا صْلبي ولا ملبي. . .

- قلت: لم ويحك؟

- قال أنا في طلبك منذ ثلاث، ثم لا تأتي إلي

- فقلت له ضاحكا: وأيّ ثلاث، وأيّ أربع، وأيّ خمس؟ أتحسبها تبوك فيها ثلثمائة إنسان؟ إنها دمشق يا صْلبي فيها ثلثمائة ألف؟. . .

- قال: صدقت والله!

ص: 31

وأخذت بيده فاستخرجته من هذه الزحمة، وملت به إلى ندىّ (مقهى) قريب، فجلسنا فيه ودعوت له بالقهوة العربية والشاهي فسر وانطلق يحدثني، فقال:

لما فارقتكم ورجعت أسير في هذه البادية وحيداً، شعرت بالوحشة وحننت إلى هذه الأيام التي قضيتها معكم، فاستعبرت وجعلت ألوم نفسي وأقول: يا نفس ما كان ضرك لو أجبت القوم ورددت الشام فرأيت ما لم تري؟ وانصرفت إلى أهلي فلبثت فيهم شهراً، ثم دعاني الأمير فارتحلت إليه، فإذا عنده رهط من أهل الحضر يريدون دليلاً، فسرت معهم أدلهم حتى بلغت بهم مشارف الشام، فدعوني وألحوا عليّ فاستجبت لهم فدخلوا بي دمشق. . .

فلما بلغنا (الميدان) وصرنا بين البيوت، رأيت سيارة كسياراتكم تلك، ولكنها أكبر وأضخم، ولها نوافذ وفيها غرف، وقد خطوا لها خطين من حديد فهي تمشي عليهما، فقال صاحبي: هذا هو الترام، فتعال نركب فيه

قلت: لا والله ما أحب أن أركبه

فزينوه لي وحببوه إليّ، حتى استحييت منهم لطول ما يسألونني وآبى، فدخلت ويدي على خنجري أن رأيت من أحد ما أكره وجأته به، وعيني إلى النافذة أن رابني أمر قفزت إلى الطريق، وجلست حذراً، فما راعني إلا رجل بثياب عجيبة، قد شق إزاره شقاً منكراً، ثم خاطه حول فخذيه، وارتدى برداء ضيق، قد عمد إليه فصفف في صدره مرايا صغيرة من النحاس ما رأيت أعجب منها، فبدا كأنه قرد. . . ولم أدر ما هو، ثم رجع إليّ ما غرب من عقلي، فقلت رومي مجنون من هؤلاء الروم الذين يحكمون الشام، وخف إن أنا لنت له أن يسطو عليّ، فسللت خنجري لأغمده في صدره إذا هو انتهى إليّ، فقام إليّ صاحبي يقول:

- مالك يا صْلبي، ماذا عراك؟

- قلت: ألا ترى الرومي المجنون؟

- قال: أي رومي يا صْلبي؟ وأي مجنون؟

- قلت: هذا؟ آما تراه؟

- قال: هذا جابي الترام

- قلت: جبّك الله!!

وسكت فقد أقبل هذا القرد على صاحبي، فمد إليه يداً كأنها حجر الرحى، فوضع فيها جُبنة

ص: 32

قرشين، فأعطاه بهما فتاتة ورق فما رأيت ولله صفقة أخسر منها، وعجبت من صاحبي إذ يشترى بقرشين اثنين ورقة ما تصلح لشىء، ولكني جلست صامتاً، وما هي إلا هنيهة أخرى حتى أقبل علينا رجل كالأول، رومي خبيث، إلا أنه أجمل ثياباً وأحسن بزة، فأخذ هذه الأوراق فمزقها. . . فثأرت ثائرتي وقلت: هذا والله الذل، فقبح الله أعرابيا يقم على الضيم، ويرضى أن يسام الخسف. . . وقمت إليه فَلَبَّبتُه وقلت له: يا ابن الصانعة. . . أتعمد إلى شيء اشتريناه بأموالنا، ودفعنا فيه قروشنا فتمزقه، والله لأمزقن جلدة وجهك. . . .

وحسبت صاحبي سيدركه من الغضب لكرامته، والدفاع عن حقه مثل ما أدركني، فإذا هو يضحك، وإذا الناس يضحكون لما يرون مني، لأن عمل هذا الرجل - فيما زعموا - تمزيق أوراق الناس التي اشتروها بأموالهم!

ولما نزلنا من هذه الآفة، قال لي صاحبي:

- هلم إلى الحمام؟

- فقلت: مالي وللحمام؟

- قال: تغتسل وتلقي عنك أدران السفر

- قلت: أن كان هذا هو الحمام، فمالي بالحمام من حاجة، حسبي هذا النهر أغطس فيه فأغتسل

- قال: هيهات. . . أن الحمام لا يعد له شيء، أو ما سمعت أن الحمام نعيم الدنيا؟

- قلت لا والله. ما سمعت:

- قال: إذن تسمع وترى. وأخذني فأدخلني داراً قوراء في وسطها بركة يتدفق منها الماء فيذهب صعداً كأنه عمود من البلور، ثم ينثني وينكسر ويهبط وله بريق ولمعان: صنعة ما حسبت أن يكون مثلها إلا في الجنان. وعلى أطراف الدار دكك كثيرة مفروشة بالزرابي والأرائك والمتكئات كأنما هي خباء الأمير. فلم نكد نتوسطها حتى وثب إلينا أهلوها وثبة رجل واحد يصيحون علينا صياحاً غريباً، ويصرخون صراخ من به مسّ، فأدركت أنها مكيدة مدبرة، فانتضيت خنجري وصحت بهم: مكانكم، فوالله لا يدنو مني رجل إلا قططت رقبته. . . فأحجموا، وعجبوا ورعبوا، فقال صاحبي: أنه يمزح. ومال علي يعاتبني عتاباً

ص: 33

شديداً، فقلت: أفلا ترى صنيعهم بنا، أفتحب أن ندعهم حتى يأخذونا، قال إنهم يرحبون بنا، ويسلمون علينا لا يريدون حرباً ولا قتالاً

فصدقته وأغمدت الخنجر، وظن القوم أنه المزاح، فعادوا إلى حركاتهم وضجتهم، يدورون حولنا بقباقيبهم العالية، ويجيئون ويذهبون، وأنا لا أدري ما هم صانعون، حتى قادونا إلى دكة من هذه الدكك، وجاؤا ينزعون عنا ثيابنا، فتحققت أنها المكيدة وأنهم سيسلبونني خنجري حتى يهون عليهم، فقد عجزوا أن ينالوني وبيدي الخنجر فأبيت وهممت بالخروج. فجعل صاحبي يكلمني ويحلف لي، حتى أجبت واستسلمت، والموت أهون علي من أن أنزل عن سلاحي، وأمنحهم سلبي حتى يسلبوني، ولكنها المدينة دار المذلة والمهانة، وليست بالصحراء، ولو أني لقيتهم في الصحراء لجعلتهم طعمة للوحش والطير. . . حتى إذا تمّ أمر الله ولم يبق إلا الإزار، أرادوا نزعه عني، فقلت: أما من مسلم في هذا البلد؟ أما من عربيّ؟ أتكشف العورات فلا يغير أحد، ولا يغضب إنسان؟

فهدأني صاحبي، وقال: أفتغتسل وأنت متزر؟

قلت: لعن الله نظافة الجسم إذا كانت لا تأتي إلا مع نجاسة النفس، ويحك أتراني أضيع ديني وشرفي وأنكشف بعد هذه الشيبة، وتذهب عني في العرب، فتكون فضيحة الدنيا والآخرة؟

قال: ومن أنبأك أنك ستنكشف؟ هلا انتظرت؟

ودعا غلاما من أغلمة الحمام فقام دوني يسترني، ستره الله، حتى خلعت إزاري واتّزرت بإزار أبيض أعطونيه. . . وكان صاحبي قد تعرّى كما تعريت فأخذ بيدي فأدخلني إلى باطن الحمام فإذا غرف وسطها غرف، وساحات تفضي إلى ساحات، ومداخل ومخارج ملتوية معوجة يضل فيها الخرّيت، وهي مظلمة كالقبر، قد انعقدت فوقه قباب فيها قوارير من زجاج، تضيء كأنها النجوم في الليلة الداجية، وفي باطن الحمام أناس جالسون إلى أجران ضخمة من الصخر، عرى لا يسترهم شيء، فعلمت أنهم من الجن. وتعوذت بالله من الشيطان الرجيم، وجعلت ألتمس آية الكرسي فلا أجدها، فأيقنت لما نسيتها أن جنياً منهم لابد راكبني، وجعلت أبكي على هذه الشيبة أن تكون سخرية صبيان المدن. . . وإني لكذلك إذا بالخبيث يعود إلى يريد أن ينزع عني هذا الأزرار الذي كسانيه. . . فقلت: ويل

ص: 34

أمهاتكم! ما ألأمكم! أتأخذون ثيابي وسلاحي، ثم تضنون عليّ بثوب يسترني؟ الرحمة يا مسلمون، الشفقة يا مؤمنون! أأفتضح في الأنس والجن؟

ووثب الجن عليّ وحدقوا بي وهم عرى، فَقفَّ والله شعر بدني، وامتلأت فزعاً؛ فقال صاحبي وهو يضحك: أعطهم الإزار لقد أضحكت الناس علينا

قلت: ويحك، وهل أبقى عريان؟ قال: لا، سنعطيك غيره. أن هذا جديد يفسده الماء

فاستخذيت وأطعت، وما خوفي إلا من هؤلاء الجن أن ينفخ على أحدهم فيحرقني، أو يدفعني دفعة فيلقيني وراء جبل قاف!

ودخلت إلى مقصورة من هذه المقاصير، فجلست إلى الجرن حزيناً كئيباً لا أعلم ماذا يجري علي، فبينما أنا على تلك الحال - وإذا بجني عار كأنه قفص عظام، له لحية كشوك السعدان - وودت أنها عشاء لجملي. . . وقد تأبط ليفاً غليظاً - يا شر ما تأبط! - وحمل ماعوناً كبيراً يفور فوراناً فتشهدت واستغفرت وعلمت أنه السم، وأنه سيتناثر منه لحمي - وقصد الجنيّ إليّ - فجعلت أفر منه، أتوثب من جانب إلى جانب، كأنني دجاجة تفر من سكين الجزار وهو يلحق بي ضاحكاً، ويعجب من قبلي ويظن أني ألاعبه وأداعبه، وصاحبي يقسم لي أنه الصابون.

- قلت: وما الصابون لا أم لك - أمصابون أنتم في عقولكم؟ هذا هو السم، لقد عرفته. . .

- قال: لا وأبيك أنه الصابون، ولا ينظف شيء مثله.

- قلت: ألا شيء من سدر؟ ألا قليل من أشنان؟

- قال: والله ما أغشك فجرب، ونطق الجني فإذا هو والله كلام الناس، وإذا هو أدمي من أمثالنا، فاطمأنت وجلست بين يديه، وأقبل على يدلكني دلكاً شديداً، وأنا أنظر هل تساقط لحمي، هل تناثر جلدي، فلا أجد إلا خيراً فضننت أنه قد أحسن إلي، وهممت بشكره، لولا أن ظهر أنه شيخ سوء من القوم الذين أهلك الله، فقد كان يتغافلني ويمد يده تحت الإزار، فيمس فخذي وساقي، فقلت: لو نجا منه أحد، لأنجتني هذه الشيبة، وجعلت أهم بهشم أنفه، وهشم أسنانه ثم أدعه، حتى انتهى وصبَّ على الماء سخنا، فشعرت والله كأنما نشطت من عقال، وأحسست بالزهو والخفة، فصحت فأنكرت صوتي، فقلت: ماهذا؟ أينطق على لساني مغن من الجن؟ وأعدت الصيحة فازددت لصوتي إنكاراً، فاستخفني الطرب وجعلت

ص: 35

أغنى وأحدو، فقال لي صاحبي: هل أستطبت صوتك؟

قلت: أي والله، قال: أفلا أدلك على باب القاضي؟

قلت: فض الله فاك. مالي وللقاضي؟ هل أحدثت حدثاً؟ هل آويت محدثاً؟ هل. .

قال: ألا تعرف قصة جحا؟

قلت: لا والله! فمن جحا؟ وما هي قصته؟

قال: كان جحا عالماً تحريراً، إلا أن فيه لوثة، وكان خفيف الروح، فدخل الحمام مرة فغنى فأعجبه صوته، فخرج من فوره إلى القاضي فسأله أن ينصبه مؤذناً، وزعم أن له صوتاً جميلاً، لا يدخل أذن رجل إلا حمله حملاً فوضعه في المسجد

فقال له القاضي: فقم على المنارة فأذن نسمع، فقام فأذن، فلم يبق في المسجد أحد إلا خرج هارباً يتعوذ. . .

فقال له القاضي: أي صوت هذا؟ هذا الذي ذكره الله في الكتاب

قال اصلح الله القاضي، ما يمنعك أن تبني لي فوق المئذنة حماماً؟

ولمح (صلبي) أعرابياً من أهل نجد يمر في الطريق، فقال لي: أنتظر! وخرج يعدو وراءه. . .

. . . . ثم لم يعد!

على الطنطاوي

ص: 36

‌وقائع كأنها القصص

السر

بقلم محمد مصطفى حمام

دخلت على الباشا والمجلس حافل والسرور شامل، فلقيني بما عود زائريه من بشاشة وترحيب، وأقبل بعدى آخرون يخلفون أعماراً وألواناً، فمنهم الشيخ العتيق المحطم والفتى الأنيق المهندم، ومنهم الحضري الناعم والفلاح الخشن، فتقبل الجميع بقبول حسن، وأفاض عليهم من عطفه مثل ما أفاض عليهم من عطفه مثل ما أفاض عليّ

وجاء الخادم يبشر بزائر جديد شعرت عند سماع اسمه بكثير من السرور، فهو اسم أحد السراة الظرفاء الذين سمعت عنهم دون أن ألقاهم، وما كان أشوقني إلى هذا اللقاء!

ولم ينتظر الزائر آذن الباشا بالدخول، بل اقبل في أثر الخادم، وإذا نحن نستقبل رجلاً سمهري القامة، بهي الطلعة، وافر الحظ من المهابة والروعة، ولقد أهتز له المجلس تعظيماً وإكباراً، إلا الباشا فلم يعبأ بمقدمه، ولم ينشط لاستقباله، بل صافحه وهو لاصق بكرسيه، ثم أشاح وجهه عنه، وأقبل بالحديث على سواء

وأخذتني من هذا اللقاء السيئ دهشة وعجب، وجعلت التمس للأمر كثيراً من العلل

قلت لنفسي: قد يكون القادم من الأنسباء أو ذوي القربى، فلا حاجة بصاحب الدار إلى المبالغة في تكريمه، أو لعل اقتحامه المجلس دون انتظار الإذن هو الذي أغضب الباشا عليه

ورأيت جو المجلس قد أظلم بعد استقرار الضيف الجديد في مكانه، وبد على الباشا ضيق وضجر، وحاول الرجل أن يظفر من صاحب البيت بلفتة إليه، أو إقبال عليه، فلم ينل إلا جفاء وإعراضا

ثم انحنى على الباشا يحاول أن يسر إليه حديثاً، فنهره كما ينهر السائل، وصاح به وشرر الغضب يتطاير من عينيه:

لقد أنقطع ما كان بيني وبينك، فلا تعكر صفاء مجلسي بقدومك، ولا تحاول استرداد مودتي فذلك ما لن يكون

وانصرف الزائر خاسئ البصر، لا يكاد يرى مما حوله شيئا، وودعناه راثين لحاله! وأخذ

ص: 37

المجلس يتبدد، حتى لم يبق إلا أنا وصاحب الدار، فلما هممت بالانصراف استبقاني

قال الباشا: لعلك أسأت الظن بأدبي؟

قلت: معاذ الله

قال: أضنك في دهشة من سوء لقائي لضيفي، وربما أهمك أن تعرف السر

قلت: لا أرى في معرفته باساً

قال: لا يزال الصديق محباً إلى قلبك، رفيع القدر في عينك، حتى تكشف لك الأيام منه عن عورة لا تستطيع الإغضاء عنها، فمالك يومئذ من ذنب إذا سقط عندك مقداره، وتمكن من نفسك احتقاره

هذا رجل صاحبني خمسة أعوام كاملة، ملأ في خلالها جوانب قلبي، واستأثر دون الأصدقاء بحبي، وجمعت بيننا مجالس بعضها لله وبعضها للشيطان، وفي أمثال هذه المجالس أسخو بالمال وأكون المتلاف المبذال

وكان هذا الرجل زميلي في كل هذه المجالس، ودليلي إليها في أكثر الأحيان

وقادني إلى بيت في حي من اجمل أحياء المدينة. نادمنا فيه نسوة ثلاثاً كأنهن الحور العين، فقطفنا منهن ورد الخدود، وداعبنا غصون القدود، وصار هذا البيت معهد غرامنا نسعى إليه بين الحين والحين، ولكن في جنح الليل، وفي غفلة من الجيران

وما هي إلا اشهر معدودات، حتى علمت علم اليقين إن هذا البيت الذي نعبث بنسائه ونلهو، هو بيت صاحبي دون سواه! وان نديماتنا هن امرأته وقريبتاه! هن اللائى نغازلهن ونقبلهن! وهن اللائى ينلن مني أجر العبث بهن، أدفعه سخياً كريماً، ويتقبلنه راضيات فرحات!

ولقد أخذني من هذه الحقيقة المؤلمة هول وفزع، فقد تكشف لي صديقي عن نفس خبيثة وعرض ممزق!

قلت: فهلا كاشفته بما علمت من دخيلته؟

قال: لقد كان عذره اقبح من ذنبه، فقد أفهمني أنه وقد عرف فيّ البعد عن الجريمة المنكرة، وجرب عليّ القناعة بالقبلة والمنادمة، وشهد سخائي في البذل، رأى أن يؤثر نفسه ونساء بيته بمالي، فهو وهن أحق بذلك المال الذاهب هباء، والملقى إلى أناس آخرين، ولم يجد في

ص: 38

الأمر ثلماً للعرض ولا نقصاً من الشرف، وما دام الغزل لا يصل إلى نهايته الأثيمة!

وتراءت في عيني صورة الرجل حين رأيته لأول مرة، وقارنت بين جمال المنظر وسوء المخبر، فذكرت قول الشاعر:

وهل ينفع الفتيان حسن وجوههم

إذا كانت الأعراض غير حسان!

محمد مصطفى حمام

ص: 39

‌نظرية النسبية الخصوصية

البحث الثالث

مبادئ الميكانيكا الحديثة

للدكتور إسماعيل احمد ادهم

عضو أكاديمية العلوم الروسية

- 1 -

لقد قررت سنّة لورانتز في التقلص أن سرعة النور أقصى سرعة يمكن أن توجد في الكون، وهذه السنّة نتيجة لكون سرعة الجسم كلما أخذت في الزيادة أخذت كتلتها تتقلص من اتجاه حركتها بنسبة رياضية ثابتة، حتى إذا ما قاربت سرعتها سرعة النور بلغ التقلص حداً لا متناهياً، لا يمكن أن يتقلص الجسم المتحرك بعده. فلو فرضنا جسماً يتحرك بسرعة معينة ولتكن (س)، فهذا الجسم حسب قانون التقلص يتقلص بمقدار ثابت مثل (ث) ومقدار هذا التقلص:

1

ث=ــــــــــ

1 -

ن2س2

لا يمكن أن تتجاوز السرعة (س) فأي وقت سرعة النور (ن) لأن هذا القانون يتلاشى إلى حيث لا يكون له معنى

لنفرض كتلة مادية مثل (ك) مقدار الطاقة الحركة التي بها (ط ح)، وهذه الكتلة تتحرك بسرعة مثل (س)، فهذه الكتلة تقرر قواعد الميكانيكا الكلاسيكية أن طاقتها الحركية:

(ط ح) =21ك س2

غير أن مبادئ النسبية استناداً على قوانين المجال الالكترومغناطيسي، ونظرية (ماكسويل - لورانتز) تقرر أن

ك ن2

ص: 40

ط ح=

ن2 - س2

فمقدار حركة الكتلة الماديّة (ك) لا يمكن أن تتجاوز في سرعتها سرعة النور، حيث أن سرعة الكتلة الماديّة المرموزة لها بالرمز (س) تستنفذ في حركتها جزءاً من مقدار طاقة الحركة (ط ح) حتى إذا ما بلغت سرعة النور سرعتها تكون الطاقة قد استنفذت كلها

- 2 -

لو فرضنا قوتين: سرعة الأولى (س) وسرعة الثانية (س1) وأن هاتين النقطتين أثرتا على نقطة مادية في اتجاه واحد. فتكون سرعة هذه النقطة المادية محصلة هاتين السرعتين ولنرمز بالرمز (س2) فقانون الحركات الكلاسيكي يقرر أن

س2=س + س1 (معادلة 1)

وهذا القانون النيوتوني يتبدل عند اينشتيجا ويتشكل في صورة رياضية أخرى تقررها المعادلة:

س + س1

س2=ـــــــــــ (معادلة 2)

1 + ن2س + س1

وهذه الصيغة الجديدة نتيجة لمبدأ ثبات انتشار النور

فمثلا لو فرضنا نظاماً مادياً يبتعد عن الشمس بسرعة 13000 كيلومترا في الثانية، فشعاعه النور الصادرة من الشمس والتي تتحرك نحو هذا النظام بسرعة 00 ، 000 ك م في الثانية تكون سرعتها بالنسبة لراصد في النظام المادي:

300.

000ك م + 13. 000 ك م=313. 000 ك م في الثانية حسب مبادئ الميكانيكا الكلاسيكية. أما قواعد النسبية فتقرر أن سرعة شعاع الضوء للمشاهد حسب قانون تركب السرع كما تقرره الميكانيكا الحديثة هي:

300.

000 + 13. 000

ـــــــــــــــــــ=300. 000 ك م في الثانية

ص: 41

300.

000 13. 000

1 + ــــــــــــ

300.

000 2

وهذه النتيجة توضح لنا تماماً أن سرعة النور سرعة مطلقة لا تتغير

- 3 -

إن علم الحركات يرى في الزمان حداً رابعاً للمادة، ولكنه لا يخرج عن كونه ملاحظة رياضية، حيث أن الزمان مطلق ومستقل عن المكان، وقد كان أستاذنا هنري بوانكاريه الشهير يفرض أن الزمان بعد رابع موهوم للمادة ويستند في إثبات ذلك على الرياضيات الثابتة إلا ألبرت اينشتين ومينقوفسكي تمكنا من إثبات أن الزمان له شأن طبيعي كحد رابع للحوادث

إذا فرضنا وقوع حادثتين غير معينتين وكان الخط الواصل بين الحادثتين (خ) مثلاً. فانتقالنا من نظام إلى آخر لا شك سيؤثر في الخط الواصل بين الحادثتين وسيتأثر الخط بانتقالنا ويتغير (راجع مقال وحدة القوانين الطبيعية)

وإذا كان الزمان الفاصل بين أوان وقوع الحادثتين (ت) مثلا ورمزنا لسرعة الضوء بالرمز (ن) كان معنا المعادلة

ف2= (ن2ت2) - خ2 (معادلة 1)، وهذه المعادلة ثابتة لا تتغير حيث فيها (ف) رمز لفاصلة الزمان المطلقة، والحادثات

ك، ى، ن، ت؛ ك1، ى1، ن1، ت1 لو طبقت على قانون التحويل الذي وضعه لورانتز كانت النسبة بين مجموع حوادث الكونين ثابتة حيث أن:

ف2=ن2 (ت1 - ت) 2 - (ك1 - ك) 2 + (ى1 - ى) 2= (ن1 - ن) 2 (معادلة 2) فإذن ليس الزمان بذلك الموجود المستقل عن المكان بل أنه مندمج فيه، وليس الزمان والمكان بمطلقين بل هما نسبيين إلا أنهما يندمجان في الفاصلة الثابتة الرياضية (ف)

ليس للزمان ولا للمكان شأن طبيعي وإنما اندماجهما يولد معنا حقيقة واحدة. فالمكان امتداد للزمان، أعني أن فواصل حوادث العالم تندمج في (ف) 2 الثابتة الرياضية وتكوّن وحدة هوكون (الزمان - المكان)

ص: 42

هذا الكون لا يتبع نسب وقياسات الحوادث، بل هو مطلق فلكل حادثة أو مجموعة من الحادثات مكانها وزمانها الخاص بها. أما كون (الزمان - المكان) فهو ذو حقيقة مطلقة غير تابعة لقواعد القياس. والمكان في حد ذاته ليس إلا مجموعة فواصل الحوادث، فواصلها الفراغية المتساوية أعني أنه قطاع للعالم في زمان خاص، أو بلغة أبسط هو العلاقة الانتشارية بين الحادثات واندماج المكان بالزمان في الثابتة الرياضية (ف)، توجد علاقة ثابتة بين الحوادث هي الفرق بين مربع الفاصلة الفراغية وحاصل ضرب سرعة النور بمربع الفاصلة الزمانية. هذه العلاقة تؤلف بين الحادثات وحدة ممتازة تحيل الكون عالماً مطلقاً هي منه الصفة المطلقة الوحيدة

- 4 -

لنفرض نظاما ماديا مثل (ظ) يتحرك حركة نسبيةند نظام مثل (ظ1) ولنفرض أن (خ) خط ثابت بالنسبة للنظام الثاني متحرك بالنسبة للأول بسرعة محدودة لترمز لها بالرمز (س) فطول هذا الخط بالنسبة لمشاهد في النظام الأول غيره بالنسبة لمشاهد في النظام الثاني

ولنفرض أن (خ) يمتد من النقطة (م) إلى النقطة (م1) فستبدو كل نقطة حادثة مستقلة عن الأخرى لكل من المشاهدين. وسيرى المشاهد الذي في النظام (ظ1) الحادثين متواقتين. أما المشاهد الذي في النظام (ظ) فان (خ) ستبدو له أطول مما تبدو للمشاهد الذي بالنظام (ظ1) كما وأن كل نقطة من نقطتي الابتداء والانتهاء ستبدوان له حادثتين مستقلتين عن بعض غير متواقتين

ولنفرض أن المحورين (ك م؛ ك1م1) منطبقين على بعضهما كل الانطباق وأنهما موازيين استقامة السرعة (س) للخط (خ) في كل من الكونين (ظ) و (ظ1) فإذا كانت المحاور

م ك، م ي، م ن. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (1)

موازية للمحاور

م1ك1، م1 ى1، م1ن1. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (2)

في كل من النظامين (ظ) و (ظ1) كان:

ك1=ث (ك - س ت) معادلة رقم (1)

ص: 43

ولابد من أن يكون:

ك1=ث كمعادلة رقم (2)

ليتحقق معنا تعادل المركز (م) مع الزمان (ث) ومن انطباق المركز على الزمان نستنتج أن

ك1

ك=ـــــ معادلة رقم (3)

ث

وهناتؤدي إلى أن

اس2

ــ=ـــ

ثن2

حيث أن ارمز لمعادلة التقلص

ولما كان المقدار العالي أصغر من (ا) كان ك1ك1

إن الخط (خ) بالنسبة للمشاهد الذي بالنظام (ظ1) أطول مما هو بالنسبة للنظام الأول. ومسألة تقلص الأطوال شيئاً فشيئاً كما تقرره ميكانيكية لورانتز ليست راجعة لتقلص الأجسام في اتجاه حركتها وإنما هي نتيجة لنسبية الأطوال. وليس هذا التقلص حقيقيا بل هو ظاهري حيث أن الواجب لا يمكنه ترتيب حدوث الحادثات كما تقع وإنما يرتبها حسب ما تتراءى له. وتقسيم الزمان والمكان تقسيماً مطابقا لموضوعها في صورة مستقلة عن بعضها لا يمكن إجراؤها في أي حال حيث أن سرعة اندفاع الجسم إذا بلغت سرعة انتشار النور أو ما قاربها بلغ التقلص أقصاه ولم يصبح للجسم عمق لدى النظر، لان الأجسام عندما تبلغ من السرعة هذا الحد تلوح كصفائح رقيقة

وحاصل القول أن الأطوال تابعة لحالات المشاهدين الطبيعية من الحركة والسكون

- 5 -

لنفرض ساعة في النظام (ظ). فهذه الساعة سيبدو إشعارها للزمان متأخراً بالنسبة لساعة النظام (ظ) فهذا التقلص في الزمان نتيجة العلاقة بين (ت، ت1) حيث أن:

خ ت=ث خ ت1 معادلة (1)

ص: 44

ولما كان تقلص الأطوال نتيجة للقانون:

خ ك=ثخ ك1 معادلة (2)

فقليل من البحث والاستفاضة في الدرس يكشف عن تساوي كل من

خ ك خ ت=خ ك1 خ ت1

حيث أن

خ ك، خ ى، خ ن، خ ت=خ ك1، خ ى1، خ ن1، خ ت1معادلة رقم (4)

ونخرج من هذا التساوي بحجم الجسم في عالم ذي أبعاد أربعة أو طوله في ذلك العالم

(للبحث بقية)

إسماعيل احمد ادهم

ص: 45

‌رسائل حاج

4 -

من ربوع الغرب إلى بلاد العرب

للمستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس

أستاذ التاريخ بجامعة بودابست

تتمة

وقف جلالة الملك ابن السعود فوق ذروة (جبل الرحمة) كرمز خالد لعبقرية الأمة العربية، يذرع الفضاء بعين نسر جبار، ويشرف على راحة الحجاج الضاربين بين خيامهم في السهول المجاورة. لكم كان منظره فاتناً خلاباً، والشمس تكنفه وتشرق عليه، بينما يلتف حوله الحرس الوهابي بملابسهم المزركشة وخناجرهم التي تلمع مقابضها في وهج الظهيرة.

وقبيل الغسق تحرك الركاب الملكي شطر (المزدلفة) فظهر في الجو غبار كثيف امتزج بصيحات الوهابيين الذين كانوا يهتفون (نحن أنصار التوحيد، اخوة من أطاع الله) وليس لأي كاتب مهما بلغت عبقريته أن يصف هذا المنظر وصفاً شافياً، ومن لي بالفصاحة والبيان لأصوره على حقيقته؟

وعند وصولنا إلى (منى) بلغ مسامعنا نبأ محاولة اغتيال الملك، فان ابن السعود ما كاد ينتهي من طوافه للمرة الثالثة حتى داهمه أربعة من اليمنيين وهم يصيحون بأعلى أصواتهم: الله اكبر! الله اكبر! محاولين أن يطعنوه بخناجرهم. فان لليمنيين مهارة وحذقاً خاصاً في استعمال الخناجر، لكنهم لم يصيبوا سوى ولي العهد وهو يهم بإنقاذ أبيه. ثم حمل الجنود على الجناة وحاولوا أن ينزعوا سلاحهم. ولما لم يفلحوا اضطروا إلى رميهم بالرصاص، وأريقت دماؤهم فوق ثرى هذه الأرض المقدسة. وكان الملك الذي طالما خاض غمار حروب ومعارك حتى لم يخل جسمه من شبر واحد من آثار الجروح، هادئا ساكنا فلم تبدُ على وجهه إمارات الجزع، بل قصد لساعته بئر زمزم فتوضأ، ثم عاد إلى إتمام طوافه بالكعبة

وكان للحادث أثره المؤلم في نفوس الحجاج، فاستنكروا بشاعة الاغتيال، وتوغل بعض

ص: 46

القتلة في الصفوف فخشي أن يحدث فرارهم رعباً في القلوب. ولقد أحسن الملك صنعاً بعودته السريعة إلى منى ليزيل ما علق بنفوس الحجاج من الرعب، فانه ما كاد يستقر في سرادقه حتى هرعت إليه جموع الحجاج ووفود البلاد لتقدم تهنئتها بنجاته من يد الآثمين. هنا سنحت الفرصة لان أقف وجها لوجه مع العاهل العربي الذي يحكم بلاده بالعدل والشريعة، ويسودها العطف والمحبة؛ فقد كان ابن السعود يجلس في سرادقه تحيط به ثلة من الحرس النجدي، وهم من صفوة الرجال الأشداء، وكانت ملابسهم المزركشة تخطف بسناها الأبصار، يتوج رؤوسهم العقال البدوي، وتتدلى من تحته ضفائر الشعر الكثيف الأسود حتى تصل إلى صدورهم، بينما أقداح القهوة العربية وأكواب الليمون المثلج تطوف على الوفود بين حين وأخر. وعندما غشيت مجلس الملك كان الخطيب الماثل بين يديه قد انتهى من خطابته، فلما التقى طرف الملك بطرفي أومأ إلى أن أتقدم، فجمعت شجاعتي وأنا في نشوة روحية عميقة، ورفعت يدي إلى رأسي إجلالاً واحتراماً ثم تقدمت. . .

لقد قابلت في شبابي وأنا في استامبول، السلطان عبد الحميد، ورافقت السلطان محي الدين في إحدى سياحاته، وزرت السلطان رشادا، وتحدثت إلى كثير من الرؤوس المتوجة في أوربا، لكنني لم أشعر مطلقاً أني وقفت وجهاً لوجه أمام التاريخ ألا في تلك المقابلة، لاسيما عندما رفعت عيني إلى وجه ابن السعود، ولمحت في ثناياه دلائل الحزم والقوة والشفقة والحنان والمهابة والجلال. ولقد لاحظت أن بطرف عينه اليمنى حولاً، بينما العين الأخرى قوية سليمة، والمعروف عن الملك أنه شجاع مقدام، تضرب القبائل بشجاعته المثل، فعندما كان في الحادية عشرة من عمره، قاتل في إحدى المعارك خصما له فقضى عليه بضربة من حسامه: وهو رجل شديد الإيمان بالله، ولقد كان إيمانه من أقوى الأسباب في تأسيسه المملكة السعودية وإحياء مجد الجزيرة العربية

وما كدت أقف أمام الملك حتى خاطبته بصوت جهوري فيه كل معاني الإخلاص: السلام على أمير المؤمنين، أنني أحمد الله على نجاتك من يد ذلك القاتل الأثيم عدو الدين

ومدَّ إليّ ابن سعود يده وصافحتها ثم طلب إلى أن أزوره في قصره؛ وبعد أن شهدت حفلة الاستعراض العسكرية التي أقيمت (بوادي الشهداء) ورأيت ضروباً من الفروسية العربية، تلك الفروسية التي خلقت من الحب أدباً عالياً ومن المرأة صنماً معبوداً توجهت إلى القصر

ص: 47

الملكي بناحية (المعلى) بالضواحي، وهو قصر عظيم شامخ البنيان، يشبه الحصون العسكرية، ويشتمل على عدد كبير من الغرف المتسعة الأرجاء والردهات والأبهاء ذات العمد

وجلست بقاعة الاستقبال، في انتظار التشرف بالمقابلة، فسرني أن التقيت بكثير من أعيان العرب، الذين يأتون للمثول بين يدي الملك بملابسهم الفخمة، فيحادثهم كإنسان يستشير اخوته، ويرسم معهم كل ما يتعلق بسياسة الدولة وتدبير وسائل الرفاهية والراحة للحجاج. ولقد راعتني البساطة التي ألفيتها متمثلة في الملك والشعب معا، فالرسميات المعقدة التي تتبع في بلاط ملوك أوربا لا وجود لها في هذا البلاط العميق الديموقراطية. والواقع أن ابن السعود هو عاهل الجزيرة العربية بلا منازع، ولم يؤل الملك إليه عن طريق الوراثة، بل آل إليه عن جدارة واستحقاق

وطفقت أستوعب الدقائق إلى أن يحل دوري فأتشرف بالمثول بين يدي الملك؛ وكنت من خلال فترة الانتظار جالساً في مكتب سعادة فؤاد بك حمزة وزير الخارجية، الذي ذكر لي أني أول حاج قدم إلى مكة من بلاد المجر؛ وما كاد يحل دوري حتى تقدمني فؤاد بك حمزة وغشينا مجلس الملك، وبعد أن صافحته أومأ إلى أن أجلس بجواره، وقدمت إلينا القهوة، فرأيته يرشفها بشغف ولذة. ثم بدأ الملك يتحدث إلي فقال:(لقد قدمت من نجد إلى بلاد الحجاز وجبت البلاد من الشرق إلى الغرب لزيارة بيت الله وتفقد حالة الحجاج. وغاية ما أرمى إليه أن أؤلف بين قلوب رجالي متوسلاً إلى الله أن يلهمني وإياهم الصواب في أعمالنا. لقد عنيت عناية خاصة بإقامة الشرائع المحمدية ونشرت الأمن والسلام في أنحاء الجزيرة العربية، وفي وسعك الآن أن تتجول في أقصى بقعة من بقاع الجزيرة دون خوف ولا وجل. وسترى عما قريب أنني سأعيد إلى هذه البلاد عظمتها القديمة حتى تصبح موئل الإسلام كما كانت أيام سيد المرسلين)

إن هذا العاهل العربي العظيم يلمس تماماً مواطن الضعف في كل ركن من أركان بلاده ويعمل على إصلاحه وتقويمه ما استطاع إليه سبيلا؛ فالسلام مع الرقى والتقدم هما الأمران اللذان يعني بهما عنايته بطعامه وشرابه، وإقامة حدود الله مع المحافظة على استقلال الجزيرة هما الغايتان اللتان يسترشد بهما في تأدية واجبه، وهو لعمري الطريق السوي

ص: 48

الذي يجب أن يسير فيه. وملك هذه صفاته وأعماله جدير حقا بأن يخلد التاريخ ذكره في ثبت الوجود

وبعد أن انتهيت من زيارتي استأذنته في الانصراف فقام من مجلسه منتصباً وبسط إلي إحدى يديه الغليظتين وظل قابضاً على يدي برهة وهو يرمقني بعينه المتسعة، وكانت ملامحه تدعو إلى الهيبة والاحترام إلى حد ألفيت نفسي عاجزاً عن أن أرفع إليه بصري، ثم ما لبثت أن هويت بفمي على راحته ألثمها في إكبار وإجلال

ولما أزفت ساعة الرحيل ودعت أصدقائي من سادة العرب وكبار العلماء كالأستاذ محمد شطا شيخ قضاة مكة، ورئيس الشرطة، وبعض الأطباء النابهين، ووصلت إلى جدة حيث قضيت أياماً في ضيافة الشيخ محمد علي وهو رجل علامة يحذق لغات شتى، وقد تجول في أنحاء أوربا، ويعرف الشيء الكثير من عادات الشرق والغرب

أقلعت الباخرة فوقفت في مقدمها واجماً ساكناً تتناهبني شتى العواطف، وأنا أودع هذه الأراضي المقدسة التي ربما أراها للمرة الأخيرة. وكلما بعدت بنا الباخرة اغرورقت عيناي بالدموع، فقد خلفت في تلك الديار صداقة جديدة تكاد لعذوبتها تشبه الحب، وذكرى عزيزة هي ثمرة عقيدتي في الإسلام واليوم الآخر. فما اعظم الفرق بين مدنية أصدقائي العرب، إخواني في الله، الذين تشبع في قلوبهم فكرة الاتصال بالواحد القهار فيصدفون عن الماديات، وبين مدنية المغرورين الذين يتهالكون فرقاً وراء قضبان المادة وينقعون غلتهم في شهوة المال!

عبد الكريم جرمانوس

ص: 49

‌مديرية أسوان

والحد الفاصل بين مصر والسودان

بقلم رشوان أحمد صادق

في الجغرافيا

أتحدث اليوم عن علاقة مصر بالأقاليم الجنوبية واهتمام المصريين بالحدود المصرية الجنوبية منذ بدء التاريخ إلى اليوم فأقول:

أول من أهتم بالجهات التي تتاخم حدود مصر الجنوبية هو الملك بيبي الأول ثاني ملوك الأسرة السادسة فأرسل القائد أونا إلى كروسكو ليجمع بعض أنواع الأخشاب فساعده قبائل تلك الجهات على أداء مهمته واعترفوا بسيطرة الملك بيبي عليهم. ثم أرسل الملك متوسوفيس (وهو الملك الثاني عشر من الملوك الأسرة السادسة) القائد هرخف لغزو بلاد بنت فعاد يحمل البخور والآبنوس والعاج والجلود حملها على ثلثمائة حمار وحمل معه قزماً من الدنقس أتى به من (بر الأظلال). فلما وصل مصر كان الملك متوسوفيس قد مات وخلفه أخوه الملك بيبي الثاني فسر بخبر القزم فكتب إلى هرخفف يأمر بإحضاره إلى منف، وهذا نص الكتاب:(واصحب معك في السفينة بعض الخفراء لحراسته كي لا يقع في الماء أو يفلت في الليل، لأني أسر برؤية القزم أكثر من جميع ما أحضرت من بلاد بنت)، فحفر هرخفف هذا الخطاب مع خبر غزوته على واجهة قبره في جزيرة الفنتين

وفي عهد الأسرة الثانية عشرة أرسل (اوسرتسن) الأول ثاني ملوك هذه الأسرة القائد هونو إلى بلاد بنت بطريق قفط والقصير لجباية الجزية من أمراء تلك البلاد، فأدى مهمته ثم عاد. وقد جرد هذا الملك حملة بطريق النيل فامتدت حدود مصر الجنوبية حتى الشلال الثاني، وقد عثروا على حجر في هيكل جهة حلفا (نقل الآن إلى فلورنسا) وعليه صورة هذا الملك وبجانبه المشايخ الثمانية لرؤساء القبائل التي تغلب عليها؛ وفي عهد (اوسرتسن) الثالث خامس ملوك هذه الأسرة امتدت حدود مصر إلى شلال سمنه جنوباً، وتوجد آثار هيكل من بقايا أعمال ذلك العصر، كما وجد حجران جعلا الحد الجنوبي للبلاد المصرية مكتوباً على أحدهما ما معناه: (هذا حد مصر الجنوبي الذي عين في السنة الثامنة من حكم

ص: 50

الملك أوسرتسن الثالث الخالد الذكر، فلا يجوز لأحد من السود أن يتعداه إلا في سفن تحمل البقر والماعز والحمير)، ووجد على الحجر الثاني ما معناه: أن الملك شيد هذا الحجر في السنة السادسة عشرة من حكمه وجعله حداً فاصلاً بين مصر وأثيوبيا، وله تمثال في تلك الجهة، وتوجد قلعة من آثاره في معتوق. وفي جزيرة ارقو توجد تماثيل وأطلال من آثار الأسرة الثالثة عشرة

وفي عهد الأسرة الخامسة عشرة التي أسسها العمالقة كانت مصر في حالة اضطراب، وهاجر كثير من المصريين إلى أثيوبيا وكونوا معاقل أهمها معقل ارقو، وحملوا معهم كثيراً من طرق الصناعة والفنون المصرية وأصبحوا دولة منظمة في عهد الأسرة الثامنة عشرة، ولم يتم الملك لأحمس الأول أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة إلا بمساعدة ملك أثيوبيا الذي زوجه من ابنته وساعده على طرد الهكسوس من مصر؛ ويظهر أن عاصمة بلاد الأثيوبيين هي مدينة نبته عند جبل البرقل بالقرب من مروى ويعرف بالهيروغليفية باسم الجبل المقدس، ودامت العلاقات الحسنة بين مصر وأثيوبيا إلى عهد تحتمس الأول ثالث ملوك الأسرة الثامنة عشرة إذ غزا الأثيوبيين وانتصر عليهم

وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة غزا رمسيس الثاني بلاد أثيوبيا وأقام هيكلاً في كلايشه تذكاراً لانتصاراته ويعرف الآن عند سكان كلايشه باسم بيت الولي. ورسم على الهيكل صورة رمسيس الثاني وهو يحارب في عربة، وعدة صور يتضح منه هزيمة الأعداء وتقديمهم القرابين له مثل الخواتم وأكياس الذهب وجلد الفهد وسن الفيل وبيض النعام. وجدد استخراج الذهب والزمرد من وادي العلاقي المعروفة قديماً باسم اكيتا وعلى هذا الطريق قلعة يظن أنها من أعمال رمسيس الثاني

ودامت سلطة مصر على أثيوبيا حتى الأسرة العشرين

بعد ذلك أنفصل أثيوبيا عن مصر، وذلك أن (سمنتوميامون) أحد ملوك الأسرة الحادية والعشرين نفى بعض الكهنة المصريين إلى أثيوبيا فخرجوا عن طاعته واستقلوا تحت إمرة أحدهم وبذلك رجعت حدود مصر إلى ما كانت عليه قبل الغزو

وفي آخر حكم الأسرة الثانية والعشرين هاجم الأثيوبيون مصر وأخذت حدود مصر الجنوبية تتراجع شمالاً حتى استولى الأثيوبيون أيام الأسرة الثالثة والعشرين على صعيد

ص: 51

مصر. على أن بمنخي ملك أثيوبيا بعد أن استولى إلى مصر فوجئ بخروج البلاد عليه وتقاسمها الأعيان لمدة خمسة عشر عاماً إلى أن قام أحدهم ويدعى (ابسمانيك) واستعان بجنود يونانية واستولى على جميع الأراضي المصرية وطرد الأثيوبيين وأعاد الحدود المصرية إلى أسوان. ولقد ذكر (هيرودوت) خبر فرار بعض الجنود المصرية في عهد ابسمانيك مؤسس الأسرة السادسة والعشرين فقال انهم ذهبوا إلى أثيوبيا واستوطنوا هناك وأطلق عليهم اسم (الأوتومولي) وعرفوا بهذا الاسم حتى القرن الأول للميلاد

وفي عهد البطالسة زحف ثامن ملوك هذه الأسرة على مملكة مروى وفتحها ثم سار جنوبا ففتح مدينة أكسوم، ودون خبر فتوحاته باللغة اليونانية على حجر من الرخام في ميناء (أدولس) المعروفة الآن بميناء (زولا) على عشرين ميلاً جنوبي (مصوع وهي ميناء أكسوم) ومع ذلك فقد عادت الحدود مرة أخرى إلى المحرقة في عهد سلفه

وبعد وفاة كليوباترا آل حكم مصر إلى الرومان. وأول من تولى مصر من الرومان هو كرنيوليوس جالسن وقد ظهر من بعض النقوش على بعض الآثار أن الملك (نويا كوتاس خوانوس)، ويظن أنه ملك نوبه، أرسل رسلاً في أيام هذا الحاكم إلى فيلة ودخل في حامية الرومان. وحاولت أثيوبيا غزو مصر في عهد ملكتها (كنداكه) حينما كان الرومان مشتغلين بغزو بلاد العرب ولكنها لم تفلح. وفي عهد (نيرون) أرسل حملة للكشف عن منابع النيل فوصلت إلى إقليم كثير المستنقعات ربما كان إقليم السدود الحالي، وكانت المحرقة آخر حدود مصر أيام الرومان كما كانت أيام اليونان، فرأى الإمبراطور (دبوقلشيان) أن خراج البلاد التي بين المحرقة وأسوان لا يفي بنفقات الجند اللازمة لجمعه فلا فائدة من الاحتفاظ بهذه البلاد فاقطعها للنوبة وأعاد الحدود المصرية إلى أسوان وقوى حامية الفنتين

وفي عهد الحكم العربي غزا المسلمون النوبة. قال ابن الأثير (فغزا المسلمون النوبة فرجعوا بالجراحات وذهاب الحدق لجودة رميهم فسموهم رماة الحدق) وفي سنة 21 هـ بث عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبي سرح في عشرين ألفاً إلى النوبة فمكث بها مدة ثم صالحهم وقرر عليهم الجزية ثم، استدعاه عمرو إلى مصر ثانية؛ وبعد موت عمر بن الخطاب رضى الله عنه تولى عثمان بن عفان فعزل عمرو بن العاص وولى عبد الله مكانه، وكان أهل النوبة نقضوا الصلح ووصلوا إلى الصعيد فردهم وغزاهم مرة ثانية

ص: 52

وصالحهم على أن يدفعوا 360 رأساً من الرقيق سنوياً على إن يرسل عبد الله إليهم بعض الحبوب. ويقول المسعودي (ولمن بأسوان من المسلمين ضياع كثيرة داخلة بأرض النوبة يؤدون خراجها إلى ملك النوبة وابتيعت هذه الضياع من النوبة في صدد الأمان في دولة بني أمية وبني العباس، وقد كان ملك النوبة استعدى المأمون حين دخل مصر على هؤلاء القوم بوفد أوفدهم إلى الفسطاط ذكروا عنه إن أناساً من أهل مملكته وعبيده باعوا ضياعاً من ضياعهم ممن جاورهم من أهل أسوان وإنها ضياعه والقوم عبيد لا أملاك لهم وإنما تملكهم على هذه الضياع تملك العبيد العاملين فيها. فرد المأمون أمرهم إلى الحاكم بمدينة أسوان ومن بها من أهل العلم والشيوخ

وعلم من أبتاع هذه الضياع من أهل أسوان أنها ستنزع من أيديهم، فاحتالوا على ملك النوبة بأن تقدموا إلى من ابتيعت منهم من أهل النوبة أنهم إذا حضروا حضرة الحاكم لا يقروا لملوكهم بالعبودية، وأن يقولوا سبيلنا معاشر المسلمين سبيلكم مع ملككم، يجب علينا طاعته وترك مخالفته، فان كنتم أنتم عبيداً لملوككم وأموالكم له فنحن كذلك. ولما جمع الحاكم بينهم وبين صاحب الملك أتوا بهذا الكلام للحاكم ونحوه مما وقفوا عليه من هذا المعنى، فمضى البيع لعدم إقرارهم بالرق لملكهم إلى هذا الوقت، وتوارث الناس تلك الضياع بأرض النوبة من بلاد مريس المجاورة لأسوان. وصار النوبة أهل مملكة هذا الملك نوعين: نوعاً من وصفنا أحراراً غير عبيد، والنوع الأخر من أهل مملكته عبيد هم من سكن النوبة في غير بلاد مريس). من ذلك يتبين أن الحدود الجنوبية لمصر لم تكن محددة تماماً أيام العرب، إذ أن بعض المصريين كان يملك أراضي داخل حدود النوبة. ويقول المقريزي انه في سنة 870 م وذهب أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحميد العمري إلى محاربة النوبة ورجع غانماً. ويفهم من كلام المقريزي أنه في سنة 956 م أغار ملك النوبة على أسوان وقتل جمعا من المسلمين فخرج إليه محمد بن عبد الله الخازن على عسكر مصر من قبل (أنوجور بن الإخشيد) سنة 957 م براً وبحراً وأسروا بعض النوبيين الذين ضربت أعناقهم بعد ما أوقع بملك النوبة، وسار الخازن حتى فتح مدينة أبريم، وقدم إلى مصر سنة 345 هـ بمائة وخمسين أسيرا. وقال أبن الأثير (في سنة 1173 م سار شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر من مصر إلى

ص: 53

النوبة فوصل إلى أول بلدهم. وكان سبب ذلك أن صلاح الدين وأهله كانوا يعلمون أن نور الدين كان على عزم الدخول إلى مصر، فاستقر الرأي بينهم أنهم يتملكون إما بلاد النوبة أو بلاد اليمن حتى إذا وصل إليهم نور الدين لقوه وصدوه عن البلاد، فإن قووا على منعه أقاموا بمصر وإن عجزوا عن منعه ركبوا البحر ولحقوا بالبلاد التي افتتحوها. فجهز شمس الدين وسار إلى أسوان ومنها إلى بلاد النوبة، فنازل قلعة اسمها أبريم فسلمت، فأقام بها ولم ير للبلاد دخلا يرغب فيه، فتركها وعاد إلى مصر بما غنم من العبيد والجواري). وقال المقريزي عن توران شاه هذا ما يأتي:(وأعطاه صلاح قوص وأسوان وعيذاب، وجعلها له إقطاعا، فكانت عيرتها في تلك السنة مائتي ألف وستة وستين ألف دينار، ثم خرج لغزو النوبة سنة 1174 م وفتح قلعة ابريم). واستمر غزو المماليك لبلاد النوبة مثل الظاهر بيبرس وقلاوون وغيرهم. ويقول ابن خلدون إن قلاوون عندما غزا النوبة أرسل السفن بالبحر. ويقول ابن خلدون (ثم انتشر أحياء العرب من جهينة في بلاد النوبة واستوطنوها وملكوها أيام الناصر بن قلاوون وملئوها عيثاً وفساداً، وذهب ملوك النوبة إلى مدافعتهم فعجزوا، ثم صاروا إلى مصانعتهم بالصهر فافترق ملكهم وصار لبعض أبناء جهينة من أمهاتهم، لان أمهاتهم من بنات ملوك النوبة على عادة الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت فتمزق ملكهم واستولى أعراب جهينة على بلادهم، وليس في طريقة استيلائهم شيء من السياسة الملوكية للأمة التي تمنع من انقياد بعضهم إلى بعض فصاروا شيعا لهذا العهد). إلى أواخر القرن الثامن الهجري. وبقوا كذلك شيعاً على كل شيعة منهم رئيس أو ملك إلى أن قام الفنج في سناد سنة 1505 م إلى الشلال الثالث ثم كان الفتح العثماني لمصر بيد السلطان سليم سنة 1520 فأرسل جيشاً إلى النوبة فملكوها من أسوان إلى الشلال الثالث وعرفوا (بالغز) وعرف حكامهم (بالكشاف) وهكذا انقسمت بلاد النوبة بين ملوك الفنج والكشاف إلى أن كان الفتح المصري للسودان سنة 1820م أي سنة 1236 هـ فخضعت لمصر

وفي عهد محمد علي امتدت حدود مصر جنوباً بعد فتحه للسودان وكانت تدخل أسوان في مديرية أسنا، ثم أحدث تعديلاً بأن ضم مديرية أسنا إلى مديرية قنا وصارتا واحدة، ثم انفصلتا بعد ذلك وامتدت الحدود المصرية إلى أعالي النيل أيام خلف محمد علي خصوصاً

ص: 54

في عهد إسماعيل. واستمرت مديرية أسنا حتى سنة 1887 وكان مركزها أسنا. ولما ازدادت الثورة المهدية في السودان وكادت تمتد إلى الحدود رأت الحكومة تحصين الحدود المصرية بقوة عسكرية وجعلت البلاد هناك تحت الأحكام العسكرية فصدر قرار مجلس الوزراء في 26 أبريل سنة 1888 بقسم مديرية أسنا إلى قسمين: الأول يشمل الجهات التي بين وادي حلفا وجبل السلسلة تتكون منه مديرية الحدود ومركزها أسوان. وأما الأقاليم شمالي جبل السلسلة فتضم إلى مديرية قنا وعلى ذلك ألغيت مديرية أسنا وتكونت مديرية الحدود من مراكز ادفو وأسوان وكرسكو (الآن الدر وحلفا) وضمت بقية البلاد إلى قنا واستمرت مديرية أسوان باسم مديرية الحدود إلى أوائل سنة 1899 حينما تحددت الحدود بين مصر والسودان، وذلك أنه لما أعيد إخضاع السودان عمل اتفاق بين مصر وبريطانيا في 19 يناير 1899 بأن يصبح السودان حكومة مصرية إنجليزية واصبح خط العرض 22 شمالاً هو الحد الفاصل بين مصر والسودان وبناء على ذلك دخلت عشرة بلاد من قرى مصر العليا في حكومة السودان وهي: سرة شرق. فرس. جزيرة فرس. دبيرة. شرة عزب. اشكيت. ارقين. ادغيم. عنقش. دبروسة (وتعرف ألان بالتوفيقية) وبعد هذا التغيير أطلق على مديرية الحدود اسم مديرية أسوان ابتداء من سنة 1899.

رشوان احمد صادق

ص: 55

‌الخريف

مهداة إلى رفيقي الأستاذ حلمي اللحام

لشاعر الشباب العربي أنور العطار

أَسِىَ القَلْب ' فاسْتَرَاحَ إلى الصم

تِ وَللصَّمْتِ عَاَلمٌ مَسْحورُ

تتَرامَى بهِ الشجُونُ فَيَعْيَا

ليسَ شكو الضنى وَليس يثورُ

هَيْكَلٌ مُتْعَبٌ تَكادُ من السُّق

مِ تَدَاعى أرْكانُهُ وَتَخُورُ

مُوِحشٌ كالخريفِ تَطْفوُ عَلَيْه

صُوَرٌ جَهْمَةٌ وَخَطَبٌ نكِيرُ

كلُّ شَيْءًّ أَرَاهُ يَذوِي وَيَفْنى

ثمَّ يمشِي على حِماهُ الدُّثوُرُ

مَلْعَبٌ للحياةِ يَطْفَحُ بالسُّخْ

رِ ويَشقْى بِسَاحِه اَلمغْرُورُ

أَينَ زَهْوُ الِّريَاض في مُتع العي

شِ وَأَينَ الهَوَى وَأَينَ السُّرُورُ

رَقدَتْ في الُغُيوب قُمرية الدَّوْ

حِ وَطَاحَ الهَزَارُ وَالشحُّرْورُ

فَجنَاحٌ على السُّفوحِ هَشيمٌ

وَجَناحٌ على الوهَادِ كسيرُ

وَتجَافى السنا عن الأُّفقِ الُحل

و َوَغشَّى رَفيقهُ الَّديجورُ

وَتوَلَّت بشائِرُ الأُّنسِ عَنهُ

وَاسْتفَاضَ الأَسى وَصاحَ النذَّيرُ

لمْ تَعُدَ تكْرَعُ الندى شَفَةُ الزَّ

هرِ وَلم تُسكِر النسِيمَ العُطورُ

وَانْطوَت منْ مَبَاهجِ الرُّوحِ دُنيا

كُلُّها نَائِلٌ وُجُودُ وَخيرُ

هَمَدَ اَلحقلُ فالعِشاشُ خَراَبٌ

هَجَرتْها على الَّليالِي الطُّيورُ

فَعَلى ضَاحِكِ الُمُروجِ اكتئَابٌ

وَعَلَى بَاسمِ الدَّغَالِ فُتورُ

وَإذَا الغيمُ في الفَضَاءِ رُكامٌ

وَإذَا النَهرُ مُغدرٌ مَحروُرُ

وَالعَصافِيرُ ُنوَّمٌ ليس تصحُو

وَالَفرَاشاتُ جُثَّمٌ لَا تَطيرُ

وَرَقٌ مائَتٌ تَهاَوى عَلَى السَّه

لِ وَغنَّتْ بهِ الصَّبَا وَالدَّبورُ

مَلأَ الوَهدَ وَالمَسَاربَ وَالسُّو

حَ اغِتمامًا بسَاطُهُ الَمنشُورُ

غَمَرَ الَمشعْبَ الَبعيدَ وَغَطى ال

واديَ السَّمحَ عصْفُه المَنثُورُ

خَشخَشتْ في الرحابِ أوراقُهُ الغُب

رُ وَللرَّيحِ بَينَهَّنَ صَريرُ

صُفرةٌ تُوقظُ النؤوم من الشَّج

وِ وَرَمزٌ إلى الزوَالِ يُشيرُ

ص: 56

تَعصِفُ الصَّرصُر العتيَّةُ بالغَا

ب فَيهوِى الدَّوحُ الأغَنُّ الشجَّيرُ

وَتضيعُ الألحان في هبَّة الَوي

لِ وَيرغو الأذى وَتَطغَى الشرورُ

ليسَ َيقرِى الأسماع إلا عويل

وصراخٌ وأنة وَزفيرُ

تَمَّحى فرحةُ الطبيعةِ في الأر

ضِ وَيُطوَى حُلْمُ الحياة النظيرُ

وَتُعَفى أرائَكُ الحبَّ وَالِعط

رِ وَيَبلى الروْضُ الندِىُّ الخضيرُ

تطفحُ السُحبُ في عَناَنِ السموا

تِ وَيخبو منها السراجُ المنيرُ

وَيَعجُّ الفضاء بالزبَّد المن

دوفِ والأُفقُ كالخِظمَّ يفورُ

وَتغيبُ الأنوارُ إلاَّ شُعاعاً

يختفي تارةً وأُخرى يَنُور

تَتعزَّى بهِ النفوسُ الوجيعا

تُ وَيحيا بدِفئهِ المقرورُ

أيَظلُّ الصَّرَّارُ يَرتَعُ في الحق

لِ وَينأى عن عُشِّه العصفورُ

تِلكَ أُحجَّيةُ الوجودِ تَناَهى ال

فهمُ عنْها وَاستغلقَ التفسيرُ

يا حبيبي أراكَ من حُجُب الغي

بِ فيزهُو الكونُ السليبُ الحسيرُ

وَيغوصُ الظلامُ في نهرِ الفج

رِ وَيبهى الصبحُ الأنيقُ الطَّريرُ

يُنشدُ السفحُ وَالتلالُ تُغني

حيثٌ لا مطربٌ وَلا مزمور

تُمرعُ الأرضُ بالنباتِ وَتهت

زُّ منَ الدفءِ وَالحياةِ الجذور

وَتذوبُ الأنداءُ في اكؤسِ الزه

رِ وَيُحيى الثرى وَالشرابُ الطهور

وَيطيبُ الهوى وَيحلو التَّساقي

وَمنَ الحبِ روضةٌ وَغدير

أيها الهاجري أطلت التنائِي

وَتعايا من صدِّكَ المهجور

سِهدَت مُقلتي وَناَجاك قلبي

وَهفا خاطري وَحن الضمير

عشتُ من طولِ حسرتي بالتمنَّي

وَقليلٌ من التمني الكثير

تتراءى لناظِري فأنادي

كَ كأني مُخَبّل ممرور

أنتَ ريحانتي وأنتَ أحادي

ثي وأنت المُنى وأنت السمير

يا نصيري إذا أظلَّني اله

مُّ ألوى بي الشقاءُ المرير

طُف بُروحي كما تطوفُ الشُّعاعا

تُ وَيسري ضياؤُّها وَينير

ودعِ الحبَ يزدهر في خيالي

وَتهدهد به العصورَ العصور

ص: 57

غفَلت عنَى المنونُ فغني

تُ وَلحنُ الحياةِ قصير

أتعامى عن الفناءِ وَحولي

محنٌ ليس تنقضي وَثُبور

ألمي صارخٌ وَجرحي ضرىٌ

وَالهوى يائسٌ وَجَدِّمي عثورُ

وَبنَفسي قيثارةٌ تتشكى

وأنا الدمعُ وَالأسى وَالشعور

أتسلَّى عن الضَّنى بلُحون

هي روحُ الحياةِ وَالإكسير

الشَّجا المُّر في حِماها شفاءٌ

وَالدجى الشاملُ المروَّعُ نور

خاطِري من نشيِدها مستثارٌ

وَفمي من سُلافِها مخمور

عالَمي مهبطُ الرُّؤى وَمِهادي

ذهبُ خالصُ وَتبرٌ نثير

وَفضائي مُوشُّحٌ بالغوادي

وَهِضابي ندًى وَجوِّي مَطير

وَسمواتَي الفسيحاتُ تابو

تٌ عليهِ من الغيوم سُتُور

أُفُقٌ شاحبٌ تَدثَّر بالُّسحبِ وأغيا في الضبابُ الغمير

لا السَّنا ضاحكٌ بابهَائه السح

م وَلا النور في مَداَه يمور

فمن الحزنِ وَالجهامةِ قبرٌ

وَمن الهمِ وَالكابةِ سور

وَتعرى المساءُ من القِ السح

رِ فلا روعةٌ وَلا تَصوير

التعاشِيبُ أَعُينٌ جامداتٌ

هي من طولِ ما ُتحدِّقُ صور

أطفأ العاصفُ الُملحُ سَناَهَا

وَغَزَاهَا الصقيعُ وَالزمهرير

هاهنَا للجمالِ عرسٌ تَقَضَّى

مِلءُ أعطافهِ شذاً وعبير

هاهنا كان للجداولِ الحا

ن لِطافٌ وَللنسيم سَرير

هاهنا حَنَّت العَشَّيات للضِّح

ك وَبشَّ الضُّحى وَهشَّ البكور

لا الروابي تفيضُ بالعبق الطُّه

ر وَلا يطربُ الحقولَ الخرير

هَدأَت من جَوى الغرام قلوبٌ

وَاستراحت من الهَديل ثغُور

وَحشة ما تكادُ تحمله النف

سُ وَشجوٌ تضيقُ عنه الصدور

أراد الُمَزَّوقُ الُحلمَ داجٍ

وَحِمَى الأنس مُجفلٌ مَذعُور

أَينَ وادٍ رفَّت عليه البشاشا

ت وَرَنت أَعشاشه وَالوكور

ماج فيه الهَوى فعاشت حوافي

هـ وَضجت من الحياةِ الصخور

ص: 58

أَينَ لا أَينَ عالم مستطابٌ

عاث فيه ركبُ الفناءِ المغير

فأَّمحى كالظِّلالِ تنتهبُ الأر

ضَ وَيخفى انطواؤها المصير

أنور العطار

ص: 59

‌بين ماض وحاضر

أنشودة

للأستاذ عبد الرحمن شكري

عهدي بالعيش على رَغَد

عذباً كالماء حساه صَدى

نغم والدهر يُوَقِّعُه

يسرى كالنشوة في الجسد

يا ليت الهر كمن يشدو

بأغانٍ أن يُطربْ َيزِد

إن قلتُ أعد نُعمًى عادت

كترنم ذي النغم الغرد

حسنات كنت بها ثملاً

ذهبت في الدهر فلم تَعُد

آمال كنت بها شغِفاً

نظر الولهان إلى الخُرُد

أحلام كنت بها جذلاً

قد شح النوم وَلم تجُد

وَشباب ذقت به خلداً

في طرفة عين من أبد

لو دام دوام الخلد لما

نقع الظمآن من الصَّفد

لو عاد بذلت له ذخري

من مُطرفي أوَ مُتلَّدي

بشعاع من أعيش مدى

دفءٌ للشمس على بُعُد

آب التذكارُ له شبحاً

أو قبراً شِيدَ لِمُفتَقَد

ما خلَّفَ لي دهرٌ ثقة

بمآل فيه أو أحد

يا نبع الماضي لو عاد ال

وُرَّادُ إليك على جَدد

لرجعت إليك رجوع صَدٍ

لم ينهل قبل وَلم يَرد

وَغدا ماذا يا دهر ترى

قد قُدِّر لي بضمير غد

عبد الرحمن شكري

ص: 60

‌صورة.

. .

(من صور دمشق في هذه الأيام)

بقلم السيد احمد عبيد

ما أروَعَ القَومَ إذ ضَنُّوا بِعزَّتِهِم

فسَالتِ الشامُ فِتياناً وَوِلدانا

تدفَّقوا كأَتيِّ السيلِ مُقتَحِماً

لظى جَحيمٍ تُذيقُ الموتَ ألوانا

فلا الأتيُّ بمُخْبٍ من توقدِها

وَلا الجحيمُ تَصُدُّ السيلَ إن دانى

إذا التَقَوا وَالعِدى في وَقْعةٍ فُهما ال

بُركانُ يقذِفُ (نيراناً) وَ (صوَّاناَ)

ص: 61

‌فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

31 -

تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

تعليق المؤلف على فلسفة نيتشة

للأستاذ خليل الهنداوي

يتمتع نيتشه بما لا يتمتع به فيلسوف أخر، لان تفكيره قد تناول بالبحث أرباب الفلسفة وغير أربابها. وقد طغت (النيتشية) في الأعوام الأخيرة أي طغيان، فأما المعجبون به فهم يرون فيه المفكر الفرد الصارم العميق في جرمانيا الحديثة، له منزلة (دارون) في الأخلاق. وأما خصماؤه فهم لا يرون فيه إلا ولداً مريضاً، له خطره ومبدؤه الفاسد. وبينهما يقف الشعب حائراً، تراه من ناحية معجباً بآثار هذا الجبار ومظاهر تفكيره الغريب، ومحترساً من ناحية ثانية من مفكر ناقم على الأخلاق والتقاليد؛ والآن سنعمل على تبيان الأسس الرئيسية التي ترتكز عليها فلسفة نيتشه، والأهمية التي تنشأ عنها.

هدم النقاد فلسفة نيتشه من وجهين: في الوجهة الأولى أبدوا أخطاءها العملية. وفي الوجهة الثانية بينوا خطرها على الأخلاق

إن نيتشه في الطور الثاني من حياته لم يكن يكتسب شيئاً ولم يكن في استطاعته أن يكون عالماً؛ ولقد علمت رداءة صحته التي تحول بينه وبين مواصلة جهوده في البحث. فهو قد بدأ حياته العلمية بدراسة اللغات، ثم لم يلبث أن غادر هذا الميدان إلى غيره؛ وهو لم يكن في سائر العلوم إلا هاوياً، لا يسعى وراء ترقية هذا الفرع وذلك الفرع في العلوم، ولكنه يريد من وراء ذلك أن يبدع مسائل جديدة، أو يكسو المسائل القديمة ثياباً جديدة! فهو لا يؤثر في العلم نفسه ولكن في روح العالم. فان اشتقاقاته التي استنبطها في دراساته للغات القديمة لم تكن لتلائم الحقيقة، ولكن ذلك لم يكن ليحفل به، فهو يبغي أن يظهر طرق درس المسائل الاجتماعية بواسطة الدراسة اللغوية، فالقيمة الجوهرية لملحوظاته الخاصة هي شيء ثانوي عنده، سواء عنده حياتها ومماتها، فهو يكفيه فضلاً أن ينفخ في نفوس هؤلاء الدارسين روحاً جديدة ويفتح لهم آفاقاً جديدة.

ولذلك نراه في آخر أدواره جد قلق، يسعى بواسطة الدراسات اللغوية إلى أن يستكشف

ص: 62

الحياة الاجتماعية، وحضارة ما قبل التاريخ مستعيناً بدرسه ومقارنته بين اللغات

وإذا شئنا أن نوضح بعض خطيئات نيتشه فلا ننس أن آثاره كلها (ذاتية) والحقيقة - غير الذاتية - يراها نيتشة ضرباً من ضروب العاطفة الدينية؛ وإننا لنطلب إلى العالم ألا يحترم إلا الحقيقة، وأن يكون في بحثه عنها خالياً من الأهواء متجرداً عن شخصيته - على قدر الإمكان - وإننا لنعلم أن التجرد عن الذاتية في البحث عن الحقيقة هو خديعة، ونعتقد أن ليس في مقدور أحد أن يتجرد عن شخصيته وينظر إلى الأشياء نظرة خالصة لا تجتلي إلا الأشياء؛ وبهذا ليست كل حقيقة ذاتية قبل كل شيء: وجوهر الموضوع - في البحث العلمي - لا يقف عند ما اغترفه الكاتب من حقيقة، ولكنه يقف على مقدار ما أودع في هذه الحقيقة من ذاته. ونحن على رغم هذا أرانا نؤمن بالحقيقة المجردة، الحقيقة البارزة بحقيقتها خارج إدراكنا وحواسنا، وأرانا نؤمن بالمؤلف ويزيد احترامنا له كلما دنت أفكاره مما ندعوه (الحقيقة المتجردة من الذاتية)

لنا الحرية في أن نزن آثار نيتشه بهذا الميزان، ولكن نيتشه كان قبل كل شيء يفتش عن نفسه ويسعى وراء معرة نفسه؛ ولقد كان اهتمامه ضعيفاً في الاطلاع على الأشياء بحقائقها، وإنما وقف اهتمامه كله وجهوده على ما يمثل شخصيته، فخلق من الأشياء خرافات كاذبة، وقد علم أنه بما وصف نفسه حين كتب عن (شوبنهاور وفاجنر) أنه حول الحقيقة إلى خرافات جذابة غريبة، ولأن تكون مظاهر لشخصية نيتشه أجمل وأحرى من أن تكون مظاهر تمثل حقيقة الوجود الخارجي، وبهذا يصبح عبثاً سعينا وراء الحقائق التي عالجها نيتشه والعمل على توفيق بينها وبين الواقع

وهنالك تأثير معاصريه فيه - سواء أحس هو هذا التأثير أم لم يحسه - وفكرته التي جاء بها - إذ جردت من أثوابه الخاصة - تبدو فكرة قديمة ليست بابنة ذاته. فكل الآراء التي عالجها، من قوله بالذاتية وعبادة النفس والثورة على قانون المساواة وعبادة الإنسانية قد سبقه إلى معالجتها أحد معاصريه كما سبق (فلويير) و (رنان) إلى الكتابة عن المذهب الأرستقراطي. وقد وجد نيتشه في الكاتب (أوجين دوهرنك) عضداً له في محاربة التشاؤم. واتحد مع (هارتمان) في النفور من الاجتماعيين والفوضويين، واتفق معه في القول باستحالة المساواة بين الناس، فقالا بفضيلة الحرب المدنية، واتفقا على جعل الشفقة مادة

ص: 63

غير صالحة للفضيلة. وكذلك نرى مذهب الرجعة الدائمة يتجلى في كتاب (لبلانكى)! وفي كتاب الدكتور (لوبون: الرجل والمجتمعات). ولكنا - وإن قارنا بين نيتشه وبين هؤلاء المعاصرين - فان هنالك تبايناً شاسعاً مهما كانت الأفكار متقاربة متآلفة. وعلة هذا التباين شخصية نيتشه. ولقد نراه في بعض خطرات يتحامل على هؤلاء الأحلاف، فمقت من (رينان) روحه الكاهنة، ونعت (هارتمان) بالمشعوذ. وليس نفوره هذا وليد حقد أو حسد، وإنما هو وليد طبيعة تختلف جد الاختلاف عن طبائع خصومه. هذه الطبيعة التي تؤمن بأن الشخصية في الفيلسوف هي أكبر قيمة وأجل خطراً من آثار الفيلسوف

على أن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى إنكار فضيلة كل حقيقة غير ذاتية إكراما لقوة الشخصية عند نيتشه، وإذ ذاك يعم الجور والخطأ في الحكم. وأنني لمعتقد بان المؤرخ والفيلسوف يستطيعان أن يجدا عند نيتشه حقائق جميلة بذاتها. وهنالك آراؤه في (فاجنير) يراها المؤرخ جديرة بالاعتبار لأنها تبدى قيمة الفنان العظيم. وهنالك آراء لنيتشه يجدر بها أن تكون محل مناقشة ومجادلة، على أنني أقول أن عبقرية نيتشه لا تستقر إلا في (الذاتية)

الآن أراني أستشهد بكلمة (لبراندس) قالها في موضع التحدث عن فيلسوفنا حينما قارن بينه وبين خصومه فلاسفة الإنجليز. (قال: وحين نقبل عليه. . . (نيتشه) بعد مغادرتنا لفلاسفة الإنجليز نرى عالماً جديداً حولنا. فالإنجليز هم عقول متشابهة في الصبر والجلد، غرضهم أن يتقنوا الشيء جزءاً جزءاً ثم يجمعوا هذه الأجزاء الصغيرة المتفرقة ليؤلفوا منها شريعة وقانوناً؛ يعملون غير متأثرين بذاتهم؛ وقيمة فلسفتهم تتوقف على ما يعملون لا على ما ترقى إليه ذاتهم؛ أما نيتشه فهو على نقيض هذا المذهب، هو مثل شوبنهاور متنبئ فنان، تستهويك شخصيته قبل أن تستهويك آثاره.) وإذ شئنا إبداء قيمة آثاره فليس لنا أن نتلوها تلاوة كتاب علمي لا تتوقف روعته على روح صاحبه. نتلوها لنرى الروعة فيما بث هذا الرجل من معارف قديمة بسطها وجديدة وضعها

يرى نيتشه في معرض كلامه عن شوبنهاور (أن مذهب المفكر لا شأن له، فكل فيلسوف ممكن انخداعه. أن ذلك الشيء الذي هو أجل من مذهبه - هو نفسه - في كل فيلسوف شيء لا تجده في فلسفته. علة كل الفلسفات والمذاهب هي الإنسان، الإنسان العظيم

ص: 64

(التتمة في العدد القادم)

خليل هنداوي

القصص

مأساة من أسخيلوس

ص: 65

‌3 - أجاممنون

للأستاذ دريني خشبة

تتمة

- (باريس! لقد خربت زيجتك وبيتك. . . أجل. . . أنت وأختك. . . أوه يا نهر سكمندر المصطخب! لقد جرع أبي منك جرعة، وعلى ضفافك شببت وترعرعت، فيا لشقوتي! أما ألان. . . فإن نبوءاتي تتواثب على شطئان كوكيتوس واشيرون. . .)

- (أو ضحى بحق أربابك عليك أيتها الفتاة! إن آلامك تثب في صدري فتخز أشواكها حبة قلبي. . .)

- (طراودة!! أهكذا سقطت إلى الأبد!! أهكذا تندلع النيران في أبراجك الشواهق! أهكذا ينبطح أبي الملك الشيخ مضرجاً بدمه؟. . . ويلاه. . . بعد لحظات أغرق في لجة من دمي مثلك يا أبي. . .)

- (عود إلى النغمة الملغوزة السالفة!! ما أحسب إلا أن ألهاً قاسياً يدريك بعنف في هذه الحمأة المسنونة!!)

- (نغمة ملغوزة!! لا! لن ألغز يا رفاق! سأجد لكم السر الهائل الذي خبأته الجريمة السنين الطوال في هذا القصر! هنا! تآمر الآثمون في الظلام. . . وكان الظمأ إلى الدم يشد عزائمهم جميعاً! كانوا يدلفون إلى كهفهم فيتغنون آلامهم ويستنزلون اللعنة على. . . خصمهم. . . وهو منهم، وهم مع ذاك منه. . . أخوهم. . . وهم أخوته وأقاربه. . . قتلوه. . . قتلوه وهو مستسلم للكرى الهادئ. . . أليس كذلك يا سادة؟ أهذه ثرثرة، أم أنا أهذي؟. . .)

- (بل أنت قد صورت ما حدث منذ أعوام وأعوام كأنك ترين إليه الآن. . .)

- (هذا من فضل أبوللو عليّ! لقد أمدني بروح من عنده)

- (ولمه؟ هل شغفه حبك مرة؟)

- (. . .؟. . . . . .؟. . . لا أقدر أن أقول؟. . .)

- (ما كان ضرك لو تلطفت معه. . . . . .!)

- (إيه. . . كم كان رقيقاً حينما كان يصارع فؤادي؟)

ص: 66

- (وهل في وسعك أن تضعي حداً لمغامراته؟)

- (لقد وعدته. . . ولكنه خان ميثاقي!. . . أواه! وا أسفاه! تعالي! لقد ثارت الزوبعة من جديد! لا أطيق أن أكتم الحقيقة! انظروا يا رفاق! أول الشجو! ما هذه السمادير التي تغشى سماءكم؟ يا لأفلاذ الأكباد! يا للصغار! إنهم يذبحون بنفس الأيدي التي كان أجدر لو ترفقت بهم وحنت عليهم!. . . يا للهول!. . . أبوهم يمد يده البريئة فيأكل شرائح مشوية من أكبادهم وضلوعهم!. . . إن لهذا قد دبر انتقام دموي هائل. . . وهاهو ذا الأسد! الأسد الجبان النذل، الذي تقلب في سرير صاحب الجلالة - بحر اللذة والدنس!. . . إذ صاحبه نازح يغزو!. . . لا ضير أن يكون أحد أسيراً مرة، ولكن هذا الفاتح العظيم! غازي طروادة! سيد الأسطول اللجب! إنه لا يدري السر الهائل الذي تقبره زوجته. . . السفاحة. . . التي تتحوى كالأفعى، وتهسهِس في الظلام المنتشر حول نفسها، وتوسوس إلى شركائها بأفسق الجرائم. . . لقد فاقت في الحب كل مثل فما أدرى بم أشبهها؟ آه! إنها أشنع من سكيلا (هذه الهولة الرائعة، ذات الرؤوس الستة التي تنفث السم، وتغتال رواد البحار!. . .) الآن! الآن ينفذ سهم القضاء عن قوس غدرها. . . والآن! ستعترفون أنني ما ألغزت، وما قلت غير الحق!. . .

- (الحق كل الحق يا فتاة. . . لقد رويت ما كان من وليمة ذيسيس، وما تم فيها من نهشه لحم أطفاله وهو لا يدري. . . يا للهول. . . ما نزال نقشعر كلما روعنا رجع تلك الذكريات. . .)

- (إذن سيموت مولاكم أجاممنون. . . وسترون بأعينكم!)

- (يا شقية! لا تهرفي بهذا الهراء!)

- (ولن أدعو أرباب الخلاص هذه المرة!)

- (وهل خلاص من الموت؟ ولكن عسى ألا يكون قريباً!)

- (أنتم ترجون، بينا غيركم يذبحون. . . أو يكادون!)

- (وأيما إنسان يا ترى يضطلع بهذا النكر؟)

- (أيما إنسان! إن السهم المراش يطوي ما بين المشرقين؟)

- (أجل، ونحن لا نستطيع أن نحدس من يجرؤ على هذه الفعلة!)

ص: 67

- (أنا أقولها؛ وحسبي أنني استطعت أن أكلمكم بلسانكم الهيلاني كواحدة منكم!)

- (وهكذا استطاعت البيثونة من قبل. . .! وكان كلامها ملغوزا دائما كذلك!)

- (يا للشجي! يا للجمر المتقد! إنها تقدم! الغوث يا أبوللو! يالي من تاعسة! هذه اللبؤة الآدمية! إنها تضطجع مع الذئب بينا أسدها الهصور نازح عن الديار. . . وأنا! أنا التاعسة قد جئت لأضاعف أحقادها عليه؟ جئت لأجعل السكين مسنوناً أكثر! ها هي ذي تحدث ذئبها أني أنا أيضاً ينبغي أن أذبح جزاءً لي!. . . فيم إذن أبقي على مسوحي وعصاي! عصاي السحرية! لأمزق المسوح ولأحطم العصا! (وتمزق وتحطم) اذهبا إلى الفناء فأني لاحقة بكما! كونا قائديّ إليه! سأتبعكما، أتْعِسا حياةً ثانيةً غير حياتي!. . . انظروا انظروا! إن أبوللو ينزع عني المسوح بيديه! آه! أقبلت لترعاني في هذه الأجمة الوبيئة! لتسر قلبك بإهانتي ووخزاتي! بسخرية أهلي من قبل، ولعنات أعدائي ولعنات وطني اليوم! إنهم يزعمونني قديسة شحاذة! أو كاهنة أفاقية! يا للهول؟ ماذا خبأت لي أيها القدر؟ ويْ! الوَضم! السكين المشحوذ! الضربة اللازبة التي تتم بها التضحية!. . . يا سماء! إن الذي يأخذ بثأر الأبرياء ما يزال حياً!. . . ويحك يا قاتل أمه أين أنت؟ خذ بثأر أبيك أيها الجائل في الآفاق!. . . ويْ! فيما بكائي، وهاهو قاهر طروادة وقاتل بريام يلقى جزاءه وفاقاً! مرحباً يا موت! أنا لا أهاب الردى!

- ولكن!. . . الصلاة!. . . الصلاة يا أربابي! أضرع إليكم أن يكون جرحي بالغاً مميتاً فلا يعذبني طويلاً! لتتفق منه حياتي فلا يعترضها شيء. . .)

أيتها الفتاة التي تطعمها الهواجس، حسبك فقد بلغت المدى! وللآلهة أنت! كيف تتقدمين إلى حتفك بقدم ثابتة، ونفس رابطة، وأنت تعلمين الغيب كل شيء؟ لم لا تفرين؟)

- (وأين نفر من المنايا وقد جاء أجلنا؟)

- (كيف! إن لكل مهلة قيمتها!)

- (حم القضاء، قلت لكم يا رفاق! أية مهلة أذن؟ إن الهرب لا يجدي فتيلا!)

- (إيه! رب قتلة شريفة تختم حياة مليئة!)

- (ويلي عليك يا أبي. . . وعلى أبنائك التاعسين!)

(وتتقدم إلى باب القصر. . ثم تقف مذعورة)

ص: 68

- (ماذا يفزعك يا فتاة!؟

- (ويلاه!

- (ماذا؟

- (تلك الغرف السود تضج بزفير الجريمة! القتلى يسبحون في لجة من الدم!)

- (إنها دماء القرابين فلا تفزعي ولا تراعي!

- (بيت كأنه قبر! لولا هذه الدماء. . .! ولولا ذاك الصلول)

- (تزودي من الصلول فقد ورمت أنوفكم من عطور الشام وطيوبه!)

- (لأدخل إذن. . . ولأرو بالدمع حظي العاثر، وحظ الملك التاعس. . . أجاممنون! سئمت تكاليف الحياة يا رفاق! لابد أن تقتل امرأة بامرأة، ورجل برجل. . . وتلك أخرى نبوءاتي. . . سيقتص لي،، ولكل مقتول بريء!. . .)

(وتنطلق داخل القصر)

- 20 -

ويقف الخورس مشدوهين لما ألم بهذه الفتاة، ويتحدث بعضهم إلى بعض عما حشدت في حديثها من ألغاز، وبثت من طلاسم وأسرار. . . وتقطع حديثهم صرخة داوية داخل القصر!. . .

- (آه! أهكذا أذبح في قصري!؟)

وتزداد دهشة الخورس، وتزداد ثقتهم بنبوءات كاسندرا. . . فالصوت صوت أجاممنون لا غيره!. . . ويهمون أن يدخلوا. . . ولكنهم يتريثون. . . ويعود الملك إلى صراخه:

- (آه. آه! أهكذا وبهذه اليد أضرب حتى أموت!؟

ويعود الخورس إلى لغطهم فبعضهم يشير بالدخول ليكونوا شهداء مقتل الملك - ويتقاعس بعضهم كأن الأمر لا يهمه. . . . . . ثم يشير رئيسهم أن يتريثوا حتى تنكشف جلية الأمر. . .

وإنهم ليهمون أن يقتربوا من باب القصر حتى تنفضح الملكة بينما تلف جثمان القتيل في الوشى الذي أعد لاستقبال الملك الظافر. . . قاهر طروادة!

ولا تستحي أن تعترف بما اقترفت، بل تصرح أنها دبرت الأمر وأخذت له أهبته، وأنها

ص: 69

فرحة به مسرورة له. . .

- (يا للجرأة أيتها الملكة الآثمة!. . .)

- (آثمة أو غير آثمة. . . تمدحون أو تقذعون. . . سواء لدي! إنها جثة ملككم أجاممنون، هذه الجثة المدرجة في لفائفها أمامكم. . . وأنا مزهوة بأن قتلته. . .!)

- (أيتها المرأة! أي سوء أختلط بدمك، وإثم خامر قلبك، فتقتلين رجلك وأمير المملكة. . . ابشري بلعنة الجماهير وغضب الآلهة!. . . اليوم يفلت من يديك زمام الأمور. . .)

- (لعنة الجماهير، وغضب المملكة. . . وزمام الأمور! مضحك! سرعان ما تحكمون على ما لا تعلمون! وأين كنتم يا سادة؟ وأين كانت جماهيركم وآلهتكم يوم ذبح أجاممنون الحش طفلته؟. . . أين كنتم يوم أهوى على عنقها بالسكين كما يهوى على رقبة شاه! إفجينا! ابنتي! قطعة قلبي وكبدي!؟ ذبحها أبوها الوحش! لماذا؟ لتهدأ العاصفة، وتسير السفين باسم الشر مجراها ومرساها!! ماذا تقولون إذن؟ وأين كنتم يا سادة؟ ولم يفلت من يديه زمام أموركم يومئذ؟ لم لم يقصّ عن عرشكم، وتنزل عليه لعناتكم، ويحل عليه غضب آلهتكم؟ آه! ولكنكم تخلطون المين بالحق. . . ودأبكم أن تسارعوا إلى الحكم دون روية ولا تبصرة!)

- (حماسة وقحة وتبجح أثيم! ويل لك حين تؤدين الدين من دمك، إذن تفيقي!)

- (أقسم بأيتيه وأيرينيس، آلهة القوة والمجد!)

- (تقسمين على فسقك وغرامك الدنيء الدنس؟. . .)

- (أجل! على غرامي وحبي. . . حبي لهذا البطل المظلوم إيجستوس الذي دبر لي كل شيء وأعانني على كل شيء. . . وشاركني في هذا الدم! أنا لأن ملككم قتل أبنتي، وذهب إلى طروادة ليغازل خريسيز ويرشف الرضاب الحلو من فم بريسيز، ثم يعود ظافراً وفي ركابه هذه القينة الفاجرة التي جلست بجانبه تسكره بخمر حديثها. . . . . . وهو، إيجستوس (لأن له أخوة ذبحوا وأكل أبوهم من لحومهم وشرائح من أكبادهم. . . ثم قتل بعد ذلك!. . . ومن قتله؟ أخوه؟. . . يا للهول!. . . هو الذي ذبح الأطفال الأبرياء! وأطعم أخاه لحومهم وقلوبهم. . .!)

- (المرأة! دائماً المرأة! يا أخت هيلين!! كم أرواح مطهرة فاضت لأن أختك أثمت،

ص: 70

وتردت في حمأة الفسق! الفاجرة التي فرت مع عاشقها من خدر زوجها! ثم أنت؟ أنت أختها؟ ومن البذرة السيئة نبتت مثلها؟)

- (عليكم أنفسكم مالكم ولهيلين!

- (. . . آه أيها الغراب الناعب! رنقي على جثة زوجك، وانعقي. . . هات أغنيتك المنكرة، ورتلي أنشودة جريمتك في جناز رجلك!. . .)

- (حاشاي أن أكون صنعت ما صنعت وأنا بعد زوجته أو هو بعد رجلي! بل صنع هذا وليمة أتريوس! أتريوس أبو أجاممنون! الوحش الذي أطعم أخاه لحم أبنائه! هو الذي ترك لابنه الملك هذا الإرث العظيم. . . قتل. . . فليقتلْ! وليقتل من بعد أبناؤه. . . فيا للقصاص!؟)

- 21 -

وتستطيع الملكة بذلاقتها وقوة برهانها أن تخدع الخورس وأن تقنعهم - إلا قليلاً! فقد قتل الملك ابنته حين قيل له إن السماء تطلب دماً، وهذا منتهى الظلم، وقد قتل أبوه أبناء أخيه وأطعمه لحومهم. . . وهو بذلك ورث أبناءه العذاب. . . والقتل. . . والدم. . .!

وما يكاد الخورس تهدأ ثورتهم. . . حتى يحضر أيجستوس حبيب الملكة. . . وشريكها. . . ومدبر الأمر معها. . . والذي ذبحت اخوته وأطعمت لحومهم أباه المسكين!. . . يحضر والبشر يقطر في وجهه. . . وللنصر المؤزر سورة في قلبه. . . فما يكاد يذكر الماضي المؤلم الذي حل بلاؤه باخوته، وهذه الخاتمة التي حلت بابن أتريوس المسكين (أجاممنون) حتى يثور ثائر الخورس، ويهتف رئيسهم:

- (أكان هذا النذل يتقلب في أحضانك أيتها الملكة على فراش الملك؟. . . أكنتما في نشوة الفسق، وسكرة الغرام، ترسمان للملك هذه القتلة المدبرة،)

ويهم إيجستوس أن يفتك بالخورس وبرئيسهم قبلهم، لولا تدخل الملكة، وأنها ترجو أن تضع حداً للمجزرة!. . .

فيتوعدهم إيجستوس حين يصبح الأمر له، وحين يحمل رأسه المجرم عرش آرجوس. . . . . . ولكن. . . هيهات!

دريني خشبة

ص: 71

‌البريد الأدبي

وفاة الأستاذ الشيخ محمد زيد بك

استأثرت رحمة الله بالأستاذ العلامة المغفور له الشيخ محمد زيد الابياني، فرزئت بفقده الشريعة الإسلامية التي كان علماً من أعلامها، ورزئ العلم الغزير، والإفتاء الصائب، والخلق الكريم، والتواضع الجم. كان الفقيد من أبناء مديرية الغربية، وتلقى دراسته بدار العلوم، وعين منذ تخرجه فيها لتدريس الشريعة الإسلامية بمدرسة الحقوق؛ ومازال زهاء أربعين عاماً يتبوأ منصة التدريس في هذا المعهد الجليل، متوفراً في نفس الوقت على دراسة الأصول والمسائل الشرعية حتى غدا بحق مرجعها الفذ وحجتها الثقة؛ وكانت الشريعة الإسلامية إلى هذا العهد تدرس بأساليب عتيقة مضنية، قلما تعاون على خلق العقلية الفقهية الصحيحة، فاستطاع الفقيد بذكائه ومثابرته وعقليته الفقهية المستنيرة أن يختط لتدريسها منهجاً بديعاً قريب المأخذ جم الفوائد؛ ووضع لهذه الغاية عدة مؤلفات قيمة، تشهد له بغزارة المادة وبراعة الاستقراء والعرض هي: شرح الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية، وشرح المعاملات الشرعية، مباحث المرافعات الشرعية، مباحث الوقف. وما زالت هذه الآثار التي تضارع في وضوحها ودقتها وحسن تنظيمها أقوم الشروح القانونية الأوربية، مرجعاً نفيساً لطلاب الحقوق والأزهر، ونبراساً قيماً لرجال القضاء والمحامين

ولا نعرف أستاذاً من أساتذة الجيل المنصرم له ما للعلامة الراحل من فضل وأثر سابغين في بعث النهضة الفقهية الحديثة، وتكوين العقلية الشرعية المعاصرة، بل لا نعرف أستاذاً من أساتذة الجيل المنصرم تخرج على يده مثل تلك الجمهرة الحافلة الممتازة التي تخرجت على يد الشيخ زيد. وقلما تجد بين عظماء مصر وبين زعمائها وساستها ومفكريها وكتابها - وجلهم من خريجي الحقوق - من لم يدرس على يد الشيخ، وليس بين أعلام القضاء وأعلام المحاماة المعاصرين، بل ليس بين رجال القانون والقضاء المصريين جميعاً من لم يتلق عنه ويتخرج على يديه؛ فهؤلاء جميعاً أحداثاً وفتياناً، ونهلوا من غزير مورده، واستطاعوا جميعاً أن يقدروا مواهبه ورفيع خلاله

وكان الفقيد يتمتع فوق علمه الغزير، بأخلاق طاهرة وشمائل باهرة؛ فقد كان جم التواضع والأدب، كثير الحلم والرفق، سباقاً إلى الخير، يعامل طلابه معاملة الأب البار، ويتمتع

ص: 73

بحبهم وتقديرهم جميعاً

طيّب الله ثراه، وشمله بواسع رحمته، وعوض عنه الأسرة القضائية خير عوض

(ع)

كتاب عن إبراهيم باشا

صدر أخيراً كتاب بالإنكليزية عن إبراهيم باشا المصري (ابن محمد علي) عنوانه (ترجمة جديدة لإبراهيم باشا بقلم الأستاذ ب. كرابتيس الأمريكي الذي ظل منذ أعوام طويلة قاضياً بالمحاكم المختلطة بمصر؛ والأستاذ كرابتيس يعنى أثناء إقامته الطويلة بمصر بالشؤون والمسائل المصرية الفقهية والتاريخية والاجتماعية ويكتب عنها في مختلف المجلات الأجنبية؛ وقد تزود في وضع مؤلفه الجديد عن إبراهيم باشا بطائفة من الوثائق والمراجع الرسمية وغير الرسمية التي يحتفظ بها سراي عابدين، واستطاع أن يجمع أشتاتاً قيمة أخرى من المعلومات والوقائع المجهولة عن تاريخ ذلك العهد وعن حياة القائد الكبير

وقد كانت حياة إبراهيم دائماً تعتبر في المرتبة الثانية إزاء حياة والد العظيم؛ ذلك أن شخصية محمد علي وجهوده السياسية والإصلاحية الجبارة كانت تلقي حجاباً على جهود ولده إبراهيم، ولم يكن إبراهيم في نظر التاريخ سوى ساعد والده الأيمن وقائد جيشه؛ ولم يكن له ضلع في السياسة أو الشؤون العامة، ولكن الأستاذ كرابتيس يحاول أن ينفي هذا التصوير؛ فقد كان إبراهيم في نظره سياسياً عظيماً كما كان قائداً عظيماً؛ وكان له في السياسة والشؤون العامة أثر فعال؛ بيد أنه لم يكن يتفق دائماً في الفكرة مع أبيه، فقد كان يرى مثلاً أن فوزه بتحطيم الوهابية في الحجاز خطوة أولى في سبيل تحقيق حلمه العظيم بإنشاء إمبراطورية عربية إسلامية، ولكن محمد علي كان دائماً يجانب هذه الفكرة مؤثراً مصانعة السلطان والتفاهم مع الدولة العلية

ويستعرض المؤلف حياة إبراهيم العسكرية، وحملاته وغزواته المختلفة بدقة وإفاضة، ويقول لنا إن أطماع محمد علي لبثت في سبيل التحقيق والنجاح ما بقيت محصورة في بلاد العرب، ولكنها مذ بدأت تتجه نحو الشمال، أخذ الحظ يجانبه والمصاعب تتفاقم في وجهه؛ وقد كان اشتراك مصر في حوادث اليونان ظرفاً مشئوماً جنت منه مصر شر

ص: 74

العواقب. بيد أن محمد علي لم تفتر همته وأطماعه، حين حطم أسطوله في نافارين، فأنشأ دار صناعة جديدة بالإسكندرية؛ وكان ذلك الرجل بعيد النظر يعلق دائماً أهمية كبيرة على قوة مصر البحرية

ويقول لنا الأستاذ كرابتيس إن الزمن لم يفسح مجالاً لإبراهيم ليثبت عبقريته السياسية بصورة فعالة، ولكن الموت عاجله، ولما يمض على صدور الفرمان بتعيينه والياً لمصر سوى ستة أسابيع؛ وقد توفي في التاسعة والخمسين من عمره، بعد أن عانى تباريح الآلام والمرض ردحاً من الدهر

الحياة الأخرى

ما زالت مسائل الروح والحياة الأخرى تثير على كر العصور طلعة الإنسان وروعه؛ وقد اشتركت أديان الأرض جميعاً؛ والمدنيات في كل قطر وعصر، في التحدث عن الحياة الأخرى، ولكن التفكير الإنساني لم يهتد حتى اليوم إلى نتائج حاسمة في هذا الموضوع الخفي، ومازال في كل عصر يحوم حوله بمختلف الفروض والنظريات. وقد صدر أخيراً كتاب بالفرنسية في هذا الموضوع عنوانه:(الحياة بعد الموت في معتقدات الإنسانية) بقلم كاتب أمريكي هو جيمس تاير أديسون، وقد اتّبع المؤلف في كتابه الأسلوب العلمي، ولكنه يعرض لنا من جهة أخرى في عدة فصول وصور قوية بعض ما ينتاب الإنسانية من أسباب المخاوف والروع من جراء تصور الحياة الأخرى وما وراء الموت. وما زال الموت يروع الأحياء الذين يرون ملايين الموتى يذهبون تباعاً إلى عالم لا يعرف كنهه، ولكن الأحياء يخضعون حتماً إلى قدرهم. ويبسط لنا المؤلف مختلف المعتقدات والنظريات الإنسانية والعلمية في مسألة الحياة والموت، في كل عصر وكل قطر؛ وهذا القسم أمتع أقسام الكتاب، ويلاحظ أن التباين في المعتقدات الإنسانية على كر العصور وفي مختلف الأمم لم يمنع من وجود بعض التماثل بين معتقدات الإنسان الأول وبين معتقدات أرقى المجتمعات؛ والظاهر أن هذا التماثل إنما يرجع إلى أن غريزة الفضول والروع لا تختلف في جوهرها عند الإنسان الهمجي والإنسان المتمدن، فكما أن الجميع سواء أمام الحياة والموت، فكذلك يشعر الجميع بنفس الجزع والفضول والروع

ويحدثنا المؤلف أيضاً عن مختلف النظم والرسوم التي تتبع في مختلف الأديان والأمم

ص: 75

للعمل على سلام الروح، وتزكية الراحلين عن هذا العالم إلى العالم الآخر

ص: 76

‌النقد

(محمد)

كتاب الأستاذ توفيق الحكيم

للأستاذ محمد سعيد العريان

أيكون لي أن أكتب عن توفيق الحكيم في كتابه (محمد) بعد إذ كتب الزيات والرافعي، أم يكون من فضول القول أن يعرض مثلي لذاك وقد كتب الأستاذان الجليلان فأبلغا وبلغا ما لا مطمح لي وراءه. . .؟ ولكن كتابا يصنفه (توفيق الحكيم) عن (محمد) جدير بأن يثير الفضول، وأن يعذر من يقول فيطيل القول. . .

وما لتوفيق الحكيم ولمحمد؟

أما المؤلف فشابٌّ من شباب هذا الجيل درس دراسة أهله في هذه المدارس المدنية التي نقول لمن يدخلها (أنت لست من هذه الأمة التي نسلت من العرب، واهتدت بهدى الإسلام، ونمت من روح الشرق وسر روحانيته؛ فاذهب فالتمس أمة غير أمتك تفخر بمجدها وتباهي بماضيها. . .!)

وأما (محمد) فهو ذلك السر الأعلى الذي يستغلق على من لم يتصل بروحانية هذا الشرق، ويغمض على من لم يتعرف سر هذا الدين، ويستخفي على من لم ينشأ موصول النسب بتاريخ الأدب القديم. . . وأين توفيق الحكيم من ذاك. . .؟

على أم هذا البون البعيد بين توفيق الحكيم وتاريخ (محمد) هو الذي دعاه إلى أن يمد نظره إلى بعيد يتنور هذا السر من مطالعه، ويستشرف لهذا النور من مشارقه! فحياة محمد كانت إلى قريب وقفا على طائفة من أهل العلم، لا يتناولها إلا من أوتي كثيراً من الصبر على المعاناة في استخراجها، وكثيرا من القدرة على تنقيتها من فضول القول وحشو الرواة ولغو القُصّص، وقل من يملك القدرة والصبر على مثل ذاك؛ ثم جاءت طائفة من كرام العلماء. فجهدوا جهدهم في جلاء هذا التاريخ والكشف عنه، فكتب المرحوم الخضري بك، وكتب جاد المولى بك، وكتب الدكتور هيكل، وكتب رضا، فبلغوا مبلغهم في ذاك، واستطاع الناس أن يقرءوا (السيرة) كما ينبغي أن تُقرأ، وأن يعرفوا من تاريخ الرسول ما لم يكن يعرف إلا

ص: 77

الخاصة من علماء هذا الدين.

ولكن أتُرى هؤلاء العلماء - على ما بلغوا من التوفيق فيما جاهدوا، وما أصابوا من الإجادة فيما عملوا - قد استطاعوا أن يحملوا واحداً لا يهتم بسيرة الرسول على أن يقرأ سيرة الرسول، أو ودعوا نفراً من شبابنا الذين لا يحسنون إلا اللهو والعبث إلى التماس الحد في حياة محمد وابتغاء المثل العليا في تاريخه. . .؟ لو أن واحداً من هؤلاء الشباب قرأ شيئاً من ذلك لأفاد وانبعثت نفسه، ولكن أين ما يحمله على أن يقرأ. . .؟ إن هذه الكتب على ما أجدت قد عجزت أو كادت عن اجتذاب هذا النوع من الشباب الذي لا يعرف شيئاً عن محمد ولا يهتم أن يعرف؛ ولكن لرجل الفن سبيلا غير ذلك، وقد عرف توفيق الحكيم سبيله

قصد المؤلف من كتابه إلى عرض حياة الرسول الكريم عرضاً يكشف عن دقائقها ويجلو صورها على أسلوب من الفن بعيد عن فلسفة العاِلم وتحقيق المؤرخ، على أن فيه من الفلسفة كما ترى الحادثة بصورتها في حياتنا العادية مرئية مسموعة، تفعل فعلها في النفس وتترك أثرها الفلسفي من غير تعليق ولا بيان؛ وللأستاذ توفيق في فنه باعٌ وذراع. . . فهو قد درس (القصة) دراسة العلم، وفقهها فقه الأدب، وعالجها علاج الفنان المبتكر، وانتج فيها إنتاجاً سيخلد به بين أدباء العربية؛ ولا أغلو إذا قلت إنني لم أقرأ حواراً تمثيلياً في العربية ويلذّني مثل حوار يصنعه توفيق الحكيم

بهذه المقدرة الفنية قرأ توفيق مكتب القدماء عن السيرة، وبحاسة الفنان تمثلت له (مناظرها) كما نقلها في كتابه. وهو ضرب من الرواية لا نستطيع أن نضع له اسماً من أسماء الرواية، فهو ليس قصة، وهو ليس رواية، وهو ليس ترجمة تاريخية، ولكنه منها جميعاً؛ وهو مناظر حواريّة، يباعد بينها الزمان والمكان، وتجمع بينها وحدة الموضوع والغرض؛ على انه ليس لمؤلفها شيء من لغة الحوار ولا أسلوب الكلام، فليس له منها أكثر مما للمصور يرسم لك جزءا من الزمان في ورقة، لا ينقل إليك الزمان الماضي ولكن ينقلك إليه، فإذا أنت ترى منه أكثر مما تريك الصورة، وتسمع منه ما لا يُسمعك الرسم الصامت

ولا شك أن المؤلف قد جهد جهداً غير يسير في إخراج كتابه على ما يشتهي، فهو نوع لم يسبق إليه، وباب اخترعه في فن الرواية ليس له حدود مرسومة تهديه السبيل؛ هذا إلى أن الموضوع دقيق، يقتضي الصبر والأناة وحسن الاحتيال؛ وما ظنك بالكاتب المسلم يؤلف

ص: 78

شبه رواية عن محمد، يجري الكلام فيها على لسانه من غير أن يخترع أو يتزيَّد؛ ثم هو مع ذلك يحاول أن يرضي الفن ويلم بدينه في وقت معاً. . .؟ ولكن المؤلف بسبيل هذا الفن قد تصرف في موضعين: أما أولهما فانه كان يجد بعض ما وري عن النبي محكيا بلغة الخبر لا بلغة الحديث، واتجاهه في الموضوع أن يجعل القصة حواراً: كلاماً يجيب كلاما، وخبراً يرد خبرا، فلم يجد أمامه إلا أن يترجم الخبر إلى لغة الكلام لتستقيم له طريقة في الأداء. فمن ذلك مثل ما تقول كتب السيرة:(استأذن فلان على النبي، فأذن له.) يؤديه المؤلف حوارا كما يلي:

-: أيذَن لفلان يا رسول الله. . .

-: أذِنْت

وهذا وإن لم يكن قول النبي - لأن عبارته في الإذن لم تنقل إلينا في الحديث - جائرٌ فيما أراه، فهو باب من رواية الحديث بالمعنى، وقد أجازها رجاله. على أن هذا النوع في الكتاب قليل جداً لا يتجاوز بضع عبارات؛ ولعل أطول عبارة أجراها المؤلف على لسان النبي، هي ذلك الدعاء الذي ترجم له كتاب السيرة بقولهم:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنّث في غار حراء. . .) فرأى المؤلف من تمام موضوعه أن يجعل على لسان النبي كلاماً يدعو به ربه في تحنُّثه (ص 31)، وأحسب أن المؤلف كان كثير الحرج في مثل ذاك، فإني لأحس في أكثر من موضع من الكتاب أر كلاما هناك كان ينبغي أن يقوله محمدٌ فلم يقله (المنظر الثالث ف1، النبي وورقة بن نوفل ص 37)

أما الموضع الثاني الذي تصرف فيه المؤلف، ففي ترتيب مناظر الكتاب، فهو لم يلزم الترتيب الزمني الذي جرت عليه السيرة، فقدَّم وأخر، ومازج حوادث وحوادث؛ وليس في هذا - على إجماله - ما يعيب المؤلف، فهو لم يقصد إلى أن تكون للكتاب وحدة القصة، بحيث تبنى حادثة على حادثة، وتأتي مقدمة بنتيجة، بل جرى على أن يجعله مناظر يعطي كل منظر منها أو مناظر صورة خاصة لفكرة أو حادثة بعينها، ثم أن يكون للقارئ من مجموع هذه الصور في النهاية، صورة محدودة للنبي الكريم كما يجب أن يعرفها المسلم

الآن قد فرغت من عرض الكتاب كما أراد مؤلفه وكما دلني على نفسه، وإني لأشهد أن مؤلفه قد وفق توفيقا كبيراً فيما حاول، وبلغ بهذا الكتاب ما لا يبلغ غيره؛ وما أحسب أن لي

ص: 79

في هذه الناحية أن أتكلم عن توفيق الحكيم في فنه، فمن للعربية في فن الرواية مثل توفيق؟ على أن هذا الكتاب باب جديد هو زادَه وأنشأه في فن القصة، فمن الفضول أن تقول له: أنت اخترعت وأنت لم تبلغ حد الكمال. . .!

ولكن طابع توفيق الحكيم وشخصيته الفنية لم يكونا ظاهرين مميزين في أسلوب الحوار وفي تساوق القصة ظهورهما وتميزهما في سائر ما ألَّف. وسر ذلك واضح، فهو هنا لم يضع الكلام، ولم يخترع الحادثة، بل نقل وصنف، وداخل ومازج، وإنما تجد طابعه وشخصيته حيث يجد لنفسه الحرية فيما يقول أو فيما يضع:(اقرأ الحوار بين إبليس والحية ص 153 - 157، وموت أبي طالب، وغزوة بدر، وحديث الإفك، وعائشة الغيور) فانك واجد فيها وفي كثير غيرها روحاً وحياة وفناً، فكأنك معها ترى وتسمع وتحس

وأكثر الكتاب من لغة الرواة، لاءم بينها المؤلف ما استطاع ليربطها على أسلوب من البيان منسجم، فأيّ جهد حمل من ذاك؟. . . ولكن عبارات وكلمات نقلت على غير وجهها مما أخطأ الأقدمون على نسخه، وعبارات وكلمات جاءت متداخلة من وضع المؤلف، فأخلَّت بنظم الكلام في غير موضع، ونبا بها مكانها من ذلك البيان العربي المشرق. على أن ذلك لا يعدو بضع عشرة كلمة في الكتاب كله، فما نراها إلى جانبه بشيء ذي بال

وقد كان جهد المؤلف كبيراً في ربط الروايات المختلفة والتوفيق بينها، ليخلص منها إلى الرأي الذي يرى؛ وكان إلى ذلك حريصا على أن تكون (المناظر) قليلة بقدر ما يتأتى له، فجاء من ذلك أن يجعل الحوار في منظر واحد لأكثر من موضوع، وأذ كان الحديث كله بين المتحاورين من الآثار المروية - لم يغير ذلك شيئاً من نص الكلام كما نقله السلف، ولكنه غير جوه فتغير من ذلك مدلوله؛ فمن ذلك حديث النبي عن زوجاته في الجنة، إلى خديجة وهي تُحتضر، (وفاة خديجة ص 100)؛ ومنه حديث (حُبِّبَ إليّ الطيب والنساء) روايتُه على مسمع عائشة في غيرتها المشبوبة وقد جاءها النبي يهمّ أن يتزوج جويرية بنت الحارث. . .!

وجاء في خبر عثمان بن مظعون أن ملاحاةً كانت بينه وبين لبيد بن ربيعة قبل هجرته إلى الحبشة، وأحسب ذلك كان بين الهجرتين؛ فقد كان عثمان على رأس الفوج الأول إلى الحبشة، ثم عاد فاستجار الوليد بن المغيرة حيناً، ثم خلع جوارَه وكان بينه وبين لبيد

ص: 80

الشاعر ما كان بعد خلْعه جوار الوليد، ثم هاجر ثانية إلى الحبشة (ص105)

ونقل الكتاب في حديث الإفك (ص376 - 377) أن أمَّ مِسْطح قالت: تَعس مسطح. إذ وجدت ما وجدت في وجه عائشة من إعياء المرض؛ والذي أذكره أن أم مسطح قالت ذلك لغير هذا السبب، ولا أرى داعية للعدول عن المأثور في الرواية

أما بعد، فما حاولت بما أسلفت أن أنقد، ولو أنني حاولت لما وجدت؛ وإنما أذكر هذه الهنات كشهادة على براءة الكتاب وكماله؛ وحسب توفيق الحكيم أن يخرج كتاباً عن محمد على نهج جديد في الفن، ثم لا يجد الناقد فيه غير ما قدمت، وإنه لتوفيق من الله أن يتهيأ لحياة محمد أديب كبير مثل توفيق يربط أسمى ما في الفن بأقدس ما في تاريخ الإسلام. وما احسبنا - وهذا الكتاب بين أيدينا - سنشكو القطيعة بعد اليوم بين شبابنا الذين يعشقون الجديد ويقدرون الفن، وبين سيرة النبي الكريم، وإني قد فرغت من قراءة هذا الكتاب منذ قليل لأشعر بالحنين إلى الساعات السعيدة التي قضيتها منه كأني أعيش عصر النبوة، ومارى هذه الحنين سينقضي حتى أعود إلى الكتاب فأقراه مر ومرة ومرات حتى أروي ما بنفسي من ظمأ إلى هذا الكوثر العذب، وهيهات أن أشعر بعد بأني شربت حتى رويت. . .

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 81