الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 139
- بتاريخ: 02 - 03 - 1936
شباب العراق في مصر
قل لأولئك الذين زعموا أن مصر نَبَتْ على العروبة فقطعت الأسباب الموصولة، وأيبست الأرحام المبلولة: تعالوا فانظروا كيف بَثَّتْ بالعراق بشاشة الألفة، ورفَّت لبنيه رفيف القرابة، وأشبلت عليهم أشبال الأمومة! تعالوا فأسالوا شباب الفراتين: هل كانوا على ضفاف النيل في ارض غير أرضهم، وقوم غير قومهم، وبيئة غير بيئتهم؟ لقد كان إقبالهم على محطة لقاهرة كإقبال الربيع، واستقبالهم فيها كاستقبال العافية! نزلوا من القطار على أكتاف البهاليل من شباب النيل، وحلوا في قلوب الميامين من رجال الوادي، وهتفت الجموع الحاشدة بأسمى فؤاد وغازي، وجرت الألسن الخاطبة بلفظي القرابة والوحدة، وتلاقت العواطف الظامئة على وِرْدي الإخاء والمودة. ودخل الطلاب العراقيون في غمار الألوف المتهللة، فتجاذبت الدماء، وتمازجت القلوب، وتعاطفت الذكريات، وتجاوبت الأماني، وترجمت اللغة! ثم كانوا طوال الأسبوع المنصرم غبطة القاهرة وبهجة الأندية وحديث الصحف، يظلون من مطلع النهار إلى مقطع الليل غرقى في احتفاء المدينة بين ترحيب يومض في العيون، وتسليم يفتَرُّ في الشفاه، وإعجاب يدوِّي في الأكف، وكرم يفيض على الموائد، ثم لا يسعفون كل مَشُوق لسعة الحركة ولا يجيبون كل داع لضيق المدة
والحق أن الشباب العراقيين كانوا كما قال الدكتور محجوب: طاقة من شتيت الزهر النضير قدمتها بغداد إلى القاهرة في العيد! مثلوا العراق في الرجولة والعزة، ومثَّله الأستاذ منير القاضي في الوقار والنبل، فكانوا بهذا المظهر الجميل دليل اليقين لمن يطيع في أمتهم الشك، وشاهد الاطمئنان لمن يعقد على نهضتهم الأمل!
كان مبعث الجفاء بين أقطار العرب انقطاع الأسباب وبُعدِ الشقة؛ ثم غشيت كل سماء من سمواتها الزُّهر غمةٌ من أطماع الغرب، حجبت عن العيون الضياء، وعن النفوس الصفاء، وعن العقول المعرفة، فذهب القوم أشتاتاً يتلمس كل امرئ في الظلام طريقه! حتى إذا استيقظ في الوجدان شعور العروبة، وعاد فأشرق في الأذهان نور الدين، أبصرنا فإذا بيننا من بغى الإنسان حواجز تتقاصر عندها الخطى، وتتناكر دونها المعارف!
أزيلوا قائم الحدود، وجدوا دارس الطريق، تتلاق الوجوه وتتعارف الاخوة؛ واعملوا ما يعمل في العراق رسول الوحدة ياسين، وفي مصر أمثال الوزير محمد علي، والزعيم
طلعت حرب، تجدوا الاتحاد العربي جارفاً كدعوة محمد، سريعاً كفتوح أمية، خصيباً كحضارة العباس!
هذه هي مصر الصحيحة يا شباب الرافدين! لا يزال دينها دينكم، ولغتها لغتكم، وهواها هواكم! أنها لم تركم ولم تروها لأنها في جوف الحوت! وهأنتم أولاء تسمعون حشرجتها الأليمة في حلقه، وستجيش بين معدته وأضراسه جَيَشان السم الزعاف حتى يلفظها حيةً سليمة كيونس! حينئذ تتجه (ابنة الشمس) إلى مطلع الشمس! وهناك يكون مجد العرب اليوم كما كان هناك مجدهم بالأمس! وليس الشرق موطن الديانات والمدينات بضيق ولا جديب
إن الأرض لتُزَلزَل في كل مكان بالدخيل يا بَنِي (الهلال الخصيب)! وإن تاريخ الجدود لينبجس فواراً حاراً من صحون المساجد الجامعة! هل تذكرون ثورة بغداد في جامع الحيدرخانة؟ هل رأيتم غضبة دمشق في الجامع الأقصى؟ هل علمتم وثبة القاهرة من الجامع الأزهر؟ إن لذلك معنى عجيباً لا يندُّ عن خاطر ولا يلتوي على ذهن، ذلك أن المنارة التي يذكر عليها اسم الله، وأن المحراب الذي يقوم فيه الدين، لا يزال هو الركن الذي يأوي إليه الحق، وإن الإسلام الذي ألف شتيت البدو في الأول، هو النظام الذي يجمع شمل العرب في الآخر!
لقد كانت زيارة الطلاب العراقيين فرصة ميمونة لتوثيق الصلات التاريخية المقدسة، صافحونا بالأيدي، وخاطبونا بالألسن، وسمعونا بالآذان، فانمحت الفوارق العارضة، وانجابت الحجب الكثيفة، واستبان أن الخيال جانٍ على الحقيقة، وإن السماع كاذب على العِيان، وإن الوحدة المستحيلة أمر من الواقع!
نعى البرق شاعر العراق الزهاوي والمصريون والعراقيون في حفلة اتحاد الجامعة، فكان وقع المصاب في نفوس الفريقين واحداً لا يختلف؛ وقام كبير الأدباء فأبن كبير الشعراء بكلمة تلقاها الأخوان بعاطفة واحدة وشعور مشترك، لأن الزهاوي كان يهزج بأغاريد الفجر على ضفاف دجلة، فتردد أصداؤها الموقظة في ربوات بَرَدى وخمائل النيل وسواحل المغرب! وأدب الزهاوي وأمثاله هو الذي وصل القلوب العربية في مجاهل القرون السود بخيوط إلهية غير منظورة، ولولاها لم تكن هذه الزورة! وبهذه الزورة وأمثالها نتعارف
ونتآلف ونتحد! فتعالوا يا أخلاق المجد الفقيد وأسلاف المجد الوليد نتعاون على دفع الأذى عن العزة المهانة! تعالوا نقرَّ في سمع الزمان أن أمة الرسالة تريد أن تؤدي الأمانة! ولكن قبل ذلك كله: تعالوا نجدد دارس العهد بيننا=كلأنا على هذا الجفاء ملوم
أحمد حسن الزيات
أغنية
للأستاذ أحمد أمين
تعجبني أحياناً بعض الأغاني الشعبية، إذ أراها تمثل روح الشعب وآماله وآلامه - وأراها أصدق في وصف الحياة المتنوعة مما يفعل أدباء اليوم، فكل أغانيهم لا تمثل إلا عاطفة الحب البائس، وما يتبعه من ألم ممض، ولوعة مضنية؛ أما الأغاني الشعبية ففيها الحب البائس، والحب الباسم، وفيها التغني بالبطولة، والشكوى من الظلم
أحياناً فيها فلسفة اجتماعية كالأغنية التي سأعرضها اليوم؛ ومرماها تصوير الهيئة الاجتماعية في صورة الجسم الواحد تتعاون أعضاؤها لتحقيق المصلحة العامة - وهو معنى عرض له الفلاسفة والأدباء في الأمم المختلفة قديماً وحديثاً - فمثّله اليونان مرة بإضراب أعضاء الجسم. قال القلب: لماذا أوزع الدم على سائر الأعضاء ولا ينالني أنا منه إلا قطرات؟ فلأضربَ. وقالت المعدة: ولماذا أهضم أنا أيضاً الأكل كله وليس يصيبني منه إلا قليل، أفما كان الأولى ألا أهضم إلا ما ينالني؟ فلأضرب. وقالت الأسنان: ومالي أنا كالطاحون تطحن دائماً ولا ينالني من الغذاء إلا قدر السمسمة؟ فلأضرب. وقالت الرجل: وأنا دائبة السعي يميناً وشمالاً وليلاً ونهاراً في جمع العيش وتحصيل القوت، ثم حظي من كل هذا فتات الموائد؟ فلأضرب. وقال كل عضو هذا القول أو شبهه، فأضربت الأعضاء جميعاً، فلا الرجل تسعى، ولا اليد تحمل الغذاء إلى الفم، ولا الأسنان تمضغ، ولا المعدة تهضم، ولا القلب يوزع
ثم بعد قليل شعرت المعدة بالجوع ولم تستطع الرجل المشي ولا اليد، أدركت كلها أنها سائرة إلى الفناء السريع، فاجتمعت على عجل وقررت فض الإضراب إذ رأت أن كل عضو يعمل لنفسه ولغيره، وان غيره يعمل لنفسه ولغيره، فالغرم بالغنم والربح على قدر الخسارة
ولحظ هذا المعنى شعراء العرب فقال أبو العلاء المعري فيه:
المرء كالنار تبدو عند مسقطها
…
صغيرة ثم تخبو حين تحتدم
والناس للناس من بدو وحاضرة
…
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
وكل عضو لأمرٍ ما يُمارسُه=لا مَشيَ للكف بل تمشي بك القَدَم
أما هذه الأغنية التي أشرت إليها فتمثل هذا المعنى من ناحية أخرى ظريفة، وهي ارتباط الصناع وأرباب الأموال برباط وثيق، لا يمكن أن يستغني أحد عن أحد. وهاهي بعد حذف ديباجتها:
(وحصاني في الخزانة، والخزانة (عاوزة) سلم، والسلم عند النجار، والنجار عاوز مسمار، والمسمار عند الحداد، والحداد عوز بيضة، والبيضة في بطن الفرخة، والفرخة عاوزه قمحة، والقمحة عند القماح، والقماح عاوز فلوس، والفلوس عند الصريف، والصريف عاوز عصافير، والعصافير في الجنة، والجنة عاوزه حِنّا) الخ. . .
أغنية لطيفة حقاً، لا يزال أطفالنا إلى الآن يتغنون بها بتوقيعهم الظريف، وصوتهم الشجي، وهم إذ ينشدونها لم يدروا أنهم يتغنون بفلسفة عالية، وفكرة سامية
قد يلاحظ علنها أن الربط في بعضها محكم كحاجة السلم إلى النجار والنجار إلى المسمار، وبعضها غير محكم كحاجة الحداد إلى البيضة، وحاجة الصريف إلى العصافير، ولكن أظن أن تحكيم المنطق الدقيق الحاد في الأدب كالشعر والأغاني وسائر الفنون مجاوزة للحد، فالأغنية ظريفة لطيفة رغم المنطق
ومن أسباب جمالها هذا النوع البديع الذي يصح أن أسميه (جمال الدوران) أو جمال التسلسل مثل قولهم (لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل)
وقولهم: (الحجر يكسر الزجاج، والحديد يكسر الحجر، والنار تذيب الحديد، والماء يطفئ النار، والريح تلعب بالماء، والإنسان يتقى الريح، والخوف يغلب الإنسان، والخمر تزيل الخوف، والنوم يغلب الخمر، والموت يغلب النوم)
ومثل قوله: (العالم يعرف الجاهل لأنه كان جاهلاً، والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالماً) الخ
وبعد فما تاريخ هذه الأغنية ومن واضعها؟ لابد أن يكون فيلسوفاً أو حكيماً بعيد النظر. ومما يؤسف له أن هذه الأغاني والأزجال والمواويل لم يعن عناية الأدب الأرستقراطي، فبينا يعني العلماء والأدباء بنسبة بيت الشعر إلى قائله، والقصيدة إلى منشئها، ويحتدم بينهم القتال على ذلك، إذا بنا لا نجد هذه العناية ولا بعضها في الأغاني والأزجال الشعبية، وهذا
نوع مما أصاب الأدب الشعبي من الظلم. وكم أصابه من أنواع! وها هي الأغاني التي تخترع في عصرنا نجدها على الأفواه ونستعذبها، وتهش لها نفوسنا، ولا نكلف أنفسنا مئونة البحث عن منشئها
ولكن من حسن حظ هذه الأغنية، أو من حسن حظنا نحن، أننا نجد ظلاً لتاريخها، فقد ذكرها الجبرتي في تاريخه في حوادث سنة 1143 هجرية، فيكون عمرها أكثر من قرنين وظلت الأجيال تتعاقبها إلى يومنا
ويظهر من كلام الجبرتي أن واضعها عالم كبير جليل من أكابر علماء الأزهر في القرن الثاني عشر، هو الشيخ الحفناوي أو الحفني؛ كان سيد الأزهر في أيامه، له حلقات الدروس الحافلة بنوابغ الطلبة، يقرأ فيها أعوص الكتب وأصعبها، كجمع الجوامع والأشموني وحاشية السعد؛ وله التآليف الكثيرة في البلاغة والميراث والجبر والمقابلة، كما كان بيته ساحة كرم يغشاه أعيان مصر وعلماؤه وأدباؤها، ويلجأ إليه الفقراء وذوو الحاجات؛ وكان راتب بيته من الخبز كل يوم نحو الإردب، وطاحون بيته دائرة ليل نهار، ويجتمع على مائدته الأربعون والخمسون والستون، إلى هيبة ووقار، حتى يهاب العلماء سؤاله لجلاله
وهو مع هذا كله ظريف أديب، سمع تلميذاً له يوماً يقول:
قالوا تحب المدمس؟ قلت بالزيت حار
…
والعيش الأبيض تحبه؟ قلت والكشكار
فضحك الشيخ وقال أنا لا أحبه بالزيت الحار، وإنما أحبه بالسمن، ثم قال:
قالوا تحب المدمس؟ قلت بالمسلي
…
والبيض مشوي تحبه؟ قلت والمقلي
وله المواويل الظريفة كقوله:
بحياة يا ليل قوامك وصوم الحَرْ
…
تحجز لنا الفجر دا فوت الرفاقه حَرّ
لما يجي الفجر يصبح ركبهم منجرّ
…
أزدادِ لَوَعه ولا عمري بقيت انْسَرْ
إلى غير ذلك. فيحدث تلميذه أن الشيخ الحفني قال له يوماً (أحدتك حدوته، بالزيت ملتوته، حلفت ما آكلها، حتى يجي التاجر، والتاجر فوق السطوح، والسطوح عاوز سلم الخ) فحكاية التلميذ ولم يكن سمعها من قبل وروايته لها عن شيخه ترجح الظن أنها من عمل الشيخ الحفني
وقد زاد الشيخ على ذلك فشرح الأغنية على طريقة الصوفية ففسر التاجر بالمرشد الكامل
والمربي الواصل، والتاجر فوق السطوح في مستوى عال، والسطوح لا يمكن صعوده إلا بمعراج الخ وقد كان للشيخ جانب آخر صوفي عظيم
فالأشموني وجمع الجوامع، والحواشي والتقارير، كلها لم تمنع الشيخ العالم الأزهري الجليل من أن يكون أديباً وزجالاً ظريفاً يضع الأغاني والمواويل يتغنى بها الشعب. وهذا يذكرني بما سمعت عن فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعه المفتي الأسبق - مد الله في عمره - من أنه واضع الدور المشهور:(الله يصون دولة حسنك)
فمن لنا بعلماء الأزهر بين اليوم يشرفون على الأدب كما يشرفون على الدين، ويتعرفون حياة الناس الاجتماعية، ومناحيهم الأديبة، ويضعون الأناشيد الظريفة، والأغاني اللطيفة، ويكونون عنوان الدين وعنوان الظرف، يبتغون فيما آتاهم الله الدار الآخرة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا
أحمد أمين
مواكب سلاطين مصر
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
أن أفئدتنا المتعلقة بمصرنا العزيزة تتوق إلى كل ما يرتبط بهذا الوطن المجيد، فكما أن نسميها حبيب وحرها حبيب؛ وكما أن سماءها تأخذ بالألباب في صفائها، وتنعش فيها الأمل بسحابها ومطرها؛ وكما أن حاضرها نزهة الأعين وبهجة الأنفس، كذلك تجد النفس في ماضيها مسارح محبوبة للخيال والفكر. فلنعد إلى عصر من تلك العصور الماضية المجيدة، ولنتجرد من عصرنا الحاضر إلى حين لنفرغ إلى استجلاء بعض لذات تلك الأيام الغابرة، ولنشارك بالفكر مواطنينا الأعزاء الذين ملئوا أيامهم جلالاً وبهجة
لنعد إلى القرن الثالث عشر، ولنتخط إليه ستمائة عام على أجنحة الخيال، ولنقف حول ركاب ملوكنا الأمجاد الذين كانوا زينة العصر وحماة الديار عند ذلك، ولنشارك مواطنينا من الأجداد الذين كانوا يصطفون على جوانب الطرق وقلوبهم خفاقة ونفوسهم مملوءة بالإجلال الممزوج بالحب والعطف لهؤلاء الحماة، وللنظر إلى السلطان العظيم وقد أقبل في موكبه والناس يضجون بالدعاء له فيتلقونه بأحسن الاستقبال. حتى إذا ما صار منهم على كثب رفعوا الأكف وقرءوا الفاتحة ودعوا له بالنصر والقوة على حماية البلاد، ولنشارك مواطنينا في ذلك فلقد كان أولئك السلاطين تفيض قلوبهم بخير ما تفيض به قلوب الملوك من حب لخير الرعية وتفان في سبيل مصلحتها العامة.
كان أحد هؤلاء السلاطين الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وكان يلقب بالعلائي البندقداري نسبة إلى الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري أحد أمراء الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهو الذي اشتراه عندما كان مملوكاً صغيراً ثم آل ملكه إلى السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب، ولهذا يلقبه التاريخ أيضاً بالصالحي النجمي. وقد تعلم وترقى في الوظائف على النظام البديع الذي كان يسير عليه أمراء ذلك العصر في تعليم مماليكهم وترقيتهم حتى صار أميراً قائداً، وذلك لما أظهره من الشجاعة في الحرب ولا سيما في موقعة المنصورة في أيام الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح أيوب، وهي الموقعة التي هزم فيها الفرنج وأخذ ملكهم لويس التاسع أسيراً، وما زال حتى صار (أتابكاً) للعساكر أي قائداً عاماً لهم
ثم استولى على الملك، فكان الثالث من سلاطين الأتراك الذين جرى العرف بتسميتهم سلاطين المماليك
وكانت مصر في أيامهم تحيط بها عنون الأعداء من كل الجهات، فبينا كان أهل أوربا يدبرون الخطط ويجندون الجيوش الجرارة لغزوها، كان أحفاد جنكيز خان ملوك التتار العظام يدفقون جموعهم نحو الشام بعد أن اجتاحوا بلاد العراق وخربوها وأسالوا فيها الدماء أنهارا، فكان العصر عصر حرب ودفاع، وكانت الروح الغالبة روح الحرب والدفاع، وكان واجب الأمة الحرب والدفاع، وكان بيبرس من خير من مثل تلك الروح واستعد بكل قوة للحرب والدفاع، فكانت كل مظاهره مصبوغة بصبغة النضال والكفاح. كان الخليفة العباسي قد جاء إلى مصر مطروداً مشرداً بعد أن نكب التتار بلاد العراق، جاء إلى مصر يطلب فيها الأمن ويلتمس الحماية من سلطانها الأعظم بيبرس، وأحب أن يكافئ ذلك السلطان على حمايته ومساعدته مقدماً، فقلده السلطنة المصرية بصفته الحاكم الشرعي للدولة الإسلامية، وبذلك عمل على تثبيت مركزه وجعله حاكماً شرعياً إلى جانب كونه حاكماً بالسيف. فأمر السلطان فضربت لهذه المناسبة خيمة كبيرة في المطرية، وجلس السلطان على كرسي عظيم في صدرها، وكان طويل القامة مليح الشكل أبيض الوجه مستدير اللحية، وقد اختلط سوادها بالبياض يكاد يغلب عليه. وقد اصطف الأمراء حوله بحسب مراتبهم، لا يلتفت أحد منهم إلى يمين ولا إلى يسار، ولا يكلم أحد من إلى جواره ولا يشير إليه، فلقد كان هذا خروجاً على الآداب المقررة في المجلس السلطاني، ولم تكن ملابس هؤلاء الأمراء قد بلغت بعد ما بلغته من الزينة والزركشة في أيام السلاطين الذين أتوا فيما بعد كالسلطان قلاوون وابنه الملك الناصر محمد، وذلك لأن بيبرس كان لا يجد من فراغه متسعاً للتفكير في غير عدة الجهاد والنضال. فلم تكن ملابس هؤلاء الأمراء غير أقبية (أو جيب) بيضاء واسعة ضيقة الاكمام، ومناطق ساذجة لا ذهب فيها ولا جواهر، بل كانت من القطن المصبوغ، وكانت أخفافهم من جلد بلغاري أسود، فوق تلك الأخفاف خف ثان اسمه السقمان، وكان فوق الأقبية أو الجيب كمران فيهما حلق وأبزيم ومعلق فيهما صوالق (أو جيوب) جلد كبار يسع الواحد منها أكثر من نصف ويبة من القمح، ويغرز فيه منديل طوله ثلاثة أذرع، وكانت شعورهم مضفورة، وضفائرهم مدلاة في كيس حرير أحمر
أو أصفر، وفوق رؤوسهم قلانس صفراء مضربة تضريباً عريضاً
وجلس عن يمين السلطان الخليفة والقضاة من المذاهب الأربعة، فان بيبرس جعل لكل مذهب قاضياً كبيراً بعد أن كانت ولاية القضاة لقاضٍ واحد من علماء المذهب الشافعي. ثم جلس عن يمين القضاة واحد بعض موظفي الدولة مثل وكيل بيت المال أو (وزير المالية كما نسميه الآن)، ثم ناظر الحسبة أو (هو محافظ القاهرة)، وكلاهما من القضاة وأرباب القلم. وجلس عن يساره الوزير ثم كاتب السر أو (الأمين الأول)، وجلس أمامه ناظر الجيش وجماعة من الكتاب الكبار أو كما كانوا يسمونهم الموقنين
ووقف من وراء السلطان صفان فعن يمينه ويساره من الأمراء الكبار وهم رؤساء الأمراء والقواد في الجيوش، وجلس إلى اليمين واليسار على بعد نحو ثمانية أمتار من السلطان ذوو السن من الأمراء القواد وهم أمراء المشورة في الدولة. وجلس بعد ذلك من هم أدنى منهم مرتبة من أكابر الأمراء، والقواد بحسب درجاتهم، فكان أقربهم من السلطان أمراء المئين وهم مقدمو الألوف، وكان كل منهم أميراً على مائة فارس، وقد يزيد عدد فوارسهم عشرة أو عشرين فوق المائة؛ وكان يليهم أمراء الطبلخاناه، وكان كل منهم أميراً على أربعين فارساً، وقد يزيد عدد فرسانهم إلى السبعين؛ وكان بعد هؤلاء جميعاً أمراء العشرات ولكل منهم الإمارة على عشرة فرسان، وقد يزيد عدد فرسانهم إلى العشرين
ونصب منبر وصعد عليه كاتب السر الشريف، فقرأ على الأمراء في ذلك الحشد الحافل كتاب الخليفة العباسي أحمد المستنصر بالله الذي لجأ إلى مصر وأحسن السلطان استقباله، وفيه ثناء طيب من الخليفة على السلطان العظيم فأصبح بذلك ملكاً على البلاد بحق الاستيلاء والسيف، وبحق تقليد خليفة المسلمين الذي كان العالم الإسلامي يرى فيه رمز الحق الشرعي للحكم.
ثم حملت إلى السلطان خلعة الخليفة، فلبسها وهي جبة سوداء، وعمامة بنفسجية، وطوق من ذهب، وقلد بسف عربي. فلما انتهى الاحتفال ركب السلطان بالخلعة والطوق والأمراء حوله وأمامه حسب ترتيبهم، وحمل الصاحب بهاء الدين محمد بن علي ابن حنا تقليد الخليفة، على رأسه وسار قدام السلطان. ثم سار الموكب حتى دخل القاهرة من باب النصر ومر في الشارع الأكبر من المدينة، والسلطان في خلعته الجديدة راكب على فرس عربي
عليه كسوة بديعة من الحرير الأصفر، وقد ركب إلى جواره أحد أمراء المئين راكباً على فرس يحمل المظلة وهي حبرة من الأطلس الأصفر المزركش بالذهب، من أعلاها قبة من الحرير نفسه، وفوقها طائر من الفضة المذهبة
وتلقت الجموع الزاخرة من أهل القاهرة ذلك الموكب بالتهليل والطرب؛ وكان السلطان كلما مر بجماعة ضجوا بالدعاء له بالنصر والفتح وقرءوا الفاتحة تبركاً وتيمناً؛ ومازال ذلك الموكب حتى بلغ القلعة فلم يبق ركن من أركان القاهرة لم يهتز لرؤيته والاشتراك في الحفاوة به
والآن فلنخرج مرة أخرى لنشارك أجدادنا أهل القاهرة في التمتع برؤية موكب آخر سائرين في ركاب السلطان إلى ميدان بجوار القاهرة كان ملوك مصر إذ ذاك يقصدونه للرياضة والتنزه ويلعبون فيه لعبتهم المشهورة وهي (الكرة)؛ وكانوا يخرجون لذلك إلى أحد ميدانين: الأول الميدان الناصري الكبير، والثاني ميدان سرياقوس. وكان الخروج إلى كل من هذين الميدانين في أوقات معينة من السنة، فالركوب إلى الميدان الكبير الناصري كان يقع في شهري سبتمبر وأكتوبر؛ وذلك الميدان على ضفة النيل في جهة بستان الخشاب فيما بين القاهرة ومصر القديمة. وكان الخروج إليه في كل يوم سبت من الشهرين المذكورين. وقد كان بودي لو استطعت في هذه الكلمة أن أصف مواكب خروج السلاطين إلى كل من هذين الميدانين، ولكنني أكتفي بوصف موكب واحد وهو موكب الخروج إلى الميدان الكبير الناصري
خرج السلطان الملك الناصر صباح أول يوم السبت بعد وفاء النيل بادئاً موسم لعب الكرة والصولجان في ذلك الميدان الفسيح؛ وكان خروجه في الصباح، ولكن الشمس كانت قد بسطت سلطانها على الأحياء فبدأ حرها يشتد وتكاثر الناس وازدحموا على الطريق ليروا السلطان وهو يخرج سائراً نحو الغرب إلى قناطر السباع القائمة فوق الخليج، وذلك في موضع ميدان السيدة زينب الآن، ومن هناك سار نحو النيل إلى الميدان. وكان في أول الموكب فارسان يلبسان ثياباً من الحرير الأصفر وعلى رأس كل منهما كوفية من الذهب على هيئة طاسات الحرب، وكانا يركبان فرسين أبيضين بحلية بديعة من الذهب، وكان على كل من الفرسين كساء من الحرير الأصفر المزركش بالذهب يغطي من تحت أذنيه
إلى موضع السرج. فلما مر هذان الفارسان أقبل في أثرهما السلطان هو راكب على فرس عربي أصيل هيئته وكسوته مثل هيئة فرسي الفارسين المتقدمي الذكر لا فرق بينه وبينهما، حتى كان الناظر إلى الفرسين المتقدمين يظنهما قد أعدا لركوب السلطان نفسه؛ وكان أمام فرس السلطان غاشية السرج يحمله بعض أمراء المماليك الخواص، وهذه الغاشية عبارة عن جلد مزركش بالذهب ليُغطي به سرج السلطان إذا نزل، وكان حامل تلك الغاشية يحركها زهواً وافتخاراً ذات اليمين وذات الشمال، والى جانب حامل هذه الغاشية فارس أخر يضرب على شُبابة، وهي آلة موسيقية لا يقصد بنغمها الإطراب، بل يقصد بها إيقاع المهابة في النفوس
وكان فوق رأس السلطان العصائب السلطانية، وهي من الحرير الأصفر المزركش بالذهب منقوشة باسمه وألقابه. وكانت العادة أن تحمل هذه العصائب فوق رأس السلطان عند الركوب إلى هذا الميدان خاصة وفي يوم العيد، وعندما يدخل إلى القاهرة عائداً من السفر أو إلى مدينة من مدن الشام
ولم يكن في هذا اليوم يستظل بالمظلة، فإن رفعها كان خاصاً بأيام العيد أو عند دخول المدينة أو في المواكب التقليدية الكبرى
وجاء خلف السلطان جماعة الأمراء أولهم المشاة يحفون به على هيئة دائرة، وهم الطبردارية الذين يحملون الأطبار المشهورة ولعلها السيف المعوجة التي يسميها الفرنج (السابر)، وكانوا في العادة من كبار الأكراد، ويليهم بعد ذلك الأمراء الفرسان يسيرون بحسب مراتبهم: فنائب السلطنة، ثم الوزير وأرباب الوظائف الكبرى، ثم المئين مقدموا الألوف، ثم الطبلخانات، ثم أمراء العشرات، ثم المماليك
فإذا ما انتهى الركب إلى الميدان واستقر مجلس السلطان هنيهة في ظلال الأشجار الوارفة التي حول الميدان أمر ببدء اللعب واشترك هو مع الأمراء الكبار فلعبوا الكرة بالصوالج وهم ركوب على الخيل، وانتهزوا فرصة اللعب فاظهروا من المهارة في ركوب الخيل والتحرك فوقها أثناء جريها ما يدهش الألباب
فإذا انتهى اللعب في ذلك اليوم دعا السلطان الاثنين اللذين برزوا في اللعب من الأمراء وانعم عليهما بحوائص الذهب وهي مناطق ثمينة من الذهب يبلغ ثمن الواحدة أحياناً مائتي
دينار أو يزيد؛ وكان هذا التقليد مخصوصاً لكبار الأمراء المقدمين، فكان السلطان بذلك ينعم بالحوائص على كل الأمراء المقدمين تدريجاً حتى يتم إنعامه على الجميع مرة في مدى ثلاث سنوات أو أربع
وبعد أن ينتهي من الإنعام بالحوائص يدعو المبرزين من كل طبقات الأمراء ويهدي إليهم الخيول الجياد، فكان يعطي الأمراء الكبار من أمراء المئين والطبلخانات خيولاً مسرجة ملجمة، ثم يختار بعض أمراء العشرات فيجعل لهم حظاً من ذلك الإنعام أيضاً، ويزيد عطاؤه للمقربين من كبار أمراء حرسه الخاص فيجود عليهم بالجياد عشرات لا آحادا
فلقد كان خروج السلطان إلى ذلك الميدان أحد موسمين للإنعام بالخيول على الأمراء، وكان الموسم الآخر عند خروجه إلى مرابط خيله في الربيع
وبعد، أفلم تكن تلك التقاليد المقررة جديرة بأن نذكرها ونحتفظ بذكراها ليكون جيلنا الحاضر مرتبطاً بالأجيال الماضية ارتباط البناء بالأساس؟
محمد فريد أبو حديد
الجوع الروحاني
لأستاذ جليل ينم عليه أسلوبه
أتحفنا الأستاذ المازني منذ أيام بمقال ممتع (في الحب)، ثم أعقبه بمقال آخر تحدث فيه عن (الحب الأفلاطوني) و (الوفاء في الحب)
فقال عن الحب أنه (ضرب من الجوع، أو هو إذا شئت نوع من التنبيه تلجأ إليه الطبيعة لتغرينا بما يكفل المحافظة على النوع)
وقال عن الحب الأفلاطوني والوفاء: انهما لا يوجدان مع الصحة والسلامة، وإذا كان من الممكن أن يشبع الجائع بالنظر إلى الطعام في أطباقه على السفرة، فانه يكون من الممكن أيضاً إرضاء عاطفة الحب عند الرجل السليم المعافى بالنظر إلى المرأة والاستماع إلى حديثها، والتمتع بابتسامتها، ورشاقة وقفتها، وحسن جلستها؛ والذي يقنع من المرأة بذلك يكون أحوج إلى الطبيب المداوي منه إلى المرأة)
وقال الأستاذ عن الوفاء: (أما الوفاء فأكرم به وأنعم! ولكن أين في دنيانا من يصبر على طعام واحد وفي وسعه ألا يفعل؟ وإني أسأل القارئ وأعفيه من الجواب العلني: أي رجل لم ينقض عهداً بالوفاء؟. . . والمرأة كالرجل، وشأنها كشأنه، وكذاب من يقول - وكذابة من تدعي - غير ذلك، ولست أدعو إلى شيء. وحاشى أن أفعل، ولكني أصف واقعاً وأقر حقاً لا يكابر فيه إلا منافق يريد أن ينتحل فضلاً على حسابي وحساب الحقيقة)
وأورد الأستاذ في هذا المعنى بيتين من الشعر قالهما قبل أن يهجر القريض - مأسوفاً عليه من مقدري فضله:
يا عقيدي طامن الله حشاك
…
لن تراني شاكياً وهي حبالك
أين من (طينتنا) أين الفكاك
…
أنت إنسان على فرط جمالك
وإني مع فرط احترامي لآراء الأستاذ وإعجابي بها دائماً، بل وعلى الرغم من إعجابي بأفكاره هذه التي عرضها في مقالة الأخير، أقول إني أحسست بأني شخصياً قد سُببت. وكلما مر نظري على قوله:(كذاب من يقول، وكذابة من تدعي انتفضت وأحسست بالدم يصعد إلى رأسي شأن من يكون مقبلاً على شجار والعياذ بالله! وكلما أعدت البصر في قوله أنه (يقر حقاً لا يكابر فيه إلا منافق يريد أن يفعل كذا وينتحل كذا)، أحسست كأنما
تتحشرج في حلقي عبارة: (اختش يا رجل) أو: (أحفظ مقامك يا أخينا أنت وإلا. . . .) أو غير ذلك من العبارات التي تسبق التماسك عادة بين الغريمين!
ذلك باني أنا أومن بالحب الأفلاطوني، وأومن بالوفاء؛ وإن كان الأستاذ قد قال في معرض الكفر بهذين المذهبين:(وأنا لا أدعو إلى شيء وحاشاي أن أفعل)؛ فهأنذا أقول باني أدعو إلى الإيمان بالحب الأفلاطوني وبالوفاء.، وقصاراي أن أفعل!
ولأبدأ أولاً بأن أقول مع الأستاذ أن الحب اشتهاء؛ فإلى هنا نحن متفقان. ولكن يبدو لي مع الأسف أن هذا هو كل ما بيننا من توافق، فانه يقول بعد ذلك رأسا إن الحب تنبيه للجسم ليعمل على حفظ النوع. بينما أنا أتابع الحديث بأن الجوع أنواع، وأن الأصل فيه جوع المعدة إلى الطعام، وأن لكل حاسة من حواس الجسم نوعا من الجوع تكابده وتعمل على إشباعه، وان الأذن مثلاً تجوع وغذاؤها الموسيقى؛ ويحس الجائع في هذه الحالة باشتهاء مُلِح إلى استماع الألحان. والعين كذلك تجوع ولكنها تجوع إلى الجمال، وقد يبلغ من جوعها أن تضطرب أعصاب صاحبها وتفسد عليه شؤونه إلى أن يمن الله عليه بصورة جميلة تقر لها عينه وتطمئن بها نفسه، مع أنه لا يبغي من هذه الصورة أكثر من أن يجلو بها عينيه. وأجهزة الجسم جميعها تجوع. ولعل الحب الذي كتب عنه الأستاذ هو جوع الجهاز التناسلي، وهو الجوع إلى المرأة وليس الجوع إلى الجمال، فأن جميع (الأعراض) البادي في ذلك المقال (تشخص) هذه الحالة
وإذا كنت موفقاً في التعبير فأني أعتقد أن هذا القول فيه ما يكفي لفتح الطريق أمام الحب الأفلاطوني الذي سد الأستاذ في وجهه الأبواب ووقف من دونها يقول: (أين الكذاب الذي يقول أن شيئاً يقوم وراء هذا الباب؟! وأنت أيها المكابر يا من تريد أن تنتحل فضلاً على حسابي وحساب الحقيقة: يا منافق. . يا بن الـ. . .) إلى أخر تلك الثورة التي لا سبيل لي مع الأسف إلى اتقاء أذاها غير أن أنشر هذه الكلمة بدون توقيع، وأترك الفضل بعد ذلك في انتحالها لمن شاء وأمري إلى الله!
أن الحب الأفلاطوني نوع من المغناطيسية الآدمية. وكل متعة المحب فيه أن يكون قريباً من حبيبه. لأن حبه هو حب الروح التي تعمل على حفظ (المزاج) لا حب اللحم والأجهزة السفلية التي تعمل على حفظ (النوع)
ولعل من أبرع الأمثلة على هذه الحالة قول قيس في بعض أشعاره:
تعلقت ليلى وهي ذات تمائمي
…
ولم يبد للنظار من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا
…
صغيرين لم نكبر ولم تكبر البهم
فأنت ترى أن هذا الصبي المحب كان محباً قبل أن يتنبه فيه جهازه الجنسي، ولم يكن يصلح مطلقاً للمحافظة على النوع، بل أن ليلاه لم يكن قد تفتح في جسمها شيء من منبهات ذلك الجهاز. أفلست تسمعه إذ يقول: ولم يبد للنظار من ثديها حجم!
وأنا إذ أقول بوجود الحب الأفلاطوني لا أنكر حب (النوع) ولا أعيبه - وحاشاي أنا أيضاً أن أفعل - بل إني لأقول بإمكان اجتماعهما في نفس واحدة، ولكن الذي يعنيني هنا أن أثبت وجود هذا الحب الأفلاطوني الروحاني البريء الذي أحسه أحياناً، والذي يهمني جداً أن أطمئن غيري على وجوده ليتعلم كيف يحسه هو الآخر عند اللزوم. ذلك لأنه ضرورة من ضرورات الرجل المهذب الذي يريد أن يشعر أحياناً أنه ليس حيواناً دائماً، وأنه قد يسمو في بعض الأوقات فوق اعتبارات هذه المادة المظلمة التي هي جسمه وأجهزته الدنيا
يروى عن (المهدي) أنه لما هرب من المأمون ذهب إلى عمته فوكلت بخدمته جارية لها اسمها ملك، وكانت هذه غاية في الحسن فاحبها المهدي - أعني على طريقتي أنا لا على طريقة الأستاذ المازني - فكره أن يحدثها حديث (النوع)، وأنه قد حصل لجسمه تنبيه ليعمل على بقاء السلالة البشرية في دولة أمير المؤمنين، ولكنه تسامى بحبه إلى الغناء، فبينما هي قائمة على رأسه ذات يوم تَغَنى بهذين لبيتين:
يا غزالاً لي إليه
…
شافع من مقلتيه
أنا ضيف وجزاء الض
…
يف إحسان إليه
فلما انصرفت الجارية من عنده أخبرت سيدتها بما سمعت من مولاها، فوهبتها له؛ فلما رجعت الجارية إليه بعد ذلك أعاد غناءه، فاكبت الجارية عليه، فدفعها عن نفسه قائلاً: كُفي! ما أنا بخائن! فقالت له أن سيدتي وهبتني لك، فقبلها قائلاً: أما الآن فنعم!
هذه هي كلمتي عن الحب الأفلاطوني وعن الوفاء. وأرى أن القول بأن (طينة) الإنسان لا تتفق مع هذا الخلق العظيم كما يقرر الأستاذ في شعره إنما هو محاجَّة بالأساطير، وتدليل بشيء لم يقل أحد أن له قوة الدليل. ونظيره أن يتقدم الشاهد إلى المحكمة مثلا ليقول أنه
سمع (بالإشاعة) أن فلاناً قتل فلاناً، فان كان مثل هذا الشاهد يجد المحكمة التي تقيم لشهادته وزناً، فسوف يجد حديث (طينتنا) من يستمع له!
وبعد. فما هي مهمة الكاتب الاجتماعي؟ أهي أن يقرر الأمر الواقع أمام الأشهاد الذين يشهدونه، فإذا فرغ من ذلك انصرف عنهم يقنع نفسه بأنه أدى رسالته؟ أم هي أن يتسامى بقرائه إلى المُثل العليا التي تملأ أحلامه وتتجسم في تفكيره حتى ليعتقد فعلاً بوجودها ولو لم تكن موجودة؛ فيبشر لها في كتاباته، ويصبح بذلك أهلاً لحمل هذا اللقب الكبير.
لقد قال فولتير: (إن الله لو لم يكن موجوداً لوجب على الناس أن يوجدوه)، والمعنى أن الناس لا تستقيم لهم حال إلا على أساس أن الله موجود، وانه من ورائهم محيط، يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وهذا ما يصح أن نقوله الآن عن الحب الأفلاطوني وعن الوفاء، فان شيئاً من هذا إن لم يكن موجوداً لوجب علينا أن نوجده
أن المغريات المادية أصبحت تحيط بالإنسان من كل جانب، وهي تعمل دائبة على أن تعلق بأقدامه وتهوي به في القرار. فما لم يكن له نصيب من تلك المثل العليا ليحتفظ له بمستواه الآدمي العالي ينحط إلى الدرك الأسفل الحيواني
فالأفلاطونية والحالة هذه مزاج لابد منه للمذهب المادي الذي يطغى الآن على المجتمع، ويكاد يوقعه في شر أعماله. فمن لهؤلاء الناس باليد التي تنتشلهم مما هم فيه إن لم يجدوها عند الأستاذ المازني - وأضرابه - وهم كما يحس الأستاذ نفسه قليلون؟
(أفلاطوني)
حوادث الشرق الأقصى
الصراع بين اليابان وأوربا حول سيادة الصين وآسيا
بقلم باحث دبلوماسي كبير
يضطرم الشرق الأقصى كما تضطرم أوربا ويضرم شرق أفريقية بحوادث خطيرة سياسة وعسكرية؛ وتتخذ هذه الحوادث لأول وهلة صبغة محلية، وتبدو متفرقة لا تربطها رابطة عامة؛ ولكن هذه النظرة السطحية لا تعبر عن الحقيقة المستترة؛ ذلك أن هذه الحوادث الخطيرة التي تجوزها القارات الثلاث تربطها جميعاً عوامل وظروف مشتركة: فالحرب الإيطالية في شرق أفريقية هي نتيجة لتطورات السياسة الاستعمارية الأوربية، وتوغل اليابان في الأراضي الصينية هو نفثة من نفثات الصراع بين الجنس الأصفر والاستعمار الغربي، ونتيجة لتطورات السياسة الأوربية العامة، وانشغال أوربا بمعاركها السياسية الداخلية، بل إن هذه الحوادث التي تقع في أماكن وأقطار متباعدة تكون في الواقع وحدة متماسكة الاطراف، فهي جميعاً ثمرة تلك الثورة العميقة الجامعة التي تجيش بها السياسة الدولية منذ بضعة أعوام، والتي تسفر عن نتائجها الخطيرة تباعاً في سلسلة من الحوادث متصلة الحلقات برغم تباعدها وتباينها
وفي الشرق الأقصى في سهول الصين الشاسعة، تضطرم بين أوربا وآسيا معركة هائلة، ربما كانت حاسمة في مصاير الجنس الأصفر والاستعمار الأوربي؛ فاليابان التي هي اليوم زعيمة الجنس الأصفر بلا منازع، تتوغل في أقطار الصين الشاسعة تباعاً غير مكترثة بأية مقاومة محلية أو خارجية؛ وقد كانت الصين قبل الفورة اليابانية الأخيرة تعتبر دائماً ميداناً خصباً للاستعمار الغربي؛ ولا تزال الدول الأوربية الكبرى تبسط نفوذها الاقتصادي على مناطق غنية شاسعة في شرق الصين وجنوبها، وهذه الدول تنظر اليوم إلى مركزها في الصين بعين التوجس والجزع؛ بيد أن المعركة الكبرى تنشب في الحقيقة في شمال الصين الشرقي حيث تلتقي اليابان وروسيا وهما العدوتان الخالدتان اللتان يتمثل في صراعهما اليوم صراع الجنسين الأصفر والأبيض؛ وقد وقعت أخيراً في شمال الصين حوادث ومعارك خطيرة تؤذن بأن هذا الصراع يتخذ اليوم صورة حاسمة؛ فاليابان التي غزت منشوريا واحتلتها منذ سنة 1931، وأقامت فيها إمبراطورية صورية باسم منشوكيو،
تتقدم اليوم في الصين صوب الجنوب وصوب الشرق. ونظرة سريعة إلى خريطة الصين ترينا إلى أي حد وصل التوغل الياباني في الصين الوسطى حتى شمل اليوم مقاطعات برمتها في شهيلي وشاهار، وتعدى السور الكبير إلى حدود بكين عاصمة الصين القديمة؛ وقد استطاعت اليابان أخيراً بحركة ضغط عسكرية وسياسية قامت بها أن ترغم الحكومة الوطنية الصينية (حكومة نانكين) على الموافقة على إقامة نظام سياسي وإداري خاص في بعض المناطق الوسطى بحيث تخرج عن نفوذ الحكومة الوطنية وتقع تحت نفوذ السلطات اليابانية؛ بيد أن اليابان لا تلقى أعظم مقاومة في هذه النقطة من الصين، بل يلوح لنا أن الصين ذاتها قد أخذت تذعن أخيراً للأمر الواقع، وترى التقدم الياباني أمراً لا مندوحة عنه ولا سبيل إلى رده؛ وترى الحكومة الوطنية وعلى رأسها الجنرال شانج كاي شك، أن تطور مصاير الصين على هذا النحو خير من بقائها فريسة لمشاريع الاستعمار الغربي؛ أولاً لأن الصين لا تستطيع مقاومة اليابان، وثانياً لأنها تنشد السلام الداخلي، وتطمح إلى إلغاء المعاهدات الأجنبية التي استطاعت الدول بمقتضاها أن تتوغل في شؤونها ومرافقها، وكذلك إلى استعادة سلطانها ونفوذها في منغوليا والتركستان الصينية، حيث يسود النفوذ الروسي، والتبت حيث يسود النفوذ البريطاني، ولا تستطيع الصين أن تطمح إلى تحقيق هذه الآمال ما لم تعتمد على معاونة حليف قوى كاليابان، هذا فضلاً عن أن هناك من الروابط الجنسية والاجتماعية بين اليابان والصين ما يخفف وقع النفوذ الياباني، ويحمل الشعب الصيني على تفضيله على أي نفوذ أجنبي آخر
وإنما يضطرم الصراع الحقيقي في شمال الصين بين اليابان وروسيا. وقد كانت الحرب اليابانية الروسية في سنة 1904 عنواناً للصراع بين الجنس الأصفر والجنس الأبيض، وكانت هزيمة روسيا في تلك الحرب فاتحة النصر الحقيقي للجنس الأصفر ومثاراً لمخاوف أوربا والاستعمار الغربي في آسيا؛ ذلك لأنه لأول مرة في التاريخ تنتصر دولة آسيوية لم تنفض عنها بعد غمر الماضي المظلم على دولة أوربية عظمى، وترغم أوربا على الاعتراف بتفوقها العسكري والسياسي؛ بيد أن روسيا استطاعت رغم هزيمتها أن تحتفظ بمعظم أملاكها ومناطق نفوذها في الصين؛ ومع أن اليابان خرجت من تلك الحرب بمغانم استعمارية كبيرة منها استيلاؤها على بورت أرثر، ونصف جزيرة سخالين، والسكة
الحديدية الشرقية، وتوطد نفوذها في كوريا التي غدت فيما بعد مقاطعة يابانية، فإنها لم تفتأ منذ انتصارها تحاول توسيع نفوذها في تلك المنطقة على حساب النفوذ الروسي، وما زالت روسيا من جانبها تقاومها بكل الوسائل، وتعمل على وقف أطماعهما ومشاريعها؛ ولم يحد البلاشفة عن سياسة القياصرة في هذا الشأن، فقد عملت روسيا السوفيتية بكل ما وسعت على توطيد سياستها ونفوذها في الصين، ووقفت تناضل اليابان وجها لوجه، وكادت في الأعوام الأخيرة أن تشتبك معها غير مرة في حرب استعمارية، ومع أنها اضطرت أخيراً أن تبيع لليابان حقوقها في السكة الحديدية الشرقية تجنباً للاصطدامات الخطرة، فان النضال السياسي ما يزال بين الدولتين على أشده، وقد أسفر في الأسابيع الأخيرة عن عدة حوادث ومناوشات دموية دلت على تفاقم خطر الحرب في الشرق الأقصى
ويدور الصراع الآن بين اليابان وروسيا حول منغوليا التي تشغل مساحة شاسعة في شمال الصين والتي تجاور منشوكيو من الغرب؛ وتنقسم منغوليا سياسياً إلى قسمين أحدهما منغوليا الشمالية أو منغوليا الخارجية وهي تجاور سيبيريا وتقع تحت السيادة الروسية، وقد حولها البلاشفة منذ أعوام إلى جمهورية سوفيتية باسم (تشيتا)؛ ومنغوليا الجنوبية أو منغوليا الداخلية، وقد كانت من قبل وحدة سياسية مستقلة داخلياً تحت حماية الصين، ولكمن السياسة البلشفية استطاعت منذ سنة 1924 أن تجذبها إلى حظيرتها وأن تجعل منها جمهورية مستقلة حليفة لموسكو؛ ومن جهة أخرى فان التركستان الصينية تقع تحت النفوذ السوفيتي، وقد وقعت فيها أخيراً حوادث وتطورات أدت إلى انفصالها عن الصين؛ وهكذا تسيطر روسيا على معظم أنحاء الصين الشمالية والغربية، بينما تسيطر اليابان على الأقاليم الشرقية الشمالية وبعض الأقاليم الوسطى؛ ويحتدم النضال بين الدولتين الاستعماريتين الكبيرتين حول السيادة والغلبة في تلك الإمبراطورية الصينية الشاسعة التي تنقسم اليوم إلى وحدات سياسية عديدة تمهد بتنافسها وخصامها المستمر إلى تسرب النفوذ الأجنبي وتوطيده
وتمثل اليابان هذا الصراع الهائل الجنس الأصفر والجامعة الآسيوية، وتستعد لخوضه بجميع قواها السياسية والعسكرية والاقتصادية؛ وتمثل الروسيا فيه مصالح الجنس الأبيض والاستعمار الغربي في آسيا؛ ومع أن روسيا السوفيتية لا تحظى بكثير من عطف الدول الغربية، فإنها تعتبر مع ذلك حاجزاً منيعاً في سبيل الزحف الياباني نحو الغرب، وتؤيدها
الدول الاستعمارية الكبرى في هذا الصراع؛ ذلك أن تقدم اليابان نحو الغرب والجنوب يكون معناه انهيار صرح أوربا الاستعماري في الصين، ويكون نذيراً بتقويض السيادة البريطانية في الهند، والسيادة الفرنسية في الهند الصينية، والسيادة الهولندية في جاوه وسومطره؛ ونذيراً بتقويض سيادة السوفيت في منغوليا والتركستان؛ وتقويض صرح الاستعمار الغربي في هذه البلاد والأقاليم الشاسعة الغنية، معناه تقويض سيادة أوربا الاقتصادية في آسيا وضياع تلك الأسواق الرابحة التي غنمتها في ظل هذه السيادة التي تؤيدها جميع الوسائل والقوى الاستعمارية المادية والمعنوية
وليس من شك في أن اليابان تتقدم في هذا السبيل بخطى واسعة تزعج أوربا وتروعها؛ فالصناعة اليابانية التي تدعمها ظروف محلية مدهشة تتقدم في جميع الميادين بخطى هائلة، وقد غزت التجارة اليابانية الأسواق الآسيوية القديمة بسرعة مدهشة، وتخطى هذا الغزو إلى أوربا وأخذ يحدث الارتباك والذعر في أسواقها، وأخذت أوربا تفكر في مصايرها الاقتصادية التي تدعمها في آسيا وأفريقيا سيادة استعمارية تجوز اليوم في آسيا أمام الغزو الأصفر مأزقاً من أخطر المآزق، والواقع أن اليابان تخوض غمار النضال مع الغرب في ظروف حسنة جداً، فأوربا تشغل اليوم إلى أقصى حد بمشاكلها ومسائلها الخاصة؛ وبينما تشخص الأبصار نحو ألمانيا ونهوضها الحربي، وبينما تشتغل فرنسا بالتحوط لمقاومة ألمانيا وتوطيد تحالفها مع السوفييت، وتشتغل إيطاليا بحلمها الاستعماري، وتشتغل إنكلترا بمقاومة مشاريع إيطاليا الاستعمارية، إذا باليابان تحصر اهتمامها ومشاريعها في الصين، وتنذر أوربا وأمريكا في جرأة وصراحة أن ارفعوا أيديكم عن الصين، وتعلن عزمها على مقاومة أي تدخل أو محاولة استعمارية جديدة من جانب الدول في الصين، على نحو ما يقرره مبدأ مونرو الأمريكي بالنسبة لأمريكا؛ وقد كانت الدول الأوربية تعتمد من قبل على اضطرام المنافسة بين اليابان وأمريكا حول السيادة في المحيط الهادي، واشتغال اليابان بأمر هذه السيادة والتحوط لضمانها وتوطيدها، وكانت السياسة الأمريكية منذ أعوام تتجه فعلا إلى مناوأة اليابان والحد من أطماعها، ولكن أمريكا اليوم ترتد إلى سياستها القديمة، وتنظر إلى مشكلة الباسفيك بعين أخرى، وترى أن تقتصر على تأمين سلامتها البحرية في شرق المحيط، يدل على ذلك أنها تنازلت عن حمايتها على جزائر الفليبين التي كانت
ترمى إلى اتخاذها من قبل قاعدة لمقاومة اليابان ومناوأتها؛ وإذاً ففي وسع اليابان اليوم أن تعمل حرة من هذه الناحية مطمئنة إلى موقف أمريكا وحيادها؛ وليس في وسع الدول الأوربية من جهة أخرى أن تقوم في الوقت الحاضر بأية حركة مشتركة لوقف الزحف الياباني نحو الغرب، ولا يقف في وجه اليابان اليوم سوى روسيا السوفيتية التي تشتبك معها كما بينا في عدة ميادين ومصالح خطيرة؛ وروسيا السوفيتية تعمل دائماً لمواجهة الخطر الياباني ورده، لأنه ينصب أولاً على سيادتها الاستعمارية الباذخة في آسيا، وهي من جهة أخرى تمثل قضية الغرب في هذا الصراع الجنسي والاقتصادي الخطير؛ ولكن روسيا تواجه في أوربا أيضاً خطراً أخر هو الخطر الألماني. وهو نفس الخطر الذي تواجهه فرنسا، ومن ثم تحالف الدولتين ضد الخطر المشترك؛ والسياسة البريطانية تشد أزر روسيا في هذا الصراع أيضاً، ولكنها تنظر من جهة أخرى بعين الارتياح إلى اشتغال روسيا بمقومة الخطر الياباني لأنه يحول أنظارها عن العمل لمناوأتها في الهند وأفغانستان
والخلاصة أن خطر الحرب يجثم في الشرق الأقصى، كما يجثم في أوربا، وتطورات الحوادث في الشرق والغرب تسير مرتبطة متفاعلة؛ وقد تضطرم شرارة الحرب الأولى في الشرق الأقصى، كما قد تضطرم في الغرب، ولكنها كفيلة بأن تفضي في أي الحالتين إلى إضرام نار الحرب العالمية الجديدة
(* * *)
إبليس يعلّم.
. .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال أحمد بن مسكين: ودار السبتُ الثالث وجلستُ مجلسي للناس وقد انتظمت حلفتهم؛ فقام رجل من عُرض المجلس فقال: أن الحسن بن شجاع البلخي تلميذ الإمام أحمد ابن حنبل كان منذ قريب يحدثنا بأحاديث عن الشيطان، حفظنا منها قوله صلى الله عليه وسلم: أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي أحدُكم بعيره في سفره. وكان الحسن يقول في تأويله: أن شيطان الكافر دَهينٌ سمينٌ كاسٍ، وشيطان المؤمن مهزول أشعثُ أغبرُ عار. فهل يأكل الشيطان ويدّهن ويلبس ليكون له أن يجوع مع المؤمن ويعرى ويتشعَّث ويغبر؟
قال أين مسكين: فقلت في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله! ما أرى السائل إلا شيطان هذا السائل؛ فإن إبليس إذا أراد أن يسخر من العالم ويُسمعه طنزَه وتهكمه حرَّك من يسأله عنه ما هو وكيف هو؛ كأنما يقول له تنبَّه ويحك على معناي فأنت تتكلم وأنا أعمل، وأنت صورة من الرد عليَّ، ولكني حقيقة من الرد عليك، وأنت في محاربتك لي بالوعظ إلا كالذي يريد أن يضرب عنق عدوه بمائة اسم وضعت للسيف. .
قال: وكنت قد سمعت خبراً عجيباً عن أبي عامر قبيصة ابن عقبة الكوفي المحدِّث الحافظ الثقة أحد شيوخ أحمد ابن حنبل؛ وهو الرجل الصالح العابد الذي كان يقال له (راهب الكوفة) من زهده وعبادته واحتباس نفسه في داخله كأنما جسده جدار بين نفسه وبين الدنيا، فقلت والله لأغيظن الشيطان بهذا الخبر، فان أسماء الزهاد والعباد والصالحين هي في تاريخ الشياطين كأسماء المواقع التي تنهزم فيها الجيوش، وما الرجل العابد إلا صاحب الغمرات مع الشيطان، وكأنه يحتمل المكاره عن أمة كاملة بل عن البشرية كلها حيث كانت من الأرض؛ فالناس يحسبونه قد تخلى من الدنيا ويظنون الترك أيسر شيء، وما علموا أن الزهد لا يستقيم للزاهد حتى يجعل جسمه كأنه في نظام آخر غير نظام أعضائه ولا أشق من ذلك على النفس؛ ومعجزة الزاهد أنه مكلف أن يخرج للناس أقوى القوة من المعاني التي هي عند الناس أضعف الضعف؛ ولو أن ملكاً عظيماً تعب في جمع الدنيا وفتح الممالك حتى حيزَتْ له جوانب الأرض لكان عمله هذا هو الوجه الآخر لتعب الزاهد في مجاهدة هذه الدنيا وتركها
قال أحمد بن مسكين: وقصصتُ عليهم القصة فقلت: كان أبو عامر قبيصة بن عُقبة كثير الفكر في الشيطان يود لو رآه وناقله الكلامَ، وكان يتدبر الأحاديث التي صح ورودُها فيه ويفسر معنى الشيطان بأنه الروحُ الحيُّ للخطأ على الأرض؛ والخطأ يكون صواباً محولاً عن طريقته وجهته، ولهذا كان إبليس في الأصل ملكاً من الملائكة وتحوَّل عن طبيعته حين خلق آدم عليه السلام، أي وجد في الكون روحُ الخطأ حين وجد فيه الروح الذي سيخطئ. فلما هبط آدم من الجنة وحرمها هو وزوجه وذريته كان إبليس لعنه الله هو معنى بقاء هذا الحرمان واستمراره على الدهر، فكأن هذه الآدمية أُخرجت من الجنة وأخرجت معها قوة لا تزال تصدها عنها ليضطربا في الكفاح ملياً من زمن هو عمر كل إنسان، وهذا هو العدل الإلهي، لم يعرف آدم حق الجنة فعوقب ألا يأخذها إلا بحقها، وأن يقاتل في سبيل الخير قوة الشر
وبات أبو عامر ذات ليلة يفكر في هذا ونحوه بعد أن فرغ من صلاته وقراءته، ثم هوَّم فكان بين اليقظة والنوم، وذلك حين تكون العينُ نائمةً والعقل لا يزال منتَبهاً، فكأن العينَ متراجعةٌ تبصر من تحت أجفانها بصراً يشاركها فيه العقل. فرأى شيخُنا أبو عامر صورة إبليس جاءه في زيّ رجل زاهد حسن السَّمْت طيب الريح نظيف الهيئة، وكاد يشَبَّه عليه لولا أنه قد عرفه من عينيه فإن عيني الكاذب تصدقان عنه، وقد علم الله أن الكاذب آدميِّ قَفَر فجعل عينيه كالعلامات لمن خاض الفلاة
وظهر الشيطان زاهداً عابداً تقياً كأنه دين صحيح خلق بَشَراً فصرخ فيه أبو عامر: عليك لعنة الله! أمعصية في ثوب الطاعة؟
قال إبليس: يا أبا عامر! لو لم تقل المعصية أنها طاعة لم يقارفها أحد. وهل خلقت الشهوات في نفس الإنسان وغريزته إلا لتقريب هذه المعاصي من النفس، وجعل كل منها طاعة لشيء ما؛ فتقع المعصية بأنها طاعة لا بأنها معصية. أولا ترى يا أبا عمر أن الحيلة محكمة في الداخل من الجسم أكثر مما هي محكمة في الخارج عنه، وأنه لولا أن هذا الباطن بهذا المعنى وهذا العمل لما كان لظاهر الوجود كله في الإنسان معنى ولا عمل؟
قال الشيخ: عليك لعنة الله! فما أرى الموت قد خلق إلا رداً عليك أنت ليتبين الناسُ انك الممتلئ الممتلئ ولكنك الفارغ الفارغ؛ بل كل شهواتك سخرية بك وردّ عليك، فلا طعم للذة
من لذاتك إلا وهي تموت، وإنما تمام وجودها ساعة تنقضي؛ ومتى قالت اللذة قد انتهيت، فقد وصفت نفسها أبلغ الوصف
قال إبليس: يا أبا عامر ولكن اللذة لا تموت حتى تلد ما يبقيها حية، فهي تلد الحنينَ إليها وهو لا يسكن حتى يعود لذة تنقضي وتلد
قال الشيخ: معاني التراب، معاني التراب؛ كل نبتة فيها بذرتها. ولكن عليك لعنة الله لماذا جئتني في هذه الصورة؟
قال إبليس: لأني لا ألبس إلا محبةَ القلب الآدمي، ولولا ذلك لطردتني القلوب كلها وبطل عملي فيها؛ وهل عملي إلا التلبيس والتزوير؟ أفتدري يا أبا عامر إني لا أعتري الحيوان قط؟ قال الشيخ: لأن الحيوان لا ينظر إلى الشيء إلا نظرة واحدة هي نظره وفهمه معاً، فلا محل للتزوير مع هذه النظرة الواحدة؛ وصدق الله العظيم:(هل أُنَبِّئكم على من تَنَزَّل الشياطين؟ تَنَزَّلُ على كل أفّاكٍ أثيم) فأنت أيها الشيطان التزوير، والتزوير موضعه الكذب. فمن لم يكذب في الفكر ولا في النظر ولا في الفهم ولا في الرجاء فليس لك عنده عمل
قال إبليس: يا أبا عامر! وهل ترى رحمك الله أعجب وأغرب وأدعى إلى الهزء والسخرية من أن أعظم العقلاء الزهاد والعبّاد هو في جملة معانيه حيوان ليس له إلا نظرة واحدة في كل شيء؟
قال الشيخ: عليك وعليك؛ إن الحيوان شيء واحد فهو طبيعة مسخَّرة بنظامها، ولكن الإنسان أشياء متناقضة بطبيعتها، فألوهيته أن يُقرّ النظام بين هذه المتناقضات كأنما امتُحن فأعطى من جسمه كوناً فيه عناصر الاضطراب وحوله عناصر الاضطراب ثم قيل له دبِّره
فضحك إبليس. قال الشيخ: مم ضحكت لعنك الله؟
قال: ضحكت ممن أنك أعلمتني حقيقة الإبليسية، فالزهاد هم الصالحون لأن يكونوا أعظم الأبالسة
قال الشيخ: عليك لعنة الله فما هي تلك الحقيقة التي زعمت؟
قال إبليس: والله يا أبا عامر ما غلا إنسان في زعم التقوى والفضيلة إلا كانت هذه هي الإبليسية؛ وسأعلمك يا أبا عامر حقيقة الزهد والعبادة. فلا تقل أنها ألوهية تقر النظام بين متناقضات الإنسان ومتناقضات الطبيعة
قال الشيخ: وتسخر مني لعنك الله؟ فمتى كنت تعلم الحقيقة والفضيلة؟
قال إبليس: أولم أكن شيخ الملائكة؟ فمن أجدر من شيخ الملائكة أن يكون عالمها ومعلِّمها؟
قال: عليك لعنة الله فما هي حقيقة الزهد والعبادة؟
قال إبليس: حقيقتها يا أبا عامر هي التي أعجزتني في نبيكم
قال الشيخ: صلى الله عليه وسلم فما هي؟
قال إبليس: هي ثلاث بها نظام النفس ونظام العالم ونظام اللذات والشهوات: أن تكون لك تقوى، ثم يكون لك فكر من هذه التقوى، ثم يكون لك نظر إلى العالم من هذا الفكر. ما اجتمعت هذه الثلاث في إنسان إلا قهر الدنيا وقهر إبليس
فان كانت التقوى وحدها كتقوى أكثر الزهاد والرهبان، فما أيسر أن أجعل النظر منها نظر الغفلة والجبن والبلادة والفضائل الكاذب؛ وإن كان الفكر وحده كفكر العلماء والشعراء فما أهون أن أجعل النظر به نظر الزيغ والإلحاد والبهيمية والرذائل الصريحة
قال الشيخ: صدق الله العظيم: (إن الذين اتقوا ربهم إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مُبصرون)
قال إبليس: يا أبا عامر! ما يضرني والله أن أفسّر لك فإن قارورة من الصَّبغ لا تصبغ البحر، وأنا أعد الزهاد والعلماء المصلحين فأضع في الناس بجانب كل واحد منهم مائة ألف امرأة مفتونة ومائة ألف رجل فاسق ومائة ألف مخلوق ظالم، فلو أنك صبغت البحر بملء قارورة حمراء لما صبغت البحر الإنسانيَّ بالزاهد والمصلح ما دام المصلح شيئاً غير السيف، وما دام الزاهد شيئاً غير الحاكم
قال الشيخ: لعنك الله من شيطان عارم، فإذا وضعت المصلح بين مائة ألف فاسد فهل هذه الطريقة شيطانية لإفساده؟
قال إبليس: ومائة ألف امرأة فتانة مفتونة يا أبا عامر كل واحدة تحسب جسمها. . .
فصرخ الشيخ: أغرب عني عليك لعنة الله!
قال إبليس: ولكن الآية يا أبا عامر. لقد لقيتُ المسيح وجرّبته وهو كان تفسيرها
قال الشيخ: عليه السلام! وعليك أنت لعنة الله! فكيف قال؟ وكيف صنع؟
قال إبليس: ألقيتُ به جائعاً في الصحراء لا يجد ما يطعمه ولا يظن أنه يجد ولا يرجو أن
يظن؛ ثم قلت له: إن كنت روح الله وكلمته كما تزعم فمر هذا الحجر ينقلب خبزاً. فكان تقياً فتذكر فإذا هو مبصر، فقال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. فمثل هذا لو مات جوعاً لم يتحوَّل، لأن الموت إتمامُ حقيقته السامية فوق هذه الدنيا، ولو ملئت له الدنيا خبزاً وهو جائع لم يتحول، لأن له بصراً من فوق الخبز إلى حقيقته السماوية؛ فليس بالخبز وحده يحيا بل بمعانٍ أخرى هي إشباع حقيقته السماوية التي لا شهوة لها
ثم ارتقيت به إلى ذروة جبل وأريته ممالك الخافقين كشفتها كلَّها لعينيه وقلت له: هذا كله لك إذا أنت سجدت لي. فكان متقياً فتذكر فإذا هو مبصر: أبصر حقيقة الخيال الذي جسَّمته له وعلم أن الشيطان يعطي مثل معاني هذه الممالك في جرعة خمر، كما يعطيها في ساعة لذة، كما يعطيها في شفاء غيظ بالقتل والأذى، ثم لا يبقى من كل ذلك باقٍ غير الإثم، ولا يصح منه صحيح إلا الحرام. ومن ملك الدنيا نفسها لم يبق لها إذا بقيت له، فهي خيال في جرعة الحياة كما هي خيال في جرعة الخمر
يا أبا عامر؛ أن هذا النظر الذي وراءه التذكر الذي وراءه التقوى التي وراءها الله، هذا وحده هو القوة التي تتناول شهوات الدنيا فتصفّيها أربع مرات حتى تعود بها إلى حقائقها الترابية الصغيرة التي آخرها القبر وآخر وجودها التلاشي
فالبصر الكاشف الذي يجرد الأشياء من سحرها الوهمي، هذا هو كل السر
قال الشيخ: لعنك الله فكيف مع هذا تفتن المؤمن؟
قال إبليس: يا أبا عامر هذا سؤال شيطاني. . . تريد ويحك أن تحتال على الشيطان؟ ولكن ما يضرني أن أفسرها لك. ليس الإيمان هو الاعتقاد ولا العمل، ولو كان من هذين لما شقَّ على أحد ولصلحت الدنيا وأهلها. إنما الإيمان وضعُ يقين خفيّ يكون مع الغريزة في مقرها، ويصلح أن يكون في مقرها لتصدر عنه أعمال الغريزة. وهذا اليقين لا يصلح كذلك إلا إذا كان يقيناً ثابتاً بما هو أكبر من الدنيا فيرجع إليه الإنسان فيتذكر فيُبصر. هناك ميراث من الآخرة للمؤمن، فاليقين بهذا الميراث هو سر الإيمان
والعمل الشيطاني لا يكون إلا في إفساد هذا اليقين ومعارضة الخيال العظيم الذي فيه بالحقائق الصغيرة التي تظهر للمغفل عظيمة كما تشب نار أكبر من قرص الشمس ثم يقال للأبله انظر بعينيك فيصدق أنها أكبر من الشمس
ومتى صغر هذا اليقين وكانت الحقائق الدنيوية أكبر منه في النفس، فأيسر أسباب الحياة حينئذ يفسد المعتقد ويسقط الفضيلة، وبدرهم واحد يوجد اللص حينئذ
أما إذا ثبت اليقين فالشيطان مع الإنسان يصغر ثم يصغر، ويعجز ثم يعجز، حتى ليرجع مثل الدرهم إذا طمع الطامع أن يجعل الرجل الغني الكثير المال لصاً من اللصوص بهذا الدرهم
قال الشيخ: لعنك الله! فإن لم تستطع إفساد هذا اليقين فكيف تصنع في فتنة المؤمن؟
قال إبليس: يا أبا عمر أن لم استطع إفساد اليقين زدته يقينا فيفسد، واستحسان الرجل لأعماله السامية قد يكون هو أول أعماله السافلة. وبأي عجيب يكون الشيطان شيطاناً إلا بمثل هذا؟
قال أحمد بن مسكين: وغضب الشيخ فمد يده فاخذ فيها عنق إبليس وقد رآه دقيقاً، ثم عصره عصراً شديداً يريد خنقه فقهقه الشيطان ساخراً منه. وينتبه الشيخ فإذا هو يشد بيده اليمنى على يده اليسرى. . . . . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
الضمير
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور مدرس الفلسفة بكلية الآداب
غامض في لفظه غموضه في معناه، ومستتر رغم ما يبرز من آثار؛ هو أقرب الأشياء منا والزمها لنا، بل يكاد كل شيء فينا:(والمرء بأصغريه قلبه ولسانه) بيد أنا إن حاولنا توضيحه توارى بالحجاب وأمعن في الاستتار والخفاء. نؤمن بوجوده دون أن نراه أو نفهم في وضوح حقيقته؛ وكيف ننكره وفي إنكاره إنكار لأنفسنا وهدم الدعامة الأولى من دعائم شخصيتنا؟ يأمر فيطاع، وينهى فيستمع له، ويسر ويحزن، ويخالط عواطفنا وأحوالنا النفسية على اختلافها؛ يعقد محكمته في أسرع من لمح البصر، ويصدر أحكاماً غير قابلة للنقض والإبرام. لذلك اتجه إليه الواعظ في وعظه؛ وناداه رجل الدين في نصحه، وجعله الأخلاقي أساساً لدرسه، وتولاه عالم النفس بالبحث والتحليل
يغلب على الظن أن العرب لم يستعملوا كلمة (ضمير) بمعناها الخلقي والنفسي الذي اصطلحنا عليه الآن؛ فانهم أطلقوها على القلب والباطن والسريرة فحسب. وهذا المعنى، وإن كان يقرب من العرف الحاضر، متميز منه تمام التميز. وفلاسفة الإسلام ومتصوفوه، برغم تحليلهم الدقيق لبعض العواطف النفسية كالعشق والشوق والندم والتوبة لم تجر كلمة (ضمير) على لسانهم إلا في دوائر تختلف كثيراً عما نحن فيه، ويظهر أن العرب قد استعاضوا عن هذه الكلمة بلفظ (زاجر) التي تؤدي معناها بعض الأداء:(من لم يكن له من نفسه زاجر، لا تنفعه الزواجر) فكلمة (ضمير) بمدلولها الفلسفي وضع حديث واستعمال يرجع به العهد فيما نعتقد، إلى أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حين بدئ في ترجمة كلمة الأجنبية؛ وهذه الترجمة - وإن تكن صادقة في جملتها - مثار غموض واشتباه؛ لأنها تعبر عن الضمير الخلقي والنفسي بلفظ واحد. إلا أن اللغة الفرنسية وقعت في هذا الغموض من قبل واستعملت لفظاً مشتركاً للدلالة على الضمير من حيث مظاهره الخلقية وأحواله النفسية. وقد تنبه الألمان والإنجليز إلى هذا فخصوا الضمير النفسي بلفظ يميزه من الضمير الخلقي، وأصبح لعالم النفس كلمة يدل بها على الضمير غير تلك التي يستعملها الأخلاقي وما أجدر كل اصطلاح بأن يوضع له لفظ خاص يناسبه؛ غير أنه لا يفوتنا أن نلاحظ أن هذه التفرقة اللفظية إنما يراد بها فقط فصل العلوم بعضها
عن بعض وقصر كل فن على مصطلحات معينة.، وإلا فالواقع يشهد أن الضمير الخلقي هو الضمير النفسي ملحوظاً فيه معنى الخير والشر. فليس في الإنسان ضميران يفصل أحدهما في الأحكام الخلقية ويتولى الآخر الأحوال النفسية. لكل منا ضمير واحد قد تتنوع أسماؤه بتنوع مظاهره ووظائفه
لم يعن الإغريق بموضوع الضمير ولم يدرسوه الدراسة اللائقة به لا من الناحية الأخلاقية ولا من الناحية النفسية، ذلك لأن الأخلاق كانت تعتمد عند فلاسفتهم الأُوَل على أساس اجتماعي. فأفلاطون كان يتعزى عن شقاء الأفراد بما كان يرجو من سعادة الجمعية؛ وارسطو لا يكاد يفصل الحياة الخلقية من الحياة السياسية. نعم أن الأبيقوريين والرواقيين قد نحوا بالأخلاق منحى فرديا، وحاولوا أن يؤسسوا سعادة الفرد على الفرد نفسه؛ ولكنهم ذوو نزعة مادية تتنافى مع التحليل الروحي للضمير. ومن الناحية السيكولوجية نلاحظ أنه فات الإغريق، بل القدامى عامة أن يتميزوا وحجة الظواهر النفسية، التي هي أثر من آثار الضمير. وإن من جهل هذه الوحدة أو قال بنظريات تناقضها لا يستطيع أن يفهم الضمير على وجهه الصحيح. وفوق هذا فانهم كانوا يخلطون بين الضمير وبعض الأحوال النفسية؛ فأفلاطون مثلاً لا يفرق بينه وبين المعرفة، وأصحاب الرواق يطلقونه على معرفة الحق والباطل. وقد بقي أمر الضمير مهملاً إلى أن جاء صوفية القرون الوسطى من مسيحيين ومسلمين فأعاروه جانباً من العناية والدرس. والتصوف، وهو علم القلوب، لا يمكنه أن يغفل مشكلة الضمير وينسى ركناً تقوم عليه المناجاة الروحية. لذلك نسمع رجلاً كأبيلارد بين المسيحيين يحدثنا عن الضمير وأثره في الأعمال الخلقية؛ كما نرى الغزالي مثلاً بين المسلمين يشرح مراقبة النفس وقوة المحاسبة التي يمكن أن تنطبق على الضمير بمعناه الحديث. غير أن هذه المحاولات في جملتها محدودة وجزئية. وإلى رجال العصور الحديثة يرجع الفضل في شرح موضوع الضمير ومنحنه ما يتطلب من عناية ومجهود. وتكاد تكون المدرسة الأيقوسية أول من تنبه إلى هذا الجانب الهام من النفس والى أثره في الأخلاق. ثم تبعتها مدارس أخرى اعتنقت رأيها أو ردت عليها، إلى أن جاء وليم جيمس وبرجسون فدرسا الضمير دراسة نفسية قضت على كثير من النظريات القديمة، وغيرت مجرى التفكير في علم النفس إلى حد كبير. ولم يفت الاجتماعيين المعاصرين أن يعرضوا
لمشكلة الضمير ويوضوحوها على ضوء البينة والظروف الاجتماعية. وهذه الدراسات مجتمعة ترمي إلى تحديد ماهية الضمير وحقيقته، وبيان أصله وطبيعته، وتوضيح قيمته ووظيفته، ثم إلى إثبات تنوعه بتنوع الأفراد والجماعات، وتطوره تبعاً لاختلاف العصور والأجيال
في قرارة نفوسنا وحيث تتكون أفكارنا وتعد أحكامنا، هناك رقيب ملازم يشهدها ويقفنا عليها أولاً فأولاً؛ هذا الرقيب هو ضميرنا والشعور الروحي الذي نحس به على أثر أية حركة من حركاتنا النفسية، والإلهام المستمر الذي ينقل إلينا كل ما يجول بالخاطر. فالمرء حين يفكر يشعر في الوقت نفسه بما يصنع، ويدرك أن تفكيره من عمله وقطعة منه. وكذلك شأنه حين يفارق أو يوازن أو يتذكر معلومات قديمة أو يقضي في أمر بقضاء ما، أو يسر أو يحزن، أو يحب أو يبغض. وشعور الإنسان بتفكيره وإدراكه لخفايا قلبه ليس إلا معرفته لنفسه ووقوف روحه على ما تعمل. وعلى هذا فالضمير جزء لا ينفصل من الظواهر النفسية وأساس لكل أعمالنا الباطنية. هو الشخصية في صورتها البسيطة المجردة ومبعث النور الأول في الحياة العقلية. وخطأ أن نعده قوة مستقلة ومتميزة من الأحوال النفسية كالعين تتميز من الشيء المرئي. فقد انقضى الزمن الذي كان يقال فيه بتقسيم النفس إلى قوى منفصلة تقوم كل واحدة منها بقمل خاص. ولسنا في حاجة لأن نقرر هنا أن في الانفعالات مثلاً قدراً من التفكير لا يصح إنكاره، كما أن الجانب الفكري للإنسان في أرقى صوره مشوب ببعض العواطف والميول. على أن القول بالقوى أن صح بالنسبة لبعض مظاهر النفس، فواضح عدم انطباقه على الضمير الذي هو الشكل العام ونقطة الاشتراك والصورة الرئيسية لكل الأعمال العقلية. والمدرسة الأيقوسية وإن كانت من أول من عني بموضوع الضمير بين المحدثين أساءت من ناحية أنها عدته قوة قائمة بذاتها وشبهته بأحد النظارة يشهد رواية الحياة النفسية دون أن يقاسم فيها بنصيب
وإذا كان الضمير شعور النفس بما تعمل، فسهل أن نتميز في هذا الشعور درجات بعضها أوضح من بعض. ففي اللحظات التي بين اليقظة والنوم نشعر بما يجري في نفوسنا شعوراً مبهماً غير محدود؛ والأحلام والرؤى تتصل من غير شك بالضمير في أغمض صوره، أو إن شئت فسمها مرحلة العقل الباطن، فإن جاوزنا هذه المرحلة وجدنا أحوالاً نفسية واضحة
بعض الشيء إلا أنها سريعة وغير متمركزة، وما ألصق هذه الأحوال بالأعمال العادية والأمور المألوفة؛ فالضمير يدركها دون أن يقف أمامها طويلا. وبعد هاتين المرحلتين نصل إلى درجة فيها تفكير وروية وتذكر وانتباه وبحث ومجهود. وهنا تبدأ المعرفة الحق ويدرك الضمير عمله في وضوح. وعلماء نفس الطفل المعاصرون وعلى رأسهم كلاريد وبياجيه قد خصوا هذه المرحلة بقدر كبير من العناية، وبينوا كيف يخطو الناشئ نحو إدراك نفسه وتكوين معلوماته؛ ثم تجئ أخيراً مرحلة التفكير الإنساني في أسمى صوره، حيث تعرض المشاكل العلمية والفلسفية، ويجهد الإنسان نفسه في تفهمها وقلبها على وجوهها رجاء أن يصل إلى حل واضح مقنع، وما هذه المرحلة إلا امتداد لسابقتها وصورة مكبرة لها؛ والأبحاث العقلية في جملتها محك للضمير، ومبعث نضال نفسي مستمر يراد به الوصول إلى الأفكار الجلية النيرة
يزداد فهمنا للضمير إذا بينا الخصائص التي تمتاز بها مظاهره؛ وقد عنى جيمس وبرجسون بشرح هذه الخصائص وتوضيحها التوضيح الكافي؛ وأول شيء يلحظه في الظواهر النفسية هو اختلاطها وتشعبها؛ فلا نكاد نجد أنفسنا أمام ظاهرة واحدة منعزلة، بل دائماً أمام مجموعات من أحوال نفسية مختلفة، أو كما يقول جيمس أمام حقول اكتسى بساطها بشتى الأزهار والألوان في ظاهرة نفسية واحدة، تلتقي احساسات متنوعة، وذكريات قديمة، وعادات ثابتة، وأفكار عديدة، وأحكام وتعليلات، وموازنات لا حصر لها؛ وهذه الأحوال النفسية كالأمواج الزاخرة تجري وتتغير من غير انقطاع؛ ومن هنا جاء تعبير جيمس المشهور: يثأر الفكر أو يثأر الضمير. فإحساسنا بشيء في حال اليقظة مختلف عنه في حال النوم؛ وإدراكنا لأمر ونحن متعبون يختلف عن إدراكنا له ونحن مستريحون؛ وشعور هذه اللحظة لا يتكرر مرة أخرى في نفس الظروف والمناسبات التي اقتضته، ولئن بدا تكراره لم يعْدُ ذلك المظهر العام؛ أما التفاصيل والجزيئات فمختلفة لا محالة، وكأن حركة التفكير كنهر جار تتابع موجاته إلى ما لا نهاية دون أن تعود موجة سيرتها الأولى؛ والفكرة الواحدة المستمرة التي تخطر ببالنا من حين لآخر دون تغيير أو تبديل أمر خيالي وبعيد عن الحقيقة. فنحن نحس الآن على صورة خاصة لن تستمر في اللحظة التالية، وما دمنا أحياء فنحن عرضة للتغيير، وما أصدق بسكال حين يقول:
(الزمن يشفي الآلام والأحقاد لأنّا متغيرون ولا نحتفظ بشخصية واحدة، فلا المسيء ولا المُساء إليه يبقيان كما كانا) بيد أن القول بأن ظواهر النفس في حركة وتغير مستمر ليس معناه أن في تيار الضمير انقساماً أو انفصاماً أو تبايناً. فظواهر النفس في حركتها تدور حول نقطة واحدة وتتصل بأساس ثابت؛ وحياتنا الروحية في هذا الصباح ترتبط بحياتنا أمس دون أن يحدث النوم أي فراغ أو انقطاع في وحدتها. وعلى هذا فالحاضر من أحوالنا النفسية يحمل في طيّاته الماضي ويعد للمستقبل، وفي النفس حركة في انفصال وتغير في ارتباط. ومثل الحياة العقلية في هذا مثل قطعة موسيقية مكونة من نغمات مختلفة ومتميزة قد امتزجت واختلط بعضها ببعض فأنتجت لحناً منسقاً. وما ذاك إلا لأن أحوال النفس جميعاً متصلة بشخصية معينة، ومنجذبة نحو مركز واحد، ومنبعثة من شمس الضمير الوحيدة. وأوضح شيء في عمل النفس أنه يستلزم فاعلاً؛ ففكرة ما إما أن تنسب إليّ أو إليك أو إلى زيد من الناس. والفكرة التي لا أب لها لا أصل لها ولا وجود؛ على أنها إن وجدت فلا سبيل إلى تعرفها والتأكد منها، لأن ما نتبادله من أفكار إنما هو عمل أشخاص معينين محدودين.
من خصائص مظاهر الضمير التي ألممنا بها سراعاً نتبين بطلان المذهب الذري الذي يزعم أن الحياة العقلية بأسرها ترجع إلى جملة أفكار بسيطة التقت وارتبطت ونتجت عنها أفكار أخرى مركبة؛ ومجموع هذه وتلك مسود بقانون تداعي المعاني. فالظواهر النفسية تتلخص في جملة وحدات وضع بعضها بجانب بعض، وفي مجرد انضمامها ما يكفي لتكوين حياة عقلية. تلك هي نظرية لوك ومن جاء بعده من رجال المدرسة الإنجليزية أمثال هيوم وميل وبين وسبنسر. ولا يبعد عن هذه النظرية كثيراً ما قال به كوندياك الفرنسي من أن الروح ليست لا مجموعة صور حسية توزعت إلى طوائف عدة فنشأت عنها القوى النفسية المختلفة. وكلتا النظريتين تهدم فكرة الضمير من أساسها، ولا ترى في النفس شيئاً سوى ما يمليه الحس. لذلك قام في وجهها الأيقوسيون من جانب، ومين دي بيران من جانب أخر، مثبتين أن في الروح حياة وقوة تجاوزت المدركات الحسية، ولولا هذه القوة وتلك الحياة ما نظمت آثار الحس، ولا نتجت عنا أفكار مستقيمة. هناك روح، هناك نفس، هناك شخصية، أو هناك ضمير، سمه ما شئت، والمهم أن الظواهر العقلية ليست مجرد
أوضاع لصور حسية، أو لوحدات متحجرة لا حياة فيها، ولا تستطيع بالأولى أن تبعث الحياة في غيرها. وأعمال بينيه، ومدرسة فورتسورج الألمانية وجيمس وبرجسون في الخمسين سنة الأخيرة قائمة على شرح هذا الرأي ونصرته
والآن وقد انضح الضمير في مظهره النفسي. يجدر بنا أن نفرق بينه وبين الضمير الخلقي، أو أن نحدد بعبارة أدق مهمته من الناحية الأخلاقية. في حين أن الضمير النفسي يقفنا على ما يجري في داخلنا، ويشاطر في الظواهر العقلية على اختلافها. يعني الضمير الخلقي بإصدار الأوامر الصالحة والحكم على الأعمال الإنسانية. فإذا ما تعلق بالمستقبل بدا أثره كصوت خفي يأمر وينهى، وإذا حكم على الماضي صحبت حكمه عواطف كثيرة من سرور أو ألم. (فصوت الضمير) هو ذلك النداء الخفي والوحي الشخصي الذي يدفعنا نحو غاية أو يصرفنا عنها. وهذا التعبير يظهر من أصل ديني صوفي؛ وقد جاء التحليل النفسي الحديث مزيداً له فإن المرء حين يقضي في أمر بقضاء ما يبدو كأنه تحت تأثير اتجاهات مختلفة، إن ساد أحدها ارتفع صوته وصدر أمره. وإذا كان صوت الضمير مبعث الأمر والنهي فوخزه مصدر الندم والألم. وكم اتجه أشخاص نحو جلائل الأعمال امتثالاً لأصوات ضمائرهم! وكم انصرف آخرون عن الشر لأنهم عانوا وخز الضمير وما جلبه عليهم من شقاء وبلاء
(يتبع)
إبراهيم مدكور
تلخيص كتاب:
الحاكمون بأمرهم
تأليف جاك بانفيل
بمناسبة وفاته في 10 فبراير سنة 1936
للأستاذ عبد الحليم الجندي المحامي
(أيها العظماء! هل تريدون المجد؟ موتوا)
فكتور هيجو
وهذا أيضاً رزء فادح نزل بفرنسا، إذ لم يكد جاك بانفيل يتبوأ مقعده بين الخالدين في كرسي الرئيس بوانكاريه في مارس الماضي حتى اختطفته يد المنون من مجلسه الرفيع؛ وهكذا فقدت فرنسا والمجمع في ثلاثة أعوام متعاقبة ثلاث كفايات متقاربة. فذهب بوانكاريه (الذي لا يرتشى ' ثم ذهب (لويس بارتو) صاحب (ميرابو) وصاحب (دانتون) وأخيراً مات بانفيل
كان الثلاثة دعاة كبار لمجد فرنسا؛ ولكم شنوا الغارة على موجة الاشتراكية التي انداحت على أرض فرنسا فردتها خطوات واسعة إلى الوراء
كان بوانكاريه في الحرب وفي السلم، وفي قصر الأليزيه أو في (الكي دورسيه) أو في (المحكمة) فرنسيا وفرنسيا فقط؛ وهكذا كان الشهيد (بارتو) حتى في (مصرعه) أما بانفيل فقد كان قلمه قوة فوق القوى. . . ولما استقبله (دوناي) عميد الأكاديمية في 7 نوفمبر الماضي قال له:(إن المجمع يخلي بينك وبين مقعد الرئيس بوانكاريه، فلقد استطعت أن تقول للملأ الأعلى وللعالم أجمع ما كان يمنعه مركزه السياسي من أن يقول)
مات رجل كان فرنسياً من قمة رأسه إلى أخمص القدم. . مات رجل كم حمل على إنجيل (سنت هيلين) ذلك الإنجيل الذي دعا فيه بونابرت إلى خلق الدول التي زلزلت من بعد إقدام فرنسا في الوجود. . مات أكبر أعداء ألمانيا
في كتابه عن (نابليون) وفي كتابه (تاريخ ثلاثة أجيال)، وفي كتابه (تاريخ فرنسا)، وفي
(الجمهورية الثالثة)، وفي (تاريخ أمتين)، وفي حملاته الكبرى مع شارل موراس وليون دوديه أبطال الحكم الملكي كانت توضع (مقايسة) جديدة لإنشاء جيل جديد
كنت اقرأ له منذ أيام آخر كتاب أخرجه للناس وكان يقعدني العمل أو الكسل عن أن أنقل عنه كلمة للأدباء قراء (الرسالة)، فلما مات وضجت لموته فرنسا، ووقعت معارك (الاكسيون فرانسيز)، وكان الاعتداء على زعيم الاشتراكيين (ليون بلوم) كان علينا أن نلخص كتابه للناس
وضع الناشر على الكتاب عبارة تنبئ عن غاية الكتاب قال: (لا تحكموا عليهم قبل أن تعرفوهم) وقدم المؤلف له بقوله (. . . الدكتاتورية ككثير من الأشياء قد تكون أسوأ نظم الحكم وربما كانت خير نظام؛ ولئن كانت خيراً أو شراً فان الظروف تلجئ إليها أحياناً فيخضع الناس لها دون أن يكون لهم حق الخيار. . . فعلى الشعوب ألا تضع نفسها في مثل هذه الظروف. .) ويناقش المؤلف ما يظنه البعض من أن الدكتاتورية اختراع ابتدعه العصر الحديث، فما هي إلا سيرة معادة من سير العصور الغابرة؛ ثم يعبث عبثاً مريراً بأحد الساسة الذي أطلق على أول دكتاتور معاصر لقب (قيصر الكرنفل) فلربما كانت الدكتاتورية سداً يقام أمام طوفان الشيوعية الحمراء أو الديمقراطية الرعناء؛ ولطالما كانت نداءاً حاراً للمساواة بين الناس، أو لتهذيب شِرة رأس المال؛ وكثيراً ما كانت لإقرار نظام النقد إذا شالت به كفة الميزان
يهبط بانفيل ببحوثه إلى أعمق أغوار التاريخ قبل الميلاد فيفتتح الكلام ببحث عن (طغاة الإغريق وأولهم أول مشترع عرفه التاريخ (صولون) ثم (بركليس) ثم يسرع المؤلف بنا إلى روما وأبطالها الأربعة (ماريوس) و (سيلا) و (بومب) و (يوليوس قيصر)، وفي عجالته عنهم يضرب الأمثال ويذكر العبر. فهذا (ماريوس) يجشم جيشه مخاطر الحرب في (توسيديا بأفريقيا) ليثبت أقدامه في روما تماماً، مثلما يغامر (موسوليني) في الحبشة ليقوي أسبابه لدى الطليان. . . وهذان القنصلان (سيلا وبومبي) يخوضان إلى الحكم في بحار من الدم. وهذا (قيصر العظيم) فاتح الغال ومصلح القضاء وعدو الترف في أساليب فشستية تذكر به أحفاد الرومان في القرن العشرين فيديرون أعينهم نحو ذلك الطود الذي يسيطر على مصائر روما منذ أعوام
ثم يطوى التاريخ طياً ليقف كل أمام أول دكتاتور في التاريخ الحديث فيسترعي نظره أن يكون (كرومويل) أول الدكتاتوريين ويكون في نفس الوقت أبرَّ أبناء أمة تسمى (أم البرلمانات)، وكأن الدكتاتورية ظاهرة تبدو مع الثورات دائماً أو مع الديمقراطية أو مع النظام النيابي
نائب كمبردج في سنة 1628 وقائد الخيالة في معترك الثورة سنة 1644، ذلك الفيلق الذي اشتهر بأنه (الشاطئ الحديدي) والذي ارتفع على صهواته كرومويل إلى ذروة الزعامة المطلقة، ذلك مثلما عبر هتلر على أكتاف القُمُص السمراء، وكما وصل موسوليني بقمصان سود؛ فلما قتل شارل الأول واستتب الأمر للدكتاتور أعلن أن الحكم يومئذ للدين، وفي 30 إبريل سنة 1653 ذهب إلى دار النيابة يقول:(هيا يا قوم. . . كفانا سفسطة) وحل المجلس وانفرط عقد المساكين وعلق بيده على باب البرلمان لوحة مكتوباً عليها (. . . غرفة غير مفروشة للإيجار!!!) لكن الأيام مضت وألفى الطاغية نفسه وحيداً فأعاد البرلمان، وأخيراً بعد 14 عاما من الحرب الأهلية مات كرومويل وعاد شارل الثاني بعد أن تعلمت الأمة أن الملكية خير وأبقى، ولكن بعد أن تعلم الملوك درساً
وهذا هو الكردينال العظيم: أبو فرنسا وأبو الأكاديمية يضع يده على مقاليد الحكم فهي فوضى مالها من قرار. فمن ملك حدثٍ في أكناف أم طائشة يهدد ملكه أمراء طامحون، إلى أمراء يمكنون لسيادتهم في الأرض كأنهم رؤوس تعلو مفارقها التيجان، إلى نزاع ديني بين (الهيجنوت) والدولة. . كل ذلك في الداخل، أما في الخارج فيت هيسبورج تقدح عيناه بالشرر؛ لكن الأب (ريشيليو) لا ينهزم، فيسلخ السنوات الأولى من (وزارته) في أخلد كفاح سياسي عرفه التاريخ لوزير، ويضرب الأمراء ضربات ليس فيها إشفاق، ويقتلع نفوذ الهيجونت من الأعماق؛ وبعد أن يوطد دعاماته في الداخل، يبعث إلى النمسا بفيوض الحماسة الفرنسية لتنتصر عليها في معارك دامية!. . كم يرسم المؤلف من رائع الصور وأسماها لهذا الأب وهو محموم ومحمول على محفة متواضعة يتنقل فيها بين أطراف الدولة ليستولي على قلعة أو ليخضع أميراً أو لينازل النمسا. . .! كل ذلك وهو في (جفن الردى وهو نائم) فان الأمراء لم ينصبوا له أقل من عشر مؤامرات دموية جهلاً منهم أن الفزع لا يعرفه قلب كهذا القلب، بل التهديد يكسب في أمثاله فيضاناً من الحياة، فلا يتردد
في أن يستل من أحضان الملك صديقه (ساتمارس) و (دي ثو) ليقدمهما إلى المقصلة لأنهما وإضرابهما (مجرد خونة من الطراز المبتذل) ثم لا يتردد في أن ينفي من فرنسا أم ملك فرنسا، وبمرسوم من الملك! وبينما يلقاه الهيجنوت فظيعاً في الحرب، يراه زعيمهم (دي روهان) بديعاً في السلام. . . هذا هو حاكم فرنسا المطلق ريشيليو
بعد ذلك صفحات مشرقة عن (الملك الشمس) الملك القائل (أنا الدولة) لويس الرابع عشر الذي حكم حكماً مطلقاً أكثر من نصف قرن ليله أزهى عصور الملكية في فرنسا أو في التاريخ.
ثم يعقد المؤلف فصلاً للكلام عن (وسائل الطغيان المستنير) فعنده أن أصحاب الانسكلوبيديا ومنهم (ديدزو) لم يكن فيهم جمهوريون، وحتى فولتير كما كان يسميه فريدريك الأكبر كان يفضل سلطة الفرد. أما صاحب العقد الاجتماعي الذي كان يُفتي ويشير في النظم والدساتير فكان يرى الحكم الجمهوري صالحاً للدولة الصغيرة، أما الدول الكبرى فلم يكن يراه نافعاً لها بل في العقد الاجتماعي دفاع غير قليل دافع به (روسو) عن الحكم المطلق. وفي القرن التاسع عشر فلاسفة كبار كانوا يعتذرون عن الحكم المطلق حكم الفرد المستنير (نصير الإصلاح) الذي كان يسميه رينان أي الطاغية الطيب، وإذا كانت الثورة قد قضت على هذا النظام فان فرنسا عبدته في شخص نابليون. . وفي الحق أنك لا تستطيع أن تنسى - في عصرنا هذا - مقدار ما تحظى به من التأييد نظرية المفكرين الممتازين (المفكرين الأرستقراطيين) وفحواها أن التقدم لا يمكن أن يأتي من الجماهير بل هي تساق إليه وراء طائفة من (الأفراد) الكفاة. . . وكثيراً ما يكونون منها
وفي الثورة الكبرى طغى (روبسبير) فصار قطعة من طغيان الثورة الدموية أو المجزرة، لكأني به جملة من اسمها أو مقدمة من منطقها فلولاه ما أنتجت الثورة نابليون. . . وما أدراك ما نابليون! ابن الثورة في فرنسا، وابن الجماهير في كل الدنيا؛ النجم الذي تلألأ في الأفق على غير ميعاد، والحلم الذي طاف بأجفان الإنسانية حيناً من الليل ثم صحت تتفقده؛ اللاعب الذي كان يحرك الملوك والشعوب على رقعة الدنيا كرقعة الشطرنج؛ الفاتح الذي كان ينثر الحرية، ويبذر المساواة، ويعلم العلم، في المشرق والغرب أني أسال دم الفتوح؛ المنشيء الأمم والجامع الأجناس، واضع تصميم أوربا الحديثة
لقد كان المستبدل الهائل، أو المستبدل العادل، أو الطاغية
كانت كل السلطات في يديه، وكان الخير يتفجر منهما والشر والجريمة أحياناً
كان مشرعاً يضع بنفسه (قوانين نابليون)، وكان يدير دفة السياسة في الدنيا، وكان يحيط بالجحفل اللجب في أسترلتر ويكتب إلى جوزفين!! وكان يصدر مرسوم الكوميدي فرانسيز وهو يتفجع أمام حرائق موسكو، وينظر إلى صورة (النسر الصغير) نابليون الذي سماه ألد عداته وهو (شاتوبريان):(شاعر يعمل)؛ أو كما قال أوكتاف إوبري: (ابن الثورة الأكبر الذي أنشأ الدنيا الحديثة على أنقاض ما هدمته الثورة من الدنيا القديمة) والذي بنى الدول حتى بعد أن مات!! فبعث إنجيل سنت هيلين من الموت: إيطاليا وألمانيا وغيرهما في القرن التاسع عشر، ويوجوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا ودول البلقان في القرن العشرين!! حتى إذا فقد إمبراطوريته في قلب القارة دانت له إمبراطورية القلوب في كل الدنيا فاصبح أغنية في فم التاريخ وطنيناً في سمع الزمن
أوليس من الفرنسيين كما قال (دوناي) من يقول اليوم: (ليته يعود!) وهو هو الذي أجهد فرنسا وأضناها؟ وهو هو الذي عبر عن نفسه بقوله: (أفلم يكن أفضل ألا أكون ولدت؟)
هكذا استهلكت فرنسا القرن الماضي بأروع دكتاتورية عرفها البشر. ولما انطفأت شعلة (المارد القرشقي) وبعث من أعلى الصخرة إنجيله في سنت هيلين كانت من آياته (نظرية الجنسيات) التي أوسعها المؤلف تجريحاً في كتاب (تاريخ ثلاثة أجيال) لأنها أنشأت الدول التي زعزعت فرنسا في القارة، أما هنا فهو لا يناقش وإنما يعرض ويترك القارئ للاستنتاج، فيقدم إليه معجزة أخرى من معجزات الإنجيل تلك هي تسنم ابن أخي نابليون رياسة الجمهورية، ثم تتويجه نفسه مثل عمه إمبراطوراً بالقوة في ديسمبر سنة 1851 ولا يحمل على (نابليون الصغير) كما سماه هيجو، فهو قد شرحه في كتابه (تاريخ ثلاثة أجيال) بما نقله عن بسمارك لما أن قابله نابليون الثالث في ييارتز فقال: حالة عجز كبرى لا يعرفها الناس!
وهنا يعني بانفيل بأن يلفت قارئه إلى طريقة إحداث الانقلاب السياسي، فيقول أن الانقلاب الذي أحدثه نابليون الصغير كالانقلاب الذي أحدثه نابليون الكبير ليجعل نفسه قنصلاً عاماً، كان يقوم على أيدي رجال في يدهم الحكم لأن الانقلاب الناجح تجب له قوة حكومية ليستقر
وليستمر
أما دكتاتورية نابليون الصغير فظلت في الداخل طويلاً، ولكنها أم تنجح، وفي الخارج أهدر الدم الفرنسي في المكسيك وأنشأ مبدأ الجنسيات خصوصاً لفرنسا، وكان الإمبراطور نفسه يقول (كيف تظن أن الأمور تسير على قاعدة؟ إن الإمبراطورة ملكية! وأنا جمهوري!! وليس هنالك بونابرتي إلا برزيني)
وجاءت حرب السبعين؛ وانتهت قصة الإمبراطورية، وحاول في سنة 1889 أن ينشئ دكتاتورية على أكتاف الباريسيين فلم ينجح لأنه نسي أن الانقلاب يجب أن يكون بمعرفة رجال في دست الأحكام
بعد ذلك يرتحل بنا (بانفيل) إلى أمريكا اللاتينية رحلة تشبه المغامرات، فيستعرض طغاة غلاظ الأكباد كمصارعي الثيران أو أشد فروسية وعجباً!! ويشرح لك عمل الماسونية وعمل القسس في التدمير والتعمير في دقة تفوق حلاوة القصص وتسمو إلى حكمة التاريخ. وينتقل من المكسيك إلى أمريكا الجنوبية وبطلها (بوليفار) تلميذ الثورة الفرنسية وصاحب خطة (الولايات المتحدة الجنوبية) على نسق اتحاد الشمال؛ هذا الجمهوري الواقعي الذي كان يقول (إن الديمقراطية المطلقة كالاستبداد المطلق، كلاهما طغيان). ثم يتحدث المؤلف عن دول أمريكا الجنوبية وطغاتها، ففي كولومبيا، وفي أورجواي، وبورجواي وشيلي والبرازيل طغاة في كل عشر سنوات، وفي بوليفيا التي خلعت على نفسها هذا الاسم تمجيداً (لبوليفار)، ثم في الأرجنتين التي طغى فيها (ردزاس) المصلح الفظيع، دنا أحد المارة يوماً من بائع متجول يصيح: كَسْتنا! كستنا!) فلما هم بالشراء منه خر الشاري صعقاً لأنه لم يجد في سلته إلا (رؤوس رجال)، لكن الإصلاح والتقدم المادي كان يشفع لهؤلاء الجبابرة، بل ولمثل (بلانكو) طاغية فنزويلا في سنة 1875 الذي قال كلمته المشهورة وهو على سرير الموت يستدبر الدنيا ويستقبل الله
القسيس: يا بني سامح أعداءك
بلانكو: لا أستطيع يا أبت
القسيس: كيف يا بني؟
بلانكو: ليس لي أعداء. . . لقد قتلتهم جميعاً.
(البقية في العدد القادم)
عبد الحليم الجندي
التاريخ في سير أبطاله
ميرابو
ميرابو. . . تلك الأعجوبة
جوته
للأستاذ محمود الخفيف
تتهيأ بواعث الحركات الشعبية وتتلاقى في تياراتها على كر السنين، وما تزال في نموها واطرادها حتى ينفجر سكونها بغتة عن عاصفة، ثم لا تلبث تلك العاصفة أن تتمثل في مظهرين: فكرة ورجل! على هذا النحو هبت العاصفة في فرنسا عام 1789، فأما عقيدتها فكانت ما أعلنته الثورة من مبادئ، وأما رجلها فكان ميرابو
أجل، كان ميرابو رجل الثورة في أولى مراحلها، ذلك لأنه حين ألقى بنفسه في بركانها لم تلبث أن وجدت في لسانه ترجمانها، وفي شخصه عنوانها؛ فلقد نبض قلبه بمشاعرها، وامتلأ رأسه بآمالها، وانطلق لسانه بأناشيدها، وكان لها أكبر عون في حدة ذهنه، ويقظة وجدانه، وقوة جنانه، وسحر بيانه، فألقت إليه مقاليدها برهة، فلما التوت عليه واتخذت طريقاً يفضي إلى هلكتها وجدت فيه الرجل الوحيد الذي يبذل غاية جهده ليحجزها عن وجهها، ثم لما قضى نحبه، لم تدر ما تأكله فأكلت نفسها.
من أجل ذلك لا تستطيع أن تفهم الثورة حق الفهم دون أن تفهم ميرابو، وكذلك لن تستطيع أن تعرف ميرابو أصدق المعرفة إلا في غمار الثورة، فما كان قبل الثورة إلا رجلاً كمن حوله من الرجال، بل لقد كان من عدة وجوه دون الكثيرين منهم، فلما أفاقت على صيحتها نفسه، أصبح الرجل الذي ينعدم قرينه في الرجال!
لكن ما جره عليه نكد طالعه قبل الثورة كان ذا أثر عميق في سيرته يوم جن جنونها، حتى لقد كان الناس على الرغم إكبارهم مواهبه في لبس من أمره دائماً، يفسرون آراءه واتجاهاته بما كان من ماضيه، فصار وهو الكوكب الساطع في سياسة وطنه يعاني مما انعقد حوله من الشبهات أضعاف ما يعانيه من غباء معاصريه ونزقهم.
عودته غلظة أبيه وسوء معاملته إياه الحنق عليه والكراهية له، وأتت سياسته على العكس مما كان ينتظر، وكان من الأشراف الذين يحلو لهم العناد، فلم يدع وسيلة يرى فيها كسر
شوكته إلا جربها، حتى السجن أرسله إليه مرارا بواسطة تلك الخطابات الملكية المختومة التي كان لها حكم القانون.
ولكن السجن لم يردعه ولم يصرفه عن الإسراف والاستدانة ولما هم أبوه أن يرسله إليه مرة أخرى فر هارباً مع خليلة كان قد هام بها على الرغم من احتجاج زوجته، وعلى الرغم من حدب بعلها عليه وإكرام مثواه حين كان يزوره في منزله.
وهنالك في هولندا حينما أنفق ما حملته معها خليلته من المال لم يجد له مرتزقاً سوى الكتابة، فوضع رسالة في الحكم الاستبدادي ذاع بها اسمه بين الناس، وأتبعها غيرها في الاقتصاد وكانت له فيها آراء صائبة، غير أن حياة التشريد قد ألقت به في كثير من مواطن الزلل، فكان يستدين مرة ويستجدي بعض ذوي الثراء حيناً، ويلجأ إلى ناشري الكتب أحياناً يعركهم ويعركونه حتى يتقاضاهم بعض المال ثمناً بخساً لرسائله
وما كان ذلك الشقاء ليقهر نفساً لا تقهر، بل لقد أوحى إليه الانتقام من أبيه، فلما علم وهو في غربته بما شجر بينه وبين أمه من نزاع ومقاضاة، كتب رسالة صغيرة يحمل فيها عليه ويرميه بالغباء والجهل في أسلوب لاذع، وأرسل منها عدداً إلى أمه، ولكنها وقعت في يد أبيه، فبلغ الحنق من نفسه كل مبلغ واستعمل نفوذه، فإذا بابنه وخليلته يرسلان إلى فرنسا، حيث ألقيا في السجن كل جزاء فعلته.
وكان السجن في هذه المرة قاسياً إذ حرم عليه أول الأمر كل ما يخفف عنه آلام وحدته، ولكنه استطاع أن يسحر حراسه بقوة شخصه فأتوا له بما طلب من الكتب والورق والصحف، فكان فيها بعض السلوى لنفسه الوثابة
ولقد لبث في السجن بضع سنين، أعاده بعدها أبوه إلى الحياة الطليقة، وهو يظن أن السجن قد نال من كبريائه، ولم يدر أن الأسر قد زاد عوده صلابة، وعلمه كيف يروض نفسه على البأس، وكيف يستهين بالألم إذا فكر أحد في ارغامه، ولذلك عاد إلى التبذير والسفه، ولج في عناد أبيه وسوء معاملة زوجه، ثم اخذ ينشر من الآراء في المال والسياسة ما أغضب عليه كبار رجال الدولة، فهم أبوه أن يلجأ من جديد إلى خطاب مختوم ولكنه هرب وطوف في إنجلترا وبروسيا وسواهما من ممالك القارة وهو لا يكاد يجد ما يتبلغ به.
أكب في أسره على المطالعة، فالتهم ما حمل إليه من الكتب التهاماً، وكانت له مقدرة خارقة
على استيعاب ما يقرأ، ثم هيأت له أسفاره أسباب الخبرة الصحيحة، فصاحب أخلاطاً من الناس، ورافق أنماطاً من الساسة، وشاهد ألواناً من المجتمعات، ومارس ضروباً شتى من الأخلاق والعادات
على أن أصالته كانت أعظم من كسبه كما كان وحي عبقريته أكبر خطراً وأبعد أثراً في تكييف سلوكه من كل ما زودته به الكتب من آراء، ولكن تلك العبقرية كانت في حاجة إلى ما يستثيرها، كانت فيما يحيط به من ظروف العيش، وما يكتنفه من الحوادث كالجمرة طغى عليها الرماد، فما أن تهب العاصفة حتى تظهر وتتوقد وتبهر جذوتها القلوب والأبصار، وما كانت العاصفة إلا الثورة وهي من وطنه على الأبواب.
بيد أنك تراه الآن ولما تواته الثورة يعيش من نفسه في ثورة! فلقد كان بطبعه عسوفاً عنوفاً لا تعرف نفسه الهدوء كما لا يعرف جسمه الدعة، يميل بكل ما في طاقته إلى النضال والتحدي، فيحمي على المجادلة، ويستعر على الجلاد، ولا يستقر إلا على الظفر والتفوق.
وكان قلبه الكبير مليئا بالأحاسيس، جياشاً بالعواطف، وكثيراً ما كانت حدة عاطفته مبعث مواقفه الفذة ومثار شجاعته حين كانت تستحكم الأزمات فلن يخرج الوطن منها إلا بشجاعته. وكان ذا مقدرة غريبة في إثارة العاطفة في قلوب من حوله حتى لكأنهم منه حيال ساحر عجيب، وهو في فورته يتناول كل شيء ولا يكاد يتجه إلى فكرة حتى يثب إلى غيرها، ولا يكاد يسنح له خاطر حتى تتوارد على رأسه الخواطر، وما كان ليضيق بها، بل لقد كانت على وفرتها اقل من أن تقنع روحه أو تشبع عاطفته. قال أبوه يصف توثب روحه:(إن روحه كالمرأة المتحركة ينعكس فيها كل شيء ولا يستقر فيها شيء)
ولقد كان من أظهر خلاله وأعظم قوى نفسه، شدة تأثيره فيمن حوله، يحس من يقترب منه هيبة خفية لا يتبين مبعثها، وينجذب إليه من يستمع له انجذاباً يبعث على العجب! ولقد بلغ من شدة تأثيره أنه كان يحمل رجال السجن على احترامه بل على محبته، وتلك عجيبة من عجائب النفس لا تزال سراً مستغلقا على الإفهام.
على أن أبرز صفاته جميعاً وأوثقها علاقة بمستقبل حياته، هي قوته الخطابية، فلقد كان ميرابو خطيباً عبقرياً بكل ما تتسق له تلك الكلمة من معنى. وهو عند الكثيرين من المؤرخين أقدر خطيب شعبي في التاريخ الحديث، وأشد الخطباء تسلطاً على أفكار سامعيه
وأسرعهم توجيهاً لمن حوله إلى ما يريد.
كان في أسلوبه رجل فن كأعظم ما يكون رجل الفن، عرف أو على الأصح ألهم اختيار الكلمة القوية وصوغ العبارة التي تجمع إلى إشراق المعنى بعد المرمى وعمق المغزى. وكانت تواتيه عبقريته إذا تسنم المنبر فتسمو به عن مستوى الرجال، فتراهم شاخصة أبصارهم إليه خافقة قلوبهم بما ينطق، فإذا احتدم الجدل أو اشتد الموقف خطراً نظرت فإذا به أعظم مما كان حماسة وأسرع تدفقاً وأكثر إقناعاً ورأيت عبارته ترتفع وتعظم حتى تلائم الموقف، وسمعت في نبرات صوته أزيز نفسه وغليان دمه. كان في جولاته كنابليون في غزواته! تزداد عبقريته ملابسة له كلما ازداد الموقف من حوله هولاً. ولقد فاه بأبلغ عباراته وأبعدها أثراً في نفوس سامعيه في مواقف الحماسة الفائرة كأن كلماته الحيتان الضخمة لن تظهرها إلا العاصفة!
وكان له فضلاً عن ذلك من هيبة منظره وقوة صوته ورنين جرسه وشتى إشاراته كل معدات الخطيب. كان كبير الجرم، قوي الجسم، عريض المنكبين، عظيم الصدر، ترى في وجهه الجاد العابس آثار جراح اندملت كأنك تلمح فيها صرامة الحوادث وصروف الزمن، وكانت ترتسم ملامح وجهه بانفعالات نفسه، كما كانت تلتمع عيناه وتختلجان فتبعثان الرهبة أو تثيران الشفقة. أما عن قوة أعصابه وضبط نفسه وصدق فراسته وتفهم الغاية التي يرمي إليها وتخير أقرب الطرق وأسهلها إلى تلك الغاية فكان في ذلك كله مضرب المثل بين معاصريه.
والآن فلندع مقدرته على الخطابة حتى نشاهد آثارها في مجلس طبقات الأمة وفي الجمعية الأهلية، ويجمل بنا أن نتبين قبل انعقادها بعض آرائه السياسية.
لم تك أصالة ذلك الرجل الفذ في الساسة أقل من أصالته في الخطابة، فلقد جمع إلى حماسة القلب حدة العقل، وإلى ثورة العاطفة اتزان المنطق، وإلى جموح الخيال وضوح المنهج، وإلى وحي العبقرية شمول النظر، وصدق التجربة واتساع الخبرة، وإن المرء ليدهش حقاً إذ يرى ذلك كله في رجل. ولقد صدق جوته حين وصفه في قوله: ميرابو. . . تلك الأعجوبة!!!
كان لهذا الزعيم غرض يرمي إليه ونهج يسير عليه. نشط قبيل الثورة في نشر مبادئه،
عندما عاد من برلين للمرة الأخيرة، وكان قد أوفد إليها من قبل الوزير كالون في مهمة سياسية عام 1787 أي قبل هبوب العاصفة بعامين، وخيل إلى أن الوزير إنما أراد إبعاده، فلما استقل ميرابو ما كان يصله من أجر عاد إلى وطنه مغيظاً محنقاً فشهر قلمه للطعن في كالون ونكر صديق الشعب، وابتدأ الناس يحسون خطره كناقد سياسي، نعم أحس الناس روحاً جديدة في كتاباته واستشعروا أن صاحبها يمتاز ممن عرفوا من الرجال. اقرأ مثل قوله في نقد نكر (ليعلم الذين يحسبون أنهم لا يستطيعون أن يحبوا الله خالقهم أو أن يحبوا الملك والوطن إلا أن يعبدوا نكر، إنهم في ضلالتهم يعمهون. هل فكروا في أن تفاخره بأنه يستطيع أن يعقد أي قرض دون زيادة في الضرائب موضع عار لا موضع فخر؟ هل فكروا في أنه بذلك قد استطاع أن يستهوي أولي الأمر في هذه الدولة، فيدفع بهم إلى حرب تبرأ منها الإنسانية، فضلاً عما يتبعها من خراب مالي؟ وهل يغنيهم ما يعلمون من حسن خلقه وطيب نفسه عن نجاح سياسته كوزير؟) اقرأ هذا وغيره تر أن الثورة قبل هبوبها قد اهتدت إلى زعيمها، وتلق الرجل في مستهل مرحلة جديدة في حياته العجيبة، مرحلة الجد الحكيم والوقار العاقل والجهد المتواصل.
راح يعلن للناس أنه عدو الامتيازات والاستبداد، وأنه لن يقعد عن الجد حتى يرى الناس سواء أمام القانون، ويرى الحرية حقاً يتمتع به كل فرد، ويرى التعليم نوراً ينفذ إلى جميع الطبقات، والرخاء المادي حصناً يقي الوطن غائلة الفاقة. وهل كان للناس مطمع وراء هذا؟ وهل كانوا يتغنون بغير هاتيك الأناشيد؟ ولكن ميرابو لن يقبل أن يسعد الشعب على حساب الملكية! وإذاً فهو يسعى من جانب آخر إلى أن يكون للملكية نفوذها وسيادتها على أن تستمد ذلك من الشعب صاحب الحق. ولئن كان يمقت من أعماق قلبه الفوارق بين الطبقات وقيود العهد الإقطاعي، فان بدنه ليقشعر فرقاً من الفوضى وإنه ليرى الطامة الكبرى في جموح الشعب وتعديه حدوده.
بهذه المبادئ وبما عرف عنه من مقدرة خطابية فائقة، تقدم ميرابو للانتخاب في مدينة إكس ليشون نائباً عن العامة في مجلس طبقات الأمة، بعد أن نأى الأشراف بجانبهم عنه. وعلى الرغم من كيد خصومه له خرج من المعركة ظافراً داوي الصيت
(يتبع)
الخفيف
يوم الوقفة
عرفات. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
(وَأَذِّنْ في النَّاسِ بالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجِّ عَمِيقٍ، لِيًشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، وَيذْكُرُوا اسم الله فِي أَيّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ، فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بَالبْيتِ العَتِيقِ)
هنالك ينكشف الغطاء، وتنفتح أبواب السماء، فيتوجه الحجاج إلى الله بقلوب انزاحت عنا ظلمة الأهواء والشهوات، وأشرقت عليها الأنوار، فسمت حتى رأت الأرض ومن عليها ذرة صغيرة تحملها رياح القدرة، ثم سمت حتى سمعت تسبيح الملائكة بألسنة الطاعة، ثم سمت حتى تدبرت القرآن غضاً غريضاً، كأنما نزل به الوحي أمس، وسمعت النداء من جانب القدس:(يا أيها الناسُ إنا خلقناكم من ذكر وأُنثى، وجعلناكم شُعُوباً وقبائِلَ لِتَعَارَفُوا، إنَّ أَكْرَمكم عِنْدَ الله أتقاكم). فأجابت: لبَّيك اللهم لبيك!، فردَّدت بطاح عرفات، وأرجاء الحرم، وردَّدت السموات السبع والأرضون السبع: لبيك اللهم لبيك!
هنالك تتنفس الإنسانية التي خنقها دخان البارود، وعلامات الحدود، وسيد مسود، وعبد ومعبود، وتحيا في عرفات حيث لا كبير ولا صغير، ولا عظيم ولا حقير، ولا مأمور ولا أمير، ولا غني ولا فقير
هنالك تتحقق المثل العليا التي لم يعرفها الغرب إلا في أدمغة الفلاسفة وبطون الأسفار، فتزول الشرور، وترتفع الأحقاًد، وتعم المساواة، ويسود السلام، ويجتمع الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم في صعيد واحد، لباسهم واحد، يتوجهون إلى رب واحد، ويؤمنون بنبي واحد، ويدينون بدين واحد، ويصيحون بلسان واحد: لبيك اللهم لبيك!
هنالك تظهر المعجزة الباقية، فتطوى ثم تؤخذ من أطرافها، حتى توضع كلها في عرفات، فتلتقي شطآن أفريقية بسواحل آسية، ومدن أوربة بأكواخ السودان، ونهر الكنج بنهر النيل، وجبال طوروس بجبال البلور، فيعرف المسلم أن وطنه أوسع من أن تحده على الأرض جبال أو بحار، أو تمزقه ألوان على المصور فوق ألوان، أو تفرقه في السياسة خرق تتميز من خرق، وأعلام تختلف عن أعلام
ذلك لأن وطن المسلم في القرآن، لا في التراب والأحجار، ولا في البحيرات والأنهار، ولا في الجبال والبحار:(إنما المؤمنون أخوة)، لا (إنما المصريون. . . .)، ولا (إنما الشاميون. . .)، ولا (إنما العراقيون. . . .)
هنالك يتفقد الاخوة إخوتهم، فيعين القوى الضعيف، ويعطي الغني الفقير، ويساعد العزيز الذليل، فلا ينصرفون من الحج إلا وهم أقوياء أغنياء أعزاء
هناك يذكر المسلم كيف مرّ سيد العالم صلى الله عليه وسلم بهذه البطاح مهاجراً إلى الله، تاركاً بلده التي نشأ فيها، وقومه الذين ربي فيهم، وكيف جاء حتى وقف على الحزْورَة، فنظر إلى مكة، وقال:(انك لأحب بلاد الله إلى الله، وإنك لأحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت). ثم يستقبل هذه الصحراء الهائلة، ليس معه إلا الصديق الأعظم، يتلفت كلما سار ليتزوّد بنظرة من مكة حتى غابت وراء الأفق الفسيح، فانطلقا يؤمان الغار
هل علمتْ هذه البطاح أن هذا الرجل الفرد الذي قام وحده في وجه العالم كله، يصرع باطله بقوّة الحق، ويبدّد جهاته بنور الإسلام، ويهدي ضلالته بهدي القرآن، والذي فر من مكة مستخفياً، سيعود إليها بعشرة آلاف من الأبطال المغاوير، فتفتح له مكة أبوابها، وتتهاوى عند قدميه أصنامها، ثم تعنو له الجزيرة، ثم يخضع لدينه نصف المعمور؟
هل علمت هذه البطاح أن هؤلاء النفر الذين مروا بها هاربين من جبروت قريش وسلطانها، سيعزون حتى تدين لهم قريش، ثم يعزون حتى يرثوا كسرى وقيصر في أرضيهما، ثم يعزون حتى يرثوا الأرض ومن عليها، وسيكثرون حتى يبلغوا أربعمائة مليون، وسيتفرقون في الأرض داعين مجاهدين فاتحين، ثم يجتمعون في عرفات حاجين منيبين ملبين: لبيك اللهم لبيك!
هنالك وقف سيد العالم صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يعله حقوق الإنسان، ويقرر مبادئ السلام، وينشر الاخوة والعدالة والمساواة بين الناس قبل أن تنشرها فرنسا بألف عام:
أيها الناس:
اسمعوا مني أبين لكم، فإني لا ادري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا
أيها الناس:
أن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا
ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد!
أيها الناس:
إنما المؤمنون اخوة، لا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه
إلا هل بلغت؟ اللهم اشهد
أيها الناس:
إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى
ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد!
وهنالك وقف يعلن انتهاء الرسالة الكبرى التي بعثه الله بها إلى الناس كافة، ويتلو قوله جل وعز:(اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لكم دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لكمُ الإسلام دِيناً)؛ ويبعث صحابته ليحملوا هذه الرسالة إلى آخر الأرض، ثم يحملوها إلى آخر الزمان
فحملوها فأنشأوا بها هذه الحضارة التي استظل بظلها الشرق، ويستظل بظلها الغرب
في عرفات تتجلى عظمة الإسلام، دين الحرية والمساواة والعلم والحضارة؛ ومن عرفات يسمع المسلمون داعي الله يدعو: حي على الصلاة! حي على الفلاح! فيجيبون لبيك اللهم لبيك! وينطلقون ليعلموا للآخرة كأنهم يموتون غداً، ويعملوا للدنيا كأنهم يعيشون أبداً
فلتفسد الأرض، ولتطغ الشرور، وليعصف الحديد، ولينفجر البارود، ولتَغُص الإنسانية في حمأة الرذيلة إلى العنق، فانه لا خوف على الفضيلة ولا على الحق ولا على السلام، ما دام في الأرض (عرفات)، وما دام في الجو هذا الصوت القدسي المجلجل:
(لبيك اللهم لبيك)!
علي طنطاوي
العراق في مصر
للشاعر الفيلسوف المرحوم جميل صدقي الزهاوي
وهي آخر ما نضمه الفقيد الكريم
حمّلها شباب العراق تحية كريمة لشباب مصر
- 1 -
أتى بعد شوق حافز للمحبينا
…
إلى مصر شبان العراق محيينا
أولئك شبان سنقطف عن هوى
…
بها من رياض العلم ورداً ونسرينا
رضينا بما في مصر من عبقرية
…
وما كل أرض تنبت العلم ترضينا
وكان منانا أن نرى مصر يقظة
…
فأفرحنا جمعاً بلوغ أمانينا
سعدنا بمصر والسعادة نعمة
…
فحينا تلاقينا وحين تجافينا
وليس لنا عن حب مصر تنكّب
…
فما كان هذا الحب إلاّ لَنَا دنيا
وما شعراء النيل إلاّ عنادل
…
على سرحة الآداب تشدو فتشجينا
- 2 -
إلا إن مصراً موطن الأدب الحر
…
سلام على مصر سلام على مصر
وما مصر إلا البحر يلمع درّه
…
ونحن بمصر غائصون على الدر
لقد جمعتنا وحدة عربية
…
وأقرب منها بيننا وحدة الفكر
أرى في لقاء الروح للروح فرحة
…
تفوق لقاء العين والأوجه الغر
وإن بني مصر الذين تثقفوا
…
إذا طلعوا كانوا من الأنجم الزهر
حججناك طوّافين والدافع الذي
…
حدانا هو الإيمان بالأدب الحر
وليس كإيمان المنافق إنه
…
إذا لم يكن كفراً فشر من الكفر
- 3 -
وجدنا بني مصر الفتاة كواكبا
…
تضئ فتمحو بالضياء الغياهبا
إذا غاب نجم لاح نجم وإنما
…
تفوق بمصر الطالعاتُ الغواربا
ألا فلييمم مصر من طلب العلا
…
ومن كان في المجد المؤثل راغبا
وما اسعد الورّاد للعلم إنهم
…
إذا صدروا كانوا نجوماً ثواقبا
إذا ما تلقوا من أساتذة لهم
…
دروساً حسبت الودق ينصبّ ساكبا
قصدنا فقاسينا متاعب جمة
…
فلما رأيناكم نسينا المتاعبا
نصافحكم فيها مصافحة الذي
…
يريد لأعلام الهدى أن يقاربا
- 4 -
حججنا بلاد العبقرية والنبل
…
نطوف بأركان الثقافة والفصل
معاهد فيها للهدى يثب الفتى
…
وليس بها من سار يمشي على مهل
تربّي عقولَ النشء حتى تقيمها
…
وما قيمة الإنسان إلاّ من العقل
وكانت فتاة العصر أنقى من الندى
…
وكان الفتى للمجد أنضى من النصل
وليس الذي في البحر يسبح زاخراً
…
كمن كان في الغدران يسبح والضحل
وليس غنى مصر من المال ناشئاً
…
ولكنه في العلم والأدب الجزل
وفي عزة النفس التي قد أبت لها
…
على ما بها أن تستنيم إلى الذل
- 5 -
على العقل في كل الأمور المعوّل
…
ولولاه لم ينجل للمرء مشكل
وما العقل في الإنسان إلا ابن رأيه
…
تولّد فيه آخراً وهو أوّل
وللعقل أنوار بها يهتدي الفتى
…
وأبهجْ بأنوار لها العقل يرسل
تبدل في الناس العقول بغيرها
…
ولكن نفس المرء لا تتبدل
ورب عقول لم تصادف مثقفاً
…
فتلك بلا هادٍ من العلم تعمل
يمثل مصراً في العراق جهابذ
…
ونحن بمصر للعراق نمثل
وما العلم في بغداد إلا كصيّب
…
توالى لأدران الجهالة يغسل
- 6 -
نصافح إخواناً لنا قد تثقفوا
…
فساروا جماعات ولم يتوقفوا
فإن فرقت ما بيننا شقة النوى
…
فإنا جميعاً للعروبة نهتف
وإن عصفت ريح بكم في ملمّة
…
فتلك بنا يا أمة النيل تعصف
وإن أبعدت أجسامنا عن جسومكم
…
فأرواحنا مجموعة تتعرف
ومصر هي اليمّ الذي ظلّ زاخراً
…
وإنا وإياكم من اليم نغرف
غداً ستشب الحرب صاخبة اللظى
…
فتزهق أرواحاً وتمحو وتتلف
وإن تلاميذ المدارس في غد
…
جنود لصون الموطنين تألّف
- 7 -
لنحن بمصر في الثقافة نقتدي
…
وبالنجم في تلك المطالع نهتدي
وليس بنا للأمس من لفتة الهوى
…
ولكننا نرنو بشوق إلى الغد
ونحترم الرأي القديم وأهله
…
ونهتف للتجديد أو للتحدد
نرى أن في التجديد شيئاً مخلداً
…
ولكنما التقليد غير مخلد
وذاك طريق للأديب معبد
…
وهذا طريق ظل غير معبّد
وما العلم إلا للسعادة سلم
…
فمن يتخذ منه الوسيلة يسعد
فإن تبتعد عنا السعادة تقترب
…
وإن منا التعاسة نبعد
جميل صدقي الزهاوي
على قبر الزهاوي
بعد أن وُوري التراب شيخ الشعراء وفقيد العرب وقف على قبره الدكتور عبد الوهاب عزام فنثر عليه هذه الزهرات:
اليوم يقع هذا النسر بعد طول تحليقه!
اليوم يصمت هذا البلبل بعد طول تغريده!
اليوم يظفر هذا الجواد بالجمام!
اليوم يستريح هذا الفارس من الآلام!
اليوم تسكن هذه النفس الثائرة!
اليوم تخمد هذه النائرة!
اليوم يرقد الزهاوي في قبره!
كل نفس ذائقة الموت، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وإنما الخالد من خلدته آثاره. وسيبقى شعر الزهاوي مدوِّياً بعد مماته، كما كان مدوياً في حياته، ليبعث العزائم الراقدة، ويشعل النفوس الخامدة
ستتلقى مصر والبلاد العربية نعي الزهاوي كما تلقى العراق والبلاد العربية نعي شوقي، فتتجاوب بلاد العرب بالرثاء،
وتتبادل العزاء. نسأل الله أن يعوضها في شاعر العربية خيراً
أيها الشاعر العظيم ستذهب وذكراك بيننا خالدة!
أجميلُ لا تبعد فذكرك خالد
…
الذكر للإنسان عمر ثان
ثم وقف الأستاذ الشاعر معروف الرصافي فألقى هذه الأبيات:
أيها الفيلسوف قد عشت مُضْني
…
مثل مَيْتٍ وصرت بالموت حيا
ما حياة العظيم إلا خلود
…
بعد موت يكون للجسم طيا
سوف يبقى بين الورى لك ذكر
…
ناطق بالبقاء لم يخش عِيا
أنت فرد في الفضل حياً ومَيْتا
…
حزت في الحالتين ذكراً عَلِيا
سوف أبكي عليك شجوا وإني
…
كنت أبكيك في الحياة شجيا
ثم تلاه السيد محمد مهدي الجواهري فألقى هذه القصيدة الباكية:
على رغم أنف الموت ذكرك خالد
…
ترن بسمع الدهر منك القصائد
نعيت إلى غر القوافي فأعولت
…
عليك من الشعر الحسانُ الخرائد
وللعلم فياضاً فماجت مصادر
…
عُنيت بها بحثاً وجاشت موارد
وفلسفة أَطلعت في الشعر نورها
…
هي اليوم ثكلى عن جميل تناشد
حلفت يميناً لم تشبها اختلاطة
…
وقلبي على دعوى لسانِيَ شاهد
لقد كنت فخراً للعراق وزينة
…
تزان نواديه بها والمعاهد
وكنت خصب العراقي شاهدا
…
إذا أعوزتنا في التباهي شواهد
وكنت أرق الناس طبعاً ونكتة
…
وألطف من دارت عليه المقاعد
وأنت ابتعثت الشعر بعد خموله
…
نشيطاً فخوض الشعر بعدك راكد
ثوى اليوم في هذي الحفيرة عالم
…
بأسرارها، لله بالعقل ناشد
أقام على العلم الصحيح اعتقاده
…
عدو لأشباح الخرافات طارد
وكان نقياً فكرة وعقيدة
…
عزيزً عليه أن تسف العقائد
يقرر أن الدين حب ورحمة
…
وعدل، وأن الله لا شك واحد
وأن الذي قد سخر الدين طامعاً
…
يتاجر باسم الله، لله جاحد
ثوى اليوم في هذي الحفيرة شاعر
…
على الظلم محتج عن العدل ذائد
وشيخوخة مدت على الكون ظلها
…
تكافح عن آرائها وتجالد
أَبَا الشعر! إن الشعر هذا محله
…
فقد نصت الأسماع والجمع حاشد
وهذي جيوش الشعر والعلم تبتغي
…
لها قائداً فذاً فهل أنت قائد
فأين قصيد قد نظمت فريده
…
وأين من الشعر البديع الفرائد
وأين النكات المؤنسات كأنها
…
حدائق تُسقى بالندى وتعاود
وأين العيون اللامعات زكانة
…
زغائب تبدو فوقها ومقاصد
جميلٌ أعان الرافدين بثالث
…
من الشعر تنميه بحور روافد
وكان حياة للنفوس ورحمة
…
تغاث بها النفوس الهوامد
تطاوعه غر المعاني كأنها
…
وصائف تبغي أمره وولائد
أقول لرهط الشعر يبغون باعثاً
…
عليه: تثير الشعر هذي النضائد
هلموا إلى قبر الزهاويِّ نقنص
…
به نفساً من روحه ونطارد
وإن خيالاً يملأ الشعر رهبة
…
سكون على قبر الزهاويِّ سائد
وحجوا إلى بيت هو الفن نفسه
…
أنارت (فينيسٌ) ساحَه وعطارد
فإن بيوت الشاعرين مناسك
…
وإن قبور النابغين معابد
أبا الشعر والفكر المنبه أمة
…
عزيز علينا أنك اليوم راقد
وأن الذي هز القلوب هوامداً
…
وحركها في الترب ثاو فهامد
وأن فؤاداً شع نوراً وقوة
…
هو اليوم مسودُّ الجوانب بارد
فهل أنت راضٍ عن حياة خَبَرْتها
…
ممارسة أم أنت غضبان حارد
أضاعوك حياً وابتغوك جنازة
…
وهذا الذي تأباه صِيدٌ أماجد
أندلسيات:
2 -
ابن بسام صاحب الذخيرة
والشاعر أبو مروان الطبني
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
قال ابن بسام: كان أبو مروان هذا أحد حماة سرح الكلام، وحملة ألوية الأقلام، من أهل بيت اشتهروا بالشعر، اشتهار المنازل بالبدر. أراهم طرأوا على قرطبة قبل افتراق الجماعة، وانتثار شمل الطاعة، وأناخوا في ظلها، ولحقوا بسروات أهلها. . . وأبو مضر أبوه زيادة الله بن علي التميمي الطبني هو أول من بنى بيت شرفهم، ورفع في الأندلس صوته بنباهة سلفهم. قال ابن حيان: وكان أبو مضر نديم محمد بن أبي عامر أمتع الناس حديثاً ومشاهدة وأنصعهم ظرفاً، وأحذقهم بأبواب الشحذ والملاطفة، وآخذهم بقلوب الملوك والجلة، وأنظمهم لشمل إفادة ونجعة، وابخلهم بدرهم وكسرة، وأذبَّهم عن حريم نشب ونعمة، له في ذلك أخبار بديعة من رجل شديد الخلابة يضحك من حضر، ولا يضحك هو إذا ندر، رفيع الطبقة في صنعة الشعر، كثير الإصابة في البديهة والروية. انتهى كلام ابن حيان. قال ابن بسام: وشعر أبي مضر ليس من شرط هذا المجموع لتقدم زمانه؛ فأما ابنه مروان هذا فكان من أهل الحديث والرواية ورحل إلى المشرق وسمع من جماعة المحدثين بمصر والحجاز، وقتل بقرطبة سنة سبع وخمسين وأربعمائة. . إلى أن قال: وجدت في بعض التعاليق بخط بعض أدباء قرطبة قال: لما عدا أبو عامر أحمد بن محمد بن أبي عامر على الحذلمي في مجلسه وضربه ضرباً موجعاً وأقر بذلك أعين مطاليبه، قال أبو مروان الطبني فيه:
شكرت للعامري ما صنعا
…
ولم أقل للحذيلمي لعا
ليث عرين غدا بعزته
…
مفترساً في وجاره ضبعا
لا برحت كفه مُمَكَّنَةً
…
من الأماني فنعم ما صنعا
وددت لو كنت شاهداً لهما
…
حتى ترى العين ذل من خضعا
إن طال منه سجوده فلقد
…
طال لغير السجود ما ركعا
وابن رشيق القائل قبله:
كم ركعة ركع الضبْعان تحت يدي
…
ولم يقل سمع الله لمن حمدهْ
والعرب تقول فلان يركع لغير صلاة إذا كنوا عن عهر الخلوة. .
قال ابن بسام: ولما صنفت كتابي هذا عن شين الهجاء، وأكبرته أن يكون ميداناً للسفهاء، أجريت ههنا طرفاً من مليح التعريض، في إيجاز القريض، مما لا أدب على قائليه ولا وصمة على من قيل فيه. والهجاء ينقسم قسمين: فقسم يسمونه هجو الأشراف، وهو ما لم يبلغ أن يكون سباباً مقذعاً، ولا هجراً مستبشعاً؛ وهو طأطأ قديماً من الأوائل، وثل عرش القبائل. إنما هو توبيخ وتعيير، وتقديم وتأخير، كقول النجاشي في بني العجلان، وشهرة شعره منعتني عن ذكره. واستَعْدَوا عليه عمر وأنشدوه قول النجاشي فيهم فدرأ الحد بالشبهات. وفعل مثل ذلك بالزبرقان حين شكا الحطيئة وسأله أن ينشده ما قال فيه فأنشده قوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
…
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فسأل عن ذلك كعب بن زهير فقال: والله ما أودّ له بما قال حمر النعم. . . وقال حسان لم يهجه ولكن سلح عليه بعد أن أكل الشُبْرُم. . فهمّ عمر بعقابه ثم استعطفه بشعره المشهور. . وقد قال عبد الملك بن مروان يوما: أحسابَكم يا بني أمية فما أود أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس وأن الأعشى قال فيّ:
تبيتون في المَشْتىَ مِلَاءً بطونكم
…
وجاراتكم غَرثى يبتن خمائصا
ولما سمع علقمة بن علاثة هذا البيت بكى وقال: أنحن نفعل بجاراتنا هذا؟ ودعا عليه. . . فما ظنك بشيء يبكي علقمة بن علاثة وقد كان عندهم لو ضرب بالسيف ما قال: حس!. . . وقد كان الراعي يقول: هجوت جماعة من الشعراء وما قلت فيهم ما تستحي العذراء أن تنشده في خدرها. ولما قال جرَير:
فَغُضَّ الطرف إنك من نمير
…
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
أطفأ مصباحه ونام - وقد كان بات ليلته يتململ - لأنه رأى أنه قد بلغ حاجته وشفى غيظه. . قال الراعي: فخرجنا من البصرة فما وردنا ماء من مياه العرب إلا وسمعنا البيت قد سبقنا إليه حتى أتينا حاضر بني نمير فخرج إلينا النساء والصبيان يقولون قبحكم الله
وقبح ما جئتمونا به. . والقسم الثاني هو السباب الذي أحدثه جرير أيضاً وطبقته، وكان يقول إذا هجوتم فأضحكوا، وهذا النوع منه لم يهدم قط بيتاً ولا عبرت به قبيلة، وهو الذي صُنّا هذا المجموع عنه، وأغفيناه أن يكون فيه شيء منة، فإن أبا منصور الثعالبي كتب منة في يتيمته ما شابه اسمه، وبقي عليه إثمه.
وحكى أبو عامر بن شهيد عن نفسه قال: عاتبت بعض الأخوان عتاباً شديداً عن أمر أوجع فيه قلبي، وكان آخر الشعر
الذي خاطبته به هذا البيت:
وإني على ما هاج صدري وغاظني
…
ليأمنني من كان عندي له سر
فكان هذا البيت أشد عليه من عظ الحديد؛ ولم يزل يقلق به حتى بكى إلي منه بالدموع. وهذا الباب ممتد الإطناب، ويكفي ما مر ويمر منه في تضاعيف هذا الكتاب. ومن شعر أبي الحسن علي بن عبد العزيز بن زيادة الله الطبني مما أخذته عنه قولة:
كم بالهوادج يوم البين من رشأٍ
…
يحفو علية وشاح جائر قلق
وكم برامة من ريم يفارقها
…
لهفان يثنيه عن توديعها الفرق
ونرجس كفرند السيف ساومني
…
ممللاً بنسم عَرقُه عبق
نادمته وشباب الليل مقتبل
…
والنجم كَفٌّ يحيينا به الأفق
وفتية كنجوم السعد أوجههم
…
في أوجه الحادثات الجُوزِ تأتنق
نلهو برقراقة صفراء صافيةٍ
…
يكاد ينجاب عن أضوائها الغسق
يسعى بها مرهف كالغصن نعَّمه
…
ماء النعيم عليه النوُر والورَق
وأنشدني أيضاً:
يا سالياً عاشقِيهِ
…
وعاشقاً كل تِيهِ
ومَن مدامي ونقلي
…
بوجنتيه وفيه
هلا حزبت فؤادي
…
ببعض مالك فيه
وأنشدني أيضاً لنفسه:
عجباً أن يكون ساكن قلبي
…
راتعاً منه في بساتين حبي
ويجازي على الوفاء بِغَدرٍ
…
حسبي الله ثم حسبي وحسبي
جازني كيف شئت لا أترك الذن
…
ب إذا كان فرط حبك ذنبي
وهذا كقول أبي بكر بن عمار:
لئن كان ذنبي للزمان محبتي
…
فذلك شيء لست منه أتوب
وقول عباس بن الأحنف:
إن كان ذنبي في الزيارة فاعلمي
…
أني على كسب الذنوب مجاهد
(يتبع)
عبد الرحمن البرقوقي
منشئ البيان ورئيس قلم المراجعة بمجلس النواب
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
23 -
تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
تعليق المؤلف على فلسفة نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
تتمة
أما النظر إلى نيتشه من حيث الوجهة الأخلاقية فقد لامه النقاد على غرائزه القاسية وأنانيته الطاغية، وقوته البالغة على الضعفاء. على أن له بعض أراء لو لم يسيء الناس فهمهما لآلت إلى نتيجة أخلاقية حسنة؛ فليس يكفى المرء أن يكون فوضوياً هداماً طارحاً عن ظهره التقاليد ليحيا محققا مذهب نيتشه. وليس نيتشه رفيق أولئك الذين يعبثون بالسوبرمان. وهذا نبيه زرادشت كان يطلب إلى الذين يرغبون اتباعه أن ينفذوا مذهبه بقسوة وشدة
(هل أنت شريعة قوية؟ هل أنت شريعة جديدة؟
هل أنت حركة أولى؟ هل أنت دولاب يدور حول نفسه؟ وا أسفاه! ما أكثر أولئك الذين يضطربون بيأس! أرني أنك لست بواحد من هؤلاء الظامئين ولا الطامعين
وا أسفاه! هنالك كثير من الأفكار العظيمة التي ليس شأنها إلا النسمة تهب ثم تتلاشى
إنك تقول إنك حر، ولكي أريد أن أعرف الفكرة التي تسيطر عليك، لا النير الذي رحت تهزه
هل أنت حقاً من أولئك الذين يجدر بهم أن يهزوا نيراً؟ أن منهم من طرحوا كل ما منحتهم بعض القيم، بطرحهم ثوب العبودية والإرهاق حيث كانوا يعيشون.)
ونيتشه ذاته يعلن بأن مذهبه لا يحمله إلا إلى طائفة مختارة تستطيع حمله، والقيام بأعبائه؛ وأما الجماعات الأخرى فليس. عليها إلا الإذعان والطاعة والحياة بإيمان. فلا يجدر بنا والحالة هذه أن نسفه آراءه بحجة أن بعض الضعفاء العاجزين المنتفخة نفوسهم زهواً وكبراً قد أخذوا ببعض تعاليمه واقتبسوا نتفاً من مذهبه ليحققوا مطامعهم وليشبعوا جوع أنفسهم وأنانيتهم وليسعوا إلى هدف العظمة. إن نيتشه هو ذاتي قبل كل شيء، ويكفي
اعتقاده هذا أن يهيج الناس عليه. فالإنسان الحاضر هو (ذاتي وغير ذاتي) في وقت معاً. يرى في الحالة الأولى نفع نفسه وفي الحالة الثانية نفع غيره، ويتحرى عن سعادتهم كما يتحرى عن سعادته. على أن النزاع بين الحالتين هو نزاع عنيف وقد تقوي في الإنسان حالة منهما دون أخرى على حسب ميوله القلقة التي تميل به إما إلى ذاته وإما إلى المجتمع. فبعضهم تغلب فيه الذاتية على غيرها، فيضحي بمصالح الغير في سبيل مصلحته؛ وبعضهم يضحي بمصلحته عاملاً على صيانة مصالح الغير. أما نيتشه فهو من القائلين (بالذاتية) الذين يحبون ذواتهم؛ ومذهب أهل حضارة العصر إنما يتجلى في اعتناق مذهب المحبة الشاملة؛ وهذا الاختلاف بين نيتشه وبين معاصريه يكفي لأن يثير في خصومه عداوة عميقة وخصومة عنيفة على هذا الذي لا يرى رأيهم في اتخاذ محبة الغير مثلاً أعلى
على أن هاتين الحالتين ليستا من الحالات المعينة التي لا يتخطاها الإنسان ولا يتعداها، إذ لست أرى أحداً مال بكليته إلى حالة وقطع كل اتصاله بالأخرى. فهناك درجات متفاوتة في الغرائز، وهذه الدرجات قد تتغير وتتطور بحسب الزمن والعصر والمحيط. على أننا سنحكم على فلسفة نيتشه الآن حكماً عقلياً واضحاً
إن فلسفة نيتشه هي مثال من أجمل الأمثلة الذاتية الأرستقراطية؛ مثال جميل حي منطقي يحتوي على هدى لكل من يريدون أن يكوّنوا حياتهم ويجعلوا منها مثالاً واحداً يتحدون معه، كما هو الأمر في فلسفة (تولستوي) المناقضة لفلسفة نيتشه. على أن الحل الذي أعطاه نيتشه للمسألة الأخلاقية يتراءى لنا أن احتماله شديد على الأنفس، في الناحية التفكيرية والناحية العلمية، وأن تنفيذ مذهب (السوبرمان) ليفتقر إلى جهود قل أن توجد؛ ونيتشه ذاته يعلن بأن أمثال هؤلاء الأفراد الذين يجد فيهم العبقرية لم يكونوا إلا وليدي المخيلة والخيال
وهكذا يتراءى لنا أن نيتشه لم يخلق ليكون زعيم مدرسة فلسفية حقيقية، إنه سيبقى وحيداً فريداً، أمة وحده بين الناس، كما كان في حالة تفكيره وتأمله؛ على أن مذهبه تارك وراءه تأثيراً كبيراً. ينمي في روح الفرد وروح الشعب (الأفكار الذاتية)، وهذا التأثير يتبع خيره وشره الجبلة الخلقية التي تلتصق بالأفراد والشعوب. فهو قد يعمل على تهديم طبائع طغت فيها الأنانية على كل شيء حتى جاوزت حدها؛ قد يعمل على رفع بعض الطبائع، يدرأ
عنها كل آفة ويحميها من كل خطر من الأخلاق والديمقراطية والزهد
يبدو لي أن عمل نيتشه له أثر قوي في بيئة كبيئتنا ولا ريب في ذلك، فإن ما أراه في مظاهرنا الاجتماعية لا يدل على فيض في الحماسة المادية والخلقية. قليل من المفكرين الذين هم في مستواه يعرفون أن يسوقوا الإنسان إلى معرفة نفسه والوقوف إزائها مجرداً؛ وقليل من أصحاب جمهورية الفضيلة من يمزقون - في وضح النهار - هذه الأغشية الرقيقة والأكاذيب الخفيفة التي تستر بها النفس ضعفها وجبنها وذلها وعجزها؛ وقليلون من علماء النفس في وضح وأبان وأحسن البيان عن الحقيقة الذليلة التي ترتدي هذه الأثواب المزركشة: أثواب الشفقة ومحبة القريب والزهد
إن نيتشه كالطبيب الصارم الذي لا تدخل قلبه الشفقة؛ والعلاج الذي يحمله إلى مرضاه، علاج قاس خطر استعماله، ولكنه علاج يخلق العزم والقوة. إنه لا يعزي من يأتيه شاكياً، ولكنه يترك الشاكين تسيل الدماء من جراحهم ليجعلهم أكثر قسوة وأشد احتمالاً للألم. فهو إما أن يشفي مرضاه شفاءً صحيحاً أو يقتلهم؛ قد يخشاه الناس للمرة الأولى ويفرون من مباضعه، ويلقونه باحتراس ووجل! يتساءلون: أليس هذا الإنسان شريراً جلاداً؟ يفرون من طريقه ويختلفون إلى أطباء خفيفة أناملهم، لينة كلماتهم، حلوة علاجاتهم، خالية تعاليمهم من الشدة والصرامة، ولكن نيتشه يلوذ به فريق من المخلصين له ولأنفسهم، يهوون صرامته ويحبون استقامته وخلقه كله. وفي اعتقادي أن هؤلاء لم يكونوا مخدوعين بإعجابهم به وإخلاصهم له، وقد علموا أنه - ليس عن صرامة قلبه ولا معرفته للألم معرفة خاطئة - قد غدا صارماً قاسياً على الإنسانية المتألمة؛ وحياته كلها مشحونة بالحوادث البالغة والمصائب الكبيرة؛ وحظه السيئ الفاجع قضى عليه بأن يكون صادفاً عن الإشفاق على ضعف الإنسانية وفاقتها. إنهم ليقفون بخشوع وجلال إزاء الجبار الذي لم يخضع للذل ولم يلعن الوجود، برغم مرضه العضال. وظل على غبطته ورضاه في الحالة التي كان يصارع فيها الموت والجنون دون أن ينفذ إليه الوهن والضعف، متمماً أنشودته المؤثرة في تمجيد الحياة الفنية الفياضة المخصبة، مناضلاً حتى النهاية - الألم الذي غلب على عقله ولم يستطع أن يقهر إرادته الواعية
لماذا أكرمت نيتشه؟ وما الفائدة التي يجنيها العقل العربي منه؟
حقاً إن بيني وبين نيتشه أسباباً لا أظن انقطاعها يسيراً؛ وقد اختلفت إليه ليالي كثيرة وليس بيني وبين نبيه فاصل. أبثه من روحي ويبثني من روحه. نتألم معاً من الحياة ونرقص لها ابتهاجاً. ولا أدري علة هذا الترابط ومن يستطيع أن يحفظ على التحقيق كل سبب يربط بينه وبين مفكر ما؟ أليست هناك أسباب مختلفة قد تتآلف وقد تتخالف، فتمزج هذا المفكر مع عقلك وقلبك، أو لا تزيدك منه إلا نفوراً؟ وما عسى يكون سر تعلقي بنيتشه إلا سر تعلقي بالحياة؟ كانت الحياة عندي ظلمة حالكة فغمرها نيتشه بفجره. كانت الحياة شكا مراً وقلقاً مستحوذاً عليّ فبدل شكي بايمان، وقلقي بعزيمة لا تتقلقل. كان سفيني مضطربا في خوض لحج الحياة، تهم يد الضلال بافتراسه، فاستنقذه نيتشه وساقه إلى منارة النجاة!
ذلك فضل نيتشه علي، وأعظم بهذا الفضل! وكيف يريد أولئك الذين لاموني على انكبابي على نيتشه أن أصدف عنه؟ وإنني لواجد فيه علامة من العلامات الواضحة التي تنصبها الحياة للظالين عن مناهجها؛ فنيتشه هو علامة فيض الحياة المتفجرة والإرادة الصارمة. ولعل أولئك السقماء الذين أتوه فروا من مباضعه القاسية وتعاليمه العنيفة لأنهم يريدون علاجاً يبعث في أعضائهم المشلولة الدفء والسكينة، وهو إنما يريد أعضاء تبارك الحياة بالعزم والحركة. إنه قد أحرق العلاجات المخدرة للأوجاع قبل أن يقدموا. فإن كنت صابراً على احتمال قسوته فتعال إلى نيتشه
إن نيتشه ليس بمفتقر إلى جثث - خالية من الإحساس - يحملها على ظهره، وإنما هو يريد رفاقاً أحباء هدامين مثله، قد ادّرعوا الإرادة وصافحوا الألم رفيقاً لا سيداً يقتحمون بإرادتهم وصرامتهم كل شيء كالسيل الجارف؛ لا يصدهم عن غرضهم صاد، ولا يقف سيرهم حاجز؛ يثبون فوق القمم وثباً لا يزحفون زحفاً؛ في نفوسهم عقيدة تفيض حماسة وقوة، يفرضونها على الزمان ولا يجد الزمان إلى إضعافها سبيلا. هؤلاء الرفاق الأشداء يستطيعون أن يمشوا مع نيتشه، ويمجدوا الحياة في كل أدوارها، ويحلقوا فوق آلام الحياة وأفراحها
أن كاتب (فلسفة نيتشة) بالفرنسية يرى في اقتحام نيتشة لبلاده نعمة، لأنه لا يرى في مظاهرها الاجتماعية ما يدل على فيض وحماسة في الناحية المادية والخلقية. وإن نيتشه ليبعث هذا الفيض وبخلق هذه الحماسة في الناحيتين. فإذا كانت فرنسا الحية تفتقر إلى من
يفيض على حياتها حياة، فكيف بشعوبنا التي قتلها التخاذل بينها!
توجه أنى شئت؛ فهل أنت واجد معي إلا قطعاناً هائمة على وجوهها، ورعاة غافلين همهم صفو السمر، وأواصر مقطوعة، وتقاليد حامدة، يتغنى بها القوم حين يريدون الرقص والغناء، وشباباً مخنثين تناسوا رجولتهم، وأهملوا رسالتهم؛ كأنما تلك الراحة الطويلة العريضة قد أورثت أعضائنا الشلل، فإذا وثبت فيها الحياة لم تقدر على الحركة. وارم بطرفك أنى شئت فإنك واجد هذا الموت الاجتماعي وجمود الفكر
وكأنا لم يرض فينا يريب الد
…
هر حتى أعانه من أعاننا
فأصبح تفكيرنا رياء، والتظاهر بالتقاليد رياء، وهل كان الرياء إلا ثوباً من أثواب الضعف والعجز ترتديه أمة رضيت لنفسها أن تهوي بدلاً من أن تصعد، وإن إغفال علماء الاجتماع عندنا لهذه الظاهرة الخلقية إغفال فيه جناية لا تغتفر. يجلس مفكرنا في جماعة فيفصل لفكره عشرين وجهاً، يأتيهم بوجه ويعرض عنهم بما بقي. ويصلي أحدنا عشرين ركعة، يمنح واحدة الله، ويمنح الباقيات للناس؛ وهكذا غلب الرياء علينا في كل مظاهر تفكيرنا وتقاليدنا. وإنني لأخشى يوماً يرسو فيه الرياء في أنفسنا فيغدو متأصلاً فينا حتى يصبح علامة من العلامات الفارقة لهذه الأمة
هذه هي المظاهر التي غاظت نيتشه يوم أعلن الثورة على الضعف والرياء. وليت شعري من سيبغضه الضعف والرياء في مجتمعنا الحاضر، فيعلن الثورة عليهما وعلى المرتدين أرديتهما!
إن العقل العربي عقل قوى بنشأته، صادق بعزته، وهو لا يحتاج إلى من يبث فيه معنى القوة والصرامة لأنه قائم عليهما. ولكن جيلنا الحاضر اعتنق الفكرة العربية مجردة من معنى القوة والصرامة؛ فتشوهت بذلك الرسالة وضاعت معالمها. إن المجتمع العربي يفتقر إلى من يرد عليه هذه الأمانة التي لا يعلم إلا الله سالبها. والمجتمع العربي بعدها غالب عليه الاضطراب والخزي والظلال. فمن يرد عليه أمانته ويعيد إليه صرامته؟
كنت أتلو مواعظ - زرادشت - فأحس أن قوة جديد أخذت تطغى على قلبي، وأشعر باضطراب في نفسي جعلني أومن بأن الحياة لا يعسر عليها أن يخرج منها ألف حياة. ولم لا!؟. كنت أسير معه وهو يهدم خيالات الرياء، ويضرب التقاليد بعضها ببعض، فأطرب
لشجاعه، وأعجب بنفسي وأسألها:(هل كان في استطاعتك أن تطئي هذه الأرض لولا هذا النبي؟)، ولكن طربي لم يكن طرباً خالصاً لأنني كنت أبغي لمثل هذا النبي الهدام أن يقيم بيننا ليلة واحدة، تنفذ عينه خلالها إلى قلوبنا الطافحة غشاً وخباً، وقصورنا ومعابدنا المفعمة كذباً ورياءً، فينظف هذه القلوب ويدمر هذه القصور
أين أراك يا زرادشت العرب؟ ومتى يكون الموعد؟ فقد اصطلح على إيذائنا كل شيء حتى أنفسنا. تمشى الحياة بنا ونحن ذاهلون، ويتباهى الغير برجولته الصارمة ونتباهى نحن بالخنث، ويستيقظ الفكر في موطنهم ونحن نضرب حوله السدود ونقيم له حدود، نفر من الألم لأنه يضنينا، ونستجدي الفرح من غيرنا استجداء؛ يتحرك كل شيء حولنا ونحن لا ترضينا الحركة ولا تستهوينا اليقظة. نقول بالإنسانية ونشفق عليها، وقائلوها لا يملكون من (إنسانيتهم) شيئاً. يحسون آلام غيرهم ولا يحسون آلامهم. يشدد غيرنا روح (الذاتية) عندهم، ونحن نسعى إلى محوها، كأننا نريد أن نمثل دور الشرق الأول يوم كان يفيض إنسانيته على غيره. . . وقد قتلنا هذا الحب المفرط للغير، وقد قتلنا هذا الزهد الخامل. تسامى غيرنا فوقنا فهم يريدون أن يعرفوا أنفسهم بعد أن وجدوها، ونحن تائهون لما نعثر على أنفسنا
تعال أيها النبي أينما كنت، فهنا كثيرون ممن يرتقبون أوبتك. واحمل مباضعك وائت بنفسك وقلبك وأيقظ أفكارنا وبث فينا الحياة. أعطنا الحياة وخذ منا فديتها. أتريد منا أن نتألم؟ إننا نتألم ونحتمل الشقاء في سبيل الحياة. شدد شعورنا بالحياة وزدنا إيماناً بها. اهدنا إلى أنفسنا وحببنا فيها فقد علمونا أن نمقتها. تعال استأصل جذور الضعف فينا والذل فقد أكلت أنفسنا الاحشاشات. . . تعال ولا تعطنا شيئاً إلا ما نؤدي ثمنه، فقد أدركنا أن كل ما يُعطى ويوهب رحمة يضر بآخذه. تعال يا إرادة القوة والصرامة، فكثيرون هنا يرتقبون وصولك. . . والطريق ممهد، والغاية دانية القطوف
(انتهى)
(دير الزور)
خليل هنداوي.
القصص
مأساة من اسخيلوس
ثار اورست
الدرامة الثانية من (الأورستية)
للأستاذ درينى خشبه
خلاصة الدرامة الأولى
(قدم أجاممنون، ملك آرجوس وقائد الحملة الهيلانية على طروادة، ابنته إفجينا قرباناً للسماء لتسكن العاصفة وليمخر أسطوله عباب الماء؛ فاحزن زوجته كليتمنسترا، وأم الفتاة لا تفكر إلا في ابنتها، وزادتها وحدتها في قصر البلوبيديه وحشة، وجعلت من حياتها قفراً مظلماً حتى اتصلت بابجستوس ابن عم أجاممنون الذي ذبحت اخوته وأطعم أبوهم لحمهم وهو لا يدري، ثم قتل هو أيضاً، وكل ذلك بتدبير أتريوس أبي أجاممنون. . . وهنا تجتمع الأحن وتتضافر الأحقاد، ثم تنقلب العلاقة إلى حب فعشق دنئ. . . فتآمر على قتل أجاممنون حين يعود من طروادة. . . ويعود أجاممنون ظافرا وتكون معه كاسندرا ابنة بريام ملك طروادة التي تتنبأ بمقتل الملك، وبمقتلها أيضاً بيد الملكة زوجها وبتدبير ايجستوس. . . وتخدع الملكة زوجها فيمشي على بساط الديباج الأحمر فتغضب الآلهة، لأن المشي على الديباج حق خالص من حقوقها. . ويقتل الملك وتقتل كاسندرا في أثره. . . ويستوي ايجستوس على عرش آبائه مشتركا مع كليتمنسترا في حكم آرجوس رغم سخط الشعب ولعنات الجماهير. . .)
- 1 -
قتل أجاممنون!
وخلص العرش لأيجستوس ولعشيقته الملكة الفاجرة ، كليتمنسترا. ولكنه كان عرشاً شائكاً، ظاهره فيه الرحمة، وباطنه فيه اللعنة الأبدية، وسخط الأرباب وبغض العباد. . .
وكانت الأم الآثمة قد أبغضت كل ما يثير في قلبها ذكرى أجاممنون. . . وكيف لا تبغضه
وها هي ذي حياتها تنقلب فتكون لذاذة خالصة، وهوى مجرماً، وغراماً تخامره شهوة التشفي، وتختلط بغمراته حمى الانتقام! إذن هي تبغضه، وهي تغلو في بغضه لأن عيونها في طروادة حملت إليها ما كان من غرامه الشديد بخريسيز إحدى سبايا الحرب، ثم ولعه الفائق بأختها بريسيز التي خاصم فيها أخيل؛ ولم يبال أن يهجر الميرميدون حلبة إليوم من أجلها. ولم يكن يحسبه هاتين، بل عاد من حومة الحرب فاقتحم القصر العتيق الشاهق بعربته المطهمة، وإلى جانبه خليلة ثالثة من خليلاته الكثيرات، هي هذه النبية المباركة البائسة. . . كاسندرا، ابنة بريام، وحميمة أبوللو في الزمن القديم!
أبغضته كليتمنسترا إذن، وأبغضت كل ما يثير ذكرياته في فؤادها. . . ولو كان أبناؤها الذين حملت بهم من صلبه! وهي تقسو وتقسو، وتغلو في قسوتها، حتى لتأمر بابنها الواحد أورست، وكان حدثاً لا يعرف من الدنيا إلا أن نصفها أبوه. . . ونصفها الآخر أمه. . . فيُنفى إلى أقصى الأرض، وليكون بمعزل عن هذه الحاشية الموبوءة التي قد تثير فيه نخوة الرجولة حين يشتد عوده وينضج قلبه، فلا يكون له هم إلا الأخذ بثأر أبيه، والفتك بقاتليه. . .
- 2 -
أما اخته، أما الِكْترَا، فقد بقيت في القصر لتشهد الفصل الأخير من المأساة. . . أو لتشهد كل الفصول الدامية التي تتركب منها المأساة! لقد بقيت على كره منها لنعيش عيشة الرقيق، وتحيا حياة الخدم، ولترى إلى أمها تتقلب بين ذراعي عاشقها وملء حضنه، ولتنعم على خرائب أسرة الأترديه، ولتبني على أنقاضها القصور والعلالي!
بقيت إلكترا لتبكي دائماً. . . ولتبكي دماً! يا للعذارى!! لقد كانت في ملاعب شبابها تحلم بمُلكٍ وبتاجٍ وبشعب يسجد تحت قدميها، وهي اليوم تتشهى الموت فلا تجد إليه سبيل!! لقد كانت بالأمس تمرح بين قلبين يغمرانها بالحب، وأبوين يلقيانها بالبشاشة، وهي اليوم لا عزاء لها إلا وقفة باكية بقبر أبيها المقتول، ووقفة تتصدع لها جوانب نفسها عند مخدع أمها العاشقة. . . الفاسقة. . . وهل في إحدى الوقفتين عزاء؟!
بقيت الكترا ترقب رسول السماء الذي يأخذ بثار أبيها،، وبقيت لتكون رائد هذا الرسول يوم يجيء. ولم يكن لها من ولي ولا حبيب في هذا القصر الشاهق العتيق إلا هذه العجوز
الشمطاء الطيبة، مرضعة أورست، التي بكت أحر البكاء وآلمه وأوجعه يوم أخذوا منها ولدها - كما كانت تدعوه - ليُنفى في أقصى الأرض
لقد كانت هذه العجوز الشمطاء امرأة ثاقبة الفكر، رحبة الصدر، شديدة الإيمان في السماء! فكانت تواسي الكترا وتأسو جراحاتها، وتمنيها الأماني، وتزخرف لها الأمل، وتذكر لها أن عين سيد الأولمب الساهرة لن تغفل عن لؤماء قصر آل (بيلوبيديه) وإنها ترعى فتى القصر في منفاه، حتى إذا آنست فيه استواء أرسلته كالصاعقة على المجرمين؛ فنقض بنيانهم، وزلزل أركانهم، وانتقم لأجاممنون!
وكان قاهر طروادة قد جلب معه غير كاسندرا عدداً وافراً من السبايا الطرواديات، فاستطاعت المرضعة العاقلة، المحنكة، أن تجعل منهن جندا لها، وحاشية مخلصة لفتاتها المعذبة، يخففن من برحائها، ويكن لها أهلاً كلما عزها الأهل
ومضت سنوات عشر فسقطت طروادة
ومضت سنوات عشر بعد مقتل أجاممنون
واشتد ساعد أورست، وعاد ليبطش بالقتلة السفاكين وبدأت المأساة الثانية
- 3 -
لمن هذه الأشباح السادرة التي تهرول بين المقابر مُهطِعة إلى رمس أجاممنون؟
إنها تختلط بغبشة السباح وتمتزج صُعداؤها بأنفاسه، وإنها لتضمر في قلوبها لظى ينعكس في ذاك الشفق الذي يضطرم به الشرق. . . حيث يسبح البنفسج في حمرة الدم!!
آه! أنه شاب غرانق، سمهري، مجلل بالسواد يجثو فوق الثرى. . . يبكي ويصلي!! وإن بالقرب منه لصديقاً ينتظره. . . ويذرف دموعه من أجله. . . فيا للمودة في الرزء، ويا للإخلاص في الشدائد!! اسمع إلى الشاب المحزون: يخاطب تمثال هرمز النصفي المنتصب فوق القبور، ثم يكلم من بالقبور:
- (يا هرمز اللطيف، يا إله الأرواح وحاديها إلى هيدز، أيها الساهر على هذه المقبرة وعلى كل مقبرة. . . العوْن العوْن!)
ويضع خصلتين من الشعر على قبر أبيه، ويقول: (هأنذا أضع خصلة من الشعر هنا تحية لأيناخوس الذي رويت بمائه، وترعرعت على شطئانه. . . وأخرى تحية للموتى. . . يا
رحمتا لك يا أبي! هكذا شاءت قسوة المقادير ألا أكون قريباً منك فأذرف عبرتي الطاهرة فوق ثراك، وأروي الصفاح المركوم فوق جثمانك بالغيث الغزير الذي أرسلته من أجلك في دار غربتي!)
- 4 -
ويقلّب وجهه في بنفسج الشرق المموّه بالقرمز، فيلمح نسوة يتعثرن في سبيلهن بين المقابر، ميممات شطر قبر أبيه! فيوجس في نفسه خيفة، ويحسب أن جديداً من نكد الحياة قد ألم بالبقية الباقية من دم أجاممنون في الـ (بيلوبيديه!)
ولكنه سرعان ما يعرف بينهن أخته! أخته بعينها! هي! هي الكتر! وهي تحمل كالأخريات زِقاً صغيراً وتقبل قُدُماً إلى المقبرة. . .
- (لم أقبلن إذن في هذه البكرة المقرورة؟ يا لله! العون يا سيد الأولمب! صديقي بيلاديز! هلم نختبئ لنرى!)
ويختبئ أورست وصديقه بيلاديز، وتقبل النسوة في إثر الكترا الواهية التي حطم قلبها الحزن، وأوهن جسمها الأسى. . . ويأخذن في نشيد باك يتفجر في موسيقاه الدم. . . ويمتزج شجوه بالدموع. . . ويشرن إلى القبور وبينها هذا القبر، ثم يتلفتن فيرين القصور النائية وفوقها هذا القصر!. . . فيرثين لآرجوس ويرثين للفتاة المحزونة الواقفة بينهن. . . ويصلن ترنيمتهن. . . فيذكرن نأيهن الذي شط واستطال عن الأوطان ويذكرن هذه الشباك المحكمة من الجواسيس والعسس المنشرة فوق آرجوس، تلتقط الأبرياء والمظلومين ليروي من دمائهم إيجستوس، ولنجهز من شبابهم النضر ضحايا لفسق الملكة!. . .
وتتكلم الكترا، بعد أن تذرف عبرة أو عبرتين، فتستثير المنشدات فيما أمرتها أمها الآثمة أن تفعل بزقاق الخمر. . . في هذا المكان القفر. . . إلا من الذكريات!
- (إذا صببت قرباني الخمري، فماذا أقول؟ هل أقول (قربانا يا أبي، من زوجتك التي سفكت دمك غير راحمة، نُشْداناً للذة، وحرصاً مجرماً للهوى؟) أم أقول (لتهدئي يا رفات! ولترضيْ بالغدْرة الكبرى التي دبرت لك، فلا تنتفضي تحت أطباق الثرى لترسلي الويل على الظالمين؟)، أم أصبها وألقي الرقاق ثم أنثني كأن ليس بي من ذلك النائم حزن مقيم ووجد دفين!) تكلمن بحق مودتي عليكن، فنحن في الهم شركاء، ولا تحبسن محض النصح
عن فتاتكن، ولا تخشين في البلاط الدنس أحداً، فالأقدار قد شاءت أن تبسط كفها القاسية في هذه المأساة على رقاب السادة وأعناق العبيد، حتى يكونوا سواسية. . .)
- حُبّاً يا أميرة وطواعية. . . إن قبر أبيك يفرض علينا النصح لك)
- (إذن. . .!!)
- (إذن فاضرعي أن يسمع الأصدقاء لصلاتك، وتصغي قلوبهم لتوسلاتك!)
(الأصدقاء؟! أي أصدقاء يعنيهم ما أصلي وما أتوسل؟)
- (أنت، وذلك النائي عن هذا الديار!)
- (من تعنين بحق الآلهة عليكن؟)
- (أورست!! أخاك يا أميرة!! صلي من أجله واظرعي للآلهة أن تسعفك به!)
- (آه! للآهة دَرُّكنَّ إذن!)
- (ثم فكري في هذا الدم المسفوك، وفي أصحابه الأشرار الفجرة!)
- (وكيف؟. . . . . . . . .)
- (قد ترسل الآلهة نقمتها. . .)
- (ولمه! وعلى رأس من؟)
- (على رؤوس المجرمين!)
(ويلاه! المجرمين؟! ومن هم المجرمون؟. . . يا سماء!. . . يا سيد الأولمب! رحماك يا إلهي! اللهم أرع أخي يثأر لأبي. . . من. . . ممن يا عذارى إليوم؟! ممن؟ آه يا روح أبي! رفرفي في سماواتك! وانتفضي في هيدز! وتعالي فأرسلي أورست يثأر لك!)
وتترنم المنشدات، وتأخذ السكترا في صب الخمر
- (يا للآهة! ماذا أجد؟ خصلتان من الشعر؟)
- (خصلتان من الشعر؟ من رأس من يا ترى؟)
وتضع الشعر عند رأسها فيبدو الشبه كبيراً، فتنزعج. . .
- (ماذا بك؟ فيم تمنقعين هكذا؟. . .)
- (إنهما من رأسه!. . . من رأسه هو! من رأس أخي؟)
- (ربما يا أميرة! ولكن! كيف جازف بنفسه في هذه البرية الوحشة؟ من أرسله؟)
وتنظر السكترا حول المقبرة فترى آثار أقدام. . .
- (وما هذا أيضاً؟. . . آثار أقدام!. . . لا ريب إذن! أنها آثاره يا عذارى! ولكن!!. . . إنها آثار رجلين لا رجل واحد!. . . آه. . . قد يكون صديقاً. . . يا سماء!. . .)
ثم يظهر أورست فجأة، ويقول:
- (إذن! قد سمعت السماء صلاتك!
فتنزعج السكترا، وتدهش المنشدات. . .
- (من!! من الرجل؟. . .
- (أنا؟ أنا هو؟. . . أنا من كنت تهتفين باسمه الآن!)
- (أوه! أتخدعنا يا صاح؟ اذهب! وحسبنا ما نحن فيه!)
- (أخدعك؟ إذن اخدع نفسي!
- (سخرية. . . اذهب، اذهب!)
- (سخرية. ز.؟ بمن؟ بى؟. . . اسخر بنفسى؟)
- (أفأنت هو حقاً؟. . .
- (. . .؟؟. . .)
ويبكي أورست!
- (. . .؟ أورست؟ أخي؟)
- (. . . أفي مرية أنت؟ السكترا؟. . . خذي هذا الشعر؟ أيضاً. . . خذي! هاتى رأسك وانظري!. . . . . . ولكن انظري أيضاً! أليس هذا هو الجلباب نفسه الذي خاطته يداك؟ إنه هو. . . اللحمة والسدى!! والصور المطرّزة!. . . لا. . . لا. . . لا يقتلك فرحك! ليس لنا الآن أن نفرح بهذا اللقاء المفاجئ بين يدي ذلك القبر المنفرد! إن لنا لساعة!. . . اكبحي جماحك، وهيمني على فؤادك! فلنا أعداء. . . وهم أقرب الناس إلينا. . .)
- 5 -
ولم يكذب أورست، فلقد كاد الفرح يقتل السكترا؟ إنها لم تره منذ عشرين سنة؟ ثم. . . أليس هو الآن بين يديها بعد طول انتظار. . . وأحلام. . . وأماني؟. . . أولم تكن هذه اللحظة فقط، تصلي للسماء، وتضرع للآلهة، أن ترسل لها أورست؟ اليست السماء قد
صغت، والآلهة قد استجابت؟
لقد كانت أمها رأت في نومها حلماً مزعجاً ممضاً. . . رأت أنها تلد أفعى هائلة، ذات أنياب! وإنها تأخذها فتضمها إلى صدرها. . .! يا للهول! ذات أنياب! وإنها تأخذها فتضمها إلى صدرها. . .! يا للهول! إن الملكة تنتفض من نومها مذهولةً مروعة!. . . وإنها لتذكر أجاممنون فجأة. . . تذكره بعد عشرين سنة! وتذكر أورست المنفي بأمرها في أقصى الأرض! وإنها لتهب من السرير الديباجي الوثير. . . وتنثر ذراعي إيجستوس الجبارتين الملفوفتين حول خصرها!. . . وإنها لتنطلق في القصر مذعورة في أبهائه. . . إلى. . . بهو العبيد والخدم. . . بهو العذارى الطرواديات، حيث تنام إلكترا على فراش من الشوك، تفكر في عشرين سنة مملوءة بالدم. . . مملوءة بالدم. . . مملوءة بالدم. . .
وإن الملكة لتوقظها من أحلامها، وتأمرها، وسائر الطرواديات، فينطلقن إلى المقابر بزقاق الخمر، يسقين الثرى، ويقربن إلى أجاممنون. . . ويرضين روحه الغضبى!!
ولكن، ولكن الصلاة تنقلب، والقربان يصعد إلى السماء فيغضب الآلهة، فترسل أورست، ويتحقق الحلم الأسود. . . . الأفعى! الأفعى ذات الأنياب، يتدفق منها السم الزعاف!!
ويصليان لزيوس صلاة حارة، ويضرعان إليه أن يكون معهما فيما قادمان عليه من ذلك الهول الأكبر. . . فإذا ارتفع صوتهما، وعلا جُؤارُهما، تقدمت رئيسة المنشدات فابتهلت إليهما أن يتكلما همساً - (فقد تسمعكما أُذن شر فيفشل سعيكما وتذهب ريحكما، ولا تقوم لكما قائمة من بعد!) فيطمئنها أورست - (ليفرخ روعك أيتها السيدة الصالحة! فلقد أرسلني أبولو لآخذ بثأر أبي، فإن لم أفعل، فليجمد دمي حتى يكون كالثلج في عروقي! لا بد أن يشربا بالكأس التي أفرغاها في فم هذا الثاوي هنا. . . يتطلع إلى ما يفعل له أبناءه، وآخر أثاره منه في هذه الحياة!)
ويتقدم الفتى والفتاة فيصليان على قبر أبيهما صلاة حارة، ثم يعطيانه موثقاً صادقاً أن يثأرا له، ولو كلفهما الأثآر له هذه الصبابات من الدم التي أبقى عليها الأسى في عروقهما
ويلتمسان منه العون، ويضرعان إلى السماء أن تكون معهما، والى الآلهة أن تسدد خطاهما
(البقية في العدد القادم)
دريني خشبة
البريد الأدبي
وفاة الأستاذ جميل صدقي الزهاوي
كانت أعراض الشيخوخة وأزمات الداء قد أخذت منذ حين تصارع في غير هوادة حيوية القلب الفتي والعصب الشاعر في هيكل الزهاوي، وكان الزهاوي يأبى أن يهادن الزمن الغلاب، فهو حركة فكرية دائبة وجملة عصبية ثائرة، لا يفتر ليله عن الفكر، ولا يكل نهاره من الحديث؛ وحديثه المتصل في قصر الإلهام، وفي دار الدفتري، وفي مقهى (أمين) إذابة لجسمه وإحراق لعصبه، لأنه لا ينفك منفعلاً بشعوره متأثراً بطبعه. وحياة الزهاوي كلها تفكير في قصيدة، أو قراءة في كتاب، أو محاضرة في حديث
ذهب الزهاوي يوم الأحد الماضي متأخراً على غير عادته إلى قهوته المختارة في منعطف شارع خالد بن الوليد ببغداد، وكان أصدقاؤه وتلاميذه وسماره قد تحلقوا حول مقعده الخالي ينتظرون كاهن أبوللو وشاعر الفكر الحديث؛ دخل متوكئاً على ذراع خادمه محمود، وهو يبسم لجلاسه بسمة السراج الفاني والأمل الشاحب؛ ثم شكا بعد شوط من الحديث الممتع ألماً في أعلى كتفه الأيمن عزاه إلى كثرة ما كتب ليلة الأمس، إذ قضى ليله ينظم قصيدة أخرى يحيي بها مصر على لسان الوفد النيابي الذي سيزورها عما قريب؛ ثم اجتزأ بأكل قليل من الكمأة ولم يعد إلى الغداء في البيت، واقترح على صديقه الأستاذ بحري صاحب العقاب أن يذهبا إلى السينما فيشاهد فلماً مصرياً ورد بغداد منذ قريب، ولكن الألم اشتد بَرْحه والقلب زاد وجيبه؛ فأقبل على صديقه وقال بلهجته الخاصة:(يا أفندم! إن هذا الألم يكاد يقضي عليّ، وهذه النوبات العصبية تنهك قواي. . يا أرحم الراحمين أنقذني من هذه الآلام!) ثم رغب أن يعود إلى داره؛ ولم يكد يدخلها حتى أحس بالداء يتسع وبالنفَس يضيق، فدعوا إليه الطبيب حوالي الساعة الرابعة بعد ظهر الأحد ولكنه كان قد فارق الحياة!
ريعت بغداد بالنعي المفاجئ والخبر الأليم، ولملكها الجزع على لسانها الذي أخرسه الردى، وقلبها الذي أسكته القدر، وتقاطر الناس على دار الشاعر الهامد يتقدمهم الوزراء والعلماء والنواب والأعيان والقادة؛ وفي الوقت المحدد للجنازة من ظهر يوم الاثنين خرج النعش محمولا على أكتاف عشرين طالباً من طلاب الفتوة فوضعوه في السيارة، وجلس من خلفها
الشاعران الكبيران رضا الشبيبي ومعروف الرصافي، ومن أمامها اثنان من أقارب الفقيد. فسارت تحيط بها السريتان الأولى والثانية من الفوج الأول، تتقدمها فوق الجوالة وفرق الفتوة للمدارس الثانوية والعالية ودور المعلمين ومع كل فرقة إكليلها، ويمشي وراءها الوزراء الحاليون والسابقون والمديرون العامون وكبار الضباط ووجوه البلاد وجماهير الشعب حتى بلغت الأعظمية فصلوا عليها في مسجد الإمام أبي حنيفة؛ ثم حملتها فرقة من فرق الفتوة إلى مرقدها الأخير في باحة (دار العلوم العربية) على مقربة من ضريح الإمام الأعظم. تغمد الله شاعر العروبة بالرحمة وعزى فيه الأمة العربية خير العزاء
ذلك خبر تلقيناه بالطيارة آخر الوقت فسجلناه عن الرجل الذي مات، أما الزهاوي الصديق الشاعر الفيلسوف، فسنعود إليه ثم نعود
ندوة الزهاوي
روت (البلاد) أن رجال الأدب في بغداد أبدوا رغبتهم الملحة في أن تجعل الحكومة دار الأستاذ الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي (ندوة للأدباء) في بغداد، واقترح أحدهم بأن تقوم الحكومة بشراء هذه الدار وترتيبها وتنسيق أثاثها بما فيها كتب الأستاذ ومخطوطاته ودواوينه على غرار دار (شكسبير) في إنكلترا، ودار (جوته) في ألمانيا، و (فكتور هوجو) في فرنسا؛ وليس ذلك كثيراً على وفاء العراق، ولا غريباً من حكومة الهاشمي
تأبين الزهاوي
كذلك روت الجريدة أن جمهرة من كبار رجالات العاصمة وأدبائها اعتزموا إقامة حفلة تأبينية كبرى لفقيد العربية، وشيخ القريض الزهاوي في يوم أربعينه، وستكون الحفلة تحت إشراف الدولة، وسيدعى لها كبار الأدباء والشعراء في الشرق العربي
أسبوع المتنبي في الجامعة المصرية
حالت الحوائل السياسية المعروفة دون إقامة هذا الأسبوع في الموعد الذي حدد له من قبل، وقد استقر اليوم قرار كلية الآداب على أن يقوم في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية في الساعة السادسة من مساء الأيام الآتية على النحو الآتي:
الثلاثاء 10 مارس: خطبة الافتتاح لساحب السعادة الأستاذ مدير الجامعة، و (المتنبي شاباً)
للدكتور طه حسين
الأربعاء 11 مارس: (سيف الدولة الحمداني) للأستاذ عبد الحميد العبادي، ثم (المتنبي وسيف الدولة) للأستاذ أحمد أمين
الخميس 12 مارس: (كافور الأخشيدي) للدكتور حسن إبراهيم حسن، ثم (المتنبي في مصر) للأستاذ أحمد الشايب
السبت 14 مارس: (المتنبي من خروجه من مصر إلى وفاته) الأستاذ مصطفى السقا، ثم (أسلوب المتنبي) للأستاذ عبد الوهاب حموده
الاثنين 16 مارس: (المتنبي والنحاة) الأستاذ إبراهيم مصطفى، ثم (فلسفة المتنبي) للأستاذ مصطفى عبد الرزاق
الثلاثاء 17 مارس: (مكانة المتنبي في الأدب العربي) للدكتور طه حسين
1 -
قبر أبي عبيدة عامر بن الجراح. 2 - الرقيم
قرأت في الصفحة 376 من المجلد الأول من دائرة المعارف الإسلامية التي يقوم بترجمتها لفيف من شباب مصر الناهض، أن أبا عبيدة عامر بن الجراح توفي بالطاعون عام 18هـ في أمواس وأن قبره بجامع الجراح في دمشق
والراجح أن أبا عبيدة توفي شرق الأردن بالطاعون الذي ينسب إلى عمواس (لا أمواس كما ترجمت خطأ) وعمواس هذه قرية تقع بين القدس ويافا. ولعل وباء الطاعون تفشى فيها أولاً ثم انتشر في جميع البلاد السورية فمات به خلق كثير منهم أمين الأمة ومعاذ بن جبل وضرار بن الأزور وشرحبيل بن حسنه ويزيد بن أبي سفيان. ودفنوا جميعاً في غور الأردن، ولا تزال قبورهم ماثلة للعيان عدا قبر يزيد الذي اندثرت معالمه ولم يبق له أثر
وقد رمم ضريح أبي عبيدة في عهد السلطان بيبرس كما جاء في الكتابة المنقوشة عليه، وهذه صورتها عنها:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(وأمر بإنشاء هذه القبة المباركة على ضريح أبي عبيدة الجراح رضي الله عنه مولانا السلطان الأعظم سيد ملوك العرب والعجم ركن الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين أبو الفتح بيبرس ابن عبد الله قيم أمير المؤمنين خلد الله ملكه ابتغاء مرضاة الله ورسوله مما
وقفه عليه وحبسه من نصف مناصفات دير معل تونين من حمص من عمل حصن الأكراد المحروس تحبيساً مؤبداً دائماً أثاب الله واقفه بجوده وكرمه يوم يجزي الله المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين. وذلك بنظر الأمير الأعز الأجل الكبير نسله ناصر الدين الجامنكلي الظاهري السعدي نائب مملكة عجلون المحروسة في ذي الحجة سنة ستمائة وسبعة وخمسون)
وجاء في الصفحة 243 من المجلد الثاني من دائرة المعارف الإسلامية أيضاً أن الرقيم (قد تكون جهة في شرق الأردن قريبة من عمان)
أقول قد تكون الرقيم هذه قرية الرجيب التي تقع إلى الشرق من عمان على مسافة تسعة كيلومترات منها، لأن البدو كثيراً ما يقلبون القاف جيما والميم باء
ويوجد في هذه القرية مناور عديدة نمت بجوارها أشجار برية قديمة العهد. والسبب في قدمها هو احترام البدو لها وتحريمهم قطعها لاعتقادهم أنها كانت تظلل الكهف الذي نام فيه الفتية المذكورون في القرآن ولبثوا فيه ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا
ويقدس البدو والفلاحون هذه الكهوف كتقديسهم لأي مزار أو مقام
والرقيم من المنازل التي كان يرتادها الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك للهو والصيد، وفيه يقول الشاعر:
أمير المؤمنين إليك نهوى
…
على البخت الصلادم والعجوم
فكم غادرت دونك من جهيض
…
ومن نعل مطرحة جذيم
يزرن على تنائيه يزيداً
…
بأكناف الموقر والرقيم
تهنئه الوفود إذا أتوه
…
بنصر الله والملك العظيم
والموقر المذكور بجانب الرقيم هو قصر أو حصن أموي - ولعله من بناء يزيد - يقع على مقربة من الرقيم (أو الرجيب)
وقد ورد في أحسن التقاسيم للمقدسي أن الرقيم (قرية على فرسخ من عمان على تخوم البادية فيها مغارة، لها بابان صغير وكبير، ويزعمون أن من دخل الكبير لم يمكنه الدخول من الصغير. وفي المغارة ثلاثة قبور تسلسل لنا من أخبارها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما نفر ثلاثة يتماشون إذ أخذهم المطر فمالوا إلى غار في الجبل، فانحطت إلى فم
غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم)
وهذا القول ينطبق تمام الانطباق على ما نشاهده اليوم في قرية الرجيب، وما نسمعه من القصص والأساطير التي تروى عن كهوفها ومغاورها.
عمان
بهاء الدين طوقان
مديرية أسوان
قال الأديب رشوان أحمد في مقاله في العدد الماضي من الرسالة: (إن الملك منوسوفيس (وهو الملك الثاني عشر من ملوك الأسرة السادسة) أرسل القائد هرخف إلى بلاد بنت) ظناً منه أو خطأ في مصدر النقل أن هذه البلاد جنوب صعيد مصر لقوله (وفي عهد الأسرة الثانية عشرة أرسل اسرتسن الأول ثاني ملوك هذه الأسرة القائد هرنو بطريق قفط والقصير لجباية الجزية. . .)
أما هجرة المصريين في عهد قلاقل الأسرة الخامسة عشرة فقد كانت إلى نبتة أو نباطي وهي عاصمة بلاد النوبة لا أثيوبيا، ولم تكن مملكة أثيوبيا مجاورة للملكة المصرية إلا بعد غزوة ملوك مصر للنوبة والكوش، وقد غزا بعنخي ملك النوبة مصر أيام حكومة الآشوريين، وهذه الغزوة هي التي يخطئ فيها بعض المؤرخين فيسمونها غزوة الزنوج لمصر
وقد ذكر أن (رمسيس غزا بلاد أثيوبيا وأقام هيكلاً عند كلايشة) ولكن المعروف أن رمسيس الثاني غزا النوبة وسطر حروبه وانتصاراته على معبد أبي سمبل، وأما كلايشة وهيكلها المسمى بيت الوالي (لا بيت الولي) فيقال أن الهيكل من عمل اسرتسن الثاني.
ولم تكن كلايشة وأبو سمبل تابعيتين لأثيوبيا ولا لكوش في وقت ما، وما زالتا من القرى النوبية، وهما اليوم من أعمال مركز الدر، فكلايشة في أقصى الشمال وأبو سمبل في أقصى الجنوب
والكاتب جغرافي ولكنه لم يلتفت إلى تقسيم وادي النيل في كلامه التاريخي، فالمعروف جغرافياً أن مصر جنوبها النوبة، وجنوب النوبة السودان، وفي الجنوب الشرقي من
السودان أثيوبيا أو الحبشة كما تسمى الآن
ولم يذكر غزوة علي بابا ملك النوبة أيام عنبسة آخر ولاة العباسيين لمصر واستيلائه على صعيد مصر، وأما الفنج فقد كان عاصمة ملكهم في سنار (لا في سناد) وقد تكونت مملكة الفنج في حوض النيل الأزرق واستولت على جزء من أثيوبيا، والجزء الجنوبي من النوبة
أما الحكومة الكشاف التي بدأت في بلاد النوبة تعد فتح السلطان سليم، فقد كان الحكام من الأتراك؛ وأول من تولى حكم النوبة وخاصة الإقليم الممتد من الشلال الأول حتى آخر مديرية دنقلة كان ألبانياً يدعى حسن قوسه وهو رأس أسرة الكشاف الحالية بمركز الدر، ولم يتعرض محمد علي باشا لأحفاده في حكمهم عند غزوته للسودان، لأن الحاكم قدم له فروض التابعية وساعده على نقل الجيوش إلى السودان، وقد رضى بتقديم الضرائب لوالي مصر على أن يعفي أبناء الإقليم من الجندية، وكان ذلك حتى اليوم، ولكن نفوذ الحكام أخذ يتلاشى إلى أن قضى على سلطة الكاشف الروحية في أواخر أيام توفيق باشا. أما معاهدة 1899 فتنص على أن حدود نصر هي (فرس) جنوب حلفا بقليل، وما فرس إلا جزيرة في عرض النهر، ولكن الإنجليز وضعوا حدهم أمام فرس على ضفتي النيل الشرقية والغربية مع أن هذا الحد ليس بفاصل طبيعي
يوسف سميع