الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 14
- بتاريخ: 01 - 08 - 1933
شروح وحواشي
ذكرى حافظ:
عجبت لهذا البؤس العنيف الملح كيف لازم حافظاً في عمره الأول ثم أبى ذكراه أن يفارق في عمره الثاني!!
قطع هذا البؤس مع الشاعر مراحل عمره الفاني جميعا فترك حياته المضطربة من غير منارة ولا مرفأ وداره الموحشة من غير ولد ولا زوج، واسمه النابه من غير جاه ولا مجد، وقلبه الشاعر من غير عزاء ولا أمل، ثم فرق بينهما الموت فانقلب حردان يعبث بما خلف الشاعر في الدنيا وفي الناس من أثر وذكرى، فتنكر الحكومة حافظا لأن من أسماء البؤس السياسة، وتهمل الخاصة حافظا لأن من أسماء البؤس النكران، ويغفل الشعب حافظا لأن من أسماء البؤس النسيان، وتثور الحفيظة من هذا الجحود بأصدقاء حافظ فيعتزمون إقامة حفل وتأليف كتاب وتشييد ضريح، ولكن البؤس المغيظ يطوف على أولئك الأصدقاء في دورهم، فيقول لأغنيائهم: امسكوا عن البذل، ولأدبائهم: امسكوا عن الكتابة، فحسب كل امرئ ما تباكره به الصروف كل يوم من هموم ومغارم! ويذكر الشباب الذين طالما هدهد الشاعر عواطفهم بأغانيه، وخلد مواقفهم بقوافيه، أن يوم الذكرى يقع في الحادي والعشرين من شهر يوليو. فيريدون أن يكفروا اليوم عن تقصير الأمس، فيقرر (اتحاد الجامعة المصرية) إقامة حفلة تأبينية، ثم يعلن عن مكانها وزمانها في الصحف، ويتقدم إلى الأدباء والوجهاء بالدعوة، ويعد الأستاذ (البشري) كلمته فيمن أعد، ثم يقبل من ظاهر القاهرة إلى نادي الاتحاد فلا يجد غير البواب يتحدث إلى نفر من زملائه، عن تعويض الحكومة للنوبيين وموعد أدائه! فيعجب الأستاذ ويغضب، ويستمر عجبه وغضبه يومين حتى يقرأ في بعض الصحف أن اتحاد الجامعة قد رأى تأجيل الحفلة إلى الأسبوع الأول من نوفمبر لتكون حفلة جامعية يشترك فيها أساتذة الجامعة وأقطاب الأدب. . . وأعجب من عجب الأستاذ ألاّ يخطر هذا السبب الخفيف ببال الاتحاد، إلا بعد إعلان الحفلة وتحديد الميعاد!! بؤسا لك يا بؤس حافظ!! لقد أسرفت في العبث حتى اتهم الوفاء، وتظنن البعداء وتردد على السنة الناس قول صاحبك:
فما أنت يا مصر دار الأديب
…
وما أنتِ بالبلد الطيب
على أن حافظا وقد فرض على أدب العصر سلطانه، وأجرى على لسان الدهر بيانه، وكتب في ثبت الخالدين أسمه لا يضره بعد ذلك نكران المنكر، ولا ينفعه عرفان العارف!
جاد الله بالرحمة ثراه، كلما تجددت في النفوس ذكراه، وجزى بالخير (أبولو) فقد كان عددها الخاص بالذكرى أخلص تحية صعدت إلى هذه النفس الكريمة، من هذه الدنيا اللئيمة!
تعليق على تعليق:
روى صاحب التعليقات في (البلاغ) أن أديبا مصريا علل شيوع الألفاظ (الجنسية) في أدب الدولة العباسية، بأن العربي لكثرة ما خالط الإبل والخيل والحمير فقد طبيعة الحياء، فأصبح يقول ما يشاء ويفعل ما يشاء! ولو صح هذا التعليل المضحك لكان الأدب الأموي أمعن في المجون والأدب الجاهلي أدخل في الإباحية لصلتهما الوثيقة بحياة البداوة، وهما على النقيض من ذلك أعف الآداب العالمية، وأكثرها استعمالا للأساليب الرمزية. ثم كان من رأي الأستاذ المعلق أن السبب في ذلك إنما يلتمس في طغيان الحضارة لأن الكتاب الإنجليز مثلا لا يتحرجون اليوم أن يذكروا ما كان يتحرج منه بشار وأبو نؤاس بالأمس. والواقع أن فحش المجون في الأدب العربي لم ينبت في أصله ولم يأته من أهله، فإن شعراء المجون لم يكونوا بديا من العرب، وإنما كانوا من الموالي الذين أساءوا خلق الأمراء بالعدوى. وأفسدوا أدب الشعراء بالقدوة، وأكثر الأشعار المجونية إنما كان ينشد في المجالس الخاصة، ويروى على الألسنة الخاصة ويدون في الكتب الخاصة. فلو كان أولئك الأدباء يكتبون للنشر ويؤلفون للجمهور كما نفعل اليوم لطووا في نفوسهم أكثر ما نشروا. ولا تجد اليوم أديبا من الأدباء، إلا وله مثل هذه الأشياء، ولكنه يقصره على خاصته فلا يعلنها في الناس ولا يدونها في الكتب.
كوبري الخديوي إسماعيل:
كذلك كتبت الحكومة بخط الثلث الجميل على مدخل الجسر الجديد بقصر النيل، فهيأت للعابر المفكر موضوعا للتفكير يقطع به طول الجسر في راحة ولذة:
بماذا نعلل بقايا الألفاظ التركية في دواوين الحكومة المصرية، ولم يعد لأمتنا بالتركِ صلة
ولا للغتنا بالدخيل حاجة؟
منذ سنوات تخلص الترك من العرب وقد كانوا خاضعين لسلطانهم الأدبي فرأوا من الغضاضة على استقلالهم أن يظل لسانهم خاضعا للساننا، وأدبهم تابعا لأدبنا، فأخذوا يحررون التركية من الألفاظ العربية (وهي معظمها) ويستبدلون بها ألفاظا تركية خالصة أو إفرنجية مشوبة ثم ترجموا القرآن وتركوا الأذان. وأعجموا الصلاة، وفرضوا التركية فرضا على الأجانب في المدارس والمصارف والأسواق. ومنذ سنوات تخلص العراقيون من الترك (وقد كانوا خاضعين لسلطانهم السياسي) فكان أول ما عملوه أن طهروا العربية من شوائب التركية في الدواوين والقوانين والمدارس والجيش. واستبدلوا بهذه الألفاظ الدخيلة على أصالتها وكثرتها ألفاظا عربية صريحة.
ومنذ قرن ونيف تخلصت مصر من الترك ولكنك ما تزال تسمع في البيوت تيزا وأبلة وأبيه وإنشته، وفي المدارس قلفة وطابور ويمكخانة وبحيث جزيرة، وفي الدواوين ألفاظا وأساليب ليس إلى حصرها من سبيل وأما في الجيش فأسماء رتبة وفرقه وعتاده ومصطلحاته وإيعازا ته كلها تركية فبماذا نعلل هذا؟ تعليل ذلك فيما أظن أن الأمة المصرية من أشد الأمم الشرقية إحتفاظا بالقديم، وتسليما بالواقع، ورضا بالحاضر مع ما قد يكون في ذلك كله من شر فليس من طبعها ذلك القلق السامي الذي يدفع النفوس إلى التجدد ويحفز الأمم إلى التقدم ويربأ بالإنسان أن يقنع من حياته بالنصيب الأخس، وتقدم الأمم على هذه الحال في سبيل الكمال عسيرا أو بطيء.
رفقا بالقوارير يا أبا السامي!
نشرنا في عددنا الأخير رأيا للآنسة عفيفة في (أوراق الورد) للأستاذ الرافعي، ورأت الرسالة مؤاتاة الفرصة ليمتع الأستاذ قراءها بفصل من فصوله الرائعة فتركت له الكلمة وتفضل الأستاذ فكتب. ولكنه حين وضع يده على الدواة ليتناول القلم الذي كتب به (أوراق الورد) أخطأ فتناول القلم الذي كتب به (على السفود). لحظنا هذا السهو حين قرأنا هذه الكلمة فطويناها معتقدين إن الكاتب الكبير سيتبعها كلمة أخرى تكون منها مكان (بدل الغلط)، تشاركها في الإعراب وتنفرد دونها بالصواب.
أحمد حسن الزيات
لغو الصيف
للدكتور طه حسين
سمعت طرقا خفيفا فرفعت رأسها وصوتها آذنة بالدخول، ومدت عينها إلى الباب فلما فتح لم يرعها إلا صديقها الأديب يسعى إليها مشرق الوجه باسم الثغر مبسوط اليد مرتبكا مع ذلك شديد الحياء. قالت وقد غشي وجهها احمرار رقيق زاده جمالا وحبا إلى النفوس، مصدره الدهش لهذا المقدم غير المنتظر، أو مصدره زيه المهمل وثوبها الذي لبسته لنفسها لا للناس ولم تكن تقدر إن الطارق أحد غير الخادم التي تعودت ان تطرق عليها الباب في رفق إذا كانت الساعة الخامسة من كل يوم لتحمل إليها الشاي، فلما رأت صديقها ارتاعت لمرآه، وقالت في دهش وخجل واضطراب:(أنت من أين أقبلت؟ انجمت من الأرض أم هبطت من السماء؟) قال ولم يكن اقل منها ارتباكا واضطرابا: نعم أنا أقبلت من حيث تريدين ولكن لي إليك حاجة يا آنسة أعرضها عليكِ قبل التحية، وأتمنى لو تجيبينني إليها قبل السؤال والجواب، فسيكون السؤال طويلا دقيقا، وسيكون الجواب ملتويا مرتبكاً، ولكن حاجتي يسيرة فاسمعيها مني واقضيها لي، ثم لنأخذ بعد ذلك فيما تحبين، قالت وقد أخذت تثوب إلى نفسها وإلى ثوبها: من أين أقبلت؟ وكيف أراك في نيس وقد تركتك في القاهرة على انك ستقضي فيها الصيف؟ قال ثقي يا آنسة إني قد سمعت سؤالك ووعيته ووعيت ما يحيط به من عجب وإنكار أني سأجيب وسأحاول أن أزيل هذا العجب وأمحو هذا الإنكار ولكن حاجتي اسمعيها واقضيها قبل كل شئ. قالت لا قبل أن نجلس، ثم عادت إلى كرسيها وقد حولته شيئا عن المائدة وأشارت إليه أن اتخذ هذا الكرسي وأخذت تجمع صحفاً كانت منثورة على المائدة، ثم قالت مبتسمة: وما عسى أن تكون هذه الحاجة التي تقدمها بين يدي تحيتك، وقد بعد العهد بينك وبيني والتقينا من وراء البحر، فقد تركتك منذ أسبوعين، قال بل منذ عشرة أيام إن لم أخطئ الإحصاء، فقد زرتك قبيل السفر. . . فقطعت عليه الحديث قائلة نعم، قد ذكرت فهات حاجتك فإني لم أتعود أن انتظر تحيتك وعبثك كل هذا الوقت الطويل؛ قال حاجتي يسيرة وهي إلا تلومني ربة الدار، فقد مكرت بها واحتلت عليها، وما زلت أخدعها عنك وعني حتى تركتني أطرق الباب وأدخل عليك في غير استئذان سابق. فأغرقت في الضحك حتى استلقت إلى كرسيها وهي تقول: إنها لحاجة عسيرة، لست أدري
كيف أقدر على إرضائها وقد أذنت لك فيما كنت تريد وطرقت الباب وفاجأتني بغير إذن سابق مني بذلك، وفيم كان كل هذا المكر، وفيم كان كل هذا الاحتيال؟ ومتى استباح أمثالك أن يفاجئوا أمثالي على هذا النحو، وفي مثل هذا الوقت من النهار؟ هنالك اشتد ارتباكه حتى بلغ الاضطراب أو كاد يبلغه، فلم يكن يقدر أنها ستلقاه هذا اللقاء ولا إنها ستنكر هذه المفاجأة، ولعله كان يظن بل كان يوقن أن سرورها بلقائه سيكون أشد من حاجتها إلى الاستطلاع، وسيكون أشد من إنكارها بهذه المفاجأة فلما رأى منها هذا الإلحاح في السؤال والتشدد في النكير فقد ما كان يملك من الأسباب، واختلط عليه الأمر فلم يدرِ ماذا يصنع ولم يعرف كيف يقول. ولو انه كان على شئ من البصر بصاحبته والعلم بدخيلة نفسها لرأى انه لم يكن مخطئاً حين قدر أنها ستبتهج بلقائه ولكنه كان شديد الذكاء قوي الفطنة واسع الحيلة ما بعد عن النساء وعن صاحبته هذه خاصة، فإذا لقي واحدة منهن أو لقي صاحبته هذه فهو رجل ساذج أول الأمر، لا حظ له من ذكاء ولا من فطنة، ولا قدرة له على ثبات أو فهم، حتى إذا اتصل الحديث وتنوع استرد ملكاته قليلا حتى يعود كدأبه في الحياة العادية، ذكي القلب قوي الفطنة متصرفا في ألوان الحديث. فلما رأت ارتباكه واختلاط الأمر عليه واضطراب لسانه في فمه دون أن يبلغ الإفصاح عما كان يريد، رقت له وأخرجته من حيرته بإجابته إلى ما كان يريد وإعلانها إليه إنها لن تلوم صاحبة الدار ولن تظهر لها سخطا ولا إنكارا.
ثم قالت: والآن حدثني من أين أقبلت وكيف أراك هنا اليوم، وقد تركتك في القاهرة منذ عشرة أيام؟ أنجمت من الأرض أم نزلت من السماء؟ قال إن عشرة أيام تكفي لقطع الأمد من القاهرة إلى الإسكندرية ولعبور البحر إلى مرسيليا (وطولون) ولبلوغ مدينة نيس حيث تقيمين قبل أن تستأنفي السفر إلى تلك المدينة الصغيرة الجامعية من مدن فرنسا الوسطى لتسمعي دروس الصيف. قالت فأني لا اشك أن عشرة أيام تكفي لهذا كله ولا اكثر من هذا كله ولكن تركتك في القاهرة غضبان أسفا لأنك ستقضي الصيف حيث لم تكن تعودت أن تقضيه، ولعلك تذكر انك كنت تحسدني وتسرف في الحسد على هذه الرحلة الجامعية التي كنت أزمعتها ولعلك تذكر انك ما زلت تصور لي حزنك ويأسك حتى رحمتك وأشفقت عليك، فكيف استطعت أن تفارق القاهرة وترحل عن مصر تظفر بزيارة باريس؟ فأنت
ذاهب إلى باريس من غير شك، قال نعم أنا ذاهب إلى باريس، وماذا تكون فرنسا بدون باريس وبدون الحي اللاتيني ومونبارناس ومونمارتر؟ وقد زعموا أن الحركة الأدبية والفنية قد أخذت تنتقل الآن من مونبارناس إلى. . . قالت حسبك قد علمت هذا كله وعرفت رأيك فيه وسنعود إليه ولكن كيف تركت القاهرة؟ وكيف أتيت إلى باريس؟ قال وأي شئ أيسر من ذلك يا آنسة؟ إنما يستغرب هذا من رجل كانت تمسكه الأزمة في مصر ويعجز أجر السفينة أو نفقات الإقامة في فرنسا، فهذا الرجل إذا أتيح له السفر بعد امتناعه عليه يمكن أن يسأل أنّى لك هذا في مثل هذه الأيام الشداد. فأما إذا كان الذي يحول بين الرجل وبين السفر إرادة وزير من الوزراء أو عناد رئيس من الرؤساء فما أيسر أن يريد الوزير وقد كان لا يريد، وما أسهل أن يلين الرئيس وقد كان متأبيا عنيدا، وهذه قصتي فما زلت برئيسي حتى رق لي وما زلت بوزيري حتى عطف عليّْ. قالت صنع الله للرئيس وللوزير معا فلولا ظرف أحدهما وعطف الآخر لما أتيح لك أن ترى باريس.
قال بل لما أتيح لي أن أسعد بلقائك في نيس وأن اسعد باصطحابك ساعة أو ساعات على ساحل البحر، هذا الساحل الجميل الهادئ القوي معا حيث نستطيع أن نرى البحر والجبل وقد دنا كلاهما من صاحبه في مودة وألفة وحيث نستطيع أن نرى الطبيعة الحرة القوية والحضارة البديعة المترفة وهذه القصور الشاهقة تشرف على البحر وتشرف عليها الجبال، وحيث نستطيع أن ننشد قصيدة بودلير هذه القصيدة الرائعة التي كنت تغنينها في القاهرة أجمل غناء، أتذكرين؟
لقد عشت دهرا طويلا تحت أروقة واسعة تضيفها شمس البحر، قالت نعم كل هذا أذكره، وكل هذا افهمه وكل هذا لا تفسير له إلا انك قد رجعت إلى صوابك واسترددت قواك موفورا واستأنفت ما ذهب من العبث والمزاح. فقد آمنت انك سعيد بلقائي وقد آمنت انك ستسعد وسأسعد معك بقضاء ساعة أو ساعات على هذا الساحل الجميل.
وقد آمنت بأن رئيسك خليق بالشكر لأنه رق لك بعد أن قسا عليك وان وزيرك حري بالثناء عليك لأنه لطف بك بعد أن كان شديدا عنيفا ولكني لن أتحدث إليك الآن ولن اسمع منك الحديث عن الجبل والبحر ولا عن الصخور والقصور، فقد يتاح لنا الحديث عن هذا كله بعد حين. إنما أحب أن أسمع منك أنباء مصر، قال أنهما لخليقان بالشكر والثناء حقا
ولا سيما حين تعلمين. . . قالت لا أريد أن أعلم شيئا. قال وهو يضحك ضحكا ملئه المكر والإلحاح: بل يجب أن تعلمي لتضاعفي الشكر وتجزلي الثناء فإني لم أرحل للسياحة ولا للراحة ولا لرؤية باريس وإنما رحلت. . . قالت لأمر من أمور الدولة فستدرس شأنا من شؤون التعليم أو فنا من فنون النظام أو لونا من ألوان الإدارة أو شيئا من هذه الأشياء التي يرحل الموظفون لدرسها في أوروبا أثناء الصيف، فيسرحون ويمرحون ويلهون ويلعبون ويكتبون في آخر الصيف تقريرا يرفعونه إلى الرئيس أو إلى الوزير، فيتلقى الوزير أو الرئيس هذا التقرير ويتلقى صاحبه كلمة شكر وثناء وقد فهم الرئيس عن صاحب التقرير وفهم صاحب التقرير عن الرئيس ما يريد كل منهما أن يفهم عن صاحبه، وأؤكد لك أني أضاعف شكري لصاحبيك وثنائي عليهما؛ ولكن أرحني من حديثهما كما أرحتني من حديث البحر والجبل والساحل وعد بي إلى مصر. قال ما أشد شوقك إلى مصر وتلهفك إلى الحديث عنها! ألم تشبعي من مصر وقد أقمت فيها سنة كاملة منذ رحلتك الأخيرة؟ أمشتاقة أنت إلى مصر ولما يمض على فراقك إلا عشرة أيام؟ قالت فإني لا أريد ان تحاسبني على ما أجد أو لا أجد من الشوق إلى مصر وعلى ما أحس أو لا أحس من الضيق بمصر، وإنما أريد أن تحدثني عنها كيف تركتها؟ وكيف تركت أهلها؟ ثم مست هذا الزر الكهربائي الذي لا تخلو منه غرفة من غرف الفنادق فما أسرع ما أقبلت الخادمة فهمت أن تطلب إليها الشاي ولكنه اعترض دون ذلك وقال: ماذا تريدين أجننا حتى نتناول الشاي في غرفة مغلقة والجو صحو والماء صفو والشمس توشك أن تنحدر إلى مغربها فترسل على الجبل والبحر. . قالت حسبك فإني أستطيع أن أتم ما تريد أن تقول. قال وإذن فهلم نتناول الشاي حيث نستطيع أن نستمتع بهذا الجمال الذي لا نجده في مصر، وكان حازما ملحا، فلم تجد بدا من أن تسمع له وتستجيب لدعائه، فصرفت الخادم ونهضت فغابت عنه قليلا في غرفة مجاورة متصلة بالغرفة التي كان فيها. ثم عادت إليه وقد اتخذت زيها المنظم المنسق الذي عرفه في القاهرة، فلما رآها اطمأن إلى هذا الزي الذي كان يألفه، ولعله أسف على ذلك الزي المهمل الذي كان أعجبه والذي كان قد أخذيطمئن إليه. وما هي إلا لحظات حتى كانا يسعيان معا في هذه الطريق الجميلة على ساحل البحر تلك التي يسمونها في نيس طريق الإنجليز.
وكان طرفه حائرا بين البحر وهذه الفنادق الضخمة المشيدة، وهؤلاء الرجال والنساء الذين كانوا يذهبون ويجيئون في هذه الطريق وقد اتخذوا للرياضة والشاي زينتهما. لكنها لم تتح له الاستمتاع بهذه الحيرة، فما أسرع ما ردته إلى مصر وحديثها، وعادت تسأله عن المصريين كيف تركهم. قال ولم يخف شيئا من الضجر الباسم العابث تركتهم من خمسة أيام كما تركتهم أنت منذ عشرة أيام، وكما سيتركهم كل مسافر ويلقاهم كل عائد، وكما يترك كل رجل من الناس أي جيل من الأجيال، تركتهم قوما كراما يكرمون آبائهم وأمهاتهم، ويؤثرون أبنائهم وبناتهم، ويشفقون من الآلام، ويسرعون الى اللذات، ويكثرون القول، ويقصدون في العمل، ويفرون من الدور، ويستقرون في الأندية، ويطيلون الحوار في الأدب والسياسة، ويقرءون الصحف ويعبثون بكتابها. . . قالت ياله من سيل جامح لا يقف ولا يهدأ ولا يتئد، ولا يتخير ما يحمل، ما عن هذا أسألك، وما طلبت إليك أن تصور لي المصريين كما تراهم أنت بهذا الرأي المظلم القاتم، الذي لا يعجب بشيء ولا يرضى عن شيء، بل ينكر كل شيء، إنما سألتك. . . قال ياله من جدول هادئ متئد، عذب ظريف، لا يحمل غثاء ولا جنادل، وإنما هو صافي الصفحة نقي الأديم، كله رضى وكله ابتهاج، وكله أمل، إنما تسألينني عن الأدباء أليس هذا ما كنت تريدين، قالت هو هذا، ومتى رأيتني أتحدث إليك عن غير الأدباء؟ قال فقد تركت الأدباء في شغل شاغل وهم مقيم، يقولون فيطيلون، ويعملون فلا يبلون، وكأنهم هذا القطار الذي يهم بالحركة فيكثر فيه الضجيج والعجيج والقعقعة والاضطراب، وهو ثابت في مكانه لا يريم، لأن الله لم يأذن له بالحركة بعد، أو لأن أداة من أيسر أدواته لم يتح لها أن تشترك في العمل مع أخواتها، قالت وما ذاك؟ قال انهم يذكرون حافظاً، فقد دار العام على وفاته، ولم يصنع له أحد شيئا. فهم يلومون أنفسهم وهم يلومون غيرهم، وهم يلومون مصر كلها، يلومون الشعب لأنه قصر غير عامد، ويلومون الحكومة لأنها تعمدت التقصير، حتى إذا أسرفوا في اللوم وأعياهم الإسراف عزوا أنفسهم وعزوا الشعب الذي قصر عن غير عمد، والحكومة التي قصرت عن عمد بأن حافظا كان أديبا حقا، فلا غرابة في أن تدركه حرفة الأدب. وقد كان حافظ رحمه الله حسن الحظ، ميسرا له في الأمر بالقياس الى زميله في حرفة الأدب منذ اكثر من ألف سنة. فأنت تذكرين أنها قد أدركت ابن المعتز فانتزعته من الخلافة، ولما يقم فيها يوما
ولم يكفها أن تنتزعه من الخلافة، فانتزعته من الحياة على شر الأحوال واشدها نكرا، ما حافظ فقد كان بائسا في حياته لم يعرف النعيم، والبؤس أيسر من الخلع، والبؤس الدائم أيسر من البؤس الطارئ، بعد طول النعمة وحسن الحال، وقد مات حافظ على فراشه، والموت الهادئ أيسر من الموت العنيف، وحافظ بائس بعد موته لم يجتمع له الناس، ولم تمتلئله الأوبرا، ولم تلق فيه الخطب المدبجة. ولا القصائد المنمقة. وقبر حافظ مجهول أو كالمجهول ولكن هذا البؤس كله ليس شيئا بالقياس الى بؤس آخر أشد وأمض، وهو هذا الثناء المتكلف، وهذا الإكبار المصنوع، وهذه الخطب والقصائد التي لا يراد بها وجه الله، ولا وجه من قيلت فيه، وإنما يراد بها وجه الذين يصرفون السياسة ويسيرون أمور الناس كما يحبون، والى حيث يحبون، فقد كان حافظ ومازال بائسا، وكان حافظ ومازال شقيا، ولكن شقاء حافظ سعادة، وبؤس حافظ نعيم، وما كان أحق شوقي رحمه الله واجدره، بأن يشارك حافظا في هذا البؤس المجيد، فقد كان شوقي كما كان حافظ مجداً لمصر وللشرق وللأدب العربي؛ ولكن السياسة استأثرت بشوقي فازدردته ازدرادا. وعجزت عن أن تستأثر بحافظ، وأي غرابة في هذا؟ لقد كان شوقي رحمه الله هينا لينا رفيقا رقيقا، وكانت في حافظ صلابة الشعب وغلظته، وخشونة الشعب وشدته.
قالت وهي محزونة: ولكن بؤس حافظ مهما يكن مجيدا بالقياس إليه فهو عار على مصر، ومن حق مصر لنفسها أن تكشف هذا العار، وكانا قد بلغا ناديا من هذه الأندية التي يكون فيها الرقصمع المساء والتي يؤخذ فيها الشاي، فاتخذا مكانا منزويا فيه دون أن يتفقا على ذلك، إنما هي رغبتهما في اتصال الحديث، وزهدهما في هذا المتاع الذي يتهالك عليه الناس، ولم ينقطع حديثهما وقتا طويلا إنما هي لحظة طلبا فيها الى الخادم ما كانا يريدان، ثم اتصل بينهما الحديث، ولكنه لم يمس أمير الشعراء ولا شاعر النيل. قال ومع ذلك فلم تسأليني عن مصر والمصريين وأنت ترين مصر وأدباءهافي فرنسا كأحسن ما تحبين أن تريهم؟ قالت في فرنسا؟ وأين ذاك؟ قال ماذا تصنعين إذن منذ تركت السفينة؟ ألا تقرئين؟ قالت لا. قال بل تكتبين، وقد كان ينبغي أن أفهم هذا، ولعلى قد فهمته حين رأيت تلك الصحف المنثورة على المائدة، والتي أسرعت الى جمعها وإخفائها حين رأيتني مقبلا عليك كأنك خفت أن أمد إليها يدا، أو أن أختلس إليها نظرة، قالت لا تقل هذا ولا تسرف في
التجني، فما كنت أستطيع أن أمضى في الكتابة وقد أقبلت، وما كان ينبغي لي أن أدع المائدة مختلطة كما كانت، قال فإذا سألتك أن اقرأ بعض هذه الصحف التي كانت منثورة فهل تأذنين؟ قالت هذا شيء آخر دعنا من هذه الصحف المنثورة فستقرأها يوما ما، ولكن حدثني أين وكيف أستطيع أن أرى مصر والمصريين في فرنسا؟ قال تستطيعين أن ترى مصر والمصريين في فرنسا الآن، وفى هذا المكان، وعلى هذا النحو، ثم أخرج لها صحيفة النوفيل ليترير ونشرها، وقال انظري، فنظرت فدهشت فسكتت، ثم قالت هذا غريب! صفحة أدبية عن مصر لا يكاد يكتب فيها مصري! قال ولو ترجم ما فيها للمصريين لرأوا أنفسهم كما يرونها في المرآة الصافية الناصعة، أليس قد صور لهم كاتب أمير شعرائهم العظيم تصويرالا يصفه من قريب ولا من بعيد؟ أليس قد زعم هذا الكاتب إن قد كان لأمير الشعراء خصوم كلهم بغيض؟ أليس قد أذاع هذا الكاتب بين الفرنسيين والأوربيين الذين يقرءون هذه الصحيفة صورة عن شاعر مصر وعن أنصاره وخصومه لا تلائم رأي مصر ولا حاجتها، وإنما تلائم رأى السياسة القائمة،؟ قالت سأقرأ هذا الفصل، ولكن انظر قال وما تريدين أن أنظر؟ أتظنين أني لم اقرأ هذه الصفحة قبل الآن؟ ماذا تنكرين؟ فصل لصديقنا الأستاذ أنطون الجميل عن المجمع اللغوي الملكي، أي غرابة في هذا؟ قالت وهى تضحك ضحكا حزينا، الغرابة أن يعلن عن هذا المجمع في فرنسا ولما يوجد في مصر بعد، قال لم يوجد الآن فسيوجد بعد عام! قالت فقد كنت أحب من صديقنا، بل كنت أحب لصديقنا أن ينتظر حتى يوجد هذا المجمع بالفعل قبل أن يكتب عنه فيطيل، فقد أرى أن فصله غير قصير، وما عسى أن يكتب بعد أن يوجد المجمع؟ قال ليس على صديقنا بأس من أن يكتب عن مجمع إن لم يوجد بالفعل فهو موجود بالقوة، ولا سيما إذا طلبت إليه الكتابة وأثقل عليه في الطلب، وليس إسراعه الى الكتابة في شيء هو الى الوهم اقرب منه الى الخيال فضلا عن الحقيقة الواقعة هو الذي أنكره عليه أو ألومه فيه، إنما أنكر عليه فهمه للمجامع اللغوية وتصويره لتاريخها عند العرب، أترين الى أسواق الجاهليين؟ لقد كانت مجامع لغوية عند الأستاذ انطون الجميل، ثم أترينالى مدارس اللغة والنحو والأدب في البصرة والكوفة وبغداد وفى حلب ودمشق والقاهرة وقرطبة؟ لم تكن من المجامع اللغوية في شيء عند الأستاذ انطون الجميل. هذا كثير ألا ترين ذلك؟ قالت وأكثر منه أن يستجيب صديقنا لدعوة
السياسة، وان يرضى صديقنا لنفسه أن يضع الأدب من السياسة هذا الموضع، وقد كنت أرى أنه يجب إخضاع السياسة للأدب، لأكتبن إليه، قال لا تفعلي، فليس هو الآن في القاهرة، أنه يطوف في لبنان فانتظري حتى تعودي ويعود، ثم خذي معه في هذا الحديث، ولكن اقرأي هذا الفصل وفكري فيه، فهو فصل من فصول الصحف السيارة في مصر لا أكثر ولا أقل.
ولكن حدثيني أتريدين أن تطيلي الإقامة في نيس؟ قالت وأنت حدثني كيفوقعت الى نيس وأنت تقصد الى مدينة النور؟ قال وهل يكون النور إلا حيث أنت يا آنسة؟ قالت مغيضة: هل تعلم انك تثقل علي أحياناً بهذا العبث السخيف؟ قال ما أردت هذا ولا فكرت فيه، وما أرى أني ألام إن كنت ثقيلا، فلعل الثقل أن يكون بعض طبيعتي؟ فخذيني كما أنا، قالت فان لم يعجبني منك هذا، قال فاحتمليه على أي حال فلعل عندي ما يهون عليك احتماله، أتريدين أن تطيلي الإقامة في نيس؟ قالت سأقيم أياما، وأنت؟ قال سأقيم فيها ما أقمت إن لم يثقل عليك ذلك، وسنرتحل معا حتى إذا كنا في بعض الطريق تخلفت أنت في مدينتك الجامعية الصغيرةفاصطليت فيها حر الصيف ونار العلم والأدب، ومضيت أنا الى باريس، ومن يدرى، لعل نار الأدب والعلم أن تستهويني فأتخلف وقتا طويلا أو قصيرا، وهل أنا فراشة تستهويها النار، ولا تكره أن تحترق بها؟ قالت في شيء من التفكير: أنت مقيم في نيس ما أقمت، مرتحل عن نيس إذا ارتحلت عنها، متخلف حين أتخلف، مصطل للنار التي أريد أن اصطليها. قال هذه خطة مرسومة، وكيف تريدين يا آنسة أن تغيري ما رسم القضاء؟
التجديد في الأدب
للأستاذ أحمد أمين
(4)
الشعر
من قديم حاول الأدباء والنقاد أن يضعوا تعريفا للشعر فاختلفت تعاريفهم لاختلاف أنظارهم، ولأن كلمة الشعر استعملت في معاني مختلفة، فكان كل أديب يعرفه حسب نظره، وحسب المعنى الذي يرمي إليه، وكان سواء في ذلك أدباء العرب والإفرنج.
ذلك أن الشعر (على العموم) يتكون من عنصرين أساسين وهما الوزن والقافية أولاً، وإثارة المشاعر ثانيا، فإذا فقد الكلام عنصرا من هذه العنصرين لم يصح أن يسمى شعرا، غير أن بعض العلماء طغى عليه النظر إلى عنصر الوزن فعرفه تعريفا أفقده روحه، فقالوا أن (الشعر هو الكلام الموزون المقفى) ومثله قول بعض الفرنج (أي كلام موزون يسمى شعرا سواء أكان جيدا أم رديئا) وعلى هذا التعريف فألفية ابن مالك شعر، وقواعد الحساب المنظومة شعر، والمتون الفقهية المنظومة شعر، كما أن بعض العلماء طغى عليه النظر إلى روح الشعر ومعناه فعرفوه تعريفا أفقده موسيقاه، كالذي قال بعضهم (الشعر فيضان من شعور قوي نبع من عواطف تجمعت في هدوء) ومثله قول رسكن:(الشعر إبراز العواطف النبيلة من طريق الخيال) وهو تعريف يصح أن يكون للأدب كله نثره وشعره بل للفن جميعه من أدب ونحت وتصوير وموسيقى.
وابن خلدون نقد التعريف بأنه الكلام الموزون المقفى وقال انه اصبح تعريفا عند العروضيين لا يصح عند البلاغيين ثم اختار أن يعرفه (بأنه الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله الجاري على أساليب مخصوصة. وعيب هذا التعريف انه ممل وانه لم يلتفت إلى مزية الشعر وروحه وهو إثارة المشاعر واستقلال كل جزء منه في غرضه ومقصده ليس من العناصر الأساسية التي يصح أن تدخل في التعريف.
فلو قلنا إن الشعر هو الكلام الموزون المقفى المنبعث عن عاطفة والمثير لعاطفة كان تعريفا أقرب إلى الصواب.
فإذا وجدت نوعا من الأدب يجمع الوزن والاتصال بالمشاعر فسمه شعرا وإلا فلا.
والشعر يثير المشاعر بما فيه من خصائص (فأولاً) بأوزانه وقوافيه ولذلك كان المعنى الواحد إذا قيل مرة شعراً ومرة نثرا كان في الشعر أقوى أثرا (وثانيا) بلغته فللشعر لغة غير لغة النثر ولسنا نعني بلغة الشعر الكلمات الغريبة أو أنواع البديع أو نحو ذلك فقد يكون الشعر في منتهى الرقي وكلماته في منتهى السهولة وهو كذلك خلو من كل أنواع البديع إنما الذي نعينه أن للشاعر ملكة لا يمكن أن نوضحها تمام الوضوح، بها يستطيع أن يتخير من ألفاظ اللغة ما يرى أنها ابعث للمشاعر. وهو كذلك يضعها في قوالب يتخيرها من القوالب العديدة والتراكيب اللغوية المختلفة، وهذا هو ما يجعل الشاعر شاعرا فقد يكون عندنا شعور فياض كالشعور الذي عند الشاعر أو أغزر منه ولكن ليس لنا هذه القدرة على الإفصاح واختيار الألفاظ والقوالب والتراكيب ومن ثم كان من المستحيل ترجمة الشعر إلى شعر لأن الترجمة لا ترينا ما للشاعر من قدرة فنية على اختيار الألفاظ والأساليب، والذي نترجمه هو المعنى الذي حواه الشعر وما فيه من تصوير وخيال. ويعد المترجم أمينا إذا هو استطاع أن ينقل هذا، أما طريقة الأداء فلا يمكن ترجمتها. نعم إن بعض الشعراء قد يقرأ القطعة من الشعر ويكون له قدرة فنية فيصوغ هو شعراً مستمدا من وحي ما قرأ وقد يجري مع الأول في واد واحد وتكون له عذوبة ما للأول ولكن ليس هذا ترجمة على الإطلاق.
كذلك يثير الشاعر الشعور بما عنده من لطف النظر أو الإلهام أو اللقانة أو ما شئت فسمه، فللشاعر روح غامض طبع عليه لا يكتسب بتعلم، به ينظر إلى الأشياء نظرا خاصا وبه يبعث الشعور عند السامع. ولعل هذا هو الذي جعل شعراء العرب يعتقدون أن لكل شاعر شيطانا ينفث فيه الشعر. ولأمر ما خلط العرب فسموا النبي شاعراً أحيانا وكاهناً أحيانا (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذَكَّرون) وللشاعر نظر باطن للحياة يغوص فيها ويستخرج معانيها ويعرضها في شعره، ولأن الشعر هو معنى الحياة كان شعر كل عصر مرآة له. وقديما قالوا:(الشعر ديوان العرب) والحق انه ديوان الأمم تسجل فيه حياتها وأفكارها ومشاعرها. فالشاعر يعطينا صورة روحية حية أكثر مما يعطينا إياها التاريخ. والشعراء عادة في مقدمة قومهم شعوراً وشعرهم إيذان بالفلسفة وإرهاص لها، فهم
يلهمون الشيء إلهاما غامضا ثم يتضح ما أُلهموا به على مر الأزمان وتأتي الفلسفة بعد فتشرح وتحلل وتدلل.
أما الوزن في الشعر فهو موسيقاه وله قيمة كبرى في الشعر حتى عُد أهم فارق بينه وبين النثر، والشعر يحلو بالموسيقى الجيدة ويضعف شأنه إذا ساءت موسيقاه. وارتباط الشعر بالموسيقى أشد من ارتباط الفنون الأخرى كالنقش والتصوير حتى كان الرومان يقولون:(إن الشعراء ليسوا إلا مغنين يترنمون بشعرهم ويغنون به لأنفسهم ولمن شاء أن يردده بعدهم).
ومن أنواع الشبه بين الموسيقى والشعر ما لاحظه بعضهم من أن كلا منهما يتنوع أنواعا متماثلة. فالصوت يختلف عن الصوت من نواح أربعة:
(1)
من ناحية الطول والقصر (2) والغلظة والرقة (3) والارتفاع والانخفاض (4) ومن ناحية مصدر الصوت كعود أو قانون.
وهذه النواحي الأربعة يمكن أن نراعيها في الشعر، فمن النوع الاول اختلاف التفاعيل طولا وقصراً فالرجز أقصر في التفاعيل من الطويل وهكذا. ولهذا الاختلاف تأثير كبير في الأذن الموسيقية.
كذلك نرى في الشعر ما يتناسب مع الشدة والضعف والغلظة والرقة. فالشعر قد يناسبه (أحياناً) حروف وكلمات ضخمة قوية وقد يناسبه حروف وكلمات لينة رخوة كالذي قالوا في قوله:
ألا أيها النوام ويحكموا هبّوا
…
أسائلكم هل يقتل الرجل الحب؟
فالشطر الاول قوي شديد والثاني رخو ناعم
وفي الشعر ما يناسبه الهدوء والدقة كشعر الغزل، ومنه ما يناسبه الشدة والبطش، ويناسبه إنشاده في قوة وجلبة كشعر الحماسة. ونلاحظ في الموسيقى إن النغمة الواحدة إذا وقعت على الكمنجة ثم وقعت بعينها على البيانة كانت النغمتان مختلفتين تأثيرا، وهذا يقابله في الشعر القافية فالقصيدة على قافية قد يكون لها أثر لا يكون إذا قيلت على قافية أخرى وهكذا.
والشعر أقل تقدما وأبطأ خطى من النثر سواء في ذلك اللغة العربية وغيرها من اللغات،
وسبب ذلك على ما يظهر أن الشعر لغة العواطف والنثر لغة العقل، والمشاعر والعواطف قليلة التغير بطيئة الرقي، وما حدث فيها من تغير فأكثره تغير في الشكل لا في الموضوع، أما العقل فراق أبدا وثاب في الرقيّْ ومظهر ذلك الرقي العلمي الذي نحسه من سنة إلى أخرى. ولأن الشعر تعبير شخصي وأعني بذلك أن الشاعر يعرض علينا في شعره مشاعره ونظراته إلى الحياة وإحساسه بها أما الناثر فعالمي إنساني يعرض الشيء كما هو لا كما يرى. تحس في الشعر دائما بالشاعر يحدثك عن نفسه وتحس في النثر بعقل يخاطب عقلك، وان شعرت بالناثر فمن وراء حجاب ومن أجل هذا خضع النثر للمنطق ولم يخضع له الشعر، ترى في الشعر غالبا مبالغة لا يرضاها المنطق وتناقضا لا يقره المنطق وتحكما في الحكم لا يؤيده المنطق، وتخبطا وهراء يغتفرهما العقل في الشعر ولا يغتفرهما في النثر. وهذه الظاهرة وهي سير النثر إلى الأمام في سرعة وقفز وسير الشعر في بطء وتمهل هي التي جعلتنا نتذوق الشعر العربي في العصر العباسي وما بعده أكثر مما نتذوق النثر في ذلك العصر، لأن الصلة بين نثرنا والنثر القديم صلة ضعيفة قد خالفناها كل المخالفة ولم يبق منها إلا أساس التركيب الذي تقتضيه طبيعة اللغة، بل أن مسافة الخلف بين نثرنا والنثر من عشرين سنة بعيدة كل البعد، وعلى العكس من ذلك الشعر فالفرق بين الشعر القديم والحديث قليل تافه، ومع هذا فالشعر يجب أن يخضع لسنة النشوء والارتقاء ويجب أن يتقدم ويجاري الزمان كما حدث في الشعر الغربي. يجب أن يتقدم الشعر في كل من عنصريه عنصر الوزن وعنصر المعنى، ففي الوزن نرى إن العرب في الجاهلية صبت شعرها في ستة عشر بحرا وكان خضوعها لهذه البحور لا لأنها حصرت كل ما يمكن أن يكون ولكن ابتكروا أولاً بحرا أو بحرين ثم جاء الخلف فزادوا هذه البحور شيئا فشيئا لا يهديهم في الابتكار إلا الأذن الموسيقية: وهم لا عيب عليهم في ذلك ولكن العيب عيب من أتى بعدهم فقد سوّا هذه البحور ولم يشاءوا أن يخرجوا عنها قيد شعرة وقد تحكم العلماء والأدباء في أذواق الناس فأبوا عليهم أن يقولوا في غيرها أو أن يشذوا ولو قليلا عنها. وهو تقديس في غير محله لأن أوزان الشعر كما قلنا هي موسيقاه، وكما تطورت الموسيقى في العصور واخترعت نغمات وولد من القديم نغمات جديدة، وكانت موسيقى العصر العباسي غير موسيقى العصر الأموي، وهما غير موسيقى الجاهلية، كان واجبا أن
يغير الشعراء موسيقى الشعر ولا يقفوا عند الحد الذي رسمه الجاهليون، وعجيب أن نسمح في عصرنا للموسيقى الشرقية أن تطعم بالموسيقى الغربية ونهيئ آلاتنا للتوقيع عليها بهذه النغمات الجديدة، ونهيئ آذاننا لسماعها ثم لا نفعل ذلك في الشعر! نعم أخذ بعض الناس يتحللون من قيود البحور والقوافي الجاهلية كما فعل الأندلسيون بالموشحات وما إليها، ولكن وقف من بعدهم على اختراعهم ولم يسيروا على سننهم في التقدم. يجب أن يتحرر نوابغ الشعراء من هذه القيود ويشعروا بما يحسون ويوقعوا على النغمة التي يرتضون وليس الحكم بيننا وبينهم هو البحور الستة عشر ولكن الحكم هو الأذن الموسيقية، والأذن الموسيقية وحدها. وكما نرجع في كل فن إلى الخبيرين نستفتيهم ونحتكم إليهم فكذلك في هذا الضرب يجب أن نحتكم إلى من رقت أذنهم الموسيقية وأذواقهم الفنية وليس في هذا ضير على ثروتنا القديمة في الشعر فإنا باختراعنا بحورا وأوزاناً نزيد في ثروتنا إلى ثروتهم، كما نزيد في موسيقانا إلى موسيقاهم، وفي علمنا إلى علمهم.
أما من حيث الموضوع ومعاني الشعر فمجال القول فيه أوسع، وتقصير الشعراء فيه أبين ولئن كانت تعد الشعر ديونها تسجل فيه نزعاتها وآمالها وحياتها فأنا أخشى أن يكون الشعر العربي سجلا ناقصاً لم يدون فيه إلا وقائع قليلة من نزعات كثيرة، وصفحات ضئيلة من حياة حافلة مركبه معقدة. لقد دون الشعر كثيرا من وقائع المديح والرثاء والغزل والخمريات وما إليها وهذا حسن، وهو ضرب من الشعر لابد منه، ولكن ليس هذا كل مشاعرنا ولا أكثرها لقد مررت في هذا العام على تلاميذ مدارس ثانوية خارجين من لعب الكرة فسمعت بعضهم يصيح (يا محني ديل العصفورة، ومدرستنا هي المنصورة) فجرت من عيني دمعة على ما نحن فيه من ضعة وانحطاط وقلت أين الشعراء يضعون الأناشيد تجاري نفسية الطلبة، وترقي من مشاعرهم وتزيد في روحهم حماسة وقوة وتميز الطبقة المتعلمة من طبقة العامة وأمثالهم؟ وأتى كشّافة العراق ينشدون الأناشيد المختلفة في المناسبات المختلفة، فلم يجد كشافة مصر ما يجيبونهم به ويساجلونهم فيه إلا هراء من الكلام وسخفا من الغناء، ثم أين الشعراء يضعون أغاني للشعب وأغاني للمتعلمين تناسب حياتهم وموقفهم الاجتماعي؟ نعم تنبه بعض الشعراء لهذا ووضعوا أغاني أرقى ممن وضع من قبلهم ولكن أكثرها بكاءً وحنين وذوبان وهي من الأدب الذي سميته أدباً مائعاً، والذي لا يصح لأمة
ناهضة أن تقتصر عليه، بل أين شعراء الشرق الذين تغنوا بما حوته طبيعة بلادهم من جمال إبداع فرقوا ذوق شعوبهم وأشعروهم بجمال الطبيعة، وغذوا عواطفهم وعودوهم تقدير الجمال والهيام به؟ لقد قصر شعراء العرب قديما وحديثا في هذا الباب فلا نعثر منه في الأدب العربي إلا على قليل، وهذا القليل لا يكفينا الآن ولا يسد رغباتنا لأن شعر الطبيعة قد رقِّيَ عند الأمم وأصبح مؤسس على شيئين لابد منهما وهما علم بالطبيعة ومعرفة بقوانينها، وحب للطبيعة وهيام بها ثم صياغة ذلك كله في قول ساحر جذاب.
وهذا الضرب من الشعر قطع فيه المحدثون من الغربيين شوطا بعيدا وسبقوا فيه من قبلهم بمراحل طويلة (وبعد هذا كله) أين الشعر الاجتماعي العربي الذي يساير نزعات أمم الشرق ومطامعها وآمالها في الحياة؟ إن أمم الشرق تنزع إلى الحرية وتأمل أن تتبوَّأْ في العلم الإنساني المكان اللائق بها، وتنشد ضروبا من الإصلاح الاجتماعي ترى الحاجة ماسة إليه وكلها مجال فسيح للشعر يلهب حماستها ويقوي إيمانها ويهديها سبل الحياة. فأين الشعراء الذين وقفوا هذه المواقف وقادوها قيادة صالحة؟ إن عواطف الأمم الشرقية ساغبة تنتظر من يغذيها ولا تجده. الحق أن أدباء النثر قد أدوا رسالتهم خيراً مما أداها أدباء الشعر، وفي كل من الفريقين تقصير؟
صور من التاريخ الإسلامي
عمر بن عبد العزيز 62 - 101 هـ
للأستاذ عبد الحميد العبادي
3
ود الحكماء من قديم لو أن ملوك الأرض كانوا فلاسفة أو لو أن الفلاسفة كانوا ملوكاً؛ أذن لاقترنت السياسة بالأخلاق على أساس ثابت مطرد. وتعاونتا جميعا على النهوض بالمجتمع الإنساني، ولاستحال علمنا المضطرب جنة راضية ونعيما مقيما.
وكثيرا ما كتب الحكماء في نظم عامة ابتدعتها أخيلتهم وزعموها توفر على الناس في هذه الدنيا اللذة والسعادة، وتنفي عنهم الألم والشقاوة: فعل ذلك أفلاطون في (الجمهورية) والفارابي في (أهل المدينة الفاضلة) وتوماس مور في (اوطوبيا) كما فعله كثير غير هؤلاء ممن ترسم آثار أفلاطون ونسج على منواله.
هذا الحلم الجميل تحقق أو كاد في التاريخ مرة واحدة على ما نعلم، وذلك على عهد الخليفة العربي المسلم عمر بن عبد العزيز، فهو رجل ألقت إليه المقادير بزمام أعظم دولة في الأرض في زمنه، ومع ذلك استطاع أن يقدع شهوته حتى كاد يميتها، وأن يروض نفسه حتى ردها إلى الرضا بالقليل الأقل. ثم تجرد لإصلاح رعيته من طريق العدل والرفق والرحمة فأذاقهم لذة الأمن واليسر والرضا. وفوق هذا وذاك قد ترامت همته إلى ما وراء قومه وبلاده، فطمع أن يجمع شعوب الأرض طراً في نظام واحد يقوم على مبادئ الاخوّة والعدالة والمساواة. وقد وفق ابن عبد العزيز في هذا المطمع البعيد توفيقاً حدَّ من مقداره يا للأسف، أن عجلت إليه المنية وهو لا يزال في ميعة العمر وعنفوان الحياة.
قد اجتمع في تكوين هذه الشخصية العجيبة عاملا الوراثة والبيئة معاً، فأبوه عبد العزيز قد ولي مصر عشرين سنة دلَّت على ثقافته العالية واضطلاعه بأعباء الحكم، وبصره بتآلف القلوب، وجده مروان بن الحكم هو ذلك السياسي الجريء العارف بنفسية الأفراد والجماعات، والخبير بانتهاز الفرص عند إمكانها. وأما نسبه لأمه، فأمه أم عاصم بنت عاصم بن
عمر بن الخطاب، وكفى بانتسابه إلى تلك الشخصية العظيمة تعريفا بسبب من أسباب
ورعه وجراءته في الحق على نفسه وغيره.
وليس أثر البيئة في تكوين بن عبد العزيز بأقل من أثر الوراثة فقد ولد بالمدينة عام 62هـ وشب بها على أصح الروايات. فلما ولى أبوه مصر عام 65 هـ حمل إليه، ولبث بمصر زمنا ما، نعم فيه بصحبة أبيه ومشاهدة آثار الحضارة المصرية والبيزنطية، وهنا رمحته دابة فشج شجته التي عرف من أجلها بأشج بني أمية، فلما بلغ سن التأديب بعث به أبوه إلى المدينة ليتأدب بها وينشأ نشأة إسلامية مدنية، وكانت المدينة إذ ذاك بيئة مركبة غير بسيطة، يعرف فيها من يحللها الروح الديني الصحيح ماثلا في نفر من بقايا الصحابة وكبار التابعين، أمثال أنس بن مالك وعبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، كما يعرف فيها الجانب الأرفه من الحياة ممثلا في مثل عبد الله بن جعفر أول نصير لصناعة الغناء العربي، وطائفة من المغنين والقيان يتقدمهما معبد ومالك بن أبي السمح المغنيان المدنيان الشهيران. ثم أن المدينة كانت إذ ذاك من الناحية السياسية موطنا للمعارضة التي تستند إلى الكتاب والسنة في مقاومة الحكومة الأموية. في هذه البيئة تخرج أبن عبد العزيز، فروى الحديث عن حملته ورواته، ولقف صناعة الغناء وأعانه على المساهمة فيها صوت ندي عذب. كما أشرب روح الحكومة الإسلامية القديمة التي كانت تختلف عن الحكومة الأموية اختلافا كبيراً. إلى ذلك كله كان أبن عبد العزيز فتى مليح الخلقة ناعماً مترفاً كعادة فتيان بني أمية. يروى أنه أبطأ يوماً عن الصلاة فسأله مؤدبه صالح بن كيسان عن سبب إبطائه فقال (كانت مرجلتي تسكن شعري) فكتب مؤدبه بذلك إلى أبيه، فبعث أبوه رسولا فلم يكلمه حتى حلق شعره.
في عام 85 هـ توفي عبد العزيز بن مروان بمصر، وكان أبنه عمر قد تم تأدبه بالمدينة، فأجتذبه الخليفة عبد الملك بنمروان إلى الشام وزوجه من أبنته فاطمة، ثم ولاه (خناصرة) وهي بليدة من أعمال حلب واغلة في البادية. فلبث والياً عليها سنتين كانتا من أنعم سني حياته وحياة زوجه. وقد أعجبته خناصرة حتى أنه عندما استخلف اتخذها منزلاً على عادة ملوك بني أمية في إيثارهم سكنى البادية على الحاضرة. وفي عام 87هـ اختاره الخليفة الوليد بن عبد الملك لولاية المدينة بدلا من هشام بن إسماعيل المخزومي الذي أساء السيرة في أهلها، ولا شك أن الوليد إنما اختار عمر للمدينة لما يعلم من المشاكلة القوية بينه وبين
هذه الولاية، ثم أنه بعد قليل ضم إليه مكة والطائف فاصبح عمر بذلك أميرا على الحجاز كله.
كانت حكومة عمر ابن عبد العزيز بالحجاز (87 - 93) حكومة شورية أبوية يمازجها من ناحيته الشخصية مقدار غير قليل من الحرص على الترف والتنعم. فلأول قدومه المدينة اصطفى عشرة من العلماء اتخذهم نصحاء ومستشارين يصدر في الأمور عن رأيهم، ثم عكف على إصلاح شؤون الحجاز فهدم المسجد النبوي وأعاد بناءه على نحو أوسع وأروع، وأصلح الطرق، وأكثر من الآبار وتيسر بذلك الماء في ذلك القطر الظميء، كما أنه عمل بالمدينة فوارة يستقي منها أهلها، وقد اعجب الخليفة بتلك المنشآت عندما زار المدينة سنة 91هـ وأمر للفوارة بقوام يقومون عليها، وأن يسقى أهل المسجد منها، ففعل عمر ذلك. ومن مظاهر بساطة عمر في إمارته بالحجاز انه جلس مرة في المسجد يرتِّل القرآن بصوته العذب فتأذّى بذلك سعيد أبن المسيب على غير علم منه بصاحب الصوت، فلم ير عمر بأساً بان ينتحي ناحية أخرى من المسجد. وبلغه أن قاضيه على المدينة استخفه الطرب عندما سمع جاريته تغني حتى أخرجه من وقاره، فعزله عمر، ولكن القاضي المعزول تحدى الأمير لسماع الجارية، فسمعها عمر وكاد هو أيضا يستخف فعذر القاضي وردَّه إلى عمله. وعندما قدم الفرزدق الشاعر المدينة وكانت السنة ممحلة وخاف أهل المدينة لسانه رفعوا أمرهم إلى عمر فأخرجه من المدينة ونهاه أن يعرض لأحد من أهلها بمدح أو بهجو. أما من حيث حياة عمر الشخصية في تلك الفترة فكان مترفا مسرفا في الترف، يرخي شعره ويسبل أزراره ويلبس الثوب تبلغ قيمته مئات الدنانير، ويكثر من الطيب حتى لتقصف ريحه إذا مشى مشيته (العمرية) وهي مشية كان يتبختر فيها ويختال، ولملاحتها كانت الجواري تأخذها عنه.
حادث واحد نغَّص على أبن عبد العزيز إمارته على الحجاز: ذلك مصرع خبيب بن عبد الله بن الزبير فقد نقم الخليفة الوليد من خبيب أشياء بلغته عنه وكتب إلى عمر أن يضربه فضربه عمر ضرباً كان فيه هلاكه. وقد جزع عمر لذلك جزعا شديداً، ويقولون انه لبس المسوح سبعين يوما حدادا على خبيب، ثم أقلع عن ذلك. فلما استخلف دفع ديَّة خبيب إلى أوليائه، ومع ذلك كان يرى أن الله لابد مؤاخذه لذلك الذنب، فكان إذا بشره أحدهم بالجنة
قال: (وكيف بخبيب!).
وغدا الحجاز ينعم بأمن وعافية مما ابتليت به الأمصار الأخرى ولا سيما العراق من الفتن والقلاقل، ولذلك أخذت فلول ثوار العراق والخوارج تفد على الحجاز فراراً من وجه الحجاج وسيفه المسلول، فكان بن عبد العزيز يجيرهم ويحميهم. ثم لم يكتف بذلك فكتب إلى الخليفة يندد بعسف الحجاج وبطشه. فاضطغنها الحجاج عليه وكتب إلى الخليفة يشكو من أن أمير المدينة يجير (مراق) العراق وان ذلك موهن له. وقد نظر الخليفة في الأمر ملياً، ثم رأى أن يشدُّ أزر الحجاج في هذه الخصومة، فالعراق أخطر من الحجاز والحجاج أولى بالمصانعة من عمر بن عبد العزيز، فصرف عمر عن الحجاز بأميرين أحدهما للمدينة والآخر لمكة. فكان أول ما صنعاه أن أخرجا من الحجاز إلى الحجاج كل عراقي في الجوامع والأغلال، وتوعدا كل حجازي أنزل عراقيا أو آجره داراً.
خرج ابن عبد العزيز من الحجاز إلى الشام مغاضبا للخليفة الوليد، وقد ساءه أن عزل عن إمارة المدينة حتى قال لمولاه مزاحم وهو ببعض الطريق:(أخشى أن أكون ممن تنفيه المدينة) إشارة إلى الحديث الوارد في أن المدينة تنفي خبثها. فلما حصل بالشام شغل نفسه بالغزو فراراً من وجه الوليد والتماس الأجر والسلوى. فلما توفي الوليد عام 96 هـ وولي سليمان بن عبد الملك لزمه عمر، وكان أثيراً عنده يستشيره سليمان وينزل على رأيه في كثير من الأمور، على إن عمر نفعه أن عزل عن الإمارة على النحو المتقدم فقد دفعه ذلك في السنوات الست التي قضاها بالشام قبل أن يستخلف (93 - 99) إلى النظر في حال الدولة العربية في أواخر القرن الأول الهجري.
نظر فإذا الدولة الإسلامية قد أبعدت في التخلي عن الصفة الدينية التي كانت لها قديما وأسرفت في الاصطباغ بالصبغة الزمنية المتطرفة، أليست حكومة عبد الملك والوليد والحجاج ويزيد بن المهلب حكومة تجبر وطغيان؟ أليست حكومة سليمان حكومة الشهوة العطشى والجسد المنهوم؟ لقد أصبح السلطان يعتمد في شد أركانه وتقوية دعائمه على القوة الغشوم والسيف المرهف. أما العدل وأما الرفق وأما الرحمة فلم يعد لكل ذلك عنده محل ولا حساب. ونظر فإذا أموال الدولة قد عراها الخلل والاضطراب من كل نواحيها. فنحو ثلث أموال الدولة قد استحال ملكا خاصا لبني أمية وأكثر الضرائب يجبى من غير وجوهه،
ويصرف في غير مصارفه الشرعية. فكثير من الأراضي الخراجية التي لا يصح تملكها قد استحالت أرضاً عشرية يتملكها أفراد من المسلمين يؤدون عنها الزكاة التي مقدارها أقل من مقدار الزكاة. وكثير من الموالى أو مسلمي الأعاجم لا يزالون مع إسلامهم يؤخذون بالجزية لغير ما سبب سوى أن العمال لحظوا في إسلامهم معنى الفرار من الجزية فأبوا أن يعفوهم منها. هذا فوق أن هؤلاء الموالي لم يكونوا والعرب سواء في الحقوق، فكانوا يغزون إلى جانب العرب دون أن يكون لهم عطاء. ثم إن عدم إنفاق الزكاة في مصارفها الشرعية قد ادى إلى كثرة الفقراء والمساكين والمرضى والزمنى ممن جعل لهم الشرع حقا في الصدقات العامة ثم نظر فرأى بأس الأمة الإسلامية بينها شديد، قد توزعت الفرق المتباغضة والأحزاب المتناحرة، فمن شيعة يطوون الصدور على الإحن لما نالهم به بنو أمية من أذى ومساءة، ومن خوارج يتحينون الفرص لهدم النظام القائم وإحلال نظامهم محله، ومن موال قد ساءهم إلا يسوى بينهم وبين العرب في الحقوق العامة، ومن مضرية ويمينية وربعية كل يحاول أن يكون له النفوذ السياسي من طريق الولاية على الأقاليم والتأثير في السلطان نفسه. هذا في الداخل أما في الخارج فرأى عمر إن الجهاد الذي شرع على عهد النبي (ص) لمنع العدوان على النفس والعقيدة والذي كان على عهد الشيخين ضرورة اقتصادية ملحة قد استحال في زمن الأمويين أداة للتوسع في السلطان وجر المغنم الوافر والسبي الرائع حتى قال الشاعر:
ألا ذهب الغزو المقرب للغنى
…
ومات الندى والجود بعد المهلب
نظر عمر في كل ذلك فرده إلى سبب جوهري واحد هو انحراف الجماعة الإسلامية عن الأساس الذي قامت عليه، أساس الدين. والدين عند عمر هو الدين المتصل بالحياة العامة يمدها ويغذيها بقوته المعنوية والممسك لشؤون الجماعة أن تضطرب وتصبح فوضى، هو الدين الذي أثره في الحاكم شعور قوي بالمسؤولية وعمل صادق على إسعاد العباد والترفيه عنهم والذي أثره في المحكومين اقتضاء للعدل إذا حرموه وأنفة من الضيم والذل إذا ما أريدوا عليهما، الدين عند عمر بن عبد العزيز: هو الحق والإنسانية عبر عنهما بلفظ واحد.
وبينا عمر يرسل الفكر في أنحاء الحياة الإسلامية العامة متعرفا عللها إذا به في الوقت نفسه قد أخذ يخضع لتطور نفساني عنيف. لقد أخذ حرصه على الترف والتنعم يضعف
رويدا رويدا وميله إلى الزهد والتنسك يقوى شيئا فشيئا وأصبحت نظرته إلى الحياة نظرة إلى متاع قليل زائل لا يعدل شيئا بجانب طمأنينة النفس وراحة الضمير كما أصبح دائم التفكير في الموت وفيما بعد الموت، فالموت آت لا ريب فيه؛ والموت برزخ مؤد إما إلى جنة وأما إلى نار والمنتهى على كل حال رهين بما يكون عليه المرء في العدوة الدنيا من ذلك البرزخ الرهيب.
ما سر هذا التطور العجيب الذي جعل من ابن عبد العزيز الناعم المترف ناسكاً زاهداً متصوفاً؟ نتبين ذلك السر في نفسية ابن عبد العزيز من جهة؛ وفي مقدار تأثره بالحياة الإسلامية العامة لذلك العهد من جهة أخرى.
لقد كان في عمر نزوع طبعي إلى الزهد فهو كما رأينا من سلالة عمر بن الخطاب؛ وكان في طفولته يحاول التشبه بخاله الزاهد عبد الله بن عمر ولما تورط في أمر خبيب لبس المسوح سبعين يوما يأسا من غضارة ولذاذة الحياة فلما نصح بالإقلاع عن ذلك أقلع. ثم أن الحياة الإسلامية قد ألمت بها في أواخر القرن الاول نزعة زهد جاءت كرد فعل للمادية التي طغت عليها إذ ذاك. هذه النزعة التي تحولت بعد ذلك إلى الحركة الصوفية المشهورة نتبينها في طبقة العباد والنساك التي يتكلم عنها صاحب العقد الفريد طويلا. وقد خضع عمر لتأثير هذه الطبقة وهو في المدينة فكان من أشد الناس تأثيرا فيه عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة. فلما صار بالشام خضع لتأثير رجلين يعتبران بحق من أقطاب عصرهما علما وزهدا وورعا. هذان هما الحسن البصري ورجاء بن حيوة الكندي. أما الحسن فقد اتصل به عمر من طريق المراسلة ولعله قد أخذ عنه كراهية القول بالقدر الذي ينسب إلى الحسن خطأ. وأما رجاء فقد كان مستشار سليمان بن عبد الملك وكان لذلك أقرب إلى عمر وأقوى به اتصالا.
وبعد فلئن كان النظر في الأحوال العامة قد انتج لعمر ضرورة الرجوع إلى الدين في إصلاح غيره؛ فقد انتج له مزاجه الخاص وتأثره بالزهاد من أهل عصره ضرورة الزهد من اجل إصلاح النفس وتهذيبها. الدين والزهد، هاتان هما الخلتان اللتان كانتا تعمران فؤاد عمر وقلبه عندما أخذ صلحاء الشام يرشحونه للخلافة.
الثقافة المصرية وكيف تستفيد من ثقافة الجاحظ
الأدبية والعلمية والسيكولوجية
للأستاذ مصطفى عبد اللطيف المحامي
دعونا في مقال نشر بالسياسة الأسبوعية إلى الرجوع إلى الثقافة العربية بدوية كانت أم حضرية وأهبنا بالمثقفين ثقافة عالية أن يصرفوا جهودهم إلى بعث تلك الثقافة وتغذية ثقافتنا المصرية بمادة مفيدة صالحة وذكرنا في ذلك المقال أسماء بعض زعماء الثقافة العربية. ومن بينهم أبو عثمان بن بحر الجاحظ أحد أعلام العصر العباسي ومن أكبر زعماء الفكر الإسلامي.
وها نحن نعود أولاء إلى هذه الدعوة وتأييد تلك الفكرة بذكر شيء من ثقافة الجاحظ الواسعة، تلك الثقافة التي يباهي بها العرب ويعجب لوفرتها الجيل الحاضر لأنها ثقافة تزيد في الوفرة على ثقافة جوت الألماني وديدرو الفرنسي ودستوفسكي الروسي وغيرهم من ذوي الثقافات الواسعة الرفيعة.
والحق أني بعد أن تصفحت جمهرة من مؤلفات الجاحظ وما كتب عنها لم أجد وصفا أصدق عليها من أنها كالبحر اللجب الزاخر تحوي الجوهر كما تحوي الصدف، فأنت إذا تناولت تلك المؤلفات ألفيت بحوثا شائقة في الأدب وملاحظات قيمة في العلم ومعلومات رائعة في سيكولوجية الإنسان والحيوان وأفكارا كالأمواج متزاحمة متلاحمة تشرق عليها أنوار الثقافات الفارسية واليونانية والهندية.
هي ثقافة ثرة متعددة النواحي يتطلب تصويرها كتبا مفردة ولكني سأحاول أن أتناول في اختصار ثلاث شعب منها، وهي ثقافة الجاحظ: الأدبية، والعلمية، والسيكولوجية. واكتفي برسم خطوط لتلك الثقافات تاركا إخراج صورة كاملة لها لمن هم أقدر مني عليها. وغايتي من المقال كما سبق إظهار روائع الثقافة العربية وبيان صلاحيتها لتغذية ثقافتنا المصرية، إذ فيها خير مادة لنا وخير ثقافة.
ثقافة الجاحظ الأدبية
ونحن إذا قلبنا البصر فيما صدر عن الجاحظ من المؤلفات الأدبية الكثيرة أدركنا قطعا نفع
تلك المؤلفات لثقافتنا وصلاحيتها لتغذية إلهاماتنا. ويحتاج بحث هذه المؤلفات إلى كتاب مفصل. ولكني سأقصر بحثي على وصف رسالة الجاحظ الموسومة (بالتربيع والتدوير) وهذه الرسالة أعتقد أنها تكفي لرسم صورة تامة عن أدب الجاحظ وأسلوبه الرصين المونق ومعانيه البليغة وميله إلى خلط الجد بالهزل في كتاباته. وهذه الرسالة مدبجة في احمد بن عبد الوهاب من معاصري الجاحظ ومن ذوي النفوذ والمقربين لدى الخلفاء، وهي تمثل في أوضح بيان جمال الرصف والقدرة على ملكية العبارة. ومن المستحسن أن أصف هذه الرسالة وآتي بفقر منها: ابتدأ الجاحظ الرسالة بالقدح في احمد والزراية بعقله، وطرح عليه مائة سؤال منها الخفيف ومنها الثقيل ومنها الجدي ومنها المضحك حتى إذا ما آذاه وجرحه جرحا يكاد يقطر دما وأدرك فداحة ما صنع أسرع إلى قلمه فمسحه من الدم ودهنه بالمرهم ليأسو الجرح ويداوي ما بضع سنان القلم، فاخذ يقدم وجه العذر ويدير اليراع بالمغفرة ويزكي صفات احمد ويطنب في مدحه ويسرف. فها هو ذا يسم أحمد في مفتتح الرسالة بالادعاء وينعته بالجهل يقول:(كان احمد بن عبد الوهاب مفرط القصر ويدعي أنه مفرط الطول وكان جعد الأطراف قصير الأصابع وهو يدعي البساطة والرشاقة، وكان كبير السن متقادم الميلاد وهو يدعي انه معتدل الشباب حديث الميلاد. وكان ادعاؤه لأصناف العلم قدر جهله بها، وتكلفه للإبانة عنها على قدر غباوته فيها. . . وكان قليل السماع غمرا. . . يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها ويحسد العلماء من غير أن يتعلق فيهم بسبب).
واستطرد يقول بعد كلام طويل فصيح: (فلما طال اصطبارنا حتى بلغ المجهود منا وكدنا نعتاد مذهبه ونألف سبيله، رأيت أن أكشف قناعه وأبدى صفحته للحاضر والبادئ وسكان كل ثغر وكل مصر بان أسأله عن مائة مسألة أهزأ به فيها وأعرف الناس مقدار جهله).
وأخذ يلقي عليه الاسئلة في خلال الرسالة ومنها قوله: (خبرني ما تقول في الفراسة؟ وما تقول في أسرار الكف؟ وما تقول في النظر في الأكتاف! وخبرني متى تستغني الحية عن الغذاء! ومتى ينتفع الضب بالنسيم! وخبرني ما السحر وما الطلسم وما الدنهش! وما قولهم في اللبان الذكر!؟).
وبعد أن سقاه سخراً وأشبعه تهكما وجعله ضحكة الضاحكين وهزأة الساخرين انبرى يشدو بذكره ويتغنى بمدحه مما يجعلنا نعجب من الجاحظ ومن تناقضه الظاهر ومن انقطاع
الملابسة المنطقية بين هجو الفارط المفرط ومدحه اللاحق المفرط. استمع إليه يقول في مدح أحمد: (وهل على ظهر الأرض جميل حسيب أو عالم أديب إلا وظلك أكبر من شخصه وظنك أكثر من علمه، واسمك أفضل من مغناه، وحلمك أثبت من نجواه، وصمتك أفضل من فحواه!). . . ثم تأخذه الأنفة وتغطيه العزة فيتسامى على أحمد بالمعرفة ويتفاضل بالحكمة. يقول: ـ فأنت والله يا أخي تعلم علم الاضطرار وعلم الاختيار وعلم والأخبار أني أشد منك عقلا، واظهر منك حزما والطف كيدا وأكثر علما وأوزن حلما وأخف روحا وأكرم عينا. . . وأنت رجل تشدو من العلم وتنفق من الأخبار، وتموه نفسك وتعز من قدَّرك وتتهيأ بالثياب وتتنبل بالمراكب). . . وأخيرا يحس الجاحظ شدة ما ساقه من الذنب إليه فيعمد إلى تلطيفه ببيانه الساحر الجذاب فيقول:(فان أنت عاقبتني فقد رغبت عن النبل والبهاء، وعن السؤدد والسناء، وصرت كمن يشفي غيظا أو يداوي حقداً أو يظهر القدرة أو يحب أن يذكر بالصولة. ويشفع هذا بكلام يتنفس الملق والدهان يقول: (وأني لك بالعقاب وأنت خير كلك، ومن أين اعتراك المنع وأنت أنهجت الجود لأهله؟ وهل عندك إلا ما في طبعك؟ وكيف لك بخلاف عادتك؟).
وأكتفي بهذا الاقتباس الطويل الذي تعمدت أطالته لإثارة القارئ لتلاوة هذه الرسالة برمتها ليتذوق جمالها الفني وحلاوة عباراتها وعذوبة مائها، وهذه الرسالة عندي لا تمثل الجمال الفني للعبارة بل أنها تمثل جمال المعنى وبلاغته. وللجاحظ رسائل أخر شائقة متقدمة في الفصاحة متناهية في الرصانة والسلاسة والجزالة وهي آية قائمة على تفوق الرجل في أدب المقال وإحسانه فيه أقصى إحسان. والمجال يطول بذكر شيء عن هذه الرسائل ونسرد أسماء بعضها ليدرك القارئ كيف تنبه الجاحظ منذ قرون لمعالجة موضوعات تهز العواطف والمشاعر والانفعالات. فرسالة البخلاء تحوي قصصا غريبة عن بخلاء عصره وعاداتهم، ورسالة الحاسد والمحسود تهجن الحاسد وتذم انفعال الحسد. ورسالة (العشق والنساء) تصف عاطفة العشق وكيف يخنع لها الجبابرة وكيف خنع لها الحجاج الطاغية. وكتابه (المحاسن والأضداد) تناول فيه ذكر محاسن كثيرة من العواطف الفردية مثل عواطف الصدق والعفو والمودة والوفاء والشجاعة والسخاء وحب الوطن؛ ومدح فيه انفعال الغيرة وذمه في صفحات معدودة. وهذا الكتاب لا تظهر فيه شخصية الجاحظ الخلاقة لأن
مادته منقولة عن الأعراب. وعلى العموم فمؤلفات الجاحظ الأدبية بجملتها تفتق اللسان وتقوي العارضة وتمدنا بثروة واسعة من التعابير الجميلة وتعطر أفئدتنا وتنعش صدورنا بمعانيها اللطيفة الفريدة. يقول المسعودي في هذا الصدد: (كتب الجاحظ تجلو صدأ الأذهان وتكشف واضح البرهان) ويقول ابن العميد: (كتب الجاحظ تعلِّم العقل أولاً والأدب ثانيا. . .)
ثقافة الجاحظ العلمية
ويعني ابن العميد بهذا القول أن يقول أن كتب الجاحظ تعلم العلم أكثر من أنها تعلم الأدب، والواقع أن كتب الجاحظ الأدبية لا العلمية تتضمن ملاحظات بارعة وإشارات دقيقة ومعلومات قيمة يمكن أن تبنى عليها بحوث علمية رائعة.
حدثني أحد المهتمين بالثقافة العربية أنه قرأ رسالة التفاح للجاحظ في مكتبة بألمانيا فوجد بها ملاحظات وتجاريب للجاحظ مدهشة منها أن الجاحظ كان يكتب بمادة كيمياوية بعض الأسماء على التفاحة قبل نضجها. فتظهر الأسماء على التفاحة بعد النضج، وكأنها خلقت على هذه الصورة وكأن الأسماء نقشت على التفاحة نقشا طبيعيا. وذكر أن الجاحظ أبان في هذه الرسالة كيف تتلون التفاحة في الطبيعة: فالقمر يخلع عليها اللون الأصفر والشمس تهبها اللون الأحمر. وهذه الحقائق لا أعلم مبلغ صدقها. ولكني أثبتها بقصد الإثارة للبحث عن هذه الرسالة ونشرها. ولا شك في أن رسائل الأدب لا تخلو من معلومات مفيدة للعلم فما بالنا بالرسائل والكتب العلمية مثل كتب: النبات، والمعادن، والكيمياء، والطب وغيرها التي لم نطلع عليها وا أسفاه إلى الآن، والتي أفاد منها الغربيون واستقوا آراءهم. فقد جاء في دائرة المعارف الإسلامية أن كازويني وداميري اعتمدا في بحوثهما العلمية على كتاب الحيوان والنبات للجاحظ، ونحن وان كنا قد عثرنا في مطالعاتنا على طائفة من حقائقه العلمية فان هذه الحقائق تعتبر نقطة من محيط. وشعاع من شمس قد يهدف ذكرها في هذا الموضع إلى سوء التقدير وغباوة الحكم، ولهذا فإني اكتفي هنا بتوضيح مذهبه في البحث وطبعه العلمي وحبه للتحقيق والتدقيق. فها هو ذا يقدم لأحد كتبه في الحيوان بالتعوذ بالله من أن يدعوه شغفه بإتمام كتب الحيوان إلى أن يصل الصدق بالكذب أو يدخل الباطل في تضاعيف الحق. أو يتكثر بقول الزور أو يتلمس تقوية ضعفه باللفظ للحسن وستر قبحه
بالتأليف المونق. وهذه الأقوال لا تصدر إلا من رجل وهب ضميرا علميا يزعه عن الأوهام وينزهه عن ذكر المغالط ويدعوه إلى التثبت من العلة وتنقية الثقة من الريبة، وتطهير الحجة من الشبهة.
وأنا لنراه في كتبه ومؤلفاته يستند كثيرا إلى التجربة ويعتمد على الملاحظة، فإذا ما أعوزته التجربة ولم تتيسر له الملاحظة رجع إلى ثقة من الثقات للمذاكرة فإذا لم يجد الثقة الذي يعتمد عليه ويتذاكر إليه ربأ به ضميره عن نقل المعارف نقلا مهما كان مصدرها. فها هو ذا في كتب الحيوان تناول ذكر كثير من الحيوان والطير والحشرات ورجع إلى ما كتب أرسطو في الحيوان، وأخذ عنه بعض ما حققه بنفسه أو قامت التجربة على صدقه. ورفض أن يثبت في كتبه معلومات غريبة عنه، فنراه مثلا لم يكتب شيئا عن (السمك) مع أن ارسطو أفاض وأشبع القول في هذا الموضوع. ولكن الجاحظ أبى أن ينقل عن ارسطو شيئاً في هذا البحث؛ وعلة ذلك انه لم تتوفر له الملاحظة عن السمك وعن طباعه وأحواله وأنه سأل البحريين عن بعض الحقائق الواردة في كتب ارسطو فلم يصل منهم على قول محقق؛ لهذا ترك هذا الباب كلية ولم يكتب فيه حرفا.
وأنا لنتمنى أن نجد مثقفا مصريا أو شرقيا يخصص نفسه؛ وينفق عمره في التنقيب عن كتب الجاحظ العلمية في مظان وجودها ومحال مكامنها. وينقلها إلينا ليخدم بذلك الثقافة المصرية. لأن البحوث التي لدينا عن الجاحظ كلها موجزة مجملة؛ وكلها تركت الناحية العلمية جانبا. فالسندوبي قصر بحثه الواسع على (أدب الجاحظ) وترك علمه. واستقى مادته من جمهرة صالحة من الكتب الأدبية، والأستاذ خليل بك مردم كتب بحثا مجملا مفيدا عن الجاحظ وثقافته. والأستاذ أحمد أمين كتب فصلا بديعا موجزا عن الجاحظ ومس الناحية العلمية مساً خفيفا. وليس من شك في أننا في حاجة إلى من يدرس الجاحظ درسا واسعا من جميع نواحيه. واليوم الذي نجد هذا الرجل هو اليوم الذي نقع فيه على ثقافة ممتعة، ونواح طريفة للتفكير العربي.
ثقافة الجاحظ السيكولوجية
ومن النواحي الطريفة لثقافة الجاحظ الناحية النفسية أو السيكولوجية. وهذه الناحية ماثلة بجلاء في طائفة من كتبه. وهي أشد ما تكون جلاء في كتب الحيوان السبعة. فقد تناول في
هذه الكتب نفسيات الحيوان والطير والحشرات وتحدث عن أخلاقها وطباعها وعاداتها وضمنها معلومات عجابا وملاحظات دقاقا تشهد بسعة ثقافة الجاحظ وبأنه أنفق عمرا طويلا في معاشرة الطير ومؤالفة الحيوان ومراقبة الحشرات، وانه هام من أجل ذلك في الغياض وتوغل في بطون الأودية وركب البحار وسكن الصحاري ونبض قلبه مع النبات واهتز لسحر الطبيعة: ففي كلامه عن الحيوان تحدث عن نبالة الكلب وذكر انه يتخير أنبل موضع في المجلس، وتحدث عن القط وذكر انه لئيم خؤون وشره شديد الشراهة. وفي الوقت نفسه يؤثر أولاده بالأكل على نفسه!
وتكلم عن الديك وإيثاره الدجاج على نفسه في سن الشباب؛ فإذا هرم صار أنانيا لا يعرف إلا نفسه. وتكلم عن الفيل وجرأة قلبه وقوة عزمه بينما هو يفزع من القط فزعاً شديدا! وتكلم عن اليربوع وسعة حيلتها وانها علمت الفرس والروم الاحتيال واتخاذ المطامير على تدبير بيوتها. وأفاض في ذكر عداوة الحيوان بعضه لبعض، فالأسد عدو للكلب يشتهي لحمه والذئب يشتهي لحم الثعلب والثعلب يصيد القنفذ وهكذا. وفي الفصول التي عقدها عن الطير أفاض في ذكر الحمام والعصافير. فذكر أن العصافير لا تقيم في الدار إذا خرج أهلها منها وأنها شديدة العطف والبر بأولادها وتحتمل الأخطار في سبيل الذود عنها. وتحدث عن الحمام فذكر حبه للناس وأنس الناس به وأنه لا يهجر الدار إذا هجرها أهلوها وأنه لا يغير. . . وفي الفصول التي عقدها عن الحشرات تكلم عن النحل وكمال غريزته وعن خلق الخلية وما فيها من غرائب الحكم وعجائب التدبير وكيف يتضافر النحل في عمل الخلية. فمنه ما يقوم بجمع المادة من الشجر والزهر. ومنه ما يبني البيت ومنه ما يقوم لعمل الشمع. وتكلم عن العنكبوت وبداعة نسجه. وطريقته الحكيمة في صنع مصيدة من خيوطه لإيقاع الذباب وصيده. وتكلم عن عداوة القنفذ للحية والحية للعصافير والعصافير للجراد والجراد لفراخ الزنابير والزنابير للنحل والنحل للذباب والذباب للبعوض، وغير هذا من أجناس هذه المعلومات وأشباهها مما وعته صفحات كتب الحيوان. وقد ذكرنا وشلا منها، ولا ريب أن المشتغلين بعلم النفس يجدون في هذه الكتب معلومات قيمة مفيدة. وبالأخص المهتمون بعلم النفس التجريبي الحديث الذي تدور بحوثه على درس الحيوان والحشرات. فجدير بنا أن نهتم بهذه الكتب التي سبقنا الغربيون إلى تعرف خطرها وقدرها
ونباهتها.
الخلاصة
ونخلص مما تقدم إلى أن الجاحظ كان رجلا مثقفا بكل معنى الكلمة، ولأقصى درجة من درجات الثقافة العالية، فقد وعى أدبه ثروة وجمالا وملاحة، وحوى علمه براعة الملاحظة وصدق التجربة، وتغلغلت نفسه في أعماق نفوس البشر ونفوس الحيوان. وسلك مذهب الحرية في الدين فأحب جمال الدين وشعر العقيدة. ولم يتحرج من اعتناق مذهب المعتزلة برغم مخالفته للرأي السائد. وقصارى القول أن الجاحظ أديب العلماء وعالم الأدباء غير مدافع؛ وفيلسوف عملي لا مذهبي وعالم يكثر الملاحظة والتفكير. وملاحظاته أغزر من تفكيره. فجدير بنا بعد هذا أن نتذوق ثقافته فنذوق روح الحياة وننشق عطر البحث ونستمتع بجمال الأسلوب ولذة المعرفة.
ميت غمر. مصطفى عبد اللطيف المحامي
من الشعر المرسل
ذو الفأس
للآنسة سهير القلماوي. ليسانسيه في الآداب
جان فرانسوا ميلين رسام فرنسي عاش في النصف الاول من القرن التاسع عشر. وقضى أخريات حياته في الريف على مقربة من غابة فونتينبلو حيث رسم لوحاته الريفية المشهورة. أشهر هذه اللوحات لوحة (الانجلوس) وهي تمثل فلاحة وفلاحاً سمعا صوت جرس الكنيسة فهما يصليان خاشعين. ومن أشهر لوحاته (ذو الفأس)، وهي تصور فلاحاً متكئاً على فأسه وقد بلغ به التعب والبؤس أقصى درجات الألم. تلك الدرجة التي يشعر فيها الإنسان أنه فقد حواسه.
جاء بعد الرسام ميلين الشاعر الأمريكي أدوين مركهام فنظم قصيدة أوحاها إليه هذا الفلاح المتكئ على فأسه. ولقد أذاعت هذه القصيدة صيت الشاعر حتى أصبح يعرف باسم مؤلف ذي الفأس.
وهذه قصيدة أوحتها إلي قصيدة الشاعر مركهام والرسام ميلين. ولقد راعيت فيها خاصتين من خواص الشعر العربي: وهما الوزن وتمام المعنى في البيت الواحد وأهملت الخاصة الثالثة وهي القافية. واشعر تماما إن إهمال القافية لا يحس به ما دام المعنى كاملا في البيت الواحد فهل يشعر القارئ بمثل ما اشعر؟
ذو الفأس
متكئاً على الفأس في انكسار
…
منحني الظهر من الهموم
ينظر في الأرض بلا انتهاء
…
فليس إلا نحوها المصير
قد أوهنت عظامه السنين
…
وغضنت جبينه العصور
وقسوة المسعى وراء العيش
…
قد أفقدته جزءه الإنساني
من أطفأ الشعلة من حياته؟
…
من رده وثوره سواء؟
لا يعرف اليأس ولا الرجاء
…
لا يعرف الآمال والأحلاما
ما المجد عنده وما الجمال؟
…
ما الجاه؟ ما السمو؟ ما الخلود؟
ما أبعد الهوة بين هذا
…
وبين حلم العالم المنشود!
إذاك من قد أبدع الرحمن؟
…
إذاك من قد كوّن العظيم؟
إذاك من قد خصه الجبار
…
بالعقل والعرفان والسلطان؟
يا سادة العبيد والأراضي
…
هذا الذي قد صنعت أيديكم!
هذا الذي قدمتم لقاء ال
…
غفران والرحمة من باريكم!
يا سادة العبيد والأراضي
…
كيف لقاء الرب يوم الدين؟
يوم مثوله أمام الله
…
بعد سكون الساع والسنين!
في الأدب المصري القديم
فنون الشعر الفرعوني (القصائد، القافية، الأوزان، البديع،
الجناس)
للأستاذ حسن صبحي. مؤلف قصص البردى
يحفظ التاريخ للمصريين القدماء سبق الابتكار في كل ناحية من نواحي المدنية. فنراه يسجل لهم أولوية الصناعة كما ينعتهم بالزراع الاول، ثم يقص علينا من أنباء بعثاتهم التجارية إلى النوبة والى الشام والى العراق ما مكن لذوي المطامع منهم أن يستبسلوا في الإغارة على هذه البلاد بين حين وحين، وهم إذ ينتصرون يملكون الأرض ومن عليها فينشرون من أسباب المدنية بين أهل هذه البلاد ما بقي أثره إلى اليوم فيها سواء كان في أساليب الزراعة أو في طرائق الصناعة أو طرق التجارة، أو كان في اللغة والنحت والتصوير أو الموسيقى والرقص والشعر مما بقي أثره لهذا الوقت الحاضر في روح كل فن أو مهنة أو صناعة تمت للعصر القديم في أي من هذه الأقطار بصلة.
وكما كان المصريون في كل فن الأول فقد كانوا أيضا الشعراء الاول في هذا العالم، رأوا وأحبوا ما يحيط بهم من جمال الطبيعة الهادئة ومناظرها المتكررة الساكنة، فنظموا الشعر وقصدوه في وصف النيل ومجراه وفي مطلع الشمس ومغربها وفي فضية القمر وشحوبه، وفي خضرة الحقل ووحشة القفار. ثم عاشوا بين أسباب المدنية التي أقاموها فوجد الحب والبغض والحسد والشكر وقامت الحروب وأقيمت الصلوات، وأحسوا كل هذه الصور في الحياة فقالوا الغزل والحمد وهجوا واستعدوا وأشادوا واستنهضوا، وكان لابد لقول هذه الصور المختلفة من الحياة من قوالب تصاغ فيها، فخلقت القوالب وكانت القصائد والقوافي والأوزان والسجع، وتطور افتنانهم ورقى فدخلته التباديل ولعب فيه الجناس اللفظي. أليست هذه كلها أحدث فنون الشعر المصري؟
القصائد المصرية
مذ خلق المصريون القدماء لأنفسهم الكتابة الهيروغليفية وهم يكتبون الشعر في صورة غير صورة النثر. يكتبونه مقطوعات مشطرة ثلاثية أو رباعية الشطرات، متقاربة الطول
مرتبطة المعنى، تستقل كل مقطوعة منها في مناسبة تميز المقطوعة من غيرها، حتى في أقدم صور الشعر، قبل أن يفطن المصريون إلى ضرورة فصل الشطرات عن بعضها بنقط حمراء في كتابته للدلالة على الوقف.
وانك لتجد في القصيدة التالية ما يعطيك صورة حقيقية لأقدم أشكال الشعر المصري وهي منقولة عن الأصل الهيروغليفي: أنت تبحر في سفينك العطري الخشب
يملأه الرجال من المقدمة إلى السكان
فتصل إلى مضيفتك العامرة هذه
التي ابتنيتها لنفسك
يملأ فمك النبيذ والخمير
والخبز واللحم والفطير
وتذبح الثيران وتفتح الأدنان
وتنشد الأغاني كلها أمامك
يضمخك كبير معطريك بالدهون الزكية
ويحمل إليك الأكاليل سقاتك
ويقدم إليك الطيور ناظر فلاحيك
كما يقدم إليك السمك صيادك
القوافي
وليس التشطير والمقطوعات وحدها هي ما تدل على شعرية النظم المصري وتميزه من النثر، لكن القوافي أيضا تدل عليه وتميزه. ولو أنها من نوع غير الذي نعرفه في شعرنا الحاضر في أية لغة من اللغات. فقد كانت قوافي الشعر المصري قوافي استفتاح يستهل بها الشاعر أبيات قصيدته ويكررها في مستهل كل مقطوعة كما ترى في القصيدة التالية المنقولة عن الهيروغليفية والمعروفة بقصيدة (جدل المتعب من حياته مع روحه):
شوف كم هو بغيض اسمي
شوف أكثر من رائحة الدود
في أيام الحر حين تكون السماء ساخنة
شوف كم هو بغيض اسمي
شوف أكثر من صيد السمك
في يوم الصيد حين تكون السماء ساخنة
شوف كم هو بغيض اسمي
شوف أكثر من رائحة الطير
أكثر من مستنقع فيه إوز
إلى آخر القصيدة الطويلة التي تبدأ دائما؛ (شوف كم هو بغيض اسمي)، وأنا إذ أعرب اللفظ المصري القديم إلى اللفظ الحديث الدارج (شوف) إنما أريد أن أعطي القارئ فكرة صحيحة عن معنى اللفظ الأصلي الذي يراد به أكثر من الرؤية بالعين، ومقصود به أن يلفت نظر القارئ أو السامع في تعجب لمبلغ التشبيه من نفسه ووقعه فيها. مما تحمله كلمة (شوف) الدارجة التي نستعملها في حديثنا الآن عندما نريد لفت النظر والحس إلى التعجب من أمر نهتم له.
الأوزان الشعرية
من النقائص الكبيرة في دراستنا لِلُغَةْ المصريين القدماء عدم معرفتنا معرفة أكيدة لنطق ألفاظها كما كانوا ينطقونها. وكل ما استطعنا أن نصل إليه في هذا النطق الذي احتفظت به اللغة القبطية لألفاظها وهي تأخذها من المصرية فتكتبها بحروف إغريقية وتخضعها حتما لاختلافات كثيرة متباينة يرجع بعضها لاختلاف نطق اللهجات المصرية بين صعيدي وبحيري وفيومي وأخميمي، والبعض لاختلاف نطق حروف الكتابة الإغريقية عن المصرية، والآخر لتدخل كثير من الكلمات الأجنبية في المصرية، وأخيرا لاضطرار الأقباط إلى نحت كثير من الألفاظ الجديدة مما يتفق مع تطور العمران وازدياد مقتضيات الحياة واتساع أسبابها.
لهذا كله نعتمد في أوزان الشعر على ما لدينا من الشعر المصري المتأخر الذي كتب في عهد المسيحية وبقي لنا باللغة القبطية يعطينا صورة هي أقرب الصور إلى الأصل القديم من غيرها.
والثابت الآن من قواعد النحو والصرف في اللغة المصرية القديمة التي أصبحت راجحة
التفسير في العصر الحاضر إن كل كلمة ذات معنى في اللغة اسما كانت أو فعلا أو صفة لم تكن تحتوي إلا على حرف متحرك واحد شديد الحركة، وإذن فكل شطرة من شطرات الشعر المصري تحتوي على وقفتين أو ثلاث أو أربع هي مواقع الحروف المتحركة الشديدة الحركة بينها وهدات متفاوتة الطول والقصر تكون الميزان الشعري للشطر، وتكون بهذا الوصف ميزانا شعريا مطلقا لم تصل بعد إلى ربط صنوفه وتبويبها.
واليك مقطوعة من الشعر المصري المتأخر بنصها القبطي مشار تحت مواضع الحركة الشديدة في شطراتها بخطوط قصيرة والى جانبها تعريبها ولم أجد خيراً منها مثلا لبيان أوزان الشعر المصري:
النص المصري (بالقبطية) التعريب
ارشان إرأومي بوك ابشمو رجل آخر يذهب للخارج
تفر اورومي شاف اكتوف ابف أييدور سنة ثم يعود إلى بيته
أ - أرخيليتس بوك اتانزيف لكن أرحيليتس ذهب للمدرسة
اس أوميشي انهوا بينآ وأبف هو فكم هي الأيام حتى انظر إلى وجهه
البديع
والشعر المصري يفيض بالبيان والبديع، وهو في كل أطواره وعهوده يدل على أن الشاعر المصري لم يكن يكتفي بالسطر الواحد في المقطوعة ليدل على معنى يريد أن يصوره في صورة بارزة جميلة فاكسب بتلك الفصاحة لغته ثوبا أنيقا رقيقا. صوّر دقة إحساسه بما كان يبديه من العبارات المتشابهة المعنى المختلفة الألفاظ البديعة الاختيار، التي يقتضي تخيرها نعومة في الذوق وعلو لا يتفق لكل الناس. فهو يقول حين يتحدث عن (تحوت)
(يستيقظ القاضي - يظهر تحوت)
والقاضي هو تحوت إله الحكمة ثم يقول عن الملك.
(وعندئذ تكلم أصحاب الملك وأجابوا أمام ربهم)
وربهم هو الملك لكن لكل من الجملتين معناها الخاص على رغم تشابه الغرض. ثم انظر كيف يصف واقعة في موضع آخر: (أولئك الذين يدخلون إلى هذا القبر. . . أولئك الذين يرون ما فيه)
هاتان الجملتان تبدوان للقارئ السطحي تكراراً، لكن القارئ الدقيق الإحساس يستطيع أن يتبين فيهما فرقا أراده الشاعر المصري القديم. هو يريد أن يأخذ يد الداخل إلى القبر فيضعها على ما في القبر من نقوش وتحف اكثر مما فيه من شيء آخر. أليس في هذا منتهى دقة الحس ونعومة التصوير؟
الجناس
وكما يشتهر المصريون في الوقت الحاضر بحبهم الشديد للجناس اللفظي الذي تفيض به الأغاني والأشعار الدارجة فان أجدادهم المصريين القدماء هم أصل التراث الفني البديع الذي يلذ للقارئ أن يطالعه وينعم بفكاهاته.
خذ مثلا الأغنية المصرية الدارجة:
يا دي الجمال والدلال والحب ونهاره
والشَّعر فوق الجبين كالليل ونهاره
والدمع فاض م الجفون كالبحر وانهاره
قلبي أسير في هواك ويحل انهاره؟
والكلمات الأخيرة في كل الأبيات متشابهة النطق لكنها تؤدي معاني مختلفة تمام الاختلاف.
مثل هذا الجناس كثير في الشعر المصري وجميل لكنه مستحيل الترجمة لأن اللعب فيه يدور على الألفاظ في علاقاتها بالمعاني، فإذا ما تغير اللفظ بترجمته فقد الجناس بطبيعة الحال. ومع ذلك فسأحاول أن أنقل هنا بضعة شطرات من هذا الشعر الذي يحتوي الجناس وأنا أعربه عن المصرية بتصرف كبير لأوفق فيه ألفاظ الجناس وأقربها للفهم لا أكثر ولا أقل، هي قصيدة طويلة في وصف عربة الحرب قال فيها واصفها:
(عرفت رأسها كل البلاد وخر لها القواد)
ورأس العربة أي مقدمتها، وإذ دخلت في ركاب الملك كل البلاد فقد عرفتها، ولأنها مصنوعة على شكل رأس كبش رمزا لآمون إله هذا العصر فان القواد جميعهم خروا سجداً لهذا الرأس. ثم يقول:
(مقابض عربتك عنات وعشتر)
يريد بذلك من جهة مقابض العربة التي يمسكها الملك وهو يحارب فيها، من الجهة الأخرى
أن القابضين على زمام العربة هما إلها الحرب في الغربة.
ولا يستطيع القارئ مطلقا أن يتذوق جمال هذا الجناس إلا وهو يقرأ النص المصري القديم الذي يدل على مبلغ ما وصل إليه المصريون من الافتنان في الشعر والصنعة الشعرية ومبلغ حبهم للنكتة والتورية منذ أربعين قرنا مضت، ناطحتهم فيها شدائد توهن أصلب الأعواد ومع ذلك لم تذهب بروحهم الكبيرة ونفسهم المرحة مدى هذه القرون الطويلة.
نهضة الشعر العربي وموسم الشعر
رسالة من الدكتور أحمد زكي أبو شادي
سيدي محرر (الرسالة):
اسمح لي أن اشكر لكم عنايتكم بخدمة الشعر العربي. ولقد أتيح لي الاطلاع على فاتحة العدد الأخير من (الرسالة) إذ أشرتم إلى حالة الشعر العربي بعد شوقي وحافظ ثم تكلمتم عن فكرة موسم الشعر، وإني حباً في الإنصاف الأدبي وفي خدمة الحقيقة التاريخية أستأذنكم في التعليق على فاتحتكم بهذه السطور القليلة.
لقد أصبتم في إشارتكم إلى ضياع شعر الناسبات بعد شوقي وحافظ. وأما الشعر الفني الأصيل المتسامي بالنفس الإنسانية فقد ازداد تألقه، وإن الشعب الذي تُصقَل عواطفه بمثل هذا الشعر والذي يتجه به إلى مثل أعلى لن يكون الخاسر بفقدان شعر الحماسة الجوفاء والوطنية العمياء وأمداح المواسم المعهودة. . . إن أحسن ما في شوقي وحافظ حي دائم تضاف إليه الآن جهود الشباب الشاعر المثقف المتوثب. وقد أصبتم بقولكم:(إن الزمن الذي يمحص الأشياء فينفي البهرج الزائف ويثبت الحق الصريح هو الذي يعرف مكان هذه الجهود من عالم الفناء أو من عالم الخلود).
بدأ نشاط (جمعية أبولو) منذ تكوينها في حياة كل من شوقي وحافظ وبرنامجها هو لم يتبدل. وقد كان ولا يزال من المبادئ الأصلية للجمعية أن الشعر العربي لم يغنم فنياً من استخدامه في المناسبات السياسية وغيرها استخداماً لا ضوابط له. ويرجع للجمعية الفضل في وقف ابتذال الشعر في الصحف والقضاء على جعله مادة للتكسب الوضيع وفي الارتفاع بتعريف الشعر والتسامي بغاياته مع العمل على إبراز المجهول من الشعر العصري الجيد وإظهار الشعراء القادرين الخاملين وما هم بالقليلين.
ستصلكم هذه الكلمة وعدد (ابولو) المخصص لذكرى المرحوم حافظ. ومن دراستكم له وللعدد الذي خصصناه من قبل لذكرى المرحوم شوقي ستقتنعون أننا لسنا من يجحد جمال القديم، فللفن جماله كيفما كانت صبغته ونزعته، وفي الوقت عينه لسنا من يتجاهل روح العصر والتطور الذي بلغته الفنون الجميلة جميعها اتجاهاً وتعبيراً ونحن جدّ حريصين على أن ينال الشعر العربي نصيبه من كل هذا واثقين من حيويتنا الشاعرة الفسيحة الأفق.
إن الروح العالمية التي دعتنا إلى اختيار اسم (أبولو) لجمعيتنا ولمجلتنا هي نفس الروح التي نصت في دستور جمعيتنا على إقامة مهرجان سنوي وعلى تمثيل العالم العربي. ففكرة إقامة موسم سنوي للشعر هي فكرة أصلية لجمعيتنا وغير صحيح نسبتها إلى أي هيئة أو فرد آخر، ولم يدر بخلد صديقنا الهراوي سوى استغلال الموسم النبوي للشعر الديني، ويرجع لأعضاء جمعيتنا الذين لبُّوا الدعوة إلى اجتماعه الأول الفضل في التخلي عن هذه الفكرة والدعوة إلى إقامة موسم سنوي للشعر الخالص، وكل هذا ثابت لا شك فيه.
لم تغضب جمعية (أبولو) إلا عندما رأت استغلال مبادئها وبرنامجها بأسماء أخرى، واقتران ذلك بدعايات ضدها، فان صديقنا الهراوي وصحبه من المحافظين ما كتموا يوماً خصومتهم لجمعية أبولو فقد كانوا وما يزالون وسيبقون دائماً خصوماً لها، لأن الجمعية ذات روح تعاونية قوية وتأبى إباءً فكرة الإمارات والوزارات الشعرية وعبادة الأفراد وتعمل بالروح التي أطراها شوقي في قوله:
لعلّ مواهباً خفيت وضاعت
…
تُذاع على يديك وتُسْتَغَلُ
بينما أصدقاؤنا الأعزاء يحلمون دائماً بالمجد الشخصي على غير ابتكار رائع يؤهلهم إلى شئ من هذا الحلم.
كذلك يرجع إلى (جمعية أبولو) الفضل في تقدير رعاية وزارة المعارف وفي ضم الصفوف وترك الحزبية والمعاونة على تكوين (جماعة موسم الشعر) التي نالت (جمعية أبولو) أغلبية الكراسي في إدارتها وبعد الاعتراف بمنزلة وجهود (جمعية أبولو) ودعوتها إلى مناصرة موسم الشعر بكل قواها لم يبق هناك خلاف في هذه المسألة وإن بقيت الذكرى واليقين بأن هذا لن يكون آخر خلاف بيننا وبين إخواننا المحافظين، وأنهم لن يتورعوا عن استغلال آراء الجمعية في أي وقت مع الطعن فيها.
وتفضلوا بقبول إعجابي وولائي.
تجديد التقليد
(بهذا العنوان نشرت مجلة المغرب التي تصدر بالرباط هذا المقال فأحببنا أن يطلع أدباؤنا عليه)
في مصر اليوم جماعة من حاملي الأقلام بلغ بها حب التجديد إلى حد أنها رأت التقليد الذي يرسف في أغلاله كتاب العربية وشعرائها قد بلي وقدم، وأنه في حاجة ماسة إلى التجديد فراحت تسود أوراق الصحف والمجلات بالنهي عن تقليد العرب وأسلوب العرب، وتفكير العرب، وكل ما هو من العرب. . . لا لتضع في محله شيئاً جديداً مبتكراً، ولكن لتحاكي الغرب وأسلوب الغرب وتفكير الغرب! وكل ما جاء عن الغرب وإن لم تشعر بذلك، أليس هذا تجديدا. . . للتقليد؟ أو ليست هي جماعة المجددين؟ وعدم فهمكم لها جعلكم ترمونها بعدم القدرة على التفكير بالعربية وأساليبها الضادية؛ وكيف تكون غير قادرة على هذا وهي التي تعلمت في أوروبا وقضت شهوراً وأعواماً في (حي مونبارناس) والحي (اللاتيني). . . وهلم جرا. لا ليس هذا (عجزاً يتظاهر بالقدرة وجهلا يتستر بالتحذلق) كما زعم الزيات بل سيل التجديد طغى حتى على التقليد وأراد تجديده.
أتدري ماذا تنكر هذه الجماعة على العربية؟ تنكر عليها أنها خالية من القصة والرواية ومن (التراجديا والكومديا والميتولوجيا) وأن أدبها ليس منقسما مثل الأدب الغربي إلى (كلاسيكي ورومانتيكي) وأن شعرها ليس منقسما إلى (أبيك وليريك) وأن جن شعرائها لم يتأله ولم يتخذ (أبولو): ذلك الاسم العالمي اسما له، وأن التاريخ العربي الإسلامي ليس منقسما كالتاريخ الغربي إلى:(العاديات والقرون الوسطى وعصر النهضة والعصر الحديث والعصر الحاضر)
وصفوة القول أن ذنب العربية هو عدم مجيئها على النمط الغربي، وقد تكون جديرة بأن تقلدها جماعة المجددين المصريين لو أنها احتوت على مثل تلك الأقسام، وأخشى مع هذا أن لو كان مثل ذلك للعربية دون الغرب لألفته قديما بالياً ويكون مع ذلك الحق معها؛ لأنها ليست جماعة المبتكرين بل جماعة المجددين، وكل ما يهمها هو التجديد لا الابتكار. ولو كان يهمها هذا لأخرجت لنا عوض هذا التقليد المشوه والصخب الفارغ والكلام الأجوف إنتاجا فكريا صحيحاً، ولست أنكر أنها جاءتنا (بمعجزات) فنية جديدة كل ما فيها غربي إلا بعض ألفاظ وحروف عربية.
وهنا ضرب الكاتب المثل برسالة الأستاذ توفيق الحكيم إلى الدكتور طه حسين، ثم لخص بعض رأي الأستاذ وعقب عليه بقوله: هذا رأي الكاتب، أما رأيي أنا فهو أن مصر القديمة لولا تلقحها بعناصر أجنبية لما كان لها أدب وفكر؛ والتاريخ بالباب وهو أصدق مرشد وأعظم برهان، فلولا الإغريق لما كانت مدرسة الإسكندرية الفلسفية، ولولا العرب لما كان لمصر أدب أو فكر حديث يذكر ولا ذكرت مصر في تاريخ العالم إلا بفنها وهندستها الدينية؛ والحقيقة أن تلك الجماعة إنما تريد إبدال المقلد: إبدال العرب بالغرب؛ وقد بلغ تطرف صاحب مقال (الرسالة) إلى حد أنه رمى الكاتب الوحيد الذي ابتكر جديداً في العربية ولم يحاك أحداً بالتقليد. وكتاب المويلحي (حديث عيسى بن هشام) لا يزال قريب العهد، وما يعنيني الأسلوب إذا كان الكتاب غربيا مبتكراً؟ ولم تنتج مصر بعده جديداً سوى (الأيام) لطه حسين. ومنذ سنوات كانت جماعة المجددين المصريين تبرق وترعد بمحاسن المدنية الغربية وأفضليتها وسوء الحضارة الشرقية. ولما أراد الله رفع الستار عن مساوئ الأولى وظهر إفلاسها بعد الحرب فبرز كتاب أوروبيون عظام للتنديد بها وتفضيل الحضارة الشرقية في عدة نواح وخصوصا الروحية منها، أخذت هذه الجماعة نفسها تمجدها تقليداً لهؤلاء لا عن عقيدة، وهذا حد التقليد!
إني لا أنكر على هؤلاء الكتاب حملتهم على التقليد وإنما أنكر عليهم أولا سعيهم في إبدال المقلد بدون كبير فائدة. وثانيا أنهم بدلا من أن يشتغلوا في ابتكار جديد والعمل على الإنتاج الصحيح يضيعون وقتهم في الصخب. أما خلق أدب مصري قومي فهو (مودة) بالية قديمة بالنسبة لمن يتخذ لقب مجدد؛ على أن الأدب الجميل جميل في كل محل وتحت كل شمس وقمر و (ألف ليلة وليلة) حجة لذلك. وأما أن يكون عدم وجود الرواية والقصة سبب فقر أدبنا العربي فهذا غلط، فلربما جاء فكر عربي عند نضوجه بشيء أفضل من القصة والرواية، شيء يلائم طباعنا وأدبنا؛ وإن كان لا بد منهما فسيجيئان في وقتهما حسبما تنضج وتختمر الفكرة في عقول أبناء العربية، ولا يكفي قولنا لهما كونا فيكونان لأن النبوغ يتدفق من تلقاء نفسه ولا يستخرج، وكذلك تقسيم الأدب العربي على النمط الغربي؛ وله تقسيمه الذي لا يحتاج إلا إلى إصلاح وضبط. ويكفي مثلاً لفساد تطبيق أقسام التاريخ الأوربي على التاريخ العربي الإسلامي، أني كنت أقرأ كتابا عن تاريخ الإسلام والعرب
لكاتب مجدد جرى فيه على الأسلوب الغربي في التقسيم، جاء فيه:(. . . وقد كان آباؤنا يتخبطون في بحر الجهل والتعصب طيلة القرون الوسطى. . .) والكل يعلم أن القرون الوسطى في التاريخ العربي هي أزهى المدنية الإسلامية العربية.
وأرجو لمصر أن تخرج من هذا المخاض بخير وعافية بفضل ما بقي صالحا سالما من أبنائها الكرام، وأن يسفر هذا المخاض عن إنتاج صحيح مبتكر؛ وألا تكتفي جماعة المجددين بإبدال المقلد فحسب.
محمد حصاّر
العبقرية علم وأدب وفن
للأستاذ الحوماني
أمامك ما تحسبه في الطبيعة كائنا ومكيناً من عظمة وقفت عقولنا دون حدها أو تصورها، فكنا أمامها ولا نزال حائرين لا إلى الرشد كل الرشد فنتبين مصدرها، ولا إلى الجهل كل الجهل فنصدف عنها بطبعنا. لأن الحي لا يستطيع أن يفكر فيما وراء حياته. فهو يريد أن يقيس ما خفي عنه على ما بدا له، ولعل ما يبدو له هو خلاف الحقيقة التي ينشدها من وراء ما يحس إذ يمكن أن يكون ما يتراءى له اليوم حقيقة ينكشف عنه الغد خيالا، نتيجة كذب في حس أو خطأ في فكر.
وربما كان ما يأتيه العقل في يقظته وهو قيد الحواس حلماً يبدو له بعد تحرره من رق هذه الحياة الدنيا، فتكون نسبة ما نأتيه اليوم إلى ما ندركه بعد الموت كنسبة ما نأتيه في الحلم إلى ما ندركه في اليقظة.
فإذا ثبت لدينا أن في الأثر لا محالة جزءاً من روح المؤثر ثبت بداهة إن هذه النفس جزءا من القوة المسيطرة على الكون أو القائمة به ضرورة، إنها (أي النفس) إحدى جزئياته الداخلة في مفهوم كلياته.
فالإرادة كما يبدو لنا هي أول خصائص النفس وقد كانت الكنز الأولى في خزانتها ولكن هل هي الجزء الذي ينم على الفكرة التي ابتدعتها في الكون؟
قد تكون كذلك إذا ثبت لنا أنها هي جماع ما في النفس من جمال، ولكن أنّى لها أن تكون كذلك وليست هي المثل الأعلى في الإنسان بله الحيوان بداهة أن مناطها في النفس حب البقاء والسيادة والاستمتاع؟ فالمرء يريد بطبعه ألا يتناول من الخارج إلا ما يتصل ببقائه وسيطرته واستمتاعه.
فإذا كان ذلك مناطها ورأينا أن الصلاح كثيرا ما يكون في كتبتها وصدها عما تأتيه، علمنا إذ ذاك أن المثل الأعلى في النفس الذي يشير إلى حكمة الصانع الاول هو غير الإرادة.
ثم إذا استعرضنا ما تأتيه هذه الإرادة من عمل بعد تنفيذه أو في طريق هذا التنفيذ، نحس بشيء يشعرنا بصحة هذا العمل أو فساده. فما هو أذن ذلك الشيء الذي نشعر به في أنفسنا غير الإرادة؟
هل هو ذاتها، فيصبح كون الشيء ضداً لنفسه أم غيرها فيثبت لدينا أن الحي مركب من إرادة تفعل، ونفس تفعل، وتنفعل وشيء آخر يشرف عليهما فيكوّن من الفعل والانفعال مثلا أعلى هو ذلك الجزء المنبعث من الحكمة المبدعة الأولى؟
ثم على فرض وجود هذا الثالث، فهل وجد مع النفس كالإرادة ثم نمّاه فعل الإرادة في الخارج إلى حد أصبح معه ذا سلطة عليها في كثير من الأحيان؟ أم هل تكون في النفس من تصادم الإرادات ضرورة بقاء المجموع ليضمن بقاء الفرد فيكون وجوده متأخرا؟
وهذا إنما يتضح في إجماع العقول الناضجة مثلا على استحسان أمر له علاقة في بقاء المجموع واستقباح أمر آخر يتعلق بفساد المجتمع فيربِّي هذا الإجماع المستمر في النفوس ملكة كبت الإرادات والمحاكمة بينها فتكون هذه الملكة أم هذا الموجود الثالث الذي نسميه فكراً تارة ومعقولا تارة أخرى، إن صح تعاقب هذين اللفظين على معنى واحد كما سيمر بك.
وعلى كلا الأمرين فأنا نشعر أن في ذواتنا نفوسا تتدافع وتتصادم في الحياة فتحرك هذه القوالب بأمر من الإرادة أو تتحرك هي بإرادة أخرى تتصادم وإرادتها، ذاتية كانت أو عرضية.
ثم نشعر إن ضمن هذه النفوس إرادات تسيِّرها إلى ما خلقت له طبعا، فهي تريدك على الطعام والشراب والمتعة ضرورة أن هذه من مقومات حياتك.
ونشعر بعد ذلك أن هنالك ما يستعرض هذه الأوامر الإرادية ثم يعرضها على الحياة فيصل بها إما إلى صلاح فيستمر معها وأما إلى فساد فيصدها. ذلك هو الفكر قبل الحكم وهو يستعرض ويقيس، وهو نفسه العقل والهوى بعد الحكم متسلطاً على الإرادة أو خاضعاً لها.
ومن الصعب جدا تحديد أي الثلاثة في طريق تحديد الآخر منها لشدة تمازجها والصلات المتأصلة بينها.
وربما كان أصدق تأويل لها هو أن النفس إنما هي الوسيلة الأولى لتنفيذ أوامر الإرادة والأعضاء هي الوسيلة الثانية. على أن العقل هو الحاكم الأعلى المشرف على المجموع، ينتهي الحكم عنده سلبا أو إيجابا. فالإرادة في الطبع تأمر والعقل يوقع والنفس تنفذ مباشرة، في الداخل أو بواسطة الأعضاء في الخارج. والنفس تنفرد دونهما في النوم والجنون
والإغماء ونحوها، إذا صح أن لا إرادة للمجنون بناء على إن الإرادة مناط أمر النفس بما يعوزها طبعا لا اجتماعا، والمجنون قد يفعل ما يضره في الطبع بله الاجتماع. فالإرادة لا تحمل الحي إنساناً كان أو حيواناً على أن يلقي بنفسه من شاهق كما يفعله المجنون أحيانا، من اجل ذلك تتحقق فيه النفس دون الإرادة والعقل.
وهكذا هي في النائم دونهما إذا صح أن العقل الباطن الذي هو زعيم الأحلام ليس إلا خيال العقل الظاهر الذي هو زعيم اليقظة وحقائقها كما اعتقد، لا أنه حقيقة مستقلة تتكون من تجاريب العقل الظاهر التي أخفق معها في حاضره أو ماضيه. ولكن العقل اليقظ المتخيل الذي ينتزع من الحقائق خيالا غريبا ينطبع خياله هذا في مرآة النفس فيفعل فعله منتزعا من أخيلة الحقائق في اليقظة أخيلة غريبة في النوم: وإذا لم يكن العقل الباطن هو نفس العقل الظاهر يبدو ضعيفا لضعف مركزه العصبي المتأثر بالنوم إلى حد يختل معه نظامه، فيكون تناهي العقل بالحدة إلى درجة التخيل المبتدع. وتناهيه بالضعف إلى درجة خرافات الأحلام. وكلاهما ينتزع من بين حقيقتين أو حقائق خيالا مزعجا في الحلم أو رائعا في اليقظة، وكما يصيب في يقظته المغيبات أحيانا كذلك هو في حلمه. . . إذا لم يكن كذلك فهو خياله المنطبع على مرآة النفس يتضاءل لبعده عن الحقيقة فيظهر مبتراً منقطعا.
وأما الإرادة والعقل فملزومان للنفس لا انفراد لهما دونها، فحيثما وجدت الإرادة والعقل كانت النفس ولا عكس.
ماذا وراء النفس بعد الإرادة؟؟
يقولون أن هنالك عقلا وفكراً وخاطراً وضميراً، ان هنالك ذهنا وفطنة وذاكرة وذكاء، إن هنالك شعورا وعاطفة وخيالا. وليست العبرة في تعداد هذه الخصائص في الإنسان ولا في نسبتها إليه وإنما العبرة في تحديد كل منها وبيان ما يميزها من غيرها من الخلال ولغموض هذه الفروق نرى الكثيرين يخلطون في الكلام عليها، من أجل ذلك يجمل بنا قبل تحديدها إن نتمثل فيما يعرضها واضحة الحدود.
لنفرض أن لك صديقا حميما قد كثر غشيانك إياه في منزله الذي يضمه وأجمل فتاة قد اقترن بها، وفي كل زيارة ينمو في جسمك حب هذه الفتاة، لما ترسل إليك من نظراتها الساحرة ويملأ نفسك من ورائها جمال نفس يفيض على فمها رقة وابتساما، والى جانب هذا
الحب تنمو في نفسك صداقة الزوج لما يغمرك به من فضل وإحسان إلى رقة طبع ودماثة خلق وليس ما تربي في نفسك من ولاء أخيك وحب فتاته بأقل مما يحمل الزوج لك من ولاء. وتشعر به الزوجة نحوك من غرام.
تبادلتما هذا الحب وبدا لك جليا واضحا هيامها بك وشوقها لك من عينيها الشاخصتين إليك ونظرها المسبغ عليك، ثم بدا لك أن تزور صديقك في وقت كنت مضطراً معه إلى أن تراه، وكان هو مضطراً فيه إلى ان يغادر مكانه، فكنت والزوجة خليين في منزل واحد وعلى مقعد واحد يناجي كل منكما الآخر بما يجول في نفسه، فيبدو جليا على عينه رقة وفي حديثه تقطعا وفي حركاته اضطرابا. ثم امتد الأمر بكا إلى أن هم كلاكما بصاحبه فكانت هي أشد ثورة منك، فأول ما تتحرك فيك الإرادة والرغبة؛ ولكنك قبل أن تنفذها أو تباشر بتنفيذها تلحظ ما يحف بهذا العمل الذي أقدمت عليه بدافع قوة الإرادة الحيوية، تلحظ ما يحف بهذا العمل (وهو إشباع نفسك من جمالها) من أمور خارجية منها ما يدفعك إليه ومنها ما يردعك عنه. فمن الاول التمتع بالجمال الماثل أمامك والذي هو في متناول يدك، ثم أمان العاقبة وشيوع الأمر المفضي بك إلى العار ثم إشباع نفسها من جمالك لتأمن مكرها فيما إذا هي أخفقت منك.
ومن الثاني خيانة صديقك البار بك والتعدي على جمال ليس لك فيه حق، وتشويه هذا الجمال بما تخفيه من دخيل داء.
لابد من ملاحظتك هذه الأمور واستعراضها جملة أو متفرقة في زمن واحد أو أزمنة مختلفة تتخللها فترات قصيرة. فأي العوامل كان أقوى أثرا في نفسك لقوته في الخارج كانت له السيطرة عليك داخليا فكان قائدا لك.
فأما أن يكون الاول فيجذبك إليها وتلبث زمنا ما تعبث بجمالها والشهوات تقيمك وتقعدك بين يديها. وأما أن يكون الثاني فيصدك عنها وتخرج ناصع الجبين مطمئنا إلى راحة الوجدان.
تجري هذه المحاكمة بناءاً على سلامته بذلك واستقامة نظام الحياة فيك وإلا فلضعف الأعصاب. وهي بعض مراكز هذه الخصائص تأثير قوي في صرف الإرادة وتعضيدها.
بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
للأستاذ محمد عبد الله عنان
3
وأخفق مشروع الخلافة في فتح الغرب من تلك الناحية ولقي الإسلام هزيمته الحاسمة في المشرق أمام سور بيزطية وقامت الدولة الشرقية في وجه الإسلام حصنا منيعا يحمي النصرانية من غزوه وسلطانه. ولكن جيوش الإسلام جازت إلى الغرب من طريق إسبانيا وأشرفت من هضاب البرنية على باقي أمم أوروبا النصرانية ولولا تردد الخلافة وخلاف الزعماء لاستطاع موسى ابن نصير أن ينفذ مشروعه في اختراق أوربا من المشرق إلى المغرب والوصول إلى دار الخلافة بطريق قسطنطينية ولكان من المرجح أن تلقى النصرانية ضربتها القاضية يومئذ وأن يسود السلام أمم الشمال كما ساد أمم الجنوب ولكن الفكرة قبرت في مهدها لتوجس الخلافة وترددها.
على أن الفتوح التي قام بها ولاة الأندلس بعد ذلك في جنوب فرنسا كانت طورا آخر من أطوار ذلك الصراع بين الإسلام والنصرانية، فقد كانت مملكة الفرنج أعظم ممالك الغرب والشمال يومئذ، وكانت تقوم في الغرب بحماية النصرانية على نحو ما كانت الدولة الرومانية في الشرق بل كانت مهمتها في هذه الحماية أشق وأصعب، إذ بينما كان الإسلام يهدد النصرانية من الجنوب كانت القبائل الوثنية الجرمانية تهددها من الشمال والشرق؛ وكانت الغزوات الإسلامية تقف في المبدأ عند سبتمانيا ومدنها؛ ولكنها امتدت منذ ولاية السمح إلى اكوتين وضفاف الجارون، ثم امتدت إلى شمال الرون وولاية بورجونيا وشملت نصف فرنسا الجنوبي كله، وبهذا بدا الخطر الإسلامي على مصير الفرنج والنصرانية قويا ساطعا؛ وبدت طوالع ذلك الصراع الحاسم الذي يجب أن يتأهب لخوضه الفرنج والنصرانية كلها.
كانت المعركة في سهول فرنسا أذن بين الإسلام والنصرانية. بيد أنها كانت من الجانب الآخر بين غزاة الدولة الرومانية والمتنافسين في اجتثاء تراثها؛. كانت بين العرب الذين اجتاحوا أملاك الدولة الرومانية في المشرق والجنوب؛ وبين الفرنج الذين حلوا في ألمانيا وغاليس. والفرنج هم شعبة من أولئك البربر الذين غزوا رومة وتقاسموا تراثها من
(واندال وقوط والان وشوابيين). فكان ذلك اللقاء بين العرب والفرنج في سهول فرنسا اكثر من نزاع محلي على غزو مدينة أو ولاية بعينها: كان هذا النزاع في الواقع أبعد ما يكون مدى وأثراً. إذ كان محوره تراث الدولة الرومانية العريض الشاسع؛ الذي فاز العرب منه بأكبر غنم ثم أرادوا أن ينتزعوا ما بقي منه بأيدي منافسيهم غزاة الدولة الرومانية من الشمال.
وكانت هذه السهول الشمالية التي قدر لها أن تشهد موقعة الفصل بين غزاة الدولة الرومانية تضم مجتمعا متنافرا لم تستقر بعد قواعده ونظمه على أسس متينة. ذلك أن القبائل الجرمانية التي عبرت الرين وقضت على سلطان روما في الأراضي المفتوحة كانت مزيجا مضطربا من الغزاة الظمأى إلى تراث روما من الثروة والنعماء.
وكان القوط قد احتاجوا شمال إيطاليا منذ القرن الخامس وحلوا في جنوب غاليس وإسبانيا؛ ولكن هذه الممالك البربرية لم تكن تحمل عناصر البقاء والاستقرار فلم يمض زهاء قرن آخر حتى غزا الفرنج فرنسا وانتزعوا نصفها الشمالي من يد حاكمه الروماني المستقل بأمره وانتزعوا نصفها الجنوبي من القوط وحلت في غاليس سلطة جديدة ومجتمع جديد. وكان الغزاة في كل مرة يقيمون ملكهم على القوة وحدها ويقتسمون السلطة في نوع من الاقطاع، فلا يمضي وقت طويل حتى تقوم في القطر المفتوح عدة إمارات محلية. ولم يعن الغزاة بإقامة مجتمع متماسك ذي نظم سياسية واجتماعية ثابتة ولم يعنوا بالأخص أن يندمجوا برعاياهم الجدد، فكان سكان البلاد المفتوحة من الرومان والغليين الذين لبثوا قرونا يخضعون لسلطان رومة ما تزال تسود فيهم لغة رومة وحضارتها. ولكن القبائل الجرمانية الغازية كانت تستأثر بالحكم والرياسة وتكون وحدها مجتمعا منعزلا لبثت تسوده الخشونة والبداوة أحقابا قبل أن يتأثر بمدنية رومة وتراثها الفكري والاجتماعي. وكان اعتناق الفرنج للنصرانية منذ عصر كلوفيس أكبر عامل في تطور هذه القبائل وتهذيب عقليتها الوثنية وتقاليدها الوحشية. ثم كان استقرارها بعد حين في الأرض المفتوحة؛ وتوطد سلطانها وتمتعها بالنعماء والثراء بعد طول المغامرة والتجول وشظف العيش وحرصها على حياة الدعة والرخاء، عوامل قوية في انحلال عصبيتها الحيوية وفتور شغفها بالغزو واذكاء رغبتها في الاستعمار والبقاء. وهكذا كانت القبائل الجرمانية التي عبرت الرين تحت لواء
الفرنج واستقرت في غالا قد تطورت في أوائل القرن الثامن إلى مجتمع مستقر متماسك نوعا. ولم تكن غاليس قد استحالت عندئذ إلى فرنسا ولكن جذور فرنسا المستقبلة كانت قد وضعت وهيأت الأسباب والعوامل لنشوء الامة الفرنسية. بيد أن هذا المجتمع رغم تمتعه بنوع من الاستقرار والتماسك كان وقت أن نفذ العرب الى فرنسا فريسة الانحلال والتفكك، وكان الخلاف يمزقه كما بينا وكانت اكوتين وباقي فرنسا الجنوبية في يد جماعة من الأمراء والزعماء المحليين الذين انتهزوا ضعف السلطة المركزية فاستقلوا بما في أيديهم من الأقاليم والمدن. ثم كانت القبائل الجرمانية الوثنية فيما وراء الرين من جهة أخرى تحاول اقتحام النهر من آن لآخر وتهدد بالقضاء على مملكة الفرنج. فكان الفرنج يشغلون برد هذه المحاولات ويقتحمون النهر بين أونة وأخرى لدرء هذا الخطر ولإرغام القبائل الوثنية على اعتناق النصرانية. فكانت المسألة الدينية أيضا عاملا قويا في هذا النضال الذي يضطرم بين قبائل وعشائر تجمعها صلة الجنس والنسب. ولم ينقذ مملكة الفرنج من ذلك الخطر سوى خلاف القبائل الوثنية وتنافسها وتفرق كلمتها.
هكذا كانت مملكة الفرنج والمجتمع الفرنجي في أوائل القرن الثامن أعني حينما نفذ تيار الفتح الإسلامي من أسبانيا الى جنوب فرنسا. وكان قد قضى منذ وفاة النبي العربي الى عهد هذا اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية (سنة 732م) مائة عام فقط، ولكن العرب كانوا خلال القرن قد افتتحوا جميع الأمم الواقعة بين السند شرقا والمحيط غربا واكتسحوا العالم القديم في وابل مدهش من الظفر الباهر، واستولوا على جميع أقطار الدولة الرومانية الجنوبية من الشام الى أقاصي المغرب وأسبانيا، وعبروا البرنيه الى أواسط فرنسا. هذا بينما أنفقت القبائل الجرمانية الشمالية أكثر من ثلاثة قرون في افتتاح أقطار الدولة الشمالية ومحاولة الاستقرار فيها.
في الأدب العربي
من طرائف الشعر
مداعبات شوقية لم تنشر
ظفرنا بثلاث قصائد من الشعر الفكه لشاعر الخلود شوقي بك نظمها ولم يتمها (في الدكتور محجوب ثابت ومكسويني). ومكسويني هذا كان حصانا بائسا يجر مركبة الدكتور ولا يزور الإسطبل إلا لماما، فألح عليه اللغب والسغب حتى لصب جلده ووهن جلده فمات، وكان في حياته وموته موضوعا طريفا لكثير من الشوقيات الغر؛ نشر بعضها ولا يزال البعض الآخر مطويا. وسنكتفي اليوم بهذه القصيدة التي قالها الشاعر على لسان خلفه بعد موته. وكان الدكتور محجوب يومئذ معتقلا في قصر النيل عقب الثورة مدة الخلاف بين الزعيمين سعد وعدلي.
سيوفُ أبيه من خمسين عاما
…
لواصق بالجدار بغير سلِّ
علاها العنكبوت فكان غمدا
…
على غمد قديم العهد خلّ
ولى كالخيل اصطبل ولكن
…
أفارقه وأترك فيه طلى
سلوا (بار اللواء) و (صُلْتَ) عني
…
ومصطبة السرى الشيخ الأجل
من المَرشال أطلب رد روحي
…
وعودة فارسي وفكاك خلي
وأنذر أن تفضل صوم عام
…
ومثلي من يصوم ومن يصلي
والا مُتّ دون الحق جوعاً
…
كذلك مكسويني مات قبلي
ويا كمبوت فيمَ كسرت قلبي
…
وأمسِ الحادثاتُ كسرن رجلي
وما الدكتور مجنون بسعد
…
ولا هو بالمحلل شتم عدلي
ولكن قبلة الدكتور مصرٌ
…
وسودان يراه لها كظل
بقصر النيل بات وكل سجن
…
وان كان الخورنقَ لا يُسلي
أقضي الليل حول السجن شوقاً
…
للحيته أناجيها: أطِلِّي
تشير من النوافذ لي وتومي
…
كغانية هنالك ذات دلِّ
ولولا الديدبان دنوت منها
…
وكنت أنا الممشط والمفلي
نجوى
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
أقول لنفسي في هذه الساعة وفي هذا المكان: كنت ذات يوم محبوبا. ولقد أحببتها ولقد كانت جميلة. ثم خبأت هذا الكنز في نفسي الخالدة. ورفعته الى الله!. . . (الفريد دي موسيه)
إليكِ أبعثُ أحلاماً مُروعةً
…
منزوعةً من فؤادٍ جِدّ محروبِ
ما تستنيمُ الى صمتٍ فيغمرُها
…
لكنها أُختُ تسهيدٍ وتعذيبِ
تظلُ تُقلِقٌ هذا القلبَ صارخةً
…
حتى تلِمُّ بطيفٍ منك محبوبِ
كباغمٍ موجعٍ أفضى الهزالُ بهِ
…
الى مرامٍ عسير الدركِ محجوبِ
إن عللوُهُ بما ينسيه مطلبهُ
…
أوحى الخيال إليه ألف مطلوبِ
يصوِّرُ الدمعُ ما يعيا اللسانُ به
…
ومدْمعُ الطفلِ موشيُّ الأساليبِ
لهفي عليه تُمنيه الرؤى عبثاً
…
كأنه لُعبة بين الألاعيبِ
أقصيتني عنك لا عهدٌ ولا أملٌ
…
سوى عذاب على الأيام مصحوبِ
وعشتُ بعدكِ مخطوفَ الفؤادِ هوى
…
مغرَّباً في دياري أيَّ تغريبِ
خيبتني فطويت العمر مكتئباً
…
ما كان أوجعَ حرماني وتخييبي
خلفت نفسي آمالا مصرعةً
…
ما في قرارتها غيرُ الأكاذيب
ترى السماوات تابوتاً قد انسدلت
…
على جوانبه سودُ الجلابيب
من الهوى أن يعود العمر طافحةً
…
أيامهُ بصبّي كالحلمِ موهوبِ
يبني منَ الشفقِ الرفاف زورقُه
…
ويستحيل الى أُنسِ وتحبيبِ
هذي الأماني أضنتني مآربها
…
يا ويحها كم أداريها وتلهو بي!
منحتها خافقا نهلانَ من أملٍ
…
يهزُّ بالشدو أرواحَ المطاريب
فما جزتني على ودي بعارفةٍ
…
تبقى ضماداً لجرحٍ غير مرؤوبِ
الكون بعدك أنقاضٌ مبعثرةٌ
…
كمعبدٍ من عراكِ الدهر مخروبِ
ترى به مقلتي المسلوبُ رونقها
…
دار الحريب ومأوى كلِّ منكوب
مشت عليه الليالي وهي هازئةٌ
…
نكراء تقرع مشعوباً بمشعوبِ
لا دُمْيتي بت أرعاها وأعبدُها
…
كناسكٍ ذاب في جوفِ المحاريب
ولا دُعائي أدَّت بي معارجُهُ
…
الى مطافٍ شهي الحُلمِ مرغوب
وأين لا أين مني همس فاتنة
…
أفنيتُ في حسنها حبّي وتشبيبي
غابت فولت عن الدنيا بشاشتها
…
فلست ألمحُ فيها غير تقطيب
وقد بدا العيش خلواً من مفارحه
…
مجللًا بشجاً كالليلِ غِربيبِ
والحقل بعدك تؤذيني زيارتُه
…
فانثني عنه والترداد يغري بي
لا أستطيع أُجيل الطرفَ مفتقداً
…
آثار حُبٍّ كدمع الفجرِ منهوبِ
مافي خمائله حسنٌ ولا القٌ
…
ولا أزاهره تخضلُّ بالطيب
إذا خيالكِ لم يبهجه مؤتلقاً
…
فالحقل في ماحلٍ كالقفر مجدوب
غشيته وفؤادي ما يُفيق جوى
…
ما كان أجدرني عنه بتنكيب!
هنا تذوقتُ سِرّ الحب مغتبطاً
…
من غير ما مأثمٍ فيه وتتريب
هنا من الحب سِفرٌ رائع عجب
…
قد ضم أقدس تذكاري وتجريبي
هنا شبابي مد الله سرحته
…
رَبا وما فيه من وزر ولا حُوب
هنا الهوى كان طفلا في محفته
…
وكان أمتعَ مولودٍ ومربوب
لما حبا هلل الوادي له فرحاً
…
وقد تقلب فيه أي تقليب
فرشتُ بالزهر المنضور ملعَبه
…
فرفّ يزهو بتنضيدٍ وترتيب
وحينما سَعِدَ الوادي بمطلعِه
…
رمى به الموت في هُلكٍ وتتبيب
وراعني أن أرى الأطيار ساكتةً
…
خرساء من غير ترنيم وتطريب
لا النهر يُوحي إليها ناغماً هزِجاً
…
سكرانَ يركض في اثناء مَلحوب
ولا النسائم تذكي في جوانحها
…
أشعار قلب من الأوجاع مكروب
تكاد إن أخذت عيني خيالتها
…
تردها بين تصديق وتكذيب
لم يبق من أُنسها الحالي سوى أثر
…
من إِسمك العذب فوق الجذْع مكتوب
خَشعتُ بالقرب منه ذاهلا حسراً
…
كهيكل في شعاب الأرض منصوبِ
قدسته فمشى ثَغرِي يقبله
…
ومدمعي بين محبوس ومسكوب
تقتات نفسي بالذكرى ويؤنسها
…
خيالكِ الحلوِ في صَحوي وتغييبي
وقد أراك فينسى القلب لاعِجَه
…
ولا يطيف بيأسٍ منكِ محلوب
تبارك الحلم الرّفَّاف كم غلبتْ
…
غيابة منه حزناً غير مغلوب
حججت بيتكِ في وهمي فما سَعِدتْ
…
روحي بود نقي النبْع مصبوب
كأنما نسي الحسن الذي طَفَحَتْ
…
منه السماوات إدلاجي وتأويبي
فتّشت في ساحة عن ظل موحية
…
غيداَء غطت على سحر الرعابيب
ناديتها باسمِها فارتَعت مرتجفاً
…
من موحش دائب الإنصات مَرهوبِ
فما رأيت لها ظلا ولا أثراً
…
وملت الدَّار من بحثي وتنقيبي
خَلتْ مقاعد كانت أمسِ مونقةً
…
فغامت اليومَ من نَسجِ العناكيبِ
أحسُّ منه صدى صوت أقدسه
…
أسرى الى الخلدِ من وخد وتقريب
كأن بالأذنِ من نجواه وشوشةً
…
تبكي على أمل في الغيب مغصوبِ
مشى مع النور لا تثنى عزيمته
…
عجْلان يدفع ألهُوباً بألهوبِ
يلوح في الفلك الفضي متشحاً
…
بلامع من شعاعِ الخلدِ مصبوبِ
ما زال يطوي الفضاء الرحب مختفياً
…
كتائه في فجاج الغيبِ مَحزوبِ
حتى ترامى على عرش الالهِ أسىً
…
وذاب في لاهب بالحب مشبوبِ
مجمرة الأفق
// لله عند المغيب موقفنا
…
وللهوى عندنا تباريحُ
نرتقب الليل فوق رابية
…
يعبق منها العَرار والشِّيح
والشمس في أفقها معلقة
…
من حولها للسحاب توشيح
كأنها والسحاب مجمرة
…
أطار عنها رمادها الريح
ليلاي ماج الغدير وارتجحت
…
للّيل في حضنه مصابيح
دونك روضا كأن أغصنه
…
صدر لضم العشاق مفتوح
هُزي أراجيحه، فهل خلقت
…
إلا لأحلامنا الأراجيح؟
لا شمس غابت، ولا ظلام دهى
…
ولا غصونٌ هفت ولا ريح
لكنه حبنا فما اختلجت
…
في الروض لولا غرامنا روح
شفيق معلوف
شاعرة
غادة جرت ذيول الأدب
…
وتغنت بقريض العرب
يأسنُ الشعر فان مر على
…
ثغرها عاد بنشر طيب
تنطق الألفاظ معذوذبة
…
بفم حلو اللمى معذوذب
درر خارجة من درر
…
تلك لم تثقب وذي لم تثقب
شد ما يأسر لبي قلم
…
مرهف في أنمل مختضب
يا رعى الله قواما لينا
…
ينحني كالقوس خلف المكتب
ويمينا بضة ناعمة
…
خلقت للجد لا للعب
طبع النقس عليها شامة
…
كالتي في خدها الملتهب
أن في قرطاسها مرقمها
…
كأنين العاشق المكتئب
وحنا بين يديها رأسه
…
كانحناء الساجد المقترب
غادة مرآتها ان نظرت
…
صفحة من صفحات الكتب
يا إله الشعر باركها إذا
…
سبحت في موجه المصطخب
احفظ الهيفاء من تياره
…
ليس بحر الشعر سهل المركب
يا فتاة الخدر عوذتك من
…
سهر الليل ونجوى الشهب
وشرود الفكر في جنح الدجى
…
وهروب اللفظ عند الطلب
أتركي جفنك ينفث سحره
…
في خيالي وقفي عن كثب
لا تقولي الشعر بل أوحي به
…
أنت خصب للخيال المجدب
إنما الشعر محيط فاسلمي
…
ودعي أمواجه تقذف بي
إنه عبء على حامله
…
ما لهذا العبء إلا منكبي
محمود غنيم
يا ليتني!
عينيَّ هل من صوب دمع مسعد؟
…
نفدت دموعي والأسى لم ينفد
روح فقدت حنانها البر الذي
…
لا يُستظل بمثله إن يفقد
ما زلت في حزن عليها مرمض
…
وتحير في إثرها وتلدد
جاءت وراحت أشهر لم تنصرف
…
عن ودها روحي وقد صفرت يدي
وتجيء أعوام وتذهب أشهر
…
لا يرتوي من وجهها الطرف الصدي
يا ليتني قد كنت حاضر يومها
…
وسعدت قبل رحيلها بتزود
وشهدت أنتها بليِّن مهدها
…
ورأيت سكتتها بجافي المرقد
لما نضت أوصاب داء مسقم
…
من بعد طول تصبر وتجلد
ورمت قيود معيشة ما عاشها
…
في الناس غير مثقَّل ومقيد
لولا حذاري أن يفجعها الأسى
…
ويؤودها صرف الحمام المعتدي
ويزيدها شجنا على أشجانها
…
لوددت لو عاشت وكنت أنا الردي
ونعمت في لحدي بهاطل دمعها
…
ينهلُّ لي وبشوقها المتجدد
وحنانها الصافي يظل مزاوراً
…
قبري يروح مع الزمان ويغتدي
وأقر جسمي في التراب موسداً
…
ذاك الفؤاد يعودني في العوَّد
قد كان ذلك راحتي لا ما أرى
…
من حيرة تضني وعيش مكمد
فخري ابو السعود
في الأدب الشرقي
من الأدب التركي الحديث
عبد الحق حامد
للدكتور عبد الوهاب عزام
شاعر الترك الأكبر، حمل لواء الشعر أكثر من خمسين عاما غير منازع، ولا يزال على المرض والشيخوخة مطمح الأبصار، وقبلة الأفكار. ولد سنة 1267 هـ فهو الآن في الخامسة والثمانين من عمره المبارك، وما فتئ مذ بلغ العقد الثالث فياضا بالشعر والنثر يسلك فيهما المسالك المختلفة موفيا على الغاية، بالغا من الجمال والجلال النهاية، حتى كتب أكثر من ثلاثين كتابا، ثروة يفخر بها الأدب التركي بل يتحلى بها الأدب الإنساني. وليس يتسع المقام هنا للإبانة عن شعره ونثره، أو الإفاضة في وصفه والكشف عن نواحي النبوغ والإعجاز في طبعه، ولكني أعرض لكتاب واحد من كتبه:
في سنة 1302 كان الشاعر في الهند فمرضت زوجه، فسافر بها راجعا دياره فماتت في الطريق ودفنها في بيروت. وكانت في سن الخامسة والعشرين، وشاعرنا يومئذ ابن خمس وثلاثين.
كانت وفاة فاطمة قيامة في نفس عبد الحق وفي الأدب التركي. كتب في البكاء عليها زهاء ألف وخمسمائة بيت في كتابين أكبرهما وأولهما سماه (مقبر) وهو صرخة ما تزال مدوِّية في الأدب التركي منذ خمسين عاما. ولن يمحى صداها في الحياة ما بقي في الإنسان قلب وما بقي للشعر التركي قارئ والثاني سماه (أولو) أي الميت.
يقول جناب شهاب الدين وهو من أعاظم أدباء العصر:
إن (المقبر) ومقدمته فتحا عصراً جديداً في أدبنا المنظوم والمنثور. ولم تؤثر وفاة فاطمة في حياة الشاعر وحده بل في آداب الأمة كلها. . . ولا ريب أنه قد ولد من القبر الذي في بيروت شاعر جديد أعظم من شاعرنا الأول. إن (المقبر) أعظم وأجمل تمثال في آدابنا، ولست أرتاب في أن هذه البديعة التي كتبت على حافة البقاء قد قدر لها الخلود.
(المقبر) ثورة هائلة بعث فيها الشاعر أناته وعبراته وصيحاته وكل ما في قلبه وعقله.
ينظر الى القبر باكيا فيطير به الفكر في أرجاء العالم، ويصعد به الى الله ثم يطوي فكره شيئا فشيئا ويهبط به الى القبر ليطير عنه الى السماوات كرة أخرى. وهو في ثورته واستسلامه يذكر القارئ بقصيدة فكتور هوجو. التي رثى بها ابنته.
ثارت ثائرة بعض النقاد على حامد (ومقبره) حينما نشره إذ رأوا فيه لغة غير مفهومة، فكان في جلال الحزن وشدة الألم أسمى من أن يبالي المدح أو الذم. وما كتب الشاعر كتابه ليكون بديعة أدبية. بل أراد، كما يقول: أن يبني بالشعر قبر الحبيبة، لا يكترث بالناس حين يبنيه؛ ولا يبالي بما يقولون فيه.
وقبل أن أعرض على القارئ نموذجا من (المقبر) أترجم مقدمته المنثورة التي يراها بعض الأدباء عهدا جديدا في النثر، كما يعدون الكتاب عصراً جديداً في الشعر. قال:
(المقبر): وهو آخر ما كتبت، كتب لتخليد وجود أصابه الفناء. وأنا أعلم أنه ليس في (المقبر) أثر من المعاني الشعرية التي تنطوي عليها المقابر. وإنما (المقبر) صيحة حسرة منبعثة من العدم، فلن يظفر قارئه بشيء، ولكنه عندي شيء. أجل أن الفكر حين يجوس خلال الكتاب ليطوِّف في مقبرة ثم يخرج منه كما يخرج من المقابر؛ لا يفقه شيئا. . .
قراءة فاتحة هذا الكتاب كاستيعابه كله، والإحاطة بما فيه كالتفكير في اسمه. لقد كتب هذا الكتاب في مقبرة، فهو وحي من الألم لمن يعرفون الكاتب السيئ الحظ، ووحي من الكلال لمن لا يعرفونه.
من يسألني: لماذا تنشر على الناس آلامك في هذه الصورة وكان يسعك أن تكتمها في قلبك، أو تكتبها ولا تنشرها؟ فذلك جوابي له: لا يبقى من هذه الأجساد المتهافتة في وادي الصمت إلا أحفان من التراب، وكذلك لا يبقى في القلب من أحب الذكريات إلا خيال دارس، ولست أقنع بهذا الخيال.
وأما نظم الكتاب وحفظه بين أوراقي فمصيره أن يبلى كما تبلى الأعضاء الميتة والأفكار اليائسة ولست أرضى بهذا البلى.
هل يضمن نشر الكتاب خلودها كما رجوت؟ لا، ولكن مهما يكن من شيء فـ (المقبر) أطول مني عمراً. ومن أجل ذلك نشرته، إنه قبر مبني من الصيحات التي في قلبي؛ أود أن تكون كلماته كالكلمات التي نقشت على الأحجار. هيهات. . .! كل صيحة في هذا (المقبر)
قبر منفصل ولكن فيها كلها دفيناً واحداً، هو الإنسانية التي تجلت لي في الوجه الذي أحببته. كتبت هذا الكتاب لأقرأه وحدي، فقليل من يشاركني إحساسي. بل لا أود أن يشاركني أحد في هذا الإحساس خشية أن لا تكون هذه المشاركة إلا بالتجريب. أريد أن أبكي وحدي على المسكينة التي بكيتها، وهذه الوحدة عندي سلوان لأنها أكبر العذاب.
ألا يرى القارئ أن هذه المقدمة كذلك تشبه كتابا كتب لي وحدي. وبعد، فليست العبارة المكررة في (المقبر) إلا كلمة واحدة، وليست هذه الكلمة إلا قبرا: كما تنتهي الأصوات كلها الى النفس الأخير.
لا أرتاب أن (المقبر) كآثاري الأخرى سيفنى، بل أعرف أن الأبدية كلها لا تفي بحفظ آلامي على حالها، وسيصعد الكتاب الى حضرة الخالق ودماء هذا الجرح سيالة من قلبه.
من القلوب مالا يجتمع فيه السرور والآلام، ومن القلوب مالا يزول حزنه بما يصيب في الدنيا من سعادة وجد، ولكن هذا الحزن لا يحول دون السرور، وفي بعض القلوب يخيم السرور والحزن معا، ومن أجل ذلك تلوح السلوة في الحزن أحيانا، ويبين الألم في الابتسام.
ومن القلوب ما يزيد الفرح أحزانها. ومن هذه الآلام آلامي. أود أن أطرب ليزيد حزني، ولست بمستطيع أن أفهم الناس ذلك، فلغة هذا الإحساس تكبر على الأفهام. فلأصمت!
إن القارئ الذي يريد أن يعد (المقبر) شعراً لأنه من آثاري لن يجد فيه من شاعريتي أثراً. ولكنه إذا فكر يسمع صرخات يستطيع أن يحسبها شعراً، وما هذه الصرخات إلا عجز البشر.
أعظم الشعر وأجمله وأصدقه أن يعيا الإنسان بالبيان فيصمت حين تنوء به إحدى الحقائق الهائلة. ولكن (المقبر) يخطب ولا يصمت. يعجز الإنسان أحيانا أن يعرف خيالا لا خطر له لما يبهره من جماله، ويقصر أحيانا عن إدراك الفكر الطائر عن عقله لما يفوته من علائه. ويعيا أحيانا بفهم الإحساس المولود من قلبه لما يهوله من عمقه. وفي هذا العجز يرسل صيحاته، أو يشدو بما لا يفهم من كلماته. أو يصمت فلا يترجم عن حسراته، فيأخذ قلبه فيطؤه بقدمه فيحطمه. وهذا كله شعر.
(المقبر) يتضمن إحساسا ولده قلبي. ولكنه في بعض نواحيه غريب كل الغرابة عما يروي
من شاعريتي. يجد القارئ فيه لغتين لا تشبه إحداهما الأخرى، حتى يحسب أنه قد تعاقب على (المقبر) كاتبان. بل يبعد بعضه مني حتى أعيا أنا بفهمه.
فأما حديثي فيه عن الماضي (وهو أكثر مواضعه خرابا على أنه أحبها إليّ) فيبكي من يعدونني شاعرا، ويزيد صدق من لا يعدونني من الشعراء. وبعض مواضعه ليس من شعري، بل هو أشبه بقبر فتاة في ميعة الصبا.
أول هذين من النقائص الأدبية، والثاني من النقائص الإنسانية. وما يرجع الى تصوير الفضائل ناقص أي نقصان.
وبعض نواحيه لا يستطيع أن يمكث في الأرض لأنه صيحات. (المقبر) في جملته يراه كثير من الناس أثرا باردا، ولكنها البرودة التي تحرق قلبي.
لابد لعالم الأدب من آخرة، والمقبر من هذه الآخرة علامة، (المقبر) قبر حياتنا الأدبية، والمقبر زوالي.
(المقبر) يبين عن فكر واحد بأساليب شتى، ألفاظه عند الخاصة لا شيء، ولكن هيكله قبر ميت عزيز فهو عندي شيء. (المقبر) خفيف في جانب ثقل المصيبة التي أصابتني، فارغ في جانب عمقها، عدم في جانب شعرها، ولكنه بالقياس اليّ شيء. ينبغي أن يكون (المقبر) ضريحاً لا قبرا، معبداً لا ضريحا، كوكبا لا معبدا، فضاء لا ينتهي لا كوكبا. ولكنه وا أسفاه، لم يبلغ أن يكون قبرا.
(المقبر) ينبغي أن يكون منبرا ينزل إليه نور إلهي، ولا يستطيع أن يصعد إليه الفكر الإنساني، يجب أن يكون (المقبر) محشرا. هيهات! لا أقول يجب ألا أظهر فكري بل يجب أن يكون مما لا يمكن ظهوره. (المقبر) يئن أبدا. وان دل هذا الأنين الأبدي على العمق فوا حسرتاه أنه لا يعدو أن يكون قبرا. إن معنى هذا (المقبر) ظواهر المقابر.
ذكرت النقائص الأدبية والنقائص الإنسانية. نعم ماذا عسى أن افعل؟ ماذا أفعل لتصحيح الخطأ وأكبر الخطأ صادر من المصحح.
إن الأبيات يجب أن تصنع للوقائع الجليلة، والأفكار الجميلة، كما تبنى الهياكل للأسماء الكبيرة، وبأسماء الوجوه الجميلة. والقبر هيكل بناه الله فكيف نستطيع نحن أن نصور ونجسِّم؟
أي شاعر جسَّد امرأة جميلة فصورها للذين لم يروها؟ أي قلم حكى المحاسن الطبيعية على وجهها؟ إن الذي يلهمنا أحسن ما نشعر ونكتب هو الطبيعة، وهذا الشعر يشبه الصورة التي تتراءى في الماء لا بد لها من مصدر خارجه.
بعض أكابر الأدباء يدعون أن مزايا الشاعر تتولد من نفسه وليس هذا رأيي. إن محاسني (إن كانت) هي للجبال والمروج والوجوه الجميلة والأزهار. وأما سيئاتي فهي لي. أقول قبل أن أختم:
ان المصيبة التي اخبرني بها (المقبر) قلبت شعري كما قلبت كل شيء في. فهل صعدت صدمة هذا الانقلاب بفكري أو هبطت به؟ يعرف ذلك إخواني.
انظروا كيف عجزت عن كتابة كلمات حتى في المقدمة؟
الانقلاب الذي ذكرت هو قيامي في نقطة أو في فضاء غير محدود حيث تصطدم السماء والقبر. بقى قلبي طويلا بين هاتين القوتين الهائلتين، كلما اقتربتا شعرت بالعزاء وكلما ابتعدتا غمرني اليأس.
ثم اتحدتا فتحطمت فظهر (المقبر). فهل هذا شعر؟ محال. كان يجب أن يتحد القبر والسماء أو بعبارة أصدق أن يبقيا مفترقين، وكان يجب أن أنوح في الافتراق والاستغراق فيكون هذا شعرا.
أنا لا استحسن معظم ما كتبت قبل (المقبر) وبعضه يعجبني قليلا، وأما المقبر فلا يعجبني قط، ولكني أحبه كل الحب. لا يعجبني لأن صلة هذا الكتاب بالأدب واهية، وأحبه لأنه (هي).
لعل (المقبر) يشبه الشعر عند من يرون الخليقة كلها شعراً، وهو عندي يذكرني بشاعرة، شاعرة كانت شعر القدرة الصانعة كل ما في (القبر) على نقصه وحشوه. روحانية متوفاة، ومعنوية روح.
(المقبر) حالها وصورتها وخيالها وهيكلها وقبرها وحياتها التي ذهب الدهر بمحاسنها. ثم أكرر فأقول: (المقبر)(هي) ومن أجل ذلك أحببته.
ولكن (المقبر) في نظر الأدب طفل دميم: طاهر، ولكنه ليس جميلا، وفيلسوف حقير: حكمة ولكنها ذات ريب، وحسن معيب: صيحة ولكن ذات صناعة، وقير مشيد: ليس حزينا ولكنه
قبر: مغرب ولكنه متلألئ، جمال ولكن بغير حب، شعر ولكنه ذو قافية، لأجل هذا لا أحبه.
الفكر نهايته الموت، والشعر نهايته الألفاظ والقوافي، فماذا أصنع؟
إن لم يكن (للمقبر) بد من فكر شرعي فهذا الكتاب قبر متوفاة، أسأل زائريه الفاتحة.
وفي العدد الآتي نعرض على القارئ مثالا من شعر (المقبر) ان شاء الله.
في الأدب الغربيّ
الزهرية المصدوعة
لسوللي برودوم
ترجمة الأستاذ أبي قيس عز الدين علم الدين. عضو المجمع
العلمي العربي
سوللي برودوم شاعر فرنسي ولد بباريس سنة (1839 - 1908) وتثقف بها في شبابه بثقافة علمية متينة، اكتسب منها عنايته الشديدة بتدقيق العبارات وتوضيح الدلالات، وقد امتزج ذلك بما أوتيه من قوة الإحساس وسعة الاحلام، ولم يتخرج إلا من المدرسة البرناسية التي تعلم فيها كما قيل:(أن ينظم بصعوبة قصائده السهلة).
وقد برع في التعبير عن أدق عواطف القلب البشري وأصدقها، براعته في قصائده الفلسفية المشتملة على أسمى المعاني وأنبلها.
وأما قصيدته الموسومة بالزهرية المصدوعة فان لها شهرة ذائعة في الغرب، وهي من آيات سوللي والروائع الرمزية الخالدة، وقد عرف بها ناظمها لبعد شهرتها فقيل له: شاعر الزهرية المصدوعة وفيها أبدع الإبداع كله بتشبيه القلب الجريح الذي نضب دمه فذبلت زهرة محبته بالإناء الصديع الذي جف من الصدع ماؤه، فظمئت زهرة نبتته وذبلت أخيراً، والذي جرح القلب هو قسوة المحبوب وتماديه في هجرانه، تمادياً حرمه ندى عطفه وحنانه، قال:
شهدت الإناء الذي في
…
هـ تقضي من الزهر سوسنة وادعة
قد اصطدم اليوم (ويحاً له)
…
بمروحة صدمة صادعة
لكنها لم تك غير لمس
فلم تثر من ضجة أو حس
ومع أنه كان صدعا لطيفا
…
وما ظنه أحد بالشديد
فقد كان تأثيره، وهو سار،
…
ببلوره كل يوم يزيد
وقد سرى به الصدع خفيا
فامتد في الإناء تدريجيا
وماء الإناء، وفيه الحياة
…
غدا يتقطر من صدعه
فجفت عصارة أزهاره
…
وغاض الرحيق جنى طلعه
لم ينتبه لذاك حي يعلم
لا تلمسوه! إنه محطم
ورب يد غضة قد تحب
…
أناملها وهي تبدو لطيفة
تمس شغاف القلوب فتخ
…
دشه خدشة قد تخال خفيفة
ينصدع القلب لها من نفسه
ذابلة زهرته ليبسه
وقلب يرى أبداً في العيو
…
ن صحيحاً وما هو قلب صحيح
نما جرحه فبكى صامتاً
…
وبالجرح يشعر قلب الجريح
وجرحه العميق هذا مؤلم
لا تلمسوه! إنه محطم
دمشق
حديث الطبيعة
لشاعر الطبيعة وردز ورث
أهاب صديقي ذات صباح
…
لدن رونقُ العيش غضٌ نضِر
هنالك عند البحيرة إذ
…
جلست أطيل لديها النظر:
أراك قضيت سحابة يوم
…
ك منفرداً فوق ذاك الحجر
ففيم اعتزالك يا صاح تمضي
…
حياتك بين الرُّؤى والذكَرْ؟
وكتبك أين؟ شعاع الحياة
…
يُبيِّن من أمرها كل سر
إليها! وفز بتراث الجدود ال
…
لذي لآتي العصُر
تقلب في أمك الأرض عيناً
…
كأن ولدتك لغير وطر
كأنك أول من ولدته
…
ولم يحيى قبلك حي غَبَر
فقلت: وهل أُذُنٌ تأتلي
…
عن السمع، أو مقلة عن بصر؟
سواء على الجسم إن رمت منه
…
الشعور وإن لم ترمه شَعَر.
رأيت الطبيعة ذات قُوّى
…
تغلغل في مُهُجات البشر
تغذي النفوس وهن سكون
…
ولم نشق فيها النهى والفكر
أتحسبنا لن ننال الحقيقة
…
دون طلاب طويل عسر
وهذي الطبيعة آثارها
…
شواهد ناطقة بالعبر؟
فأن ترني لحديث الطبيع
…
ة أنصت في صمتي المستمر
فلا تسألني علام قضائي
…
حياتي بين الرؤى والذكر
فخري أبو السعود
محمد
للشاعر الفيلسوف جيته
بقلم الأستاذ الجليل معروف الأرناءوط
أولع جيته شاعر ألمانيا الأكبر وأديب الإنسانية الأعظم في شبابه بأشعار الشرق وأقاصيصه، وبلغ من ولعه بمحاسن الشرق حداً جعله يتهافت على دراسة ماضي شعوبه، وفي سنة 1772 قرأ جيته للمرة الأولى ترجمة القرآن للأستاذ ماغرلين فسحرته بلاغة سورة إبراهيم، كما استهوته طفولة محمد، هذه الطفولة البارعة التي أمضاها في بيت حليمة السعدية مرضع الرسول اليتيم، وكان جيته على نصرانيته يشعر بصفاء الإسلامية وطهارتها، فعكف على دراسة حياة محمد وخرج من هذه الدراسة التي وهب لها عواطفه واحساساته بروايته التمثيلية (محمد) وهي مأساة في ثلاثة فصول أودعها جيته أرق أشعاره وأعذبها، وكان أمتع فصول هذه الرواية التي لم تنقل لسوء الحظ الى اللغة العربية ذلك الفصل البارع الذي صور فيه شاعر ألمانيا الأكبر محمد معتزلاً قومه ليعيش في الريف، وفي هذا الفصل يتحدث الرسول الى الكواكب، ثم يفتح صدره لله فيغمره بنوره الخالد، ويخرج يتيم مكة بعد ذلك الى العالم نبياً ورسولاً.
ومما هو جدير بالذكر أن رواية محمد لم تكد تظهر في ألمانيا حتى راح خصوم جيته يتهمونه بالكفر والخروج على النصرانية فنشر جيته على أثر ذلك رسالته المشهورة وعنوانها: لماذا آمنت بمحمد، وذكر فيها أنه أحب محمد كما أحب عيسى بن مريم، وانه يرى في الإسلام ديانة الخلق السامي الصحيح.
وقد نقلنا بعض فقرات من هذه الرواية العظيمة ليقف القراء على رأي سيد أدباء العالم في سيد أنبياء العالم.
الفصل الأول - المشهد الأول
(محمد ينظر الى الكواكب. . .)
أواه! لا أستطيع ان أفرق بينك يا أشعار السماء، الا ترين الى نفسي وقد برح بها شجن بليغ عنيف، لقد كان من أرضى أماني هذه النفس أن تهب احساساتها لكل كوكب؟ فما قدرت على ذلك؟ فأي هذه النجوم الفواتن يسلفني السمع ويسترق صلاتي؟ أي هذه النجوم
ينظر الى طرفي الدامع الضارع؟
أي كوكب العشية الساجية الرخية الظل، أنك لتجوز نواحي الأفق، في حاشية من بروق فتانة، ثم تواريك هذه الغلائل الرقيقة فتنأى عني فأناديك، ألا عُد الى مسفرك وأنظر اليّ، فأنني أولعت بك أشد الولع، وهمت بفتونك وإشراقك.
أثابك الله أيها القمر، أنك لأفضل من يرشد هذه الكواكب، ويقودها الى عوالم الضياء والبهاء، فأنر طريقي ولا تذرني هائماً في هذه الظلمات مع شعبي السادر الحائر!
وأنت أيتها الشمس التي تخلع ظلها على الأشياء والناس، ظلليني بنورك البهي وقودي خطواتي، ولا يحجبك عني سحاب أو ضباب!
أواه! أتتوارين عن عيني في الأسداف البعيدة أيتها الشمس، يا من غدا أمرها فتنة لجميع الناس.
من يجذبني إليك أيها القدير العظيم، من يقربني منك يا من خلق الأرض والشمس والقمر والسماء وخلقني أنا في لحظات، من يقربني منك فأغسل قلبي بنورك الذي لا يغيب.
المشهد الثاني (محمد، حليمة)
(محمد): أي حليمة! لماذا جئت في هذه الساعة الهانئة الصافية؟ أكان وفودك عليّ لأثارة حياتي الراكدة الساجية؟
(حليمة): جنّب نفسك الخوف يا بني فأني ما زلت أبحث عنك منذ غارت الشمس واطفل النهار، ناشدتك الله الا تعرض شبابك الرقيق الناعم لأسواء الليل ومخاطره.
(محمد): يفرق الرجل الرديء الخبيث من متوع النهار كما يفرق من سحر الليل، وذلك لأن الرذيلة تجلب التعاسة، أما أنا فلست ذلك الرجل الذي يعاف متوع النهار وبهاء الليل، فلقد غمر الله نفسي بضوئه، وخلق من حولي عالماً يزهر شبابي ويريق عليه سحره وفتونه.
(حليمة): ولكني أخاف عليك وأنت في عزلتك في هذا الليل البهيم أن يدهمك اللصوص والسراق.
(محمد): ألا ترين إليّ؟ أنني لم أكن وحدي في هذا الريف الضحيان فلقد أبى الله سيدي ومولاي وخالقي إلا أن يصاحبني في هذه الوحدة.
(حليمة): أرايت الله يا بني؟
(محمد): وأنت ألا تبصرينه؟ أنه غير بعيد عني، ولا يبرح يتراءى لي عند الينبوع الدافق الهادر، وتحت السرحة الغناء، وفي الظل الرقيق البهي. . لقد توافى إلي من عليائه فأحسست حرارة حبه، وشق صدري وأنتزع من قلبي حوباته حتى يتاح لي أن أفهم معنى حبه!
(حليمة): ولكنك تحلم! إذن كيف يقدر لك أن تحيا وقد شق الله صدرك؟
(محمد): سأصلي صلاتي لله فلعله يضيء عقلك فلا يبدو لك حديثي غامضاً مبهماً
(حليمة): وأي اله هذا الذي تعبد؟ أهو اللات أم هو هبل؟
(محمد): أي شعبي التعس! أنك لتظل السبيل وتنزع الى الحجارة والأصلاد فتجعل منها الهاً يعبد! ولكني ما زلت أحبك على شديد تعسك، وهذا الحب الشديد العنيف هو الذي يحفزني الى مصارحتك بأن هذه الحجارة التي تصلي لها لا تستطيع أن تستمع لك، وليس في ميسورها أن تفتح لك ذراعيها.
(حليمة): أين يسكن الهك؟
(محمد): إنه في كل مكان يا حليمة!. .
العلوم
الحمى داء ودواء
للدكتور أحمد زكي. وكيل كلية العلوم
الحمى من قديم الزمان عرض مخوف وطارق مرهوب، وكثيرا ما كان رسول الموت وقائد الحي تحدو ركبه الى وادي الفناء. ولكن في هذه الأيام القريبة الماضية نشأت فكرة أخذت تحل محلا ذا بال في رؤوس البحاث من الأطباء، أو رؤوس القليل منهم الذين لا تزعجهم غرابة الخاطر، ولا يصرفهم عن الأمر خروجه عن المألوف. ومحصول هذه الفكرة أن الحمى ذلك العدو القديم للحياة قد تنقلب، أو يمكن تأليفها وقلبها الى صديق نصير، فبدل أن تكون عوناً على الداء، تصبح عوناً على الشفاء، في بعض الأمراض التي عجز عنها الطب وحار فيها الأطباء.
وحكاية هذه الفكرة بسيطة بقدر غرابتها، ومنشؤها تافه بالرغم من خطورتها، وهي في ذلك جرت على سنة جرى عليها كثير عليها من المستكشفات التي غيرت من سطح الأرض، وتحكمت في مستقبل الإنسان. ذلك أنه منذ خمسة أعوام في معامل للكهرباء كبيرة مشهورة لاحظ مديرها المستر (وتني) أن المهندسين الذين كانوا يمكثون في مجال الكهرباء الأستاتيكية لناقلات الراديو ذي الذبذبات العالية، ولو زمناً قليلاً، يحترون وترتفع فعلا درجة حرارتهم. وأذاع المدير في تقرير له هذه الحقيقة، ولكنها لم تسترع اهتمام أحد في عالم الطب. ولحسن الطالع لم يكن (وتني) طبيباً فلم يأبه لهذا الخذلان، وكان يهوى الحقيقة أنى وجدها، وكان واسع الإطلاع كثير القراءة، فذكر أنه قرأ مرة أن العالم النمسوي الأستاذ (وجنار ياوديج) شفى عدة أشخاص مجذومين مشلولين من أثر الجذام المعروف بالزهري بأن أصابهم عامداً بداء الملاريا، وذكر أن هذا الحادث أثار مناقشات حارة بين رجال الطب في أوروبا، ثارت في سبب هذا الشفاء أهو الملاريا أم ظروف عارضة لا علاقة لها؟ وانتهى النقاش الى غير خاتمة.
ذكر (وتني) ذلك، وكان جاهلاً بالطب، وذكر أن الملاريا تصحبها حرارة عالية، فتراءى له في لمحة أن الحمى التي تصحب الملاريا ربما كانت هي السبب الأول في الشفاء، ذلك أنها تطبخ ميكروب الجذام فتهلكه. وتراءى له أنه لو صح هذا لكان للحمى التي تحدثها الكهرباء
مثل هذه الصفة. على أثر هذا أستأجر خبيرة في علم وظائف الأعضاء أسمها الآنسة (هوزمر) فأثبتت له أن الفئران وأمثالها من الحيوانات القارضة يمكن أصابتها في المجال الكهربائي بأي قدر يراد من الحمى. وبعد ذلك أستخدم الدكتور (كربنتر) وهو بكتريولوجي ذو خبرة وأمانة، فعدى كثيراً من الأرانب بالجذام ثم وضعهم في المجال الكهربائي ليصيبهم بالحمى فشفاهم بذلك.
نشرت هذه الأبحاث منذ ثلاث سنين، كان من المنتظر أن تثير في عالم الطب عاصفة، ولكنها لم تثر إلا نسائم خفيفة، وسبب هذا أن الطب امتلأ في السنوات الأخيرة بأكاذيب كثيرة وشعوذة مهينة للعلم، صدرت عن علماء أو متعالمين، وعدا هذا فالجديد أينما سار يجر وراءه ظلاً من الريبة، ولاسيما إذا كان الجديد بالغاً في الغرابة، شديد المناقضة للمعروف، وقد تكون بساطته سببا لتهامه، وتعقده شفيعاً له الى قلوب الناس وعقولهم.
لم يجزع (كربنتر) للذي لقي من جمود القوم، وأخذ سبيله فبنى صندوقاً أشبه شيء بناووس الموتى، وأغرى قوماً يؤمنون بالتضحية في سبيل الخير بالدخول فيه، فاستطاع بالكهرباء أن يرفع درجة حرارتهم، لم يلبث قليلاً حتى وجد أنه بضغط زر أو إدارة عقرب يستطيع أن يتحكم في حرارة المريض رفعاً أو خفضاً مقلداً بذلك حمى الملاريا، ولم يلبث أن ذهب هذا العلاج بجنون ثلثي المرضى الذين عالجهم. ولكنه كان علاجاً مؤلماً شديد الوطأة، وهو فوق ذلك لا يؤتمن، لأن المريض أثناءه يتصبب عرقاً يتجمع يتجمع فتتركز الطاقة الكهربائية، فيحدث من هذا تفريغ ينشأ عنه شرر وبرق يحرق جلد المريض، ولعل جنون المرضى في الأحوال المذكورة كان رحمة، فلولاه لخافوا الألم ونظروا في العاقبة فاحجموا.
لو أن تجربة (وتني) وقفت عند هذا الحد لما قدر لها النجاح، ولكانت طرفة نفعها للعلم وللتاريخ فحسب، ولظل الطبيب الى الأبد يعالج هذا الداء بالزرنيخ، ذلك العقار السام الذي لا تؤدي القناطير منه الى شفاء تام لا شبهة فيه. ولكن في يوم شات مثلج من يناير عام 1931 بالولايات المتحدة بلغ رجلا من العلماء ما كان من أمر التجربة، ففكر فخال لساعته أنه لو صنع خزانة على مثال الناووس وأمَرَّ فيها تيارا من الهواء الساخن بقدر لبخر بذلك العرق المتساقط من المرضى فحماهم خطر الحريق. وبعد عشرة أشهر كان هذا العالم مع رفقة آخرين آثروا جميعا ستر أمرهم الى حين قد أتموا الخزانة في حجرة من مستشفى
متداع ببقعة بغرب الولايات لا تسمى. وكان فاتحة أعمالهم أن وضعوا فيها ضحية من ضحايا الزهري (ولم تكن الخزانة تهيأت للهواء الساخن يمر فيها) ولكن الرجل كان في المرحلة الأخيرة من المرض يعاني كربه فلم يبال أحيّاً خرج من الخزانة أم ميتاً، ولعله رأى فيها وسيلة انتحار أضمره لا تصم ذويه من بعده، واليوم هذا الرجل حي يرزق إن كان يشكو شيئا فذلك انه لا يكتسب من عمل يومه بمقدار ما يحب.
وأدخل الهواء في الخزانة على درجة 50 مئوية وكانت هذه الحرارة تظن كافية لتجفيف قطرات العرق المتجمعة على أجسام المرضى، ولكن هذا الظن لم يتحقق كله، وعلى رغم ذلك جرى العمل على ما رسم بفضل مهندس شاب مخلص قيم على جهاز الهواء، وممرضات صبورات كن يبعثن من لطفهن وأنوثتهن وحنانهن الأمل والرجاء، في قلوب المرضى التعساء، وهم في الخزانة، في ألم من الداء وهول من الدواء.
وفي ذات أحد من الآحاد اشتعلت النار بالخزانة فانقض في نصف ساعة بناء عام، فكنت لا ترى إلا ركاما من فحم ورماد وأنابيب منصهرة وأسلاك ملتوية، والى جانب هذا الحطام المهندس الفتي والممرضات بعيون شاخصة حجبت أبصارها الدموع.
لم تستطع النار ولا الدمار اللاحق أن يضعف من همة تلك الرفقة الكريمة في صراعها في سبيل الخير. فلم يمض قليل من الزمن حتى أقاموا خزانة جديدة أقرب الى الغرض وأكثر إراحة للمرضى، وقد يكون بعض النفع من البلاء. وجاءت النقالة بعد النقالة تفرغ في الخزانة الجديدة حمولتها من أجسام أهلكها الجذام وأعقابه، وما لبث الكثير منهم أن خرج من المستشفى على رجليه يسعى كالناس يحدوه رجاء جديد في حياة جديدة. من ذلك شاب بلغ الزهري الى أعصابه وشرايينه فلم يكن يستطيع الحراك ولا إطعام نفسه. حم في الخزانة ثلاث مرات كل مرة خمس ساعات فاستطاع بعد ذلك أن ينال فمه بيده. وبعد الحمى الثامنة استطاع أن يقف لأول مرة على قدمين مرتعدتين، وذلك بعد عام من بدء العلاج، وهو الآن يزاحم الأحياء بالمناكب في الطرقات يسعى الى رزقه سعيهم الى أرزاقهم.
ومن ذلك طفل في التاسعة من عمره جاءت تقوده أمه لأن الزهري كان أصاب عينيه فلم يكد يفرق بهما بين نور النهار وظلمة الليل، حم تسع مرات فارتد إليه بصره كما كان.
وعولج اثنا عشر مريضاً ممن شل الزهري أجسامهم وذهب بعقولهم فعاد إليهم جميعا صوابهم إلا واحداً. وعولج آخرون ظاهرهم الصحة وفي دمائهم خبث المرض فتطهروا بعد الحمى من الداء الدفين النائم الذي قد يستيقظ يوماً من أيام العمر فيودي بصاحبه بعد أن يذيقه ألوان الشقاء.
وتتجه الأبحاث في الوقت الحاضر الى محو مرض الزهري وهو في أدواره الأولى قبل أن يستقر الميكروب في جثمان المريض ويتغلغل فيه الى حيث أصول الحياة ومنابتها، وقد لا يمضي عقد من الزمان حتى يمكن تأمين ملايين البشر من هذا البلاء الذي لا تزيده الأيام إلا انتشاراً، ففي أمريكا وحدها نحو من عشرة ملايين مسهم هذا الوباء، أما بالعدوى وأما بالوراثة. وفي مصر يفتك الداء في ذوي الخطايا والأبرياء على السواء، وهو في مأمن من الإحصاء.
وسوف تقوم دون انتشار هذا الجهاز الجديد عقبات، منها انه غالي الثمن فليس في استطاعة كل مطبب حيازته، ومنها انه معقد ككل جهاز في أول نشأته، ومنها أن التطبيب به ليس من الأمور اليسيرة إلا في أيد خبيرة قديرة، وبقوامة ممرضات لبقات صبورات تدربن خصيصاً لهذا العلاج الجديد. وهي كلها عقبات هينات عرفت حيلة الإنسان كيف تتخطى الألوف من أمثالها، وإنا لما تأتي به السنون لمرتقبون.
القصص
كلبتي بلوتا
بقلم الأديب حسين شوقى
(من المظنون إن العبقرية لا تغيب طويلا عن (كرمة ابن هاني) فان البواكير التي تتفتح عنها قريحة حسين شوق في الشعر والقصص لابد أن تذكرها بمهبطها الاول ومألفها القديم. ولعلك واجد في هذه القصة الساذجة من رقة الحديث وخفة الأسلوب ما يبعث الأمل في هذا الظن)
إذا سقت إليك الحديث الآن عن كلبتى (بلوتا) فإنما هي حجة أصطنعها لأذكر فصلا من عهد الطفولة اللذيذة التي تنعش ذكراها النفس كأنما هي على حد تعبير المصريين القدماء: مكان رطب ظليل في يوم قيظ لافح. .
(بلوتا) كلبة إسبانية. حصلنا عليها في برشلونة أثناء المنفى، على سبيل الهدية. . وكان صاحبها من رجال السلك السياسي اضطرته المهنة أن يغادر إسبانيا الى بلد آخر بعيد، وكان يخشى ما تجره إليه بلوتا من متاعب أثناء الطريق، فرأى أن يهديها إلينا. .
قدمتنابلوتا بعد ظهر يوم من أيامالشتاء ضاح جميل، وكنا مجتمعين في الحديقة ننظر ذلك العضو الجديد في أسرتنا!
حقا! ما كان أجمل بلوتا بشعرها الأبيض الناصع ذى اللفائف المتعددة، لأنها كانت من النوع الذي يشبه الخراف في فروته. . .
وكانشعرها مقصوصا على شكل يحاكى لبدة الأسد، أرسلوه الى آخر الصدر ثم حلقوا النصف الباقي بالموسى. . وكان في عنقها طوق أحمر يبدو احمراره بين الخصل المكدسة من تلك الفروة القطنية. .
وكانت بلوتا في تلك اللحظة تمشى الهوينى في خيلاء وتيه كأنها تطلب منا أن نتأمل حسنها في أناة، أو ربما لم يكن في استطاعة المسكينة أن تمشى أسرع من ذلك لبدانة جسمها. . وقد سميت من أجل هذا بلوتا أي الكرة. .
وألفت بلوتا عشرتنا في أقصر مدة، حتى كانت تضايقنا بهذه الألفة. . إذ لم يعد في استطاعتنا أن نذهب الى أي مكان بدونها. وكان في إحدى ضواحي برشلونة متنزه جميل
تتوسطه بحيرة حفت بالأشجار الكثيفة الملتفة فكنا نقصد هذا المكان في أيام الصيف فنتغذى على ضفاف البحيرة، فكانت بلوتا ترافقنا الى هذا المكان. . بل كانت تتقدمنا إليه في المسير. فإذا ما شاهدت الماء جن جنونها فتلقي بنفسها في البحيرة وتظل تسبح طول النهار رائحة غادية في عظمة وأبهة كأنما هي مدرعة تختال فوق عباب الأطلنطيق!
فإذا دعوناها الى الانصراف أبت مغادرة الماء، فكان لابد من الاحتيال عليها لاخراجها منه، وكانت أنجح الحيل معها أن نلوح إليها من الشاطئ بقطعة من السكر، لأنها كانت مولعة بأكله. فإذا خرجت لتلتهمه قبضنا عليها بسرعة!
لشد ما كانت بلوتا تعبد الماء!، إنها لتحملني على أن اصدق الرأي القائل بتقمص الأرواح! فليت شعري في أي نوع من السمك قد حلت روح بلوتا من قبل يا ترى؟
ألفت بلوتا كلاب الحي كذلك، حتى كان لها من بينهن العشاق الكثر. . لأن كلاب الأسبان ككلاب الشرق يملن أيضا الى الأجسام البضة!
وإذا كان لبلوتا (كما تقدم) شكل الأسد، فلم تكن لها أبدا شجاعته، فإنها كانت تولى الأدبار عندما يحتدم الشجار بين عشاقها (من أجلها) وتعود فتختبئ تحت سريري. .
والأمر الغريب إن بلوتا كانت على علاقة حسنة حتى مع القطط! كانت مثال التسامح صادقة الإيمان بمبادئ لوكارنو السلمية!
ولما كانت بلوتا بدينة الجسم فقد عولت ذات يوم على أن أجرب على جسمها التمارين الرياضية لاخفف من شحمها المتكدس، فكنت في صباح كل يوم أطرحها على الأرض ثم اشد يديها الى الخلف، ورجليها الى الأمام. . مرارا عديدة. . حتى تئن المسكينة من التعب والالم، وكلما كان والدي يراني منهمكا في ذلك، كان يلومني على عملي صائحا، ما أقسى طبيعة الطفل! أما أنا فكنت أفعل هذا لأنتقم لنفسي على حساب بلوتا المسكينة، مما كنت أعانيه من الشدة في التمارين الرياضية بمدرستي من أستاذها الألماني
ولشد ما كانت بلوتا ذكية أيضا!
كانت لها حجرة نوم تحتالسلم طولها متران في مثلهما عرضا. . وكانت الخادم تأتى كل ليلة الى الصالون حوالي الساعة العاشرة فتأخذها من بيننا لتذهب بها الى تلك الحجرة فتغطيها باللحاف، لأن ليالي برشلونة الشتوية قارسة البرد، فإذا أبطأت الخادم في بعض الليالي في
الحضور، كانت بلوتا تذهب بنفسها الى حجرة نومها ثم تعود الى الصالون وفى فمها غطاؤها، وتظل منتظرة على هذه الحال حتى تحضر الخادمة فترافقها الى مضجعها!.
وكانت بلوتا تعبد الشكولاته! واليك ما صنعته بي ذات مرة: كنتأنا أيضا أحب الشكولاته. . فكنت اشتري منها كل يوم (لدى عودتي من المدرسة) بما قيمته عشرة قروش، لأن مرتبي لم يكن يسمح لي وقتئذ وا أسفاه أن أشتري بأكثر من هذه القيمة. . وكنت آكلها سراً حتى لا يشاركني فيها أحد. . ولكن بلوتا بذكائها الفطري العجيب كانت تدرك الأمر فتقف أمامي حينما تعرف إن القرطاس بجيبي، ولا تبرح مكانها حتى أناولها قطعة منه. . ففي ذات يوم كنت جالسا الى مكتبي، عاكفا على دراستي ولم أعطها في تلك المرة حصتها من الشكولاته، فلم يكن منها إلا أن دست يدها خلسة في جيبي فسرقت القرطاس وذهبت دون أن اشعر، فلما وضعت يدي في جيبي لأخرج قطعة من القرطاس لم أجده، ولكنني عرفت في الحال من هو السارق، فأسرعت الى السرير حيث اعتادت بلوتا أن تختبئ لأنقذ ما يمكن إنقاذه، فوجدتها ويا للأسف قد التهمته كله!. . وكانتالشكولاته قد لوثت ذقنها. . لقد غاظتني في ذلك اليوم لأنه كان يوم عطلة ولم يكن في استطاعتي أن اشتري قرطاسا آخر. . فلما انتهت الحرب الكبرى، وسمح لنا بالعودة الى مصر، أردنا أن نتعجل الرجوع الى الوطن المحبوب فاجمعنا الرأي على أن نركب أول باخرة تغادر أوربا، لذلك قصدنا البندقية لنلحق بباخرة إيطالية كانت تتأهب للسفر بعد أيام قلائل، ولما كان السفر طويلا شاقا على السكة الحديدية من برشلونة الى البندقية، فقد تركنا بلوتو عند بعض الأصدقاء في برشلونة ليرسلها إلينا في مصر على الباخرة التي تسافر من برشلونة مباشرة الى بور سعيد بعد شهر من ذلك التاريخ، وما كان أسعدنا وأسرنا حين جاءتنابرقية تنبئنا بوصول بلوتا الى بور سعيد!. هرع في مساء ذلك اليوم الى محطة القاهرة والدي وأخي وأنا لاستقبالها. . فلما وصل القطار إذا بنا نجد بلوتا سوداء اللون كأنها أحد عمال المناجم، لأن المسكينة قطعت المرحلة ما بين بور سعيد والقاهرة في عربة الفحم!.
عرفتنا بلوتو في الحال. . وكم كان سرورها عظيما! فكانت تارة تقبل أيدينا وطورا تجذب أرديتنا، ومرة أخرى تقفز في الهواء، على رغم بدانتها. . أما ركاب القطار فكانوا ينظرون إليها دهشين. . ولما عدنا بها الى المنزل استطاعت بلوتا بقوة شمها الحاد أن تعرف حجرة
والدتي فقفزت الى سريرها بفحمها وغبارها فايقظتها، ولم تنج بلوتا في تلك الليلة من عقاب محتم إلا لفرط اشتياقنا إليها بعد غيبتها الطويلة!
ولكن مسرات هذا العالم وا أسفاه قصيرة المدى! كما يقول سرفانتس. . فانه لم تمض على بلوتا أشهر قليلة في مصر حتى مرضت مرضا شديدا اضطرنا الى قتلها كي تستريح مما كانت تكابد من عذاب وألم ثم دفناها بالحديقة تحت الشجرة الكبيرة بالقرب من السور الخلفي. . ثم حفرت اسمها وتاريخ ميلادها ووفاتها على شاهد من المرمر نصبته على قبرها. ومالك تستكثر على بلوتا الوفية الذكية هذا الإكرام وفى الكلاب ناس كما في الناس كلاب؟
بلياس ومليزاند
للفيلسوف البلجيكى موريس ماترلنك
ترجمة الأستاذ حسن صادق
أشخاص القصة:
1.
اركل ملك الموند
2.
جنفييف أم بلياس وجولو
3.
بلياس حفيد إركل
4.
جولو
5.
مليزاند
6.
إينيولد الصغير ولد جولو من زوجه الاول
7.
طبيب
الفصل الأول
المنظر الأول:
(غابة في وسطها ينبوع ماء بعيد الغور تجلس على حافته مليزاند - يدخل جولو)
جولو - أقحمني النزق تيه الغابة الكثيفة، وأخاف أن يعييني الخروج منها. . . الله يعلم الى أي مكان قادنيالجواد وهو ضال في جموحه! وقد جمعت فزعيفي يمناي وقدمي، ثم صببته في جروح قاتلة تفتحت في جسمه الملتهب، ولكنه أصر على الجموح وأسرف في الغضب، ولما ضللت الطريق أفلت مني وأمعن في الهرب. فقدت الجواد ويقيني أني هالك في هذا المكان الموحش. . . ستأكل الطير من رأسي وتلغ الضواري في دمي، ولن يعرف كلابي السبيل الي، سأعود الى البيت راجلا إذا اهتديت الى الطريق. . . ما هذا؟ أخرير ماء أسمع أم هنين بكاء؟ آوه! من هذا الراقد على العشب، المطل على صفحة الماء الهادئ؟ فتاة على حافة الينبوع تنوح! (يسعل) إنها لا تسمع صوتي ولا أرى وجهها (يقترب من مليزاند ويلمس كتفها) لم تبكين؟ (تنتفض مليزاند وتنهض مذعورة تريد الهرب). خلي عنك الفزع فلست مارداً وما أنا من الشياطين. لماذا تبكين وحدك في هذا
المكان الموحش؟
مليزاند - ابتعد عنى! لا تقربني!
جولو - لا تخافي ولا تجزعي. لن يصيبك منى سوء. . . آوه! ما أجملك!
مليزاند - إليك عني أو ألقيبنفسي في الماء!
جولو - إني بعيد، بيني وبينك خطوة. أترينني؟ إني باق في مكاني أتحامل على هذه الشجرة. ولا تحزني ولا تخافي. هل أصابك مكروه أم رماك أحد بشر؟
مليزاند - أوه! نعم نعم! (ثم تتنهد تنهده عميقة)
جولو - ومن الذي أشقاك؟
مليزاند - كل الناس أشرار
جولو - وماذا أصابك؟
مليزاند - لا أريد أن أبوح به! لا أستطيع التعبير عنه!
جولو - كفكفي دموعك. أين مقامك؟
مليزاند - لقد هربت. . . نعم هربت!
جولو - أدركت ذلك. ولكن من أين هربت؟
مليزلند - ضللت الطريق. . . واصطلح علي الخوف والحيرة في سكون الغابة. لست من أهل هذا البلد، ولم أولد حيث تراني
جولو - من أي بلد تكونين؟ وأين مولدك؟
مليزاند - من بلد بعيد المزار
جولو - ما هذا الشيء الذي يشع في جوف الماء بريقا؟
مليزاند - أين هو؟. . . آه! إنه التاج الذي أعطاني إياه. . . لقد سقط في الماء أثناء بكائي
جولو - تاج؟! من الذي أهدى إليك تاجا؟ سأبذل جهدي في انتشاله
مليزاند - لا تفعل، لم أعد اشتهيه. تلاشت رغبتي فيه. متمناي الساعةأن أموت
جولو - هين علي انتشاله فانه من حيلتي قريب
مليزاند - ليس لي رغبة فيه، إذا انتشلته، ألقيت نفسي في مكانه
جولو - اطمئني بالا وقري عيناً. . سأنزل على مشيئتك، وأتركه في مستقره، في
استطاعتي مع ذلك إخراجه من الماء بلا عناء! إنه رائع بديع! هل مضى على هروبك زمن طويل؟
مليزاند - نعم نعم. . . من أنت؟
جولو - الأمير جولو حفيد أركل ملك ألموند الشيخ
مليزاند - أوه! بدأ الشيب يدب في فوديك!
جولو - بعض شعرات بيضاء نثرها الزمن على رأسي
مليزاند - وعلى لحيتك أيضا. لماذا تحدق في هكذا؟!
جولو - أرنو الى عينيك. . . انك لا تغمضينهما لحظة واحدة!
مليزاند - أغمضهما في الليل.
جولو - مالي أرى الحيرة في لحاظك؟
مليزاند - أمارد أنت؟
جولو - إني بشر مثلك.
مليزاند - لم وطئت هذا المكان؟
جولو - أجهل ذلك الجهل كله. كنت أصيد في الغابة فرأيت خنزيرا وحشيا فانطلقت وراءه بجوادي. ولكني أخطأت الصيد وضللت الطريق. . . ماء الشباب يترقرق في وجهك، ما عمرك؟
مليزاند - بدأت أشعر ببرودة الهواء!
جولو - أتأتين معي؟
مليزاند - كلا سأبقى هنا.
جولو - من ضعف الرأي أن تبقى وحدك في وحشة الغابة ولن تستطيعي قضاء الليل في سكون يروع القلبويفزع النفس. . . ما اسمك؟
مليزاند - مليزاند.
جولو - تعالي نخرج من الغابة.
مليزاند - إني باقية.
جولو - ستخافين وحدك ظلمة الليل. ومن يدرى. . . ربما تكون الغابة ذات وحوش. . .
الليل كله، وبمفردك؟! أقلعي عن عنادك وتفهمي قولي. هاتى يدك.
مليزاند - لا تلمسني.
جولو - لن ألمسك فلا تصيحي. سيكون الليل حالك السواد شديد البرد. تعالي معي
مليزاند - إلى أين أنت ذاهب؟
جولو - لا أدري. . . إني ضال مثلك (يخرجان).
المنظر الثاني:
(ردهة في القصر. إركل وجنفييف جالسان يتحدثان)
جنفييف - سأتلو عليك ما كتبه الى أخيه بلباس: (وجدتها ذات يوم عند الغبشتسكب الدمع الغزير على حافة ينبوعفي الغابة، إني اجهل عمرها وأصلها ولا أعرف لها وطنا. ولا أجرؤ على سؤالهالأنها نابية الطبع يستقر في نفسها الذعر الشديد، ويقيني أنها عانت أمرا أدخل على نفسها الاضطراب والهلع. وإذا سئلت عما حدث لها، استخرطت في البكاء دفعة واحدة وملأت الجو بالتنهدات العميقة التي تفرض على السائل الصمت والخشوع. وقد مضى على زواجي منها ستة أشهر، ولا أعرف اليوم من أمرها أكثر مما عرفت في ساعة اللقاء الأولى. ولكنى آمل أن أصل إلى ما أريد بعد وقت وجيز، وليس هذا ما يهمني يا بلياس، يا من أعزه أكثر من شقيق ولو أننا لسنا من صلب واحد، وإنما الذي يشغل بالي ويقض مضجعي هو أمر العودة الى أحضانكم والعيش بينكم كما كنت قبل الزواج. ولذلك أكتب إليك ضارعا أن تعبد لي الطريق. أعلم علم اليقين أن أمي تعفو عني فرحة مستبشرة. ولكنى أخاف إركل على الرغم من طيبة قلبه وسراوة خلقه، لا. . هدمت بهذا الزواج صروح أمله وخيبت فجأة كل خططه السياسية. وأخوف ما أخافه ألا يشفع لي الى حكمته جمال مليزاند وسحرها الحي، فإذا قبل بعد سعيك الجميل أن يستقبلها في بيته كما يستقبل ابنته، فأشعل مصباحا بعد أيام ثلاثة وضعه في أعلى البرج المطل على البحر، حتى أستطيع رؤيته من السفينة التي أقيم فيها مع زوجي. وإن رفض رجاءك فإني ذاهب الى نية بعيدة ولن تروني). كيف ترى؟
إركل - وماذا أقول؟ إن ما حدث يبدو غريبا لأننا لا نرى دائما إلا عكس ما يهيئه القدر. . . كان في كل حين يتبع نصحي، وقد اعتقدت أن زواجه من الأميرة (إرسول) يهيئ له
أسباب السعادة، ولذلك تقدمت إليه أن يذهب الى أهلها ويخطبها إليهم! لم يكن في مقدوره ان يعيش منفردا، وقد ثقلت عليه الوحدة بعد موت زوجه، وحزت في جلباب نفسه الحزينة. لو تم هذا الزواج الذي كنت أرغب فيه لوضع حداً لحروب طويلة وأحقاد قديمة! لم يشأ ذلك. فليكن الأمر كما أراد. إنى لم أجعل من نفسي قط عقبة تعترض حظ إنسان، وهو يعرف مستقبله أحسن مني. وربما انتج عمله نفعا لا ندركه اليوم
جنفييف - كان في كل أدوار حياته حازما رزينا بعيد النظر، وقد وقف كل حياته بعد موت زوجه على ولده الصغير (راينيولد) لقد نسى كل شئ. . . والآن ماذا نصنع؟
(يدخل بلياس)
الكتب
النجوم في مسالكها. . أدب جديد
للأستاذ محمد عبد الواحد خلاف
ليطمئن دعاة الجديد من كتابنا الأدباء فلست بمقاسمهم فخر نصر
أحرزه، ولا بمنازعهم فضل طريق شقوه، وليطمئن أنصار القديم فلست
بمنتقص تراثا عزيزا قدسوه، ولا عائب جمالا فتنوا به وألفوه، ولكني
مطلعهم على واد جديد من أودية الأدب تلتقي عنده وجهاتهم، ويجدون
فيه جميعا ما ينفع غلتهم.
سيجد فيه عشاق المعاني المبتكرة منبعا خصبا، ولا يعوزهم معه امتداد في الخيال أو سعة في التأمل أو عمق في التفكير، وسيجد فيه عشاق الصياغة البارعة، والأنغام الرنانة مشاهد سحرية تتجلى في وصفها بدائع صناعتهم، وآفاق خلابة يطيب فيها ترديد أنغامهم، ومسارح للجمال أشد استهواء وأروع تناسقا من كل ما مر بخاطرهم. ففيه مبعث التفكير ومهبط الوحي لمن كان عصى الابتكار، يضنيه تلمس الخيال، ويجهده أن يلد كل يوم جديد، وفيه ذخيرة الرأي ومادة الوصف لمن كان غنيا باللفظ والصياغة فقير المعاني، هذا الأدب هو ما أسميه أدب العلم.
وقد يبدو غريبا إمكان التزاوج بين العلم والأدب، فقد ألفنا أن نرى العلم سلكا من الحقائق الجافة يؤلف بينها منطق صارم دقيق، وألفنا لغة العلم مضغوطة جافة مشحونة بمصطلحات موضوعة تجعل بينها وبين الغريب عن العلم حجابا، وألفنا الأسلوب العلمي محبوكا لا يكاد يطل عليك من خلف عباراته روح إنسانية تفيض عليه الحياة، فهو جسم سليم الأعضاء تام التركيب، ولكنه ميت لا روح فيه، وهذا شر ما ضيق دائرة العلم وحصره في طائفة المشتغلين به.
والأدب؟ لقد ألفنا الأدب متمردا على مقاييس المنطق الجافة يحمل رسالته للقلوب لا للعقول، هو روح يفيض على كل مادة فيسبغ عليها حياة خالدة، هو نفس الأديب مقطرة تشف من وراء كل عبارة يسطرها، هو موسيقى الإنسانية تتجاوب أصداؤها في كل قلب،
ومن أجل ذلك كان الأدب رسالة عامة يفهمها الناس جميعا ويطربون لها، فكيف التقى الأدب والعلم؟
إن الثقافة الحديثة هي التي قربت بين المتباعدين، وألفت بين المتنافرين، فلقد أنتجت كثيرا من العلماء المتأدبين، أو الأدباء العالمين، وقد وجد هؤلاء من حقائق العلم ما هو أعجب من أوهام الخيال، وبصروا بعين العلم مشاهد ترتد عنها العين غير العلمية كليلة لا تبلغ جمالها ولا تدرك ما فيها من فتنة.
وسمعوا بأذن العلوم موسيقى رائعة دقيقة لا تصل الى الأذان غير العلمية، ووصل العلم بين الماضي والحاضر، والقريب والبعيد، والحياة والفناء، والمادة والطاقة.
وسلك الكل في وحدة (كونية) تضاءلت أمامها الوحدة (الإنسانية) وطلع علينا أدب كوني أسمى وأروع وأبدع من الأدب الإنساني الضيق.
حطم الأدباء العالمون الحواجز التي كانت تعزل العلم عن الجماهير، وأسبغوا مواهبهم الأدبية على حقائق العلم فكسوها حلة فتانة قربتها للجماهير، فكانت غذاء لعقولهم وشفاء لقلوبهم. . .
وبين يدي مثل رائع لهذا الأدب العلمي هو كتاب (النجوم في مسالكها) الذي وضعه بالإنجليزية العلامة السير جيمس جينز، ونقله الى العربية صديقنا الدكتور أحمد عبد السلام الكر دانى.
هو سياحة في الكون على أجنحة الخيال العلمي، تعبر بك ملايين السنين والأميال وتنقلك الى عوالمه، وتقف بك عند السيارات والكواكب، وتخترق بك الشمس، وتريك أسرار كل هذه العوالم وستنسى نفسك وأنت تسبح مع الكاتب كما نسيت نفسي؛ ثم تؤوب منها كما عدت منها وقد امتلأت يقينا بجلال الله وعظمته، وشعوراً بقدرته وبالغ حكمته، وسترى كما رأيت مبلغ غرور الإنسان وهو ليس إلا هباءة حقيرة في جزء حقير من الكون! وتعجب كيف طوعت له نفسه أن يناصب العداء هذا الخالق العظيم الذي دبر هذا الكون الذي لا ندرك مداه فأحكم تدبيره.
ومالي أقطع عليك بالوصف لذة تلك السياحة وأنت لابد قارئها وواجد فيها ما وجدت. وفوق ما وجدت، ولقد وفق صديقي (الكر دانى) كل التوفيق في تعريب الكتاب فجاءت عباراته
طلية واضحة دقيقة، ويبدو في كل صفحة من صفحاته مجهود في اللغة يهنأ عليه الأستاذ المعرب كل التهنئة.
ولن ينقص من قيمة هذا المجهود الكبير تلك الحملة الظالمة التي حملها كاتب مقنع في جريدة الأهرام على تعريب هذا الكتاب، وراح يتلمس عثرة للمعرب فلم يجد إلا بضعة ألفاظ عابها عليه وهى مفخرة له.
إن عبارة النقد تنم عن كاتبها وسوء نيته، وإني لأرجو أن يمر بها المعرب وتمر بها لجنة التأليف والترجمة والنشر مر الكرام، وسيجدون من أنصاف القراء وتقديرهم لهذا الكتاب القيم ما يكفيهم عناء الرد عليه.
أكرر التهنئة لصديقي (الكر دانى) وأرتقب مع القراء مجهودات أخرى له في الأدب العلمي الذي نفتقر إليه أشد افتقار.
أربعون يوما من عام 1914
تأليف الجنرال موريس
ترجمة الضابط محمد عبد الفتاح إبراهيم
تأبى حركة الترجمة في مصر إلا أن تكون قوية عنيفةواسعة النطاق حتى تشمل كل نواحي الحياة وشتى ضروب التفكير، فهذه آيات الأدب الغربي الرائعة، وألوان العلم المختلفة تنقل الى اللغة العربية. ويطالعنا المصريون فيشاطرون العالم المتمدن علمه وأدبه، حتى لتكاد العقلية المصرية أن تندمج في العقلية الأوربية اندماجا تاما، ولم تقتصر حركة الترجمة على الآداب والعلوم، ولكنها امتدت فتناولت شعبا وأطرافا متنوعة دقيقة، نعم امتدت حركة الترجمة حتى شملت الثقافة الحربية أيضا! فهذا كتاب (أربعون يوما من عام 1914) وضعه بالإنجليزية الجنرال موريس ونقله الى العربية الضابط الفاضل محمد عبد الفتاح إبراهيم. وأول ما نلاحظه إن المعرب ضابط في الجيش!!
ولست أشك في أن القارئ يسيء الظن. كما كنت أنا أسيء الظن بضباطنا جميعاً من حيث الرغبة في الاطلاع والدرس. فنحن إذن نسجل الثناء للمعرب الفاضل مضاعفاً، فقد اثبت نشاطا أو ميلا الى النشاط العلمي بين ضباطنا، وهو فوق ذلك قد ساهم بكتابه هذا في حركة التعريب الشاملة بنصيب محمود.
والكتاب تاريخ دقيق لأربعين يوما من سنة 1914، تلك السنة التي رفع فيها الستار عن أكبر مأساة شهدها التاريخ، إذ انطلقت صيحة الحرب العظمى تدوي في أرجاء العالم دويا شديدا، فارتج منها رجة عنيفة امحّت في أثرها دول وأنشئت أخرى. ففيه تحليل للخطط الحربية التي رسمها الألمان والفرنسيون، فتشعر حين قراءته بالمهارة البارعة التي كانت تبدو من قواد الفريقين، فهي محاورة طريفة بين الألمان والفرنسيين على الحدود الغربية، أقرب الى مباريات اللهو واللعب منها الى أي شيء آخر: هذا يريد أن يأخذ خصمه على غرة ويحيط بجناحيه أو يغزو قلبه، وذلك يفسد عليه خطته بمهارة فائقة تدعو الى الإعجاب. ويخيل إليك وأنت تقرأ الكتاب أنك بصدد رقعة للشطرنج بين لاعبين، يكيد كل واحد منهما للآخر وينصب له الأحاييل (ولكن لم تكن وا أسفاه قطع ذلك الشطرنج من خشب أو عاج، وإنما كانت أرواحا بشرية تحصد حصدا بغير حساب) الكتاب لذيذ ممتع
حقاً، وجدير بكل ضابط وكل مشتغل بالتاريخ ان يقرأه ويقتنيه، ولغة المعرب سلسة، فيها كثير من الدقة في التعبير والشرح، لولا بعض الأخطاء النحوية التي نؤاخذه عليها، وأظنها اكثر من هفوات يجوز أن تجتمع في كتاب واحد. نذكر قليلا منها على سبيل المثل: في صفحة52 وردت هذه العبارة: تسود الجنود روحا غريبة وصحتها روح غريبة. وفى ص 208 لم يكن ذو دراسة، وصوابها لم يكن ذا دراسة. وأمثال هذه الأخطاء كثيرة في الكتاب نرجو المعرب أن يتداركها بالتصحيح في الطبعة الثانية إن شاء الله، كما نرجو أن يكون اكثر دقة في تعريب الأسماء الجغرافية، فيذكرها كما هي شائعة معروفة في الكتب العربية ولا ينقلها حرفا بحرف، فمثلا في صفحة 38 ذكر مدينة باسل وهى تنطق بال بحذف السين، فذلك أكثر نفعا لقراء الكتاب.
ز. ن. م
28