الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 140
- بتاريخ: 09 - 03 - 1936
المعنى السياسي في العيد
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ما أشد حاجتنا نحن المسلمين إلى أن نفهم أعيادنا فهماً جديداً نتلقاها به ونأخذها من ناحيته فتجيء أياماً سعيدة عاملةً تنبه فينا أوصافها القوية وتجدد نفوسنا بمعانيها، لا كما تجيء الآن كالحةً عاطلةً ممسوحةً من المعنى، أكبر عملها تجديد الثياب، وتحديد الفراغ، وزيادة ابتسامة على النفاق
فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في اليوم لا اليوم نفسه، وكما يفهم الناس هذا المعنى يتلقون هذا اليوم؛ وكان العيد في الإسلام هو عيد الفكرة العابدة، فأصبح عيد الفكرة العابثة؛ وكانت عيادة الفكرة جمعها الأمة في إرادة واحدة على حقيقة عملية، فأصبح عبث الفكرة جمعها الأمة على تقليد بغير حقيقة، له مظهر المنفعة وليس له معناها
كان العيد إثبات الأمة وجودها الروحاني في أجمل معانيه، فأصبح إثبات الأمة وجودها الحيواني في أكثر معانيه؛ وكان يوم استروح القوة من جدها، فعاد يوم استراحة الضعف من ذله؛ وكان يوم المبدأ، فرجع يوم المادة!
ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأن الأيام تتغير؛ وليس العيد للأمة إلا يوماً تعرض فيه جمال نظامها الاجتماعي، فيكون يوم الشعور الواحد في نفوس الجميع، والكلمة الواحدة في ألسنة الجميع؛ يوم الشعور بالقدرة على تغيير الأيام، لا القدرة على تغيير الثياب. . . . كأنما العيد هو استراحة الأسلحة يوماً في شعبها الحربي
وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف تتسع روح الجوار وتمتد حتى يرجع البلد العظيم وكأنه لأهله دار واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي، وتظهر فضيلة الإخلاص مستعلنةً للجميع، ويهدي الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المخلصة المحبة، وكأنما العيد هو إطلاق روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها
وليس العيد إلا إظهار الذاتية الجميلة للشعب مهزوزةً من نشاط الحياة؛ ولا ذاتية للأمم الضعيفة؛ ولا نشاط للأمم المستعبدة. فالعيد صوت القوة يهتف بالأمة: أخرجي يوم أفراحك، أخرجي يوماً كأيام النصر!
وليس العيد إلا إبراز الكتلة الاجتماعية للأمة متميزة بطابعها الشعبي، مفصولة من
الأجانب، لابسةً من عمل أيديها، معلنة بعيدها استقلالين في وجودها وصناعتها، ظاهرة بقوتين في إيمانها وطبيعتها، مبتهجة بفرحين في دورها وأسواقها. فكأن العيد يوم يفرح فيه الشعب كله بخصائصه
وليس العيد إلا التقاء الكبار والصغار في معنى الفرح بالحياة الناجحة المتقدمة في طريقها، وترك الصغار يلقون درسهم الطبيعي في حماسة الفرح والبهجة، ويعلمون كبارهم كيف توضع المعاني في بعض الألفاظ التي فرغت عندهم من معانيها، ويبصرونهم كيف ينبغي أن تعمل الصفات الإنسانية في الجموع عمل الحليف لحليفه، لا عمل المنابذ لمنابذه. فالعيد يوم تسلط العنصر الحيّ على نفسية الشعب
وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف توجه بقوتها حركة الزمن إلى معنى واحد كلما شاءت؛ فقد وضع لها الدين هذه القاعدة لُتخرِّجَ عليها الأمثلة، فتجعل للوطن عيداً مالياً اقتصادياً تبتسم فيه الدراهم بعضها إلى بعض، وتخترع للصناعة عيدها، وتوجد للعلم عيده، وتبتدع للفن مجلي زينته؛ وبالجملة تنشئ لنفسها أياماً تعمل عمل القواد العسكريين في قيادة الشعب، يقوده كل يوم منها إلى معنى من معاني النصر
هذه المعاني السياسية القوية هي التي من أجلها فُرض العيدُ ميراثاً دهرياً في الإسلام ليستخرج أهل كل زمن من معاني زمنهم فيضيفوا إلى المثال أمثلة مما يبدعه نشاط الأمة، ويحققه خيالها وتقتضيه مصالحها
وما أحسب الجمعة قد فرضت على المسلمين عيداً أسبوعياً يشترط فيه الخطيب والمنبر والمسجد الجامع، إلا تهيئةً لذلك المعنى وإعداداً له. ففي كل سبعة أيام مسلمة يومٌ يجيء فيشعر الناس معنى القائد الحربي للشعب كله
ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجال فيهم أرواح المدافع، لا رجال في أيديهم سيوف من خشب. . . .
مصطفى صادق الرافعي
رسوم الفطر والأضحى في عهد الدولة الفاطمية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت الدولة الفاطمية في مصر دولة البهاء والبذخ والترف في الحياة العامة وفي الحياة الخاصة؛ وكانت مواكب الخلافة الفاطمية ورسومها الفخمة دائماً مثار الروعة والإجلال، وكانت أعيادها ومواسمها الباهرة مثار البهجة والفرح العام؛ ومازالت آثار من تلك الرسوم والمواسم الشهيرة تمثل في كثير من أعيادنا ورسومنا وتقاليدنا الدينية؛ فإذا رأيت بعض هذه الأعياد والمواسم يجنح إلى نوع من الفخامة، وإذا رأيت بعض هذه الرسوم يتشح بأثواب من الرونق والبهاء، فإنما ذلك يرجع في الأغلب إلى أثر الدولة الفاطمية في بث هذه الروح الباذخة البهجة إلى كثير من نواحي الحياة العامة والخاصة في مصر الإسلامية
وربما كان من الشائق الممتع، وقد قضى المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها عيد الأضحى المبارك، أن نقف على طرف من الرسوم والتقاليد التي كانت تجري عليها الخلافة الفاطمية في الاحتفاء بهذا العيد الإسلامي الجامع؛ وقد كان للخلافة الفاطمية أعيادها ومواسمها الدينية الخاصة، إلى جانب العيدين الإسلاميين الرئيسيين، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى؛ وكانت تحتفي بهما في حفلات ومظاهر رسمية رائعة؛ وكان موكب العيد من أعظم مواكب الخلافة الفاطمية؛ ففي ليلة عيد الفطر كان يعقد في الليل بالإيوان الكبير الذي يواجه مجلس الخليفة سماط ضخم يبلغ طوله نحو ثلثمائة ذراع في عرض سبعة أذرع، وتنثر عليه أنواع الفطائر والحلوى الشهية مما أعد في دار الفطرة الخلافية؛ فإذا انتهى الخليفة من أداء صلاة الفجر عاد إلى مجلسه، وفتحت أبواب القصر والإيوان على مصاريعها، وهرع الناس من جميع الطبقات إلى السماط الخلافي وتخاطفوا ما عليه بحضور الخليفة ووزرائه؛ وحينما تبزغ الشمس يركب الخليفة في موكبه إلى الصلاة ويخرج من باب العيد إلى المصلى؛ وقد انتهت إلينا عن هذه المواكب الفاطمية من أقوال المؤرخين المعاصرين صور تبهرنا بروعتها وجمالها؛ ونحن نحيل القارئ على تلك الفصول الشائقة البديعة التي ينقلها إلينا المقريزي عن هذه المواكب الخلافية الرائعة ونكتفي بأن ننقل إليه هذه الصورة الموجزة من أقوال المسبحي مؤرخ العصر الأول من الدولة الفاطمية، قال: (وفي يوم العيد ركب العزيز بالله لصلاة العيد وبين يديه الجنائب
والقباب الديباج بالحلي، والعسكر في زيه من الأتراك والديلم والعزيزية والأخشيدية والكافورية، وأهل العراق بالديباج المثقل والسيوف والمناطق الذهب. وعلى الجنائب السروج الذهب بالجوهر، والسروج بالعنبر، وبين يديه الفيلة عليها الرجلة بالسلاح والزرافة، وخرج بالمظلة الثقيلة بالجوهر وبيده قضيب جده عليه السلام فصلى على رسمه وانصرف)
فإذا عاد الخليفة من الصلاة كان ثمة سماط آخر أبهى وأروع وهو السماط الثاني لعيد الفطر؛ فيجلس الخليفة في مجلسه وأمامه مائدة من فضة يقال لها المدورة وعليها أواني الذهب والفضة غاصة بأفخم الأطعمة وأشهاها؛ وقبالة المائدة الخلافية سماط ضخم يتسع لنحو خمسمائة مدعو، وقد نثرت عليه الأزهار والرياحين وصفت على حافتيه الأطباق الحافلة بصنوف الشواء والطيور والحلوى البديعة، وجلس إليه رجال الدولة والعظماء والأكابر من كل ضرب وأكل من شاء دون إلزام حتى لا يرغم على الإفطار من لا يرى الإفطار في ذلك اليوم؛ وعند الظهر ينفض المجلس وينصرف الناس
وأما عيد الأضحى أو عيد النحر كما كانت تؤثر تسميته في ظل الدولة الفاطمية تنويها بأبرز مظاهره ألا وهي نحر الأضحية، فقد كان يحتفى به بركوب الخليفة إلى الصلاة على النحو المتبع في صلاة عيد الفطر ثم يخص بسماط حافل يقام في أول يوم منه. بيد أنه يمتاز بركوب الخليفة فيه ثلاث مرات متوالية في أيامه الثلاثة الأولى، ويمتاز بالأخص باشتراك الخليفة نفسه في إجراءات النحر؛ وكان قيام الخليفة بهذا العمل من أروع المظاهر والمراسيم التي جرت عليها الخلافة الفاطمية في الأعياد العامة. فلنتصور أمير المؤمنين متشحاً بثوب أحمر قان يسير في موكبه ماشياً إلى دار النحر الخلافية - وقد كانت تقوم في ركن خارجي من القصر - وبين يديه الوزير وأكابر الدولة والأساتذة المحنكون (وهم المشرفون على شؤون الخاص) ويكون قد اقتيد إلى النحر واحد وثلاثون فصيلا وناقة أمام مصطبة يعلوها الخليفة وحاشيته، وقد فرشت حافتها بأغطية وبطائن حمر يتقى بها الدم، وحمل الجزارون كل بيده إناء مبسوطا يتلقى به دم الضحية؛ ثم تقدم رؤوس الأضاحي إلى الخليفة واحدة فواحدة، فيدنو منها وبيده حربة يمسك بها من الرأس، ويمسك القاضي بأسل سنانها ويجعله في عنق الدابة فيطعن بها الخليفة، وتجر من بين يديه حتى يأتي عليها
جميعاً، وكلما نحر الخليفة رأساً جهر المؤذنون بالتكبير؛ وتقدد الضحية الأولى، وتفرق قطعاً صغيرة في الأولياء والمعتقدين؛ وفي اليوم التالي ينظم نفس الموكب إلى المنحر، وينحر الخليفة سبعة وعشرين رأساً؛ وفي اليوم الثالث ينحر ثلاثة وعشرين؛ ويجري توزيع لحم الأضحية خلال هذه الأيام الثلاثة على أرباب الرسوم في أطباق خاصة للتبرك، ويقوم بالتوزيع قاضي القضاة وداعي الدعاة، ويخص نقباء الدعوة وطلبة دار الحكمة (دار العلم) بقسط من اللحوم الموزعة؛ فإذا انقضت مراسيم النحر خلع الخليفة عند العودة إلى القصر على الوزير ثيابه الحمر ومنديلا ملوكياً بغير سمة، والعقد المنظوم، فيركب الوزير وعليه الخلع المذكورة في موكب حافل من القصر شاقا القاهرة حتى باب زويلة، ثم يدخل من باب القنطرة إلى دار الوزارة، وبذلك تنتهي حفلات النحر
وكان الخليفة العزيز بالله أول من سن سنة إعطاء الضحايا وتفريق لحومها في أولياء الدولة على قدر مراتبهم، وكان ما يخرج منها غير ما يذبحه الخليفة بنفسه يبلغ بضعة آلاف من مختلف الأصناف هذا عدا ما يفرق في أرباب الدولة من الخلع والأموال؛ وقد انتهت إلينا من روايات المؤرخين المعاصرين تفاصيل دقيقة عن مقادير النفقة في تلك المواسم، ومنها أن نفقة سماطي الفطر والأضحى كانت تبلغ زهاء أربعة آلاف دينار؛ ويذبح من البقر والجاموس والنوق في أيام النحر نحو ألفين وخمسمائة، ومن الغنم ألفين وأربعمائة؛ وقد أشرنا إلى ما كان يوزع في عيد الفطر في أرباب الدولة من صنوف الفطائر والحلوى، وكيف كان يسمح للكافة باقتحام إيوان القصر لنهب السماط الخلافي أمام عيني الخليفة ذاته؛ وعلى الجملة فقد كانت الخلافة الفاطمية تبدي في المواسم العامة من ضروب البذخ والبهاء والبهجة، ما يسبغ على هذه المواسم أثوابا ساطعة من الرونق والجمال والسحر
وقد كان هذا البذخ الذي تنثره الخلافة الفاطمية حولها ينفث في الشعب ذاته حب الظهور والمرح، فكانت القاهرة تلبس في تلك المواسم حلة أنيقة باهرة وتحفل شوارعها ومحالها ودورها بأنواع الزينة القشيبة؛ وكانت في الليل تبدو كأنها شعلة ساطعة من الأنوار؛ وكان القصف والمرح يخرجان أحيانا في تلك المواسم عن حد الاعتدال حتى أن ولاة الأمر لجئوا غير مرة إلى إلغاء بعض الرسوم وتقييد بعض الحريات؛ وفي عهد الحاكم بأمر الله ألغي
الاحتفال ببعض المواسم التي كان القصف يخرج فيها عن حدود الاعتدال مثل عيد الشهيد، وحرم شرب الخمور والركوب في الخليج، وخروج النساء، واشتد الحاكم في ذلك حتى كانت القاهرة تغدو أحياناً في أثواب قاتمة من السكون والإقفار والروع. بيد أنه فيما خلا هذه الفترات القليلة، كانت الخلافة الفاطمية دائما عند تقاليدها الباهرة تنثر حولها حلل البذخ والبهاء والترف في كل المواسم والمناسبات
هذه لمحة سريعة فيما كانت ترتبه الخلافة الفاطمية من الحفلات والرسوم الباذخة لاستقبال العيدين الإسلاميين الرئيسيين؛ ولم تكن الخلافة الفاطمية أقل بذخا وبهاء في الاحتفاء بباقي المواسم والأعياد الأخرى كيوم عاشوراء، ويوم الغدير، ويوم النيروز، وعيد الشهيد وغيرها، فقد كانت تسبغ عليها جميعاً أقصى مظاهر الروعة والفخامة، وكانت هذه المواسم والأعياد لدى الشعب المصري أياماً مشهودة تفيض بهجة وحبوراً؛ وكانت الخلافة الفاطمية ترمي بترتيب هذه الرسوم الباذخة إلى غايتين: الأولى أن تبث هيبتها الدينية بما تسبغه من الخطورة والخشوع على بعض المظاهر والرسوم، والثانية أن تغمر الشعب المصري بسيل من الحفلات والمآدب والمواكب الباهرة، وأن تأسره بمظاهر جودها الوافر، وأن تنثر عليه ما استطاعت من آيات البهجة والمرح، كل ذلك لكي تكسب ولاءه وعرفانه وتأييده؛ وقد كانت الخلافة الفاطمية تشعر دائما أنها لم تكسب كل ولائه وتقديره، وان سياستها المذهبية تبث إلى نفسه شيئا من الوحشة والريب؛ بيد أنه يجب أن نقول من جهة أخرى إن الدولة الفاطمية كانت بحق دولة البهاء والبذخ الواسع، وكانت هذه الرسوم والمظاهر الرائعة من بعض مظاهر قوتها وعظمتها وغناها؛ وكانت هذه الروح الفخمة الباذخة تطبع كل رسومها ومظاهرها، في القصر وفي الخارج، وفي السياسة والدين والإدارة، وفي الحياة العامة والحياة الخاصة؛ وقد سرت آثار كثيرة من هذه المظاهر والرسوم الفخمة الشائقة إلى كثير من القصور والدول الإسلامية التي تعاقبت على مصر بعد الدولة الفاطمية؛ وقد نلمس إلى اليوم في بعض الرسوم والنظم الدينية، وفي بعض مظاهر أعيادنا ومواسمنا لمحات من آثار البذخ الفاطمي
محمد عبد الله عنان
التعليم والحالة الاجتماعية في مصر
للأستاذ إسماعيل مظهر
قرأت في العهد الأخير تقريرين عن التعليم في مصر كتبهما عالمان استقدمتهما وزارة المعارف لينظر كل منهما في ناحية خاصة من نواحي التعليم ودرجاته، وأفضى كل منهما بآراء ناضجة فيما كلف به من بحث. فكتب مستر مان مفتش المدارس وكليات المعلمين بإدارة المعارف بإنجلترا تقريراً مدعماً بالإحصاءات فائضاً بالأفكار والنظريات، وكتب مسيو كلاباريد أستاذ علم النفس في كلية العلوم بجامعة جنيف تقريراً آخر عمد فيه إلى نظريات حديثة في علم النفس والتربية لا نعلم مقدار ما فيها من خطأ أو صواب، لأن الحكم على مثل هذه الأشياء يجب أن يرجع فيه إلى أهل الاختصاص، وإن كانت النظرة العاجلة التي ألقيتها على هذا التقرير قد أقنعتني، وقد أكون مخطئاً، بأن نظريات كلاباريد ربما تكون قد أسلمت به نتائج لا يؤيدها الواقع ولا تسندها الحقائق التي يعرفها كثير من المصريين معرفة أولية لا تحتاج إلى نظر علمي ولا إلى استنتاج من مقدمات
هذا إلى أن العالمين الأوربيين إن كانا قد بحثا في التعليم المصري كل من ناحية اختصاصه، فإن بحثهما إنما جاء قاصراً على الدائرة التي عينتها له وزارة المعارف وفي ضوء المعلومات التي زود بها، وفي الحدود التي رسمت للتعليم في مصر منذ خمسين سنة مضت. فإن كانا قد أحسا بشيء من النقص، أو وقع لهما شيء يستحق النقد، فإنما وقع لهما في ما هو داخل في هذه الحدود أو مشمول بها. فلم ينظرا مثلا فيما يجب أن يؤدي التعليم في مصر من حاجات الحياة العامة فيها، وفي علاقة التعليم بالحالات الجديدة التي تكتنف الحياة المصرية في تطورها الحديث. على أن هذا لا ينزل من مكانة ما كتب العالمان الفاضلان أو يقلل من قيمة آرائهما. فإن المصريين أنفسهم أحق بأن يتلمسوا مكان النقص الذي يحسونه في التعليم من ناحية علاقته بالحياة عامة، وبالحالة الاجتماعية خاصة
ومهما يكن من أمر الباحث الأوربي في الشؤون المصرية، ومهما يكن من علمه وتمكنه فيه، فأنه من المتعذر عليه كما قال مستر مان في تقريره أن يلم به إلمام المحيط بالحقائق الأساسية التي يحس بها المصريون أنفسهم من غير استعانة بآراء أو نظريات. ذلك بأن لكل أمة إحساساً بما يعتورها من نقص لن يفقه الغريب عنها شيئاً من خصائصه إلا بالجهد
الشديد وطول التأمل والتفكير. مثل ذلك أن التقريرين اللذين وضعهما العالمان الأوربيان لم يلمسا الحقائق الأولية في حياتنا الاجتماعية وعلاقتها بالتعليم؛ ذلك في حين أن كل مصري يشعر شعوراً عميقاً بأن عصراً من عصور التطور الفكري قد آذن بأن تشرق شمسه في سماء مصر، وأن عصراً آخر قد أخذ في الأفول. أضف إلى ذلك أننا نشعر بأن حالاتنا الاجتماعية قد اتجهت في تطورها متجهاً ألقى على التعليم في مصر عبئاً جديداً لم يشعر به آباؤنا، وقد نشعر بعض الأحيان بشيء من القلق، وقد نشعر بأن هذا القلق قد يتضاعف بعض الأحيان حتى ليذهب بالبعض إلى حد اليأس من مستقبل آلاف الطلبة الذين يتعلمون اليوم في المدارس وتخرجهم الكليات زرافات كل عام. بل إننا أخذنا نشعر بكل ما شعر به الأستاذ هنري جيمس عندما قال: إن الاحتفاظ بحالة اجتماعية ثابتة الدعائم قوية الأركان في جمعية يكتب على المتعلمين فيها عيش الفقر والذلة، لأمر فيه من البعد عن حقائق الطبع البشري بقدر ما في محاولتك بناء هرم يرتكز على رأسه لا على قاعدته من بعد عن حقائق الطبيعة الكونية
ولقد يماري مفكر في أن ذلك الشعور العميق الذي يكتنف تفكير الكثيرين من المصريين إنما له أسبابه الغامضة البعيدة عن إدراك الذين لا يفكرون في التعليم إلا بقدر ما يفكرون في أداة تخرج متعلمين، ولا يزيد خطره في نظرهم عن خطر آلة تخرج أحذية أو لفافات تبغ في نظر عامل يجهل حقيقة الآلة التي يديرها، ولا يعرف عنها إلا أمرين: شكلها الظاهر، وثمرها الذي يجنيه منها
على أن الثمر الذي أخذنا نجنيه من أداة التعليم عندنا قد جدت عليه ظاهرتان جديدتان: الأولى أن طعمه قد أخذ يتغير، والثاني أن صنفه أخذ ينحط مع كثرة الإنتاج. ولا شك في أنهما ظاهرتان يعلل بهما كثير من الظواهر الاجتماعية التي تمر علينا في كل يوم صور منها، وأخصها كثرة العاطلين من المتعلمين، والجهد الذي يلقاه المجدون منهم في تحصيل رزقهم الحلال
ولا ريب في أن هذه الظاهرات ترجع إلى أسباب أخذت تتجمع منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، حتى أفضى بنا التطور إلى الحالة التي تكتنفنا اليوم. ولما كان الغرض الذي أرمي إليه من نشر هذه المقالات إنما يتجه إلى وصف العلاقة التي تقوم اليوم بين التعليم
والحالة الاجتماعية والمهمة الكبرى الملقاة على عاتق التعليم في تنظيم الحالة الاجتماعية ودرء الأخطار التي قد يتعرض لها المجتمع المصري بقدر ما في مستطاع التعليم أن يدرأ منها، وجب أن أظهر أولا أن أشد الأخطار التي يتعرض لها الكيان الاجتماعي في مصر من ناحية التعليم أن الشاب المتعلم في مدارسنا العليا يفقد مع التعليم استقلاله الذاتي، باعتباره قوة لها حقيقة مستقلة عن القوى الأخرى التي تكتنفها. وقد يشعر بذلك الشاب المتعلم، وقد يشعر به الذين يعلمون أولادهم، حتى لقد نجد أن بعض القادرين على التفكير ينظرون نظرة تشاؤم إلى المستقبل القريب، وإن لهم في ذلك لحقا، وإن لهم في تشاؤمهم لأسبابا تبرره وحقائق تعلله، ومن أجل أن نظهر تطور الحالات التي أفضت بنا إلى هذه النتائج ينبغي لنا أن نذكر حقائق خمسا نرجع فيها إلى تاريخنا بعض الشيء:
أولا: حكمت مصر منذ أبعد العصور على نظام تباين الطبقات الاجتماعية، وعلى أساس الفوارق في الحقوق العامة؛ غير أن الطبقات أخذت تتقارب حقوقها الطبيعية وتنتفي من بينها الفوارق من عهد قريب، فالكل الآن متساوون أمام القانون، ولكل مصري حق الانتخاب والحكم من طريق مجلس النواب. فأخذ مظهر وجود طبقتين متمايزتين في الحقوق المدنية يزول شيئاً بعد شيء، فلقد كانت مصر القديمة مكونة من ثلاث طبقات هم: الحكام والكهنوت والشعب؛ ومنذ غزو الاسكندر وحكم البطالسة إلى حكم المماليك حتى بدء الاحتلال الإنجليزي كانت هناك طبقات تختلف حقوقها وامتيازاتها؛ أما الآن فقد انتفت هذه الفوارق نظرياً، ونقول نظرياً لأننا لا نزال نشكو من بعض مساوئها، بالرغم من أن أصغر فلاح في مكنته أن يقاضي أعظم عين في البلاد، وأن يأخذ حقه منه إن كان له حق
ثانياً: بالرغم من أن نظام الطبقات المتباينة في الحياة والحقوق هو النظام الذي اتبع في مصر منذ أبعد العصور، وبالرغم من أن حالة مصر الاجتماعية من خمسين سنة مضت كانت تكفل الاستقلال المادي لطبقتي ذوي الامتيازات والفلاحين معاً؛ بأن تحمل طبقة الفلاحين، وهي الطبقة العاملة، العبء كله، بأن تكفي نفسها وتكفي حاجات حكامها بقدر الاستطاعة، فأن الحالة الجديدة، حالة التساوي أمام القانون في الحقوق، قد أحدثت ظاهرة اجتماعية جديدة، كان سببها أن الفلاح قد خرج من كونه عاملا لا حق له في ملكية الأرض، إلى رجل حر له حق العمل متى شاء والانقطاع عنه متى أراد، وله فوق ذلك حق
الملك، بل نقول إنه انتقل من عامل إقطاعي إلى رجل حر، فقامت على هذه ظاهرة اجتماعية جديدة
ثالثاً - هذه الظاهرة الاجتماعية الجديدة التي قامت على تحرير الفلاح المصري وعتقه من نظام الإقطاع الذي ظل خاضعاً له طوال القرون، قد قلب آية الحياة الاجتماعية في مصر. فإن هذا الفلاح لم يكن ينقصه شيء ليكون مستقلا تمام الاستقلال في حياته إلا قانون يحميه، ونظام اجتماعي يجعله يشعر بأنه قوة لها أثر قي الحياة؛ فلما وقع ذلك بالفعل أصبحت الطبقة الدنيا أي طبقة الفلاحين المسخرين التي كان عليها أن تحفظ استقلالها واستقلال الطبقة التي تعلوها، سيدة نفسها، وأصبحت طبقة الملاك وأصحاب الجاه كما كانت في الحالة الأولى عبئاً عليها، ولكن في صورة جديدة، هي صورة أخذت شكل صراع خفي بين طبقتين
رابعاً - ولقد انحصر مظهر هذا الصراع في طبقة تحررت من قيود النظام الإقطاعي وهي الطبقة المنتجة العاملة بيدها، فأصبحت مستقلة بنفسها. وهي طبقة قادرة على الحرث والغرس والحصاد في بلاد لن يزرعها غيرها، ولن ينتفع بها غيرها؛ فهي مستقلة مادامت من فوق الأرض التي يغذيها النيل بشرايينه المحيية؛ وهذه الخطوة الجديدة أحدثت ظاهرة أخرى
خامساً - عكفت الطبقة الأخرى، طبقة أصحاب الجاه على مطلب آخر تتقي به النتائج التي تترتب على استقلال الطبقة العاملة ولم تجد من وسيلة أقرب من تعليم أولادها ليكونوا حكام البلاد. ولكن طبقة الفلاحين أخذت تزاحم الطبقة الأولى في هذا المضمار، فأخذ الأثرياء منهم يعلمون أولادهم ليكونوا حكاما فنجحوا. ولكن بعد أن ملئت الحكومة بما تحتاج من حكم وكتبة قام شعور جديد بأن أولاد موظفي الحكومة والأثرياء الذين أخرجوا أولادهم من محيط الفلاحة إلى محيط العلم أقل استقلال مع تعلمهم من أبناء الفلاحين الجهلاء. وأصبحنا الآن والموقف بين متعلم عاطل يتطلع إلى مرتب أبيه أو ثروته ليعيش، وفلاح جاهل لا عمدة له في الحياة إلا خبرته الموروثة في فلح الأرض وقوة عضلاته ومحراثه وفأسه وماشيته. فهو رجل مستقل تمام الاستقلال في الحياة، على العكس من المتعلم العاطل. فإذا كانت الغاية من التعليم تخريج رجال مستقلين يكافحون في الحياة كفاح المنتج لا كفاح
المستغل لكفاح غيره، رأينا أن التعليم لم يف ببلوغ الغاية الأخيرة منه، مادمنا نرى أن ابن الفلاح بخبرته الموروثة مستقل في حياته منتج بعمله، في حين أن المتعلم يفقد مع التعليم استقلاله الذاتي ويتطلع دائماً إلى حياة الركود لا إلى حياة الكفاح التي لم يهيئ له تعليمه طريقها الواجب
على أن قليلا من التأمل في هذه الالمامة التي ألممنا فيها بأوجه التطور الاجتماعي الذي انتابنا منذ خمسين سنة خلت، يحمل المفكر على المضي خطوة أخرى في تأملات إذا أحطنا بها نكون قد فرغنا من التمهيد للفكرة التي نريد أن تكون الدعامة التي يقوم عليها أساس التعليم في مصر، فنرى ما يأتي:
أولا: إن طرق التعليم التي عكفنا عليها إلى الآن شطرت الأمة معسكرين: الأول معسكر المتعلمين على القواعد الأوربية التي اتبعناها في مدارسنا، وخرجوا بهذا التعليم عن جو ثقافتنا التقليدية، فأصبحوا نصف مصريين؛ والثاني معسكر الفلاحين الذين أبعدناهم عن الثقافة الحديثة، وحافظنا على ثقافتهم التقليدية فصاروا بذواتهم في القرن العشرين، وبعقليتهم في مصر الفرعونية
ثانياً: كونَّا بهذا طبقتين غير متجانستين، بل مختلفين تمام الاختلاف، بحيث لا تجمع بينهما من رابطة إلا الرابطة الطبيعية التي هي رابطة الدم؛ فكنا في ذلك أشبه بالمستعمر الذي يرغب دائماً في أن يزيد من الصدوع التي تفصل بين طبقات الأمة، لا أشبه بالمصلح الذي يعمل دائماً على أن يرأب تلك الصدوع ويقرب بين الطبقات حفظاً للتوازن الاجتماعي. ولا شك في أن هذه السياسة تؤدي بطبعها، وعن غير قصد، إلى حرب الطبقات التي نحن مقدمون عليها حتماً إذا استمر التعليم على نماذجه الحاضرة وأخذت تلك الصدوع والفوارق تزيد عاماً بعد عام
ثالثاً: دليلنا على هذا أن ابن الفلاح إذا أثرت فيه الثقافة الحديثة، سواء أكان تعليمه في مصر أم في إحدى جامعات أوربا، أصبح لا ينشق في جو بلاده نسيم الثقافة التي نشأ فيها، فتلحظ فيه روح التبرم بأبيه الفلاح وأمه الفلاحة، وتأنس فيه نزعة قديمة تدفعه دائماً إلى حب العودة إلى الجو الذي نشأ فيه، فتراه قلقاً غير مستقر، هدَّاماً لا بنَّاءً، يريد لو تتاح له الفرصة ليعود إلى الجو الذي كان فيه؛ فإذا أعيته الحيلة، كما يحدث دائماً، واضطر إلى
البقاء في جو بلاده، هجر الريف، مرباه الأصيل ومربى آبائه وأجداده منذ قرون طويلة ومنشأ تقاليده منذ أزمان لا تعيها الذكريات، ليسكن في مدينة من المدن، فيفضلها مع عيش الفقر والعوز على الريف مع عيش الراحة والهناءة؛ وتراه ينزع إلى البطالة في مدينة دون العمل الذي هو أجدر بحياة الرجولة في الريف. ومن هنا تتكون الطبقات المتبرمة بالحياة، العاملة على الهدم دون الإصلاح، النزاعة إلى الأفكار المتطرفة والثورات. أولئك الذين عناهم العلامة هنري جيمس في كلمته التي سقناها من قبل
رابعاً: وأنت أينما وليت وجهك رأيت أثر المعسكرين اللذين كونهما التعليم المصري ظاهراً جلياً. فأنت تنتزع الولد من حضن أبيه الفلاح وأمه الفلاحة، فكأنك تنزعه من حضن (مصر الفرعونية)، لتنشئه في حضن (مصر الأوربية)، وتخرجه بعد ذلك قاضياً أو محامياً أو مهندساً أو تاجراً أو رجل إدارة أو غير ذلك، ولكن بروح أوربية تكسوها ثياب مصرية شفافة؛ وبالأحرى تخرج رجالاً انبتت صلتهم بتقاليدهم الثقافية القديمة. وأنت في دور العدل وفي المتاجر وفي مركز الإدارة وفي عيادة الطبيب ومكتب المهندس، واقع في كل دقيقة على مظهر من مظاهر التفرقة بين المعسكرين. فالفلاح البعيد عن مدنية المدن، وبالأحرى البعيد عن جو الثقافة الأوربية الذي نشأ فيه القاضي والمحامي والتاجر ومأمور المركز ومعاون الإدارة وطبيب القرية، يمثل معسكر مصر الفرعونية؛ أما هؤلاء فإنما يمثلون (مصر الأوربية)، ولا شك في أن هذا مظهر من مظاهر الانحلال الاجتماعي، لا يسأل عنه في مصر شيء بقدر ما يسأل التعليم
خامساً: بالرغم من أن المتعلم قد نزع بفكره نزعة أبعدته عن ثقافة آبائه التقليدية، فقد أثرت تلك الحال في مزاجه وتصوراته ونظراته الفنية في الحياة، تلك النظرة التي يجب أن تكون مصرية صميمة، ويجب أن نحافظ عليها نقية على سجيتها لنكون مصريين جديرين بالمصرية، وكان من نتائج هذا أن المتعلمين يفضلون أقذر قرية أوربية على ريفنا الجميل وبحيراتنا الفاتنة، حتى لقد كادت تقوى النزعة الأوربية فينا على وحي النيل نفسه؛ والسبب في هذا أننا كنا خلال الخمسين عاماً الماضية كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، إذ انتزعنا من أرواح ناشئتنا (مصريتها)، ولم نترك فيها من المصرية إلا لون البشرة، ولقحناهم بالروح (الأوربية) فلم نبق مصريين كأهل الريف، ولم نستطع أن نكون
أوربيين كفتيان (بيكادلي سركس)
سادساً - بدأت هذه الحال تؤثر في مرافقنا الحيوية، حتى لقد نزعنا إلى القول بأن كل ما هو أوربي جميل، وكل ما هو مصري رديء؛ وكل فكرة مصرية لعب ولهو، وكل فكرة أوربية جد ورجولة؛ وكل فن مصري بٌدائيٌّ وغير متفق وروح العصر، وكل فن أوربي مهما كان فيه من بعد وتضاد مع نزعتنا وتقاليدنا المصرية بل ومع آدابنا المرعية والعرف الإنساني، وحضارة وتمدين؛ وشملت هذه الحال فتياننا وفتياتنا، فألسنتهم لا تتحرك إلا بكل ما هو أوربي غربي، وقلوبهم لا تهفو إلا لكل ما هو بعيد عن المصرية
ولا شبهة في أن المعسكرين يتهيآن الآن: الأول للعمل على خراب الريف، والثاني لا حول له ولا قوة، فسوف ينهزم ليترك الريف خراباً. وإنما يخرب الريف بخراب القلوب التي يجب أن تؤمن بأن الريف هو مصر، وأن مصر هي الريف، وأن المدن أسواق لذلك الريف لا أقل ولا أكثر. وإنما يخرب الريف بأن نحب المدينة ونهجر الريف، فكأننا هجرنا مصر. ولا مخرج لنا من هذا إلا بأن نصل ثقافتنا الحديثة بثقافتنا التقليدية؛ فيكون المصري فلاحاً مصرياً روحاً ونزعة وخلقاً، ثم قاضياً ومحامياً وطبيباً ورجل إدارة من بعد ذلك. يجب أن تكون ماهيتنا مصرية وأعراضنا أوربية، لا أن نعكس الآية بأن نعمل أولاً على محو مصريتنا، فإذا تم لنا ذلك رحنا نتيه بأننا أتينا بأعراض أوربية ولقحنا بها ذوات لا ماضي لها، وبالأحرى لا ماهية لها
تلك مقدمات لابد منها إذا أردنا أن نبحث حالتنا الاجتماعية من جهة علاقتها بالتعليم. وسنرى في البحوث التالية كيف يمكن أن نستفيد منها
إسماعيل مظهر
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور والكلب المسعور
وصل الفائت
اكتشف بستور لقاحا لداء الكلب هو عبارة عن 14 حقنة من مكروبه بعد إضعافه إضعافا متفاوتا في المقدار يحقن به المريض. وجرب هذا في الكلاب فكان النجاح. فلما أراد تجريبه في الآدميين تخاذل وخشي العاقبة. حتى جاءه ولد عضه كلب مسعور فأشار عليه الأطباء بتجربة اللقاح فيه لأنه ميت لا محالة ففعل ونجح اللقاح، وكان أول لقاح نجح في آدمي
عندئذ ذهبت عن بستور مخاوفه، وفارقته وساوسه. فكان موقفه من هذا الطفل هو عين موقفه من أول كلب حقنه رُو باللقاح في مخه بغير رضا أستاذه. خشي بستور على الكلب أن تُثقب جمجمته، فلما ثَقَبها رُو بغير علمه وصحّ الكلب من بعد ذلك، أكَبّ بستور على رؤوس الكلاب تثقيباً وعلى جماجمها تخريقاً. وهاهو ذا الآن يخشى عاقبة اللقاح الجديد على الطفل المكلوب؛ فلما صح الطفل واشتَفىَ من دائه، ماتت في نفس بستور شكوكه ومخاوفه، تلك الشكوك والمخاوف التي لم تتغلغل أبدا في نفسه تغلغلا كبيرا، ومع هذا تراءت له جسيمة واضحة، أرته إياها نفسه الفنّانة وهي تكثّر القليل وتجل الغامض. ثم إذا به يصيح للدنيا يُعلن أهل الأرض أن في إمكانه دفعَ الكلَب عنهم وحمايتَهم من بلواه
وأخذت جماهير المكلوبين المعذبين تتدفع إلى معمله بشارع ألم تطلب ربّه، ربّ المعجزة الكبرى. وجاء على هذه الحُجر القذرة القليلة حينٌ من الدهر وقف فيها البحث العلمي وقوفا كاملا. واشتغل بستور وعَوْناه في فرز الخلائق التي اجتمعت عليهم من كل أمة. وتعدّدت لغاتهم، فكنت تسمع أنغاماً متنافرة، وألسنة متباينة، كلها تصيح صيحة واحدة: (بستور!
أنقذنا!) فلبى نداءهم وأنقذهم؛ هذا الرجل الذي لم يكن طبيباً يوماً ما؛ هذا الرجل الذي كان يقول في سخرية يمازجها العُجْب: (هل أنا إلا كيميائي؟). نعم أنقذهم رجل العلم هذا الذي قضى حياته ينازع الأطباء ويخاصمهم خصاماً مرّاً؛ أنقذهم بأن حقنهم بتلك الأربع عشرة حقنة من مكروبه المجهول المضعَف بعضَ الإضعاف؛ تلك الأربع عشرة المعقّدة التي لم يستسغها عقل أو يألفها منطق: حَقَن تلك الأربع عشرة فيهم ثم ردّهم بعدها مُعافين إلى أركان الأرض الأربعة
وجاءه من روسيا من بلدة سملنسك تسعة عشر فلاحا من الموجيك عضهم ذئب مسعور قبل ذلك بتسعة عشر يوماً. وجرح الذئب خمسة منهم جروحاً بالغة فعجزوا عن السير فلم يكن بد من إرسالهم إلى المستشفى الكبير. وكان منظر هؤلاء الروس غريبا في طواقي الفرو فوق رؤوسهم وهم ينادون: (بستور! بستور!) وهي الكلمة الوحيدة التي عرفوها من لغة البلد الذي حلّوا فيه
وثارت ثائرة باريس - على نحوٍ لا يعرفه إلا باريس - قلقاً على هؤلاء المنكوبين الذين لا مفرّ لهم من الموت بعد أن طال الزمن عليهم مذ عضهم الذئب بنابه. وتحدّثت باريس فلم يكن لها غير هذا من حديث. وقام بستور ورجاله بحقن الألقحة في هؤلاء المناكيد الذين نضب حظهم من الحياة وقل رجاؤهم فيها. فالعشرة كان يعضهم الذئب فيموت منهم على المعروف ثمانية، فكان على هذا الحساب لابد أن يموت من أصحابنا خمسة عشر
قال الناس حيثما اجتمعوا: (من الجائز أن يموتوا جميعاً فلا ينجو منهم أحد؛ فقد مضى على عضهم أسبوعان وزيادة. مساكين والله! وستظهر عليهم أعراض الداء، وستكون شديدة فظيعة. ضاع الرجاء فيهم وحُمّ القضاء!)
ولعل الناس صدقوا فيما قالوا! ولعلهم حقا جاءوا بعد فوات الأوان! وعزّ على بستور الطعام، وعزّ عليه النوم، فأنه خاطر فأمر رجاله فحقنوا الألقحة الأربع عشرة في هؤلاء التعساء صباح مساء ليقتصدوا نصف الأيام الضائعة عسى أن يلحقوا بالداء فينفع الدواء
وأخيراً صاح بستور صيحة الفخر العالية، وصاحت باريس وفرنسا والدنيا أجمع صيحة الشكر، وأنشدت أنشودة النصر حارّة داوية. فاللقاح أنجى الفلاحين الروس إلا ثلاثة. فعاد الناجحون إلى بلادهم فاستقبلهم بذلك السرور الرهيب الذي تجده القلوب إذا هي دُعيت
للترحيب بميّت منشور، للترحيب بهؤلاء الرجال المرضى الذين ودّعوا بلادهم والأمل منهم مقطوع، فزاروا لا شك حرماً قدسيا لولي من أوليا الله، ثم عادوا يسعون على أرجلهم إلى ديارهم سعي الأحياء. وبعث قيصر الروس الأعظم إلى بستور صليب القديسة حنا الماسي ومائة ألف من الفرنكات ليبدأ بها في بناء بيت لصيادة المكروب. فقام هذا البيت في شارع ديتو وهو المعمل الذي يُسمى اليوم معهدَ بستور. وجاءه غير المائة ألف مال من العالم أجمع، من كل قطر من أقطاره، وكل ركن من أركانه، حتى تكدّست لدى بابه الملايين من الفرنكات ليبني بها المعمل ليقتنص فيه مكروبات فاتكة أخرى، وليجد لها فيه ألقحة ماضية أخرى. نعم تكدست الملايين على بابه، فقد كانت عاطفة قوية تلك التي أندت أكُف هذا الخلق الكثير، عاطفة قوية كالتي تثيرها المصائب إذا نزلت بالناس فادحةً شاملة
وتم بناء المعمل؛ ولكن كان عمل بستور في الحياة قد تم كذلك. فلقد كان نصره الأخير كبير الوقع في نفسه، ثقيلا على فِقار ظهر احتملت أثقال العمل الشديد مدة أربعين عاماً في تواصل لم يُسمع بمثله أبدا، فناء جسده تحت آخر الأحمال، وانقطع وتره بآخر الأثقال، فمات في عام 1895 في بيت صغير كان على مقربة من البيوت التي حفظوا بها عندئذ كلابه المسعورة في فلنوف لياتنج ' على أطراف باريس. ولفظ آخر أنفاسه كما يلفظها الكاثوليكي العريق في كَثْلَكَته أو الصوفيّ وقد كانه طوال حياته: في إحدى يديه كان الصليب، وفي اليد الأخرى كانت يد أكثر أعوانه صبرا وأقلهم شهرة وأكبرهم خطرا - تلك مدام بستور. وكان حول سريره عَوْنه رو وعونه شمبرلاند، وأعوانه الباحثون الآخرون؛ أولئك البُحَّاث الذين براهم نشاطه الجمّ في حياته برياً؛ أولئك البحاث الذين أسلموا له المقاد فدار بهم في هجيرة العمل دوراناً مستديماً قاسياً مرا؛ أولئك الأعوان الذين أوحى إليهم من وحيه واقتبس لقلوبهم قبساً من قلبه؛ أولئك الخلصاء الذين خاطروا بأرواحهم في إنفاذ خططه الجامحة في محاربة الموت، قاموا اليوم حول سريره يودُّون أن يفتدوه لو أمكن الفداء
هكذا انتهت حياة هذا الرجل خير انتهاء. هذا الإنسان الغالي في إنسانيته، صائد المكروب ومنجي الأرواح، الثائر الوثّاب، الناقص الخطّاء!
ولكن لبستور خاتمة حياة أخرى يتجه لها خاطري أكثر من اتجاهه لهذه. كانت في عيد
ميلاده عام 1892 حين استتم سبعين عاماً كاملة، فاحتفلوا به في السربون بباريس احتفالاً عاماً رائعاً كبيرا أهدوا إليه وساما. وكان لستر حاضراً، وكان رجال كثيرون مشهورون من أمم أخرى حاضرين، فاحتل هؤلاء العظماء رقعة المكان الدنيا حيث مجالس العظماء، واحتل الطبقات العليا من حولهم شباب فرنسا وطلاّب السربون والكليات والمدارس العليا؛ وامتلأ المكان بالأحاديث، واختلطت به أصوات فيها رنة الشباب. وفي برهة قصيرة انقطعت الأحاديث، وهدأت الأصوات، وخيّم على المجتمع صمت رهيب؛ ففي الممشى تراءى بستور يجر خطاه عرجا؛ وقد أخذ رئيس الجمهورية بذراعه واتجه الاثنان إلى المنصّة في رأس المكان، وصدحت موسيقى الحرس الجمهور بدور جَلْجَلَ في الفضاء، كذلك الذي يُتَحي به الأبطال العظماء وقد عادوا من ساحة النصر بعد أن روَّوْها عبثاً بدماء الأعداء، وحجبوا آثراها بغير طائل بألوف الأشلاء
بستور يموت
وكان في الحاضرين لِسْتر أمير الجرّاحين، فقام واحتضن بستور؛ وهتف الشيوخ الإجلاء من مجالسهم، والشبان الطُّلاّب من شرفاتهم، حتى ارتجت الحيطان؛ وأخيراً جاء دور الكلام لصاحبنا صياد المكروب الشيخ، وكان قد ذهب عنه صوته الحديد الرعّاد الذي كان يرفعه في الخصومات عاليا، فقام نجله يقرأ عنه خطابه؛ وكان ختام هذا الخطاب أنشودة للرجاء، لا بما تضمنته من خلاص الأنفس، بل على الأكثر بأنه دعوة دينية حارة تفتح للرجال سبيلا جديداً من الحياة؛ وكان بها يدعو شباب الجامعة وطلبة المدارس العالية، قال:
(لا تسوموا أنفسكم التشككَ في الأشياء، فالتشكك أرض قاحلة لا تُنبت، وسحاب جَهام لا يُمطر؛ ولا تحملوها على الريبة في قيم الأمور وأوضاعها فتحملوها على الزهادة وتُفقدوها الثقةَ بالله. واحذروا أن تركنوا إلى اليأس من أجل ساعات سوداوات تأتي على الأمم! ذلك أن لكل حالة غاية، ولكل كرب نهاية، والليل الأسود يعقبه النهار الضاحي. اطلبوا العيش في المعامل والمكاتب، ففي أجوائها الساكنة تجدون طمأنينة النفس وسلامها. سلوا أنفسكم: ماذا صنعتِ أيتها الأنفس بالذي كان من تعليم وتثقيف؟ فإذا تقدمت السنُّ بكم فسلوها ثانية: وماذا صنعت لهذا البلد الذي من أرضه كان غذاؤك ومن مائه كان ماؤك. حتى إذا جاءتكم الشيخوخة فلعلكم عندئذ تجدون أكبر الهناءة في الإحساس الغَمْر اللذيذ بأنكم ساهمتم مع
المساهمين وعملت مع العاملين بطريقة أياً كانت لتقدم هذه الإنسانية ولخيرها. . .)
(انتهى بستور)
أحمد زكي
المازني العاشق.
. .!
للأستاذ (أبو سلمى)
ما قرأت كلمة أستاذنا المازني (في الحب والمرأة) إلا أيقنت أن هنالك مؤامرة على الحب - وا حسرتا - فجزعت. . . . . لا على الأستاذ المازني فإنه إذا لوح بيده أو زوى ما بين عينيه رفع خصومه الرايات البيض. . . .
ولا على المرأة. . . فإن لها من لسانها الطويل - بقطع النظر عما إذا كان وراءه شيء أم لا - ما قد تستطيع به الوقوف أمام المازني. . .
ولكني جزعت على الحب في هذا الزمن الذي طغى فيه العقل - أو مجموعة الاختبارات والأمزجة والطباع - ولو أستطيع لرميت به (أي العقل) مربوطا بكتلة من الحديد تثقله - إلى الهوة السحيقة التي تليق به
والمازني عزيز على إخوانه وتلامذته - وأنا منهم - المنتشرين في كل قطر، وحبيب إلى قلوبهم - وهم عدد النجوم - وما كان لمثلي أن يرفع يده وهي شلاء أمامه، ولكن حملته على الحب والمرأة أثارت عليّ جنودا لا قبل لي بها، تعرف عطفه عليّ وحبه لي، وهو أدرى بقوتها. .
ومادام المرء يخلق كل يوم خلقاً جديداً فلم لا نأخذ الخلقة التي نميل إليها وتستهوينا؟ ومادام الإنسان يتحول إلى صور شتى فلم لا نهفو إلى الصورة التي تروق في أعيننا؟ والحياة قصيرة، والهوى فضّاح، فلأعد إذاً إلى أعماق الماضي، إلى المازني الفتى الذي دفنه:
مات الفتى المازني ثم أتى
…
من مازن غيره على الأثر
أزيل عنه اللفافات وأبعثه بشراً سوياً تتوهج عيناه بنور قلبه. . .
أيها الفتى المازني! أين أنت من المازني الذي أتى على الأثر وتكون لنا عوناً عليه؟!. . . ألست أنت الذي كنت تطوف حول دار الهوى وتتمتم وعيناك نديتان:
أوصدوا الأبواب بالله ولا
تدعوا العين ترى فعل البلا
وامنعوا دار الهوى أن تبذلا
إن للدار علينا ذمما
…
وقبيح خونها بعد الخراب
من قصيدة (الدار المهجورة)
ألست أنت الذي كان يحوم حول الحمى في الليل مضلل الرقيب، وجامع الحبيب بالحبيب - ولا أدري إذا كنت تلبس طربوشاً أم لا - فتنظر إلى شباك حسنائك وروحك تتراءى خلف مقلتيك حيناً وفوق شفتيك حيناً آخر، حتى إذا رمتك باللحظ زفرت وأنشدت:
ما أفصح اللحظ يا حبيبي
…
وأعذب البث بالعيون
لحظ يضيء الذي توارى
…
في ظلمة الغابر الدفين
من قصيدة (لحظ الحبيب)
فإذا هبطت - هي - إلى الحديقة واختبأت بين الأغصان أنبأك همس الأزهار عن مكانها فتقول:
وودت لو تنفع الأماني
…
لو كنت لدناً من الغصون
وليتني صيدح يغني
…
في ظلك الوارف الأمين
من قصيدة (لحظ الحبيب) أيضا
فإذا نادتك وظهر اللفظ من بين شفتيها مشتعلاً يهديك إلى دنيا الغرام هتفت أنت:
أظل إذا اسْتَكَّ في مسمعي
…
يرفّ عليّ جناح الغرام
شفاه يؤججن أنفاسه
…
ويلثمن ألفاظهن الظوامي
من قصيدة (لفظ الحبيب)
وتدلف إليها، ويلفكما الليل في طياته (كما يغيب سر المرء كتمان) والكلام لك، فتناجيها:
عجب كيف يرتضي البعد عنا
…
من عبدنا في حسنه الله جلاّ
أنت أفسدتني وعلمتني الحب
…
فهلاّ أصلحت مني هلاّ
كان خيراً من السهاد رقادي
…
في حمى ظلك الوريف وأحلى
من قصيدة (المناجاة)
وتشير إليك بتلك اليد التي كنت تعتقد أنها تفتح لك طريق سعادتك فتطمئن إلى الصدر الرحيب، وتغفو بين الأحلام على ترنيمتها:
نم هنيئاً في ظلي الفينان
…
وانس بًرْح الهموم والأشجان
وانس ما كان من زفير على الهج
…
ر ودمع يجري بغير عنان
هذه راحتي على وجهك الغض
…
وروحي وريفة الأفنان
وفؤادي مرفرف بجناحي
…
هـ حنانا فانشق نسيم الحنان
من قصيدة (رقية حسناء)
وحينما تقضي لبانات الفؤاد المعذب تودع الحبيب وتقول:
ودعته والليل يخفرنا
…
والبدر يرمقني وأرمقه
ولرب خدّ بت ألثمه
…
والدمع يطفئ ما أحرّقه
والورد أقطفه لوجنته
…
والشوك في قلبي مفوّقه
من قصيدة (ليلة وداع)
ثم يلج الوجد فيوشي جنبات الأفق ويصبح الفتى المازني (مثلا شروداً في الهوى. . .)
وبعد، فحالات أستاذنا المازني كلها حسنة مشرقة إشراق الابتسامة العذبة، ولكن أحسنها عند إخوان الصفا هي هذه الصفحة العطرة التي تندي شبابا وصبابة، فإذا أراد أن يعفى على أثرها ولو بالسيف، فليعلم أننا نجتليها ولو من بين الغمام لامعة وهاجة؛ وإننا وإن دوى في الآفاق صوته المرنان يُسمع الصم، نرجو منه أن يعلم أن هذا الصوت الداوي الآن - بشأن الحب المرأة - يتسرب من بين الطبقات ويصلنا ناعماً ليناً ويقف على أبواب القلوب
وإن هذا الحب الذي أصاب منه (شبعه) كان غذاءه الوحيد فكان يئن ويحن وينشد:
غذائي الحب يا من فيه حرمان
…
مني له أبداً ما عشت نشدان
وهل غذائي إلاّ أن أراك وأن
…
يمر بالسمع لفظ منك فتان
ما لذة القلب خلوا من دخيل هوى
…
ما الليل إن لم يكن بالصبح إيقان
مالي بغير الهوى في العيش من أرب
…
ولا بقلبي أحقاد وأضغان
من (مناجاة هاجر)
والشعر. . . - لقد نسيت - الشعر الذي قلت عنه إنه يلبس الحب أستاراً تبعده عن الحقيقة. . . ومن يعلم؟ فلعله يؤدي رسالة الشعر، ويحسن صنعاً خوفا من ألا يكون وراء الأستار شيء من الحقيقة - كما تقول الأساطير -
نعم أنت كنت تقول في الماضي:
أما يرى غايتي في الشعر واحدة
…
وإن تباين أوزان وأوزان
فما أحوك على الأيام قافية
…
ألاّ وفيها على حُبِّيه عنوان
وما قيمة الشعر إذا لم تردده شفتان مرتجفتان أو. . . . لم تله به قدمان صغيرتان
ولكنني أخشى. . . وهنا أضع يدي على قلبي. . . . أخشى أن يكون كلامك عن الحب والمرأة نتيجة استبدادٍ بك. . . ومَّمن؟. . . من امرأة؛ فندِينك بقولك:
وإنني عاشق كتوم
…
يبطن غير الذي يقول
(القدس)
أبو سلمى
التاريخ في سير أبطاله
2 -
ميرابو
ميرابو. . . تلك الأعجوبة!
جوته
للأستاذ محمود الخفيف
وكان الملك قد أخذ بنصيحة نكر حين اشتدت الضائقة المالية فأجاب الشعب إلى دعوة مجلس طبقات الأمة إلى الاجتماع وهو مجلس قديم شهدت فرنسا آخر اجتماع له عام 1614، وقد حدد لاجتماعه اليوم الخامس من شهر مايو سنة 1789، وكان الغرض من اجتماعه، مشاورة نواب البلاد في مخرج من الأزمة المالية
ولكن هل كانت الضائقة المالية كل ما يشكو منه الشعب؟ كلا؛ إن فرنسا إذا أردنا الواقع كانت على أبواب عصر جديد، بل إن تاريخ العالم كان في مستهل فصل جديد! فما كانت الثورة مهما اختلفت مظاهرها إلا أوبة الشعب من غمر القرون أو من مجاهل النسيان، كانت حركة لا محيص عنها، حركة أدى إليها تطور الزمن على وجه معين بحيث لم تكن الأيام لتلد غيرها
هاهو ذا الأفق الباسم تنشق جوانبه عن جبين الصباح بعد ليل طال واشتدت حلكته، ولكن ما تلك الخطوط الحمراء التي يراها ميرابو ويوجس في نفسه خيفة منها؟! إنه يرى فيها نذير الشر والفزع الأكبر. ياله من رجل عجيب! إنه يتشاءم والقوم متفائلون؛ إنه يرى ما لا يرون، ولكن لينتظر ما تأتي به الأيام!
الشعب مبتهج يبسم له الأمل ابتسام الربيع من حوله، أنظر إليه غداة افتتاح المجلس في طريق نوابه تكاد تنشق حناجره وتدمى أكفه من كثرة ما يهتف وما يصفق. يا لله! ما له يطرق في وجوم كلما مر به أحد السادة من النبلاء أو القساوسة؟ هل آن لتلك الجموع أن تفرض سلطانها وتجير القوم على الاعتراف بها؟ من ذلك الرجل العابس المهيب الذي تتناقل الألسن اسمه وتتدافع الجموع لرؤيته؟ أنه بعينه نائب اكس الكنت ميرابو!
اتخذ ميرابو كرسيه وسط العامة، وقد تهامس الأشراف عند دخوله المجلس وتخاطبوا بالأحداق، على أنه كان يزدريهم أكثر مما يزدرونه، ويمقت في أشخاصهم العهد القديم
ونظمه وتقاليده
ودخل الملك القاعة في حاشيته التي تجلى فيها ترفع الملكية واستكبارها، وألقى على النواب خطابا ارتاحوا إلى ما جاء فيه من أماني، وهتفوا لما تضمنه من عبارات العطف، ثم قام نكر فأكدَّ رؤوس سامعيه بخطاب طويل نصفه أرقام!
تبع الأشراف والقساوسة الملك إلى خارج القاعة وبقى العامة في أماكنهم وبينهم ميرابو يشيع الملك ووزيره بنظرات المقت والسخط. ولقد رأى النواب في ملامح وجهه إمارات الغضب، وفسرها الأشراف بأنها مظاهر الحقد الدفين والغل الشخصي
ولكن ميرابو أصبح اليوم غيره بالأمس فلقد ودع حياة السفه والتمرد، وأصبح السياسي المتزن المهيب الجانب، الذي يتوقف مصير الحوادث على ما يصدر عنه من قول أو فعل
إنه لا يطمئن إلى المستقبل ويرى الأمور تنذر بالكارثة ما لم تعالج بالحكمة. ولقد درس نفسية الشعب خارج المجلس وعرف أن له أطماعا لابد من تحقيقها. لم يكن الناس ليرضوا أن تؤخذ الأصوات في المجلس باعتبار الطبقة فيفوز الممتازون، ولا يكون لمساواة العامة إياهم في العدد أية قيمة. وكان الشعب ونواب الشعب يلحون في أن يكون التصويت باعتبار الرؤوس. كذلك كان الشعب يطمع أن يكون للمجلس مكان مستديم في النظام الحكومي، ويكون لما يصدر من آراء أثر في سياسة الدولة. وكان ميرابو يسعى جهده في أن تعلن الحكومة موافقتها على ذلك في أولى جلساته خشية أن ترغم على ذلك فيما بعد فيؤثر ذلك أسوأ الأثر في مجرى الحوادث، ولكن الحكومة أغفلت الأمر، فكان محقاً في حنقه وتبرمه
كان يفطن ميرابو أكثر مما يفطن غيره إلى انبعاث الشعب واحتضار الملكية. وكان يرى الملكية وقد أثقلتها تقاليد الماضي تكاد تسقط من الإعياء، حتى لقد قيل عن لويس السادس عشر إنه ورث عن آبائه الثورة والعرش معاً! ولقد كان هذا الملك المسكين يهرول تارة ليدرك الزمن فتنقطع به الأسباب، ثم يكلف الأيام ضد طباعها حيناً فتسخر منه الأيام! وكان ميرابو يرى بنافذ بصره أن سلامة الملكية وسلامة الوطن كلتاهما تتوقف على التوفيق بين الملك والشعب، ولا سبيل لنجاح الثورة غير هذا السبيل
أرسل إلى نكر يقول له: (صدقني أيها الوزير أن مصير الملكية في فرنسا متوقف على ما
سيكون من أمر هذا المجلس، وخير لك ولهذا البلد المسكين أن تواجه المجلس بما يحقق أماني الشعب)
ولقد أعد ملتمسا ليتقدم به إلى الملك في الجلسة الأولى؛ ويقال إن الملك بادر إلى الخروج عقب انتهاء الاجتماع لما علم من عزم ميرابو. ومما جاء في هذا الملتمس: (أضف إلى مآثرك أيها الأمير المعظم إجابة الشعب إلى رغبته يبق الصولجان في يدك، فإنني أخشى إن رفضت أن يشهر في وجهك.)
يا لهذا الرجل من بطل! كيف ينقلب سلوكه هذا الانقلاب المدهش؟ إن المرء ليلمس أهم ناحية من نواحي عظمته في ذلك التحول، وما عرف التاريخ قبله رجلا درج من مثل ماضيه فوصل إلى مثل ما أتيح له من مجد وعظمة وكمال سياسي
كان منطق الحوادث يقضي بأن يرى ميرابو في الثورة فرصة لشهواته ومرتعاً لمآربه، فيصبح في غمرتها الرجل الأحمق الذي يهدم ولا يعرف غير الهدم، ويبطش ولا يستطيع أن ينهض لغير البطش. ولكنه ما عرف الهدم، وما كان رائده سوى البناء كأحسن ما يكون البناء! وذلك لعمري من عجائب الأيام! ولكنه سر العبقرية
أجل! لقد جد الزمان فأثار جلال الموقف كامن مواهبه، ولامس موضع العظمة من قلبه، ورأى في الثورة حادثاً نبه نفسه إلى حقيقتها، أو قل إنه وجدها كفؤا له كما وجد نفسه كفؤا لها
وسنرى أن جهاده منذ اليوم سيكون شاقاً مريراً، فإن من يعنيهم أمر الوطن من الوزراء ورجال الدولة من أمره في ريبة، لا يأمنون أن يتخذ من حرج الأمور وسيلة إلى أغراضه الخاصة كما كانوا يزعمون، بله ما كانوا يضمرونه له من حقد وما كانوا يكنونه من حسد، حتى المستنيرين من معارفه ومقدري نبوغه لم يكونوا أقل من هؤلاء حذرا منه، وكانوا فوق ذلك يترفعون في صلف عن مدارسة رجل له مثل ذلك الماضي! مما كان يملأ قلبه غيضاً. والملك؟ أيستطيع أن يصل إليه وله من بطانته أسوأ حجاب؟
وهو لا يثق في نواب العامة، ويخاف أن يؤدي نزقهم وجهلهم إلى الكارثة. قال يصفهم ذات يوم: (أكثر من خمسمائة عضو لا يعرف الرجل منهم جاره! أتوا من جميع أنحاء المملكة، لا يجمعهم نظام، ولا يلم شملهم زعيم، ولن تجد بينهم ذا نفوذ، أو تتبين فيهم من يأخذ نفسه
بأي ميثاق من مواثيق الطاعة، وكلهم ميال إلى أن يُصغي إليه قبل أن يصغي هو إلى أحد. . .)
أرأيت موقفاً أشد من هذا الموقف حرجاً؟ ولكن هل كان حرج الموقف يعمي بصيرته عن سبيل الرشاد، أو يدفع السأم إلى قلبه؟ كلا فما خلق مثله إلا للشدائد، وما يظهر جلده أكثر ما يظهر إلا في الملمات. وهل كانت تستطيع السفينة أن لم تسير بلا ربان في مثل تلك الأنواء؟ ومَن ربانها إن لم يكن هو ربانها؟ لم تمض أيام حتى صار بين نواب العامة المقدم عليهم، يستقيمون على ما يرسم من طريقة وإن لم يعلنوا زعامته لهم، ويتجهون بأنظارهم إليه إن سدت في وجوههم المسالك وإن لم يظهروا له ما هو جدير به من عطف ومحبة، ولكنه كأخيل، لم يكن ليصده عن مصلحة وطنه ما ينال شخصه من إهانة، وفي ذلك من سر عظمة الرجل ما هو جدير بالإعجاب
وكان إلى جانبه الأب سيس، ينقل إلى نواب العامة ما يوحيه إليه، وكان هذا الرجل قد آثر صفهم على صفوف الأشراف كما فعل ميرابو من قبل؛ وكان لشخصه في قلوبهم مكانة قوامها الحب، إن لم يكن قوامها الإعجاب
أخذ الأشراف ورجال الدين يجتمعون كل طائفة في حجرتها، وعولوا على أن يكون إقرار المسائل باعتبار الطبقة؛ ولو طاوعهم العامة إلى ذلك لكان للثورة اليوم سيرة غير سيرتها. ولكن أنى للعامة أن يقروا على أنفسهم عملا يطوي بهم القرون إلى الوراء، وهم يتعجلون الزمن، ويودون لو يسبقونه إلى تحقيق الأمل الوليد؟ على أنهم ما كانوا يريدون بملكهم الطيب شرا حتى ذلك اليوم، ولكن شطط رجال البلاط وسوء تدبيرهم سيجعل من هذا المجلس هيئة تقلب نظام الحكم في فرنسا، بل وتدفع تاريخ البشر إلى طريق جديد
وما كان ميرابو ليرضى أن يطيع أصحاب الامتياز إلى غرضهم الشائن وإن كان يخشى أن يؤدي إحراج العامة وإعناتهم إلى التذمر فالهجوم، فيتدخل الملك وهو لا يريد أن يتدخل الملك إلا بما يرضي الشعب؛ هو لا يحب أن تبغي إحدى القوتين على الأخرى، ولذلك فهو يسعى ويواصل السعي، ويدعو ويكرر الدعوى إلى الأناة، حتى يصيخ له من صفوف العامة رجل رشيد لم يكن سوى سيس، وسرعان ما يأخذ العامة بنصيحته على لسان سيس، فيقفون من الأشراف موقفاً حكيما هو انتهاج السياسة السلبية، فيأبون أن ينتخبوا لهم هيئة
داخلية تشعر بقبول انعزال مجلسهم، كما يرفضون أن يتسلموا الرسائل الموجهة إليهم باسم رجال الطبقة الثالثة
كان يرجو ميرابو أن يخرج العامة من المأزق دون شحناء ولا اعتداء، ولكن العامة انتظروا حتى ملوا الانتظار، فاقترح عليهم قرب نهاية مايو أن يرسلوا إلى رجال الدين، وقد أنس في فئة منهم العطف على العامة، يدعونهم باسم الله وباسم الإنسانية والسلام أن ينضموا إليهم
وفي اليوم العاشر من يونيو أقترح سيس إرسال دعوة نهائية إلى رجال الطبقتين يطلبون انضمامهم إلى صفوف العامة؛ وسواء قبلوا الدعوة أو لم يقبلوها يجتمع نواب العامة وحدهم للعمل باسم الشعب الفرنسي كله. وأخيراً حين رفض رجال الطبقتين دعوة العامة أعلنوا في اليوم السابع عشر من يونية قرارهم الخطير أنهم هم (الجمعية الأهلية) فخطوا بذلك أول خطوة نحو الثورة
أشفق ميرابو وقد فهم مغزى هذا القرار على الجمعية وأيقن أن الملك لابد مجيب على ذلك بضربة حاسمة، إذ ما الذي يمنعه أن يباغتهم بمرسوم يحل به المجلس كله؟ ولذلك فقد احتاط للأمر وتوقى الخطر قبل حدوثه. فتقدم إلى الجمعية باقتراح قبلته وأعلنته، ومؤداه أن نواب الأمة يقررون أن الضرائب القائمة غير شرعية، ولكنهم لا يمانعون في جمعها مادامت الجمعية منعقدة؛ وكانت هذه خطوة سديدة موفقة من جانب ميرابو
على أنه ظل يحسب للموقف حسابه. فما كان الأشراف ورجال البلاط ليقابلوا عمل الجمعية بالسكون، وكان ميرابو قد واجه ثورة النواب في نقاشهم قبل أن يطلقوا على جمعيتهم ذلك الاسم، وطلب إليهم أن يبحثوا عن اسم آخر لا يتضمن مثل ذلك التحدي، ولكنهم أعرضوا عنه فلم يجبن عن أن يعلن فيهم (أن نفوذ الملك وحقه في (الفيتو) لابد أن يكون أمراً أساسياً في الدستور، وبغير ذلك فانه يفضل أن يقيم بالقسطنطينية على أن يعيش في فرنسا، لأنه لا يرى أخطر من تسلط ستمائة رجل على شؤون الدولة)
ولقد ذاعت الإشاعات يومئذ أن ميرابو أخذ من الملكة مبلغاً طائلا، وهكذا يأبى شؤم طالعه إلا أن يلازمه فيرمى بالخيانة منذ ذلك التاريخ الباكر
اعتزم الملك نقض قرارات الجمعية، وعول على الذهاب بنفسه إليها، وحدد لذلك اليوم
الثالث والعشرين من يونيه، وفي صباح اليوم العشرين من ذلك الشهر حين لم يستطع نواب الشعب الاجتماع في دار الجمعية بحجة إعدادها لدخول الملك فقد توجهوا إلى ملعب التنس المجاور لها؛ وهناك وقد أخذ الحماس من قلوبهم كل مأخذ أقسموا أنهم لن ينفضواحتى يضعوا للأمة دستوراً، فكان هذا أحد أيام فرنسا المشهورة
ما للسفينة عجلى تسخر بالأنواء وتستخف بما يحيط بها من موج كالجبال؟ أدر الدفة يا ربانها ليس لها غيرك يوجهها إلى شاطئ السلامة!
دخل الملك في اليوم الموعود، وقد تكلف أكثر ما يطيق من الجد والحزم، وأعلن نقض قرارات 17 يونيه، وأمر أن تجلس كل طبقة على انفرد ليكون صدور الأصوات بالمجلس لا بالرؤوس، وعلى الجميع أن يصدعوا بما يؤمرون وإلا فانه (سيعمل ما تقتضيه مصلحة البلاد معتبراً نفسه نائبها الوحيد)
طرب الأشراف ومن يشايعونهم من رجال الدين لذلك الوعيد، وقاموا إلى مجلسهم بعد مبارحة الملك القاعة، وبقى نواب العامة في مكانهم جامدين. أخذتهم الحيرة فلا يدرون ماذا يفعلون، واستولى الرعب على أفئدتهم، فعلى وجوههم صفرة كئيبة، وفي عيونهم دهشة ومسكنة، ولكن ميرابو لم يخلق الفزع لمثله، فوثب من مكانه وفي عينيه الواسعتين نظرات الليث، وراح يزأر فيهم مذكراً إياهم بقسمهم. فأعاد إلى قلوبهم الحمية، ثم دار بعينيه فإذا كبير الأمناء يسأل النواب في صلف:(ألم يسمعوا أمر الملك؟) وفي تلك اللحظة الرهيبة التي ولدت للعالم عصراً جديداً يأبى القدر إلا أن يجعل من ميرابو ترجمانه، فيصرخ في رسول الملك قائلاً:(نعم أيها السيد! سمعنا ما أوعز إلى الملك بإلقائه علينا، ولست أنت، ولم يكن لك من مركز أو حق يبيح لك الكلام في هذا المجلس. نعم لست أنت الذي يذكرنا به. إذهب فقل لمرسيلك إننا هنا بإرادة الشعب، فلن نبرح مكاننا إلا على أسنة الحراب)
وتصايح النواب قائلين: (هذه إرادة الشعب). (الشعب لا يتلقى أوامر من أحد)، وقام سيس يذكرهم أنهم اليوم ما كانوا بالأمس؛ ولم يخن ميرابو حضور ذهنه وسط تلك الحماسة، فأعلنت الجمعية اقتراحه بأن رجالها منذ اليوم في حصانة، وأن التعدي عليهم جريمة كبرى!
أرأيت كيف هيأت بسالة ذلك الرجل له موقفاً أصبح فيه بحيث يتوقف مصير الحوادث
على ما يفعل أو يقول؟ وسرعان ما تجاوبت أنحاء فرنسا أنباء ذلك الرد التاريخي، وجرى اسم ميرابو على كل لسان في باريس وطبع شخصه في كل قلب
من ذلك اليوم أصبح ميرابو زعيم الشعب غير مدافع، وأن تم له ذلك فعلا من قبل، وإذا كانت الحوادث تخلق الرجال كما يقولون، فمن الرجال من يخلق التاريخ. وما تاريخ البشرية إذا أردت اليقين إلا تاريخ عظمائها. ولقد كان ميرابو من هؤلاء النفر الذين يربون جيلا ليلدوا غيره! وإني لأجرؤ فأزعم أنه عندي أول زعيم شعبي بالمعنى الحديث. إذ كان التاريخ يومئذ ينتقل من فصل إلى فصل كما رأينا
وكان انتقاله هذه المرة على أساس جديد، على أساس شعور الفرد بوجوده في شكل ديمقراطي لم ير العالم نظيره منذ ديموقراطية أثينا. أجل، لقد جاءت الأنباء من وراء المحيط بانتصار الحرية على يد بطل من أهم أبطالها هو واشنطن؛ ولكن الفرق بين الحركتين كالفرق بين الرجلين؛ فتلك حركة سياسية في شعب يخوض غمار الحرب إلى حقه الذي اغتصبه الأجانب من أعدائه، وهذه حركة اجتماعية كانت أول أمرها سلمية في شعب يستخلص حقه من ساداته وكبرائه؛ وذلك رجل يشهر السيف ويصل إلى غرضه بالحديد والدم، وهذا رجل لا يعرف إلا القلم ولا يرى سوى المنبر طريقاً إلى غرضه!
(البقية في العدد القادم)
الخفيف
تلخيص كتاب: الحاكمون بأمرهم
تأليف جاك بانفيل
بمناسبة وفاته في 10 فبراير سنة 1936
للأستاذ عبد الحليم الجندي المحامي
تتمة
طاف بنا بانفيل في النصف الأول من كتابه بطغاة التاريخ ليقدم إلينا طغاة العصر الحاضر؛ فنحن الآن في روسيا القيصرية حيث الشعب يجزي قياصرته الإرهاق الفظيع بالإرهاب الأفظع؛ وإن تعجب فاعجب لهذا القدر الساخر الذي جعل من أكبر القياصر حبّا للشعب أكبر صرعى الإرهاب وهو القيصر (نقولا الثاني). . نشطت الشرطة في أعقاب ذلك المصرع ولكن نشاطها كان متجها نحو (الأنفار) لا نحو القادة، فنجا من طغيانها دعاة جيهنميو (كالفالديمير أوليانوف) أولئك الذين جعلوا شعارهم (كل شيء، أو لا شيء)
نفي الفتى - بل الأستاذ - فالدمير سنتين في سيبريا، وفي سنة 1896 ألف جمعية الكفاح، وفي سنة 1903 افتتح مؤتمر بروكسل للعمال، وعقب ذلك أنشأ في لندرا حزب العمال الروس الديمقراطي
وفي سنة 1905 اندلع لهيب الحرب بين اليابان وروسيا فكانت فرصة نادرة، فمشى إلى قصر الشتاء مائتا ألفٍ من العمال يحدوهم قسيس ليقدموا إلى سدة القصر ملتمساتٍ متواضعة، فقابلتهم المدفعية بالنار على عتباته، وكأن أركان الإمبراطورية الأربعة كانت في الانتظار، إذ شجرت القلاقل في كل ناحية وذُبح الغراندوق سرج، وساد الإضراب في أرمينيا وبولنيا وسبستبول؛ وعبر فالدمير - لينين - الحدود ليختبئ في موسكو، وليؤلف جيش الثورة الذي قاوم الحكومة تسعة أيام ثم انهزم، ففر ليتين وراء الحدود ليكون الحزب البلشفي في سنة 1912 وليرقب الفرصة المتاحة
ومضت سنوات سبع كان على لينين في منفاه أو في مهربه أن يدبِّر فيها للثورة تدبير
الأستاذ الخبير، فلقد كان يقول:(إن الثورة فن)
وفي سنة 1914 عندما ارتفع بخار الدماء في سماء الدنيا هدأت أعصاب لينين! وأخذ يتحرك، فأهاب بالعمال في العالم أجمع أن يُلقوا السلاح ليتخلصوا من الطواغيت إلى الأبد، وليجعلوا من رأس المال أسطورة تُحكى للناس، أُزيلت من عالم الواقع الحاضر، وجاءت الظروف تضع الأحجار في بنيان هذا الطاغية - والمصادفة دائما في خدمة الدكتاتوريات - إذ سرت الرعدة في كيان الإمبراطورية الذي شاخ؛ فالحرب بدت مجزرة فاشلة، والفيالق أخذت تتذمر فقامت قيامة العمال في 8 مارس سنة 1917، وفي 100 ساعة فقط هوى عن العرش آخر أبناء رومانوف
وتطلعت الثورة تريد رأس حكيم يحركها. . وتطلع لينين إلى الألمان فنقلوه إلى روسيا في قطار مسلح في حاشية من ثلاثين هداماً من زملائه، ووصل الركب إلى روسيا، وأخذ لينين يناضل الحكومة المؤقتة لتكف عن مواصلة القتال في الحرب الكبرى، فوجهت إليه تهمة الخيانة العظمى وأوشكت أن تظفر به، ففر من جديد ليعود بعد شهور ومعه (الفنان الأكبر) فنان الثورات (تروتسكي)
وضع الفنان الأكبر خطةً هي آية الفن الثوري الحديث؛ فعمد إلى المصالح الميكانيكية، وهي التلغراف والتلفون والبريد والكهرباء والسكة الحديد؛ وعهد في الاستيلاء عليها إلى فئة قليلة من المحاربين في زي عمال، وأمّر عليهم طائفةً من المهندسين المهرة، فلم يمض يومان حتى كانت هذه السواعد الفتية قد وصلت إلى نتائج باهرة برغم قلة عددها، إذ كان اتحاد الغاية مع تشعب الأهداف الأولية سبباً في عجز الجيش وضعف حيلة الحكومة عن مواجهة المخربين، وهكذا استطاع (تروتسكي) أن يعزل العاصمة عن الإمبراطورية، ثم استطاع أن يصدر الأوامر إلى أنحاء الأرض النائية؛ وبعد مناورات هندسية أخرى سار بفيلق صغير صوب القصر وسلط عليه شواظاً من جهنم ترسله مدافع الطراد (أوردرا) فتفتحت الأبواب للطارق الفظيع ودعا إليه (لينين)!. . واستسلمت روسيا إلى الشيطان، ودان له النواب في مجلس (الدوما)
وابتدأ لينين يحكم باسم الحق والعمال، ففرغ من الألمان بالمعاهدة، وتفرغ إلى روسيا بالحديد والنار ليفرض عليها أفظع طغيان يرتعد من هوله التاريخ، ويتضاءل أمامه
(نيرون) وألف نيرون!
ثم عجزت نظمه جميعاً وقامت جورجيا تطلب استقلالها فسار إليها (تروتسكي) في جحفل أغبر ليمسح حركتها من الوجود؛ وبدا لعين الطاغية الأعظم فشل مشاريعه فأخذ يقول: (لقد هدمنا أكثر مما نستطيع بناءه) وأخير أصابه الشلل وشب إلى جانبيه طاغية جديد هو ستالين
ومات لينين وخلفه ستالين، فاستهل حكمه البلشفي أبرع استهلال، إذ طوح بتروتسكي إلى أقصى الأرض ليُنبذ من دولةٍ إلى دولة كأنه الطاعون؛ وليكتب في الصحف كل يوم ليعيش. . (وهكذا - مثل ساتيرن - تأكل الثورات بنيها) واخترع ستالين نظام السنين الخمس، وطنطنت له الإذاعات والإعلانات في مشارق الأرض ومغاربها، ثم خفت الصوت وسكنت العاصفة لما مُني به المشروع من إخفاق
أما الشعب فما يزال جائعاً كما كان قبل الثورة؛ وأما الأمية فما تزال - على الرغم من الإحصاءات الرسمية - متفشية؛ وأما الإنتاج والرغبة فيه، وأما الرواج والحضارة، وأما الشعراء المستقلون والكتاب، فكل أولئك ومعهم خمسة ملايين من الناس نفوا من روسيا في الجزر الروسية أو في سائر أرجاء الكوكب المعمور
ولابد أن يرتفع هذا الكابوس عن روسيا إذا مات طاغيتها الجاثم على صدرها فهو نظام لم يبدأ من الشعب ولن ينتهي إليه
بعد ذلك يبهرك (بانفيل) بوثبة بديعة من وثبات السحر البلاغي تخلبك طلاوتها لأنها تنقلك كسائح في الجنة إلى قطر إسلامي شقيق فإذا بك أمام يراعةٍ منتشيةٍ كلها إعجاب، وإذا بك بين يدي (أتاتورك) العظيم. .
يقدم المؤلف تركيا الجديدة بكلمة لأحد مندوبيها في مؤتمر لوزان موجهة إلى أعضاء المؤتمر: (لماذا تريدون معاملتنا كالمتوحشين؟ إننا جميعاً في هذا الوفد نحمل شهادة الدكتوراه في الحقوق من جامعة باريس!) وأنت تكاد تلمس من العبارة أية جماعة تأخذ بيد مصطفى كمال وتعاونه، وأية أفكار جديدة تنشرها هذه القوى الناهضة، دون قعقعة أو جلبة على طرائق موسوليني وهتلر وستالين، ففي مصطفى كمال كثير جداً من (واشنطن) وفيه أيضاً من (جنكيز خان)
ولد في سنة 1880 وتعلم بالمدارس الحديثة وتلقى العلوم الحربية وصار (كابتن) في سنة 1904، وفي سنة 1912 اتهم في مؤامرة على السلطان، ثم عمل في جيش القوقاز وفي الجزيرة أيام الحرب الكبرى
وعندما هادنت تركيا الحلفاء وأراد الباب العالي أن يبيع الأتراك لإنجلترا رفض كمال تسريح قواته، ووقف في وجه الحكومة ونازل اليونان فقذف بهم وبالإنجليز من ورائهم إلى أعماق البحر الأبيض المتوسط؛ ثم سحق الثورة الكردية وعقد معاهدة لوزان، وأنشأ المجلس الوطني الكبير، وألغى الخلافة، وصار الغازي رئيساً للجمهورية
ونفح في الصور ليبعث الأتراك من جديد!
وألغى الطربوش لتُلبس القبعة؛ وطاف مصطفى كمال في البلاد يهيب بها أن تستجيب لندائه؛ ورُفع الحجاب ووضع القانون المدني، وصار الزواج مدنياً بعد أن كان دينياً، وأدخلت الحروف اللاتينية في الأبجدية التركية
وهكذا جعل الغازي من أمته التي كانت مضرب المثل في الجمود، شعباً يستسيغ الإصلاحات الطافرة، ولو جاءته في سرعِة الأفْلام. .!!
وبعد أن قضى على الحاضر المضارع التفت إلى الماضي ليستخدم العلم والتاريخ في مجد أمته؛ وليس فخرها في (عثمانيتها) بل فخرها في أنها (تركية)، ولم يعدم البحاث والمنقبون عن الآثار في الأناضول معالم ومشاهد وآثاراً تثبت قدم الأتراك وآبائهم (الحيتين)؛ ثم اتجه الرجل العظيم إلى تطهير اللغة التركية من الغريب، وعمل رجاله في ذلك أعمالا جبارة، لكأنهم يخلقون الناس معهم من تاريخ نهضتهم فحسب! فمنذ عامين فقط شيعت الجموع شاعراً قومياً، ومشى الشباب وراء جثمانه وهم لا يفهمون شعره كما كان يجب، لأن لغته أصبحت لغةً قديمة. . .!! ولذلك فقد نفذت المعاجم من الجديدة أول ما عرضت في الأسواق
يُعطيك هذا العمل الأخير خير فكرة عن قوة اتجاه هذا الدكتاتور نحو الإنشاء؛ حقاً إن التركي يلقي هذه الهزات التي يهتز لها كل كيانه بعلامات استفهام وعلامات تعجب، لكنها ستجره معها يوماً على كل حال
يقولون إنه يعيش كأبطال الأساطير بين اللهو والقصف، ولربما بدا وجهه للناس بعد عشرين عاماً كوجه سلطان من السلاطين، لكن الذي لا مراه فيه أن قدم الدليل الناهض
على مقدار ما يحقق الرجل القادر للشعب القادر من رغبات الانتصار وفي التقدم
ثم يقول المؤلف - فهذه غايته من مؤلفه - (وإنا لا نحسب أن الشعب الفرنسي يُسيغ هذه الطرائق فالثورة الكبرى نفسها لم تستطع أن تقسره على أن يقبل حتى الأسماء الجديدة لشهور السنة! مع ما في هذه الأسماء من الملاءمة والاتساق!!)
والآن إلى قيصر!
لا قيصر الكرنفال، ولكن عبقرية أمةٍ زاخرة بالكفايات حافلةٍ بالمواهب ما أسرعها في الاستجابة إلى حاجات الساعة وضرورات السياسة تستعرض الماضي من مفاخرها لترفع على القوى منها عمد المستقبل المجيد
وليفهم القارئ الفاشستية يجب أن يرتد ببصره إلى سنة 1915 عندما ساقت إيطاليا جيوشها إلى الساحة إثر نزاع بين المحايدين من أتباع (جبوليتي) والمتدخلين من أشياع (دانونزيو)، فلما انعقد لواء الظفر للحلفاء حسب الساسة من رجال المدرسة القديمة أن الأمور ستجري رتيبة، وستعود سيرتها الأولى دون أن يحسبوا للتيارات الجديدة حسابا
نشأ موسوليني لأبٍ يطرق الحديد، علمه شديد القوى؛ ثم صار معلماً، ولكن ثوريا، فطردته ثوريته من وظيفته وهاجر إلى سويسرا فلم تطب لها ضيافته، ثم عاد إلى إيطاليا ليؤدي الخدمة العسكرية، ثم ارتد يضرب في الآفاق من جديد ليتتلمذ على (سيزار باتستي) في النمسا، وهنالك عثر على الكنز المفقود؛ فلقد كان (باتستي) فيلسوفا وداعيةً وطنيا من أكبر الغلاة حتى امتلأ ذهن تلميذه بجمهرة من أفكاره الوطنية امتزجت باشتراكيته فصيرته رجلاً من طراز خاص. ولما ولاه أستاذه تحرير جريدة (بوبولو) لم يكن يكتب، ولكنه كان يحارب، ولم تكن جمله عبارات وإنما كلماتٍ من لحم ودمٍ؛ لذلك الزمه البوليس بترك النمسا فتركها إلى سويسرا لينشئ الجمعيات ويدبر ثورةً للعمال الطليان
وفي سنة 1914 حسب الفرصة أتيحت له عندما قتل ثلاثة من العمال، وانتشر الإضراب وأعقبته القلاقل، ولكن الفشل كان من نصيبه، حتى إذا أعلنت الحرب الكبرى وانقسم الرأي العام جرد موسوليني قلمه ليحارب، ودخلت إيطاليا الحرب. وفي 22 مايو سنة 1915 يوم تجريد الحملة عبر موسوليني عن رسالته في كلمة بليغة قال: (. . لقد تحملنا من الخسائر ما تحملنا في السنوات الفارطة. وها قد دنت ساعة الخلاص: فلتفتتح إيطاليا
لنفسها عهداً جديداً في العالم، ولتنل قسطها من السيادة في الأرض)
واشترك موسوليني في الحرب ورجع بأربع وعشرين رصاصة في جسده؛ وفي سنة 1917 ألقى الطليان سلاحهم وعادت الجيوش مهزومة ساخطة، وضربت الأزمة الاقتصادية بجرانها على كل الطبقات، ولاحت في الأفق معالم الشيوعية الحمراء، وشرعت موسكو تبعث رسلها وأموالها إلى إيطاليا، وابتدأت القلاقل والمجازر في كل المدن الإيطالية على مسمع من الحكومة
ولما وجد موسوليني أن رجال الحكومة خروا صما وعمياناً أمام الطوفان، هب ليلقاه بجسمه وبصحيفته، وبحزب جديد؛ فلم تمض شهور ستة حتى كان له من الأتباع خمسة وعشرون ألفا
وفي 3 ديسمبر سنة 1919 أعلن الشيوعيون الإضراب العام وفرض القوم سلطانهم في كل مكان بمذابح مروعة، يقشعر من هولها الإنسان، والحكومة لا تتحرك، وكأن الأقاليم لا تُسمع روما صرخاتها الموجعة! ثم أخذ العمال المهندسين رهائن في 29 أغسطس سنة 1920، واحتلوا المعامل، وأطلقوا الرصاص على الجيش ونهبوا مخازن السلاح. . . وهوت العملة، ولم يبق للنقد سعر، وتساءل الناس:(إلى أي طريق نحن مسوقون؟)
كل ذلك والحكومة كأنها ليست في روما ولا في أي مكان.
عندئذ نظم موسوليني رجاله ليحاربوا الثوار حرب عصابات حيثما ثقفوهم، فأعادوا الأمن، وطمأنوا الناس، وخفق باسمهم كل فؤاد مروع؛ وأخذ ينضوي تحت لوائه الأب الهلوع، والأم المثكال. وفي سنة 1921 دخل الانتخابات وخرج منها ظافراً بخمسة وثلاثين نائباً، كان يتزعمهم في البرلمان كأمهر ما يتزعم السياسي العتيد؛ ثم عقد مع الاشتراكيين (هدنة!) ليدبر لهم مقتلاً. . . وفي أكتوبر عقد المؤتمر الفاشستي من 2200 شعبة تمثل 310 آلاف، وتلا الرجل برنامجه:(السلام في الداخل والقوة في الخارج) فصفقت له الأمة بجموعها
وفي سنة 1922 كانت الحكومة تتساقط كقصور الورق، وعجز الملك عن تأليف وزارات استقرار، وكان الرعب الشيوعي يتفاقم، فلم يتردد الفاشزم عن احتلال مدائن بأسرها لتطهيرها من الطاعون الأحمر؛ وأعلن الشيوعيون الإضراب؛ وأعلن موسوليني تجنيد
رجاله ليعملوا بدلاً من المضربين، وأنظر الحكومة ثمانية أيام على البغي الشيوعي، وإلا فهو حال محلها؛ وختم نداءه بصيحة داوية:(يا رجال الفاشست. . . إن إيطاليا لنا)
وفي ثمانية أيام عاد دولاب الأعمال إلى الانتظام، فكتب موسوليني إلى رئيس الحكومة يقول:(إن الأمة تعبت من هؤلاء الحكام الذين يترددون بين الدناءة والإهمال) فأجابه بدعوته إلى الاضطلاع معه بأعباء الحكم، فرفض إلا أن يعطى هو الوزارات الهامة؛ وختم رفضه قائلاً:(إن لديه من القوة ما يكفي لينال دست الأحكام) وأعلن الزحف على روما. . . وزحف الفتيان على روما فعلاً؛ وطلب الوزير من الملك أن يعلن حالة الحصار، فرفض جلالته، لأنه كان يعلم ما هي الفاشزم، ولأنه عهد بالوزارة في الغد إلى موسوليني
كان بعد ذلك ما كان مما يعلمه الكافة من بعث إيطاليا كرةً أخرى لتضارع أكبر دولات التاريخ. وبعد ثلاثة عشر عاما من جهود فرق البشر في كل مرافق الدولة، غدت إيطاليا أمة تعرف الدنيا كلها مقدارها
ويختتم المؤلف بتحية الدكتاتور البارع داعياً له الله أن يقيه رد الفعل الذي يصيب الكثيرين من رجال الثورات. ثم يقول ناصحاً أمته على عادته في ختام حديث كل جبار - (فليحذر المقلدون من الفرنسيين، ولا يحسبوا أن هذه الأساليب مأمونة عواقبها في فرنسا؛ والإنتاج الطائفي الذي يقوم عليه نظام موسوليني لا يمكن أن يطيقه فرنسي واحد؛ وقبل أن ننسخ صورة طبق الأصل يجب أن نفهم ماذا ننسخ)
وهذه شبه جزيرة الأندلس: نشأت فيها دكتاتورية مخفقة على يد بريمو ديريفرا في أسبانيا، لأنها لم تخلق غذاء للرأي العام، ولأن رجلها لم تكن له فكرة محدودة يتبعها، كما نشأت فيها دكتاتورية من أبدع الدكتاتوريات في البرتغال على يد الأستاذ سالازار. . . ترك الأستاذ سالازار كرسيه في الجامعة بعد أن هتف به الرأي العام لإنقاذ الجمهورية إثر رفض شروط القرض التي شرطتها عليها عصبة الأمم، فوضع الأستاذ شروطه قال:(. . . وليمنحني الشعب ثقة ليس لها حدود، وله ألا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولكن عليه الطاعة عندما آمر. . .) وهنا يُعنى المؤلف بإظهار مدى تأثير ثقافة المؤلفين الفرنسيين في الساسة المعاصرين، فينوه بآثار صديقه (شارل موراس) الذي اتهم بتدبير الاعتداء على (ليون بلوم) في جنازة المؤلف!! ثم يشرح المؤلف طريقة سالازار وهي: الدولة أولاً
والديموقراطية ثانيا، ويختتم كلامه بقوله:(يقولون عن جمهوريتنا إنها جمهورية الأساتذة. . . والحق إن البرتغال هي بلا مراء جمهورية الأساتذة) فأن نظام سالازار ما يزال يؤتي ثمراته البديعة منذ عشر سنوات
وهذا آخر رجال الحكم المطلق (أدولف هتلر) يتصدى له المؤلف في ريبة الخصم، ولكن في نزاهة الباحث، فهو خطيب خارق للعادة، وداعية في الهواء الطلق، نشأ بناء، ثم حارب في الحرب الكبرى، ولما حاول الانقلاب مع لودندورف سجن شهوراً كتب فيها كتابه (كفاحي) فغدا الكتاب إنجيلا للألمان، ولو أنه كأثر من آثار الفكر لا يساوي حبة من خردلة، ففيه كلام فارغ عن اليهودية والآرية، وفيه كلام عن استرداد النمسا - من النمسا! والأزاس واللورين من الخصم الخالد. . . فرنسا، والتيرول من إيطاليا؛ وفيه كلام عن الحركة الاشتراكية
وفي سنة 932 كانت هذه الأمة التي تخلبها التشكيلات العسكرية قد انخرطت أغلبيتها في سلك (فرق الهجوم) و (أصحاب القمص السمراء) فكان هتلر يسيطر على مصائر ألمانيا، وفي 30 يناير سنة 933 دعاه هندنبورج للوزارة فلبث غير قليل ليعمد إلى (شليشر وزوجته) فيقتلهما، وليطهر الحزب من (روهم) على طريقة (الجانجستر) في شيكاغو؛ وأخذ هتلر وجيبلز يغنيان الأناشيد للشعب الألماني. وكلما خطبوا صدحت الموسيقى فانتشى الشعب من الموسيقى ومن الأغاريد وسار وراء فرسانه
وبدأت محاولة التعقيم، وحرب الكنيسة، وتشريد اليهود في ألوان قاتمة من التعذيب، وبدأت وسائل الجهاد الداخلي والنشاط القومي توجهها كفايات ممتازة. . . أما عن الخطة الاجتماعية فأن الشك يساور الأنفس، فهناك ملايين من العاطلين محشودة في (معسكرات العمل) لن تُوَجه في الغد إلا إلى الميدان. .!
أما هتلر فما يزال في طريقه
فلتصح فرنسا
وبعد (فالدكتاتورية نظام ككل النظم) ولقد تكون خير شرعة شرعت للناس، إذا دعت إليها ظروف الساعة؛ وقد لا تكون إذا لم تدع إليها الظروف. . . وإذا كانت العمليات الجراحية بغيضة إلى نفوسنا، فلنعمل على ألا تكون فينا جراح، لأننا لن نستطيع عند وجودها أن
نتفادى مشرط الجراح
ولابد مما ليس منه بد
عبد الحليم الجندي
الحياة الأدبية في بغداد
بقلم الأستاذ عبد الوهاب الأمين
تمهيد:
ذكرني مقال الأستاذ (علي الطنطاوي) عن الحياة الأدبية في دمشق بحياتنا الأدبية في بغداد، وحبب لي العزم على دخول المضمار، وأغراني بالبحث عن التراث الأدبي الذي خلفته عصور الذهب وعصور الزوان لعاصمة الرشيد!
وليس جديداً عندي مثل هذا البحث فقد كنت أردده في فرص عديدة سابقة، ولكن صدى هذه البحوث لم يكن يبلغ الآذان؛ أما الآن فقد رغبت أن يكون ذلك في (الرسالة) الغراء، وهي المجلة المقروءة في كل قطر عربي، رغبة مني في إطلاع إخواننا في بقية الأقطار على أن سوء الحال لا يمكن أن يبلغ بالأدب ما بلغه في بغداد!
قبل عشر سنوات
لو أتيح للقارئ الكريم أن يتصفح الصحف والمجلات قبل عشر سنين لما فاته أن يلحظ فيها طيف اليقظة الأدبية وهي في مهدها، ولرأى من كثرة ما ينشر في الصحف حينذاك من الشعر على الأخص، ومن بقية الفنون الأدبية، وإن كانت بصورة بدائية، روحاً أدبياً يبشر بمستقبل لا بأس به، ولكان في وسعه أن يتجوز في تسمية تلك الحركة نهضة أدبية قد يأتي عليها زمن تصل فيه إلى النضوج فتؤتي أكلها أدباً جديداً وأدباء مبدعين!
غير أن حقيقة الواقع ليست كذلك! فها نحن أولاء الآن قد خسرنا حتى تلك الحركة البدائية البسيطة؛ وقد ماتت كل المحاولات التي كان القصد منها بعث الروح في الأدب العراقي في كل مناسبة عرض لها بعض الذين خيل إليهم أن في العراق تربة صالحة لمثل تلك المحاولات
وقد اشترك كاتب هذه السطور وساهم في إنشاء بعض الصحف ا [لأدبية فكانت تُغتضَر الواحدة منها تلو الأخرى، فلما يئس وانزوى وترك العمل أخذ بعضهم يلومه، وزاد اللوم في بعض الأحيان حتى بلغ التعنيف! كأن من واجب الأديب أن يستقل بالتضحية وحده، فإن أحجم أو قصر أو تردد فقد أجرم!
وقد كان سبب ذلك الهمود والموت الأدبي في جميع الحالات واحداً لم يتغير ولم يتأثر بتطورات الزمن. فكأن هذا النبات لم يخرج من هذه الأرض، وكأن في طبيعة كليهما ما ينفره من الآخر
فما هي علة هذه الرجعية؟
جناية السياسة والصحافة على الأدب
لست أقصد بالسياسة العمل السياسي، فان ذلك خارج عن بحثي كما أنه خارج عن صلاحيتي! وإنما أقصد أولئك الأشخاص الذين بدءوا حياتهم أدباء ثم انقلبوا سياسيين، ومقدار ما في هذا العمل من الجناية على الأدب! وبعبارة أدل: أولئك الأشخاص ذوي الأطماع السياسية الذين لم تمكنهم شخصياتهم من الخوض في غمار السياسة رأسا، فقدموا لأطماعهم بالاشتغال في الأدب واضعين تلك الغاية نصب أعينهم، فلما ظهرت أسماؤهم على الأفواه تركوا الأدب وانصرفوا إلى السياسة!
هؤلاء أساءوا إلى الأدب أولاً وإلى السياسة ثانياً. . . أساءوا إلى الأدب لأنهم لم يخصوه بنشاطهم ورغبتهم وإنما جعلوه مطية لأطماعهم، وأساءوا إلى السياسة لأنهم جعلوا فيها هذه السابقة
ومن هنا يتبين السبب في تلك النهضة التي حسبنها (أصلية) وما كانت في الحقيقة إلا وسيلة بعض المرتزقين من حملة القلم؛ ولو رجعنا إلى الأسماء التي كانت تذيل بها قصائد الصحف والمجلات قبل عشر سنين، ومقالات ذلك العهد ومحاضراته، لوجدناها من أضخم الأسماء وأعلاها في عالم الوظيفة والسياسة الآن
وقد جرى ذلك على الصحف اليومية، فإن كل صحيفة صدرت في العراق كانت في مبدأ أمرها خالصة لوجه الأدب أو تخصه بأكبر عناية، فأصبحت كل الصحف تقريباً لا تنشر القطعة الأدبية أو القطعة الشعرية إلا في الأسبوع أو الأسبوعين مرة!
وقد كانت جريدة (البلاد) - وهي كبرى جرائد العاصمة - في أول مبدئها تخص (الأدب) بثلث صفحاتها يومياً، وكانت تستكتب الأدباء والشعراء وتنشر لهم وتدعو لأدبهم، وكانت وقتذاك تصدر في ست صفحات فقط، والآن بعد أن زيدت صفحاتها إلى ثمان فقد تركت الأدب مرة واحدة، ولم تعد تنشر شيئاً منه إلا في بعض المناسبات القاهرة
وكذلك قل في الصحف الباقية اليومية منها والأسبوعية، فانك لن تجد فيها إلا ما هو أقرب إلى الأدب السياسي في بعض الأحيان منه إلى الأدب الخالص
ومما يؤلم ويستفز النفس أن الصحف في العراق لا تتكبد في نشر الأدب شيئاً مادياً، بل كل ما ينشر فيها تقريباً (أدب تبرع) وليس أدباً مأجوراً، وهو بذلك أقوم وأفيد بطبيعة الحال من ذلك الأدب الذي تستنطقه المادة، ولكن أصحاب الصحف (الأدباء) لا يكلفون أنفسهم عناء الاستكتاب، بل قد وصل الأمر بهم إلى الاقتصار على الأخبار والأمور السياسية وإهمال الناحية الأدبية بالمرة!
وهذا ما يثبط عزم الأديب العراقي، ويفت في عضده ويكسر من خياله وهمته، فهو لا يخسر التشجيع والتعضيد فقط، بل عليه أن يجتاز الصحافة اجتيازاً، وفي ذلك ما فيه من المغامرة والخسران، فإن من البديهي أن مهمة الصحافة هي التمهيد للأدب والدعوة له وتقديمه، لا الوقوف في وجهه وتثبيط عمله بطريق غير مباشر!
المؤلف والناشر
أكثر ما ينشر في بغداد بل كله كتب مدرسية غير مستكملة حتى الشروط المطلوبة في مثل هذه الكتب، وأكثرها مترجم ومقتطع من الكتب الغربية، وهي تبدل حسب مناهج التعليم كل سنة، وفي بعض الأحيان في أقل من السنة! ولو استثنينا بضعة كراريس في المسجلات الأدبية كالسهام المتقابلة، وبضعة أقاصيص ابتدائية للأستاذ محمود أحمد، كمصير الضعفاء وما إليها، فلن نجد كتاباً أدبياً نشر في السنين الأخيرة غير لب الألباب للسهروردي، والمجمل في الأدب العربي لمحمد بهجة الأثري، وتاريخ العراق بين احتلالين لعباس العزاوي!
هذا كل ما هنالك!
وفي هذا كل معاني الفقر! وإنه ليجرح عزة هذه الأمة وكرامتها أن تقفر هذا الإقفار من الأدب الذي هو قوام الحياة، وإنه لأقطع دليل على أن هذه الخلائق لم تستوف ضرورات الحياة، ولم تصل بعد إلى إدراك معانيها وتشوفها، وأنهم - بأدبهم - يعيشون كَلاَّ على غيرهم!
فليس هناك إذن لا (مؤلف) ولا (ناشر)، وإن وجد أحدهما فليس بينه وبين الثاني تفاهم،
وإن وجد كلاهما فانهما يكونان وقتئذ أقرب إلى المرابين منهما إلى المشتغلين بالمعنويات والخدمة العامة
والمطبعة العراقية فقيرة إلى حد مزر، فهي لا تزال على نمط المطابع قبل عشربن سنة؛ وهناك جريدة يومية كانت تطبع بمطبعة تدار باليد إلى زمن قريب؛ وليس هناك من نوع اللينو تايب غير واحدة في مطبعة الحكومة! وبالطبع ليس هناك (روتغراف) أو شبهه! ومن هنا نعرف سبب إقبال القارئ العراقي على الجرائد المصرية المصورة، إذ ليس في العراق جريدة أو مجلة مصورة!
القارئ
يتذمر أصحاب الصحف من مشكلة (القراءة) وهي أن باعة الصحف يتفقون وبعض القراء على السماح لهم بتصفح جميع الصحف اليومية لقاء أجر زهيد يستعيضون به عن شرائها، وأن الصحفيين بهذا (الداء) كما يسمونه يلقون أشد العنت والإرهاق والعسر في تحسين صحافتهم! ولا أكذب القارئ أني شهدت مرات عديدة قسما من المشتغلين بالصحافة اليومية يتبعون هذه الطريقة سراً وجهراً، وذلك لأنهم يجدون من الصعب منح الصحيفة العراقية ثمنها لأنها في الحقيقة لا تساويه! وهذا إقرار مزر لا يجد الإنسان معه إلا الوقوف مكتوف اليد!
وليس من الحق لوم القارئ العراقي وحده، فان هذا الشخص الذي لا يسخو على صحيفته بثمنها يبذر في شراء الصحف المصرية اليومية منها والأسبوعية والشهرية تبذيراً، فهو يشتري الصحيفة المصرية اليومية بضعف ثمن الصحيفة العراقية! ولا يبخل على المجلة المصرية بثمن عددها الذي قد يبلغ في بعض الأحيان ثمن اشتراك نصف سنة في مجلة عراقية!
فالجلي من هذا أن القارئ العراقي لا يضمر العداء لصحيفته، وأن الأديب العراقي لا يحجم عن تغذيتها، بل السبب في كل ذلك هو شيء من سوء التفاهم القائم على إهمال مصلحتيهما. فالصحفي يريد التشجيع بدون مقابل، والقارئ يريد التحسين بدون مقابل، وكلاهما لا يحرك ساكناً في دفع هذا (المقابل)
خلاصة
إذن فالأدب على أسوأ أحواله في بلاد الرافدين؛ وبغداد التي كانت في وقت مضى منبع الحكمة والأدب والشعر تنتظر بريد الأسبوع لتتلقف الصحف المصرية تلقفاً، وتغذي حاجتها من الأدب المصري، حتى لقد يعلم القارئ العراقي عن أحوال مصر الداخلية والخارجية وعن شخصيتها الكبيرة ما لا يعلمه عن أمور العراق الداخلية وما يتصل بمعاشه وحياته! وحتى بلغ الأمر بنا أن تعودنا الإطلاع على ما يخص العراق من مصادر خارجية، كأن ليس في البلد صحافة وصحفيون، وكأنه لا يعيش لأهله، ولا يعيش أهله له!
فإن كان الأستاذ (علي الطنطاوي) قد همه ألا تكون في (دمشق) حياة أدبية، فلست أجدني إلا مضطراً زيادة همه! فإننا في بغداد ننظر إلى دمشق بعين التطلع، وننتظر أن يصلنا منها ما يروي أرواحنا العطشى إلى الأدب! وإن كان حضرته ينعى عليها هذا الخلو والإقفار، فماذا سيقول عن عاصمة الرشيد؟
لو كان الوقت والمجال يسمحان بالتبسط في شرح بعض الأمور التي تتعلق بالحياة الأدبية في بغداد، كما نسمي هذا الموت تجوزاً بالحياة، لأطلعت القارئ على أحوال منه قد لا تسره، ولكني لا أكون بذلك إلا كالكاشف عن جيفة! فشكراً لضيق الوقت والمجال على حسن صنيعهما!
(بغداد)
عبد الوهاب الأمين
الرسالات
للسيدة وداد سكاكيني
أتى على الإنسان حين من الدهر كانت تعبث به الأحداث، وتدور عليه الأفلاك، وهو في شرق الأرض تسوده الفوضى والجهالة، ويقوده الظلم والطمع؛ فكان كل امرئ ينتبذ مكاناً يحميه ويركن إليه هرباً من بطش فرعون وطغيانه الجارف
في ذلك العهد المظلم كانت امرأة مسلوبة الأمان، مشبوبة الفؤاد، تسير إلى جانب نهر زاخر، حاملة وليدها، حائرة في خطواتها، فأوِحيَ إليها أن تلقيه في اليم، وهي مطوية الحنايا على أمل باهر ووعد أكيد. . . ثم يأتي عهد يكون فيه موسى كليم الله ورسوله
حمل هذا النبي رسالة إلى بني إسرائيل، فانجلت غواشي الذلة عن عيونهم الدامعة، وتجلت لهم الحقيقة البارعة؛ لقد أنقذهم من جور الفراعنة، وأهدى إليهم الأمن والحرية، فتمت كلمة الله في أول دين هبط على الطور
ثم غبرت عصور وتعاقبت أحقاب، فإذا الرومان يعيثون في الأرض فساداً، ويملئونها حرباً واعتسافاً، وإذا كل قيصر جبار يستعبد الأمصار ويخرب الديار، فكانت الأفواه شاكية، والعيون باكية، تستغيث وتستجير، والأسماع المرهفة لا تبدي ولا تعيد، فأشفق الله على خلقه الضارعين وهو أرحم الراحمين؛ لقد أرسل إليهم عيسى بن مريم كلمته الخارقة، وأيده بروح القدس، فأقبل عليهم بدين الرحمة والمحبة والوئام، وخلص القوم من مظلمة الرومان ومرارة الحرمان
ولبث العرب في جاهلية جهلاء، ووثنية نكراء، وبؤس ملحف، وعيش مرهق، وقد كان قيصر الطاغي على عاتق من شبه جزيرتهم، وكسرى الباغي على عاتق آخر، وهم يُصْلون في أرضهم الجدباء نار الصحراء وشح الماء، فكان من رحمة الله أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم؛ لقد طلع عليهم محمد بن عبد الله بهدى كبير وخير كثير، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، ودانت له البداوة الأبية الشتيتة مجتمعة تحت راية القرآن، حتى بعثت من بطاحها القفراء ورمالها الرمضاء، إلى مدن ورحاب الدنيا حضارة وحرية وعلماً، فتهدّم مجد فارس، وتحطم عز الرومان، وأتم الله نعمته على العرب بدينه الحنيف، وإذا بفجر الإسلام الساطع يكشف الآفاق، ويشرق على الإنسان بنور الإخاء والحرية والمساواة، فكان
سباق الأمم الحديثة التي تزعم أنها تسير على هدى، وتدعي الحفاظ على الحق والسلام
ثم يمخر بنو الإنسان خضم الزمن حتى يصلوا إلى شواطئ العصور الحديثة؛ فإذا انتهت رسالات الدين التي نزلت على الشرق، بدأت في الغرب رسالات الدنيا، وبينا الناس (بأوربة) في ذهول وخمول، تنقض ظهورهم المظالم، وتكوي جلودهم المغارم، وبعضهم يرسف في الأصفاد بالسجون، كان جان جاك روسو ومنتسكيو وفولتير ينشرون الكتب ليبصروا الشعب باستبداد الملوك، واستعباد الأمراء، وإذا هم ثلاثة رسل للثورة الفرنسية، وإذا مداد دُوٍيَّهم، وصرير أقلامهم، ينقلبان بعد قليل إلى دوي مدافع وسيول دماء؛ ثم تسكن الفتنة، وقد أعلنت حقوق الإنسان
وتتفتح الأعين في أرجاء الأرض على ضوء الحرية، فتقوم رسلها في كل أمة، وتسري عدوى المساواة إلى كل ملة، ثم يجر ذلك إلى مغانم شتى، ومطامع قصوى؛ وبعد أن تصرم قرن والناس في بحران سياسة ملتوية، احتدمت الحرب الكبرى، فهزت العالم هزاً عنيفاً. فلما وضعت الحرب أوزارها قام الناس من وقعها الأليم كأنهم ينسِلون من القبور
وتقوى في الناس عقيدة الرسالة ويسمونها زعامة، فينهض في الهند غاندي بجسم ضئيل وروح جبار، فيهز سيدة البحار، ويظهر في الترك مصطفى كمال فيخلقهم خلقاً جديداً، ويطلع في الألمان هتلر فيعيدهم سيرتهم الأولى، وتضيق إيطاليا بموسوليني فيغزو الحبشة بناشئة الطليان
أما في الشرق، فيعين الله الشرق! لقد حمل الرسالة فيه بمصر سعد زغلول، فبعث العروبة من مرقدها، وأيدها بروح منه، ونادى في الشرق أن حطموا الأغلال فتنالوا الاستقلال
المصلحون في الدنيا كثير، وهم رسل لأقوامهم، وإذا رجعنا إلى التاريخ قرأنا فيه صفحات دامية عما يعانون في جهادهم لتحرير الرقاب العانية من رباق الجهل والوهم والاستخذاء والاستبداد
وبعد فالشاعر رسول يصور بشعوره الصادق آلام أمته، ويجلو آمالها بروح العبقرية والإلهام
والأديب رسول حين يوجه الناس في آثاره إلى سبيل الخير وطلب الحق ومعرفة الجمال
والمعلم رسول يثقف العقول ويهذب الأرواح، فيبني الأمم وينشئ الرجال
والعلماء المصلحون والأطباء المكتشفون، جميعهم رسل الإنسانية المتألمة يسدون إليها الخير والإحسان
كل أولئك رسل أبرار يخطون لأممهم المجد والخلود، ولا تكاد رسالاتهم تحصى؛ فلئن جعل الله رسالات الدين خيراً وأبقى، فان عنده رسالات الدنيا في درجة عليا
(دمشق)
وداد سكاكيني
نظرية النسبية الخصوصية
البحث الثالث
مبادئ الميكانيكا الحديثة
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
عضو أكاديمية العلوم الروسية
- 6 -
القيمة التفاضلية في الهندسة الأوقليدية لخط تعينها المعادلة:
خ ف2=خ ك1 + خ ى1 + خ ز1 معادلة (1)
وهذه القيمة التفاضلية تتغير في كون (الزمان - المكان) أعني في عالم مينقوفسكي إلى ما تعنيه المعادلة:
خ ف2=خ ك1 - خ ى1 - خ ن1 + ن خ ت1 معادلة (2)
وهذه المعادلة تقابل كمية ثابتة (ث) التي هي نتيجة لمعادلة التقلص التي كشف عنها لورانتز
- 7 -
قلنا في البحث الأول عن الزمان ونسبيته إن اينشتين غير موضوع الهندسة من الأشكال التي يرسمها انتشار النقط المادية إلى الأشكال التي يخطها انتشار الأمواج النورية. وهذه الحقيقة قامت عليها هندسة مينقوفسكي معتبرة طول جسم ما ضرباً من مباحث علم الحركة
في نظر هندسة مينقوفسكي أن المادة ليست إلا مجموعة متواليات الحوادث في نقطة واحدة. ومجموع توالي الحوادث في نقطة يشكل خطاً من خطوط عالم مينقوفسكي. وهذا الخط ينشأ داخل كون (الزمان - المكان) من تحرك نقطة (حادثة والقانون الذي يعّين طول خط يصل بين حادثتين الأولى مثل (أ) والثانية مثل (ب) تعينها المعادلة التفاضلية
ب
خ فمعادلة (1)
إذ فيها (خ ف) العنصر التفاضلي الثاني للرقم الأول: وهذه المعادلة تجرنا إلى اعتبار المادة مجموعة الحادثات المنتظمة في حركتها في الفاصلة (خ ف)
لنتصور جزيئاً من المادة مستندا إلى نظام كونيّ، فهذا الجزيء المادي كل نقطة فيه تحتفظ بمكانها النسبي تجاه محورها، ويكون انطباقها على محورها في المكان مشفوعاً بانطباقها في الزمان، فكل نقطة في هذا الجزيء المادي تقع في نظام معين بالنسبة للكون المسند إليه بصورة ثابتة. وكل حركة في هذا الجزيء تتبع نظام الكون المنسوبة إليه، فحوادث الماضي والحاضر والمستقبل تحدث بدقة على خط النظام المسيطر الشامل للكون التي تحدث بالنسبة إليه الحوادث. فجزيء المادة، لما كانت الفاصلة (خ ف) تساوي المركز (م) كان:
خ ف2=ن2خ ت2 - خ ظ2 (معادلة رقم (1))
فلو أبدلنا الرمز (ت) الدال على الزمان في المعادلة السابقة إلى كان:
خ ف=ن خ (معادلة رقم (2))
ومن هذه المعادلة نستنتج أن:
ب ب
خ ف=نخ (معادلة رقم (3))
أأ
حيث أن الرمز (خ رمز لفاصلة الزمان الخصوصية بجزيء المادة المسند للنظام الكوني في صورة ثابتة
وإذا حولنا المعاني الرياضية التي في المعادلات السابقة إلى عبارات عادية أفادت مساواة خط جزيء المادة بحاصل ضرب سرعة النور في الزمان الخاص لهذا الجزيء المادي المسند للنظام المادي، أو بتعبير آخر أن العلاقة بين فاصلة الحوادث لعالم ما وسرعة النور توجد معنا الزمان الخاص بجزيء المادة؛ بمعنى أن قياس الزمن في جزيء مادي مسند إلى نظام كوني يكون بساعة أو كرونومتر مستندا إلى هذا النظام نفسه بصورة ثابتة
- 8 -
لنفرض نقطة مادية مثل (ق) فمبدأ الاستمرار يقرر أن هذه النقطة المادية تتحرك حركة
مستقيمة منتظمة إذا لم يؤثر في حركتها مؤثر. ولنفرض حادثتين: الأولى مثل (أ) والثانية مثل (ب) في خط حركة النقطة المادية (ق)، ولنفرض أن الحادثة الأولى (أ) تسبق الحادثة الثانية (ب)، ولما كان هنالك خطوط المجال الانتشاري بين الحادثتين فأننا نرمز لمجموعها بالرمز (خ ص) ولواحدها بالرمز (خ). فلتعيين خط من هذه الخطوط نبدأ من عند الحادثة (أ) التي حدثت في النقطة (م)، ولنفرض أن هذا الخط مسنود بصورة ثابتة لنظام مثل (ظ) ومتحرك بالنسبة لآخر مثل (ظ1)، وإذا انتهينا بالخط عند الحادثة (ب) التي حدثت في النقطة (م1) حيث يقوم بها متحرك مثل (ق1) يتحرك من (م1) إلى (م)
وإذا فرض أنه كان خط حركة النقطتين المتحركتين (ق) و (ق1) منطبقين على بعضهما تمام الانطباق، وكانت النقطة المادية المتحركة المرموزة لها بالرمز (ق) منطبقة على النقطة (م)، والنقطة المتحركة (ق1) منطبقة على (م1) فخطوط الحركة بين هاتين ستكون مختلفة إذا ما تحركتا، وحركة (ق) تكون منتظمة وسيرها مستقيما، كما أن (ق1) تكتسب تعجيلا خلال حركتها من (م1) إلى (م)
فإذا فرض أن حدثت الحادثة (أ) في الآونة (ت1) والحادثة (ب) في الآونة (ت2) فستكون حركة كل من النقطتين الماديتين (ق)، (ق1) محصورة بين الأوانين (ت1) و (ت2) والنقطة المادية (ق1) تتخذ الوضع الذي تنم عنه الرموز الرياضية
ك + خ ك؛ ى + خ ى؛ ز + خ ز
في الآونات (ت1) و (ت خ) و (ت) فيكون معنا المعادلة:
خ=خ ت. . . . . . معادلة (1)
هذه المعادلة تعين خطوط حركة الحادثتين عند الانتقال من خط سير النقطة المادية (ق1) إلى خط سير النقطة المادية (ق) كما وأنها تعين أصغر أقواس الخطوط التي تربط النقطتين ببعض. والفاصلة (خ ف2) تعينها المعادلة
خ ف2=- خ ك2 - خ ى2 - خ ز2ن2خ ت2
فإذا ما حولنا الرمز (خ ف) إلى الرمز (ن خ ت) لنشأ معنا المعادلة:
خ ك 2 خ ي 2 خ ن2
خ ف2=ن2خ ت2 1 + +=ن2خ 2. . . . . . معادلة (1)
خ تخ ت خ ت
فلو رمزنا بالرمز (س) إلى سرعة النقطة المادية المتحركة (ق1) في آوان الزمان (ت) كانت المعادلة الدالة عليه:
ن2خ 2=ن2خت2 (ا - س2ن2). . . . . . معادلة (2)
أو أن:
ا - س2ن2=1ث2. . . . . . معادلة (3)
فيكون معنا أن:
ن2خ ت2
ن2خ 2 =. . . . . . معادلة (4)
ث2
ومن هذه المعادلة نستنتج أن
خ تث. . . . . . معادلة (5)
ولو حولنا هذه العبارات الرياضية إلى عبارات عادية لأفادت أن خط العالم الواقع بين الحادثتين (أ) و (ب) والمنطبقة على خط حركة النقطة المادية (ق1) يكون زمانها بالنسبة لنظام مثل (ظ) تتحرك إزاءها حركة انتقالية مستقيمة أقل من مقدار الزمان بين الحادثتين. وكلما ازدادت سرعة النقطة المادية (ق) بالنسبة إلى النظام (ظ) أخذ الزمان في التقلص حتى يتساوى شطرا المعادلة رقم (5) فيكون معنا المعادلة:
بب
خ ت ث معادلة (6)
أأ
ولو حولنا هذه المعادلة هذه المعادلة إلى كلام عادي لأفادت أن النقطة المادية (ق1) في حركتها من (أ) إلى (ب) كلما أخذت في الانحراف عن خط سير الحركة المنتظمة المستقيمة كانت سرعتها بالنسبة إلى (ق) أكبر. ولما كانت الفترة الواقعة بين الآونتين (ت1) و (ت2) ثابتة لا تتغير فزمان النقطة (ق1) يتناقص بهذا المقدار ويكون الخط
المنطبق على خط سير النقطة المادية المتحركة حركة مستقيمة منتظمة أطول خط بين هاتين النقطتين
- 9 -
من المعادلات التي سبق ذكرها نستنتج المبادئ الآتية:
أولاً: سرعة النور سرعة محدودة لا تتغير لا في المكان ولا في الزمان. وسرعتها مستقلة عن حركة مصدرها، وتنتشر في الفضاء وبين الأكوان بسرعة ثابتة
ثانيا: قوانين الميكانيكا الكلاسيكية (مبادئ نيوتن) لا تسري على حركة وسرعة النور والأمواج الكهربائية والإلكترو مغناطيسية، ولا على حركة وسرعة الحادثات التي تقرب في سرعتها من سرعة النور، وإنما يسري عليها قوانين اينشتين الميكانيكية
ثالثاً: ليس للزمان حقيقة منفصلة عن المكان بل كلاهما يتحدان في فاصلة واحدة هي الفرق بين مربع الفاصلة المكانية وحاصل ضرب سرعة النور بمربع الفاصلة الزمنية، وهذه الفاصلة هي الفاصلة المطلقة الوحيدة في عالم الحادثات
رابعاً: أطوال الأجسام تتبع حالات مشاهديها وتتغير تبع حركتهم وسكونهم فالأطوال نسبية للمشاهدين
خامساً: ليست المادة كما يعبر عنها العلم الطبيعي الكلاسيكي بأنها كل ما كان لها امتدادات ثلاثة في المكان، بل المادة مجموعة توالي الحادثات في نقطة واحدة، بمعنى أن العالم ليس إلا مجموعة من الحادثات، وتوالي عدد من هذه الحادثات في نقطة واحدة يلقي في روعنا معنى المادة
سادساً: الزمان الخاص بحادثة ما هو مجرد العلاقة بين فاصلة الحادثة وسرعة النور
سابعاً: الخط المستقيم الواصل بين حادثتين هو أطول خط بين هاتين الحادثتين
(تم البحث الثالث)
إسماعيل أحمد أدهم
صور الصداقة والعداوة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
وَفِيٌّ غادر سمْحٌ حَقود
…
أرى الأضداد فيك إلى لقاءِ
أمَدْحك لي انتقام من عدو
…
أساء إليك أم محض الثناء
وفاؤك كي أبادلك التحايا
…
أَذَا سبب التقرب والتنائي؟
وكيما أصطلي وأشن حرباً
…
على من مدحه لك كالهجاء
أتخدعني ولم تلحق بسني
…
وَلم تظفر بخُبريَ أو بلائي
وتمذق لي إخاءك مذق حقد
…
علي وما أصبتك بالعداء
تحاربني وتحسب أن ستخفي
…
عداؤك ليس يظفر بالخفاء
كشأن نعامة للرأس تخفي
…
وتحسب مالها في الناس رائي
ولست بأول المخفين بغضاً
…
نما بين المحبة والإخاء
عرفت الناس قبلك يا خليلي
…
وذقت الغدر من حلو الوفاء
فان كان الولاء كما أراه
…
فويلي من وفائك والولاء
وبعداً للمديح وإن تغالي
…
وسحقاً للمروءة والصفاء
سل الخلان ما فعلوا بقلبي
…
وهل أبقوا لشدقك من غذاء
وهل أبقوا لبطنك منه شِلْواً
…
مريراً لا يساغ على عداء
أعيذك أن أراك شبيه قوم
…
رجولة بعضهم فقد الحياء
وهم فقدوه من ذل وعار
…
وهم فقدوه من فقد الأباء
وكم أخفوا رخاوتهم بهُجْرٍ
…
كمن فقد الحياء من النساء
وهم مثل الهَلوك رمت رجالاً
…
بما قد صح فيها من هجاء
على الأبواب واقفة تنَزَّي
…
وترمي القوم من دان ونائي
وتحسب أنها نفضت خناها
…
كجلد الكلب هُزَّ لنفض ماء
فلا يعديك خلقهم فإني
…
رأيت الخُلْق يعدي كالوباء
صفحت ولو أردت بلغت ثأري
…
وقد عُرِفَ اقتداريَ في الرماء
فان يأبوا وإن تأبى سكوتي
…
فما صمتي بعيِّ الأدعياء
ولا يُعْليك بين الناس خفضي
…
ولم تبعد بأفقك عن سمائي
لتنزلني إلى حيث استقرت
…
بك الدنيا تفنن في العداء
تخبِّرُني اللحاظ بغل قوم
…
على ما نلت من فرص الرخاء
وكنت أظنه حسداً لقولي
…
فخلت الصمت أقرب للنجاء
ولو سمعوا بموتيَ ما استراحوا
…
ولا يشفي حقودهمُ فنائي
أرادوا لي الممات ولو دهاني
…
لفرط الحقد أحسد للفناء
فلا يرضيهمُ عيشي رخياً
…
ولا يرضيهمُ مني عفائي
وفي الدنيا الدنيئة هان سمْحٌ
…
تعالى عن سلاح الأدنياء
إذا ما أحرجوا سمحاً كريماً
…
تَدَرَّع بالقواذع في الرماء
دعوني صامتاً فالصمت أوقى
…
لكم إن لم تصولوا بالغباء
أُداجي الناس ما داجوا وإني
…
لأزهد في الدِّهانِ وفي الرياء
ولكن الحياة لها قضاء
…
فمن يأباه يزهد في البقاء
وما أدري لَدُنْ أُلْفِي عدُواً
…
أأبله أم تباَلَهَ بالعداء
أَخَوَّفَهُ أذاي أخو دهاء
…
أَخَوَّفَهُ ذكائيَ واعتلائي
أَنمَّقَ وعده بالخير إما
…
تمادي من تمادى في الجفاء
أسَعْىُ سعاية أم قول واشٍ
…
يُحَكِّمُهُ المُحَكَّمُ في الخفاء
أَرَجَّاهُ مُرجِّى الخوف مني
…
ضلالاً نيل عونِيَ أو ثنائي
أعَدْوي في التثاؤب من كسول
…
كعدوي في العداوة والإخاء
أرشح اللؤم في رهط وضيع
…
يفيض بما يشاء من الأداء
ومن عرف الأنام رأى أُموراً
…
مُرَعْبَلَةً كرعبلة الكساءِ
أراها كلها صُوَراً تَنَزَّى
…
تَنَزِّي الآل في الخرق الخواء
سراب لست أتبعه فأخشى
…
هلاكاً لا ولا هو من رجائي
أنا المرء الذي عرف البرايا
…
فلا يردى لعاد أو لشائي
ومن خَبَرَ الأنامَ لِصُنْعِ فنٍّ
…
فكل الخلق من صُور الأداءِ
تراموا بالهجاء فان أصابوا
…
فرهطهم الملطخ بالهجاء
أليس الرهط فرداً ثم فرداً
…
وأوصافاً لها عدوى الوباء
نعتم رهطكم لما نعتم
…
نفوسَكم بأوضار الرماء
نفوسكم معرَّة كل رهط
…
ومدرجة الشعوب إلى الفناء
ومهزلة المكارم والمعالي
…
وهل لؤم يؤول إلى علاء
لعلكم حسبتم كل شر
…
إلى عود بخير وانتحاء
عبد الرحمن شكري
أحلام ورموز:
أنا قبر
بقلم السيد زكي المحاسني
يا حبيبي حبي يضيق كلاماً
…
ليت أني أُبينُه أنغاما
نغماً تفهم الجوارحُ منه
…
ويريح العذاب والآلاما
أنت أُغرودة على الدهر تعلو
…
عن سماع يغدو ذووه رغاما
أنت لحن سمعتُه فرماني
…
ضائع الرُّشد حائراً مستهاما
ربما قد شككْتُ في صدق عيني
…
فحسبت الذي رأيت مناما
كيف فرَّت حقيقةٌ من يد الحِ
…
سِّ فصارت في مزعمي أوهاما
أأنا ذاك أم أُعيد وجودي
…
بعدما كنتُ في فنائي رماما
أغلِق الكُوةَ المنيرة واملأ
…
ني ظلاماً حتى أصير ظلاما
علني أسترد صورةَ ما فا
…
ت وعلِّي أرُدُّها أحلاما
ها هو السبح يدَّني من أمامي
…
واجماً وجهه يلوح كهاما
جللت منكبيه بردةُ بؤس
…
جعلتْها الأسفارُ تبدو قتاما
مَدَّ لي كفَّهُ الهزيلةَ والرج
…
فةُ في ثغره وقال: سلاما
لم أكد أهتدي إليه فأرجع
…
تُ الخوالي إليَّ عاماً فعاما
ثم لَّما عرفتُه غاب عني
…
وكفاني ولو يزورُ لماما
رُدَّ ضوْئِي واحملْ إليهِ حياتي
…
واسقِني في سُلوِّ همي مُداما
داوني مثلما يداوَى عليل
…
خاف أهلوه أن يموتَ سَقاما
أغْدُ بي في الرياضِ واقصص حديثاً
…
أتّخِذْ منه سَلوةً وجَماما
أنا أهوى الحياةَ من كلِّ آتٍ
…
وأُرَجّي من البقاء دَواما
إحتَفْر هُوَّةً وأنْزلْ إليها
…
ذِكرياتي وأردُم عليها رِجاما
وكأني أَمُرُّ يوماً عليها
…
فتنادي: ألا رعيت ذِماما
فأُبَكّي لها وأسفح دمعي
…
فتُبلُّ الدموعُ منها أُواما
أنا قبرٌ وفيّ مَيْتٌ توارى
…
وبكائي عليَّ كان لزاما
ليلة في (الحمراء)
(عن شاتوبريان)
بقلم السيد ناجي الطنطاوي
ولي ذكريات أودعت مهد مولدي
…
عذاب وعهد في رباه أنيق
فهل تذكرين اليوم يا أخت ما مضى
…
فأني إلى تلك الديار مَشُوق
وهل تذكرين (الكوخ) حين تضمنا
…
إلى صدرها الأم الحنون فنجذل
وشَعراً لها قد بيّض الشيب جُلَّه
…
نداعبه طوراً وطوراً نقبِّل؟
وهل تذكرين القصر والنهر دونه
…
يبلّله والبرج فيه قديم؟
إذا قرع الناقوس أعلن صائحاً
…
بأن نهار الأمس عاد يقوم
كذا العندليب الخفُّ هل تذكرينه؟
…
يلامس سطح الماء حين يطير
وللقصب الزاهي انحناء وعندما
…
نرى الشمس في ماء الغدير تغور
فهل من معيد لي (هيلين) ودوحةً
…
بها وجُيلاً كيف لي أن أراهما؟
تسبب لي ذكراهما الوجد والجوى
…
لأنيَ لا أهوى ربوعاً سواهما
في غمرة الهوى
بقلم السيد الياس قنصل
لا تحزني إن كنتِ عاشقةً ولا
…
تستسلمي لتفحّع وبكاء
الحبّ لا يُشقي وإن حمل الردى
…
بفوادح الكباتِ والأرزاء
هو نفحةٌ علويةٌ سحريةٌ
…
تسبي الفؤاد بلطفٍ الاستهواء
تحبو الخليَّ جناحَ وهمٍ خالدٍ
…
يسمو به عن سائر الأحياء
لا تحزني، فجمالكٍ الفتان قد
…
تذويه عاديةٌ من البلواء
والحزنُ ينفث في الحياة وكأسها
…
ما ليس تنفثه سوى الرقطاء
وتأملي تجدي تباريح الهوى
…
قد ميزتكِ برقةٍ وسناء
ما كنت قبل اليوم إِلا دمية
…
تحوي ضروب الحسنِ دون رواء
يأتي الربيعُ فلا ترين جماله
…
إلا بعطرِ زهوره الميلاء
وتدغدغ النسماتُ وجهكِ حيث لا
…
تلقى سوى لون بلا إغواء
وإذا تمايلت الغصونُ وصفَّقت
…
أوراقها في الروضة الغناء
لم تدركي معنى تمايلها، ولم
…
تقفي على همساتها الخرساء
ما كان قلبك رغم كل حنوّه
…
إلا شبيه الصخرةِ الصماء
واليوم بتِّ وقد عرفتِ لُغَي الهوى
…
نبتَ الخلودِ ومهبطَ الإيحاء
فإذا رنوتِ إلى السما عند المسا
…
ورأيت سلك الأنجم الزهراء
أدركتِ شيئاً لم يكن لك ظاهراً
…
وكشفتِ سرّ القبة الزرقاء
أمسيتِ أقرب للذي أمر الورى
…
بالحبّ، لا بالحقد والبغضاء
سرّي إذن، وليمحُ عنكِ الحزن ما
…
يجتاز قلبك من هوى وهناء
(عاصمة الأرجنتين)
الياس قنصل
أندلسيات:
3 -
ابن بسام صاحب الذخيرة
والشاعر أبو مروان الطُّبْني
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
أَلَا يحسن بنا بعد أن أوردنا ترجمة ابن بسام للشاعر أبي مروان الطبني أن نردفها بترجمة الفتح بن خاقان لهذا الشاعر حتى ترى فرق ما بين الترجمتين فتتم الموازنة بذلك بين هذين الأديبين من جهة، وحتى نوفي ترجمة هذا الشاعر حقها بما في ترجمة الفتح من زيادة على مما في ترجمة ابن بسام من الجهة الأخرى. نعم، قال الفتح في المطمح في حق الطبني: من ثنية شرف وحسب، ومن أهل حديث وأدب، إمام في اللغة متقدم، فارع لرتب الشعر متسنم، له رواية بالأندلس ورحلة إلى المشرق، ثم عاد وقد توج بالمعارف المفرق، وأقام بقرطبة علماً من أعلامها، ومتسنما لترفعها وإعظامها، تؤثره الدول، وتصطفيه أملاكها الأول، ومازال فيها مقيما، ولا برح عن طريق أحانيها مستقيما، إلى أن اغتيل في إحدى الليالي بقضية يطول شرحها، فأصبح مقتولا في فراشه، مذهولا كل أحد من انبساط الضرب إليه على انكماشه؛ وقد أثبت من محاسنه ما يعجب السامع، وتصغي إليه المسامع؛ فمن ذلك قوله:
وضاعف ما بالقلب يوم رحيلهم
…
على ما به منهم حنين الأباعر
وأصبر عن أحباب قلب ترحلوا
…
ألا إن قلبي سائر غير صابر
ولما رجع إلى قرطبة وجلس ليرى ما احتقبه من العلوم، اجتمع إليه في المجلس خلق عظيم، فلما رأى تلك الكثرة، وماله عندهم من الأثرة قال:
إني إذا حضرتني ألف محبرة
…
يكتبن: حدّثني طوراً وأخبرني
نادت بمفخرتي الأقلام معلنة
…
هذي المفاخر لا قعبان من لبن
وكتب إلى ذي الوزارتين أبي الوليد ابن زيدون:
أبا الوليد وما شطت بنا الدار
…
وقلّ منا ومنك اليوم زوّار
وبيننا كل ما تدريه من ذمم
…
وللصبي ورق خضر وأنوار
وكل عتب وإعتاب جرى فله
…
بدائع حلوة عندي وآثار
فاذكر أخاك بخير كلما لعبت
…
به الليالي فان الدهر دوار
عود إلى الذخيرة
(وأما بعد) فقد آن لنا أن نعود إلى القول على كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، وهو الأثر الفذ الباقي للمترجم له أبي الحسن علي بن بسام؛ ولولا أن لهذا الكتاب شأناً غير شأن سائر نظائره لما عرضنا للقول عليه والتعريف به، إذن لنلق عليه نظرة ليس منها بد؛ ولا سيما بعد أن بشرنا صديقنا الأستاذ الكبير محمد كرد علي بك بأن هناك لجنة من أفاضل المستشرقين تألفت برياسة العلامة المستشرق الفرنسي الأستاذ ليفي بروفنسال لا خراج هذا الكتاب الضخم الخالد الذي حُرِمت منه المكتبة العربية هذا الزمن الأطول. . .
وضع قديماً أبو عبد الله هرون بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم البغدادي المتوفى سنة 288هـ كتاباً اسمه (البارع) في أخبار الشعراء المولدين جمع فيه مائة وواحداً وستين شاعراً، وافتتحه بذكر بشار بن برد وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح، واختار فيه من شعر كل واحد عيونه، وقال في أوله: إني لما عملت كتابي في أخبار شعراء المولدين ذكرت ما اخترته من أشعارهم وتحريت في ذلك الاختيار أقصى ما بلغته معرفتي وانتهى إليه علمي؛ والعلماء يقولون: دل على عاقل اختياره. وقالوا: اختيار الرجل من وفور عقله. وقال بعضهم: شعر الرجل قطعة من كلامه، وظنه قطعة من عقله، واختياره قطعة من علمه. وطول الكلام في هذا وذكر أن هذا الكتاب مختصر من كتاب ألفه قبل هذا في هذا الفن، وأنه كان طويلاً فحذف منه أشياء واقتصر على هذا القدر. ثم جاء بعده أبو منصور الثعالبي المتوفى سنة 429هـ ووضع كتابه (يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر)، وجعله ذيلاً لكتاب البارع؛ هذا ثم جاء أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي المتوفى سنة 467هـ؛ وألف كتاباً اسمه (دمية القصر وعُصرة أهل العصر)، وجعله ذيلاً لكتاب يتيمة الدهر؛ ثم جاء أبو المعالي سعد بن علي الوراق الحظيري المتوفى سنة 568هـ وصنّف كتاباً أسماه (زينة الدهر)، وجعله ذيلاً على دمية القصر؛ وأخيراً ظهر العماد الكاتب الأصبهاني المعروف بابن أخي العزيز والمتوفى سنة 597هـ، ووضع كتابه المسمى (خريدة القصر وجريدة أهل العصر)، وجعله ذيلاً على زينة الدهر للحظيري. هذا في
المشرق، وأنت فانك تعلم أن الأندلسيون كثيرا ما يحذون حذو المشارقة في سائر مناحيهم؛ ومن ثم نحوا نحوهم في وضع هذا النوع من التواليف، فوضع الأديب الكاتب الشاعر أبو عمر أحمد بن فرج - وكان معاصراً للخليفة الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر - كتاباً اسمه (الحدائق) قدمه للخليفة المستنصر وعارض به (كتاب الزهور) لأبي محمد بن داود الأصبهاني ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئاً - وسنترجم لهذا الأديب - ثم جاء من بعده صاحبنا أبو الحسن علي بن بسام فوضع كتاب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) وجعله ذيلا على حدائق ابن فرج. وفي عصره صنف الفتح بن خاقان كتابي القلائد والمطمح، وجاء بعدهما الأديب أبو عمر بن الإمام وذيل على الذخيرة والقلائد بكتاب اسمه سمط (الجمان وسقيط المرجان) ذكر فيه من أخل ابن بسام والفتح بتوفية حقه من الفضلاء، واستدرك من أدركه بعصره في بقية المائة السادسة؛ وذيل على هذا الكتاب أبو بحر صفوان بن إدريس الكاتب الأندلسي الكبير بكتاب سماه (زاد المسافر) ذكر فيه جماعة ممن أدرك المائة السابعة. وهنا نذكر أن أكثر هذه الكتب مفقود كما أن هناك تواليف كثيرة من هذا القبيل لم نسمع بها فضلا عن أنها غير موجودة. فلقد أخبرنا الإمام أبو محمد بن حزم في رسالته التي يشيد فيها بفضائل الأندلس أن للشاعر الوشاح أبي بكر عبادة بن ماء السماء كتاباً في أخبار شعراء الأندلس أثنى عليه وقال أنه كتاب حسن معناه. وحدثنا أيضاً بأغرب من هذا وهو أن من بين الكتب التي وضعت للخليفة الحكم المستنصر كتاباً في أخبار شعراء (أًلبِيَره) في نحو عشرة أجزاء. . . فتأمل. . . ومما يتصل بهذا وما هو أقعد في باب الغرابة ما حدثنا به ابن حزام أيضاً من أن هناك شاعراً أندلسياً كان في عصر جرير والفرزدق اسمه أبو الأجرب جَعْونَة بن الصِّمّة الكلابي يقول ابن حزم في حقه: ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب في الشعر لم نباه إلا جريرا والفرزدق لكونه في عصرهما؛ ولو أنصف لاستشهد بشعره فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين. وحكى ابن سعيد صاحب كتاب المغرب قال: إن عباس ابن ناصح الشاعر الأندلسي لما توجه من قرطبة إلى بغداد ولقي أبا نواس قال له أنشدني لأبي الأجرب قال: فأنشدته، ثم قال: أنشدني لبكر الكناني، فأنشدته؛ فأين شعر هذين الشاعرين الأندلسيين العظيمين؟ إنا وا أسفاه لم نعثر لهما على شيء قط. . . . . . ثم وأين كتاب المسهب للحجاري، وكتاب المغرب
لابن سعيد، وكتابا المبين والمقتبس لمؤرخ الأندلس الأكبر أبي مروان حيان ابن خلف!؟. . . وأين وأين. . .!؟
أين سكناك لا أين لهم
…
أحجازا أوطنوها أم شاما
فاسألنها واجعل بكاك جواباً
…
تجد الدمع سائلا ومجيباً
عبد الرحمن البرقوقي
القصص
مأساة من أسخيلوس
ثأر أورست
الدرامة الثانية من (الأورستية)
للأستاذ دريني خشبة
تتمة
- 6 -
ويسأل أورست عن هذه الزقاق من أرسلها، وعن هذه الخمر فيم يصبانها على ثرى أبيه، وقد تصرمت السنون على جدثه، فتحدثه رئيسة المنشدات عن رؤيا الملكة:
- (حلم! حلم! أيها الأمير! حلم مزعج مروع أقض مضجعها؛ وأذهلها عن نفسها! رؤيا انبجست عن ضميرها المضطرب الملوث بالآثام!)
- (رؤيا! وأي رؤيا هذه؟)
- (حملت واستكرشت، ثم وضعتها أفعى هائلة)
- (أهذا كل شيء؟)
- (لقد هبت مروعة مشدوهة، وطفقت تصيح وتصخب كأنها طفلة جائعة. . .)
- (الحية الرقطاء! وأي غذاء يرد شرهها! زادها الله سغباً!)
- (لقد كانت تمسك صدرها بيديها، كأنها تخمد فيه ناراً!)
- (وكيف لم ينفث السم في ثدييها. . .)
- (كلا! بل لقد قطر ثدياها دماء. . . لا لبنا!)
- (يالها من رؤيا. . . لو تتم!. . .)
ثم انطلقت تصيح في أبهاء القصر، وهب العذارى يحملن المشاعل ويغسلن ظلام الليل؛
وأمرت بهذا القربان الخمري فصُبّ في تلك الزّقاق، وحملناه إلى. . .)
- (قبر زوجها! الغادرة الفاجرة! ليشفى سعارها! يا آلهة الأولمب! ويح لك يا أرض الآباء! رحمة لك يا قبر! يا سيد الأولمب! يا ربات المقادير! أكتبي أن أكونه، أكتبي أن أكون هذا الأفعوان الهائل الذي يقر فوق صدرها. . . لن يردني شيء! سأغمد خنجري في الصدر الذي شببت فوقه! سأمزق الأثداء التي قطرت في فمي علقم الحياة!
اكتبي يا ربات المقادير! لتمت موتة دامية! سأذبحها! أنا الأفعوان لا ريب! اشهدن أيتها العذارى! سجلي يا سماوات! هلم ببلاديز! هلم يا صديقي لنأخذ فيما قدمنا له؛ وأنت يا إلكترا كوني رائدنا في القصر؛ تحسسي لنا أخباره، وقصي آثاره، فإذا أزفت الآزفة لم تفلتهم الغيلة التي دبرناها لهم، كما دبروها لمولاهم من قبل؛ ولم يفلتهم الشرك الذي نصبوه بأيديهم، وآن لهم أن يقعوا فيه. . . . . ليذوقوا وبال أمرهم مادام أن النفس بالنفس! هلمي إلكترا! سأبدو أمام البوابة الكبرى معي صديقي ببلاديز في زي مهاجرين، وسنتحدث بلهجة أهل هذه البرية التي نثقفها جيداً، يا للآلهة! إن أحدا من أهل القصر لن يمنحنا ابتسامة، أو يتصدق علينا بنظرة!!. . .
لا علينا! بيد أننا سنترصد لأبجستوس، فإذا حانت لنا منه غفلة فسننقض عليه وننفذ خناجرنا فيه! إلكترا! ارقبي القصر جيداً، واحذري أن تحركي لسانك بكلمة تفسد علينا كل شيء. . . . تكلمي إذا كان في الكلام خير لنا. . . . . وإلا. . . . . فالصمت. . . . الصمت الذي يشبه الكبرياء يا أختاه. . . وأنتن أيتها العذارى. . . هاتين موثقكن (يقسمن له أنهن معه) إذن. . . إلى اللقاء. . .)
- 7 -
(المنظر: أمام قصر البلوببديه)
(يهزج المنشدات بلحن طويل حلو، ويتغنين أشجان القصر العتيق، ويرددن ذكريات الماضي المظلم المضرجة بالدم، ويلمعن إلى الهول الأكبر الذي ينتظر المجرمين. . .)
(يدخل أورست ويطرق باب القصر)
- (أنتم يا من هنا؟. . . (ويطرق ثانيةً). . . يا أهل هذا المنزل الرحب. . . (ويستمر في الطرق). . . يا سادةَ هذه الدار!. . . الأمير إيجستوس! أريد الأمير إيجستوس! ماذا؟ ألا
من أحدٍ هنا. . . في الدار المضيافة. . . (يطرق بعنف)
البواب: (هيه! من؟ من أنت؟ (في غضب) من أين أقبلت؟ تكلم أيها الريفي!
- (لقد جئت لسادة هذا القصر بأخبار هامة. . . غريبة. . . فالبدار البدار أيها البواب!. . . قل لهم إن بالباب رجلا من بدو البرية يريد لقاءهم. . . هيا. . . و. . . اسمع أيها البواب. . . اسمع، أرجو أن. . . لقد أوشك الليل يرخي سدوله، ولا بد لابن السبيل من ملجأ كريم يأوي إليه. . . فحبذا لو لقيت أيَّا من ذوي الشأن هنا - وحبذا لو كان رجلاً. . . إن لديَّ أنباءً هامة، وقد أرتبك إذا ألقيتها لامرأة. . . أما إن كان رجلا. . . فالرجل يصارح الرجل من دون ما حياء. . . بل لا يكاد ذهنه يشرد في حضرته كما قد يشرد في حضرة امرأة. . . . . .)
(تدخل كليتمنسترا)
- (ماذا أيها السيد؟! غريب لاجئ! مرحبا مرحبا. . . إن قصر البلوببديه لن يضيق بالجائع المعتر، ولا بالطامئ الصادي. . . انزل أهلا، وحل سهلا. . . ولكن. . .! يبدو عليك أنك رسول ولديك أنباء! إذن. . . ما وراءك؟ هذا إن لم تكن رسالتك للأمير. . .)
- (أنا؟. . . أجل. . . رسول! لقد قدمت من بلدتي دُوليس، إلى آرجوس، في بعض شأني. . . و. . . بينا أنا في بعض الطريق، إذا رجل طوال وقور الهيئة يلقاني فجأة ويسألني إلى أين؟ لم أكد أجيبه أنني ميمم شطر آرجوس حتى لهث لهثة شديدة وقال: إذن لي رجيّة عندك ما أحسبك إلا مؤديها لي. . . ومناني بالخير الكثير، ووصل حديثه فقال: إذا كنت في آرجوس فاقصد من فورك قصر الإمارة. . . البلوبيديه الشاهق. . . والق ال. . . ملـ. . . الأ. . . مير. . . ونبّئه أن أورست قد قضى نحبه. . . مات. . . ثم سلهم، هل يرون أن تنقل رفاته فتقر في ثرى الوطن. . . أم يؤثرون أن تظل حبيسةً في دار الغربة كما عاش صاحبها إلى آخر أنفاسه مشرداً في أقصى الأرض، طريدا من رحمة أبويه. . . أما الرجل فقد ذكر لي أنه ستروفيوس وأنه من فوسيز. . . وقد ألح في أن أعود إليه برد على ما طلب. . . و. . . و. . . فاتني أن أذكر أن رفات الأمير الصغير ما تزال محفوظةً في إران نحاسي. . . و. . . أنه يبكيها. . . و. . . ولكن يا سيدتي بحق الآلهة عليك! لقد ذكرت كل شيء. . . هل أديت الرسالة للأُدُن التي طلب مني الرجل أن تعيها؟ إذ ينبغي
أن يعلم أبَوَا الأمير قبل كل أحد)
- (ويلاه! يا للداهية تنعت في هذا الخبر الأسود! إيه أيتها اللعنة التي ما تفتأ ترنق على هذا القصر! إيه يا عُقاب الردى هويت من شاهق على حَمَلِنَا! إيه يا سهم المنية اخترمته من بُعد! بينا كنت أحسبه في مأمن من مزالق الحتوف، إذا هو يموت، ويغادرني في تعاستي وحدي! أورست! يا رحمتا لك يا بُني! لقد كنت أدخرك لتشفي أوجاع هذا البيت. . . يا أملي الوحيد! يا آخر رجاء لي في الحياة! لقد جاء النعي فلا شك!. . .)
- (وا أسفاه! كم كنت أود لو أتيت بالبشريات الغُر لأنال رفد هؤلاء السادة الأثرياء! ولكن! لا عَليّ! فلقد ظل قلبي يحدثني عما في النبأ الذي حُمّلت من شر!
إ. . . إ. . . إنما!. . . ما لي ولذاك! أيتها الأميرة! أمن رد على ستروفيوس. .؟)
- (ليطمئن قلبك على الرفد أيها الرسول! ولا يحزنك أنك جئت إلينا بهذا النبأ، فقد كان غيرك يجيء به لو لم تفعل. . . والآن. . . هلم أيها الخادم بالضيف الكريم إلى أفخر غرف الضيافة، وليصحبه تابعه، ولتكرم مثواه،، فما أظنهما إلا قد أظناهما السفر، ونال منهما الطريق. . . أما نحن، فسنبلغ الملك وسنرى ماذا يكون في مسألة الرفات)
(يخرج الجميع ماعدا المنشدات)
- 8 -
(تدخل مرضع أورست)
رئيسة الخورس: (هيا يا وصيفات القصر! صلاةً مباركة للآلهة أن تحرس أورست وأن تلحظه بعين الرعاية. . . وصلاة مباركة على روح الوالد القتيل، الذي لابد هو راع ولده الذي جاء ليثأر له من الآثمين!. . . هيه! من؟ مرضعة أورست؟ كيليسّا؟ ماذا جاء بك يا كيليسا؟! تبكين؟ ماذا يبكيك يا طيبة القلب؟!)
- (عِمَنْ مساء يا عذارى طروادة! لا شيء! فقط،. . . لقد طلبتْ إليّ الملكة أن أدعوَ إليها أميرها إيجستوس ليتلقى بأذنيه أنباء النعي! ويلاه! ويلاه عليك يا أورست! يا طفلي العزيز! شجن جديد يغطش سماءك أيها القصر! أنت يا مأوى الأشجان وكهف الأسرار! يا بيت أتريوس كم مصيبة خبأتها لك الأقدار؟! آه يا طفلي! يا من غذوتك من ثدييّ لبن المحبة والحنان! أنا كيليسّا المفجوعة فيك. . . أنا التي غذوتك ونشّأتك وسهرت عليك بأمر
أبيك الملك! أنا التي كنت أفديك بالحياة. . . لقد انتزعوك مني. . . ونفوك في أقصى الأرض حتى لا تروع أحلامهم وتقف في سبيل لذاتهم! اللئام. . .! أنا أذهب الآن لأدعو إيجستوس! لأملأ سمعيه بخبر وفاتك! يا ولدي. . . يا ولدي. . .!)
- (مسكينة! يا ويح لك يا كيليسّا! ولكن!. . .، اهدئي، فان لنا لسؤالاً نحب أن تجيبي عنه. . .!)
- (. . .؟. . .؟. . .)
- (وبم أمرت الملكة؟ هل أمرتك أن يأتي إيجستوس ومعه أحد؟)
- (لا أفهم. . . أفصحن بحق الآلهة عليكن!)
- (نعني، هل يأتي وحده، أم يكون معه حرس؟)
- (لا! بل أمرت أن تكون حوله فرقة من حملة الرماح!)
- (صه!. . . لا. لا. . . إياك يا كيليسا! قولي له إن الملكة تريد أن تذهب إليها بمفردك. . . و. . . نرجوك!. . . نحن نترك البقية لحسن فهمك!. . .)
- (ماذا؟. . . وهل لكن الحق في إصدار أوامر؟)
- (لا. . . ولكن إن كنت حقاً وفية لأورست فلا تقولي إلا ما أشرنا عليك به!)
- (لست أفهم!. . . لقد أردى أورست وكان منتهى آمالنا. . . فماذا نرجو بعد؟)
(وتبكي)
- (لترقأ عبرتك يا كيليسا! وليفرخ روعك! هوني عليك يا طيبة القلب، فقد يكون حياً يرزق! من يدري؟ لقد أُلقي إلينا أن. . .)
- (ماذا؟ نبوءة! نبوءة بالله عليكن؟. . أم سمعتن أنباء خاصة؟)
- (صه. . .! هيا هيا. . . اذهبي إلى إيجستوس وليقصد إلى الملكة وحده!)
(تخرج كيليسا)
(وتصلي المنشدات من أجل أورست، ضارعات إلى الآلهة أن تكون معه؛ والى هرمز أن يحرسه)
- 9 -
(يدخل إيجستوس)
- (هيه!. . . هأنذا قد أتيت! ياله من خبر! أين الغريبان! ماذا؟ أحقا مات أورست؟! ما كنا نؤثر أن يموت! يا للجرح الذي ينغل في أحشائك أيها القصر؟ هاك فادحا آخر ينوء بكلكله عليك! ولكن!. . . لا. . . لا أصدقه! لا أصدقه. . .! أنا في شك من النبأ مريب! المرأة! لقد زخرفوا لها الخبر الأسود وقذفوا به في روعها! أكبر ظني أنها إشاعة لا تلبث أن تذوب! خبرن يا وصيفات! أحق ذاك النبأ؟)
- (لقد سمعنا كما سمعت! ولكن!. . . لتدخل أنت، ولتلق الطارقيْن الغريبيْن! فقد خُيّل إلينا أنها مجرد إشاعة! وقد تجلو الحقيقة حينما تواجههما)
- (ما احسبني أصدّقهما إلا أن يقولا رأيناه يجود بآخر أنفاسه! إن لي لعقلاً، وإنه لا تجوز عليه الأباطيل!)
(ويخرج)
وما تكاد المنشدات يترنمن بأنشودة قصيرة يصلين فيها لزيوس حتى تُسمع صرخة من الداخل:
- (آه. . . آه. . . ذُبحت! لقد ذُبحت!)
المنشدات: - (ها!. . . اشتدي أزمة!)
- (آه. . . آه. . .)
- لقد نفذ السهم وقضي الأمر!. . .
(يدخل أحد الخدم) ٍ
- (ويلاه! قتل الأمير! أخبروا الملكة!. . . ويلاه! افتحوا البوابة لأميرة القصر! (تحاول المنشدات فتح البوابة فلا تستطعن) أنتن ضعيفات! ليفتحها الرجال الأشداء! الغوث الغوث! آه. . . لا غوث اليوم، لقد انتهى كل شيء! أين الأميرة! أين الملكة! أين كليتمنسترا؟ يا ويح لها حين يفجعها النبأ!. . .)
- 10 -
(تدخل كليتمنسترا)
- (من ذا يصيح ويصخب هنا؟ ماذا؟ أنت الذي تصخب أيها الخادم؟)
- (أ. . . أنا. . .؟
- (ماذا؟ تكلم!)
- (لقد انتفض الأموات تحت أطباق الثرى فذبحوا الأحياء! هنا في هذا القصر!)
- (آه! الخديعة! جلوت السحر وكشفت الطلِّسم! هلم فهات لي بلْطا! وليكن حديداً مشحوذا! هلم هلم! عليِّ وزر هذا العمل أو لي خيره! لأصارع الأقضية، ولاُنازل المقادير هذه النوبة أيضا!)
(وينزاح ستر فيبدو أورست وأمامه جثة إيجستوس وإلى جانبه بيلاديز)
أورست: (آه. . .! هَلَا! هذي أنتِ! لقد فرغت من إيجستوس، وقد جاء دورك!. . .)
(كليتمنسترا وقد هالها مقتل إيجستوس)
- (قُتِلْت! ويلاه! سكتت نأمتك، وشالت نعامتك، يا أعز الناس عليّ!)
- (أعز الناس عليك! ها ها ها. . . إذن سترقدين إلى جانبه آخر الدهر ليتم له وفؤك يا آثمة!)
(ويهم أن يفتك بها فتعرف فيه ولدها)
- (أورست! أهو أنت؟ ولدي! حاشاك! ارحم هذا الصدر الذي طالما دلّلَك، والثدي الذي طالما أرضعك!)
(ينثني أورست ليستشير صديقه)
- (ببلاديز! أشر عليّ يا أعز الأصدقاء! هل تفل الرحمة من غرب هذا السيف من أجل أمي؟)
- إذن أين ما أوحي إليك من لدن أبوللو؟ وأين النبوءة الصادقة وما ناشدتك السماء أن تؤديه لها؟ روِّ سيفك غير راحم يا أورست. كن صديق السماء واغسل بغضبتك أدران الأرض!)
- (آه. . . شكراً لك يا ببلاديز! حقاً إنك المخلص الأمين! أنا أبداً في حاجة إلى مشورتك! سأقتلك إذن يا أدنس الأمهات! سأقتلك لتخرّي إلى جانب عاشقك المجرم النجس! لقد فضلته على ملكك في الحياة، فقري معه بعد الموت! حبيبك المتيم الذي كان غيره أجدر بحبك لو عرف قلبك إثارة من الطهر! يا فاسقة!)
(ويهم أن يفتك بها ثانية)
- (أورست! لقد أرضعتك، وكنت آمل أن تكون سندي في شيخوختي!)
- (سنداً لها! الفاسقة! وكيف يظلني سقف وقاتلة أبي! مثلومة العرض!)
- (قدر محتوم يا أورست!)
- (والقدر المحتوم هو الذي يكتب عليك ما تلقين اليوم)
- (ولعنة أمك! ألا تخيفك يا أورست!)
- (أمي التي قذفت بي من حالق فريسة لأشجان الحياة!)
- (أنا قذفت بك من حالق؟ حاشا! لقد أرسلتك إلى أعز الأصدقاء ليكلأك ويرعاك!)
- (لقد كانت مقايضة خاسرة بالنسبة لي! حرية وملك، بعبودية وذل!)
- (وأين الأعطيات التي بعتك بها يا بني؟)
- (الأعطيات؟ يا للعار حين نخوض في ذلك من غير ما احتشام؟)
- (قد لا تذكر أيام أن أنحرف أبوك وضل!)
- (لا تنحي على الغائب بلائمة!)
- (ألا تقدر لأواء أم محزونة مهجورة، يا أورست!)
- (بلى! وأعرف أنها ظفرت بكل ما تشهت!)
(ويهم أن يقتلها)
- (آه! أتقتل أمك يا بني؟)
- (أنا؟ أنا لا أقتلك! ولكن تقتلك آثامك!)
- (ها!. . . وأين تهرب من هامة أمك إذا قتلتها!)
- (وأين أهرب من هامة أبي إذا خلّيتك يا آثمة!)
- (كأني أخاطب فيك قبراً فلا يسمع!)
- (أجل وهو قبر أبي الذي يضرب وجهك بزفير جهنم!)
- (آه! الأفعى! لقد ولدتها وربيتها. . . وهاهي ذي تنفث سمها في حياتي!)
- (إذن: هي رؤياك قد جعلها أبوللو حقا!)
- (. . .!. . . تبدو كليتمنسترا كأنما يكاد يغمى عليها)
- (القصاص يا أتعس الأمهات! لقد زرعت وزراً، فلتجن اليوم أوزاراً!)
(تنطلق كليمنسترا داخل القصر فيعدو أورست في أثرها)
- 11 -
ويذكر المنشدات - عذارى طروادة التاعسات - أوطانهن، وما حاق بإليوم وبريام من دماء وتقتيل. فيتغنين آلامهن، ويرجعن ذكرياتهن، ويهتفن بعروس الهلسبنت، ويناجين العظام النخرة التي نامت إلى الأبد تحت أسوارها. . .
ثم. . . . . . .
ثم ينزاح ستر صفيق عن أورست. . . بين الجثتين الجبارتين جثة أمه الفاسقة كما دعاها. . . وجثة إبجستوس المتهتك، الذي لم يطهر ثأره بالحفاظ والنقاء. . . بل لطخه بفضائح الدعارة وحياة الهوى التي عاقر خمرها مع كليتمنسترا
- (اشهدن يا عذارى! هاهما قاتلا أبي، وهادما مجد الوطن! لقد استويا بالأمس على عرش آجوس فلطخاه بالإثم، وهما اليوم مجندلان فوق ثرى واحد. . . وبيد واحدة. . . وهو من البر بالأقسام! أجل! لقد برا بيمينهما. . . أليس أحدهما قد أخذ الموثق على صاحبه أن يقتلا مولى هذا القصر. . . وأن يقتسما النتيجة؟ إذن: لقد برت بيمينها. . . ولقد حاق بهما المكر السيئ، وعلقا في الشرك الهائل الذي حاكاه أولاً. . . فمدت لهما فيه السنون والأيام!. . . ولكن. . .! وا أسفاه! لقد جشمتني المقادير مهمة ملعونة. . .! وكيف؟ أنا. . . . أورست المسكين قاتل أمه! يا للشقاء!. . . أبوللو. . . أبوللو. . . كن شاهدي يا سيد الشمس!. . . لقد أمرتني. . . وأوحيت إلي أن اقتل أمك واحمل بعدها غصن الزيتون!. . . فلو لم أفعل لكان شقائي أدهى وأنكى! وكيف أطيق صبراً على قاتليْ والدي؟! وأنا ابنه الوحيد. . . والسماء تطلب دمه من رجولتي!
وأنتن يا طرواديات! تكلمن بحق السماء! أترين إليّ مذنباً ينقض ظهره الإثم. . . أم بريئاً امتشقت العدالة سيفها بيمينه. . .! أيها الأصدقاء! لقد قضت السماء أن أقتل أمي. . .! أمي التي ظلت حياتها سلسلة من المخازي ومستنقعاً من الفضائح. . . حياتها التي كانت تحديّا يا للسماء. . . لقد أقدمت وفوبوس يحدوني. . . لم يكن لي رائد سواه. . . ولا كنف إلا كنفه. . . . . . هلم يا شعب الأرجيف المجيد. . . كن شاهدي ومؤيدي. . . وأنت يا عمي منالايوس. . . ستأتي. . . ستعود إلى الوطن يوماً وتقر ما أقدمت عليه بوحي السماء!. . .
لن يلومني أحد. . . فإذاً. . . . . . فلن أضيق بالمنفى من جديد. . . سأذرع الأرض ثانية. . . سأجوب الآفاق. . ولكن راضياً مطمئن النفس. . . لأني ثأرت لوالدي. . . ولشرف آرجوس كلها)
- حاشا حاشا أيها الأمير! لن يلومك أحد على ما فعلت فلا تحرك لسانك بهذا اللغو. . . ولا تملأ نفسك بذاك التشاؤم. . . لقد أعدت للأرجيف حريتهم وشرفهم حين حطمت رأس الأفعى، وثنيّت بذنبها!)
- 12 -
ولكن الأمير الشاب ما يزداد إلا ذعراً حين يرى إلى أمه مضرجة بدمائها. . . وسرعان ما تكظ وجدانه رؤى كالحة وأشباح. . . ثم تستيقظ في نفسه كلماتها الأخيرة: (وأين تهرب من هُولني يا أورست؟ إن هامتي ستلاحقك في كل مكان صارخة في وجهك: يا قاتل أمه!. . .) فيجن جنونه. . . ويصيح ويصرخ ويصخب. . .
- ويلاه! آه. .! ما هذه السمادير التي ترقص في حبر من الظلام! آه! أين المهرب؟)
- (اطمئن يا أعز الأبناء! إنها أوهام يا أورست! هدّئ من روعك!)
ليست أوهاماً يا عذارى! ويلاه. .! إنها تنقض علي! هامة أمي!. . . هاهي. . . آه!)
- بل هي صورة هذا الدم الذي ما يزال يلوث يديك. . . اطمئن. . .)
- (لا. . . أنا بريء! أدركني يا إلهي أبوللو! يا سيد الشمس هذه الجرجون المهلكة الثعابين تتحوى فوق رؤوسها. . . عيونها تقدح الشرر. . . اللهب يندلع من أفواهها. . . السم!. .)
- (أدع أبوللو. . . أدع فهو بك بر رحيم؟)
(آه!. . . إنها تنشب أظفارها. . . الهرب. . . الهرب!)
دريني خشبة
البريد الأدبي
جون نيتل ومشروعه لتعليم الفلاح المصري
جون نيتل من أنبه الكتاب السويسريين ذكرا، وأجملهم أسلوباً، وأصدقهم فناً في نقل صور البلاد، والقيام بتحقيقات اجتماعية رائعة، وقد تجلت موهبته لا في دقة الملاحظة فحسب، بل في سحر أسلوبه وسلاسة عباراته، بحيث تنفذ إلى نفس القارئ وتحدث في عواطفه أعمق تأثير
ومما يدل أبلغ الدلالة على تفوق هذا الكاتب في فنه أنه برغم كونه سويسريا استطاع أن يثبت شخصيته أمام الإنجليز، وتمكن في روايته (الدكتور إبراهيم) من أن يدفعهم إلى الاعتراف بأن ثمرة تعليمهم في مصر هوت إلى الحضيض، وأن استعمارهم أصبح كابوساً لا يطاق لشعب نشر ألوان الحضارة والمعرفة، على حين كانت أوربا تغط في ظلمات الجهالة ومخلفات القرون
ويبدو لنا أن حالة الفلاح المصري أحدثت تأثيرا عميقاً في نفس هذا الكاتب، وجعلته أشد عطفاً عليه، وأميل إلى أن ينقل لقرائه صوراً رائعة من أفكاره ومعتقداته وسوء حالته المعيشية، مع حث المصريين على تجهيز قوافل برية ونيلية تؤلف من متاحف صغيرة متحركة، وتزود بآلات للسينما وأجهزة علمية لتغزوا الجهل المتفشي في القرى والدساكر وتقضي عليه قضاء مبرما
ولقد حدث من سنوات أن قام جون نيتل برحلة طويلة إلى مراكش حيث الاستعمار الفرنسي يرتع في بلد فطري، فما كاد يستقر هناك بضعة شهور حتى ثارت ثائرته على مظاهر الاستبداد الفظيعة، وكتب كتابه المشهور (مراكش وعبد الكريم) فغضبالفرنسيون لصراحته، وأحدث ظهور كتابه ضجة هائلة في الأوساط الاجتماعية والسياسية بفرنسا
ويظهر أنه وضع روايته الجديدة (الدكتور إبراهيم) عن مصر وهو على ثقة من أنه سيستهدف لغضب الإنجليز ونقمتهم، وتبرم صحافتهم بصراحته، لكنه لم يحفل بهذا كله ومضى يسرد الوقائع بين سطور كتابه ويصورها بريشة الكاتب الواقعي الذي لا يخضع لسلطان سوى سلطان فنه، غير عابئ بالحملات الشديدة التي أعلنت عليه، ولا بمختلف الانتقادات النارية التي استقبلت بها الصحافة الإنجليز كتابه
غير أن هذا الكتاب العظيم صادف هوى في نفوس الأمريكيين الذين يشيدون بمظاهر العدالة، فمجدوا شخصية جون نيتل وأفردوا لكتابه الفصول الطوال لافتين الأنظار إلى ما يجري في الريف المصري من تفشي الأمراض والجهل الفاضح والوقوع تحت أثقال ديون المرابين الأجانب
ففي هذه القرى لا يصرف قرش واحد لنظافة البيوت والطرقات ونقل القاذورات وتجفيف المستنقعات، حتى لقد تبلغ الدرجة فيها أن تبقى رمم الحيوانات ملقاة بين المساكن فتتجمع عليها أسراب الجوارح والذئاب وتتصاعد منها روائح خبيثة
وفي أسواق القرى لا يوجد مرحاض واحد يفي بحاجة من يؤمه من التجار الذين يضطرون لقضاء حاجاتهم في أركان الأسواق لتبقى هذه القاذورات هدفاً لأسراب الغربان والطيور والكلاب وجامعي الأحطاب، أو تلقى بقيتها في الترع والقنوات. فالعمل على تجنب الأضرار الناشئة من الماء الملوث الآسن يجب أن يكون قبل تدبير الماء الصالح للشرب في القرى، وهذا لا يتأتى إلا بإرشاد الفلاح إلى طرق النظافة، وتوقي الأمراض المعدية، ولن يكون إرشاده إلا بتجهيز قوافل علمية تطوف بمساكنه من وقت لآخر وتعمل على أن تنشل الفلاحين المساكين من وهاد القذارة والجهل، وتخرج بهم من الظلمات إلى النور
ولقد كانت المحاضرة التي ألقاها جون نيتل في مساء الأربعاء الماضي بقاعة يورت التذكارية تحت إشراف معهد جان جاك روسو للتربية بجنيف، تدور حول هذه المشكلة، مشكلة إصلاح حال الفلاح المصري ورفع مستواه الاجتماعي مع المحافظة على تقاليد أسلافه. فذكر المحاضر بأن كل فكرة ترمي إلى تعليم الفلاح بقصد انتزاعه من أرضه ونزوحه إلى المدن هي محاولة فاشلة، فالواجب تشويق الفلاح إلى أرضه وتنمية مداركه وتوسيع آفاق فكره ومعارفه العامة؛ فإذا أردنا مثلاً أن نرشده إلى الأحوال الجوية ومعرفة سير الكواكب كان علينا أن نزوده ببعثة فلكية مكونة من محاضرين بارعين، مزودين بسيارات بها آلات ومراصد فلكية، فيحل أعضاء البعثة بقريته يوما أو بعض يوم، ويجمعون الفلاحين في مكان واحد ثم يلقون عليهم محاضرات بلغة بسيطة سهلة عن علم الفلك وحركة الكواكب والنجوم مع مساعدتهم على استيعاب هذه المعلومات بواسطة المجاهر الفلكية
وهب أننا نريد أن نلقي على فلاحي قرية كذا درساً في النظافة والصحة العامة، فنوفد إليهم قافلة صحية بمتحفها الصحي المؤلف من نماذج مختلفة الأشكال، وبأفلام سينمائية معها نشرات مكتوبة في اللغة العامية يستطيع المربون الذين يرافقون القافلة أن يتلوا منها نصائح عملية على جماهير الفلاحين المحتشدين لاستقبالهم
فالتعليم الحديث بواسطة القوافل العلمية هو الوسيلة التي يرمي إليها مشروع جون نيتل لرفع مستوى الفلاحين، إذ لا فائدة ترجى من إنشاء المدارس لتعليمه مبادئ الحساب والجبر وقواعد اللغة والرياضة إلى جانب تزويده بالمعارف العامة وتثقيفه الثقافة الشعبية الصحيحة التي تساعده على تربية الجيل الجديد تربية خالية من الجمود وشوائب الجهل
ونوه المحاضر بأنه لا يرمي إلى أن يظهر في مشروعه بمظهر من يملي إرادته، ولكنه مشروع مفيد وضع بعد دراسات طويلة للتضامن مع الذين يهمهم رفع مستوى الفلاحين، وتحسين أحوال معيشتهم، كما أن تحقيقه على الوجه الأكمل يقتضي عشرات المئات من الشبان المتعلمين أن يساهموا في إسداء هذه الخدمة الإنسانية الجليلة؛ وإن في استخدامهم لهذا الغرض لحلاً لجانب كبير من مشكلة الشبان المتعلمين ومكافحة الأمية في القرى والدساكر
وأهاب المحاضر في ختام محاضرته بأن في تغافل الحكومة وفي تركها الفلاح غارقا في محيط جهله خطرا عظيما على مستقبل الأمة، لأنه سيصبح في مصر طبقتان بينهما هوة عميقة: الشباب المتعلم في المدارس العالية وفي معاهد أوربا، وجمهور الفلاحين الذين يظلون بعقلية القرون الوسطى ويعيشون تحت إرهاب أساليب عصور الظلام
كتاب الذخيرة لابن بسام
نعرف أن لابن بسام الأديب الأندلسي الكبير أثراً حافلا عن حياة الأندلس الأدبية والسياسية في القرن الخامس الهجري، وهو (كتاب الذخيرة في التعريف بمحاسن أهل الجزيرة)، وإلى أعوام قلائل لم نكن قد ظفرنا بعد بنسخة كاملة من هذا الأثر الحافل؛ وكل ما انتهت ألينا منه نسخ مغربية وأندلسية ناقصة، ولكن العلامة المستشرق الأستاذ ليفي بروفنسال مدير مدرسة الدراسات العليا في مراكش قد ظفر بعد البحث الطويل في إحدى مجموعات المغرب بنسخة كاملة من كتاب الذخيرة؛ والأستاذ بروفنسال حجة في شؤون (الغرب
الإسلامي) أعني الأندلس والمغرب وله مؤلفات قيمة عن عرب أسبانيا والمغرب، وقد نشر فوق ذلك طائفة نادرة من الكتب والوثائق عن تاريخ الأندلس والمغرب الأقصى: منها الجزء الثالث من كتاب البيان المغرب، ووثائق عن ابن تومرت (المهدي)، وجزء من تاريخ ابن حيان. ومن مؤلفته كتاب بالفرنسية عن أحوال الأندلس أيام الدولة الأموية، وقد تألفت أخيراً لجنة من أفاضل المستشرقين برياسة العلامة المذكور لتقوم على طبع كتاب الذخيرة وتحقيقه وتذييله، وربما شغل الكتاب أربعة مجلدات كبيرة؛ وهو ينقسم إلى أربعة أقسام: الأول خاص بقرطبة وأعيانها؛ والثاني خاص بغرب الأندلس وأعيانه وأخبار بني عباد؛ والثالث خاص بأخبار بلنسية وأعيانها؛ والرابع خاص بأخبار الجزيرة. ولدينا في دار الكتب من كتاب الذخيرة نسخة ناقصة تحتوي على قسمين منه فقط هما الأول والثاني
وقد استفاد من كتاب الذخيرة كثير من العلماء المشتغلين بتاريخ الأندلس مثل دورزي وسيبولد، وذلك قبل أن يوجد نصه كاملا؛ والكتاب من أنفس آثار الأدب الأندلسي، وقد كتب بأسلوب بديع، وبه معلومات قيمة عن أحوال دول الطوائف خلال القرن الخامس الهجري، وليس من ريب في أن نشره سيكون خدمة جليلة للتاريخ الأندلسي
تراث جاك بانفيل
أشرنا في عدد سابق إلى وفاة الكاتب والمؤرخ الفرنسي الكبير جاك بانفيل. وقد قرأنا أخيرا في إحدى المجلات الفرنسية الكبرى فصلا عن الكاتب الراحل للعلامة المؤرخ أوكتاف أوبري الذي زار مصر منذ حين وألقى بها عدة محاضرات تاريخية شائقة، يصف فيها تراث بانفيل التاريخي ويحلل مواهبه وكفاياته كمؤرخ وفيلسوف للتاريخ. وقد كان بانفيل قبل كل شيء كاتباً سياسيا؛ وكان رجل جدل قوي يذود عن آرائه بيقين وحرارة؛ وكانت تغلب عليه الروح الفلسفية في كتابه التاريخ. ويرى الأستاذ أوبري في كتابيه (تاريخ فرنسا) و (نابليون) أثرين جليلين يمتازان بقوة خاصة. وقد كان بانفيل ملوكياً يؤمن أشد الإيمان بالملوكية ونظمها وتقاليدها؛ وكان يدافع عن عقيدته في هذا الوسط الجمهوري المضطرم بحرارة المؤمن؛ ومن ثم كان رأيه في الثورة الفرنسية واعتبارها حركة دموية طائشة. وهو في هذا يتفق مع كتاب عظام ناصروا الملوكية مثل لامرتين؛ بيد أنه يفوقهم جميعاً في حرارة إخلاصه للملوكية وشدة وطأته على الثورة. ويعتبر الأستاذ أوبري كتابه
عن نابليون أفضل مما كتب عنه تاين وميشليه؛ ويرى في كتابه (تاريخ الأجيال الثلاثة) صورة صادقة قوية من أحداث فرنسا ومحنها ومواطن عظمتها وضعفها منذ واقعة واترلو حتى معاهدة فرساي
بيد أن بانفيل يبدو في ذروة قوته كفيلسوف مؤرخ في كتابه الأخير، وهو كتاب (الحاكمون بأمرهم)، وقد استعرض فيه تاريخ الطغاة والطغيان منذ العصور الغابرة؛ ويبدي بانفيل في بحثه وتحليله لخواص الطغيان والطغاة مقدرة تطبعها رزانة خاصة؛ ويرى أوبري أن أثر بانفيل عن الطغاة يجب أن يتبوأ مكانه بجوار كتاب (الأمير) للفيلسوف الإيطالي مكيافيللي، برغم أن بانفيل يهتدي في كتابه بمثل أخلاقية واجتماعية غير تلك التي يهتدي بها مكيافيللي في كتاب (الأمير). ولتقدير الأستاذ أوبري لتراث بانفيل التاريخي أهمية خاصة لأنه يتبوأ مكانة سامية بين مؤرخي فرنسا المعاصرين
أحرب أم سلام
نشر الكاتب الإنكليزي الكبير الدوس هكسلي حفيد العلامة هكسلي مقالا عن مصاير السلام يقول فيه إن عام 1936 سيكون عاماً حاسماً في تاريخ البشرية؛ ذلك أنه إما أن يكون عام حرب أو عام سلام؛ إما أن يستطيع الساسة فيه أن يحتفظوا بسلام أوربا وإما أن تفلت الحوادث من يدهم وينحدر العالم إلى الحرب
والدول التي تسيطر على مصاير العالم اليوم هي سبع: بريطانيا العظمى وفرنسا والولايات المتحدة والروسيا - وهذه في نظر الكاتب هي الدول (الراضية) - ثم ألمانيا وإيطاليا واليابان، وهذه هي الدول (غير الراضية)، وذلك لأن الاحتكار الاستعماري والاقتصادي الذي تنعم به الدول الراضية قد اشتدت وطأته في الأعوام الأخيرة من جراء السياسة القومية التي تتبعها، والنظم الجمركية والاقتصادية التي تنظمها، لتوطيد تجارتها وسحق تجارة الدول الأخرى. والدول غير الراضية لها كل الحق في أن تنقم على الدول الراضية هذا الاستئثار؛ ذلك لأن مستوى الحياة في إيطاليا وألمانيا واليابان يهبط بالتدريج، وسيستمر على هذا الهبوط؛ والحياة في هذه البلاد تغدو كل يوم أشد وطأة، حتى أصبحت ترى أن المغامرة بخوض الحرب أفضل من أي سلام مسكين تجنيه في ظل هذه الظروف التعسة. وقد قامت في هذه الدول الثلاث حكومات تعد شعوبها بأن ترد بالقوة القاهرة عنها هذا
الحيف؛ فأما اليابان فقد انقضت على بعض أقاليم الصين؛ وتحاول إيطاليا أن تفتتح الحبشة؛ وربما أقدمت ألمانيا في فرصة قريبة على محاولة نيل الترضية اللازمة، وربما كان ذلك على حساب روسيا أو أوربا الوسطى
وقد شهدت السياسة الدولية تطوراً عظيما في المبادئ، وذلك بتطبيق مبادئ وإجراءات إجماعية (أخلاقية)؛ ولكنا إذا أردنا السلام وجب أن نشتد في تطبيق هذه المبادئ الإجماعية إلى حدود أخرى؛ وإذا كانت إيطاليا تتبع سياسة غاشمة فذلك لما حاق بها من الظلم؛ وليس ثمة وسيلة واحدة لدفع هذا الحيف عن الدول غير الراضية سوى معاملتها ومعاملة دول أوربا الوسطى بعدالة
ويرى الكاتب أن الحرب والسلام بيد الدول نفسها، فإذا أصرت الدول الراضية على التمسك باحتكارها الاقتصادي الذي كسبته بوسائل غير عادلة، وإذا حاولت أن تتسلح حتى الذروة لتحتفظ به، فإن الحرب واقعة لا محالة
وأما إذا اعتزمت الدول الراضية أن تسير طبقاً لمبادئ الأخلاق، وهي في نفس الوقت مبادئ حسن التصرف، فان السلام يغدو محققاً مكفولا
الحياة المصرية المعاصرة
ظهر أخيراً في إنكلترا كتاب عن الحياة المصرية منذ أواخر القرن الماضي حتى يومنا، عنوانه (حياة في مصر) بقلم سيدة إنكليزية، أنفقت طول حياتها في هذه البلاد هي السيدة مابل جايارد. ويتناول هذا الكتاب وصف الحياة المصرية منذ أواخر عهد إسماعيل حتى سنة 1935؛ أعني خلال ستين عاما. وكان والد السيدة مابل موظفاً في الحكومة المصرية منذ أوائل عهد الاحتلال؛ وكانت مس مابل يومئذ فتاة ناشئة، فقطعت حياتها الحافلة في هذه البلاد، بين الإسكندرية ومصر، وشهدت تطورات الحياة المصرية في هذه الحقبة، واتصلت بكثير من الشخصيات البارزة في هذا العهد، ووقفت على كثير من الشؤون والمعلومات العامة والخاصة. وتقدم المس مابل في كتابها عن مصر صوراً ساحرة لهذا العهد الذي كانت الحياة فيه ما تزال ناعمة هينة؛ وتصف لنا مدينة القاهرة والمجتمع القاهري في أواخر القرن الماضي، حين كانت لا تزال في طور نشوئها العظيم؛ وكانت لا تزال مدينة شرقية تحتفظ بكامل جمالها وسحرها الشرقي الذي مازال يملأ مخيلة الكتاب والسائحين؛
وتصف لنا الإسكندرية في أوائل عهد الاحتلال وتروي لنا كيف كانت الحياة فيها أحياناً صعبة غير أمينة، وكيف كانت محط المغامرات والمفاجآت المكدرة
وتقدم لنا المس مابل صوراً ممتعة عن البلاط الخديوي في هذه الحقبة، وعن الخديويين وعن أكابر سيدات الحرم الخديوي الذي اتصلت به المؤلفة وعرفت كثيراً من رسومه ومظاهر الحياة فيه؛ وتصف لنا الإسكندرية والقاهرة أيام الحرب الكبرى، وكيف تحولت العاصمتان الكبيرتان إلى شبه محطة عسكرية هائلة، ثم تصف لنا ما طرأ على الحية المصرية بعد الحرب الكبرى إلى يومنا
وكتاب المس مابل طريف تجدر قراءته في هذه البلاد، وإن لم يكن يخلو من بعض نواحي التحيز والتحامل التي قلما تخلو منها كتب الأجانب، وبخاصة الإنكليز، عن مصر
الفوكلور المراكشي
تعتبر اليوم دراسة المعتقدات والعادات والتقاليد الشعبية من الدراسات الأثرية المفيدة في تاريخ الشعوب وتاريخ الحضارة؛ وقد اتسعت هذه الدراسة وتقدمت في عصرنا حتى أضحت تكون فرعاً خاصاً يطلق عليه (الفوكلور) أو دراسة المعتقدات الشعبية. ومن المؤلفات التي ظهرت أخيراً في هذا الموضع كتاب للدكتورة فرانسواز ليجي عن (الفوكلور المراكشي) وقد عاشت الدكتوره ليجي في مراكش أعواماً طويلة، ودرست المجتمع المراكشي دراسة مستفيضة، ووقفت على معتقداته وتقاليده القديمة التي لم تنجح المدنية الفرنسية المفروضة في إزالة معالمها؛ وتناولت المؤلفة معتقدات الشعب المراكيشي الدينية، وعاداته الاجتماعية، وما تداولته الأجيال منذ العصور الغابرة في شأن الخليقة وآدم والبر والبحر والحيوان والنبات والطير، من الأساطير والأمثال السائرة؛ وتسوق لنا المؤلفة أمثلة طريفة من هذه المعتقدات في شأن بعض الأشجار والأزهار فتقول:(إنهم يعتقدون أن بعض النباتات ليست من خلق الله ولكنها من خلق الشيطان، وهذا شأن التبغ مثلاً؛ وأما شجرة الكرم وشجرة التين فقد حملهما آدم من الجنة؛ وقد نبتت الورود وزهر البرتقال من دموع النبي، ونبتت شجرة الرمان من الأزهار التي نثرتها فاطمة الزهراء ابنة النبي حينما علمت بموت ولديها الحسن والحسين)، ويعتقدون أيضاً أن بعض الحيوانات كانت بشراً ومسخت، عقاباً لها على سيئاتها
والكتاب طريف في موضعه وفي مباحثه وخصوصاً فيما يتعلق بتقاليد القبائل البربرية وعاداتها؛ وفي مباحثه ما يلقي كثيراً من الضوء على المجتمع المغربي في تطوراته المختلفة، وفي ظل الوثنية والإسلام، وما لا يزال حياً في معتقداته وتقاليده من تراث العصور الغابرة