الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 141
- بتاريخ: 16 - 03 - 1936
رعاية الفلاح واجب قومي
أشارت الرسالة في عددها الماضي إلى المحاضرة القيمة التي ألقاها نزيل مصر، المستر جون نيتل الكاتب السويسري الكبير، عن تعليم الفلاحين ووجوب الاهتمام بثقافتهم القروية والصحية، فذكرتنا هذه المحاضرة بمسألة لا تزال تثير في نفوسنا شجناً، هي مسألة الفلاح المصري بوجه عام
أجل إن مسألة الفلاح المصري مسألة تجدر بعناية كل مصري يقدر الدور الخطير الذي يضطلع به الفلاح في حياة هذه البلاد؛ فالفلاح عماد الإنتاج القومي، وجهوده عصب الثروة المصرية العامة، وهو منبع الذكاء المصري العامل؛ يؤدي للخزينة العامة من دخله ما لا يؤديه أي مصري آخر من ذوي المناصب أو المهن أو المال
ومع ذلك فالفلاح المصري أقل أبناء الأمة حظاً من عناية أولي الأمر، بل يكاد يكون منهم نسياً منسياً؛ فقلما يفسح له مجال في المشاريع والمرافق العامة، وقلما تقدر حقوقه ومصالحه قدرها الحقيقي؛ وبينما نرى جميع الطبقات والطوائف من الموظفين وذوي المهن والطلبة والعمال، بل وذوي المال، كلا تدأب على مطالبة الحكومة وأولي الأمر بتحقيق ما تنشد من الحقوق والمزايا، إذا بالفلاح يلزم الصمت والسكينة، ويرقب مصيره قانعاً بالأمل، راضياً بحكم القدر، معتمداً على الله ثم على نفسه ودأبه المتواصل
بل نلاحظ مع الأسف والألم أن أصوات قادتنا ومصلحينا ترتفع في كل وقت مطالبة بتحقيق مختلف المشاريع الإصلاحية العامة، ولكن قلما يرتفع منها صوت من أجل الفلاح والعناية بانتشاله من ذلك المنحدر السحيق الذي قضى عليه أن يعيش فيه؛ وإذاً فمما يثير الشكر والعرفان أن يرتفع بيننا صوت إنساني كصوت ضيفنا المستر نيتل، مطالباً للفلاح بما نقصر نحن في المطالبة به من عناية هو خليق بها
يعيش الفلاح، عصب الشعب المصري وكثرته الساحقة، في نفس الحالة التي يعيش عليها منذ آلاف السنين، في غمر من الجهل المطبق والأمراض الفتاكة، تعوزه أبسط وسائل الصحة والنظافة؛ ولا يكاد يخرج من كده ودأبه المتواصل بأكثر من القوت الضروري، بل لا نعرف في بلد من البلاد المتمدنة طبقة اجتماعية ينحط منسوب العيش فيها إلى هذا الدرك الأسفل الذي تنحط إليه معيشة الفلاح المصري
ويؤدي الفلاح إلى خزينة الدولة نحو خمسة ملايين جنيه ضريبة عقارية، ويؤدي أكثر منها
ضرائب أخرى مباشرة وغير مباشرة، فهو بذلك من أكبر المساهمين في تكوين الدخل العام؛ ومع ذلك فهو لا يصيب من النفقات العامة قسطاً يذكر، سواء في التعليم أو الصحة أو المنشآت والمرافق العامة. صحيح أن الدولة تنفق الملايين على أعمال الري والصرف التي ينتفع بها الفلاح، ولكنها إنما تنفق في الواقع على إدارة الثروة المصرية العامة وإحيائها؛ ومن العدالة بل من مصلحة البلاد الحيوية أن يحظى الفلاح بنصيب حسن من الإصلاحات الاجتماعية التي ترمي إلى رفع مستواه الصحي والعقلي، ففي تقدم صحة الفلاح وتقدم ثقافته ثروة حقيقية للبلاد، وزيادة في قواها المنتجة الاقتصادية والاجتماعية
وليس الفلاح بحاجة إلى التدليل على قدره وأهميته في حياة البلاد؛ فهو يعمل متوارياً في صمت، ولكن شرايين الحياة المصرية كلها تمت بصلة وثيقة إلى عمله وإنتاجه؛ وهاهو ذا المعرض الزراعي الصناعي القائم الآن أسطع دليل حي على ما لهذا الفلاح المتواضع من جليل القدر في الإنتاج العام، وما يستطيع أن يقوم به من المعجزات الزراعية والصناعية إذا تعهده ولاة الأمر بالعناية الرفيقة والإرشاد المستنير
إن الفلاح مستودع الذكاء المصري، وأبناء الفلاحين هم صفوة القادة والزعماء وأكابر رجال الدولة والحكومة، فكيف يعدم الفلاح بين أبنائه أنصاراً يطالبون بحقوقه في الرعاية العامة، وبقسطه من العناية الصحية والثقافية؟ لقد كانت صحة الفلاح وعقله وروحه وما زالت عصب مصر الزراعية والاقتصادية، وقد كانت ستغدو عصب الدفاع عن مصر؛ فإذا شاءت مصر أم تحافظ على قواها المنتجة، وأن تشحذها وتضاعفها، فعليها ألا تدخر وسعاً في العناية بجسم الفلاح وعقله وروحه
وإذا كنا نستطيع أن نسجل لبعض الوزارات المصرية شيئاً من الفضل في الاهتمام بأمر الفلاح، ولا سيما في تقرير التعليم الأولي، وإنشاء بعض المستشفيات والمؤسسات الصحية، وردم البرك، وغيرها، فأنه لا يسعنا إلا أن نلاحظ أن هذه المشروعات تسير بخطى بطيئة جداً، وأن ما تم منها لا يعدو بداية ضئيلة. ومن حق الفلاح، وهو الذي يكون أغلبية الأمة الساحقة، ويساهم بأكبر قسط في إنتاجها الحيوي، ويتحمل معظم الأعباء والتكاليف العامة، أن يفوز من ولاة الأمر، ومن مشاريع الإصلاح العامة بأوفى نصيب
(* * *)
ولود وعقيم
للأستاذ أحمد أمين
ركبَتْ من أول محطة لترام مصر القديمة وهي كهلال الشك، جلد على عظم، وعلى يديها طفل قد جلل بالبياض، وعصبت عيناه، وغطي رأسه ووجهه بشاشة زرقاء
وركب في المحطة التالية سيدة نصَف، أطيب شطريها الذي ذهب، ممتلئة البدن، سمينة الضواحي، فحيت الأولى، وتحادثتا
والنساء سريعات التعارف، تراهن في طرفة عين يتحدثن إلى من لم يعرفن قبل في أدق الأمور، وأعمق الأسرار، حتى كأنهن صديقات العمر، ورفيقات الصبى؛ فهن يتحدثن بعد دقيقة في السعادة والشقاء، وأوصاف الأزواج وعيوبهم، والحموات ومصائبهن ومضايقتهن، والدخل والخرج؛ وقد ينتقلن إلى ما هو أدق من ذلك وأصعب، مما لا يستطيع الرجال أن يتكلموا في بعضه إلا بعد عمر طويل، وصداقة متينة، ومشاركة في السراء والضراء
وبعد لحظة صرخ الطفل وأمعن في الصراخ، تحاول أن ترضعه ليسكت فلا يسكت، وتنميه فلا ينام، وتتبع معه كل الأساليب التي تعلمتها في إسكات الأطفال فلا تنجح، وأخيراً تدعو عليه بالموت فلا يستجاب لها
- الثانية - ما له؟
- الأولى - رمدت عيناه من أيام ثلاثة فشرّبني المر، وفي الليلة الماضية لم أذق طعم النوم، وأنا طول الليل واقفة على رجلي أذرع الحجرة من أولها إلى آخرها ومن آخرها إلى أولها، وكلما هدأ وبدأ النوم ذهبت إلى السرير لأنيمه وأنام فيصرخ ويكرر النغمة عينها ويمثل الدور نفسه إلى الصباح، حتى دار رأسي، ومللت الحياة، وتمنيت الموت، ولم أر للحياة طعما مذ رأيت الأولاد، وهانا ذاهبة إلى طبيب العيون
أمعك أولاد أخر؟
نعم - معي خمسة وهذا سادسهم؛ وقد حاولت بكل الوسائل أن أمنع الحمل بعد أول ولد ففشلت وفشلت. ومرة حاولت أن أخلص من جنين فكدت أخلص من نفسي وبقى الجنين. ومرة أصبت بنزيف شديد فعرضت نفسي على طبيب فقال إنه إجهاض، وليس من أمل كبير في بقاء الجنين؛ ثم أمرني أن ألتزم سريري ولا أتحرك، وأنام على ظهري دائماً،
وكتب لي دواء يمنع النزيف. فامتنعت من شرب الدواء، وأكثرت الحركة، وعملت كل شيء عكس ما نصح الطبيب رغبة في الإجهاض، ثم مع هذا كله ارتفع الدم وثبت الجنين. وهذا هو الذي على يدي
و (اسم الله عليهم) كلهم ذكور؟
لا والله! أربعة ذكور وبنتان، وكلهم في الهم سواء، وكل يوم نوع جديد من أنواع العذاب. ففي آخر السنة نضع يدنا على قلبنا عند الامتحان؛ وتظهر النتيجة، فهذا نجح، وهذا سقط بلا ملحق، وهذا له ملحق؛ ونمضي الإجازة في عناء! وتبتدئ السنة، فمن نجح في الشهادة الابتدائية ظهر متأخر الترتيب فلا نجد له مدرسة أميرية تقبله؛ والشهادة في يد، والمصاريف في يد، والمدرسة في رفض! ثم هذا صحيح وهذا مريض، وهذا ذاكرَ وهذا لم يذاكر. ولا تسألي عن وقت ذهابهم إلى المدرسة! هذا يبحث عن جزمته فلا يجدها، وهذا عن طربوشه فلا يجده، ونرى الفرد جورب في حجرة وفرداً آخر في حجرة أخرى، فلا يكادون يذهبون إلا وقد بلغت الروح الحلقوم. وعند مجيئهم من المدرسة هذا يغضب على الأكل وهذا يرضى، وهذا ينازع ذاك، ولا ينقذنا من كل هذا إلا نومهم. ثم هذا الشهر شهر أقساط المصاريف، وهذا شهر كسوة الصيف، وهذا شهر كسوة الشتاء، وماهية الزوج لا تكفي هذا وذاك، والعيش كله عناء في عناء. وأنت؟ أليس عندك أولاد؟
كان منظراً غريباً، فقد طفرت الدمعة فجأة من عين السيدة الثانية، فلما أخرجت منديلها ومسحت دمعتها قالت: أبى الله أن يرزقني في حياتي ولداً، وطالما دعوته وسألته! وحججت مرة، وكان أكبر همي من حجي أن أقف في أشرف بقعة وأسأل الله أن يهبني ابناً أو بنتاً! وليكن الابن ذكياً أو غبياً، ولتكن البنت جميلة أو دميمة؛ فأنا راضية بأي مولود على كل حال، ولكنه سبحانه وتعالى لم يفعل، وفي القرآن الكريم:(يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيما) فقد شاء أن يجعلني من الصنف الأخير - لتمنيت أن يكون لي أولاد، وأتحمل فيهم أضعاف ما ذكرتِ من عناء. ثم أراهنك أني أكون سعيدة مغتبطة لا أشكو ولا أتألم - لقد طرقت كل الأبواب لذلك فلم أنجح، ذهبت إلى الأطباء فعملوا لي عملية، واحتملت في سبيلها كل الآلام؛ وذهبت إلى المشايخ فرقَوا وعزَّموا؛ وذهبت إلى الشيخات (فحضَّرن) وبخرن و (وصفن)؛ وقالوا
تخافين؛ فخفت ونزلت القبر، وركبت وابور (لونابارك)؛ وقالوا وقالوا، وفعلت وفعلت، فذهب ذلك كله هباء، ورزقني الله مالاً كثيراً استطعت أن أفعل به كل ما وصفوا حتى السفر إلى أوربا واستشارة أطبائها، ولكن إذا أبى الله فماذا يفعل العبد؟
لم يبق لي من ذلك كله إلا التلهف على الولد والحسرة الدائمة؛ وكل شيء حولي يذكرني بالأولاد فيثير أشجاني وأحزاني. لقد رأيت في حديقتي أشجار البرتقال والليمون تحمل أثمارها فقلت يا لله! أتسبل نعمك على الأشجار فتحمل كل عام أثمارها، وتضنّ علي فلا أحمل مرة ثمرة! وعندي قطة تحمل دائماً وتضع ما لا يعد من الأولاد، وكلما حملت ذكرتُ حملي، وكلما ولدت بكيت أولادي الذين لم يوجدوا بعدُ؛ وأرى الفقيرات البائسات العاريات في الشارع كل واحدة منهن تحمل في بطنها ولداً، وترضع ولداً، وتجر ولداً، فيتجمع الحزن في قلبي، وتنفجر منه عيني؛ واسمع (معارفي) وصواحبي، هذه ولدت، ثم هذه ولدت، ثم هذه ولدت، فأقول لم يبق عقيما إلا أنا، ولم يتخصص للشقاء غيري! رزقني الله مالاً ولم يرزقني ولداً، وليته رزقني ولداً ولم يرزقني مالاً؛ ولو كان الولد يشرى بكل ما أملك لاشتريته وكنت سعيدة؛ بل لو كان يشرى بعينيّ لاشتريته وكنت رابحة في صفقتي. وما الدنيا والمال؟ وما الحياة بغير الولد؟ لقد كنت في أول أمري أطلب الولد خشية أن يتزوج زوجي غيري، فلما أمنت جانبه، واطمأننت من ناحيته، طلبت الولد لأنه طبيعتي ولأنه حياتي بعدي، ولأنه موطن انتساخ روحي، ولأني امرأة قد خلقت للأمومة. لقد أحسست بهذه الأمومة في صغري فعملت العرائس إرهاصاً لأمومتي، ثم تزوجت تهيؤاً لهذه الأمومة، فلما تقدمت في السن ولم أجد الأمومة رأيتني فقدت طبيعتي، ورأيتني في الحياة مقدمة بلا نتيجة، أو قبة بلا شيخ، أو لوزة فارغة، وأنا والعروس من الحلوى، والعروس من القطن سواء، كلنا لا يلد. ليس لي أمل في السلوة إلا بالموت. فهو وحده بلسم الهموم، ومقبرة الأحزان! وهنا ختمت حديثها - كما بدأته - بالدموع
قالت الأولى: والله لو ذقتِ مرارة الأولاد ما تمنيتِهم؛ ولو جربتِ سهر الليالي ما اشتقتهم؛ ولكن أحب شيء إلى الإنسان ما منع؛ والقصر من بُعد أجمل منظراً من سكناه؛ والخيال دائما ألذ من الحقيقة. لقد كان مرة أكبر أولادي يبكي وهو رضيع ولا نعلم سبباً لبكائه، ويبكي ويشتد في البكاء حتى بلغ معنا الهم مبلغه، وإذا بزفة عريس تمر من تحت بيتنا،
فأضحكني زوجي أبو الطفل إذ قال للعريس: (غُرْ) غداً تخلف (وترى) - لو تمنيت الآن شيئاً لتمنيت أني لم أكن تزوجت، وإن تزوجت فلم أكن (خلفت) - أتبادلني؟ وضحكت؟
قالت الثانية وتأوهَتْ: وكيف يمكن البدل؟ إنما أريد أولاداً مني لا منك، أريد كبدي تمشي على الأرض أربيها، ولا أريد كبك أنميها وأغذيها - وأنت أيضاً لا تعبرين عما في نفسك تعبيراً صادقا، فمن تهون عليه أولاده؟ إنما ينفع البدل إن كان قدر لي الله أن أكون ولوداً وأن تكوني عقيما
قالت الأولى: أتريدين الحق يا أختي؟ الدنيا كلها تعب فلا ولود في راحة، ولا عقيم في راحة، ولا متزوجة سعيدة، ولا عزبة سعيدة
ووصل الترام إلى العتبة فنزلتا، هذه إلى طبيب أبنها وتلك لبعض شؤونها
قال صاحبي: ولكن كيف أمكنك أن تسمع هذا الحوار؟ قلت: هذا سر الصنعة.
أحمد أمين
4 - الدينار والدرهم
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال احمد بن مسكين: وأزفَ ترحُّلي عن (بلخ) وتهيأتُ للخروج، ولم يبق من مدة مقيلي بها إلا أيام يجيء فيها السبتُ الرابع. وكانت قد وقعت مُمَارةٌ بيني وبين مفتي (بلخ) أبي أسحق إبراهيم بن يوسف الباهلي تلميذ أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، ويزعمون أنه شحيحٌ على المال وأنه يَتَغَلَّلُه من مُسْتَغَلاَّت كثيرة، فكأنما غَشِيَتْه غمامتي، فهو لا يرى أن أتكلم في الزهد، ويحسب هذا الزهد تماوُتَ العبَّاد ونَفْضَ الأيدي من الدنيا وسوءَ المصاحبة لما يُنعم الله به على العبد، وخذلانَ القوة في البدن، وما جرى هذا المجرى من تزوير الحياة بالأباطيل التي زعم أنها أباطيل الطاعات وما أقربها من أباطيل المعصية. ولم يكن هذا المفتي قد سمعني ولا حضر مجلسي، ولولا الذي لم يعرفه من ذلك لقد كان عرف
وجادلتُه فرأيته واهنَ الدليل، ضعيفَ الحجة، يُخَمَّنُ تخمين فقيه، وينظر إلى الخفايا من حقائق النفوس نظر صاحب النصَّ إلى الظاهر، كأن الحقيقة إذا ألقيت على الناس مضت نافذة كفتوى المفتي. . . ويزعم أن الوعظ وعظُ الفقهاء، يقولون هذا حرام فيكون حراماً لا يُقارفه أحد، وهذا حلال فيكون حلالاً لا يتركه أحد؛ وهو كان بعيداً عن حقيقة الوعظ ومداخله إلى النفس وسياسته فيها، ولا يعرف أن الحقيقة كالأنثى إن لم تزين بزينتها لم تستهو أحدا؛ وأن الموعظة إن لم تتأدَّ في أسلوبها الحي كانت بالباطل أشبه، وأنه لا يغير النفسَ إلا النفسُ التي فيها قوةُ التحويل والتغيير كنفوس الأنبياء، ومن كان في طريقة روحهم، وأن هذه الصناعة إنما هي وضع نور البصيرة في الكلام لا وضعُ القياس والحجة، وأن الرجل الزاهد الصحيح الزهد، إنما هو حياة تلبسها الحقيقة لتكون به شيئاً في الحياة والعمل. لا شيئاً في القول والتوهم، فيكون إلهامها فيه كحرارة النار في النار من واتاها أحسها
ولعمري كم من فقيه يقول للناس هذا حرام، فلا يزيد هذا الحرام إلا ظهوراً وانكشافاً مادام لا ينطق إلا نطق الكتب ولا يحسن أن يصل بين النفس والشرع، وقد خلا من القوة التي تجعله روحاً تتعلق الأرواحُ بها وتضعه بين الناس في موضع يكون به في اعتبارهم كأنه آتٍ من الجنة منذ قريب، راجعٌ إليها بعد قريب
والفقيهُ الذي يتعلق بالمال وشهوات النفس ولا يجعل همَّه إلا زيادة الرزق وحظ الدنيا - هو الفقيه الفاسدُ الصورة في خيال الناسُ يفهمهم أولَ شيء ألاَّ يفهموا عنه إذ حرصه فوق بصيرته، وله في النفوس رائحةُ الخبز وله معنى خمسٌ وخمس عشرة. . . وكأن دنياه وضعت فيه شيئاً فاسداً غريباً يفسد الحقيقة التي يتكلم بها؛ ولست أدري ما هو هذا الشيء ولكني رأيت فقهاء يعظون ويتكلمون على الناس في الحرام والحلال وفي نص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم لم أجد لكلامهم نفعاً ولا رداً، إذ يلهمون الناس بأرواحهم غير المعنى الذي يتكلمون فيه؛ وتسخر الحقيقة منهم - على خطرهم وجلال شأنهم - بذات الأسلوب الذي تسخر به من لص يعظ لصاً آخر فيقول له لا تسرق. . .
قال ابن مسكين: فلما دار يوم السبت أقبل الناس على المسجد أفواجاً، وكانوا قد تعالموا إزماعي الرحيل عن بلدهم - وجاء (لقمان الأمة) في أشياعه وأصحابه، وجاء أبو اسحق المفتي في جماعته؛ واستقر بي المجلس فنفذْتُ الناسَ بنظري فكأنهم نبات غطى الأرض، فأذكرني هذا شيخنا السريَّ بنَ مُغلَّس السقَطي، وكان قد لزم داره في بغداد لا يخرج منها ولا يراه إلا من قصد إليه، وهممتُ أن أجعل الموعظة في شرح كلمته المشهورة: لا تصحُّ المحبة بين اثنين حتى يقولَ أحدهما للآخر: يا أنا. وما نقلوا عنه من أنه قال مرة لبعض أصحابه: منذ ثلاثين سنة وأنا في الاستغفار من قولي (الحمد لله). فقال صاحبه: وكيف ذلك؟ قال: وقع ببغداد حريق فاستقبلني رجلٌ فقال: نجا حانوتك. فقلت الحمد لله؛ فأنا نادم من ذلك الوقت على ما قلت إذ أردتُ لنفسي خيراً من الناس. قال ابن مسكين: ولكني أحببت أن أكلم المفتي ومالَ المفتي؛ فحدثتهم حديث معرفتي بالسّري أني سمعتُ يوماً غيْلان الخياط يقول: إن السري كان اشترى كُرّ لوز بستين ديناراً وأثبته في رزنامجه وكتب أمامه: ربحه ثلاثة دنانير؛ فلم يلبث أن غلا السعر فبلغ تسعين ديناراً؛ فأتاه الدلال الذي كان اشترى له فقال: أريد ذلك اللوز. قال الشيخ: خذه. قال: بكم؟ فقال بثلاثة وستين ديناراً. وكان الدلال رجلاً صالحاً فقال للشيخ: إن اللوز قد سار الكُر بتسعين. فقال السري: ولكني عقدت بيني وبين الله عقداً لا أحلُّه، فلست أبيع إلا بثلاثة وستين ديناراً. فقال الدلال: وأنا عقدت بيني وبين الله عقداً لا أحله ألاّ أغشَّ مسلماً، فلست أشتري منك إلا بتسعين؛ فلا الدلال اشترى منه والسريُّ باعه
قال أحمد بن مسكين: فلما سمعت ذلك لم تكن لي همةٌ إلا أن ألقى الشيخ وآخذ عنه، فلم أُعرَّج على شيء حتى كنت في المسجد الذي يصلي فيه فأجده في حَلْقته وعنده ممن كنت أعرفهم: عبدُ الله بن أحمد بن حنبل وإدريس الحداد وعلي بن سعيد الرازي، وحوله خلق كثير وهو فيهم كالشجرة الخضراء بين الهشيم تعلوه نَضْرةُ روحه وكأنما يُمدُّه بالنور عِرق من السماء فهو يتلألأ للعين؛ ولا يملك الناظر إليه أن يحس في ذات نفسه أنه الأدنى من رؤيته في ذات نفسه أن هذا هو الإنسان الأعلى
ورأيت على وجهه آلاماً تمسحه مسحةَ الأشواق لا مسحة الآلام، فهي آثارُ ما يجده في روحه القوية، لا كآلام الناس التي هي آثار الحرمان في أروحهم الواهنة الضعيفة فلا تمسح وجوههم إلا مسحة الغم والكآبة. وما يخطئ النظر في تمييز آلام السماء على هذه الوجوه السعيدة من آلام الأرض في الوجوه الأخرى فأن الأولى تتندَّى على روح الناظر بمثل الطّل إذا قطَّره الفجر، والأخرى تتَثَوّرُ كما تَهيج الغَبرةُ إذا ضربت الريحُ الأرض
كان الشيخ في وجود فوق وجودنا فلا تتلون له الأشياء ولا تعدو عنده ما هي في نفسها، ولا يحمل الشيء له إلا معناه من حيث يصلح أو لا يصلح، ومن حيث ينبغي أو لا ينبغي. فإنما تتلون الأشياء عندما يضع الشيطانُ عينَه في عين الناظر إليها؛ وإنما تزيد وتنقص في القلب عندما يكون روح الشيطان في القلب؛ وإنما يشتبه ما ينبغي وما لا ينبغي عندما يأتي الشيء من جهتين: جهته من طبيعته هو، وجهته من طبيعتنا نحن. وبهذا قد يجمع الإنسان المال ثم لا يجد في المال معنى الغنى، وقد تتفق أسباب النعيم ولا يكون منها إلا الذل. وكم من إنسان يجد وكأنه لم يجد إلا عكس ما كان يبغي، وآخرَ لم يجد شيئاً ووجد بذلك راحته.
قال ابن مسكين: وما كان أشدّ عجبي حين تكلم الشيخ فقد أخذ يجيب على ما في نفسي ولم أسأله كأن الذي في فكري قد انتقل إليه؛ فروى الحديث: إذا عظَّمتْ أمتي الدينارَ والدرهم نُزع منها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر حُرموا بَركةَ الوحي. ثم قال في تأويله:
إن ملك الوحي ينزل بالأمر والنهي ليخضع صولةَ الأرض بصولة السماء، فإذا بقي الأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر بقي عملُ الوحي إلا أنه في صورة العقل، وبقيت روحانية الدنيا إلا أنها في صورة النظام، وكان مع كل خطأ تصحيحُه فيصبح الإنسان بذلك تنفيذاً
للشريعة بين آمرٍ مطاع ومأمور مطيع، فيتعامل الناس على حالة تجعل بعضَهم أستاذا لبعض، وشيئاً منهم تعديلا لشيء، وقوة سندا لقوة؛ فيقوم العزمُ في وجه التهاون، والشدة في وجه التراخي، والقدرة في وجه العجز. وبهذا يكونون شركاءَ متعاونين، وتعود صفاتهم الإنسانية وكأنها جيشٌ عامل يناصر بعضه بعضا فتكون الحياة مفسرةً مادامت معانيها الساميةُ تأمر أمرها وتلهم إلهاَمها ومادامت ممثَّلة في الواجب النافذ على الكل
والناس أحرار متى حكمتهم هذه المعاني فليست حقيقة الحرية الإنسانية إلا الخضوع للواجب الذي يحكم، وبذلك لا بغيره يتصل ما بين الملك والسُّوقة وما بين الأغنياء والفقراء اتصالَ الرحمة في كل شيء واتصالَ القسوة في التأديب وحده. فبركة الوحي إنما هي جعل القوة الإنسانية عملا شرعيا لا غير
أما تعظيم الأمة للدينار والدرهم فهو استعباد المعاني الحيوانية في الناس بعضِها لبعض، وتقطُّعُ ما بينهم من التشابك في لحُمة الإنسانية، وجعل الكبير فيهم كبيرا وإن صغرت معانيه والصغير فيهم وإن كبر في المعاني؛ وبهذا تموج الحياة بعضها في بعض ولا يستقيم الناسُ على رأي صحيح، إذ يكون الصحيح والفاسد في ملك الإنسان لا في عمل الإنسان، فيكنز الغني مالا ويكنز الفقير عداوة كأن هذا قتل مالَ هذا وكأن أعمالا قتلت أعمالا، وترجع الصفاتُ الإنسانية متعادية وتباع الفضائل وتشترى، ويزيد من يزيد ولكن في القسوة، وينقص من ينقص ولكن في الحرية، وتكون المنفعة الذاتية هي التي تأمر في الجميع وتنهي، ويدخل الكذبُ في كل شيء حتى في النظر إلى المال فيرى كل إنسان كأنما درهمهُ وديناره أكبر قيمة من دينار الآخر ودرهمه فإذا أعطي نقص فغش، وإذا أخذ زاد فسرق؛ وتصبح النفوس نفوساً تجارية تساوم قبل أن تنبعث لفضيلة وتُماكِسُ إذا دُعيت لأداء حق، ويتعامل الناس في الشرف على أصول من المعِدة لا من الروح، فلا يقال حينئذ إن رغيفين أكثر من رغيف واحد كما هي طبيعة العدد، بل يقال إن رغيفين أشرفُ من رغيف كما هي طبيعة النفاق
أما التجارة وهي التفسير الظاهر لمعاني النفوس فتصبح بين الغش والضرر والمماكرة، وتكون يقظة التاجر من غفلة الشاري وتفسد الإرادة فلا تحدث إلا آثارها الزائغة. وما التاجر في الأمة القوية إلا أستاذ لتعليم الصدق والخلق في الموضع المتقلب فكلمته كالرقم
من العدد لا يحتمل أزيد ولا أنقص مما فيه، ويمتَحَن بالدنيا والدرهم أشدَّ مما يمتحن العابد بصلاته وصيامه. وقد شهد رجل عند عمر بن الخطاب في قضية فقال عمر: ائتني بمن يعرفك، فأتاه برجل أثنى عليه خيراً، فقال له عمر: أنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال فكنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال: فعاملته بالدينار والدرهم الذي يستبين به ورعُ الرجل؟ قال: لا
قال عمر: أظنك رأيته قائماً في المسجد يُهَمْهمُ بالقرآن يخفض رأسه طوراً ويرفعه أخرى. قال: نعم
قال: فاذهب فلست تعرفه
وإنما التاجر صورة من ثقة الناس بعضهم ببعض وإرادة الخير واعتقاد الصدق، وهو في كل ذلك مظهر توضع اليد عليه كما تجسُ اليدُ مرض المريض وصحته
فإذا عظمت الأمة الدينار والدرهم فإنما عظمت النفاق والطمع والكذب والعداوة والقسوة والاستعباد؛ وبهذا تقيم الدنانير والدراهم حدوداً فاصلة بين أهلها، حتى لتكون المسافة بين غني وفقير كالمسافة بين بلدين قد تباعد ما بينهما. وإنما هيبة الإسلام في العزة بالنفس لا بالمال، وفي بذل الحياة لا في الحرص عليها، وفي أخلاق الروح لا في أخلاق اليد، وفي وضع حدود الفضائل بين الناس لا في وضع حدود الدراهم، وفي إزالة النقائص من الطبع لا في إقامتها، وفي تعاون صفات المؤمنين لا في تعاديها، وفي اعتبار الغني ما يُعمل بالمال لا ما يجمع من المال، وفي جعل أول الثروة العقل والإرادة لا الذهب والفضة
هذا هو الإسلام الذي غلب الأمم، لأنه قبل ذلك غلب النفس والطبيعة
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
عصر الخفاء
البارون فون أوفنباخ
داعية ومغامر ومشعوذ
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان القرن الثامن عشر عصر الخفاء في أوربا، تزدهر فيه الدعوات والحركات السرية، ويزدهر فيه أقطاب الدعاة السريين؛ ففي أوائله نرى حركة البناء الحر (الماسونية) تتغلغل في أنحاء أوربا، وتقوم طائفة أخرى من الحركات والجمعيات السرية؛ وفي أواخره نرى طائفة من أقطاب المغامرين الذين يتشحون بأثواب الخفاء والشعوذة يجوبون أوربا من أقصاها إلى أقصاها، ويثيرون الروع والدهشة أينما حلوا؛ ولهؤلاء الدعاة المغامرين سير عجيبة تفيض بها سير القرن الثامن عشر، وتبدو كأنها قصص مغرق، بيد أنها ترجع في الغالب إلى كثير من الحقيقة، وكل ما هنالك أن هذه الحقيقة يكتنفها كثير من الغموض والخفاء يرجع إلى ظروف العصر والمجتمعات التي ظهر فيها أولئك الدعاة المغامرون
ومما يلاحظ أن معظم المغامرين والدعاة السريين الذين ظهروا في هذه الفترة هم يهود أو ينتمون إلى أصل يهودي، وأن معظم الحركات والدعوات السرية التي ازدهرت فيها ترجع أيضاً إلى أصل يهودي، أو نلمس فيها على الأقل وحي الدعاية اليهودية؛ وهذه الملاحظة ترجع في الواقع إلى ظاهرة تاريخية أعم، وهي أن اليهودية كانت منذ العصور الوسطى مستقى أو مبعثاً لكثير من الحركات والجمعيات السرية التي قامت في أوربا، ومعظمها يرمي إلى غايات هدم دينية أو اجتماعية، تقصد بها النصرانية ومبادئها وعقائدها قبل كل شيء
وقد كانت (الكابالا) اليهودية منذ العصور الوسطى أكبر مصدر لهذه الدعوات والرموز السرية. والكابالا شهيرة في تراث اليهودية الروحي والفلسفي، وهي عبارة عن مزيج من الفلسفة والتعاليم الروحية، والرموز السحرية، يتوارثها أحبار اليهودية ودعاتها منذ أقدم العصور، وأخص تعاليمها الروحية أن الله وهو الكائن المطلق الخالد ينفث من نفسه إلى عالم الأرواح النقية، وأن روح الإنسان تنتقل من جسم إلى جسم حتى تعود في النهاية إلى
الله وتفنى فيه؛ ولكن الكابالا اشتهرت بالأخص برموزها السرية وتعاويذها السحرية، وقد كانت هذه مدى العصور تراث الخفاء في يد الدعاة والمشعوذين، يستغلون به سذاجة الكافة، ويتخذونه سلاحاً قوياً لبث دعواتهم وتحقيق غايتهم في مجتمعات مؤمنة يروعها السحر والخفاء على كر العصور
وقد بلغت هذه الدعوات والتعاليم السرية اليهودية ذروة القوة والذيوع في القرن السابع عشر؛ وكانت بولونيا، وبالأخص مقاطعة بودوليا التي كانت يومئذ منزلا لطوائف كثيرة من اليهود، مركزاً للدعوة الكابالية؛ وكانت هذه الدعوة تتمخض من آن لآخر عن فورات دينية يتردد صداها في المجتمع اليهودي كله. وفي أواسط القرن السابع عشر ظهر في تركيا شابتاي زيبى، وهو داعية يهودي زعم أنه المسيح المنتظر، فأثار ظهوره ومزاعمه فتنة كبيرة في المجتمع اليهودي؛ ولم يكن (المسيح المنتظر) سوى داعية ماهر من دعاة (الكابالا)؛ وفي أواسط القرن الثامن عشر ظهر في بولونيا عدة متعاقبة من الدعاة الكاباليين، أشهرهم إسرائيل البدولي الذي أسس طائفة (الحسديم)؛ وكان إسرائيل بارعاً في ضروب الشعوذة واستخدام الرموز والتعاويذ السحرية، فلقيت دعوته صدى كبيراً، والتف حوله كثير من اليهود الذين خرجوا على تعاليم (التلمود) وتقاليده
وفي ذلك الحين أيضاً ظهر داعية من أعظم دعاة الكابلا، وأشدهم خفاء وغموضاً، فأثارت شخصيته الغامضة، وحياته العجيبة، ومزاعمه الخارقة، وبذخه الطائل أيما روعة ودهشة في مجتمعات أوربا الوسطى. واسم هذا الداعية الغريب يعقوب فرنك، وكل ما نعرف عن نشأته وحياته الأولى أنه ولد في بولونيا، وكان في حداثته يشتغل بتقطير الخمور؛ ثم تجول حيناً في بلاد القرم وفي تركيا، ودرس تعاليم (الكابالا) ورموزها دراسة عميقة، واتصل بأنصار شابتاي زيبى ودعاهم إلى لوائه، ثم عاد إلى بودوليا منزل الحركة الكابالية، وهنالك أسس في سنة 1755 طائفة جديدة تعرف بجماعة (الزوهاريين) نسبة إلى (زوهار) أو كتاب الضوء، وهو من الكتب العبرية الكابالية؛ ولم يلبث أن ذاعت دعوته وقويت عصبته؛ ونهض لمقاومته جماعة (التلموديين) الرجعيين، ونشبت بينهما خصومة قوية، فالتجأ فرنك إلى حماية أسقف كامنيك وأفضى إليه بميوله النصرانية، وأحرق التلمود علناً؛ وعاونه الأسقف على مقاومة خصومه حيناً ولكنه لم يلبث أن توفى، واشتد الأحبار اليهود في
مهاجمة فرنك ومطاردته، وأوقعوا به لدى حكومة وارسو، ولدى مبعوث البابا، وصوروه للسلطات الدينية والمدنية يهودياً مرتداً، ونصرانياً مماذقاً، وأن دعايته خطر على العقائد المرعية، فهبت السلطات لمقاومته، وبدأت يد المطاردة تعمل لسحق (الزوهاريين) وتشريدهم
والواقع أن مذهب فرنك لم يكن يهودية خالصة ولا نصرانية خالصة، بل كان مزيجاً غريباً من اليهودية والنصرانية والوثنية؛ ولم تكن بولونيا مهداً خصباً لمثل هذه الدعوات الجريئة؛ فلم يمض بعيد حتى قبض على فرنك بتهمة الارتداد الكاذب ونشر الإلحاد والكفر، وزج إلى قلعة شنتشوف، وبادر كثير من أنصاره بالفرار إلى تركيا، واعتنق الكثلكة كثير ممن بقى منهم في بولونيا، ولكنهم بقوا يهودياً في سرائرهم، وقبض على عدد منهم، وحكم على البعض بالأشغال الشاقة، ولكن كثيرين منهم استطاعوا أن يتقوا بستار الكثلكة ويل المطاردة؛ ولقي الذين هاجروا إلى تركيا عنتاً واضطهاداً من السلطات الدينية في مولدافيا، وانقض عليهم العامة ونهبوهم، وتفرقوا في كافة الأنحاء. أما يعقوب فرنك فلبث يرسف في سجنه حتى سقطت قلعة شنتشوف في أيدي الروس في سنة 1772، وعندئذ أطلق سراحه؛ فتجول حيناً في بولونيا وبوهيما ومورافيا متشحاً في الظاهر بثوب الكثلكة، وهو يجمع الأموال والرسوم الفادحة من أنصاره وأبناء جلدته، ويثير الروع والإجلال بين الكافة بمظاهر بذخه؛ وكان مذهب الزوهاريين قد ذاع في المجتمعات اليهودية في تلك الأنحاء، وكانت تعاليمهم أكثر جنوحاً إلى النصرانية، فهم ينكرون التلمود، ويسلمون بالتثليث والحلول، ولكن ينكرون أن المسيح وحده أهل للحلول؛ وكان هذا المزيج بين المذاهب والتعاليم المختلفة ملاذ الدعاة في كل عصر، فهم يزعمون دائماً أنهم ينشئون مذهباً أو ديناً جديداً، ولكنهم يعمدون دائماً إلى الاقتباس من المذاهب والأديان القائمة، ويسبغون على مزيجهم نوعاً من الجدل الغامض للتمويه على العامة والبسطاء
على أن يعقوب فرنك غدا مذ قوضت دعائم طائفته رجلا آخر، فهو لم يبق بعد داعية يتزعم مذهباً جديداً؛ ولم يبق بعد اعتناق الكثلكة يهودياً ينفث دعاياته إلى أبناء دينه؛ بل غدا في الواقع شخصية جديدة يحوطها خفاء من نوع جديد؛ ذلك أنه ظهر فجأة في المجتمع الرفيع، يعيش في بذخ شرقي طائل، ويحيط نفسه بحاشية كبيرة فخمة، ويدهش المجتمعات
الرفيعة في ألمانيا والنمسا بروعة مظاهره وفيض بذخه؛ ومازالت حياة فرنك في تلك الفترة لغزاً، وما زال مصدر تراثه المدهش سراً على التاريخ؛ ومن ذلك الحين يعيش فرنك في فينا وفي برون على مقربة منها، تحيط به أروع مظاهر الفخامة والبذخ، كما يحيط به أعمق الأسرار وأغرب المزاعم؛ ولبث فرنك مدى حين يدهش البلاط النمسوي وكل مجتمع فينا الرفيع بشخصيته الخفية، وحياته الفخمة الباذخة؛ وكانت له ابنة حسناء تدعى (حوه)، استطاعت أن تتقرب من الإمبراطورة ماريا تيريزيا، وأن تنال لديها حظوة ونفوذاً، وأن تمهد لأبيها كثيراً من السبل؛ ولكن الريب الذي يلاحقه أينما حل كان يحيط دائماً بشخصيته ومحيطه ووسائله ومزاعمه؛ ولم يلبث أن اضطر إلى مغادرة النمسا ليتقي شر الاتهام والمطاردة، وعندئذ تحول إلى مدينة أوفنباخ بألمانيا على مقربة من فرانكوت، واستقر بها مع حاشيته الكبيرة، وعاش هنالك بنفس البذخ الطائل الذي كان مثار الروع والدهشة والإعجاب أينما حل
وعاش فرنك في أوفنباخ أعواماً طويلة، وتسمى بالبارون فون أوفنباخ، وهو لقب يغلب عليه في كتب التاريخ والقصص؛ وأثار بروعة بذخه ومظاهر طلعة المجتمع الألماني ودهشته كما أثار دهشة المجتمع النمسوي من قبل. ويقدم إلينا المؤرخ الألماني بيتر بير وصفاً روائياً شائقاً لحياة فرنك العجيبة وبذخه المدهش فيقول لنا: (كانت له حاشية من بضع مئين من الفتيان والفتيات اليهود ذوي الحسن الرائع؛ وكان يذاع أن صناديق المال تنهمر عليه في كل يوم ولا سيما من بولونيا، وكان يخرج كل يوم في موكب حافل ليقيم شعائره في العراء، في عربة تجرها جياد مطهمة، ومن حوله عشرة أو اثنا عشر فارساً بروسيا في حلل حمراء خضراء موشاة بالذهب، وقد شهروا الرماح ووضعوا في قلنسواتهم رموزأً من النسور أو الوعول أو أهلة وشموساً وأقماراً؛ وكان الماء يصب دائماً حيثما كان يقيم شعائره؛ وكان يؤم الكنيسة في مثل هذا البذخ، وهنالك يؤدي القداس بطريقة خاصة، وفي خشوع خاص؛ وكان أنصاره يعتقدون فيه الخلود، بيد أنه توفى في سنة 1791؛ ودفن في بذخ يعدل بذخ حياته، وسار وراء نعشه موكب من ثمانمائة؛ بيد أن سر ثرائه وبذخه دفن معه في قبره؛ وانحدرت أسرته بعد وفاته إلى حالة من البؤس تدنو إلى التسول؛ وعبثاً حاولت تستدر عطف أنصاره أو صدقتهم؛ ولم يمض سوى قليل حتى غمرها النسيان
والعدم، واضطرت لكي تعيش أن تزاول أعمال الحياة الفانية)
هذه في قصة يعقوب فرنك وقصة حياته العجيبة. قصة مغامر ومشعوذ بارع استطاع أن يستغل ظروف عصره، وما كان يسود مجتمع عصره من إيمان وتعلق بالخوارق والأساطير. بيد أنه من الخطأ أن نقف عند هذه الصورة الظاهرة من حياته. ذلك أن حياة فرنك كانت سراً من الأسرار التي لا تنفذ إليها طلعة الكافة، وكان وراء هذه الحياة الفخمة الباذخة ناحية أخرى يغمرها الخفاء المطبق. كل كان فرنك يعمل لنفسه وبوسائله الخاصة أم كان يعمل بوحي قوة خفية أخرى تمده بأسباب البذخ الطائل وتدفعه إلى المجتمع مزودا بتلك المظاهر الرائعة لكي يعمل الرائعة لكي يعمل على بث داعية معينة وتحقيق أغراض معينة؟ وتحقيق أغراض معينة؟ لقد كان العصر الذي ظهر فيه فرنك عصر الخفاء حقاً، وكانت موجة من الخفاء والتعلق بالخوارق والمجهول تغمر مجتمعات أوربا الرفيعة وتملك عليها تفكيرها وأهواءها؛ وفي نفس الوقت الذي ظهر فيه فرنك مسلحاً بأسراره ومظاهره العجيبة، ظهر يوسف بلسامو أو الكونت كاجيلو سترو مسلحاً بمثل هذا الخفاء وأثار دهشة المجتمعات الرفيعة ولا سيما في فرنسا بمظاهره وأعماله العجيبة ومزاعمه الخارقة؛ وظهر في نفس الوقت مغامر آخر من نفس الطراز وإن كان أقل روعة وتأثيراً، وهو الكونت سان جرمان واقتفى أثر زميله في التذرع بالخوارق. ومما يلفت النظر أن الثلاثة كانوا يهوداً؛ وقد كانت اليهودية يومئذ مبعث الحركات والدعوات السرية، وكانت الكابالا اليهودية كما أسلفنا مستقى خصباً للدعاة السريين فيما يعرضون من ضروب الرموز والأساليب السحرية، وكانت حركة البناء الحر (الماسونية) يومئذ تضطرم في جميع أوربا؛ وقد أثبت البحث الحديث أن لحركة البناء الحر أغراضاً خفية غير الأغراض الإنسانية التي تتظاهر بها، وأنها تعمل لغاية ثورية شاملة هي سحق الأديان والمعتقدات القائمة كلها، وإدماج الإنسانية كلها في نوع من التفكير الحر المطلق والمساواة الاجتماعية المطلقة. ويرى بعض الباحثين أن الثورة الفرنسية كانت مؤامرة (ماسونية) ونفثة من نفثات البناء الحر، وأن محافل البناء الحر هي التي نظمت خططها وبرامجها الأولى، بل يرى بعض الباحثين أن الثورة البلشفية الحديثة ليست بعيدة عن تأثير البناء الحر، وأن ما ترمي إليه من إحداث ثورة عالمية يطابق نفسه الغاية التي يعمل لها البناء الحر؛ وقد كان أولئك الدعاة المغامرون
الذي خلبوا الباب أوربا في القرن الثامن عشر يتصلون بمحافل البناء الحر اتصالاً وثيقاً وإن يكن خفياً. أفليس لنا نعتقد بعد ذلك أن يعقوب فرنك لم يكن مغامراً أفاقاً يعمل لنفسه ولمطامعه الشخصية، وأنه بالعكس كان داعية خطيراً يبعث حركة خطيرة لها صلة بخطط البناء الحر وغاياته؟ وأنه كان يستمد المال الوفير والنصح والحماية من قوة خفية أعظم؟ هذا ما نرجح، وهذا ما يؤيد خفاء حياته وخفاء وسائله ومزاعمه وغاياته، واتشاحه بثوب الدعوة الدينية التي كانت على كر العصور ملاذاً لمختلف الدعوات والغابات.
محمد عبد الله عنان
فلاسفة الإسلام والتوفيق بين الفلسفة والدين
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
سيداتي، سادتي!
أشكر قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية على أن هيأ لي فرصة للتحدث إليكم الليلة في موضوع جاف ودقيق؛ ولست أدري هل دقته منشأ جفافه، أم جفافه زاد في دقته وغرابته؛ ومهما يكن فالذي أستطيع أن أؤكده لكم أنكم لستم بصدد موضوع من تلك الموضوعات الطريفة المسلية التي تمر بالمستمع في شوق ورغبة وهدوء وسكون، وقد أعذر من أنذر! على أن لي في سعة صدركم وعظيم انتباهكم ما يشجعني على القول برغم ما يصادفني من صعوبات. وما فكرت في أن أخوض معكم غمار هذه الأحاديث إلا رغبة منى في أن أوجه النظر إلى شطر من الثقافة الإسلامية أهمله أهله وتغافل عنه ذووه. وأعني بهذا الشطر الدراسة العقلية والبحث النظري في الإسلام. للإسلام فلسفة انفردت بخصائصها ومميزاتها وأضحت ذات شخصية مستقلة. فليست مجرد الفلسفة الأرسطية مصوغة في عبارات عربية كما يزعم رينان، ولا فلسفة مدرسة الإسكندرية منسوبة فقط إلى بعض رجال الإسلام كما يدعي دهيم. كلا بل هي فلسفة ذات موضوع خاص ومشاكل معينة وطريقة البحث جديدة إلى حد كبير. هذه الفلسفة مجهولة ومهملة إلى درجة لم تصل إليها فيما أعتقد أية فلسفة أخرى. فرجالها لا يكادون يعرفون، وكتبهم ليست أعظم حظاً منهم؛ ولا يزال قدر منها مخطوطاً إلى اليوم دون أن يفكر أحد في طبعه ونشره. ولو لم يقيض الله لهذا التراث بعض المستشرقين لما عرف عنه شيء وتقي في طي الكتمان إلى الأبد. وما أجدرنا أن نقوم نحن على إحياء مجدنا والإشادة بذكر رجالنا كي يتصل حاضرنا بماضينا ونؤسس نهضتنا على أسس متينة من القديم الحي والجديد النافع
قلت أيها السادة إن موضوعنا دقيق، وعنوانه كاف للدلالة على ما فيه من أمور شائكة ومشاكل عويصة. فان الأبحاث الدينية في جملتها مثار اتهامات وتأويلات وشبه لا حصر لها. وقد ساد بلدنا في العشرين سنة الأخيرة روح اتهام خبيثة ترمي بالإلحاد والزندقة والتمرد والكفر كل من حاول تفسير ظاهرة من الظواهر الدينية تفسيراً تاريخياً أو عقلياً.
لذلك تحاشى كثير من الباحثين هذا الميدان وتجنبوه اتقاء لما فيه من شرر متطاير وعراك ونضال. غير أني أشعر بنسمة من نسمات التسامح الإسلامي القديم تهب علينا من جديد، وألمح في صفوف قادة الرأي والمفكرين اتجاها نحو الحرية وسعة الصدر وطلاقة التفكير. ولا أدل على هذا من خمود تلك النعرة القديمة، نعرة الإباحيين والمستمسكين واللادينيين والدينيين. ويغلب على ظني أنه لو كان تقدم الزمن عشر سنين بكتاب ككتاب (حياة محمد) مثلاً للدكتور هيكل لعد في صف المؤلفات المحاربة المطرودة. أما اليوم فانه مقروء ومرغوب فيه بشكل يدعو إلى الإعجاب والتقدير. وليس هناك شك في أن لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي يداً في هذه النزعة الصالحة والتسامح الجديد. وإذا كانت النفوس اليوم أكثر استعداداً لتفهم مسائل الدين في جو حر طليق فأني لا أرى غضاضة في أن أتحدث عن بعضها. على أني لست في هذا الحديث إلا رسول الأمين والناقل الصادق لما قال به فلاسفتكم الأقدمون. فمهمتي أن أنقل إليكم آراء كبار فلاسفة الإسلام، وأردد بينكم أصواتاً تقادم بها العهد، وأبعث من تحت الرغام أشباحاً طال رقادها، وأبين لكم كيف حاول الفارابي وابن سينا وابن رشد التوفيق بين الفلسفة والدين
الدين وحي الله، ولغة السماء وغذاء القلوب، ومصدر الأوامر والنواهي. فكيف نوفق بينه وبين الفلسفة التي هي صنع البشر ولغة الأرض، ومجال الأخذ والرد والبحث والتعليل؟ كيف نوفق بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية، والأولى عمادها الإلهام، والثانية أساسها البرهان؟ كيف نوفق بين السمعيات والعقليات، بين المسلمات واليقينيات؟ كيف نوفق بين أفكار العامة المبنية على البساطة والسهولة، وآراء الخاصة الناتجة عن التفكير الزائد والتأمل العميق؟ مهمة شاقة قطعاً ومحاولة يعز أن تكلل بالنجاح. ولكنها ضرورية لقوم عاشوا في العالم الإسلامي واعتنقوا الإسلام، وكانت دراستهم بل حياتهم كلها خاضعة للجو المحيط بهم، ومتأثرة بمختلف العوامل والظروف التي استولت على عصرهم. فلم ير الفلاسفة المسلمون بداً من محاولة التوفيق بين معتقداتهم وأبحاثهم. وهذه المحاولة هي حجر الزاوية في فلسفتهم وأخص خصائصها، وبها تتميز من الفلسفة الأرسطية وتبدو في ثوبها الفذ المستقل. ففي كل خطوة من خطاهم، وفي كل بحث من أبحاثهم، صوب هؤلاء الفلاسفة نحو هذا الغرض واتجهوا نحو هذه الغاية. وكان لمجهودهم أثر يذكر في انتشار
الفلسفة ونفوذها إلى صميم الدراسات الإسلامية الأخرى. ويعد الفارابي أول من سلك سبيل هذا التوفيق وأظهره في شكل مهذب منسق. ثم أتى بعده ابن سينا فسار على سنته واهتدى بهديه، ووسع طريقته وكمل ما فاته، إلا أن محاولة التوفيق التي قام بها هذان الفيلسوفان لم ترق لدى الغزالي، فشن عليها الغارة وأثار عليها حرباً شعواء ونقض أصولها وفروعها وأعمل معوله في هدم بنائها الفخم وأركانها المتينة؛ وكتابه تهافت الفلاسفة قائم على انتزاع أحجار هذا البناء الواحد بعد الآخر، وإثبات أن الفلاسفة أساءوا إلى الفلسفة والدين معاً بمحاولتهم التوفيق بينهما. وقد جاء ابن رشد أخيراً مدافعاً عن أسلافه الفلاسفة ومبيناً ما في حجج الغزالي من مغالطة وسفسطة. ولم يمنعه تعصبه الزائد لأرسطو وعنايته الكبيرة بالفلسفة القديمة من أن يقف على هذه المشكلة ثلاثة كتب هامة هي: تهافت التهافت في الرد على الغزالي، وفصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ومناهج الأدلة في عقائد الملة. ولا يعنينا كثيراً أن نعرف ما إذا كان هؤلاء الفلاسفة مخلصين في عملهم أو غير مخلصين، فهذه مسألة تتجاوز دائرة بحثنا وتتعلق بأشخاصهم وصلتهم بربهم. وما لنا نتتبع بواطن الناس وقد دلت ظواهرهم على حسن نيتهم؟ ومن لنا بالوقوف على أمر هذه البواطن والله وحده هو الذي يتولاها ويدرك كنهها وخفاياها؟ على أن البحث عن السرائر مقرون غالباً بالشك وإلصاق تهم بأشخاص لم يقم دليل من أقوالهم وأفعالهم على اتهامهم. فلندع هذا جانباً، ولنقنع بأن نقرر أن فلاسفة الإسلام الذين نتحدث عنهم خلفوا كتباً تشهد برغبتهم الأكيدة في التوفيق بين دراستهم وعقائدهم، وفلسفتهم كلها قائمة على هذا الأساس
واضح أن التوفيق يستلزم على الأقل جانبين متقابلين وطرفين متنافرين. ومهمة الموفق أن يبعد أسباب الخلاف ويقرب الشقين المتباعدين؛ وهذا ما حاوله الفارابي وابن سينا في ربط الفلسفة بالدين، فقد كان أمامهما من جهة الفلسفة الأرسطية تراث الإغريق وأسمى صورة لما أنتجه العقل الإنساني في ذاك الزمن، كما كانا يعتنقان من جهة أخرى عقائد الإسلام والملة الحنيفية السمحاء التي تدعو إلى تحرير الإنسان من قيوده وتوجيهه نحو البحث والنظر. وفي فلسفة أرسطو نواح لا تلائم أصول الدين، كما أن في الإسلام تعاليم قد لا تتفق ظواهرها والروح الفلسفية؛ فعنى الرجلان بصبغ مذهب أرسطوا بصبغة دينية وكسوة الدين بثياب فلسفية، وبذا أصبحت الفلسفة دينية، والدين فلسفياً؛ أو بعبارة أدق أصبحت
فلسفتهما ديناً ودينهما فلسفة. وليس في مقدورنا أن نأتي هنا على تفاصيل أوجه التوفيق التي حاولاها، وإنما نكتفي بالمسائل الرئيسية التي أدخلاها في الفلسفة والدين معاً. فنتبين النقط التي خالفا فيها أرسطو والحلول التي عرضناها لبعض المشاكل الدينية. وعلى هذا فأوجه التوفيق تنقسم إلى شعبتين، تتصل إحداهما بالفلسفة والأخرى بالدين، وكأن الموفقين شاءا أن يخطوا بالفلسفة نحو الدين في الوقت الذي قربا فيه الدين من الفلسفة؛ وكأن التصالح بين الطرفين، إن صح هذا التعبير القضائي، تم على تساهل متبادل وتضحية مشتركة. في الفلسفة الأرسطية ثلاث مسائل جوهرية تبعد عن تعاليم الإسلام: الأولى فكرة الإله ومدلولها الصحيح وتحديد صفات البارئ وخصائصه؛ والثانية الصلة بين الله والعالم وبيان ما إذا كانت الحركة والمادة محتاجتين إلى الله أو غير محتاجتين؛ والثالثة النفس وخلودها، نظرية كلامية ميتافيزيقية، وأخرى فلكية طبيعية، وثالثة سيكلوجية. هذه هي النقط الثلاث الهامة التي تباعد بين آراء أرسطوا وما جاء به الإسلام، وفي التعاليم الإسلامية من جانب آخر مشكلتان عظيمتان هما: مشكلة النبوة ومشكلة السمعيات. وقد شغل الفلاسفة بهما وعنوا بتفسيرهما تفسيراً علمياً ينطبق على مبادئ البحث العقلي. وسأعرض عليكم سريعاً أوجه الخلاف هذه وطريق علاجها
لم يعن أرسطو عناية خاصة بمعرفة الله، ولم يعتبرها غرضاً رئيسيا لفلسفته، ولم يدخلها في قوانينه الأخلاقية ولا في نظمه السياسية، ويظهر أنه نظر أولاً إلى العالم الحسي وبين أسبابه وعلله دون أن يفكر في قوة خفية تدبره، وبعد أن استكملت الطبيعة وسائلها وانتظمت الأفلاك في سيرها انتهى به المطاف إلى محرك أول أخص خصائصه أنه يحرك غيره ولا يتحرك هو. هذا المحرك الساكن أو المحرك الصوري هو الإله في رأيه، ولا يذكر من صفاته إلا أنه عقل دائم التفكير، وتفكيره منصب على ذاته. فإذا ما طالبته بتفاصيل أكثر وبيان أشمل ألفيت نفسك أمام صمت عميق وسكون مطبق. ذلك لأنه يتحرج عن الكلام في المسائل الدينية، ويعدها فوق مقدور البشر، ويصرح بأن الكائنات الأزلية الباقية وإن تكن رفيعة مقدسة ليست معروفة إلا بقدر ضئيل. وليت أرسطو وقف عند هذا الحد، بل جاوزه إلى ما هو أقبح وأشنع، فإن نظرياته المختلفة تشعر بتردد بين الوحدة والتعدد. حقاً إنه ينادي بالوحدة مردداً قول هومير إنه (ليس حسناً أن يكون هناك سادة
متعددون) ويلاحظ أن وحدة نظام العالم تستلزم وحدة سببه الغائي، ولكنه يقرر في مقام آخر أن لكل فلك محركا خاصاً لا يختلف كثيراً عن المحرك الأول والإله الأعظم. فالأفلاك وحركاتها تقوده إلى التعدد وإن جهر بالوحدة وبرهن عليها، وبذا لم يستطع التخلص تماماً من التقاليد الإغريقية القديمة التي كانت تعتبر النجوم آلهة. ففكرة الإله عنده غامضة وغير متمشية مع مذهبه، ولا تشغل حيزاً واضحاً في فلسفته، وأراني في غنى عن أن ألاحظ أن هذه الفكرة تختلف كل الاختلاف عن العقيدة الإسلامية. لذلك اضطر الفلاسفة المسلمون أن يبينوا حقيقة الله ويشرحوها شرحاً لا يدع مجالاً للإبهام والشك؛ وقد أثبتوا أن الله هو الموجود الأول والسبب الحقيقي لسائر الموجودات، وأنه منزه عن الشريك والنظير والمثيل والضد، هو الإله الواحد الحي القادر العليم الحكيم السميع البصير. يقول الفارابي:(الموجود الأول هو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها وهو بريء من جميع أنحاء النقص. . . فوجوده أفضل الوجود وأقدم الوجود ولا يمكن أن يكون وجود أفضل ولا أقدم من وجوده. . . فهو أزلي دائم الوجود بجوهره وذاته من غير أن يكون به حاجة في أن يكون أزلياً إلى شيء آخر يمد بقاءه، بل هو بجوهره كاف في بقائه ودوام وجوده. . . وهو مباين بجوهره لكل ما سواه ولا يمكن أن يكون الوجود الذي له لشيء آخر سواه). وفي هذا المعنى يقول ابن سينا إن (الأول لا ند له ولا ضد له ولا جنس له ولا فصل له فلا حد له ولا إشارة إليه إلا بصريح العرفان العقلي. وهو معقول الذات قائمها، فهو قيوم بريء عن العلائق والعهد والمواد وغيرها مما يجعل الذات بحال زائدة. وقد علم أن ما هذا حكمه فهو عاقل لذاته معقول لذاته. تأمل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأول ووحدانيته وبراءته عن الصمات إلى تأمل لغير نفس الوجود ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله وإن كان ذلك دليلاً عليه، لكن هذا الباب أوثق وأشرف، أي إذا اعتبرنا حال الوجود فشهد به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الوجود. وإلى مثل هذا أشير في الكتاب الإلهي: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم). أقول هذا حكم لقوم؛ ثم يقول: (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟) أقول إن هذا حكم الصدِّيقين الذين يستشهدون به لا عليه)، وقد برهن الفيلسوفان على وحدة الله بطريقة مبتكرة وفي مهارة ولباقة خلابتين، وإذا كان الله واحداً فإنا لا نستطيع أن نتصور له صفات خارج ذاته، بل هو عالم حي سميع
قادر بذاته. (فليس يحتاج في أن يتعلم إلى ذات أخرى يستفيد بعلمها الفضيلة خارجة عن ذاته، ولا في أن يكون معلوماً إلى ذات أخرى تعلمه، بل هو مكتف بجوهره في أن يَعلم ويُعلم، وليس علمه بذاته شيئاً سوى جوهره، فإنه يعلم وأنه معلوم وأنه علم، كل ذلك ذات واحدة وجوهر واحد) فالفارابي وابن سينا يقولان، كالمعتزلة، بوحدة الذات وبلغيان الصفات الخارجة عنها، وفكرة الإله عندهما أساس الذهب جميعه، وكل المسائل الأخرى متفرعة عنها. وفي هذا ما يبين مسافة الخلف بينهما وبين أستاذهما أرسطو
لم يفارق فلاسفة الإسلام أستاذهم في هذه النقطة فحسب، بل انفصلوا عنه في مسألة أخرى هي نتيجة لهذه، ألا وهي الصلة بين الله والعالم. وذلك أن أرسطو وقد قال يقدم المادة والحركة لم يدع لله مكاناً في هذا العالم. نعم إنه يسميه المحرك الأول ومعنى هذا أنه علة فاعلية، ولكنه يعود فيقول إنه محرك ساكن؛ وكل ما هنالك أن العالم يتجه إليه في حركته. فهو غرض وغاية فقط؛ وليس تأثيره في العالم بأكثر من تأثير التمثال الجميل في نفس المعجب به. وإله هذا شأنه يتنافى مع ما يصرح به القرآن من أن الله خالق كل شيء. فلا المادة ولا العالم يتصور لهما وجود بدون الله. والتغيرات الكونية على اختلافها ترجع إلى الخالق المبدع جل شأنه. إزاء هذا التناقض الواضح فجاء الفارابي وابن سينا إلى حل وسط فقالا إن المادة مخلوقة وقديمة. خلقها الله بفيض من عنده أولاً وتعهدها بعنايته ورعايته فيما بعد. وكلمة (فيض) هذه ليست من الكلمات التي تمر بنا دون أن نعيرها أية أهمية فإنها ذات مدلول خاص وأهمية تاريخية. ويراد بها أن الله وهو عقل محض وتفكير مستمر قد صدر عنه العقل الأول كما يصدر الضوء عن الشمس، وعن العقل الأول صدر العقل الثاني وهكذا إلى العقل العاشر. وهذه العقول مرتبة ترتيباً تنازلياً فأسماها العقل الأول وأدناها العقل العاشر. وهي موزعة على الأفلاك المختلفة لتمدها بالحركة وتحقق فيها النظام. ويختص العقل العاشر أو العقل الفعال بالعالم الأرضي وعنه صدرت المادة التي هي مخلوقة وقديمة في آن واحد. يقول الفارابي: (وأول المبدعات عنه شيء واحد بالعدد وهو العقل الأول ويحصل في المبدع الأول الكثرة بالعرض لأنه ممكن الوجود بذاته، واجب الوجود بالأول، ولأنه يعلم ذاته ويعلم الأول. وليست الكثرة التي فيه من الأول لأن إمكان الوجود هو لذاته وله من الأول وجه من الوجود. ويحصل من العقل الأول بأنه
واجب الوجود وعالم بالأول عقل آخر ولا يكون فيه كثرة إلا بالوجه الذي ذكرناه. ويحصل من ذلك العقل الأول بأنه ممكن الوجود وبأنه يعلم ذاته الفلك الأعلى بمادته وصورته التي هي النفس. والمراد بهذا أن هذين الشيئين يصيران سبب شيئين: أعني الفلك والنفس. ويحصل من العقل الثاني عقل آخر وفلك آخر تحت الفلك الأعلى. وإنما يحصل منه ذلك لأن الكثرة حاصلة فيه بالعرض كما ذكرناه بديا في العقل الأول، وعلى هذا يحصل عقل وفلك من عقل، ونحن لا نعلم كمية هذه العقول والأفلاك إلا على طريق الجملة إلى أن تنتهي العقول الفعالة إلى عقل فعال مجرد من المادة؛ وهنالك يتم عدد الأفلاك؛ وليس حصول هذه العقول بعضها من بعض متسلسلاً بلا نهاية، وهذه العقول مختلفة الأنواع كل واحد منها نوع على حدة، والعقل الأخير منها سبب وجود الأنفس الأرضية من وجه، وسبب الأركان (العناصر) الأربعة بواسطة الأفلاك من وجه آخر)، ويقول ابن سينا كذلك إن (الأول يبدع جوهراً عقليا هو بالحقيقة مبدع ويتوسطه جوهراً عقلياً وجرماً سماوياً. وكذلك عن ذلك الجوهر العقلي حتى تنم الأجرام السماوية وتنتهي إلى جوهر عقلي لا يلزم عنه جرم سماوي. فيجب أن تكون هيولي العالم العنصري لازمة عن العقل الأخير وعلى هذا فالفارابي وابن سينا يثبتان الخلق الذي جاء به القرآن وإن كانا يصورانه بصورة عقلية روحية، ويسلمان مع أرسطو بقدم العالم وإن اعترفا بمبدئه
(يتبع)
إبراهيم مدكور
التاريخ في سير أبطاله
3 -
ميرابو
ميرابو. . . تلك الأعجوبة!
جوته
للأستاذ محمود الخفيف
تتمة
صارت الغلبة للشعب، فلقد وقف ميرابو وقفة حاسمة كان في الثورة كما رأينا نجاتها؛ وليت شعري هل يحمل عمله هذا على الهدم أم هو يحمل على البناء؟ أتراه يوجه السفينة إلى حيث لا عاصم لها من الموج، أم تراه يجنبها الصخرة المعترضة؟ أدر الدفة يا ربانها! لكن الربان اليوم يزجيها ويستحثها! أكان عن طيش ذلك أم عن خبل؟ كلا فأنى لليطش أو الخبل أن يبلغا هذا الرأس الأشم؟ أولم ير الأشراف يأتمرون بالثورة ويرى الملك يتنمر بغتة ويهم أن يأتها من مقتلها؟ إنه يعرف ما يفعل يدرك متى يتخذ الهجوم سلاحاً ومتى يجعل من الصبر مثابة وأمنا. وإنك لتراه يجمع في ذلك إلى إقدام القائد حنكة السياسي
أكبرته باريس وكانت قد أعجبت بما قرأت له في صحيفته التي كان يصدرها دفاعاً عن آرائه، واليوم تخلص له الحب، ولو كان للرجل يومئذ مآرب خاصة كما تقول عنه خصومه لكان له من تلك الشهرة أعظم فرصة، ولكنه وقف من باريس موقف الحذر الفطن، إذ كان يخشى أن تنقلب الثورة من مظهرها الدستوري إلى مظهر دموي هو عنده الطامة الكبرى
ولكنه إذ يعمل على تفادي الخطر من ناحية الشعب لم يكن يأمن جانب البلاط، ولم ير في إذعان الملك وحمله السادة الممتازين على مجالسة العامة إلا سكون المتحفز الذي يتربص بالجمعية الدوائر ليضربها الضربة القاضية
ولم تلبث الحوادث أن أيدت ما رأى، فقد طافت شائعات السوء بالجمعية ثم أيقنت أن الملك يحشد حول باريس وفرساي من جنده نحو أربعين ألفاً، وأنه موشك أن يعود إلى سالف موقفه منها وهو اليوم بهؤلاء الجند أشد بطشاً وأعظم حولاً، ولقد أنكر ميرابو هذه السياسة المذبذبة من لدن ذلك الملك الذي كان بسياسته يوقظ لفتنة ويحركها؛ وتساءل في دهشة وفي
قوة حجة: (إذا كان الملك يريد أن ينفرد بالأمر دوننا فلم دعانا إليه؟ وإذا كان قد دعانا لحاجة إلينا فكيف يسوغ له أن يشهر السلاح في وجوهنا)؟
وتطلعت الجمعية إلى رجلها من جديد وانتظرت باريس منه القول الفصل، ووثب ديموستين الفرنسي مرة ثانية إلى الصدر فهز جنبات القاعة بل جوانب فرنسا بخطاب من أبلغ ما فاه به. ثم أراد أن يأخذ الطريق على من يكيدون للجمعية بالدس فاقترح أن ترسل وفداً إلى الملك يعلن له ولاءها ويرجوه أن يسحب الجند من حول باريس. ولقد جعلت الجمعية ميرابو على رأس ذلك الوفد؛ فلما جاء الملك أجاب متهكما:(إنه وحده الذي يحرك جنده كما يريد، وإذا كان النواب يخافون هؤلاء الجند فلينسحبوا إلى ما وراء باريس؛ وبعد ذلك بيومين عزل (نكر) من الوزارة يوم 11 يوليو سنة 1789
أدرك ميرابو أن الكارثة واقعة لا محالة. ولم تنقض ثلاثة أيام على عزل نكر حتى حملت باريس السلاح ودكت ذلك الحصن العتيد سجن الباستيل رمز الطغيان والعبودية
دخلت الثورة في دورها الدموي الرهيب؛ ولقد ذعرت الجمعية وخشيت أن تقع الحرب الأهلية فتقضي على الثورة والجمعية معاً؛ وكان رجلها غائباً عنها لما علم من وفاة أبيه. فلما عاد عاودها الأمل وأوفدت وفداً جديداً يعيد على الملك ملتمس الجمعية، ووقف ميرابو ينصحه قائلا:(بلغوا الملك أن جنوده الذين أحاطوا بنا من كل صوب قد غمرتهم أيدي أمرائه وأميراته ورجال حاشيته بالهدايا والتحف. وأن هؤلاء الجند وقد بهرهم بريق الذهب ولعبت برؤوسه الخمر باتوا يتغنون بسحق فرنسا وكل ذلك في اليوم السالف لليلة سان بارنلميو)
ولكن هاهو ذا رسول من قبل الملك ينبئ الجمعية بأنه في الطريق إليها، وهاهو ذا ميرابو ينصح إليها أن تلاقيه جادة صامتة معلنة حدادها على من قتلوا في باريس قائلا:(إن في صمت الشعوب درساً للملوك)
وجاء الملك يستعين بالجمعية على تهدئة الحال في باريس ثم يدخلها في رهط من النواب معلناً رضاءه عما اتخذته بعد سقوط الباستيل! ويسحب الجند منها ومن فرساي!
وكانت باريس بعد أن أعلنت غضبتها قد سيطرت على الموقف فألفت الحرس الوطني وجعلت رياسته للافيات وانتخبت بابي عمدة لها وأسست كثيراً من الصحف والنوادي
الثورية
أدر الدفة يا ربانها! لقد أحدق الخطر بها، فالربان مشفق يرقب مجراها وهو أشد حذرا وأكثر تشاؤما. لقد وقع ما كان يخشاه وجرت الدماء في باريس، وطاف شبح الفوضى بالأقاليم، وبات الشعب في سكرة النصر يتوعد ويتوثب، والملك لا يزال ألعوبة في يد بطانته وعلى الأخص في امرأته، والمهاجرون من الأشراف يؤلبون أوربا على الثورة، وغول الخراب المالي يطالع البلاد من كل ناحية
ولكن الربان وسط العاصفة لا يعرف اليأس سبيلا إلى قلبه. زار باريس فهبت تزاحم مهرجانه باريس، وطاف بخرائب الباستيل يشهد مصرع الظلم فامتلأت عربته بالزهور، ورأى الحرية الحمراء تعلن عن نفسها في أجواء المدينة راقصة صادحة، فهل أطربه ما سمع وما رأى؟ كلا بل أمضه ذلك وأزعجه
زادت الحوادث مهمته صعوبة ولكنها لم تفل من عزمه، ولعله كان يأمل أن يجد في اشتداد الأزمة مخرجا من الأزمة! وإن بدا ذلك متناقضا. كان يرجو أن يكف أعوان الملك من غلوائهم، ويصالحوا على الثورة نفوسهم، ولكنه ما لبث أن عرف أنهم لا يزالون يبيتون لها وهم بذلك يرسمون طريقهم إلى الهاوية ويجرون معهم ملكهم المسكين. ومن له بأن يدرك هؤلاء عاقبة طيشهم؟
يا لله! ألم يأن للذين استذلتهم شهواتهم وحطهم كبرياؤهم أن يفيقوا من غمرتهم؟ ما بال فرساي تتحدى في أشخاصهم باريس؟ ما بال أوانس البلاط وفرسانه تخف أحلامهم فيهينون في حفل بهيج يقيمونه لفرقة سويسرية من فرق الحرس الملكي شعار الثورة ويسخرون من مبادئها؟ يا ويحهم! ألم يكفهم ما باتوا فيه يتقلبون من نعمة، فهم ضاحكون ممن يبيتون على الطوى ويفيقون على الوساوس والأوهام؟ ولكن باريس ترسل إلى أختها رهطا من نسائها وغوغائها، فإذا الملك وحاشيته رهائن عندها يتخذ على الرغم منه من التويلري سجنا له!
أدر الدفة يا ربانها! لكنها جمحت اليوم والتوت عليه. وأنى للجمعية أن تقنع بما كانت تقنع به بالأمس؟ لقد صارت الكلمة لعامة باريس وأندية باريس وصحف باريس!
وإن المرء ليتساءل لم يخاف ميرابو كل ذلك الخوف من خطوات الشعب وانتصاراته؟ والجواب على ذلك يسير، فقد كان يرى في خطة الشعب ما يباعد بينه وبين الملكية وما
يحمل الملك وبطانته على الجد للقضاء على الثورة وهو لا يرى لها نجاحاً إلا في التوفيق بين القوتين، هذا إلى ما كان يخشاه من احتمال تدخل أصحاب العروش لحماية عرش فرنسا إذ كان المهاجرون لا يفتأون يوقعون بينهم وبين شعبهم العداوة والبغضاء، وأهم من ذلك كله فقد راحت الجمعية تعلن حقوق الإنسان وتثير عقيم الجدل حول الدستور، دون أن تتناول مشاكل البلاد الأساسية بالحل. فلقد ظلت الحالة المالية على ما هي عليه إن لم تكن ازدادت سوءا، وتعقد الموقف السياسي بين فرنسا وإنجلترا والنمسا، ومما ضاعف حرج الموقف أن الجمعية رأت ألا تجعل للملك سلطة فعلية في الاعتراض على القوانين، وفي إعلان الحرب والسلم، ولقد هال ذلك ميرابو فقال يوماً لصديقه لامارك:(إن البلاد مقدمة على أشد ضروب الفوضى، وما لم تتدارك الملكية فالفناء مصيرها حتما، ويوم يحيق بها الفناء وتضرب الفوضى بجرانها يساق الشعب إلى الرضى بالاستبداد المطلق، إذ يكون المستبد في تلك الحال في نظره هو المنقذ المصلح). وإنك لتراه بهذا كأنما يرى المستقبل ويصف لك مذابح سبتمبر وعهد الإرهاب وديكتاتورية روبسبير مما يدل على لقانة مدهشة!
وقف في الجمعية وكانت قد انتخبته رئيساً لها يدافع في عزم وقوة عن حق الملك في الاعتراض على القوانين، داعياً بكل ما في وسعه إلى تقرير مبدأ الملكية الدستورية؛ ولا تسل عما كان يبذله من جهد أعانته عليه قوة بدنه، وعما كان يعرض من آراء أوحت بها إليه دقة فهمه، وبعد نظره، وصدق تجربته؛ وهو في هذا الموقف الذي يؤود حمله الجبابرة لا يغفل شؤون وطنه فيفاوض (بت) في إنجلترا، ويتلمس حلا لإرضاء النمسا، ويلقي على الجمعية البيانات المسهبة في المشكلة المالية، ويلفت إليها أصحاب الرأي. وجملة القول أنك تراه يعمل عمل رئيس حكومة، وإن لم يكن له مركزه، حتى لقد وصفه كاي ديمولان بطل الهجوم على الباستيل بأنه (قنصل أكثر منه رئيس جمعية دستورية)
ألا ترى في ذلك الإخلاص كأروع ما يكون الإخلاص، وتلمس فيه الرجولة كأقوى ما تكون فيه الرجولة؟ ألا ترى كيف ينسى الرجل نفسه، ولا يذكر إلا وطنه؟ ولكن الجمعية وا أسفاه قد خذلته حين كان ينتظر منها العون. وظلمته حيث كان يطلب إليها الإنصاف!
أخذ الشك في نياته يتسرب إلى نفوس النواب، والشك إذا تملك النفس يعمي ويصم، وليس مثله داء يبدل عرف الناس نكرا، ويجعل نهارهم ليلا، ويلبس الحق بينهم بالباطل. أنظر
إلى هؤلاء النواب كيف يرون في رجلهم اليوم رجل الأمس، تخيفهم طويته وإن أعجبتهم حجته، أو تريبهم حماسته وأن هزتهم فصاحته، وتدفعهم إلى معارضته بديهته وإن أنقذتهم يقظته! ولكن أخيل الثورة لم تلن قناته وإن جاء غمزها ممن يعمل لهم، ولم تنفك عنه عبقريته وإن التوت عليه الأمور أو كادت؛ وظل يبسط آراءه للناس وينذرهم أن الثورة تقتل نفسها إن جرد الملك من سلطانه وجعل التشريع والتنفيذ جميعاً للشعب. وكان قد أدرك يومئذ أن الملك بعد أن صار رهينة في باريس، وبعد أن ترامى إلى سمعه وسمع حاشيته ما يريد العامة بنفوذه، وما تقول الصحف عنه، لابد أن يفكر في الالتجاء إلى أعداء البلاد، وما لبث ميرابو أن تحقق من ذلك، إذ علم أن المفاوضات كانت جارية بين البلاط الفرنسي والبلاط النمسوي؛ ومعنى هذا أن الحرب عما قريب ستكون كبرى مصائب البلاد!
وفي هذا الجهد الذي يبذله ميرابو دليل على مقدرة فائقة في السياسة تزيد إعجابنا بهذا الرجل، ويدحض فرية من يصفون أعماله بالهدم، وتسخر ممن يذكرونه فيجرؤن على تسميته كبير الغوغاء! على أن لكل عظيم حساده وأعداءه، كما أن له مناصريه وأصفياءه. وليست الحنكة السياسية فحسب ما ينطوي عليه موقف ميرابو، بل إن المرء ليعجب ببسالته، حين يواجه الثوار بتلك الآراء وحين يترفع عن تملق الشعب واسترضائه، وحين يجعل الإخلاص لما يرى أنه الحق فوق العواطف والأهواء الشعبية، ولو لم يكن له غير ذلك من المآثر والصفات، لعد بذلك الخلق وحده عظيما من العظماء!
يئس ميرابو من النواب ولكنه لم ييئس من نفسه وسنراه اليوم يخطو خطوة جعلها خصومه كبرى خطيئاته، وأود لو أجعلها كالعنوان من حسناته لولا ما أحاط بها من ظروف وما اكتنفها من ظنون، بل وما لحق بها من عيوب!
كان طبيعياً أن يلجأ إلى الملكية بعد أن أعياه صرف الشعب عن غيه، وبعد أن حيل بينه وبين منصب رسمي يستعين فيه بالقوة على تنفيذ سياسته. ولو أن نواب الجمعية أدركوا حقاً مصلحة وطنهم لعلموا أن هذا الرجل كان يومئذ خير من يضطلع بأعباء الحكم. ولكنه حين اقترح عليهم السعي إلى استبدال الوزارة القائمة بوزارة قوية بادروا إلى إصدار قرار يحرم الوزارة على كل عضو من أعضاء الجمعية، وما كان المقصود بهذا القرار سوى ميرابو وحده!
ولقد ثارت ثائرته لهذا القرار، فلم يتمالك أن صاح بالنواب قائلا:(سوف تذرفون الدمع دماً على ما تفعلون). وندم ميرابو أشد الندم أو قل أسف أشد الأسف على أن لم يكن بباريس عقب سقوط الباستيل، إذ لولا غيابه عنها لتشييع رفات والده لانتخب عمدة لها بدل باي، ولقد كان هذا المنصب يمكنه من صد تيار العنف أو على الأقل يمهد له سبيل الاتصال بالملك.
وهل كان في تطلع ميرابو إلى الحكم ما يشينه؟ كلا بل إن في ذلك ما يزيدنا احتراماً له وتقديراً لسياسته مادام الحكم إحدى وسائله إلى تنفيذ غرض يعتقد حقاً في صلاحيته، فضلا عن دفعه به خطراً يكاد يجتاح البلاد. وإن أعجب فعجب عد ذلك من نقائصه أو من نقائص أي زعيم في مثل موقفه يرى في الحكم طريقا إلى الخلاص! إن النقيصة كل النقيصة ألا يسعى الزعيم في تلك الحيلة ما وسعه السعي للوصول إلى الحكم
خطا ميرابو خطوته نحو الملكية ووسط صديقه لامارك لدى البلاط، وأخيراً قبل الملك أن يستعين بآرائه، وصار ميرابو منذ مايو سنة 1790 المستشار السري للملك! وهنا يأبى سلوكه الخاص إلا أن يختلط بسياسته العامة فيلحق بها كثيراً من الشوائب أطلق الناس فيما بعد من أجلها ألسنتهم فيه بكل فاحش من القول وباطل من الاتهام. وبيان ذلك أن ميرابو وقد غرق في الدين من أخمصيه إلى قمة رأسه بسبب تبذيره من ناحية وبسبب انشغاله بشؤون وطنه عن شؤونه الخاصة من ناحية أخرى، قد قبل أن يدفع عنه الملك ديونه وأن يجعل له أول كل شهر ستين ألفاً من الفرنكات
أيفسر عمله هذا بالخيانة؟ ويعتبر قبوله المال رشوة؟ هل غير خطته فمالأ الملك على حساب أمته في نظير ما أخذ من مال؟ كلا! بل لقد ظل أميناً لمبدئه وفياً لوطنه، إذاً فمن الظلم أن يفسر عمله بالخيانة، ومن الإسراف أن نعتبر قبوله المال رشوة، بيد أني وإن نفيت الخيانة والرشوة عنه وشايعت من يعتبرون هذا المال مكافأة له على خدماته، لا يسعني إلا أن أقرر أنه ليؤلمني أن يلجأ من كان له مثل عظمته وبسالته إلى العمل في الخفاء مهما كان من نقاء طويته ومهما جر ذلك من غضب الشعب عليه، كذلك ما كان لزعيم أن يبيع خدماته بالمال ولو عدم قوت يومه
أخذ ميرابو يقدم التقارير للملك، كما أخذ يدافع بكل ما في نفسه من قوة عن مبدأ الملكية
الدستورية، ولكن الجمعية أوشكت أن تتم الدستور في سبتمبر وجعلت حق الملك في الاعتراض على القوانين حقاً معلقاً، ولم يسع الملك سوى الإذعان، فلقد أصبحت باريس قوة خطيرة وظهر اليعاقبة أبطال الإرهاب فيما بعد واستهان الناس بالملكية واجترأت عليها الصحف والأندية
على أن الأمر قد أصبح اليوم أعظم خطراً من الدستور وما يتعلق بالدستور. فلقد يئس الملك من الثورة وما تدعوا إليه ويئس أصحاب الثورة من الملكية وما تحافظ عليه، ولذلك لم يكن عجباً أن يلجأ الملك إلى أعداء فرنسا، وأن يلجأ الثوار إلى الاستعداد واليقظة حتى لقد عول الملك على الهرب سراً!
وكان ميرابو الرجل الوحيد الذي لم يأخذه دوار الزوبعة فألم بالموقف من شتى نواحيه، وتمثلت لعينه الساهرة تلك الهوة السحيقة التي أوشكت أن تتردى فيها البلاد، فتلفت حوله عله يصيب من يعينه، فهذا موقف يتطلب معونة الرجال، ولكن بصره وا أسفاه ارتد إليه خائباً، فلقد أبى سوء طالعه، أو على الأصح سوء طالع فرنسا إلا أن تحرم من خبرة الرجل الوحيد الذي كان يستطيع خدمتها، إذ أحيط بالريبة من جميع الجهات. تطلع إلى الملكة وكان يقول:(إنها الرجل الوحيد في حاشية الملك)، ولكن الملكة لم ترى فيه سوى صعلوك يتكلف خلال العظماء على حساب الظروف، وتطلع صوب الملك، ولكن الملك ما وثق به يوماً وما كان يرى فيه إلا خصما يظهر عكس ما يبطن، ولذلك اتقى شره فاشتراه بماله واحتمى خلفها. كتب شاتوبريان بعد الثورة يقول: (كانت المأساة الحقيقية أن الملك في أحرج أيامه لم يثق في هذا الرجل، وما كان يضره أن جاء ذلك متأخراً. وما كان يضره أن يعمل بنصائحه أو أن يتقبلها قبولاً حسناً ولو في ظاهر الأمر، وأي مأساة لعمري أفظع من أن تهيئ الأقدار رجلاً مثل هذا، وفي مثل هاتيك الظروف فلا ينتفع به؟! على أنه وقد أعوزه الرجال قد اهتدى إلى رجل واحد، وذلك هو شخصه، هو نفسه، فأطلع الملك على جلية الأمر ذاكراً له أن الهرب معناه التنازل عن العرش وضياع حقه فيه، وما على مولاه سوى أن يخرج في جيشه إلى مدينة غير باريس فيتحاكم إلى شعبه طالباً إنصافه ومعونته معلناً رضاءه عن مبادئ الحرية والمساواة، ولو فعل لانتصف له الشعب، ولكنه لم يفعل وما كان مثله ليستطيع ذلك، وليس من يفكر في الهرب بقادر على أن يواجه الحقائق
ولكن هل يدنو اليأس من ميرابو؟ كلا. فما كان ليزداد على الشدة إلا مضاء وعزماً، فوقف كالطود يتلقى عن البلاد السهام ويطرد عنها شبح الحرب، ويجد في إنقاذها من الجوع، ويسعى في التقريب بين الملك والثورة، يواصل العمل طيلة يومه وشطرا من ليله حتى لقد قال عنه كاي ديمولان:(لقد كان يوم هذا الرجل بعشرة أيام من عمر غيره)
ولكن الموقف ازداد سوءا على سوء حين وقفت الجمعية موقفها من رجال الدين وأعلنت الدستور المدني للكنيسة بحيث صار منصب الأكليروس بالانتخاب على أن تدفع لهم الحكومة أجرا ويستولي على أراضي الكنيسة وعشورها مما أغضب البابا وأزعج الملك فأعلن اعتراضه على قرارات الجمعية، ولكن أنى للجمعية أن تفرض له اليوم وجودا؟ لقد أجابت على عمله بأن من لا يقسم اليمين على احترام ذلك الدستور جزاؤه الطرد
أدر الدفة يا ربانها! لكن الأيدي تتكالب اليوم عليها والريح جانحة عاتية. والربان يغالب المرض ويتحامل على أعصابه، بل ويستمهل الموت. ما باله يدخل الجمعية في مارس سنة 1791 مصفوراً مضعوفاً على خلاف عادته، ما باله يكتنز كل يوم وما بال بريق عينيه يتضاءل لولا ما يشع فيهما من يقين وعزيمة؟ ترفق أيها الموت بالربان! إنه رجل أمة بل إنه أمة في رجل!
يا لقسوة القدر! ولكن أنى لجسم مهما كانت قوته أن يطيق مثل ذلك المنصب؟ وحسبك أن تعلم أنه خر مغشياً عليه في أواخر مارس وهو في طريقه إلى الجمعية ولكنه على الرغم من ذلك وصل إليها وألقى خطاباً مطولا. لا. إنه يسر إلى صديق من أصدقائه أنه يموت!
وفي أوائل أبريل في أشد ما تكون الحاجة إليه يرقد هذا الطود الأشم، ويحيط الناس بمنزله من جميع الطبقات والهيئات، والأطباء يصدرون تقاريره مرة كل ثلاث ساعات، والملك يستفسر في السر مرات وفي العلن مرات، والأندية تستنبئ عنه بلا انقطاع، والشعب يعلق أنفاسه في انتظار ما يطمئنه وقد غشيه من الهم ما غشيه
والرجل عظيم في الموت كما كان عظيما في الحياة، يقول لصديق يستند له رأسه:(ليتني أعيرك هذا الرأس) ويسمع صوت المدفع فيقول: (أهكذا يحتفى بدفني كأخبل) ويتذكر الملكية فيقول والأسف يمزق نياط قلبه: (إني أحمل معي الملكية إلى القبر) ويفيق الناس من غشيتهم على الخبر الفاجع، فتفيض عيون وتدمى قلوب، ويخرج شعب بأسره يشيع
جثمان رجله، وتقضي العاصمة أياماً في حدادها، ويجهش أشداء الرجال بالبكاء في طرقات الجمعية وفي ردهات البلاط، ثم. . . ثم تسير السفينة بلا ربان!
إنه فرد ينقص من البلاد، ولكن فرنسا يزعجها ويهولها ما ترك وراءه من فراغ، ولم تلبث الكوارث أن داهمتها من كل صوب، فلقد فر الملك وألقي القبض عليه عند الحدود، ثم وقف عن عمله، واندلعت فرنسا في طريقها إلى الحرب، ثم إلى إعدام الملك، ثم إلى المذابح الأهلية وعهد الإرهاب!
ولو عاش ميرابو عاماً واحداً لتغير تاريخها، بل وتاريخ العالم؛ ولكن للقدر أحكاما مباغتة هي التي تصنع التاريخ!
الخفيف
2 - التعليم والحالة الاجتماعية في مصر
للأستاذ إسماعيل مظهر
أظهرت في المقال السابق الوجوه التي تربط بين التعليم والحالة الاجتماعية، وعددت كثيراً من التأملات التاريخية التي قد يكون لها اتصال كبير أو صغير بالحالات الجديدة التي تكتنفنا، غير أن الاقتصار على تعديد وجوه الارتباط بين التعليم والحالة الاجتماعية، والقول بأن التعليم يجب أن يتجه اتجاهاً اجتماعيا، أمر يجب أن يعزز بإظهار المخاطر الشديدة التي يتعرض إليها كياننا الاجتماعي من جراء الفصل بين سياسة التعليم، وبين ملابساتها الاجتماعية
ولقد ظهر في العهد الأخير أن القائمين بأمر التعليم قد اضطروا في مواقف عديدة أن يتجهوا إلى معالجة بعض الأمور علاجاً قائماً بعض الشيء على طبيعة الحالات الاجتماعية. وإني لآسف إذ أقول إنهم لم ينجحوا فيما قصدوا إليه. وليس السبب براجع إلى قصور منهم، أو تقصير عن أداء واجباتهم كاملة، وإنما يرجع في الحقيقة إلى أن سياسة التعليم الحاضرة لا تواتيهم بكل الأسباب الضرورية التي تمكنهم من تنفيذ برامج تتفق وما تتطلب الحالة الاجتماعية من صنوف العلاج. ولا أريد أن أعدد هنا حالات بذاتها، وإنما أريد أن أبحث في مجمل الظواهر التي تترتب على الفصل بين سياسة التعليم والملابسات الاجتماعية، قدر ما تتيح لي تجاربي القليلة
كتب الفيلسوف هربرت سبنسر في أواخر القرن الفارط مقالاً عنوانه (الكائن الاجتماعي) شبه فيه بنية الاجتماع الإنساني بكائن متغضن، وأخذ يقيس الظواهر المتقابلة فيهما ويوازن بين حالات خاصة في جسم الفرد وجسم المجتمع. ولا شك في أن هذا الفيلسوف الكبير قد غفل عن أمر ذي بال جعل بحثه هذا محتاجاً إلى كثير من التحوير، بل لا نبالغ إذا قلنا إن غفلته عن ذلك الأمر قد أثرت في النتائج التي حاول الوصول إليها فجاءت مفككة غير موصولة ولا مؤدية إلى فكرة محدودة ينتهي إليها البحث. ذلك بأن بين الحي والكائن الاجتماعي فروقاً رئيسية تميز بينهما تميزاً لا يقف عند حد الظواهر، وإنما يتعدى إلى التكوين الوظيفي فيهما. وقد يعلم الذين يدرسون علوم الأحياء أن الحي يتكون من خلايا دقيقة هي وحدات بسيطة التركيب تحتوي على نواة هي سر الحياة فيها. ولكن اجتماع هذه
الوحدات البسيطة التركيب ينتج حياً عويص التركيب معقد التكوين جهد ما نتخيل. ذلك في حين أن الكائن الاجتماعي إنما هو كلٌ بسيط التكوين يتركب من وحدات غاية التعقيد وعلى معرفتك هذا الفرق الوظيفي، يتوقف وصولك إلى النتائج الصحيحة. فالخلايا لا قوام لها ولا حياة بغير اندماجها في بينية الكل الحي. أما الوحدات (الذوات العاقلة) التي يتركب منها الكائن الاجتماعي، فكلما كانت أكثر استقلالا عن ذلك الكائن برز أثرها وتميزت وظيفتها واستبانت قيمتها ورجل فرعها وأصبحت قوة قادرة على التأثير في الكائن الاجتماعي بما يحفظ عليه حياته الاجتماعية ويحركه نحو الرقي الاجتماعي ويبث فيه روح التطلع إلى الارتقاء المدني، وبالجملة على جعله كائناً اجتماعياً معتزاً بأثره العملي في الحياة ذلك على الضد مما لو اندمجت هذه الوحدات العاقلة في بنية الكائن الاجتماعي. فإنها إذ ذاك تفقد استقلالها وقوتها على التأثير بالعمل على رقي الجماعة، لأن اندماجها هذا إنما يسلبها القدرة على التفكير والتأمل في حقائق الأشياء، ويفقدها أخلاقها الشخصية، وبوجه عام يدمجها في ما يسميه الاجتماعيون (عقلية الجماهير)
هذه حقيقة أولية، على ما فيها من تعقيد وحاجة إلى فهم، من الضروري أن نعيها وأن نجعلها نصب أعيننا كلما فكرنا في وظيفة التعليم باعتباره عاملاً من عوامل استقرار الحالات الاجتماعية في كل أمة من الأمم. أما وقد وعيناها فإنا نتساءل: أيفي التعليم عندنا بإخراج رجال فيهم من الاستقلال الخلقي والعلمي ما يجعلهم في المستقبل قوى مؤثرة في الكائن الاجتماعي، أم على العكس من ذلك يخرج رجالاً قُسّعاً يكتفون من الحياة بالاندماج في جسم الكائن الاجتماعي، فيظلون طوال أعمارهم مغمورين في عقلية الجماهير؟ وإني لآسف إذ أقول إن تعليمنا بعيد عن أن يخرج رجالاً مستقلين على النمط الذي تتطلبه طبيعة الحالات الاجتماعية الجديدة التي أخذت تشعرنا بانا مقدمون على انقلابات فكرية خطيرة.
إذن فواجب التعليم ينبغي أن ينحصر في إخراج رجال مستقلين بعيدين عن التأثر بروح الجماهير. وتكوين استقلال الفرد يجب أن يكون بداءة التعليم ونهايته. أما العمل على شحن العقول بشتى المعلومات العلمية وتكوين ملكات خاصة في الأدب والفن، فلن يكون لها من أثر في الحياة، ولن تقوم من عوج الكائن الاجتماعي ما لم يسبقها الاستقلال الذاتي وتدريب الملكات الخاصة على مماشاة ما تتطلبه مقتضيات ذلك الاستقلال
ولقد أظهرنا في المقال السابق أن ابن الفلاح أكثر استقلالا من الناحية العملية من المتعلم الذي فقد استقلاله الذاتي بحكم الظروف التي نشأ محاطاً بها. غير أن استقلال الفلاح العامل استقلال ناقص، إذ هو استقلال أشبه بالاستقلال الحيواني منه بالاستقلال الإنساني، ذلك بأن عدته في هذا الاستقلال تقوم على قوة عضلاته وعلى صبره واحتماله ورضاه بمحيطه الذي يعيش مكتنفاً به. وعامة ذا ليس فيه شيء من مؤهلات الاستقلال الإنساني، وإنما هو استقلال يشارك فيه الفلاح كثيراً من الحيوانات. وعلى ذلك نجد أن ما عندنا من مكملات الاستقلال الفردي عند الفلاح تنقصه الناحية الثقافية التي تمكنه من أن يصبح ذا أثر عملي في تكييف حالات الكائن الاجتماعي. ولكن هذا الاستقلال مهما كان فيه من ضروب النقص فهو استقلال على كل حال. أما المتعلم المتعطل فحالته تناقض هذه الحال. فان تعليمه لم يمكنه من أن يكون مستقلا من ناحية الثقافة، في حين أن نشأته ومحيطه قد سلباه ناحية الاستقلال الأخرى
أما الأسلوب الذي يجب أن يتنحى في التعليم حتى يكون أداة صالحة لتخريج رجال مستقلين ذوي أثر في تكييف حالات الكائن الاجتماعي، فسنفرد له بحثاً خاصاً. وسنقصر كلامنا الآن على المخاطر التي يتعرض لها كياننا الاجتماعي من وجود فلاحين استقلوا حيوانياً، ومتعلمين فقدوا كل ضروب الاستقلال
على الرغم من أن الأخطار التي يتعرض لها مجتمع تناحرت عليه كل هذه الظواهر كثيرة متعددة، فأن أعظم هذه الأخطار وأشدها أثراً في مستقبله، إنما ينحصر في حدوث ما يدعوه الاجتماعيون (التطفل الاجتماعي). والتطفل الاجتماعي حالة ترهق فيها طبقات غير عاملة طبقات عاملة بمطلوبات حياتها. ولهذا التطفل مظاهر عديدة أخبثها أن تكون الطبقة المتطفلة هي بذاتها صاحبة السلطة العليا في المجتمع، كما حدث في أوروبا في خلال القرون الوسطى، وكما هي الحال في كثير من ممالك الشرق في حالته الحاضرة. والويل لمجتمع تسود فيه هذه الحال
التطفل حالة طبيعية لا سبيل إلى نكرانها. فهنالك حيوانات تتطفل على نباتات، ونباتات تتطفل على حيوانات. وقد يتطفل حيوان على حيوان، أو نبات على نبات. فهو ظاهرة تكاد تشتمل كل نواحي العالم الحي، وتحتكم في الكثير من مظاهره الجلي. غير أن نظرة واحدة
في هذه الحقيقة الطبيعية تظهرك على أن التطفل حيثما كان وأنى كانت وسائله ومظاهره، لن ينتج إلا هدماً في الحياة، ولن يبرز إلا فسادا، ولن يؤدي إلا إلى إرهاق شامل في القوى الحيوية تختلف درجاته ومظاهره ونتائجه باختلاف الظروف. وقلما يستطيع عالم طبيعي أن يخص تلك الظروف التي يتجلى فيها فعل التطفل في عالم الأحياء، فان ذلك من الأشياء التي يستعصي على العلم تعديد مظاهرها عامة وخاصة، وفعل كل متطفل في مختلف الظروف، على كل متطفل عليه في متباين الحالات. وإنما يستطيع الإحيائي أن يدرس ظواهر التطفل في حالات يقف عليها، وأن يدرس أثر الحي المتطفل في بنية الحي المتطفل عليه، محصياً في كثير من الحالات أوجه العلاقة بينهما وتأثير دورة حياة الحي المتطفل في حاضنه
ولن يعدو العالم الاجتماعي هذه الحال عينها. فليس في مستطاعه أن يحصي أوجه التطفل الاجتماعي في مجتمع بعينه، ولا يدرس الحالات درس توفر على دقائقها وتدرجاتها التي تكفل له الوصول إلى نتائج مقطوع بصحتها قطعاً تاماً. والعلم الاجتماعي أضعف وسائل من العالم الطبيعي. فان هذا بين جدران معمله، يستطيع أن يحصر الحالات ويحدد الظواهر، في حين أن زميله الاجتماعي إنما يتأمل من حالات عامة غير محصورة ولا محددة تحديداً يجعل الحكم القاطع على أصولها وظواهر أمراً سهلا هيناً. غير أن هذا كله لن يحول بين الباحث الاجتماعي وبين تبين الحالات الكلية التي يتخذ درس مظاهر التطفل الاجتماعي وسيلة إلى اكتناهها.
من الحالات الكلية في التطفل الاجتماعي، بل ومن أظهر تلك الحالات أثراً في الجماعات الحديثة عامة، وفي مصر خاصة، تسلط غير ذوي الكفايات، وإن شئت فقل المتعطلين، على موارد ما تنتج الأيدي العامة من ناحية، وعلى إنتاجها نفسه من ناحية أخرى، من غير أن يكون لهؤلاء المستغلين أي ضلع في تكوين المورد أو في الإنتاج. من هنا تحدث حالة من حالات التطفل الاجتماعي تستنفذ فيها أيد متعطلة ثمرات الجهود التي أيد عاملة، بغير أن تنال الأيدي العاملة من ثمرات جهودها ما يكفي لحفظ حيويتها أو قدرتها على العمل والإنتاج. فان من شأن المتطفل أن يجتهد في استغلال حاضنه بكل صور الاستغلال، وأن يبلغ من الانتفاع بحيويته جهد ما يستطيع، وكلما قلت قوى المقاومة في الحاضن ازداد
المتطفل شرة وبأساً، حتى ينتهي الأمر بحدوث ما يسميه الاجتماعيون (بالتنكس الاجتماعي) وهي حالة تتساوى فيها طبقات المجتمع لا من حيث الكفايات العليا ولكن من حيث العجز عن العمل المنتج. وما لهذا الأمر من نتيجة إلا الفوضى الغامرة، ولا ينكر أحد أن في مجتمعنا هذه الظاهرة الخبيثة. فالأيدي العاملة لا تنال من منتوج عملها ما يكفي للاحتفاظ بحيويتها، والأيدي المتعطلة تبدد ثمرات تلك الجهود. وعلم ما يترتب على ذلك عند الله.
ومن تلك الحالات هجر الريف والعيش في المدن. ولقد بحث هذه الظاهرة كثير من الكتاب منهم: أدمون ديمولاند الفرنسي، والأستاذ استن فريمان الإنجليزي، في بحوث مستفيضة عالجوا فيها الحالات التي نشأت في فرنسا وإنجلترا وعطفوا بعض الشيء على حالات نشأت في غيرهما من بلدان أوربا. ولا جرم أن هذه الحالات تتشابه. فالأسباب التي تدعو الفرنسي أو الإنجليزي إلى هجر الريف والإقامة في المدن، أو بالأحرى حب التّحضر (بمعنى المعيشة في الحواضر) تكاد تكون نفس الأسباب التي تحمل المصري على أن يفعل ذلك. غير أن النتائج تختلف باختلاف البلدان على مقتضى ما في كل شعب من الاستعداد والصفات، وفي الأكثر على مقتضى الثقافة التقليدية التي يختص بها كل شعب من الشعوب
ولسوف نبين في مقال آت فكرتنا في أثر الثقافة التقليدية في الكيان الاجتماعي بكل أمة من الأمم. ونكتفي الآن بأن نقول إن شعبا كالشعب المصري الزراعة ثقافته التقليدية منذ أبعد عصور التاريخ، لابد من أن يتأثر بزيادة الميل إلى التحضر تأثراً عظيما لا يحسُّه شعب آخر ثقافته التقليدية غير زراعية. بل على الضد من ذلك أعتقد أن الشعوب التي تكون ثقافتها التقليدية صناعية أو تجارية، يجب أن تحتمي بحياة التحضر صيانة لمصالحها العامة. أما تحضُّر شعب ثقافته التقليدية الزراعة، فتلك هي الطامة الكبرى على كيانه الاجتماعي؛ وتلك هي الطفرة العظيمة إلى أبشع صور التطفل الاجتماعي
ونحن نعلم علم اليقين بأن مدننا المصرية مدن غير صناعية بالمعنى المفهوم من ذلك في أوربا. بل أعتقد وأظن أنني أعتقد بحق، أن مدننا ليست إلاَّ أسواقاً تستهلك فيها منتوجات الريف؛ وهذه الحقيقة وحدها كافية لأن تظهرنا على أن ميلنا إلى التحضر، مع التعطل عن العمل يرهق المنتج ويرهق السوق المستهلكة؛ لأن المتعطل في الواقع عبء على الجمعية؛
ذلك بأنه قوة مستنفدة لا قوة منتجة من ناحية، ولأن الحاجات التي يستنفدها لا ينتج ما يقابلها لصالح الجمعية من ناحية أخرى. وبذلك يصبح المتعطل عبئاً على الحاضرة التي يسكنها، وعبئا على العناصر المنتجة معاً. وهنا يتضاعف تطفله، إذ يصبح متطفلاً باعتبارين: الأول أنه يزاحم أهل المدن ويشاركهم أرزاقهم من غير إنتاج من ناحية، والثاني أنه يرهق العناصر العاملة في الريف بأن يستهلك ولا ينتج، وبالأحرى بأن يأخذ ولا يعطي
ومن تلك الحالات ما يسميه الاجتماعيون (الجشع الاجتماعي) ولا أريد هنا أن أطنب في تعريف (الجشع الاجتماعي) ولا أن أناقش في مختلف التعاريف التي وضعها المؤلفون الذين أتيح لي الاطلاع على مؤلفاتهم، وإنما اقتصر على ذكر حالات يستطيع القارئ أن يدرك منها، مطبقة على حالات تقوم بين ظهرانينا، ما يقصد بالجشع الاجتماعي
وعندي أن أخبث ما يؤدي إليه الجشع الاجتماعي من تكييف عقلية طبقات خاصة في مجتمع ما بمقتضياته، إنما ينحصر في أن تتطفل جماعات، لا أفراد، على جسم الكائن الاجتماعي. وقد تلبس الجماعات التي تنتابها سورة الجشع الاجتماعي صوراً مختلفة، فمن اتحادات تجارية إلى اتحادات صناعية إلى جمعيات علمية أو اقتصادية أو سياسية، تتخذ التأثير في عقلية الجماهير بمختلف، الوسائل طريقاً تسلكه إلى غرضها الذي ترمي إليه، والذي يجعلها جديرة بأن تنعت بأنها جماعات مصابة بجنون الجشع الاجتماعي. أما ذلك الغرض فينحصر في أن تنال من الجمعية أقصى ما يمكن أن تصل إليه من الربح المالي أو النفوذ أو السلطة أو الجاه أو الحكم بأقل جهد ممكن أن يبذل أو تضحية من ناحيتها
وفي مثل هذه الحالات تتضاعف خبائث التطفل الاجتماعي بأن يصير تطفلاً (مركباً) لا تطفلا بسيطا. ونعني بالتطفل (المركب) أن هذه الجماعات المصابة بجنون الجشع الاجتماعي يكون فيها عنصر خاص يعيش متطفلاً على جسم الجماعة نفسها. ذلك العنصر هو عنصر انتهازي لن تسلم منه جماعة أصيبت بذلك المرض الخبيث. فكما أن الجماعة تتطفل على جسم المجتمع، يتطفل ذلك العنصر الذي هو (واجب الوجود) فيها بمقتضى تكوينها النفسي، على بقية عناصرها
وتسير قافلة المتطفلين، ولكن إلى البوار الصرف. مثلها كمثل حُيَيَّات زرعت على مادة
هلامية في زجاجة اختبار في معمل من المعامل. فأنها تتكاثر ثم تتكاثر، حتى إذا ملئ فراغ الزجاجة واستحالت المادة الهلامية أجساماً حية انتكس الأمر وبدأت الأحياء تنحدر إلى الهلاك المحتوم
هذه إلْمَامَات موجزة في حالات نشاهدها قائمة من حولنا. فهل يمكن أن نتخذ التعليم أداة إصلاح نتقي بها بعض ما يكتنفنا من شرور وخبائث؟ وهل يمكن للتعليم أن يؤدي إلى الأجيال المقبلة رسالة إصلاح عملي يرفع عن كاهلهم بعض ما نتوقع لهم من متاعب؟ أظن أننا نستطيع أن نجيب بالإيجاب، وموعدنا البحوث الآتية
إسماعيل مظهر
ذكرى ساقية!
للأستاذ علي الطنطاوي
(. . . . . . كل ما في الوجود يولد ويحيا ويموت:
ألا تمر بالدار ألف مرة فلا تلتفت إليها، ولا تحس بها. ثم ترى فيها إنساناً يتصل قلبك بقلبه، أو يمتلئ فؤادك بحبه، فإذا هذه الدار (تولد) في فكرك و (تنمو) وتزداد لهذا الإنسان حباً، فتزداد الدار عندك حياة؛ ثم ينزح الحبيب عن الدار، فإذا هي (تموت) وإذا أنت تألم لموتها، وتبكي فيها ذكريات لك عزيزة، وماضياً لك حلواً؛ ثم تمحو الأيام هذه الذكر، وتنسيك هذا الماضي، فإذا الدار قد عادت إلى العدم، كما بدأت من العدم، وإذا أنت تمر بها من بعد ألف مرة، فلا تلتفت إليها، ولا تحس بها؟. . .)
من مقالة قديمة
(علي)
هي ساقية صغيرة عرفتها من يوم عرفت الدنيا، تجري في رحبة (الدَّحداح)، في ظاهر دمشق، فكنت أزورها دائماً، وأجلس إليها راضياً وساخطاً، مسروراً ومكتئباً، شجيّ النفس وخليّ البال، فأحدثها حديث سروري ورضاي، وأبثها شجوي واكتئابي، فأجد فيها الصديق الوفيّ، حين عزّ في الناس الصديق، والأخ المخلص حين ارتفع من الأرض الإخلاص؛ وكنت أفرّ إليها كلما نابتني من الأيام نائبة، أو نالني الدهر بمكروه، فأجد فيها عزائي وأنسي، وراحة نفسي. . . فررت إليها أمس كما كنت أفرّ، فإذا الأرض غير الأرض، وإذا الساقية قد عدا عليها الزمن فمحاها، وأقام دار البستاني على رفاتها. . . فجلست على حافتها الجافة، أودّع هذه البقعة الحبيبة إليّ، قبل أن تبتلعها المدينة الضاجة الصاخبة التي ابتلعت ما كان حولها من حقول واسعة، ورياض وجنات، وأشيع حياة لي في هذه الساقية كلها سعادة واطمئنان، عشتها كما تعيش الضفادع، غير أن الضفادع تسبح في ماء الساقية، وتنام على كتفها، وأنا أسبح في ذكرياتي التي أودعتها حافتيها، وآمالي التي رأيتها من خلال أمواهها. . . وهل يعيش ابن آدم إلا في الساقية والطريق، والقمر والمئذنة؟ أليس في كلّ ساقية يجلس إليها، وكل طريق يسلكها، وفي القمر الذي يتأمل صفحته في الليالي البيضاء، والمئذنة التي يرى هلالها من شباك غرفته، أليس في كل ذلك - أثر من نفسه -
وقطعة من حياته؟. .
رحمة لك أيتها الساقية. . . منذ كم أنت تجرين وتسرعين، أفبلغت غايتك بعد جري القرون، أم قطعك عنها عدو جبار، أم ادركك عجز الشيخوخة وضعف الهرم، فجف ماء حياتك، كما تجف الحياة في عروق الشيخ القحْم، وفروع الشجرة النخرة، وجدر البيت الخاوي؟
وهل كنت تجرين يوماً واحداً لو عرفت أن غايتك الفناء وأنك إنما تسعين إلى أجلك برجلك؟ وهل كان يبني الباني، ويزرع الزارع، ويعمل العامل، لو عرف أن أجله أدنى إليه من أمله، فبينما هو ينتظر إشراق الفجر، إذا احتوته ظلمة القبر، وبينما هو يحلم بالسراب، إذ واراه التراب؟
وهل كان يطمع في الحياة طامع لو عرف أن كل يوم يزيد من حياته إنما ينقص من حياته، فإذا بلغ كمال الحياة فقد صار إلى الموت؟
إن الإنسان يأمل أن يملك الدنيا ويعيش إلى الأبد، وأنت تأملين أن تصيري نهراً ثم تصبحي بحراً، والله يريد أن تتم حكمته في الحياة فيسعى كل ساع إلى الفناء، يدعوه الأجل، ويحدوه الأمل. . . ولا رادّ لما أراده الله!
وهل كنت تذكرين أيتها الساقية أصدقاءك وأحباءك وتحنين إلى ذكراهم، وتبكين عهدهم؟ أم قد أمات حسك تقلب الأيام وغدر الزمان، فأقبلت تجرين، لا تذكرين ماضياً ولا تحفلين حاضراً ولا تنتظرين آتياً؟
وهل تذكرين يوم فرننا إليك من شيخ الكتاب القاسي، وعصاه الطويلة التي كان ينال بها رؤوسنا وهو على سرير ملكه، في هذه الغرفة الضيقة، المثقبة الجدران المسدودة النوافذ، الفاسدة الهواء؟ لقد مللنا البقاء في هذا السجن الرهيب، فشكونا إلى أهلينا فما وجدنا مشكياً فتجاوزنا (البحرة الدفاقة) وتخطينا هذا السياج، ولجأنا إليك فما وجدنا منك إلا الكرم والعطف والإحسان؟ آمنت خوفنا، وبدلتنا بمدرسة الشيخ وعصاه، هذه الدنيا الفسيحة وهذه الحقول التي لا تنتهي، فطابت أنفسنا بجمال الكون، وانجلت أبصارنا بمرأى البساتين، ونظرنا من هنا فإذا قبة النسر ومآذن الأموي تشرف علينا جليلة عظيمة، فاستشعرنا جلال الدين وعظمته، ونظرنا من هناك فإذا قاسيون يطل علينا مشمخراً عالياً، تقوم عليه الدور
البيضاء، والقصور الحمراء، فأحسسنا جمال الدنيا، وسموّ المجد، وعزة الغنى. . . وأدركنا بعقولنا الصغيرة أن الشيخ كان على ضلال، وأن أهلنا كانوا على خطأ، وأن العلم قد يحصل في الدنيا الواسعة، والبقاع الجميلة، أكثر مما يحصل في السجون والكتاتيب، وأن جمال الحقل، أبلغ في التهذيب من عصا الشيخ
في تلك الساعة عرفتك أيتها الساقية، فمنحتك الودّ والإخلاص، وجعلتك صديقي إذ لم أجد بيتي ومدرستي صديقاً، وكنت أرى طيفك في أحلامي، فأهش لك وأنا غارق في منامي، وأتخيل صفاءك وعطفك، وأنا بين يدي الشيخ الجبار، يقرع رأسي بالعصا، ويصرخ في وجهي بصوته الأجش الخشن:
- يا ولد يا خبيث. . . والله إن عدت إلى الهرب كسرت ساقيك، فلا أرد عليه، وإنما أستر وجهي بكفي، وأضحك بصوت غريب، فيظنني أبكي، فيدعني. . . وينصرف إلى غيري فأنظر من بين أصابعي، حتى إذا رأيته قد غفل عني قفزت إلى الشارع، فاختبأت في (جامع التوبة) أو أخذت طريقي إليك، فآكل من الثمار التي حولك، وأشرب من مائك، وأصافحك بيديّ شاكراً، وأمسح بكفيك وجهي. . . هل تذكرين ذلك أيتها الساقية؟. .
- هل تذكرين كيف جئناك بعد ذلك، وقد تخلصنا من الشيخ ودخلنا المدرسة، فوجدنا ساحة رحبة ومعلمين كثيرين، وحصصاً قصيرة، ولكنا لم نجد عطفاً ولا ابتساماً؛ كان معلم الحساب يحبب إلينا شيخ الكتاب، حتى نراه إلى جنبه نعيما، كنا نرى طيفه أمامنا حيثما سرنا بشاربيه الكبيرين، وتقطيبه الدائم، ونظارته التي يحدرها أبداً إلى أرنبة أنفه، وصوته الذي يشبه صوت من يتكلم من وسط برميل، فكنا نرتجف من خياله، ونخشاه أبداً، إلا إذا أصبحنا في حماك، فأننا نأمن، ونطلق أنفسنا على سجيتها، فنسخر من المعلم، ونقلد الشيخ، ونمرح ونعدو، ثم نعود إلى الدار ونحن ممتلئون قوة ونشاطاً، فإذا سألنا الأهل: أين كنتم؟ قلنا: كنا في المدرسة، وإذا سألنا المعلم قلنا: كنا في البيت! فيصدقوننا جميعاً. . . أوليسوا قد حملونا على الكذب حملا حين كرّهوا إلينا العلم، ودفعونا إلى الفرار، وعاقبونا على الصدق، ولم ينتبهوا إلى الكذب؟
وهل تذكرين يوم جاءت دمشق أولُ سيارة، وكنا جالسين حولك نتحدث حديث الحرب وما يمكن أن يصل إلينا من أخبارها، فما راعنا إلا عربة غريبة الشكل، تسير من غير أن
يجرّها حصان، فطار الفزع بألبابنا، وفررنا نحسب أن الجن تسيرها، ثم سمعناهم يدعوننا، ورأينا ضباطاً تلمع الأوسمة على صدورهم والسيوف على جنوبهم، فأمرونا أن نلقي الأحجار فيك أيتها الساقية ليمر عليها (الأطنبير) فأطعنا وفعلنا مكرهين؟ ومن كان يستطيع أن يخالف أمر ضابط من ضباط جمال باشا؟. . . فلما مرت هرعنا إلى دورنا نخبر أهلنا أن عربة تمشي من غير أن يجرها حصان. . . فتنبري لي عمتي، وتكذبني وتسبني:
- أخرس يا كلب، يا كذاب. . . إن هذا مستحيل
ولكن عمتي التي أبت أن تصدق أن في الدنيا سيارة تمشي بنفسها، قد عاشت حتى رأت الكهرباء. . . . والتلفون. . . . والراديو. . . . ورأت الدبابة والمصفحة والمتراليوز. . . ثم رأت أثر الحضارة في أنقاض دمشق. . . فصارت متهيئة لتصدق كل شيء!
وهل تذكرين كيف عدنا إليك أيتها الساقية فإذا أنت حردة غضبى، قد وقفت عن سيرك، وضللت طريقك، فتطلعت إلى اليمين والشمال، والأحجار قائمة تسد عليك سبيلك فعالجناك واعتذرنا إليك، وطيبنا قلبك، وفسحنا لك السبيل، فجريت مضطربة، متغيرة الوجه، تبكين أيامك الماضية، وتخافين ما يأتي به الزمان؟
وهل تذكرين يوم كنا حولك ونحن آمنون مطمئنون، فإذا الأرض قد ارتجت، وإذا الجيش التركي الذي كنا نخافه ونخشاه قد ذلّ بعد عزّ، وضعف بعد قوة، وفر متفرقاً حائراً لا يدري أين يقصد، ومن ورائه العرب والإنكليز، يدخلون الشام ظافرين، فسررنا وفرحنا، وصفّقنا وهتفنا. ولكنك جريت واجمة حزينة، لأن حياتك الطويلة وما رأيت من دولة الدول، وهلاك الملوك، علمتك أن من يؤمن لمن يتبع دينه، كمن يدخل النار ويرجو ألا تحرقه؟ ثم حققت الأيام ظنك، وصدقت حدسك، فقلنا: يا ليت! (وهل تنفع شيئاً ليت؟!)
وهل تذكرين يوم كنا جالسين إليك، وحولنا هذه الحقول تمتد آمنة إلى ما لا يدركه البصر، وإذا بعدو جبار، يأتي من وراء الحقول الآمنة، فيشقها شقاً منكراً، ويثغر فيها ثغرة هائلة حتى إذا بلغك ألقى عليك نظرة ازدراء واحتقار، ثم سار في طريقه حتى بلغ سفح الجبل، فتمطى ثم تمدد ثم نام نومة الأبد؛ وإن رأسه لفي الصالحية، وإن رجليه لفي حيّ النصارى. . . فلما رآه أحبابك وأصحابك آثروه عليك، فلم يعد أحد يستطيب الجلوس إلى ساقية صغيرة، بعد أن فتح (شارع بغداد) ليجول فيه الشبان كل يوم (بين حي النصارى
والصالحية) مرجلة شعورهم، مصقولة وجوههم، يسيرون مائلين مميلين. . . فصبرت وتجلدت، ورجعت تجرين كما كنت منذ ثلاثة آلاف سنة. . . كأنك لا تحفلين شيئاً؟
لقد عشت عزيزة مكرمة، منذ وطئت هذه الأرض أول مرة، فلم ينتهك حرماتك أحد، ولم يعث في حرمك الآمن عائث، رغم الحوادث والأرزاء، أفانتهى بك الأمر أن يقتلك بستاني؟. . . لقد سقيت هذا البستاني وأباه وجدّه ومن قبلهم إلى أربعة آلاف جد، أفكانت عاقبة هذا الإحسان أنه لم يبن بيته إلاّ على رفاتك، ولم يكن أساس منزله إلاّ قبرك؟ لا بأس أيتها الساقية، فإن الإنسان مذ كان منكر للمعروف جاحد للإحسان. . .
لا بأس، فأن ملكاً لن يدوم، ولقد رأيت الترك والروم واليونان، فهل رأيت ملكاً يبقى، أرأيت الدنيا دامت على أحد؟ أما كانت دولة الترك عظيمة؟ أما جلّت دولة الرومان؟ أبقي من هذا كله شيء؟ لا، يا أيتها الساقية إنه لا يبقى إلا الإسلام، لأنه من ملك الله الباقي. . .
رحمة لك أيتها الساقية، وسلام على تلك الأيام الجميلة التي عشت فيها إلى جنبك، لا أعرف هم الدنيا ولا نكد الحياة، لقد كنت أفرّ إليك من عصا الشيخ، وعقاب المعلم، فتؤويني وتحميني، فلمن أفر اليوم من حياتي التي ضاقت على، ونفسي التي برمت بها؟
لقد ضعتُ كما ضعتِ أيتها الساقية، وجفْت آمالي كما جففت، وانتهى بي المطاف أن أكون شيخ كتاب! ولكن لا بأس أيتها الساقية. . . فأن الدنيا لا تدوم على حال. فرحمة لك، وعلى ذكراك السلام!
علي الطنطاوي
أندلسيات:
4 -
ابن بسام صاحب الذخيرة
والشاعر أبو مروان الطُّبْني
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
أما كتاب الذخيرة فليس أصدق في التعريف به مما جاء في تصديره أو مقدمته أو مدخله أو خطبته، وإذ أن خطبة هذا الكتاب طويلة فلنجتزئ بذكر ما يهمنا منها، وهنا ننبه القارئ إلى أن مستهل هذا الكتاب الموجود في النسخ الموجودة بدار الكتب المصرية هو غير مستهل الخطبة الحقيقي. وإليك هذا المستهل كما هو في النسخ المذكورة:
(الحمد لله الذي أبرز قمر الآداب في سماء الكمال، وجعل لها أهلا كالنجوم يقتدى بهم ويهتدى مدى الأيام والليال، وصلاةً وسلاما على السيد السند الرسول المفضال، وأصحابه وأزواجه والآل، ما صدح هزار الفصاحة على أغصان فنن البلبال، وبعد: فيقول صاحب العزلة والانفراد أبو عبد الله عبد الملك بن المنصور بن عبد البر بن عدي بن هشام بن أحمد بن بسام: أني كلِفْتُ منذ زمان بأن أعد محاسن أهل جزيرة الأندلس، ورأيت العزلة والانفراد عن هذا العالم في هذا الزمان، واجبةً بحسب الإمكان، وأردت قطع التردد عن مجالسة الرجال، لا سيما والفكر مشغول في بحر التفكير فيما كلفت به وأدركته بعد أمة. ولا أدعي أني اخترعته ولكني لعلي أحسنت حيث أتبعت، وانتقيت ما جمعت، وتألّفت على الشارد، واغتنيت عن الغائب بالشاهد. . . الخ الخ) وهذا كلام كما ترى غث بارد مغسول لا يصدر عن مثل ابن بسام، ولعله تلفيق حَمْقىَ النساخين، يضاف إلى ذلك أنه ورد فيه اسم ابن بسام وخطأ فليس اسم ابن بسام عبد الملك ابن المنصور. . . وإنما اسمه عليّ وكنيته أبو الحسن لا أبو عبد الله. . . إذن هذا كلام مفتعل. ومستهلّ الخطبة الحقيقي هو كما ورد في نفح الطيب ما يأتي:
(أما بعد) حمداً لله ولي الحمد وأهله، والصلاة على سيدنا محمد خاتم رسله، فأن ثمرة هذا الأدب، العالي الرتب، رسالة تنثر وترسل، وأبيات تنظم وتفصل، تنثال تلك انثيال القطار، على صفحات الأزهار، وتتصل هذه اتصال القلائد، على نحور الخرائد، ومازال في أفقنا
هذا الأندلسي القصي إلى وقتنا هذا من فرسان الْفَنَّين، وأئمة النوعين، قوم هم ما هم طيبَ مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر، لعبوا بأطراف الكلام المشقّق، لعب الدجن بجفون المؤرق، وجدّوا بفنون السِحْر المنمّق، جد الأعشى ببنات المحلق، فصبوا على قوالب النجوم، غرائب المنثور والمنظوم، وباهوا غرر الضحى والأصائل، بعجائب الأشعار والرسائل، نثر لو رآه البديع لنسي اسمه، أو اجتلاه ابن هلال لولاه حكمه، ونظم لو سمعه كثّيّر ما نسب ولا مدح، وتتبعه جَرول ما عوى ولا نبح، إلا أن أهل هذا الأفق، أبوا إلا متابعة أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعادة، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب، لحنوا على هذا صنما، وتلوا ذلك كتاباً محكما، وأخبارهم الباهرة، وأشعارهم السائرة، مرمى القصيه، ومناخ الرديه، لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرف فيها لسان ولا يد، فغاظني منهم ذلك، وأنفت مما هنالك، وأخذْت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري، غَيرةً لهذا الأفق الغريب أن تعود بدُورُهُ أهِلَّة، وتصبح بحورُه ثماداً مضمحلة، مع كثرة أدبائه، ووفور علمائه، وقديماً ضيعوا العلم وأهله، ويا رب محسن مات إحسانه قبله، وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان، وخص أهل المشرق بالإحسان، وقد كتبت لأرباب هذا الشان، من أهل الوقت والزمان، محاسن تبهر الألباب، وتسحر الشعراء والكتاب، ولم أعرض لشيء من أشعار الدولة المروانية ولا المدائح العامرية، إذ كان ابن فرج الجياني قد رأى رأيي في النَصفه، وذهب مذهبي من الأنفَه، فأملى في محاسن أهل زمانه، كتاب الحدائق معارضاً لكتاب الزهرة للأصفهاني، فأضربت أنا عما ألّف، ولم أعرض لشيء مما صنّف، ولا تعدّيت أهل عصري ممن شاهدته بعمري، أو لحقه أهل دهري، إذ كل مردّد ثقيل، وكل متكرر مملول، وقد مَجَّت الأسماع (يا دار ميَة بالعلياء فالسّند) إلى أن قال بعد ذكره أنه يسوق جملة من المشارقة مثل الشريف الرضي والقاضي عبد الوهاب والوزير ابن المغربي، وغيرهم ممن يطول ما صورته. . . وإنما ذكرت هؤلاء ائتساء بأبي منصور، في تأليفه المشهور، المترجم بيتيمة الدهر، في محاسن أهل العصر. . .
هذا هو كل ما أورده المقري من خطبة الذخيرة، ومن هذا الموضع تبتدئ بقية الخطبة
المثبتة في النسخ الموجودة في دار الكتب، فإذا أردت أن تجمع أطراف خطبة الذخيرة فهذا الذي أوردناه هنا هو الشطر الأول منها، لا ما هو مذكور في النسخ التي بين أيدينا حتى إذا وصلت إلى هذا الموضع وهو: - وإنما ذكرت هؤلاء ائتساء بأبي منصور في تأليفه المشهور المترجم بيتيمة الدهر في محاسن أهل العصر - وهذا هو ما أراده المقري واقتصر عليه - فارجع إلى هذا الموضع في خطبة الذخيرة الملفقة وامض منه إلى نهايتها وبذلك تجتمع لك الخطبة وتكمل، وهي خطبة على طولها بارعة جميلة، فارجع إليها في الذخيرة إن شئت؛ وما حفزنا إلى القول عليها وإيراد ما أوردناه منها إلا هذا التخليط الذي اعتور النسخ بأيدينا. . .
هذا وقد كسر ابن بسام الكتاب على أربعة أقسام: القسم الأول لأهل حضرة قرطبة وما يصاقبها من موسطة بلاد الأندلس، وهذا يشتمل من الأخبار وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب والشعراء على جماعة. . . الخ الخ، والقسم الثاني لأهل الجانب الغربي من الأندلس وذكر حضرة أشبيلية وما اتصل بها من بلاد ساحل البحر المحيط الرومي وفيه من الأخبار وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب جملة موفورة. . . الخ الخ، والقسم الثالث ذكر فيه أهل الجانب الشرقي من الأندلس ومن نجم من كواكب العصر في أفق ذلك الثغر الأعلى إلى منتهى كلمة الإسلام هنالك. . . الخ الخ، والقسم الرابع لمن طرأ على هذه الجزيرة من أديب شاعر وكاتب ماهر ووصل بهم ذكر طائفة من مشهوري المشارقة ممن نجم في عصره. . . الخ الخ
(وبعد) فأنا نضرع إلى الله سبحانه أن يوفق جماعة المستشرقين الذين أزمعوا طبع هذا الأثر النفيس حتى يخرجوه سليما معافى بارئاً مما ألمّ به من التحريف الذي شوه محاسنه، وكاد يطمس معالمه إنه سميع الدعاء
عبد الرحمن البرقوقي
منشئ مجلة البيان ورئيس قلم المراجعة بمجلس النواب
الهاربون من القضاء
للأستاذ عبد الرحمن شكري
أتظل موهون الجنانِ مروَّعاً
…
قلِقاً من الآفات والأقدار
تخشى الحياة ولست تخشى ميتة
…
هبها نصيب الموت في الإصغار
قلقاً تُطِلُّ على الحياة كأنما
…
منها وقفت على الشفير الهاري
تخشى الحياة وكذبها وسَفالها
…
وصيا لها في قسوة الغَدَّار
والحي يأكل من حياة مثيله
…
لحسن الضواري للدم المدرار
وتطاول المغمور ينحو نابها
…
كتطاول الغرقان في التيار
متشبثاً منه بعِطَفْي سابح
…
ليجره لمهالك وبوار
كل يخال الدهر إن هو عاقه
…
خطب الجميع بقاصم الأعمار
والموت يعصف بالدهور وأهلها
…
فكأنها صور الخيال الساري
فعلام تخضع للتناكص والأسى
…
وتخاف حكم الله في المقدار
والقلب يلمسه الأسى فيهزه
…
وكأنه وتر من الأوتار
وعلام ترتقب الزمان وصرفه
…
والغيب وهو مُحَجَّبٌ متواري
عمري لو أن الغيب عاجل وانقضى
…
لقرأته خبراً من الأخبار
فمن ترى صور الحياة صحائفا
…
وكأنها سِفرٌ من الأسفار
لا إنها أمر تزاول صرفه
…
وتظل تعدو منه في مضمار
أو تغتدي بين الأنام مغامراً
…
تسعى على سنن لهم وشعار
فإذا أسيت أسيت طرفة ناظر
…
وإذا نسيت نسيت كل عثار
وكذبت ما كذب الأنام ولم تجد
…
في قسوة من خسة وشنار
ونسيت ما جلب الزمان لأهله
…
من محنة أو مهلك ودمار
فتقول للقلب المَروع إذا نزا
…
حذر الحياة وصولة الأشزار:
يا هارباً من صولة المقدار
…
أتراك تفلت من يد الأقدار
أهرب إذا ما اسْطعْتَ في أزل الدُّنَى
…
أو في مدى الآباد والأدهار
أو في الممات وما تلاقي خلفه
…
بين الفناء ومعقل الأسرار
تعدو ويدركك الذي خلَّفَته
…
كالليل ليس يفر منه الساري
كلُّ من العيش المرَوَّعِ هارب
…
لو فاز خلْقٌ في الدنى بفرار
بالفن أو بالعلم أو بمجانة
…
أو بالسطا والجند والأنصاو
فإذا القضاء مآلهم ونفاذه
…
كحصاد كل وسائل المختار
سل صفحة التاريخ كم قوم به
…
أَجراه مجرى الدهر في مضمار
أقوام أدهار مضت بعض لها
…
ذكرى وبعض مالها من داري
قد أُبدلوا طبع السَّفَال بأنفس
…
من طبعها المتصاعد السَّوَّار
صاروا إذ اغَضبِوا وإن سُرُّوا وإن
…
درجوا لأمرٍ ثالثٍ بمدار
يتمرَّغون مجانة فنفوسهم
…
وجسومهم كمزابل الأقذار
وصموا الشباب ولم يكن من طبعه
…
خلق اللئيم العاجز الغدَّار
إن الشباب مروءة وسذاجة
…
وترفع ينبو عن الأوضار
تَخِذوا السَّفاَلَ مِجَنَّهُم ليصونهم
…
من صولة الغلاَّب والمغوار
فغدا السَّفاَلَ سعادةً ومسرة
…
عبث الخنا ومجانة الفجار
نبذوا الحياء وكيف ترجو أمة
…
للنائبات مجانة العُهار
قد خِيلَ في فقد الحياء رجولة
…
فقد الحياء رجولة الدُّعار
طبع المجانة عم حتى خلته
…
كيداً يحاك عليهمُ بِسَرَارِ
أم وُرِّثوه عن الجدار غنيمة
…
يطفو الذليل بها على الأقدار
ويُذِلُّ من عنت الحياة وضيمها
…
بسعادة المجانِ والفجار
وتكايدوا كيد العبيد ولم يكن
…
كتنابُذ بطبائع الأحرار
واستمرأوا مرعى الغباوة والخنا
…
إلْفَ السجون لطول عهد إسار
هزموا الدهور الغازيات بهز لهم
…
فمضت وظلوا رهن عُقْرِ الدار
فإذا الدهور جديدة قهَّارة
…
وإذا اللئام فريسة الأدهار
درجوا على دَرَج الحياة إلى الردى
…
من بعد جهلٍ راقهم وصَغارِ
من الشعر الرمزي
رمز الخريف
مهداة إلى الشاعر (أنور العطار) صاحب مقطوعة الخريف
المنشورة في العدد 138 من الرسالة
للأستاذ خليل هنداوي
خلِّ عنك النحيبَ، فالعيش ثغر
…
ضاحك، والحياةُ حلم نضير
لا أرى في الخريف خطباً نكيراً
…
إن مقت الخريف خطب نكير
هل رأت في الخريف عيناك إلا
…
وحشة كالتي حوتها القبور
هل رأيت العشش إلا خراباً
…
(هجرتها على الليالي الطيور)
هل رأيت الحياة إلا سراباً
…
كل ما حوله أسى وغرور؟
لا تقل: يهمد الثرى! فهو حي
…
إِنما للحياة فيه تفور
إن في باطن الخريف ربيعاً
…
فيه من روعة الربيع الكثير
قد تمشت في الحياة بصمت
…
واستفاقت تحت التراب الجذور
ورويداً! كل المسارب تخض
…
رُّ، وتهتز في المروج زهور
وإذا بالحياة تضحك ضحكا
…
فحفيف، ونغمة، وخرير
كل شيء - فيه - يغير ثوباً
…
وجمال الطبيعة التغيير
ما عليها لو بدلتا قشوراً
…
بقشور، هل الحياة قشور؟
لم تزل في عشاشه بهجات
…
وأرانيم في الفضاء تطير
حيث يروي العصفور لحناً ويصغي
…
لصداه، فيجْفلُ العصفور
إن في صفرة الخريف فناء
…
فيه رمز إلى البقاء يشير
لا تمثل سماء كونك بالنع
…
ش عليه من الغيوم ستور
إن كوناً تنكَّب الفن عنه
…
هو كون مستقبح مهجور
فاتخذ عالماً تطوف الشعاعا
…
ت عليه والنور فيه يمور
وعصافيره على الدهر تشدو
…
وأزاهيره يفوح منها العبير
عالماً فيه روعة ورواء
…
وفضاء يشع فيه الحبور
عالماً واسعاً تضيق به الآ
…
فاق، فيه الرضا وفيَه السرور
لا تخف سطوة الخريف إذا انقض
…
على دوحك الشجير يغير
قل له: نق تربتي من هشيم
…
ما له في الحياة إلا صرير
قل له: عرَّ دوحتي من بقايا
…
طرحتها لكي تعيش زهور
قل له: عرَّ خاطري من تقالي
…
د أباها عقلي وعاف الضمير
فمن الشجو والخريف حياة
…
ومن الحب والربيع قبور
ما على اللحن أن يكون جميلا
…
وهو لحن - كما ذكرت - قصير
كن جديداً على الحياة ففي الجِ
…
دَّة يهتز كونك المسحور
لست أبغي قيثارة تشكي
…
لحنها الدمع والأسى والشعور
أعطها للخريف، وانحت سواها
…
ذات لحن تهوى عليه الصدور
هات قيثارة تسيل غناء
…
لا يرى منفذاً إليها الدثور
هات قيثارة لها نغمات
…
(هي روح الحياة والإكسير)
هي فرق الأفراح حين تغني
…
وهي فوق الأحزان حين تثور
هي روح ترى الظلام وتزهو
…
بضياء الحياة حيث ينير
هي نور يكسو الطبيعة لوناً
…
حين يخبو من الطبيعة نور
هي لحن يطغى على كل لحن
…
حيث لا معزف ولا مزمور
هي طيب يبث في الوهد عطراً
…
حين لا يغمر الوهاد عطور
هي فن يجلبب الكون بالحس
…
ن إذا ما طغت عليه الشرور
(دير الزور)
خليل هنداوي
أغلال تتحطم!
وثاروا فجن جنون الرياح
…
وزلزلت الأرض زلزالها
وأهيب ما كان يأس الشعوب
…
إذا سلح الحق أعزالها
(شوقي)
ما اغترابي عن الحمى وابتعادي
…
كبدي في اللَّهيب أُختُ فؤادي!
نبأ هزَّني وهاج شئوني
…
رائحٌ بالشجونِ بالدمع غادِ
ما تراني إذا سجا الليلُ أسوا
…
ن لهيفَ الفؤاد نِضو سُهاد
أسألُ النَّجْمَ همة عن عرين
…
فتَك الظلم فيه بالآساد
وأناجي الرياح ماذا لديها
…
عن رفاق الصبى وعن أندادي
اعصفي يا رِياحُ ما شئتِ هوجاً
…
كلُّ نفسي عواصف وعَواد
اللظى في الحشا وتحت جفوني
…
وعلى مَفرشي وفوق وسادي
إن أنم ساعة يقلِّبنيَ الحُل
…
مِ على جمره وفوق قتادي
أألذ الكَرى وطرفي دامٍ
…
وخفوقي في لهفةٍ وأتّقاد
وبلادي تئن من عَبَثَ الجْو
…
رِ وترغى كالليثِ في الأصفاد
تمهرُ المجد أُسدها ثم تجري
…
للمعالي على رؤوس الصِّعاد
حطِّموا أيها الرعاة المزامي
…
رَ وكفكِفْ دمع الهوى يا حادي
ثم سيروا خلف القطيع خشوعاً
…
موْكِباً من جلالة واتِّئادِ
أيُّها البلبلُ الطروبُ دع الأغ
…
صان تبكي واسكتْ عن الإِنشاد
طِرْ إلى حيث وُسِّدت شُهداءُ
…
في بطاح العُلى، طوالُ النِّجار
فاشد في مرْبِض الضحايا وغرِّد
…
فوق أشلائِها الظِّماء الصوادي
واتلُ فوقَ الرؤوس أعذبَ لحن
…
فلحونُ الطيور خير ضماد
الوفاَء الوفاَء يا بلبلَ الأي
…
ك! أتشدو وليس في الشام شادِ؟
بل أقِم أيها الرفيقُ ورَنّم
…
وتنقَّلْ بين الرُّبى والبوادي
وأشد ما شئت عند مُنبلج النو
…
رِ، طروباً، وفي مثارِ السواد
ربما كنت هاهنا أيها البل
…
بلُ تبكي على شهيدٍ جوادِ. . .
أيها الزهرُ في الرُّبى! أغمِضِ الأجف
…
فان حزناً واذْبُلْ على الأعواد
أو فَيِّممْ رَوْض الضحايا فَرفرِفْ
…
فوق أعراسها وفي الأعياد
كيف تزهو والزهر في النيربِ السا
…
جِم باكٍ والورد في الشام صاد؟!
بل تَفَتحْ هنا ورُفَّ ندياً
…
وانشر العِطْرَ منك في كل واد
ربما كنت أيها الزهرُ تُروي
…
من دِماءٍ جاَءتكَ مثلَ العِهاد. . .
يا ثرى موطني تباركت ترباً
…
أنتَ من أدمُع ومن أكباد
حيثما ألتفت فثمَّ ضريح
…
لشهيد أو ساحة لجلاد
كم شهيد كأنه بسمةُ المج
…
دِ ورَيحانة العُلى والجهاد
خَرَّ في حومةِ النِّضال ينادي:
…
موطِني موطني! بلادي بلادي
مات واسمُ الحمى على شفتيهِ
…
كالندى فوق ذلِلِ الأوراد
أو هو أسم الحبيب طوَّف معْسو
…
لاً بِثغر المحِبِّ عند الرُّقادِ
أيها الشرق هَبَّةً للمعالي
…
طال لُبْثُ السيوف في الأغماد
إنما العيشُ صرْعةٌ في جهادٍ
…
والرَّدى في تذلُّلل وانقياد
صرخة أيها الأسيرُ تفري
…
لصَداها حبئلُ الصياد
تجْفِلُ العاديَ المغيرَ وتهوي
…
صاعقات على رؤوسِ الأعادي
أيها الشرق إنما أنت مَجْلَي الن
…
ورِ والكونُ في ثياب الحِداد
إنما أنت مهْبطُ الوحي والأج
…
يالُ تلهو بها أكفُّ الجماد
دّرَج الأنبياءُ فوق روابي
…
كَ، وشعت منائِرُ الإرشاد
علَّموا الكون رحمة العبد للعب
…
د ونبذ الذحول والأحقاد
وهدوْه سُبْل المحبة والخي
…
ر وَنَقَّوه من شرور الفساد
فاهتدي بعد حيْرة وضلال
…
وصفا بعد حلكة واربداد
أيهاذا الغرب المِدلُّ رُويداً
…
والنُّهى - لو عَلِمت - في الإرواد
شَدَّ ما ترهق الضعيف عذاباً
…
تتداعى له على الاطواد
فكأن الأيامَ ليست تَوالي
…
وكأن الزمان ليس يعادي
إيه يا غرب، والحديث شجون
…
والدُّنى بين هدأةٍ ولداد
ما جنينا حتى صببت علينا
…
مُرهقاتِ الأذى والاستعباد
كيف تنسى أيام كنا نجوماً
…
ساطعاتٍ في كلِّ صقع وناد
يوم كنا تاجاً على مفرق الأ
…
ض وشمساً من حكمة ورشاد
والزمان الحرونُ بين يدينا
…
مُستذلُّ الصُّروف سهلُ القياد
فملأُنا السماَء والأرضَ نوراً
…
وأفضنا عليك أفضل زاد
وملكنا بالعدل ناصية الكو
…
نِ زماناً، أغوارِه والنِّجاد
ثم جار الزمان وانقلب الده
…
ر فنامت على الغصون الشوادي
وخبا للخلود أعذب لحن
…
وكبا للرُّقي خيرُ جواد
يا جمال الحياة يا بهجة الكو
…
ن وإرث الأجداد للأحفاد
يا دموع الأسير، يا غضبة اللي
…
ث على القدِّ، يا رجاء العباد
يا ضياء النفوس، يا شمس يا حرِّ
…
ية الغابِ، يا ابنة الآباد!. . .
نحن زهرٌ وأنتِ أعذب طلٍّ
…
نحن عمي وأنتِ أرحمُ هاد
قد مهرناك من دماءِ غوالٍ
…
وفرشنا الطريق من أجسادِ
فاخطري فوقها وتيهي دلالاً
…
واسحبي الذيل في الربى والبوادي
وطئي أعُيناً ودُوسي قلوباً
…
كلها من تمرُّدٍ وعنادِ
وامرحي فوق أرؤُسٍ لك ذلت
…
لا لباغ مضرج الناب عاد
حلقي فوقنا وَرُفي لنحيا
…
قد سئمنا الحياة في الأقياد
واسطعي في القلوب نوراً من الله
…
وثوري بأنفس الهجادِ
صدئ القد في الأكف وفي الأق
…
دام، والغُلُّ حزَّ في الأجياد
أيها الغريب قد أنفنا من النو
…
م وضقنا بالذل والأصفاد
فوثبنا إلى النضال أسودا
…
مثل آبائنا العلى الأمجاد
وخضبنا دغالنا بالدم الحر
…
وضاق الفضاء بالأجناد
أَرْهِق الشَّرْقَ ذِلَّةً وَأَذِقْهُ
…
كل ما شِئْتَ من أذى واضطهاد
نحْنُ نَبْغي الحياةَ، والسَّيْفْ لَنْ
…
يُغْمَدَ يا غَرْبُ قَبْلَ نَيْلِ المرادِ
(ابن دمشق)
القصص
درامة من اسخيلوس
محاكمة أُورست أو ربات العذاب
(الدرامة الثالثة من الأورستية)
أول كوميدية إلهية مسرحية عرفها التاريخ
للأستاذ دريني خشبة
خلاصة الدرامتين الأوليين
(ذهب أجاممنون ملك آرجوس لفتح طروادة ولكن الريح العاصف حالت دون قيام الأسطول فضحى بابنته أفجينا ليهدأ ثائر البحر وأغضب بذلك زوجه كليتمنسترا التي انتهزت فرصة غيابه واتصلت بألد أعدائه إيجستوس اتصلا شائنا ونفت ولدها أورست حتى لا يعكر عليها صفو غرامها - ويعود أجاممنون بعد عشر سنوات فتقتله زوجته وعاشقها. . . وتمضي عشر سنوات أخرى فيكون أورست قد شب واشتد عوده فيعود ليثأر لأبيه من أمه، فيلقى أخته عند قبر والده تصب عليه خمراً مرسلة من الملكة بسبب رؤيا مفزعة خلاصتها أنها رأت نفسها تلد أفعى وتضمها إلى صدرها فتنفث فيه سمها ويتعارف الأخ إلى أخته ويتفقان على الخطة ويطرق أورست باب القصر الملكي متنكراً فتلقاه الملكة ولا تعرفه مع أنه ابنها فيدعي أنه قادم من لدن الأمير الذي كانت قد نفت ولدها عنده وأن ولدها قد مات. . .! وهكذا تجوز الحيلة على الملكة فترسل في طلب ابجستوس لتنهي إليه الخبر ولكن أورست يلقاه منفرداً ويقتله، فلما تجيء الملكة وتشهد مقتل حبيبها تعرف كل شيء وتعرف أن القاتل ولدها لا غيره. . . ثم ينقض أورست على أمه فيقتلها بعد جدل طويل
ولكن أورست يكون قد ارتكب أكبر جريمة تعاقب عليها الآلهة وهي قتل الوالدين فتتمثل له هامة أمه وتفزعه وتروعه حتى يجن جنونه فينطلق إلى معبد أبوللو يتوسل إليه أن يحميه
لأنه هو الذي أمره بإنفاذ هذه الجريمة. . . ومن هنا تبدأ الدرامة الثالثة)
- 1 -
المنظر: (في الأديتون - صومعة أبوللو - في دلفى)
نحن في الأديتون. . . في مثوى أبوللو الخاص؛. . وقد قامت بيثونة الإله الكبير، سيد الشمس، ورب القوس، وصاحب السهام الذهبية. . . تصلي للأرض المباركة، ولا بنتها ذيميس، ولإحدى بنات النيتان. . . فوبيه. . . التي تشبه باسمها فوبوس. . . الذي هو أبوللو. . .
والبيثونة، كاهنة أبوللو، ذات لسان رطب، وهي لا تكل من أن تستطيل صلاتها، فتذكر مينرفا وما روى الناس من أساطير عن مينرفا. . . و. . . تنتهي بعد لأي صلواتها. . .
وندخل معها إلى مثوى أبوللو؛ ولكنا نخرج مذعورين وجلين، كما تخرج هي وجلة مذعورة. . . لأننا نرى أورست المسكين راكعاً بين يدي تمثال الإله يبكي. . . ويصلي. . . ويضرع إلى أبوللو أن يحميه من ربات العذاب. . . الزبانيات الضاريات. . . اللائى رحن يطاردنه في كل حدب، ويأخذن عليه سبيله في كل صوب. . . وبودّهن لو تمكنّ منه فهرأن لحمه، وحطمن عظامه، ثم دفعنه في حميم فليجتون، بما قتل أمه وأغضب الآلهة
وتذعر البيثونة لأنها ترى إلى إحدى يدي أورست ملطخة بالدم الذي سفحه، وترى إلى يده الأخرى تحمل غصناً غضاً نضيرا. . . هو غصن الزيتون؟! وكيف يجتمع الدم المسفوك، وغصن الزيتون؟
مسكين أورست! لقد ركع بين يدي التمثال يصلي ويبكي، ومن حوله الزبانيات الضواري يتربصن به. . . هؤلاء الجرجون السفاحات. . . اللائى تتحوى الأفاعي في رؤوسهن، ويغلي السم في أنيابهن، ويضطرب الموت الأسود في أظفارهن!!
ويسقط في يد البيثونة، ولكنها تدعو لمولاها أبوللو أن يحمي بيته من هؤلاء المتمردات
- 2 -
وينفتح باب الصومعة على مصراعيه، فنرى أبوللو نفسه، ونرى أورست المعذب ما يبرح يبكي ويصلي، ونرى إلى الجرجون من حوله يكدن يبطشن به، ولكن أبوللو يكلمه ويحتفي
به ويذهب عنه الروع الذي يضنيه
- (ليفرخ روعك يا أورست فأنا ربك وحارسك وسأظل آخر الدهر معك. . . قريباً منك أو بعيداً عنك. . . تراني أو لا تراني. . . دائماً معك. . . دائما. . . وسأكون أعدى أعداء من عداك. . . حتى ولو كان من أعدائك هؤلاء الجرجون آلائي ترى. . . فأنه لن يصل إليك منهن ضر، ولن يصيبك منهن أذى. . . فإني قد ألقيت عليهن غفوة، وأسكرت مقلهن بخمرة الكرى، فهن في سبات عميق حتى تكون بنجوة منهن. . . الشريرات عدوات الآلهة والناس أجمعين. . .)
ويهدأ أورست قليلا، لأنه ينظر فيرى إلى الجرجون ساكنات نائمات كما أخبر الإله، ويصل أبوللو حديثه فيقول:(. . . وليس عليك إلا أن تنطلق من فورك هذا فلا تلوي على شيء حتى تكون في معبد مينرفا فاسجد تحت قدميها سجدة تستجمع فيها نفسك وقلبك وآلامك. ثم تبثها شكواك وتتوسل إليها أن تأذن فتحكم بينك وبين الزبانيات، ربات الذعر، هذه الجرجون؛ ولا تخش عقدة في لسانك فسأكون إلى جانبك، وسأنافح عنك وأشد أزرك، ولن يؤودني أن أضع عنك هذا الوزر الذي يثقلك، مادمت أنا الذي أمرتك أن تقتل أمك الفاسقة. . . وستنطلق الجرجون في إثرك، فإذا أدركنك فلا يروعنك أن يأخذنك فيلببْنك تلبيبا، ثم لا يروعنك أن يتواثبن بك فوق الآكام ويسحبنك فوق النؤى ويطوحن بك فوق البحر اللجي. . . فانك واصل بأذني، وعلى عيني إلى حيث ألقاك في معبد مينرفا)
فيكفكف أورست عبرته ويقول: (تباركت يا سيد الشمس وتقدست أسماؤك، ولا غفلت عينك الساهرة عن عبدك المنيب. . . ولا زلت تدركني برحمتك يا أرحم الراحمين!)
فيجيبه أبوللو: (ولا زلت أوصيك بالتجمل والصبر، فلا تقذف بالروع في قلبك، ولا تدع للذعر إلى روحك سبيلا، وسأوصي بك أخي هرمز، حامل الأرواح إلى ظلال هيدز، يمهد لك، ويوطئ سبيلك حتى تكون في مُتوجَّهك)
ثم يرف أبوللو فيكون في السماء. . . ويخرج أورست
- 3 -
وتنعقد سحابة في جو الصومعة، ثم تنكشف عن شبحٍ قاتم سادر، هو شبح كليتمنسترا. وكأن نوم الجرجون يشدهه فيقول:
- (يا هياهْ! يا هياه! هَياَ! هَياَ! جورجون! غطيط! تنامين وأذرع الظلمات مفضوحةً بمن قتلني! انهضن يا ربات! إنهم يصرخون في وجهي: مجرمة! آثمة! أنا؟ أنا مجرمة وقد قتلني ابني الذي حملته وغذوته؟. . . ما شغلكن إذن إذا نمتن عن هذا الوزر؟ ألم أكن أقرب لكن القرابين وأضحي الأضحيات من خمر كلها غَوْل في دجنّة الليل؟! أفهكذا تضيع إضحياتي عندكن وينجو قاتلي دون أن تمسكن به؟ انهضْن! انهضن فحسبكن ما ألم بكن من كرى! انهضن فقد لاذ بالفرار قاتلي غير مبالٍ بكن؟ أنا كليتمنسترا؟ أهتف بكن يا ربات الظلمات! أنا. . . القتيلة التي يسبح ظلها في مملكة الأحلام!)
- (خيخ!. . . خيخ. . .! خيخ. . .! خيخ. . .!)
- (خيخ؟. . . ما هذا الفخيخ يا ربات؟ إنه يضطرب في حلوقكن فيكون شخيرا، ثم يرتد في أنوفكن فيكون نخيراً! هَيا! لقد أفلت قاتلي! ولدي! لقد كلأته قدرة سماوية بينا أنا مهجورة هنا!)
- (غيط. . . خيخ. . .! غيـ. . .)
- (غيط! ما هذا الغطيط وقد انفتل قاتلي! ما أنتن هنا؟ أورست ابني. . . أطلق ساقيه للريح يا ربات، فمن غيركن يأخذه بقتلتي؟)
- (أو. . . هـ. . .)
- (أوه؟ هَيا! البدارَ البدار! يا للضنى!)
- (أو. . . هـ. . .)
- (حتى النوم والتعب يشدان أزر المتآمرين!)
- (خيـ. . . . خ. . . (وتستيقظ الجورجون) أمسكن! أمسكن! مِن هنا! من هناك! حذار!)
- (آي! أنتن تتصدين المجرم في شبكة أحلامكن! وما تبرحن متثائبات! يا للعار؟ انهضن يا ربات ولا تستسلمن لهذا الخمول! بحسب قلوبكن وخزة من ضمير حي لو يستيقظ! هَياَّ هَيا! اقصصْن أثره! ولينزع شِواه زفير من جحيم أنفاسكن هيا هيا!!)
(ويغيب الشبح)
- 4 -
وتنهض الجورجون فيروعهن ألا تجدن أورست وقد طاردنه طويلا، وكدن يبطشن به لولا
احتماؤه بصومعة أبوللو. . . ويبر من ويتسخطن. . . ويشتد غضبهن على أبوللو نفسه، لأنهن يفطن إلى أنه هو الذي ألقى عليهن هذا النعاس الذي صرفهن عن واجبهن. . . (غير مبال أن تخرق قانون الآلهة، ولا مبال أن يتلطخ وحيدك بالإثم والدم، كأنك تتحدى ربات المقادير. . . ولكن هيهات! هيهات أن تستطيع حماية هذا الآثم الذي يلوذ بك. . . فأنك ستشهده بعينيك يتلظى في حر جهنم. . . وستضاعف حمايتك العمياء له عذابه. . . . . .)
وما يكدن يفرغن من برمهن، ويمسكن عن قولة السوء التي أرسلنها، حتى يبدو طيف أبوللو:
- (. . . . أغربن اغربن! آمركن ألا تبقين في صومعتي! هَلَا! وإلا فستبيدكن نفثات الثعبان الذي يتحوى في قوسي! الأرقم! أتجهلنه؟ أغربن يا سبب شقاء الناس ونافثات السم في جراح البرايا! لا تنتهكن هذا الحرم المقدس الأطهر بظلالكن البشعة، النكراء! أغربن من هنا، وتعثرن بالموت والأرزاء في سبل الشباب الذي تذوين، والحيوات التي تشقين والأنفاس البريئة التي تحشرجن في صدور الأطفال. . .! بحسبكن أنين الموتى، وجؤار القتلى، وسكرة الموت؛ تخضض المفجوعين والمفئودين! أغربن من هنا. . . . وليكن مأواكن في مغارة ذئب أو كهف سبع ينهش فريسته التي ما تزال تئن وتتوجع. . . فصومعتي أطهر من أن تدنسها أدرانكن! أغربن قلت لكن، فما انفكت لعنة السماء عليكن وغضب الآلهة والناس أجمعين! هيا. . . هيا. . . يا هتاه!)
- (أيها الإله أبوللو! أصغ إلينا وعِ! أنت لم تكن شريك هذا المجرم الذي حميت في وزره فقط (حين قتل أمه) ولكنك كنت الآمر الموحي؛ فعليك يقع الجرم كله. . .)
- (وما برهانكن؟ هراء. . . هراء. . . .)
- (نبوءتك التي أوحيت بها. . . . تقضي أن يقتل الغلام أمه!!)
(لقد صرحت، غير متردد، لابد أن يثأر الفتى لأبيه!)
- (وها قد تقبلت الغلام، وما انفك الدم يقطر من يديه!)
- (لا. . . . ولكني أمرته أن يستغفر لذنبه هنا!)
- (ولكنه لم يأت ليستغفر، بل أتى يلوم ويعتب ويعذل. . . يعتب عليك ويعذلك يا
حاميه!؟)
- (وأنتن؟ ماذا جاء بكن وأنتن غير جديرات بأن تقربن قدسي!!)
- وظيفتنا يا سيد الشمس! هذا عملنا الذي ارتضينا يوم اقتسم الآلهة شؤون الحياتين!)
- (ماذا؟ عملكن؟ وما عملكن يا ربات الذعر؟)
- (أن نقتص آثار قبلة الآباء وننفيهم من الأرض!)
- (وماذا تصنعن بمن يقتلن أزواجهن من النساء؟)
- (هذا دم لا يعنينا لأنه من دماء ذوي القربى، فلا شأن لنا به!!)
- (بعدتُن عن الشرف والنبل إذن، وعن العدالة كذلك! أن ذلك ينافي القداسة الزوجية التي تقر بها حيرا لزوجها زيوس سيد الأولمب، وينافي ما قضت به ربة الحب من وجوب الوفاق والمحبة بين الزوجين. . . إن العلاقة بين الزوج وزوجه أكبر من أن تكون قسما اقسماه! فإذا حدث أن قتل أحدهما الآخر ولم يثر ثائركن لهذا القتل فمن يأخذ المجرم بجرمه؟ وماذا تكون الحياة إذا لم يكن فيها قصاص؟! إنكن إذن تطاردن أورست ظالمات!! فبينا تأخذن بالشدة والعنف مجرماً لا تقع عليه - في الحق - جريرة ما صنع، إذا أنتن تغضين عن مجرمين ضجت الدنيا بآثامهم وتلطخت الفضيلة بأوزارهم، فما لكن كيف تقضين؟! وليكن الأمر ما يكون، فسيعرض الأمر كله على مينرفا لترى فيه رأيها!)
- (مهما حاولت فلن نعفي القاتل من أن يلقى جزاء ما جنت يداه!)
- (اقصصن أثره إذن وافعلن ما بدا لكن!!)
- (ولكن لا تستهزئ بحقنا المقدس في ثنايا كلمك!)
- (أنا لا يعنيني حقكن المقدس ولا أبالي به أو بكن!؟)
- (. . . . . . إن رائحة الدم المسفوك. . . . دم الأم المذبوحة. . . قد أتى بنا إلى هنا، ولا بد من أن نقتحم هذا المأوى ونقبض على المجرم!)
وسأحمي هذا اللائذ بي إلى النهاية! سأناضل عنه مادامت العماية تغطش أبصاركن! أنني إذا تخليت عنه، وتركته لبطشكن، غير متأب ولا ناقم فستضج السماء والأرض، وتزلزل الجبال. . . وتنقم الإلهة. . . ويسخط الأولمب. . . أغربن. . . أغربن! هيا. . . يا ربات الذعر. . . زادتكن السماء مسخاً!)
(وتنطلق الجورجون. . . ويغيب أبوللو)
(البقية في العدد القادم)
دريني خشبة
صانعة الكراسي
للكاتب الفرنسي (جي دي موباسان)
ترجمة السيد فؤاد نور الدين
أقام المركيز دي برتران حفلة شائقة على نخب صيد العام الجديد. فدعا أصحابه من أهل البلد. فالتف حول المائدة عشرة رجال تصحبهم ثماني نساء من ذوات الحسن والدلال؛ وكان الخوان موقراً بصنوف الزهر الزكي، وضروب الثمر الشهي؛ وقد ألقت مصابيح الكهرباء أنوارها المتلألئة على هذه الأنواع المختلفة من الزهر والثمر والطعام، فماجت تحتها موجاناً يستفز الشهية ويستقطر اللعاب
جلس في صدر المائدة على مقربة من المركيزة طبيب البلدة، وهو رجل متقدم السن، وقور الهيئة، يبدو على وجهه طابع الفطنة والذكاء
كانوا جميعاً يتجاذبون ألواناً ممتعة من الحديث اللذيذ والكلام الرقيق، فلما انتقلوا إلى حوار الحب، وماهية الحب، انبعثت بينهم تلك المناقشة الخالدة التي يراد منها أن يفهم: هل الحب المحض يدرك القلب المرء مرة في حياته أو أكثر؟
فكانت تورد أمثلة لأناس تيم قلوبهم الحب الصحيح مرة فحسب، وكانت تورد أمثلة لأناس آخرين أحبوا بعنف وقوة وهيام أكثر من مرة
كان الرجال بنوع عام يشبهون العشق بالأمراض، فكما أن هذه تعتور جسم الإنسان دوماً، فالعشق أيضاً يصيب فؤاده كثيرا ويكون في كل مرة من العنف والقوة والهياج بحيث يُؤثْر العاشق الموت إذا ما اعترضت سبيله علة من العلل
أما النسوة فكان رأيهن يستند أكثر ما يستند على الخيال والشعر، وينأى عن النظر والفكر. فكن يثبتن في حماس واندفاع أن الحب المحض، الحب العظيم لا يمكن أن ينبعث في القلب إلا مرة فحسب، حتى إذا تمكن منه ألهاه عن كل أمر، فأحرقه وألهبه، وكان فعله فيه فعل الصاعقة في الشجر والنبت، فكما أن هذه تحبس عنهما النمو والنشوء الجديدين، فهذا الحب أيضاً - يجعل القلب قفراً فارغاً لا يمكن أن تنشأ فيه أحلام تشبه أحلامه الأولى ولا أن
تنبت فيه مشاعر تشبه مشاعر هيامه الماضي وعهده السالف
كان المركيز يدحض هذا الاعتقاد بكل ما أوتي من ذلاقة لسان، ومن حجة وبيان
كان يقول:
- أؤكد لكم يا سادتي أن الإنسان في مقدوره أن يعشق أكثر من مرة بكل جوارحه وبكل قواه. إنكم تعددون لي أمثلة أناس انتحروا من أجل الحب كأنهم عاجزون عن أن يعيشوا ليعشقوا ثانية. غير أني أجيبكم: إن هؤلاء الناس لو أهملوا الانتحار وتحاشوا هذا الحمق المجنون، لألفوا في الحياة ما يثير الحب جديداً في قلوبهم الجريحة ويحي موات الأمل في نفوسهم اليائسة، لأن من هام عاد إلى الهيام، ومن احتسى أولى الكؤوس عاد إلى سواها. تلك طبيعة المرء لا منصرف عنها ولا محيد
لما أتم المركيز خطابه وأعلن رأيه، انحدرت الأنظار إلى الطبيب تنتظر منه الحكم الأخير. قال:
- أنا لا أخالف المركيز في رأيه، فالهوى تتعدد فصوله وتتابع طوارئه على الفؤاد. غير أني عرفت فيما عرفت هوى دام خمساً وخمسين سنة، وما خمدت ناره ولا انطفأ أواره إلا بالموت
قال المركيز وهو يفرك يديه:
- ترى أهذا الحب محمود؟ وما وراءه من أمان وأحلام؟ وأي سعادة في أن يعيش المرء خمساً وخمسين سنة على غرام واحد؟
فابتسم الطبيب ابتسامة خفيفة وهو ينظر إلى المركيزة:
- إن الشخص الذي أتاح له القدر أن يكون معشوقاً طول هذه المدة كان رجلا وأنتم تعرفونه جميعاً، هو السيد شوكه صيدلي الناحية. أما المرأة العاشقة فلستم تجهلونها أيضاً، هي صانعة الكراسي العجوز التي كانت تفد أحياناً إلى القصر هاهنا:
بدت على وجوه النسوة ملامح الدهش ودلائل الاشمئزاز، كأنما الحب لا ينبغي أن يصيب فيما يصيب إلا المخلوقات المترفة المتميزة التي تستحق وحدها أن يبدي الناس لها عطفا واهتماماً
قال الطبيب:
- منذ ثلاثة شهور دعيت إلى جانب هذه العجوز وهي على فراش الموت، وكانت قدمت في عربتها التي اتخذتها مسكناً لها وآلة ركوب تطوف البلدان عليها. يجر هذه العربة فرس مهزول ناحل لا شك أنكم رأيتموه. ويصحب العجوز كلبان أسودان هما صديقاها وحارساها. كانت دعت القسيس أيضاً لتكشف لنا عن رغباتها الأخيرة فنكون منفذين لوصيتها. فقصت علينا جميع أطوار حياتها. الحق إنني لم أسمع قصة أشد تأثيراً في النفس وأكثر غرابة في الأذن من قصتها. كانت حرفة والديها صنع الكراسي. ولم يكن لها سكن خاص في أرض معينة، فإنها طفلة كانت تطوف البلدان ممزقة الثياب معتلة الجسم يثير منظرها نفوراً واشمئزازاً. وكان أبواها كلما بلغا إحدى القرى وقفا عند مدخلها وأنشأ يصلحان الكراسي العتيقة والمقاعد القديمة تحت ظل الأشجار وهي تتدحرج لاعبة ضاحكة خلال أعواد العشب المشرئبة. فإذا ابتعدت قليلا عنهما أو أخذت في الحوار مع الصبية، فإنها لا تلبث أن تسمع صوت أبيها المغضب يقول لها:(ارجعي يا وقحة). فكانت هذه الجملة، الجملة الوحيدة التي تسمعها من أبيها
ولما ترعرعت بعض الشيء أرسلاها تلتقط أو تبتاع ما فسد من المقاعد. فكانت في تنقلها من مكان إلى مكان تتعرف إلى الصبيان وتأنس إلى الحديث إليهم. على أن ذويهم كثيراً ما صدوهم عنها وهم ينتهرونهم أشد الانتهار، ومنهم من كان يقول لولده:(ألا اقطعن الكلام مع هذه الشريدة الحافية الأقدام)
أما الفتية الصغار فما أكثر ما قذفوها بالحجارة من غير أن ينبس فوهها بكلام! وكان بعض النسوة أعطينها قليلا من دراهم، فاحتفظت بها وحرصت عليها
وبينما كانت تجوز هذا البلد في أحد الأيام وقد بلغت الخامسة عشر ربيعاً من عمرها، إذ صادفت خلف المقبرة شوكه الصغير وهو يبكي أحر البكاء، لأن رفيقاً له سرقه درهمين. فآلمها وهي البنت المسكينة، أن ترى طفلاً حضرياً يذرف دموعاً سخينة من حيث لا مواسي له ولا صديق. فدنت منه وما كادت تقف على سر بكائه حتى وضعت في يديه تلك الدراهم القليلة التي احتفظت بها. وكان طبيعياً أن يبتهج الطفل بالدراهم فأخذها ومسح دموعه. وكان منها أن جنَّت فرحاً بعمله، فأنشأت تعانقه وتضمه إلى صدرها وتقبله تقبيلاً حاراً دون أن يمانع الولد أو يصدها عنه لأنه كان لاهياً بفحص النقود
ثم انصرفت عنه وقد فاض قلبها محبة لهذا الطفل
ولم يكن أحد يعلم ماذا جال في رأس هذه التاعسة من خواطر وأحلام، أتعلقت به لأنها ضحت في سبيله بثروتها المتجمعة من التشرد والانتقال، أم لأنها منحته أول قبلة وثب قلبها لها؟
خفي ذلك على الصغار والكبار
وظلت أشهراً تتمثل في خاطرها زاوية المقبرة التي شهدت فيها هذا الغلام وشرعت تسرق أبويها ما تصل إليه يدها من دراهم أملاً في لقائه ومصدافته. وكان في يدها آخر الأمر فرنكان. على أنها هذه المرة بدلاً من أن تلمح فتاها في محل منعزل، رأته خلف قضبان حانوت أبيه: بهي الطلعة نظيف الثياب، والقناني الحمراء والخضراء والصفراء تحيط به من كل جانب. فازدادت له حباً وبه كلماً، وبهرها ما ألفت لديه من مجد بادٍ في هذه المياه المصبوغة، ومن جلال ظاهر في هذه الزجاجات البراقة
فاحتفظ خاطرها بذكراه مدة، حتى صادفته في السنة التالية خلف المدرسة يلعب مع رفاقه، فهجمت عليه وقبلته تقبيلاً عنيفاً ريع له الولد وأخذ في الصراخ. لكنها سرعان ما وضعت في يده ثلاثة فرنكات هش لها الغلام وطرب، وحملق في وجهها في دهش وتعجب تاركا نفسه لها تداعبه ما رغبت في المداعبة، تعانقه ما اشتهت من عناق
وظلت أربع سنوات تقدم إليه ما تجمعه فيأخذه منها مقدماً إليها القبلات عن رضى وسرور. أعطته مرة فرنكين ومرة خمسة فرنكات، وهي قطعة كبيرة جعلته يضحك لها ويرقص طربا
لم تكن تفكر إلا فيه؛ أما هو فكان ينتظر عودتها ويرقب شخوصها إليه بصبر فارغ وشوق لجوج، حتى إذا أبصرها، جرى إليها مسلماً خده لقبلاتها، ويده لدرهمها. وما أشد خفقان قلبها عند ذاك!
وتوارى الغلام حقبة من الزمن عن عيانها لأنه انتقل إلى مدرسة أخرى. وعرفت هي انتقاله بمهارة وحذق، فأبلت في السياسة بلاء حسناً حتى حملت أبويها على المرور من هنا في الصيف. وكان مضى عليها سنتان دون أن تراه. فلما أبصرته كادت لا تعرفه. لأنها رأت أمامها بدلا من طفل الأمس فتى تفتحت ورود الصبا في وجهه، وابتسمت زهور
اليفاعة في قده
نظرت إليه نظرة شوق ولهف. وكان منه أن تظاهر بعدم رؤيتها، ثم خطا أمامها ببزته الأنيقة ذات الأزرار الذهبية يملأ صدره زهو وافتخار، ويعلو برأسه أنفة واستكبار
وانصرفت عنه والدموع تسح من عينيها والزفرات تتصاعد من قلبها. وأصبحت بعد ذاك العهد أليفة أحزان، وصديقة آلام
وانطوت الأعوام متوارية خلف حجاب الفناء، وفتاتنا لا تنقطع عن الشخوص كل عام إلى بلده لتراه دون أن تجرؤ هي على تحيته، ودون أن يتنازل هو بإلقاء نظرة عليها
كانت تهواه بكل جوارحها، وهاكم ما أسرته لي (إن هذا الرجل يا سيدي الطبيب، الرجل الوحيد التي رأته عيناي، وما علمت بعد ذاك إذا كان يعيش في العالم سواه)
ومات أبواها واستمرت في حرفتهما، وقد صحبت من بعدهما بدلا من كلب واحد، كلبين هائلين يخشى الدنو منهما
وكان يوم دخلت في هذا البلد، فرأت امرأة في نضارة الصبا وربيع الحياة تصحب شوكه حبيبها، وقد تأبطت ذراعه وهما يخرجان من الحانوت معا
لقد تزوج إذن شوكه!
وفي مساء اليوم ألقت نفسها في الغدير القائم خلف المحكمة. واتفق أن رجلا كان يمر هناك، فأنقذها وقادها إلى منزل شوكه، فنزل هذا لعلاجها، ودلك بيديه مكان الألم من جسمها دون أن يتظاهر بعرفانها. ثم ما لبث أن قال لها بصوت جاف:(أأنت مجنونة؟ لا ينبغي أن تكوني هكذا حيواناً)
هذه الجملة وحدها بعثت فيها البرء والشفاء. ألم يتكلم إليها؟ حسبها ذلك! وظلت هائمة مغتبطة أمداً طويلا
قضت كل حياتها تذكر شوكه ولا تفكر في غيره. وكانت تلمحه في سنيها خلف الزجاج، وما أكثر ما ابتاعت عقاقيره وأدويته لا تبغي من شرائها إلا رؤيته والحديث إليه
وكما ذكرت لكم بديا، ماتت هذا الربيع وقد رجتني بعد أن قصت عليّ قصتها أن أحمل إلى هذا الذي أحبته حب العابد لمعبوده، جميع ما ادخرته من مال. لأنها كما اعترفت لم تشتغل إلا لأجله، تجوع أحياناً لتدخر له بعض المال. فإن ذكرها بعد وفاتها مرة واحدة فستشعر في
قبرها بالسعادة والهناء
أعطتني عشرين وثلثمائة وألفين من الفرنكات. فقدمت العشرين فرنكا إلى القسيس لأجل دفنها، وأخذت الباقي لما فاضت روحها، وقصدت منزل شوكه، فلما دخلت كان وزوجه يتناولان طعام الغداء وقد جلس الواحد أمام رفيقه، والاحمرار يكسو وجهيهما، والسعادة تسبل عليهما ظلها الوارف وبشرها الطافح. طلبا إلي الجلوس فجلست، وقدما لي كوبا من مشروب (الكيرسك) فتناولته شاكراً وبدأت أنقل لهما القصة بصوت مضطرب حزين، لأني زعمت أنهما سيبكيان ويحزنان على أن شوكه ما كاد يفهم أن هذه الأفاقة الشريدة تضمر له حباً وولاء حتى جن جنونه وثارت ثائرته وشرع يثب من السخط والغضب كأنما سلبته المسكينة من المجد والشهرة، ومن العزة والشرف شيئاً كثيرا. أما الزوجة فكانت تصيح والغيظ يملؤها (يالها من نذلة! يالها من نذلة!)
ثم نهض شوكه وألقى بقبعته على الوسادة وأخذ يذرع أرض الغرفة جيئة وذهاباً كأنه أحد المجاذيب وكان يتمتم: (أو يمكن هذا يا دكتور؟ إن ذا لشيء فضيع! ما العمل؟ يا ليتني عرفت الأمر في حياتها! فلكنت أسوقها سوقاً إلى السجن بقوة الدرك)
فلبثت أنا كالمشدوه مما سمعته أذناي ورأته عيناي لا أدري ما ينبغي لي من قول ومن عمل. على أنني عقبت كلماتي: (سيدي إنها أوعزت إليّ أن أحمل إليك ما تركته من نقود، وقدرها ثلثمائة وألفان من الفرنكات. ولما كان ما نقلته لك من حديثها قد أثار فيك سخطاً وسوءاً، فلعل من الخير أن نهب النقود بعض الفقراء والمساكين)
نظرا وقد أفقدتهما الحيرة كل حركة!
فأخرجت المال من محفظتي، هذا المال المتجمع من بلدان عديدة والمدَّخًر من جميع النقود من ذهب وفضة وغيرهما. وسألته قائلا:(ماذا عزمت؟)
قالت السيدة شوكه: (مادامت ربة المحتضرة الأخيرة تقضي بذلك. فأرى من الصعوبة رفض إرادتها)
وقال الزوج واحمرار الخجل باد عليه: (إن هذا المال ينفعنا في اقتناء بعض الحاجيات لأطفالنا)
قلت عند ذلك بصوت جاف: (كما تشاء)
قال: (هاته مادامت أوعزت إليك ذلك. فلن تعوزنا الوسيلة في إنفاقه إنفاقاً جميلا)
فقدمت إليهما الدراهم وصافحتهما وانصرفت
وجاءني شوكه في غد اليوم، وابتدرني قائلا:(هذه المرأة تركت عربتها، ماذا فعلت بها؟). قلت:
- لاشيء، خذها إذا أردت. قال:
- إنها تنفعني؛ سأجعل منها كوخاً لحديقتي
وهم بالانصراف فناديته قائلا: (إنها تركت أيضاً فرسها وكلبيها، ألا تريدها؟ فوقف مندهشاً وقال: (آه! كلا، لا حاجة بي إليها، ما أصنع بها؟ خذها أنت.) وأخذ يضحك ومد يده إليّ فصافحته بمودة، إذ لا ينبغي للطبيب والصيدلي أن يكونا عدوين
احتفظت بالكلبين، أما الفرس فقدمته إلى القسيس، وأفاد شوكه من العربة كوخاً لحديقته، وابتاع بالنقود خمسة أسهم في الخط الحديدي
هذا هو يا سادتي الحب العميق المحض الذي صادفته في حياتي
وصمت الطبيب
فأخرجت المركيزة من صدرها آهة حبيسة، وقالت والدموع تلألأ في عينيها:
(الحق أن النساء وحدهن يعرفن الحب!)
(حلب)
فؤاد نور الدين
البريد الأدبي
الأرحام المبلولة
أنكر علينا الدكتور زكي مبارك في (البلاغ) قولنا في افتتاحية العدد 139 من الرسالة: (وأيبست الأرحام المبلولة)، وظن أن الذي ورطنا في وصف هذا الموصوف بهذه الصفة إنما هو حرصنا على هذه السجعة التافهة! ومعاذ الله أن نكره كلمة على غير موضعها طمعاً في زينة لفظية نعتقد أن خصيصة الجمال فيها جريانها مع الطبع والصدق
لعل إنكار الأستاذ أن يكون آتياً من إحدى جهتين: إما استعمال اللغة
وإما مراعاة الذوق. فأما اللغة فحسبنا أن نورد هنا ما ذكره (لسان
العرب) ولا نزيد عليه. قال في مادة (بلل) (. . . وبل رحمه يبلها بلا
وبلالا: وصلها. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: بلوا أرحامكم
ولو بالسلام، أي ندُّوها بالصلة. قال ابن الأثير: وهم يطلقون النداوة
على الصلة كما يطلقون اليبس على القطيعة، لأنهم لما رأوا بعض
الأشياء يتصل ويختلط بالنداوة، ويحصل بينها التجافي والتفرق باليبس،
استعاروا البل لمعنى الوصل، واليبس لمعنى القطيعة، ومنه الحديث:
فإن لكم رحماً سأبلها ببلاها: أي أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من
الله شيئاً. . . أبو عمرو وغيره: بللت رحمي أبلها بلا وبلالا: وصلتها
ونديتها. قال الأعشى:
أما لطالب نعمة تممتها
…
ووصال رحْم قد بردت بلالها
وقال الشاعر:
والرحم فابللها بخير البُلان
…
فأنها اشتقت من اسم الرحمن
وأما الذوق فهناك ذوقان: ذوق أبناء العرب، وذوق (أبناء البلد)، فأما ذوق أبناء العرب فقد رأيت حكمه في هذا الاستعمال من وروده في الحديث والشعر، وتسجيله في معاجم اللغة
وكتب الأدب؛ وأما (ذوق أبناء البلد) فقد يجد فيه شيئاً، ولكنه الشيء الذي يجده العامي في مثل قوله الله تعالى:(آتوني زبر الحديد) أوفي مثل قول الشاعر: (ومن يك) ومثل هذا الذوق العابث ينبغي أن نراعيه إلى حد ما، وإلا ذهب كلام الناس كله هزؤاً بين (نكتة) و (قافية)
كلمة قصيرة اختلستها من المرض الملازم يا دكتور فمعذرة
الزيات
الحركة الأدبية
حفلت القاهرة في الأيام الأخيرة بمجالس العلم والأدب، فكأنها سوق من أسواق الكلام التاريخية في أزهى عهوده وأحفل أيامه، فأنت لا تنفك آخر النهار وأول الليل تسمع أبلغ الخطب وأجود القصائد وأنفس المحاضرات في حفلات الترحيب وموائد التكريم وقاعات الثقافة، وقد كان لوفود إخواننا الفلسطينيين والعراقيين أثر قوي في هذه الحركة. ولقد قام (أسبوع المتنبي) الذي أعدته الجامعة المصرية في المكان والأزمان التي أعلناها من قبل، وكان ما سمعناه إلى اليوم من المحاضرات التي ألقيت فيه فخراً لكلية الآداب تستحق عليه التهنئة؛ وعسى أن يساعدنا التوفيق فنثبت شيئاً منها في أعدادنا المقبلة
مديرية أسوان
قرأت في عدد الرسالة 139 نقدا على بعض ما جاء في مقالي عن مديرية أسوان يدور
(1)
على أن بلاد (بنت) هي في آسيا من بلاد الفينقيين. وهذا خطأ، والصواب أنها كما ذكرت في أفريقيا، وموضعها الآن المنطقة المعروفة بالصومال الفرنسي والإرترية؛ وقد بينها الأستاذ برستد على الخريطة في كتابه صفحة 102
(2)
اعترض على كلمة (أثيوبيا) اعتراضاً غير وجيه، فأن أثيوبيا كلمة يقصد بها الأراضي الواقعة جنوب مصر، وهي كلمة يونانية استعملها هيرودوت، واراتستين، وبطليموس، وبينوها على خرائطهم. (انظر كتاب الأستاذ كلتي المسمى الفصل الأول وعنوانه
(3)
ذكر أن تسمية الهيكل الموجود بجهة كلابشه منذ عهد رمسيس الثاني باسم بيت الولي
خطأ وأن الصواب الوالي، وقولنا الأصح لأن الغرض من الولي هو القديس لاعتبارات تتعلق بتاريخ مصر القديم لا يجهلها أحد. والمهم أن يذكر الناقد النص الذي يعتمد عليه، والمرجع الذي يرجع عليه، حتى يكون على كلامه مسحة من الثقة. ذلك ما عنانا أن نرد عليه من النقد، أما ماعدا ذلك فلا قيمة له
رشوان أحمد صادق
ذكرى مأساة غرامية شهيرة
تعنى الأوساط الأدبية الفرنسية دائماً بتتبع الحوادث والذكريات الأدبية، ومن ذلك ما نوهت به بعض الصحف الأدبية أخيراً من مرور مائة عام كاملة على صدر كتاب لمؤلفه مكانة خاصة في الأدب الفرنسي. وذلك هو كتاب (اعترف طفل من أبناء العصر) ' لمؤلفه الشاعر الغنائي الفرد دي موسيه. وفي هذا الكتاب يعرض الشاعر فصلاً ساحراً محزناً معاً من حياته العنيفة المضطربة، ذلك هو قصة غرامه مع الكاتبة القصصية الشهيرة جورج ساند؛ وقد كانت هذه الكاتبة التي تضطرم شغفاً وجوى تهيم في غمر الحب بلا انقطاع، وتتقلب تباعاً بين أذرع عشاقها المتوالين؛ وكان جلهم من كتاب العصر ومفكريه؛ وكانت قبل هيامها بالشاعر خليلة لجول ساندو الكاتب، ثم هامت من بعده بالشاعر ميرميه، ولكن حبهما لم يكن سوى مأساة قصير المدى. وفي ذات يوم من أيام أبريل سنة 1833، كانت جورج ساند تتناول طعام العشاء في حفل راق، وكان جارها فتى أنيقاً يحدثها بحرارة عن بعض قصصها؛ ولم يكن هذا الفتى الأنيق سوى الفرد دي موسيه؛ وفي نفس المساء هامت جورج ساند بالشاعر الفتى، وبث إليها جوى يضطرم؛ ولم تمض أسابيع قلائل حتى غدت صاحبته، وغدت باريس بأسرها تتحدث بهذا الغرام الجديد؛ وبعد بضعة أشهر سافر العاشقان إلى البندقية؛ ثم تسربت بعد ذلك عوامل الوهن إلى غرامهما، وانتهت قصتهما الغرامية المشجية بعد أربعة عشر شهراً في آلام ومعاناة، وأوحت هذه المأساة الغرامية إلى الشاعر موضوع كتابه الأشهر (اعترف طفل من أبناء العصر). ولم يخطئ أهل العصر في فهم ما قصد إليه الشاعر وما يعنيه بطريقة مستورة؛ ولم تحاول جورج ساند يومئذ أن ترد عليه أو تثير حول الموضوع أية مناقشة، خصوصاً وأن رواية
دي موسيه كانت على ما يظهر تصور الحقيقة كما هي، ولهذا اعتبرت يومئذ هي القول الفصل
ولكن الشاعر لما توفي بعد ذلك في سنة 1850، رأت جورج ساند أن تقول كلمتها في مأساة غرامها؛ فكتبت كتابها المسمى (هي وهو) تصحح فيه بعض الوقائع والتفاصيل، فأثار كتابها يومئذ فضيحة أدبية واجتماعية؛ ورد عليها بول دي موسيه ولد الشاعر في كتاب عنوانه (هو وهي)
ومن ذلك الحين ظهرت عشرات الكتب والقصص عن علائق العاشقين الشهيرين؛ وأشهر هذه الكتب وأقيمها هو بلا ريب كتاب شارل موراس الكاتب الكبير ومحرر جريدة (لاكسيون فرانسيز) وعنوانه (عشاق البندقية) ومع ذلك فلم يكن هو الكتاب الفصل في أمر هذه العلائق الدقيقة بين شخصيتين من أعظم شخصيات القرن التاسع عشر؛ فقد ظهرت بعد ذلك مكاتبات ووثائق لم تنشر من قبل وفيها حقائق وتفاصيل جديدة تلقي ضياء جديدا على تلك المأساة الغرامية الشهيرة
بيد أنه مما يلفت النظر أن هذه المكاتبات والوثائق الجديدة تؤيد رواية دي موسيه في مجموعها، وأن جورج ساند قد عمدت قصداً إلى تغيير بعض الحقائق والتفاصيل في كتابها (هي وهو)
مؤسس الأدب اليهودي الشعبي
تحتفل الدوائر اليهودية الأدبية بذكرى أديب يهودي كبير هو منديل سفوريم مؤسس الأدب اليهودي الشعبي وقد ولد هذا الأديب في إحدى بلاد لتوانيا منذ مائة عام كاملة في سنة 1836؛ واسمه الحقيقي هو شولم يعقوب ابراموفتش؛ ودرس الأدب والعلوم قراءة لأنه لم يظفر بتربية مدرسية منظمة؛ وكان الشعب اليهودي يعيش يومئذ في روسيا في ظل طغيان مطبق ويعاني أمر ضروب الاضطهاد والزراية والفاقة؛ وكانت قد ألفت في ذلك الوقت جمعية من الشباب اليهود المتنور تسمى (مسكليم) أعني الطلائع المثقفة وغرضها أن تعمل لإدخال الأفكار والمدنية الغربية إلى طوائف الشعب اليهودي التي ما زالت تعيش في ظل تقاليدها العتيقة؛ فانضم منديل سفوريم إليهم؛ وكان الكتاب اليهود يكتبون يومئذ إما بالروسية وإما بالعبرية، فسار منديل في أثرهم وأصدر أول كتبه بالعبرية، ولكنه لاحظ أن سواد
الشعب اليهودي يتحدث باللغة اليهودية وهي مزيج شعبي من الألمانية المحرقة وعناصر أخرى عبرية وروسية وغيرها، ورأى أن غزو أذهان هذا الشعب لا يكون إلا بمخاطبته بلغته الأصيلة؛ عندئذ فكر منديل في الكتابة باليهودية؛ وكان عملا شاقا لأن هذه اللغة لم تكن لها أصول نحوية أو لغوية، وإنما كانت لغة الحديث الطائر. ولكن منديل كان فناناً ذا مواهب ممتازة، فاستطاع أن يخرج هذه اللغة الشعبية لغة أدبية تصلح للكتابة والقراءة؛ وكتب فعلا باليهودية لأول مرة؛ ووصف للشعب اليهودي حياته المظلمة العتيقة، وذلته الخالدة، وبؤسه المطبق؛ وأخذ يبث إليه روح النهوض والتحرر، وذلك في روايات شعبية جذابة. ولم يستطع كاتب يهودي غير منديل أن يصف نقائص أمته بمثل قوته وجرأته ودقته، فقد وصف طوائف الشعب اليهودي، الأغنياء والفقراء ورجال الدين والمفكرين وصفا قويا، ولم يخف نقيصة أو مأخذا، بل كان شديد الوطأة عليهم جميعاً، لا يذلله ويستدر شفقته سوى بؤس الشعب اليهودي
ولمنديل سفوريم عدة قصص شهيرة منها (الفرس)(رحلة بنيامين)(تروا)(خاتم السعادة) وفيها يصف المجتمع اليهودي في خلال القرن التاسع عشر في مختلف صوره؛ وفي قوة وصراحة لم تعرفا من قبل؛ ومن الغريب أنه استطاع أن يجعل من هذه اللغة اليهودية المبعثرة أداة قوية فصيحة للتعبير الحي؛ وأن يقود الطريق لجعلها لغة أدب يهودي جديد؛ وقد سار في أثره عدة من أكابر الكتاب اليهود في القرن التاسع عشر فكتبوا باليهودية، التي غدت في يومنا لغة أدب يهودي جديد
وتوفي منديل سفوريم في سنة 1917 وقد أربى على الثمانين بعد أن توطدت دعائم الأدب اليهودي الجديد الذي كان أول من وضع دعامته الأولى
وداع الحرية
يجد المؤرخ والقصصي معاً مادة بديعة في مصرع يوليوس قيصر؛ فقد كان حادثاً من أنبل وأعظم حوادث التاريخ، وكان بأدواره وتفاصيله قصة ساحرة. وقد صدرت أخيراً بالإنكليزية قصة عنوانها (وداع الحرية للكاتبة الإنكليزية فيليس بنتَلي، وهي قصة تاريخية رائعة، تستعرض فيها المؤلفة حياة قيصر ومجده الباذخ ومصرعه المفجع. وتصف لنا مس بنتلي خلال قصتها من الشخصيات الرومانية الشهيرة التي عاشت حول
قيصر، وصادقته أو ناهضت مجده مثل بومبي، وكانو، وكراسوس، ثم بروتوس قاتل قيصر. ولم تجد الكاتبة أمامها كبير مجال للتوغل في ميدان الخيال، ذلك أنها إنما تعرض عصرا بحوادثه وأطواره، وتجد مادة غزيرة في التفاصيل التاريخية الكثيرة التي تقدمها إلينا الروايات المعاصرة والتواريخ القديمة. بيد أنها تجد أمامها مادة للحديث عن الأتوقراطية، والديموقراطية؛ وهي تحمل ما استطاعت على الأوتوقراطية وجميع مظاهرها وتمجد الحرية والديموقراطية؛ على أنها لا تجد ما تقوله في مديح تلك الديموقراطية الرومانية التي مات في سبيلها قيصر واتخذ امتهانها ذريعة لاغتياله. ونحن نذكر أن بروتوس وزملاءه المؤتمرين بحياة قيصر كانوا يعملون باسم الديمقراطية، ويتخذون من بعض مظاهر قيصر وتصرفاته حجة عليه بأنه يجنح إلى الإمبراطورية والحكم المطلق. وقصة مس بنتلي حسنة السبك من هذه الناحية، بيد أنه يمكن من جهة أخرى أن يقال إنها لم تقدم إلينا جديداً في الاستعراض أو الوصف، لأنها إنما تقتصر على الشخصيات والحوادث التاريخية الجافة. وهذا عيب نلمسه أحياناً في كثير من القصص التاريخية. ولكن مس بنتلي تقدم إلينا على أي حال قصة ممتعة تسحر بروعة أسلوبها