المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 142 - بتاريخ: 23 - 03 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٤٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 142

- بتاريخ: 23 - 03 - 1936

ص: -1

‌إلى أخي الزيات

للأستاذ أحمد أمين

سعيت أمس لعزائك، في (رجائي) و (رجائك)، فرأيتك واجماً ساهماً، مولهاً مدلهاً، فانعقد لساني، وتخلف ذهني، وفاض دمعي

وكيف أستطيع عزاءك وما استطعت أن أعزي نفسي؟ أو كيف أستطيع أن أخفف ما بك وما استطعت أن أخفف حزني؟

رأيت بك كمداً باطناً، وحزناً مكتمناً، فعلمت أنك تتجرع غصص الهم، وتختزن برحاء الكرب، فتمنيت أن تخفف عنك بصرخة، وتنفس عن نفسك بدمعة، ولكن عز الصبر، وعز الدمع، فما هي إلا زفرات تذيب لفائف القلوب وتنفطر لها المرائر

واو رحمتاه لك! لقد كان (رجاء) قبلة رجائك، ومعقد آمالك، وحديث أحلامك، وملء سمعك وبصرك، تشوفته حياتك، وترقبته مطلعَ شبابك، حتى جاد به الزمان البخيل، فربطت اسبابك بأسبابه، وتعلقت بأهدابه، فلما شمت مخايله، ورقبت منه النجح، عدا عليه الدهر الذي لا يرعى ميثاقاً، ولا يثبت على عهد، فأخلف ظنك، ونقض أملك، فإذا الدنيا أضغاث أحلام، ووساوس أطماع

ولكن يا أخي - ما الجزع مما لابد منه، وما الهلع مما قدر، ومثلك من يعرف مقدار الحياة وهوانها، أفليست إلا مرسحاً تمثل عليه أدوار مختلفة، مرة مهزلة، ومرة مأساة، ونحن في حين ممثلون، وفي حين ناظرون. وليس لنا أن نبالغ في الألم، ونغلو في الجزع، فقد كان يكون لذلك وجه من الحق لو ذهب من ذهب أبداً، وعشنا بعده أبداً، وإنما الأمر دور يعقب دوراً، ولا حق منا إثر سابق، وإنا لله وإنا إليه راجعون

وأية سعادة نجدها في هذه الحياة حتى نحزن على الراحل، ونبكي على الميت، ونود أن لو بقى ليستمتع بها، ويتذوق طيباتها، إنما هي سلسلة عناء، وضروب شقاء، تنوعت ألوانها، واتحدت حقيقتها، ولو أنصفنا لغبطنا من مات، وأشفقنا على من بقى، ومن مات في صباه فقد اختصر الحياة واختصر همومها وأحزانها، ووفر على نفسه عبئاً ثقيلاً ينتهي مختصره بما ينتهي مطوله، وخير للزهرة أن تذهب وهي ناضرة تعجب الناس، من أن تذهب وهي ذابلة يعافها الناس

ص: 1

فخذ الحياة كما هي، ليل ينقضي في أثر ليل، وقوم في أثر قوم، وحادث يستذرف الدمع يعقبه حادث يخفف الهم، وقل كما قالت الخنساء:

فلولا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن

أعزي النفس عنه بالتأسي

وليس الوفاء للميت بالإفراط في الحزن، والإمعان في البكاء، إنما الوفاء بمقابلة دواعي الحزن بدواعي الصبر، وليست الحكمة في إضعاف الحي من أجل الميت، إنما هي في أحياء الحي من أجل الحي والميت

وقد أخطأ الناس فغلوا في استفظاع الموت والاحتفاء به، وهولوا في الاستكثار من مظاهره، ولو عقلوا لقابلوه كما يقابل كل قانون طبعي في هذا العالم، زهرة تنضر وتذبل، وشمس تطلع وتغرب، ونجم يتألق ويأفل، وسماء تصحو وتغيم - ولو عقلوا أيضاً لرددوا هذا المعنى في نفوسهم، واطمأنت له عقولهم؛ فإذا كان فهو ما تخيلوه، وإذا حدث فهو ما توقعوه، وإذن لخف الألم وانقطع الجزع

أي أخي - ليكن ما أراده الله، ولنلوّن حياتنا بلون من ألوان التصوف، رضاء بالقدر، واستخفاف بالعالم وما فيه، وطمأنينة إلى قوانينه، وإيمان بعظمة الله وسلطانه، والتجاء إليه أن يتولاك برحمته ويظلك بإِحسانه

أي أخي - لقد أصبحت منسرق القوة، ضعيف البنية، مرهف الحس، رقيق الصحة - ولئن كان الانتحار جريمة لا تغتفر، ويأساً لا يرضاه الله، فليس هو - فحسب - في إطلاق عيار ناري، أو إلقاء النفس في اليم، أو ما عهدت من ضروب إزهاق الروح، ولكن من ضروبه أيضاً الاستسلام للحزن والتسمم بالغم، والاسترسال في أسباب الكرب، فهو انتحار بطيء ولكنه شر من الانتحار العاجل أعيذك بالله منه، وأربأ بنفسك عنه

فهوّن على نفسك، وإن خاب رجاؤك في (رجاء) فحقق الله أملك في (علاء) وعش له ولنفسك وللناس

أحسن الله عزاءك، وأجمل صبرك، وأجزل أجرك

أحمد أمين

ص: 2

‌دُعابةُ إبليس

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

أما إني سأقصُّ هذه الحكايةَ كما اتفقتْ، لا أزيِّنها بخيال، ولا أتَزَيَّدُ فيها بخبر، ولا أولِّد لها معنى؛ فإنما هي حكايةُ خبث الخبيث فنها حذقُه ودهاؤه، ورقتها غلظته وشره، ومعانيها بلاؤه ومحنته؛ وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم واللهُ المستعان

لما فكرتُ في وضع مقالة (إبليس) من أحاديث (ابن مسكين) وأدرتُ رأيي في نهجها وحدودها ومعانيها، جعل فكري يتقطع في ذلك، يذهب ويجيء كأن بيني وبينه منازعة، أو كأن في نفسي شيئاً يثنيني ويقطعني عن العزم؛ وخيِّل إليّ حينئذ أن (إبليس) هذا منفعةٌ من المنافع. . . وأنه هو قانون الطبيعة الذي نصُّ مادته الأولى: ما أعجبك فهو لك، ونصُّ مادته الأخيرة: ما احتجتَ إليه فثمنُه أن تقدرَ على أخذه. . .

وهجَس في نفسي هاجسٌ أن (إبليس) قائم في لفظ الحرية كما هو قائم في لفظ الإثم، وأنه إن يكن في قلوب الفُساق فهو أيضاً في أدمغة الفلاسفة؛ ولئن كان في سقوط أهل الرذيلة إلى الرذيلة، فهو كذلك في سموّ أهل الفن إلى الفن. . . قال الهاجس: وإن (إبليس) أيضاً هو صاحب الفضيلة العملية في هذا العصر المادي، فهو من ثمّ حقيقٌ أن يلقّبوه صاحب الفضيلة. . .

ولكني لم أحفل بهذه الوساوس ولم أعُجْ على شيء منها، واستعنت الله وأمضيتُ نيتي على الكتابة، وأخذتُ أقلّب الموضوع، وأنبّه فكري له، وأستشرفُ لما يؤدِّي إليه النظر، وأتطلَّع لما يجيء به الخاطر، وألتمس ما أبني عليه الكلام كما هي عادتي؛ فلم يقع لي شيء البتة كأنما ذهب أولُ ابتداءِ الموضوع فلا أولَ له ولا سبيل إلى اقتحامه، وكأنه من وراء العلم فلا يُبلغ إليه، وكأنه من التعذُّر كمحاولة تصوير حماقة الحياة كلها في كلمة

ومن عادتي في كتابة هذه الفصول التي تنشرها (الرسالة) أن أدع الفصلَ منها تقلِّبه الخواطر في ذهني أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس، وأترك أمره للقوة التي في نفسي فتتولد المعاني من كل ما أرى وما أقرأ وتنثال من ههنا وههنا، ويكون الكلام كأنه شيء حيٌّ أريدَ له الوجودُ فوُجد

ثم أكتب نهار الجمعة ومن ورائه ليلُ السبت وليلُ الأحد كالمدد من وراء الجيش إذا نالتني

ص: 3

فترة أو كنت على سفر أو قطعني عن الكتابة شيء مما يعرض

وفي أسبوع (إبليس) لعنه الله مرت الأيام الثلاثة وفيها ثلاثة ألوان: ضجَرٌ لا رَوْحَ فيه، وكسلٌ لا نشاط معه، واضطراب لا مِساك له. وأطلتُ التفكير يوم الخميس فكانت تعتريني خواطر مضحكة، فيعرض لي مرة أن أصور إبليس امرأة ليكون إبليس الجميل. . . وتارة أتوهم أن إبليس يريد أن يكون شيخاً كبعض رجال الدين الذين لا تزال تطلع على خائنةٍ منهم، ليقال إبليس التقي المصلي. . . وحينا أظن أنه يريد أن يكون كاتباً مؤلفاً شهيراً ليقال إبليس المفكر المصلح. . . وخطر لي أخيراً أنه يريد أن يكون حاكماً ملحداً شيوعياً فاجراً ليكون إبليس التام لا إبليس الناقص. . .

ولما ذهبت الأيام الثلاثةُ باطلاً خيّل إليّ أن إبليس أخزاه الله يسألني عن المقالة: إلى أي شيء انقلبتْ. . .؟ فشقَّ ذلك عليّ واغتممتُ به، غير أني اطمأننت إلى يوم الجمعة وأن وراءه ليلتين. وكانت قد غربت شمسُ الخميس فقلت فلأخرجْ لأتفرَّج مما بي، وعسى أن أجمع نفسي للتفكير إذا جلستُ في النديّ، ولعله يقع ما أستوحيه أو ينفتح لي بابٌ في القراءة

وخرجتُ فلم أجاوز الدار حتى ابتدرني من هبط عليه الخبر من القاهرة أن نسيباً لنا من العظماء توفي أخوه اليوم. فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ ضاع يوم الجمعة إذ لابد من السفر لتشييع الجنازة وحضور المأتم، ثم قلت: لعل في هذا السفر استجماماً ونشاطا فأستدركَ الأسبوع كلّه في يومين، وإنما الاستكثارُ بالقوة لا بالزمن، ولا يدَ لإبليس في الموت والحياة، فليس إلا اطِّراحُه وقلةُ المبالاة به، وإنما هي خطرات من وساوسه

وأصبحتُ في القاهرة ومشيت في الجنازة قبل الظهر مسيرة ساعة كاملة؛ وكانت الشمس ساطعةً تتلألأ وأنا مُثقلٌ بثياب الشتاء، وكنت أتوقع أن يكون اليوم من أيام الريح المجنونة. فلما انتهينا إلى الصحراء هبّت الريحُ هبوبا ليناً ثم زَفَّتْ فكانت إلى الشدة ما هي، ولكنها ماضية تَسْفي الرملَ في الأعين فيأخذ في أجفاني أُكالٌ وتهييج، وليس معي شيء أتَّقيها به. غير أني شغلت فكري برؤية المقابر وجعلتها في نفسي كالمقالة المكتوبة سطراً وراء سطر؛ وقلت: ههنا الحقيقة في أول تفسيرها، وغير المفهوم في الحياةُ يفهم هنا

ثم رجعت مُنَدَّى الجسم بالعرق وعليّ نَضْحٌ منه، وكان القميص من الصوف، وبصدري

ص: 4

أثر من النزلة الشُّعبية؛ وإذا تندَّى الصوف وجب نزعه وإلا فهي العلةُ ما منها بد

ثم لم تكن غير ساعة انخرقت الريح وجعلت تعصف وبَرَدَ الجو فأيقنت أنه الزكام، وقلت في نفسي: هذا بابٌ على حِدَة، والمقالة ذاهبة لا محالة فيستخلَّف الذهن ويتبلَّد؛ والشيطانُ كريم في الشر يعطي من غير أن يُسأل. . . .

وثقل ذلك عليّ فكان الغم به علةً جديدة، بيد أني لم أزل أرجو الفرصة في أحد اليومين السبت والأحد. وقلت: إن من البلاء الفكرَ في البلاء، ولعل من السلامة الثقة بالسلامة؛ فإذا نبهتُ العزيمة رجوتُ أن يتغلغل أثرها في البدن كله فيكون علاجاً في الدم يحدث به النشاط ويُرهَفُ منه الطبع وتجمُّ عليه النفس. وفي قوة العصب كهربائية لها عملها في الجسم إذا أحسن المرءُ بعثَها في نفسه وأحكم إفاضتها وتصريفَها على طريقة رياضية؛ ولهي الدواء حين يعجز الدواء وهي القوة حين تخذل القوة

فاعتزمتُ وصمَّمتُ واحتلتُ على الإرادة وتكثرتُ من أسباب الثقة وترصّدتُ لها السوانح العقلية التي تسنح في النفس وقلت لإبليس: اجهد جهدك فما تذهب مذهباً إلا كان لي مذهب؛ ولكن اللعين أخطر في ذهني قول القائل يسخر بذلك الكاتب البغدادي

لو قيل: كم خمسٌ وخمسٌ لاغتدى

يوماً وليلتَه يَعُدُّ ويَحْسُبُ

ويقول: مُعْضِلةٌ عجيبٌ أمرُها

ولئن فهمتُ لها، لأمْرِيَ أعجبُ

خمسٌ وخمسٌ ستةٌ أو سبعة

قولان قالهما الخليلُ وثعلبُ

ثم أجمعتُ الرجوعَ من يومي إلى (طنطا) لأتقي البردَ بعلاجه إن نالني أثره، وكان عليَّ وقتٌ إلى أن يقوم القطار، فذهبتُ فقضيت واجباً من زيارة بعض الأقارب في ضاحية (الجيزة)، ثم ركبت الترام الذي أعلم أنه ذاهب إلى محطة سكة الحديد

وجلست أفكر في إبليس ومقالته، والترام ينبعث في طريقه نحو ثلث الساعة، حتى بلغ الموضوع الذي ينعرج منه إلى المحطة، وهو بحيال (جمعية الإسعاف)، حيث تنشعب طرق أخرى؛ وكنت منصرفاً إلى التفكير مستغرقاً فيه، طائف النظرات على الجو، فما راعني إلا اختلافُ منظر الطريق؛ وأنتبه فإذا الترام يَمْرُق مروق السهم في تلك السبيل الصاعدة إلى (الجيزة). . . . من حيث جئت

فلعنت الشيطان وتلبثتُ حتى وقف هذا الترام فغادرته ورجعت مهرولا إلى ذلك المنشعب،

ص: 5

فصادفت تراماً آخر، فوثبت إليه كأني أُحمل إليه حملا، ودفعت الأجرة، وانطلق فإذا هو منصبُّ في تلك الطريق عينها الذاهبة إلى الجيزة من حيث جئت. . . ولا أستطيع الانحدار منه وهو منطلق، فتسخَّطت ولعنت الشيطان مرة أخرى، ورأيت أن عبثَه قد ترادَفَ، فلما سكن الترام رجعت مهرولا إلى ذلك المنشعب ولم يبق من الوقت غير قليل

وأنظرُ ثمَّ فإذا ترامٌ وراء ترام، وإذا قد وقعت حادثة لإحدى السيارات واجتمع الناس وسُدَّت الطريق. . . . فجعلت أغلي من الغيظ، ولعنت هذا الدعابة الخبيث، واذكرني اللعين نادرة الأعرابي الذي عضه ثعلب، فأتى راقياً، فقال له الراقي: ما عضك؟ فاستحى أن يقول ثعلب، وقال: كلب، فلما ابتدأ الرجل برقية الكلب قال له الأعرابي: واخلط بها شيئاً من رقية الثعالب. . . . .

ثم إني لم أر بدا من بلوغ المحطة على قدمي لأتمّ على عزيمتي في مراغمة اللعين، فأسرعت أطوي الأرض وكأنما أخوض في أحشائه، وكان بصدري التهابٌ فهاج بي، غير أني تجلدت واتسعت لاحتماله وبلغت حيث أردت

ثم ذهبت ألتمس في القطار عربة خاصة أعرفها، كانت من عربات الدرجة الأولى فجعلوها في الثانية يرفهون بها بعض الترفيه على طائفة من المسافرين؛ وأصبت فيها مكاناً خالياً كأنما كان مهيأ لي بخاصة. . . فانحططتُ فيه إلى جانب رجل أوربي أحسبه ألمانياً لتفاوت خلقه وعنجهيته؛ وجلست أنفس عن صدري ثم أقبلت أسخر من إبليس ونكايته، وجعلت أتعجب مما أتفق من هذا التدبير

وتحرك القطار وانبعثت وكان الأوربي إلى جانبي مما يلي النافذة وقد تركها مفتوحة فأحسست الهواء ينصب منها كالماء البارد وأنا متند بالعرق؛ وترقبت أن يغلقها الرجل فلم يفعل، فصابرته قليلاً فإذا هو ساكن مطمئن يتروح بالهواء وكأنما يشربه، وتأملته فإذا شيخٌ في حدود الستين أو فوقها غير أنه على بقية من قوة مصارع في اكتناز عضله واجتماع قوته ووثاقة تركيبه، فأيقنت أن الهواء من حاجته، وهممت أن أنبهه أو أقوم أنا فأغلق النافذة، ولو شئت أن أفعل ذلك فعلت، غير أن الشيطان أخزاه الله وسوس لي أن هذا الرجل أجنبي غربي وأنت مصري شرقي فلا يحسن بك أن تُعلمه وتعلم الحاضرين أمامكما أنك أنت الأضعف على حين أنه هو الأسن، وكيف لا تقوم لما يقوم له وقد كنت تباكر

ص: 6

الماء البارد في صميم الشتاء، وكنت لا تلبس في أشد أيام البرد غير ثياب الصيف، وكنت تحمل كذا وكذا ثقلاً وتعاني كذا وكذا من ضروب القوة، وكنت تلوي بيديك عود الحديد وكنت وكنت

فتذممت والله مما خطر لي؛ وأنفتُ أن أنبه الرجل، ورأيت عملي ضعفاً وفسولة، ولم أعبأ بالهواء ولا بالعرق ولا بالنزلة الشعبية ولا بالزكام، وتركت الأوربي وشأنه، وأقبلت على كتاب كان في يدي وتناسيت أن هذه النافذة جهةٌ من تدبير إبليس؛ وكان القطار مزدحماً بالراجعين من المعرض الزراعي الصناعي وبعض الناس وقوف فلا مطمع في مكان آخر. . .

ولبثت ساعة ونصف ساعة في تيار من هواء فبراير ينصب انصباباً ويعصف عصفاً وكأني أسبح منه في نهر تحت ظلمة الليل الماطر، والناس معجبون بي وبالأوربي، وهذا الأوربي معجب بي أكثر منهم وقد رأى مكاني وعرف موضعي؛ وكان إلى يميني مجلس بقى خالياً ولم يقدم أحد على أن يجلس فيه خوفاً من الهواء ومن الرجل الأوربي. . .

ثم تراءيتُ أنوار محطة (طنطا) ولم يبق من هذه المحنة غير دقيقتين؛ فوالله الذي لا يحلف بغير اسمه عز وجل، لقد كان إبليس رقيعاً جلفاً بارداً ثقيل المزاج إذ لم أكد أتهيأ للقيام حتى رأيت الرجل الأوربي قد مدَّ يده فأغلق النافذة. . .

ورجعت إلى داري وأنا أقول: ثم ماذا يا إبليس؛ ثم ماذا أيها الدُّعبب؟ وحاولت أن أكتب أو أقرأ فلم أتحرك لشيء من ذلك، وكانت الساعة العاشرة ليلاً فصليت وأويتُ إلى مضجعي

ثم أصبحت يوم السبت فإذا كتاب من الأستاذ صاحب (الرسالة) أنه سيطبع عددين معاً فيريد لهما مقالتين إذ تغلق المطبعة أيام عيد الأضحى، وكان أملي في المقالة الواحدة مخذولاً مما قاسيت فكيف لي باثنتين؟

واختلط في نفسي همٌّ بهمّ وما يفسد عليَّ أمري شيء مثلُ الضيق فإذا تضايقت كنت غير من كنت؛ ولكني تيقظت وتنبهت وأملت العافية مما أجده من ثقلة البرد وضعفته، وأحدثت طمعاً في النشاط إذا جلست للكتابة في الليل فإني بالنهار أعمل للحكومة

فلما كان الليل لم أجد أمري على ما أحب، وجلست متفترا معتلاًّ وثقل رأسي من ضربة النافذة وتسلط علي ظن المرض والعجز عن الكتابة، وانتقض الأمر كله فرأيتني أشقُّ على

ص: 7

نفسي بلا طائل، فكان من صواب التدبير عندي أن استجمَّ بالنوم ثم أنهض في السحر للكتابة. فأوصيت من يوقضني وحررنا الساعة المنبهة على تمام الثانية بعد منتصف الليل

وأحسست أني جائع وأن معدتي مشحوذة ونسيت كل ما أعرف من الطب؛ وجاءوني بشواء وحلوى وما بينهما، فحططتُ فيه ولففت الآخر بالأول، ثم قمت أريد النوم فإذا الطعام كان أشد علي من نافذة القطار، وكان الذي في الفكر من المقالة أثقل من الذي في المعدة من الطعام، وساء الهضم في الدماغ والبطن جميعاً

وجعلت أتناوم وأرخي أعضائي وأتوهم الكرى وأستدنيه بكل ما أعرف من وسيلة ثم لا أزداد على ذلك إلا أرقاً، وتمرد الفكر وأحسست رأسي يكاد ينفجر وصرت أتململ ولا أتقارُّ، وتوهمت أن لو كان لي عقلان ما استطعت كتابة المقالة عن إبليس لعنه الله. واذكرني الخبيث نادرة مضحكة: أن رجلا كان يركب حماراً ضعيفاً وكان يبعثه فلا ينبعث، فجعل يضربه فقيل له: ارفق به. فقال إذا لم يقدر يمشي فَلِم صار حماراً. . . .؟

وقذفت بنفسي من الفراش ونظرت في الساعة فإذا هي موشكة أن تبلغ الثانية ولم أحس الرقاد بعد، فأسرعت إلى المنبهة وحررتها على تمام الساعة الرابعة صباحا؛ وأيقنت أن الشيطان يرهقني طغياناً وكيدً فطفقت ألعنه وما أحسبه إلا قد رأى اللعن مدحاً فهو يستزيدني. . .

ثم رجعت أحاول النوم فما كان هذا الليل إلا شيئاً واحداً أوله آخره إلى أن طلع الفجر

وجاء يوم الأحد وهو يوم عطلة الأوربيون فما أشد عجبي إذ تركني فيه إبليس كأنهم لا يَدَعون له وقتاً في هذا اليوم. . . . .

والآن يزيَّن لي الخبيث أن أختم هذه المقالة بـ. . . . بـ. . . .

ولكن لا. لا.

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 8

‌أوربا على المنحدر

1 -

من فرساي إلى لوكارنو

مسألة الرين وسلام أوربا

بقلم باحث دبلوماسي كبير

وقع في السابع من مارس الجاري حدث عظيم في السياسة الدولية لازالت أصداؤه تدوي في أرجاء أوربا، ولازالت آثاره ونتائجه موضع البحث الخطير في دوائر السياسة العليا. ذلك هو إقدام الحكومة الألمانية على إلغاء ميثاق لوكارنو الخاص بتأمين السلام على ضفاف الرين، وإقدامها في نفس الوقت على إلغاء آخر التعهدات والقيود العسكرية التي فرضتها عليها معاهدة الصلح، ووضع فرنسا وأوربا أمام الأمر الواقع باحتلال منطقة الرين الشرقية التي قضت معاهدة الصلح بتجريدها من السلاح ومن كل وسائل الدفاع العسكرية

ولم يكن عمل ألمانيا مفاجأة مطلقة، فقد كان معروفاً منذ أسابيع أنها تفكر في انتهاج مثل هذه الخطة، وأنها تترقب الفرصة لتنفيذها؛ ومنذ أسابيع تتحدث الصحافة الألمانية عن منطقة الرين ووجوب تسليحها استكمالاً لحقوق السيادة الألمانية وصوناً لشرف ألمانيا وكرامتها، ومنذ أسابيع تتحدث الصحافة الفرنسية عن نيات ألمانيا، وما يجب على فرنسا أن تتخذه إذا أقدمت ألمانيا على تنفيذها

وقد نفذت ألمانيا خطتها، واحتلت منطقة الرين الحرام فصائل من الريخسفر (الجيش الألماني) في نفس الوقت الذي ألقى فيه الهر هتلر من منبر الريخستاج الذي عقد خصيصاً لهذا الغرض خطابه القوي الجامع عن موقف ألمانيا تجاه السياسة الأوربية، وتجاه فرنسا، وأعلن فيه إنكار ألمانيا لنصوص ميثاق لوكارنو، وإعادة حقوق السيادة الألمانية كاملة على منطقة الرين

ويجب لكي نفهم حقيقة هذا الحدث السياسي والعسكري الخطير، وحقيقة البواعث التي حملت ألمانيا على انتهاجه، ومدى تأثيره في السياسة الأوربية، أن نستعرض أولا نصوص معاهدة الصلح (معاهدة فرساي) الخاصة بمنطقة الرين، ثم نصوص ميثاق لوكارنو الخاص بتأمين السلام على ضفاف الرين، وأن نتتبع تطورات السياسة الأوربية الأخيرة التي

ص: 9

مهدت إلى هذا الطور الخطير الحاسم

معاهدة فرساي ومنطقة الرين

كان ضمن الشروط والأغلال الفادحة التي فرضتها معاهدة الصلح على ألمانيا أن تجرد مناطق الرين الألمانية من سلاحها سواء ما كان منها غرب هذا النهر ملاصقاً للحدود الفرنسية والبلجيكية أو ما كان منها شرقي هذا النهر على بعد خمسين كيلو مترا داخل ألمانيا ذاتها. وقد أدمج تجريد منطقة الرين الألمانية من السلاح في المواد 42 و43 و44 من معاهدة فرساي، وهذا نصها:

يحضر على ألمانيا أن تستبقي أو تنشئ تحصينات سواء في الضفة اليسرى من الرين، أو في الضفة اليمنى غرباً على مدى خط طوله خمسون ميلا شرقي النهر (42)

يحظر أيضاً أن يستبقى أو يحشد في المنطقة السابقة قوات مسلحة سواء بصورة دائمة أو بصورة مؤقتة، وكذلك يحظر إجراء أية تمرينات عسكرية مهما كان نوعها، أو الاحتفاظ بأية إجراءات مادية لتسهيل التعبئة (43)

إذا خالفت ألمانيا بأي صورة ما نصوص المادتين 42 و43، فإنها تعتبر أنها قد ارتكبت عملا عدائيا ضد الدول الموقعة على هذه المعاهدة، وأنها تحاول تعكير السلام العالمي (44)

فهذه المواد الثلاث تجعل من ولايات الرين الألمانية منطقة محرمة من الوجهة العسكرية على ألمانيا؛ والغرض من وضعها تحت هذا النظام واضح، وهو أن تبقي أبواب ألمانيا الغربية مفتوحة أمام الجيوش الفرنسية والبلجيكية المرابطة على الحدود بحيث تستطيع في حالة وقوع حرب أو أعمال عدائية أن تقتحم الأراضي الألمانية في الحال قبل أن تستطيع الجيوش الألمانية تخطي المنطقة الحرام ومواجهة الغزاة

وكان هذا الشرط الفادح إلى جانب تجريد ألمانيا من السلاح وإنزال جيشها إلى مائة ألف، وتقييدها بأشد القيود فيما يتعلق بالمنشآت البحرية والجوية وصنع الذخائر، أشد ما يحز في نفس ألمانيا ويصدم عزتها كدولة عظمى لها ماض عسكري مجيد بين دول القارة العظمى، ولكن ألمانيا استطاعت بعد كفاح طويل شاق أن تحطم نصوص معاهدة فرساي وأن تتحرر منها تباعا؛ وكان آخر ظفر لها في هذا الميدان في شهر مارس من العام الماضي حينما أعلنت على لسان زعيمها هير هتلر بطلان النصوص العسكرية في معاهدة فرساي وتقرير

ص: 10

حريتها المطلقة في اتخاذ أي إجراءات تراها للدفاع عن نفسها، وتقرير الخدمة العسكرية الإجبارية؛ وذلك ردا على ما قررته فرنسا يومئذ من إطالة الخدمة العسكرية؛ ولم يكن باقياً من القيود العسكرية التي فرضت على ألمانيا سوى تجريد منطقة الرين وتحريمها كما تقدم، وكان هذا النظام التي رتبته معاهدة الصلح قد تأيد بعهد جديد عقد بين ألمانيا وأعدائها السابقين لتأمين السلام على ضفاف الرين، ونعني به ميثاق لوكارنو؛ ولكن ألمانيا رأت أخيرا في عقد الميثاق الفرنسي الروسي الجديد ما يحملها على اعتبار ميثاق لوكارنو باطلا منقوضاً؛ ومن ثم فقد أعلنت على لسان زعيمها في السابع من الشهر الجاري بطلان ميثاق لوكارنو، وبطلان نصوص معاهدة الصلح الخاصة بتحريم منطقة الرين، التي تحتلها الآن قوات عظيمة من الريخسفر (الجيش الألماني) وبذلك أتمت ألمانيا تحطيم آخر الأغلال العسكرية التي فرضت عليها في فرساي

ميثاق لوكارنو

وهكذا نرى أهمية الصلة المباشرة بين تجريد منطقة الرين وبين ميثاق لوكارنو؛ فميثاق لوكارنو يؤيد النظام الذي قررته معاهدة الصلح لمنطقة الرين. وقد عقد ميثاق لوكارنو في سنة 1925؛ وكانت ألمانيا في الواقع أول من سعى إلى عقده. ذلك أن السياسة الألمانية كانت تقوم في ذلك الحين على فكرة التوفيق والتفاهم والتعاون؛ وكان عميدها يومئذ الدكتور شتريزمان يرى أن ألمانيا تكسب بالتفاهم مع فرنسا أكثر مما تكسب بالخصومة والمقاومة، وعرضت ألمانيا يومئذ أن تعقد مواثيق بتأمين السلامة المتبادلة وعدم الاعتداء والتحكيم؛ وعقد مؤتمر لوكارنو على أثر ذلك وشهده ممثلو الدول ذات الشأن وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا العظمى، وأسفر المؤتمر عن عقد ميثاق بالضمان المتبادل بين ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا العظمى وإيطاليا، وعن اتفاقات بالتحكيم بين ألمانيا وبلجيكا وألمانيا وفرنسا، وألمانيا وبولونيا، وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا. وكانت فكرة ألمانيا ترمي إلى قصر الميثاق على منطقة الرين، أعني حدود ألمانيا الغربية، ولكن فرنسا أصرت على أن يشمل الضمان الحدود الشرقية، وأن يسمح لفرنسا بمعاونة بولونيا في حالة خرق معاهدة التحكيم الألمانية البولونية؛ وأصرت إنكلترا من جانبها على أن يقصر تعهدها بالضمان على منطقة الرين. وكان أهم نتائج مؤتمر لوكارنو بالطبع هو ميثاق السلامة الشهير الذي

ص: 11

سمي بهذا الاسم، والذي عقد في 16 أكتوبر سنة 1925

وقد أدمج هذا الميثاق الشهير في الملحق (ا) من معاهدات لوكارنو، متضمناً لخمس مواد؛ ونص في ديباجته على أن الدول الموقعة عليه وهي ألمانيا، وبلجيكا، وفرنسا، وبريطانيا العظمى، وإيطاليا تقوم بعقد هذا الميثاق سعياً إلى تحقيق رغبة الشعوب التي عانت ويلات الحرب الكبرى في السلامة والحماية

وتنص المادة الأولى من الميثاق على أن هذه الدول المتعاقدة تضمن ضماناً مشتركا جامعاً بقاء الحدود والأوضاع الأرضية القائمة بين ألمانيا وبلجيكا، وبين ألمانيا وفرنسا، وعدم انتهاك هذه الحدود والأوضاع التي قررتها معاهدة الصلح المعقودة في 28 يونية سنة 1919، وكذلك تضمن مراعاة نص المادتين 42 و43 من المعاهدة المذكورة وهما الخاصتان بالمنطقة المجردة

وتنص المادة الثانية على أن ألمانيا وبلجيكا، وكذلك ألمانيا وفرنسا تتعهد كل منهما إزاء الأخرى ألا تعتدي عليها بأي حال أو تغزوها أو تلجأ إلى محاربتها مع استثناء الأحوال الآتية:(1) استعمال حق الدفاع الشرعي أعني مقاومة انتهاك العهود المشار إليها أو انتهاك نص المادتين 42 و43 من معاهدة الصلح إذا اتخذ هذا الانتهاك صفة عمل أو اعتداء لا مبرر له، واقتضى حشد القوات المسلحة في المنطقة المجرد اتخاذ الإجراءات السريعة (2) اتخاذ الإجراءات التي تنص عليها المادة 16 من عهد عصبة الأمم (وهي الخاصة بتوقيع العقوبات الإجماعية على الدولة المعتدية)(3) العمل تنفيذاً لقرار تتخذه الجمعية العمومية للعصبة أو مجلسها طبقاً لنص المادة 15 فقرة 7 من ميثاق العصبة (وهي الخاصة بإجراءات التوفيق والتسوية عند وقوع الخلاف)

وتنص المادة الثالثة على أنه بناء على التعهد المدون في المادة الثانية تتعهد ألمانيا وبلجيكا، وألمانيا وفرنسا، بأن تعمل كل منهما على تسوية أي خلاف يقع بينهما مهما كان نوعه بالوسائل السلمية وطبقاً للإجراءات المبينة بعد، إذا لم يمكن تسويته بالوسائل الدبلوماسية المعتادة وأن كل خلاف يقع بين الفريقين خاصاً بحقوقهما المتبادلة يعرض للتحكيم القضائي ويتعهد الفريقان بالخضوع لقراراته؛ وتعرض المسائل الأخرى على لجنة للمصالحة، فإذا لم يقبل الطرفان حكمها أحيلت المسألة على مجلس عصبة الأمم ويتبع المجلس في شأنها

ص: 12

نص المادة 15 من ميثاق العصبة

وتنص المادة الرابعة على أنه إذا ادعى أحد المتعاقدين بأنه وقع انتهاك لنص المادة الثانية من هذه المعاهدة أو نص المادتين 42 و43 من معاهدة فرساي، فأنه يعرض الأمر على مجلس العصبة؛ وأنه إذا اقتنع المجلس بوقوع هذا الانتهاك فأنه يدعو الدول الموقعة على هذه المعاهدة حالاً، وهي تتفق فيما بينها بالإجماع على معاونة الدولة التي وقعت ضدها المخالفة؛ وأنه إذا وقع انتهاك للمادة الثانية من هذه المعاهدة أو المادتين 42 و43 من معاهدة الصلح، فإن باقي الدول الموقعة تتعهد بمعاونة الدولة التي وقع ضدها الانتهاك حالما يثبت أن الاعتداء وقع دون مبرر، سواء كان ذلك بعبور الحدود، أو وقوع الأعمال العدائية أو حشد القوات المسلحة في المنطقة المجردة؛ هذا ويصدر مجلس العصبة قراراته في الموضوع الذي يرفع إليه طبقاً للفقرة الأولى، وتتعهد الدول الموقعة أن تتبع توصياته بشرط أن يوافق عليها بالإجماع من جميع الأعضاء ماعدا ممثلي الفريق الذي ارتكب الاعتداء

وتنص المادة الخامسة والأخيرة على أن الدول الموقعة تضمن تنفيذ نصوص المادة الثالثة من هذه المعاهدة. . . الخ

هذه خلاصة وافية لميثاق لوكارنو؛ ونلاحظ أن الميثاق يرمي قبل كل شيء إلى تأمين السلام بين فرنسا وألمانيا عن طريق تأمين سلامة الحدود الألمانية الفرنسية، وأنه يؤيد معاهدة الصلح بقوة فيما أوردته خاصاً بتجريد منطقة الرين من وسائل الدفاع، وأنه ينوه بصفة خاصة بالأهمية التي تعلقها فرنسا على استبقاء هذه المنطقة بحالتها التي قررتها معاهدة الصلح؛ ونلاحظ من جهة أخرى أهمية الميثاق فيما يتعلق بتسليم ألمانيا نهائياً بالأوضاع والحدود التي قررتها معاهدة الصلح على ضفاف الرين، وفيما ينطوي عليه ذلك من نبذها نهائياً فكرة المطالبة بتعديل حدودها الغربية واستعادة ولايتي الالزاس واللورين

ونستطيع أيضاً أن نقدر أهمية النتائج الخطيرة التي تترتب اليوم على إنكار ألمانيا لنصوص معاهدة الصلح، ونصوص ميثاق لوكارنو؛ فهي تحطم اليوم آخر أغلال فرساي العسكرية وتحقق سيادتها العسكرية كاملة في منطقة الرين، وتواجه خصيمتها القوية (فرنسا) فيما يتعلق بوسائل الدفاع عن حدودها وجهاً لوجه؛ ثم هي تعلن ضمناً أنها لا تقبل

ص: 13

الأوضاع والحدود المقررة لحدودها الغربية، وأنها في حل من أن تعود غداً إلى المطالبة بالالزاس واللورين

هذا وسنعرض في فصل آخر إلى بواعث والأسباب التي تذرعت بها ألمانيا لتحقيق غايتها والى الآثار الدولية التي يمكن أن تترتب على تصرفها

(للبحث بقية)

(* * *)

ص: 14

‌3 - التعليم والحالة الاجتماعية في مصر

للأستاذ إسماعيل مظهر

أرى واجباً عليَّ قبل المضي في موضوع هذا المقال أن أبدأ باستدراك لابد منه. فقد عاب عليَّ بعض أصدقائي من المفكرين أني أنكرت فيما كتبت ناحية ذات شأن من نواحي الحياة في مصر ولم أعرها التفاتاً. ويعتقد هؤلاء الأصدقاء أن لتلك الناحية خطرها في صبغ الحالة الاجتماعية في مصر بصبغة خاصة. ولو أنهم عنوا بتلك الناحية شيئاً غير الأزهر إذن لكان لما يعيبون به عليَّ من الوزن قدر غير يسير؛ أما وأنهم يعنون الأزهر ويقولون بأنه معسكر ثالث من معسكرات العوامل المؤثرة في الحالة الاجتماعية في مصر، ينبغي لنا أن نحسب حسابه، وأن نتناوله بالتحليل والنقد، وأن نزن أثره في تكييف الحالات الاجتماعية، فأكبر ظني أني لن أسلم برأيهم مهما ساقوا في سبيل إثباته من بينات. ذلك بأن بينة واحدة تكفي لهدم جميع ما يقيمون من دلائل، فأن القوى التي تؤثر في حالة اجتماعية بعينها، إنما هي القوى الموجبة لا القوى السالبة، والأزهر، ولا شبهة، قوة سالبة. قوة اتجهت بكل ما فيها من عوامل الحياة إلى الأخرويات لا إلى الدنيويات

وأنت ترى في كل الأطوار التي تقلبت فيها الأمم منذ بداءة العصر الإنتاجي الحديث أن القوى السالبة فيها انحصرت في فئتين: الأولى رجال الدين، والثانية رجال الحكومة، وهما بما فيهما من صفات السلب والمحافظة كانتا في كل الحالات دريئة طالما حمت جسم المجتمع من كثير من الهزات العنيفة والانقلابات الخطيرة التي يجنح إليها الغلاة من المصلحين أو السياسين، وإن لهذا الموضوع لظرفاً آخر غير هذا الظرف قد يتاح لنا فيه أن نبحثه بحثاً أوفى

فرغنا في مقالنا الثاني من الكلام في التطفل الاجتماعي وأحطنا ببعض ظواهره، وأثبتنا أن هذه الظاهرة تنخر في عظام مجتمعنا كما ينخر السوس الحب. واليوم ننتقل إلى ظاهرة اجتماعية أخرى، لا تقل عن ظاهرة التطفل الاجتماعي فعلاً وأثراً، تلك ما أسميه ظاهرة (الرجعية)، ولا أعني بها رجعية فكرية أو سياسية أو غير ذلك، فلو أنها كانت من هذا الطابع لهان الخطب، ولما أعرتها كبير اهتمام. ذلك بأني أعتقد أن بعض ظواهر الرجعية، كالرجعية الفكرية أو السياسية، وما يجري مجراهما، تحمل في تضاعيفها أسباباً تولد قوى

ص: 15

ارتقائية، وإنما أعني بها الرجعية الاجتماعية، وأكبر ظواهرها عزوفنا عن التفقه بفقه ثقافتنا التقليدية

ولا مرية في أننا نحتاج إلى تعريف هذه النظرية الجديدة التي نسوقها اليوم لتكون أساساً في علاج حالات اجتماعية بعينها. بل نقول إن بعدنا عن درس هذه النظرية كان سببا من الأسباب الرئيسية التي هيأت المقتضيات الأولية للشعور بأننا قد أقدمنا على أزمات اجتماعية قد تكون في المستقبل بالغة منتهى الخطورة

أما ما نعني (بالثقافة التقليدية) فمجموعة الحالات والملابسات التي ينشأ شعب من الشعوب مكتنفا بها من حيث طبيعة الأرض والإقليم، وما يتطلب ذلك من العكوف على فن خاص من فنون الحياة. وبمعنى أوسع تدل الثقافة التقليدية على العناصر التي ورثها شعب من الشعوب على مدى الأزمان من طريق التأثر الطبيعي بالبيئة والمحيط، كما تدل على مجمل ما ثبت في عقليته باللقاح السُّلالي من عادات وأساطير وعلوم وآداب، نشأت بنشأته في مرباه الأصيل. وعى الجملة نقول إن الثقافة التقليدية لشعب من الشعوب إنما هي في الواقع جماع ما يرث من صفات حيوية ومعتقدات وفنون عن أسلافه الأولين

وما كان لشعب من الشعوب أن يحاول الإفلات من أقطار ثقافته التقليدية إلاّ وباء بالفشل المحقق فيما يحاول. ذلك بأن الثقافة التقليدية هي الأصل الذي يرتكز عليه الطبع الماثل في أخلاق الأمم وطرق سلوكها في الحياة. وما قولك في ثقافة يرتشفها الطفل مع ما يرتشف من لبن أمه وهو رضيع ويشب مكتنفاً بها إذا يفع، ويفتن بفنونها إذا تَفَتى، ويغرم بها إذا اكتهل، ويموت وهي مرتسمة في تصوراته جميعاً إذا هَرِم. لا مرية في أنها تصبح جزءا من طبعه وركناً من أركان نفسه، بل إن شئت فقل إنها الركن الأصيل في حياته النفسية والعقلية، وماعداها توابع لها ولواحق بها. وإنما تتأثر التوابع بالأصل، وتتكيف اللواحق بالأرومة، فما من ثقافة حديثة تضاف إلى ثقافة تقليدية إلاّ وتكيف الدخيل تكيفاً يتابع فيه ما يحتاج إليه الأصيل من ملابسات. مثل ذلك أن الطبع المصري، وإن شئت فقل (المصرية)، لن تنسخ منها الأوربية شيئاً إن هي احتكت بها، وإنما تتكيف (الأوربية) بعوامل (المصرية) إن هما تنافستا في ميدان واحد. وليس في ذلك أي خطر على كياننا التقليدي. ولكن الخطر كل الخطر في أن نضعف من مصريتنا بالبعد عن ثقافتنا التقليدية

ص: 16

فتكمن في تضاعيف النفس ولا تظهر إلاّ ضعيفة منهوكة، ونقوي من (الأوربية) فنأخذها غير مكيفة بمقتضيات ثقافتنا التقليدية. ناهيك بأننا لسنا أوربيين بالدم والتقاليد، فلا نستطيع أن نفهم من روح الأوربية على ما يفهمها الأوربي إلاّ ظواهرها الكاذبة، فنصبح وقد قمعنا مصريتنا من ناحية، ولحقنا عقولنا (بالأوربية) من جهة أخرى. وما كل هذا إلاّ طلاء خادع ومن ورائه تختفي الحقيقة التي يجب علينا جميعاً أن نفطن إليها، وأن ندرسها أوفر الدرس، وأن نكب على تفهم روحها أقوم فهم، حتى نستطيع أن نهيئ للأجيال الآتية سبيل التكيف بروح العصر تكيفاً مطابقاً لثقافتنا التقليدية، فنخطو بثبات نحو حالات اجتماعية أثبت من حالاتنا الحاضرة. وفيما تقدم من شرح مجمل ما نعني (بالرجعية الاجتماعية): فهي قمع لمقتضيات التكيف بثقافتنا التقليدية من طريق الفصل بين هذه الثقافة الموروثة وفنون الحياة في العصر الحديث

تتصل ثقافة الشعوب التقليدية اتصالاً وثيقاً بحالاتها المعاشية أولاً، فإذا استكملت هذه الثقافة الأسس المعاشية التي تعين الشعوب على البقاء، أثرت هذه الثقافة تأثيراً آخر في مزاج الشعب، نهايته أن تتكيف فيه أشياء ثلاثة هي في الواقع ظواهر هذه الثقافة. الدين واللغة والفن، وفي هذه الأشياء جماع ما يتجلى لناظريك في الأمم من الخصائص الأخرى كالخلق والحالات النفسية والشعورية إلى غير ذلك

ولابد لنا من أن نضرب بعض الأمثال لتفصح بعض الشيء عن حقيقة هذه النظرية. فالبداوة مثلاً ثقافة تقليدية لكل القبائل التي تعيش متبدية، وجميع ما يتصل بالبداوة أس من الأسس التي تقوم عليها ناحية من نواحي الحياة في أهل البدو، والبداوة لأهل البادية بداية الحياة، لأن فيها تتجلى روح القبيلة التي بها تحتفظ الجمعية ببقائها وتصون كيانها، ومن مجموع التصورات والإدراكات التي تتمثل لأهل البادية تنشأ الفكرة الدينية ثم تنشأ اللغة ثم ينشا الفن، وبعد ذلك تتحور الأخلاق فتأخذ طابعاً خاصاً، ومن ثم يتكون قانون العرف البدائي، وهلم جرَّا. فهل من المستطاع مثلاً أن تنفك جمعية طبيعتها البداوة عن كل ما توارثته على مدى الأجيال، وتنسلخ عن كل ما انتقل إليها عن أسلافها الأقدمين، فتلبس من الأخلاق ثوباً جديداً وتتبدل من التصورات والأفكار والأخيلة والعقائد واللغة والفن غيرها مما لا علاقة له بثقافتها التقليدية، ثم تستطيع بعد ذلك أن تحتفظ بكيانها الأصيل من غير

ص: 17

أن يهز ذلك التغير الطارئ أعماق وجودها هزاً عنيفاً شديداً؟

كذلك الحال في أمة أخرى ثقافتها التقليدية صناعية كإنجلترا أو فرنسا مثلاً. فإن انفكاك أمة منهما من الصناعة معناه تحطيم لروحها الموروث، بل ولكل ما تقوم عليه حياتها أدبية ومادية من القواعد الأصلية في نفسيتها وغرائزها. وأظن أن المصريين لا يخرجون من مقتضى هذه القاعدة. فإن لمصر ثقافة تقليدية هي الثقافة الزراعية التي ورثناها بحكم وجودنا على ضفاف النيل. وواجبنا كأمة رشيدة أن نقيم كياننا أصلاً على أساس هذه الثقافة الموروثة ثم نكملها بمقتضيات ما يتطلب هذا العصر من ضروب الثقافات الأخرى. أما عكس هذه الآية، وذلك ما ننتحيه الآن مع الأسف، فنهايته الخراب العاجل والدمار الشامل

إن ما يزرع من أرض هذا الوادي الخصيب في هذا الزمن جزء قليل مما يمكن استغلاله، ولكنه على قلته لا يستغل الاستغلال الوافي، ولهذا أسباب يطول بنا شرحها، وإنما نذكر ذلك لنقول بأن كل عاطلي هذا الزمان إنما هم عاطلون بحكم الثقافة التي تلقوها وبحكم الظروف التعليمية التي نشأوا محوطين بها، وإن بلاداً كمصر تستطيع أن تعضد من السكان ضعف ما تعضد الآن، من العجيب أن تقوم فيها مشكلة تعرف بمشكلة البطالة، وأن تؤلف في سبيلها اللجان، وتعصر الأفكار، وتسهر الأعين الليالي الطوال، ونصف الأرض المزروع فيها يكاد يكون بوراً، والنصف المزروع لا يغل أكثر من نصف ما يجب أن يغل إذا أحسن القيام عليه بالطرق العلمية الحديثة، وأكبر ظني أن السبب المباشر في قيام هذه الحال إنما يرجع إلى أننا نسينا أن لنا ثقافة تقليدية يجب أن تكون أساس الحياة في هذا الوادي. وإذن يجب أن تقوم سياسة التعليم أول شيء على فكرة الاتصال بثقافتنا التقليدية

لقد مضينا حتى الآن نقيم قواعد التعليم على النظريات، لا على طبيعة بلادنا. لهذا نرى أن كل النتائج قد اتجهت اتجاها سلبياً، لا اتجاها إيجابياً وعكس ذلك ما نطلب أن يكون

جدت في مصر مشكلة عرفت بمشكلة العاطلين من المتعلمين، وما من سبب لهذه المشكلة في الواقع إلا السياسة التي جرى عليها التعليم في بلادنا بالفصل بين ثقافة أولادنا التي يتلقونها بين جدران المدارس وثقافة آبائنا الأقدمين. وحدث في مصر أن انشقت معسكرين لا اتصال لأحدهما بالآخر، معسكر المتعلمين العاطلين الذين لا اتصال لهم بثقافة بلادهم التقليدية، ومعسكر الفلاحين الذين اتصلوا كل الاتصال بثقافة بلادهم الأصلية، من غير أن

ص: 18

يلقحوا بشيء من مقتضيات الحياة في العصر الحديث. وبدأت في مصر روح التبرم بالحياة المصرية، نتلقى كل يوم ألواناً مما ينتج على يد المتعلمين الذين إن لم تعوزهم الهمة إلى العمل فقد يعوزهم المجال الذي يعملون فيه بقدر ما هيأهم التعليم النظري الذي عكفوا عليه. ولسوف نتقدم خطوة بعد أخرى متمادين في العمل على زيادة عدد معسكر العاطلين مادمنا نعكف على تعليم أولادنا على أساس النظريات لا على أساس العمليات، ومادمنا نخرج رجالاً لا يعرفون عن طبيعة بلادهم شيئاً. ولن أكون مبالغاً إذا قلت إن ابن الفلاح الذي يتخرج في كلية من الكليات العليا ليس بأكثر علماً بطبيعة بلاده من زميله ابن المدينة الذي يتخرج وإياه في معهد واحد. فإذا لم يجدا لهما مرتزقاً أصبحا صنوي بطالة، ولم يمتز ابن الفلاح على ابن المتحضر بشيء مما امتاز به جدودهما من أهل الريف من قدرة على الإنتاج والعيش بما تغل سواعدهم من ثمرات الأرض

ويخيل إليّ، وربما كنت على كثير من الحق فيما أتخيل، أن الخطأ الذي نلحظه في سياسة التعليم في بلادنا غير قاصر على قمع ثقافتنا التقليدية عن أن يكون لها أثر في تكويننا العقلي والخلقي، بل إننا أضفنا إلى هذه الخطيئة خطيئة أخرى هي أننا عملنا دائماً على تضخيم المعلومات التي يتلقاها الطلبة في مدارسنا الثانوية والكليات. فقد يخرج المتعلم إلى ميدان الحياة العملية بعد حياة أمضاها في جو من النظريات الصرفة، وهو يعتقد أنه قد مليء علماً بالحياة، ثم لا يلبث أن ينكشف له الحق وإذا به يرى أن كل ما يعرفه من نظريات العلم والأدب والفن لا يكفيه رزق يومه ولا يغنيه عن الاكباب على ناحية أخرى من نواحي الحياة العملية يدرسها لتكون له في الحياة عوناً على تحصيل الرزق. ولا شك أن ذلك يحدث ارتجاجاً عظيماً في حياة شاب ملأه الأمل في الحياة والزهو بما تجمع في رأسه في المعلومات. وما من ريبة في أن هذه الصدمة المعنوية لها أثرها البالغ في سلوك الشاب وتفكيره ربما لازمه طوال حياته

يعكف الشاب المصري بين جدران معهده على ناحية نظرية من العلوم البعيدة عن تجارب الحياة ويتلقى أنواع المعارف المختلفة ويمضي مكباً عليها عمراً حتى يكون له نظرة خاصة ويتجه بفكره وقلبه اتجاهاً معيناً وينشئ في عقليته قيما للأشياء وفناً ينظر من طريقه في الحقائق. وعلى الجملة يتكون منه طريق معارفه تكويناً يهيئه لأن يكون وحدة مستقلة في

ص: 19

جسم اجتماعي. فإذا استبان له الواقع وواجه الحياة بما استجمع من معارف فعلم أن للحياة طريقا آخر غير الطريق الذي صرف فيه عمر وأن لها قيماً أخرى غير القيم التي يؤمن بها. وأن لها فناً غير فنه الذي ينظر من طريقه في حقائق الوجود، انقلب على الماضي ثائراً ومن المستقبل يائساً، وخيل إليه أن المجتمع جنى عليه فسلبه سلاح العمل وجرده من عدة الهجوم والدفاع في ميدان المنافسة الاجتماعية. وما بالك بهذا الشاب نفسه إذا هو أراد أن يرتد إلى مصريته فيصبح فلاحا كأبيه وأن يتصل مرة أخرى بثقافة بلاده التقليدية، فيتضح له أن علمه بطبيعة بلاده ضئيل، وأن معرفته بطريقة الحياة فيها لا توانيه بالعدة الكافية للحياة في وسط مصري أصيل، الفلاح سداه والفلاحة لحمته؟

من الأخطاء التي لا ينبغي لنا أن نغفل عن وزنها وزناً صحيحاً أن تعليمنا الأدبي في الكليات ينقل إلى الأذهان صوراً من الأخلاق وفنوناً من السلوك ومذاهب من الفلسفة النفسية تختلط في عقليتنا اختلاطاً عظيما حتى لنكوَّن منها مقاييس جديدة بعيدة جد البعد عن المقاييس الخلقية والسلوكية التي يؤمن بها الفلاح الساذج. فإن عصور الظلم والاستبداد التي عانى فلاح مصر في خلالها الأمرين، وتوالي الدول في الحكم على ضفاف النيل قد طبعت الخلق المصري بطابع خاص وصبغته بصبغة خاصة، ويجب أن يعنى بدرسها المصري المتعلم أوفى الدرس وأن يكب على تفهمها كل اكباب، قبل أن يظن أنه قادر على أن يعايش ذلك الفلاح الخشن الجاهل، وأن يعلم في أول ما يجب عليه أن يعلمه من جهة العلم بالنظريات قد عوضته عنه الطبيعة ذكاء حاداً وقدرة على التحايل وفطنة في إدراك الحقائق، وأيقظت فيه قوى العقل الباطن إيقاظاً شديداً حتى يكاد يكون عند بعضهم إلهاماً في توقع الأشياء وحدوثها. أضف إلى ذلك أن طبيعة البلاد ثقفته بثقافة ورثها على مدى العصور. ثقافة أحيت فيه روح اليقظة يتلقى بها الأحداث مكتمل الهمة ثابت القلب قوي الجنان عظيم الثقة بنفسه. فأن بلاداً تتوالى فيها دورات الزراعة كبلادنا، ويفيض فيها النيل في مواعيد محدودة، قد غرست في نفسه بالتجربة أن الحياة فرص يجب انتهازها، وعلمته أن إهمال ساعة أو يوم قد يفوت عليه رزق عام. هذا الفلاح الذي اكتملت ثقافته العملية من هذه النواحي وأمثالها، وهي كثيرة متعددة، هو بذاته موضوع درس عميق لا يستغني عن معرفته مصري يريد أن يعيش من فوق أرض مصر وعلى ضفاف نيلها مرتزقاً بغلاتها

ص: 20

مفتناً في إحياء خيراتها. ولا شك في أن هذه الناحية الضخمة من نواحي ثقافتنا التقليدية مهملة في معاهدنا كل الإهمال، فالمصريون مع الأسف أجهل الناس بتاريخ بلادهم، ذلك في حين أن تاريخ كل شعب جزء لا يتجزأ من ثقافته التقليدية

فالشاب المتعلم الذي يدرس مذاهب اليونان الفلسفية وتاريخ روما واليونان ومذاهب الأدب ومقدمة القوانين إلى غير ذلك مما يتلقى الشباب بين جدران معاهدنا، من غير أن يتصل بثقافة بلاده التقليدية، شاب مصري بالاسم لا بالروح ولا بالتقاليد. هو يجهل طبيعة بلاده وخلق أهله وتاريخ العصور التي توالت على وطنه وشكل الحكومات التي تناوبت الحكم فيه، والميراث الذي ورثه عن أجداده الأقدمين. ولا ريبة في أن شاباً هذا شأنه إنما يخرج من معاهد العلم متعلماً جاهلاً، وإن شئت فقل يخرج متعلماً مشحون الذهن بالكثير من المعلومات التي من شأنها أن تفصله عن طبيعة بلاده وتصيره في محيطه غريباً، كأنه غلطة جديدة في طبيعة شيء قديم. ومن هنا يكون عجزه عن الكفاح في الحياة وعن الاتصال بالأرض التي أنشأته وأنشأت السلالة التي انحدر منها منذ أقدم عصور التاريخ

والمحصل أننا مشرفون على أزمات اجتماعية أساسها الظاهر الآن كثرة العاطلين من المتعلمين الذين فصل التعليم بينهم وبين ثقافة بلادهم التقليدية فأصبحوا فيها غرباء، وسنعالج في المقال التالي مجمل ما صورنا حتى الآن من نقائص حياتنا الاجتماعية من حيث علاقتها بالتعليم

(يتبع)

إسماعيل مظهر

ص: 21

‌2 - فلاسفة الإسلام والتوفيق بين الفلسفة والدين

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

لاحظنا فيما سبق أن الفارابي وابن سينا وقفا موقفا وسطا بين الآراء الفلسفية والتعاليم الدينية فيما يتعلق بالصلة بين الله والعالم. أما مشكلة الروح وخلودها فقد فارقا فيها أرسطو تمام المفارقة، ذلك لأن الذي ينكر هذا الخلود يهدم المسئولية من أساسها، ويقضي على غاية الأخلاق والقوانين والشرائع، ونحن نعلم أن أرسطو ينقد نظريات الفيثاغوريين والأفلاطونيين الذين يقولون إن النفس جوهر روحي متميز من الجسم تمام التميز، ويعلن أن النفس صورة الجسم؛ ويقرر بجانب هذا أن الصورة لا تستطيع البقاء بدون المادة، وإذن فمنطق مذهبه يؤدي إلى النتيجة المحتمة، وهي أن فناء الجسم يستلزم فناء صورته وهي النفس، وعلى الجملة فأرسطو لا يتكلم عن مشكلة الخلود إلا عرضاً، وليته حين تعرض لها جاء بشيء مقبول، بل أفكاره فيها متناقضة متهافتة، على العكس من هذا نجد رأي الإسلام في هذه النقطة واضحاً وضوحاً لا يقل عن النقطتين السابقتين، فإن تعاليمه تقضي ببقاء الروح وخلودها وإلا لم يكن للثواب والعقاب معنى، وهذا هو الرأي الذي أخذ به الفارابي بعد تردد، وانتصر له ابن سينا انتصارا عظيما ودافع عنه دفاعا مجيدا، يقول:(إذا حصلتَ ما أصَّلْتهُ لك علمت أن كل شيء ما من شأنه أن يصير صورة معقولة وهو قائم الذات، فأنه من شأنه أن يعقل فيلزم من ذلك أن يكون من شأنه أن يعقِل ذاته. . . وكل ما يكون من هذا القبيل، فغير جائز عليه التغيير والتبديل) وفي كتاب النجاة بحث طويل عنوانه (فصل في أن النفس لا تموت بموت البدن). وفي هذا الفصل يحاول ابن سينا من طريق عميق ومضن إثبات خلود النفس

هنا تنتهي أيها السادة الشعبة الأولى من شعب التوفيق بين الفلسفة والدين. وقد رأيتم أنه كلما اصطدم رأي أرسطو بأصل ديني مال الفلاسفة المسلمون نحو تعاليم الدين أو فسروها تفسيراً ينطبق على ما ذهب إليه فيلسوف الإغريق. ونحن لا ننكر أن الفارابي وابن سينا كونا نظرية كلامية جديدة متعلقة بالإله وصفاته. وهذه النظرية تقربهما من مبادئ الإسلام بقدر ما تبعدهما عن أستاذهما أرسطو. إلا أنها في الوقت نفسه متعارضة في لفظها وروحها

ص: 22

مع كثير من النصوص الدينية. لذلك كانت مثار اعتراض وموضع أخذ ورد لدى مختلف الطوائف والفرق الإسلامية. ونستطيع أن نقول إن المدرسة الفلسفية العربية إذا كانت قد نجحت في أن تلفت الأنظار نحوها فذاك راجع إلى أبحاثها الدينية، غير أنها لقيت كذلك حتفها من هذا الطريق. وفكرة الخلق أو (الفيض) التي قال بها الفارابي وابن سينا لا تقنع رجل الدين في شيء كثير، وليس لها من الخلق إلا اسمه وصورته دون حقيقته ومعناه. وهذا بالدقة ما أخذه عليها الغزالي وحمل عليه حملة عنيفة سنعرض لها بعد قليل

والآن ننتقل إلى الشعبة الثانية حيث نفسر بعض الأمور الدينية تفسيراً علميا. وأول هذه الأمور النبوة التي هي عماد الدين وأساسه. فإن قيمة الإسلام وكل دين سماوي موقوفة على التسليم بالوحي وقبوله عقلا. وأن من ينكر الوحي أو يستبعد حصوله يطعن الدين في ركنه الأول وأساسه المتين. لهذا لجأ الفلاسفة المسلمون إلى إدعام النبوة على قواعد فلسفية وسيكلوجية. وأثبتوا أن الإلهامات الخفية التي يصل إليها الأنبياء ليست إلا ضربا ساميا من المعلومات الإنسانية. وسنعرض لهذه النظرية بوجه خاص بعدُ

وأخيراً لم يبق أمامنا إلا السمعيات، وهي كما تعلمون تلك الحقائق الدينية التي أخذت عن الكتاب والسنة واعتمد فيها على السمع وحده كالرسل ومعجزاتهم والملائكة وصفاتهم واليوم الآخر وما فيه من سعادة وأهوال، وسنكتفي بذكر أمثلة من هذه السمعيات لنتبين كيف حملها الفارابي وابن سينا على محمل فلسفي. قد يكون من الفضول أن أنقل إليكم رأي المتكلمين وأهل السنة خاصة في الملائكة والعرش واللوح والقلم والحشر والنشر. فهم يذهبون إلى أن الملائكة كائنات نورانية لطيفة قابلة للتشكل بمختلف الأشكال، لا تأكل ولا تشرب ولا تعصي الله أبداً، ويفهم بعضهم العرش واللوح والقلم على حقيقتها الحسية، ويعتقدون أن الحشر والنشر لن يكونا للأرواح فقط، بل سترد إلينا أجسامنا ونعود سيرتنا الأولى. أما الفارابي فيرى أن الملائكة ليست شيئاً آخر سوى تلك العقول التي تحرك الأفلاك المختلفة والتي حدثتكم عنها قبل. واللوح والقلم لا يقبلان تغييراً آخر غير هذا التفسير المعنوي الروحي. وهاهو ذا الفارابي يعبر عن رأيه قائلا: (لا تظن أن القلم آلة جمادية واللوح بساط مسطح والكتابة نقش مرقوم بل القلم ملك روحاني واللوح ملك روحاني والكتابة تصوير الحقائق. فالقلم يتلقى ما في الأمر من المعاني ويستودعه اللوح

ص: 23

بالكتابة الروحانية فيُبعث القضاء من القلم والتقدير من اللوح. أما القضاء فيشتمل على مضمون أمر الواحد والتقدير يشتمل على مضمون التنزيل بقدر معلوم، ومنها يسبح إلى الملائكة التي في السموات يُقبض إلى الملائكة التي في الأرض ثم يحصل المقدر في الوجود). والحشر والنشر والثواب والعقاب منصبة كذلك على الروح فهي التي تسعد وتنعم أو تشقى وتألم. فليس هناك صراط ولا ميزان حسيان، بل تلك أمثلة وتصويرات يراد بها التعبير عن الحقيقة الروحية، وقد سار ابن سينا على طريقة الفارابي ففسر العرش تفسيراً فلكياً عقلياً، وصور الجنة والنار بصور روحية تناسب نعيم النفس وشقاءها

هذه هي محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين التي قام بها الفارابي وابن سينا. وإذا ما تتبعنا تاريخ الفلسفة وجدنا أن الإغريق من قديم احتفظوا بمكان للدين في مذاهبهم الفلسفية. وقد عنيت مدرسة الإسكندرية بهذه المسألة عناية خاصة، وكثيراً ما أثبت أفلوطين أن الأفكار الدينية لا تتعارض مع الآراء الفلسفية. إلا أن المسلمين قد برهنوا في هذا المضمار على مقدرة وكفاءة لم يسبقوا إليهما. ولئن كان رجال الكنيسة قبلهم قد أدخلوا بعض المبادئ الرواقية والأرسطية في تعاليمهم فانهم لم يوفقوا في أن يكونوا من ذلك مزيجاً صالحاً متناسق الأجزاء

بيد أن محاولة التوفيق التي قام بها الفارابي وابن سينا وإن تكن محكمة وممتازة على سابقتها لم ترق لدى الغزالي كما قلت لكم من قبل. وقد ألف كتابه تهافت الفلاسفة ليناقش فيه آراء الفلاسفة وينقضها جميعاً، ويحتوي هذا الكتاب على عشرين مسألة، ثمان منها تتعلق بالبارئ وصفاته، وأكبر مأخذ يأخذه الغزالي في هذا الجزء على فلاسفة الإسلام هو أنهم ألغوا الصفات وأنكروا علم الله بالجزئيات، وقد تهكم عليهم تهكما شنيعاً في هذا الصدد قائلا:(وليتعجب العاقل من طائفة يتعمقون في المعقولات بزعمهم، ثم ينتهي أخر نظرهم إلى أن رب الأرباب ومسبب الأسباب لا علم له أصلا بما يجري في العالم، وأي فرق بينه وبين الميت إلا في علمه بنفسه؟ وأي كمال في علمه بنفسه مع جهله بغيره؟ وهذا مذهب تغني صورته في الافتضاح عن الإطناب والإيضاح)، وفي ثماني مسائل أخرى يرد على فكرة الخلق التي ذهب إليها الفلاسفة مبيناً أنها ترمي إلى خلق صوري لا يكاد يبدو له أثر في الوجود. ثم ينتقل بعد هذا إلى خلود الروح فيبين في مسألتين أخريين أن الفلاسفة لم

ص: 24

يستطيعوا البرهنة على هذه النقطة في وضوح. ولا يقبل الغزالي كذلك التفسير النفسي السيكلوجي للنبوة ويرفض رأي الفلاسفة فيه. وأخيراً يهاجم حجة الإسلام الفلاسفة هجوماً عنيفاً فيما يتعلق بالحشر والنشر ويأخذ عليهم أنهم ينكرون أصلا ثابتاً من أصول الدين. وفي نهاية هذه القضية الطويلة يعلن حكمه وبعد الفلاسفة السابقين مبتدعين في سبع عشرة نقطة وكفاراً لثلاث هي قولهم بأن الله يعلم الكليات لا الجزيئات وادعاؤهم قدم العالم وأبديته وإنكارهم لحشر الأجساد

لسنا بصدد أن نستأنف في هذه الجلسة حكم الغزالي السابق، لا سيما وقد صادف عين الحقيقة في مواطن كثيرة. إلا أنا نلاحظ أن صاحبه متحد أحياناً ومبالغ في نقده. ولا أدل على هذا من أنه اعتنق بعض الآراء التي نقدها والتي قال بها الفلاسفة فهو يفسر مثلا علم الله تفسيراً يشبه كل الشبه تفسير الفلاسفة ويعتقد بخلود الروح ويعده مبدأ ثابتاً من مبادئ الإسلام. وموقف الغزالي هنا ضعيف في الحقيقة للغاية، فإن صوفياً وتكلما يرد على أشخاص يثبتون خلود الروح يناقض نفسه تمام المناقضة. وفكرة النبوة الفلسفية التي يرفضها الغزالي في تهافته يقول بها في كتابه المنقذ من الضلال

أمام هذا التناقض لم يتردد ابن رشد في أن يرفض ما قاله الغزالي وأن يثبت (تهافت التهافت). وقد بذل عناية كبيرة في الدفاع عن أرسطو وإخوانه الفلاسفة المسلمين. ذلك لأنه كان يرى مثلهم ضرورة التوفيق بين الدين والفلسفة وترك كل واحد منهما آمناً بجانب الآخر. ويعلن أن شبه الخلاف بين هذين الطرفين راجعة إلى الخرافات التي ألحقت بالدين، أو إلى الادعاءات الفلسفية التي يدعيها من يزعمون أنهم حكماء وليس لهم من الحكمة نصيب. وهذه الأباطيل جنت على الدين والفلسفة وباعدت بينهما؛ (فأن الأذية من الصديق هي أشد أذية من العدو، أعني أن الحكومة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة فالأذية ممن ينسب إليها أشد الأذية مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة وهما المصطحبتان بالطبع بالجوهر والغريزة). غير أن ابن رشد سلك إلى التوفيق بين الفلسفة والدين سبيلا أخرى غير تلك التي سلكها الفارابي وابن سينا. فأنه كان يعتقد أن سلامة الدين والفلسفة أن يعزل كل واحد منهما عن الآخر، فلا تضاف عناصر فلسفية إلى تعاليم الدين، ولا تصبغ الفلسفة بصبغة دينية. لأن لغة رجال الدين يجب أن تختلف عن لغة

ص: 25

الفلاسفة مادام الدين للشعب والفلسفة للخاصة. وكم عاب فيلسوف الأندلس على صاحب تهافت الفلاسفة تقديمه للجمهور بعض المشاكل العويصة التي لا يستطيع فهمها ولا استساغتها

بيد أن هجوم الغزالي كان عنيفاً، وصدمة الفلسفة على يديه كانت قوية. لهذا لم يفلح فيها علاج ابن رشد ولم يرفع من شأنها انتصار فيلسوف قرطبة لها، وبقيت مهملة منظورا إليها نظرة ازدراء واحتقار أو توجس وخيفة طوال السبعة قرون الأخيرة. وكأن حملة الغزالي صادفت هوى في تلك العقول الضعيفة التي لا تقوى على البحث والنظر، فرأت أن أيسر سبيل لديها أن تهجر الفلسفة وشؤونها وتحاربها بكل الوسائل ولست في حاجة لأن أذكركم بتلك السنة التي سار عليها مؤلفو هذه القرون المظلمة من التساؤل عن حكم الدين في كل فن من الفنون، هل دراسته واجبة أو مسنونة أو مستحية أو مكروهة أو محرمة. وكثير منكم يذكر هذه الأبيات المشهورة التي صدرت بها حواشي الكتب في القرنين الحادي عشر والثاني عشر:

إن مبادئ كل فن عشرة

الحد والموضوع ثم الثمرة

وفضله ونسبه والواضع

والاسم الاستمداد حكم الشارع

مسائل والبعض بالبعض اكتفى

ومن درى الجميع حاز الشرفا

فباسم الشرع حرمت علوم وأبيحت أخرى، وتحت تأثير هذه الرقابة أهملت أجزاء الفلسفة المختلفة، ولم يدرس منها إلا المنطق الذي كان نفسه موضع تحريم أو تحليل واستحباب أو إباحة. وقد عقد الأخضري أحد مناطقة القرن العاشر الهجري في سُلّمه فصلا عنوانه:(في جواز الاشتغال به) وتحت هذا العنوان يبين حكم الشرع في دراسة المنطق وآراء الباحثين في هذا الصدد، ويوضح ذلك في أبيات طريفة يلذ لي أن أسردها عليكم

والخلف في جواز الاشتغال

به على ثلاثة أقوال

فابن الصلاح والنواوي حرما

وقال قوم ينبغي أن يعلما

والقولة المشهورة الصحيحه

جوازه لكامل القريحه

ممارس السنة والكتاب

ليهتدي به إلى الصواب

والباحثون الأول ما كانوا يقفون عند نقطة كهذه، ولا يرون غضاضة عليهم في أن يدرسوا

ص: 26

أية مادة كيفما كان نوعها. والغزالي بوجه خاص زج بنفسه في المدارس والفرق الإسلامية المختلفة. فدرس العلوم الكلامية على اتساعها، واتصل بالباطنية وتعرف أسرارها، ولم يخش باساً من قراءة الكتب الفلسفية واعتناق الطرق الصوفية. ومعرفته بدقائق الفلسفة وجزئياتها لا تقل عن الفلاسفة المختصين أمثال ابن سينا وابن رشد. وما كان يضير أحداً في ذاك الزمان أن يقرأ شيئاً ويتفهمه، فإن ارتضاءه قبله وإلا نبذه، ولم يخطر ببالهم أن مادة ما تستطيع أن تهدم الدين أو تنتقص أصوله. فلما قصر الجهد وعجز الناس عن الدراسة والبحث لجأوا إلى حماية أنفسهم بوسائل سلبية واستتروا وراء حجاب واه من حرمة الدين أو كراهيته فجنوا على أنفسهم ودينهم في آن واحد. وهكذا شأن عقيدة لا يرجع تدهورها غالباً إلى نقص في طبيعتها، بل إلى ضعف معتنقيها وفساد عقولهم وعجزهم من مسايرة الزمن

يجدر بنا، أيها السادة، وقد أتممنا هذه النظرة التاريخية العجلى أن نستخلص منها درسا ينفع للحاضر. فإن الماضي لا يدرس للماضي فقط، بل لما يمليه من نصائح وعبر مفيدة في الحاضر والمستقبل، ونصيحة الليلة أن نفسح المجال للدراسة والبحث أيا كان نوعهما دون أن نخشى على الدين بأسا. لندع العلم يقرر قضاياه ويوضح نظرياته، فهو إن لم ينصر فلن يخذله، وإن لم يؤيده فلن يقوى على هدمه. والعلماء الذين يبدو عليهم أنهم تجردوا عن تقاليد الأديان هم أكثر الناس اصطداماً بالمشاكل الدينية. ولئن كان القرن الثامن عشر قد دفع بعض المفكرين، تحت تأثير النهضات العلمية، إلى التشبث بأهداب المذهب العقلي واطراح كثير من الحقائق الروحية والنقلية، لقد جاء القرن التاسع عشر وأوائل القرن الحاضر مؤيدة للدين وواضعة إياه على أساس القوانين العلمية والنظم الاجتماعية. فأنصار مذهب البرجماتزم وعلى رأسهم جيمس ينادون بأن الحقيقة الدينية هي عماد الحقيقة العلمية، ذلك لأن الأولى نتيجة التجربة النفسية والوحي المباشر. وأصحاب المدرسة الاجتماعية الحديثة قد أثبتوا في جلاء أن جل النظم الاجتماعية، إن لم يكن كلها، نشأ في حجر الدين وتحت كنفه. فالعلم والدين متضافران إذن، أو على الأقل لا يستطيع واحد منهما أن يعدو على مكان الآخر. ومن الغريب أنه ما تجاهل باحث المبدأ الديني إلا واضطر للتسليم به أخيراً؛ ولا حارب رجال الدين علما إلا وانتهوا إلى دراسته بعد قليل.

ص: 27

فأرسطو الذي لم يفكر مبدئيا إلا في الطبيعة وعللها والأفلاك ومحركاتها سيق في آخر الأمر إلى إثبات محرك أكبر تتجه نحوه القوى وتشتاق إليه. و (كانت) الذي أنكر فكرة الإله في الدائرة الميتافزيقية عاد فأثبتها في أبحاثه الخلقية، وفي أوائل القرن الثالث عشر الميلادي حاربت الكنيسة الفلسفة الأرسطية وأحرقت كتبها، وحكمت بأقسى العقوبات على قرائها. ولكنها لم تلبث أن عادت فاعتنقت هذه الفلسفة وأضحى أرسطو أستاذ اللاهوت المسيحي الوحيد. وفي القرن السابع عشر حوكم جاليليو من جراء قوله بحركة الأرض، واليوم لا ترى الكنيسة ضيرا في اعتناق هذه النظرية. فإذا كان لنا أن نستفيد من هذه التجارب فواجبنا أن نترفع عن الخصومات الباطلة والنزاع الفاسد بين العلم والدين، وإذا كنا نريد أن نؤسس نهضتنا على أسس متينة فعلينا أن نفسح المجال للدراسة والبحث وأن نسير وراء الحقيقة كيفما كان مصدرها؛ والحكمة ضالة المؤمن يطلبها أنى وجدها

إبراهيم مدكور

ص: 28

‌في تاريخ الفقه الإسلامي

ثلاث محاضرات

للدكتور يوسف شخت

الأستاذ بجامعة كونيكسبرج، والأستاذ بالجامعة المصرية

- 1 -

إن الغرض من المحاضرات الثلاث التي أتشرف بإلقائها عليكم هو أن أتحدث إليكم عن الطريقة التي يجري عليها العلم الأوربي في درس الشرع الإسلامي، وعن بعض النتائج الهامة التي أسفر عنها هذا الدرس. وقد بدا لي أن هذا الموضوع خليق بأن يثير اهتمامكم من أكثر من وجهة واحدة، فأن مصر كبلد إسلامي حديث لا يمكن إلا أن تهتم ببحوث علمية ترمي إلى إظهار خاصة من خصائص الإسلام، والعلم الأوربي من جانبه ينبغي ألا يهمل الاتصال بالعلم الإسلامي المعنيّ بهذا الموضوع. ورغم اختلاف المبادئ والطرق والمصالح التي تفصل هاتين المدرستين إحداهما عن الأخرى، فقد ألفت بين بحثيهما في الشرع الإسلامي آصرة مشتركة جوهرية، هي روح البحث العلمي الذي يحدو المستشرقين الأوربيين اليوم، كما كان يحدو علماء الإسلام من عهد القرون الوسطى. هذا العتاد المشترك يبعث على أشد التفاؤل بتعاون مثمر قائم على الاحترام المتبادل بين العلماء الشرقيين والغربيين في هذا الباب، تعاون لا يوهن في تعلق فريق منهما بالتقاليد واستمساك الفريق الآخر بأساليبه العلمية، وإني لأرجو أن يكون في مقدوري المساعدة على تنمية التفاهم بين الفريقين؛ وليس في نيتي أن أعرض صورة عامة للشرع الإسلامي، وأن أكرر كثيراً من الأشياء المعلومة لكثرتكم بلا شك، بل أتكلم عن مسائل خاصة في تاريخ هذا الشرع تناولها علماء أوربة متوخيا عرضها عليكم في صورة قد تثير اهتمام حتى غير الاختصاصين منكم

ولنبدأ بالمسألة العامة - مسألة تاريخ الشرع الإسلامي؛ فهذه المسألة تمكنني من اطلاعكم على ما بين وجهتي النظر من اتفاق تام، فعلماء الإسلام يرون في الشريعة تعبيراً عن الإرادة الإلهية التي لا تبدل فيها؛ وقد كان مع هذا المبدأ من المسلَم به دائماً أن تعبير الفقه

ص: 29

عن هذا القانون الإلهي مرّ بدور تاريخي حتى أن بعض المؤلفين المسلمين عنونوا مؤلفاتهم (بتاريخ التشريع الإسلامي)؛ وقد جهد علماء أوربة ببحث هذا التطور دون أن يكون لهم بمسائل العقائد شغل، وتناولوا بهذا الروح تاريخ الشريعة، والعلماء المسلمون أنفسهم، على الرغم من اعتقادهم بقدسية الشريعة وصبغتها الإلهية، يسلمون بأن أحكاماً من أحكامها كانت موجودة فعلا في شرائع أخرى قبل أن يقرها التشريع الإسلامي؛ ولنضرب لذلك مثلا واحداً هو القصاص، فأن مبادئه التي عدلها وأكدها القرآن والسنة ترجع إلى القوانين العرفية عند العرب قبل الإسلام. فالعلم الأوربي يبحث فيما يسمى بالعلاقات بين الشريعة والشرائع التي سبقتها بهذا المعنى التاريخي المحض - ذلك المعنى الذي لا يضير ما في علم أصول الفقه الإسلامي من الحقائق، ومعلوم جيداً أن العلماء المسلمين أنفسهم يطبقون على الأسانيد قواعد نقدية، وهذا النقد الذي وسَّع النقاد من علماء أوربة دائرته، وذهبوا فيه بعيداً، قد بات أداة للعمل لا يستغني عنها العلم الأوربي - أداة ليست سلبية محضة، بل قد أعانتنا على تقرير صحة الكثير من الأحاديث. في هذا كله يمكن أن يوجد، بل يوجد فعلا اختلاف كبير في الأساليب والنتائج بين علماء الشرق والغرب، ولكن لا وجود لخلاف جوهري، لأن مبادئ عقائد الإسلام لا تؤثر في دراستنا التاريخية للشرع الإسلامي. هذه المدرسة الأوربية لا تقف عند حدود الشريعة، التي تلتزم غايتها الأساسية بطبيعة الحال، بل تتجاوزها أبحاثها إلى وجهات عدة، فتتناول القوانين الأخرى المتصلة بالشرع الإسلامي اتصالا مباشراً، سواء أكان ذلك باندماج سنن تلك القوانين في الشريعة الإسلامية بالمعنى الذي أسلفنا بيانه، أم كان بتأثير الشريعة في تلك القوانين والسنن، والمقصود بذلك قوانين العرب أيام الجاهلية من جهة، وقوانين الشعوب التي دخلت في دولة الإسلام من جهة أخرى؛ مثال ذلك هو التشريع الخاص بالأسبان المسيحيين الذين يتكلمون العربية وهم المسمون بالمستعربين. ويتناول الدرس أيضاً موضوعاً واسعاً، هو العرف القائم بين الشعوب الإسلامية نفسها. إننا نعلم أن هذا العرف الذي يطلق عليه أسماء مختلفة كالعادة والقانون والدستور الخ قد نشأ إلى حد ما في بلاد الإسلام تقريباً، إلى جانب الفقه المعترف به رسمياً؛ وشرح تاريخ هذا العرف وبيان علاقته بالشريعة أمر لا غنى عنه في تفهم جملة الحياة التشريعية عند الأمم الإسلامية تفهماً صحيحاً؛ وقد شهدنا في خلال السنوات الأخيرة تطوراً جديداً في العلاقات

ص: 30

القائمة بين الشريعة والقانون بتلك التعديلات التي أدخلتها مصر على الأحوال الشخصية. وأخيراً فالعلماء الأوربيون يعنون بالمظهر الاجتماعي للشرع الإسلامي، لأن الشريعة الإسلامية أحسن مثال وأهم مظهر لما يسمى (بالقوانين المقدسة). وبهذا لا نريد مطلقاً أن نضع الشريعة في مستوى واحد مع سائر الشرائع، بل نحرص كل الحرص على إظهار خواصها الفردية ابتغاء الوصول إلى تقدير مركزها الفريد بين الشرائع والقوانين الأخرى. فإذا كان علمنا يضع الشريعة في أفق أبعد زاعماً أن تلك الشريعة ليست حقيقية شاذة لا علاقة لها بما حولها، فإنما نفعل هذا لكي ندرسها أوفى درس ممكن من كل جهاتها. كذلك لا يهمل العلماء في أوربا درس الشرع الإسلامي على طريقته التقليدية الخاصة، فإن هذه الدراسة شرط لازم يمهد لكل بحث تاريخي. ولعل في هذه الملاحظات التمهيدية ما ينيلكم فكرة عامة من هذه الوجهة الهامة من بحوثنا وغاياتنا

وقبل المضي في التفاصيل قد يحسن أن أقول كلمة عن تاريخ هذه الدراسة في أوربا. فوجودها يرجع إلى عهد قريب لأنها مدينة بأصلها للنهضة العظيمة التي تناولتها البحوث الإسلامية في أوربا في النصف الثاني من القرن الماضي. والمشجعان الكبيران على البحوث الإسلامية العامة هما في نفس الوقت واضعا أساس البحث العلمي في الشرع الإسلامي، وأعنى بهما الأستاذ المجري الكبير (توفي في سنة ألف وتسعمائة وواحد وعشرون) والأستاذ الهولندي المحترم الذي بلغ أخيراً الثامنة والسبعين من عمره، والى اسمي هذين الصديقين الجليلين يجب أن نضيف اسم عالم ألماني قضى قبل الأوان في سنة ألف وتسعمائة وثلاث وثلاثين في الخامسة والأربعين من عمره، واعني به المرحوم المأسوف عليه الأستاذ وإني لأعتبر نفسي تلميذا لـ ، وأنا شاعر بجميلهما أعمق الشعور، فخور بهما حق الفخر

إن أولى المسائل الخاصة التي سأعالجها هنا تتعلق بالقانون العرفي عند العرب في زمن الجاهلية، وهو كالأرض التي كانت تنمو عليها شجرة الشريعة العظيمة، ولهذا السبب فإنه يدخل في نطاق أبحاثنا كما ألمعنا آنفاً. هنالك رأي سائد إلى اليوم يعتبر الحياة القانونية في جزيرة العرب قبل الإسلام مما لا يمكن درسه لانتفاء المصادر المباشرة، ويزعم أن تلك الحياة كانت فطرية بسيطة بحتة. ولقد مكنتنا أبحاث السنوات الأخيرة القائمة على الانتفاع

ص: 31

بمصادر غير مباشرة من تصحيح هذا الرأي. فلم يكن فطرياً سوى أحوال البدو، يشهد بذلك الشعر القديم وأخبار القبائل ويؤيده ما يصادفه المرء عند البدو اليوم. أما المدن ومنها مكة التي كانت مركزاً تجارياً ذا صلة باليمن وسورية البيزنطية والعراق الساساني، والمدينة التي كانت مركز زراعة النخيل مركزاً يضم جالية كبيرة من اليهود - نقول: أما المدن، ومنها ما ذكرناه، فكان لها بلا ريب قانون أكثر نمواً لم يمكن إلا أن يتأثر بالعوامل الخارجية التي ذكرناها، ويمكننا أن ننسب بالتفاصيل إلى الأصل البدوي أشياء منها النظام الاجتماعي وأحكام العائلات والمواريث وقانون القصاص - وكل هذا بقى سارياً على أهل المدن أيضاً - ويمكننا أن ننسب إلى التطور المدني الموافقة على قواعد مفصلة تطبق على العقود ووضع أشكال معينة للشركات واستعمال وثائق مكتوبة - كل هذا في مكة - ومعاملة بعض العقود الزراعية في المدينة. فكل هذه العناصر لم تبق بمعزل بل اتسع تداخلها بتأثير العلاقات التجارية التي تساعد على نموها الأشهر الحرم والأسواق الكبرى، حتى أن بلاد العرب كانت في القرن السادس بعد الميلاد محكومة بقانون عرفي متشعب الأطراف، وهذا يطرح مسألة تحليل هذا القانون تحليلاً مفصلاً سأقدم لكم مثالاً منه

الحالة في الشرع الإسلامي هي أن العنصر الجوهري في كافة العقود يتألف من الإيجاب والقبول اللذين يعبران عن تراضي المتعاقدين، وهذا التركيب القانوني للعقود من إيجاب وقبول تجمع مذاهب الفقه على التسليم به كأنه أمر طبيعي دون أن يتناقض بعضها مع بعض، وهو لابد أن يكون سابقاً لتلك المذاهب فضلا عن أنه لا صلة له بالمبادئ الإسلامية المحضة كمنع الربا ومنع الغرر التي تبنى عليها كافة الأبواب المتعلقة بأحكام العقود من الشريعة. وهذا كله ودلائل أخرى تحمل على الاعتقاد بأن تلك العبارة القانونية عن طبيعة العقود ترجع إلى القوانين العرفية فيما قبل الإسلام. أجل إن هذه الفكرة القانونية تكاد تكون شاذة شذوذاً تاماً في تاريخ القوانين القديمة. فإن الأمر المعني هنا ليس بذلك الدور الطبيعي الواضح الذي كان للإيجاب والقبول دائماً في الحياة الاقتصادية باعتبار أنها مقدمة العقود المتواضع عليها بمحض التراضي؛ ولكن النقطة الحاسمة هي أن الإيجاب والقبول يعتبرهما النظر القانوني عنصراً جوهرياً في العقود، وأولئك الذين درسوا الشرع الإسلامي أو القوانين الحديثة فقط يمكن أن يلوح لهم هذا ضرورياً، بيد أن التاريخ يدلنا على أن

ص: 32

الأمر ليس كذلك؛ لأن مثل هذا التركيب القانوني للعقود لم تعرفه القوانين القديمة اللهم إلا الشرع الإسلامي والقانون البابلي الحديث. فإن هذا القانون يعطي نمطاً من صيغة تعاقدٍ يتفق تماماً ونظرية العقود التي أسلفنا بيانها، بحيث أن نفس العقود البابلية الحديثة لو ترجمت إلى العربية يمكن أن تبدو بين الوثائق الإسلامية القديمة المبنية على النحو الآتي:(هذا ما اشترى فلان من فلان. . . وباع هو إياه. . . بتراض منهما. . .). هذه الحقيقة الواقعة تحدو بنا إلى التساؤل: أتوجد علاقة تاريخية بين هاتين الظاهرتين؟ إن الفارق الزمني ليس بكبير مهما يظهر منه عند اللحظة الأولى، فإن الوثائق البابلية الحديثة تبتدئ من أواخر القرن الثامن قبل الميلاد وتستمر إلى نهاية الآداب البابلية حول الميلاد، والقانون العرفي العربي كان قد اكتمل تطوره في القرن السادس بعد الميلاد. بيد أن بعض خواصه قد يرجع إلى ما قبل ذلك. وليس يدعو إلى العجب أن تبقى صيغة وثائق جمدت خلال سبعة قرون لكافة الأعاصير السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العراق - نقول: ليس عجيباً أن تبقى مثل تلك الصيغة التعاقدية بعد ذلك زماناً، وإن كنا لا نستطيع الجزم بهذا لأننا لا نعلم شيئاً عن تلك الفترة. على أن الاستمرار التاريخي للبيئة مؤكد على الأقل؛ ذلك أن العراق كان يسكنه منذ القرن الثامن قبل الميلاد وعلى الرغم من تبدل الأسر الحاكمة أولئك السكان الآراميون الذين لم يزالوا يسكنونه في خلال الفتح العربي والذين سماهم العرب بالنبطيين. أما القانون المعرفي العربي فإن التأثر الذي يمكن أن يكون تناوله من جانب العراق ليس أقل احتمالا من التأثير الذي أصابه من ناحية سورية، وهذا مؤكد لأن التجارة العربية كانت تتجه نحو القطرين على السواء. وصفوة القول أنه من الراجح رجحاناً كافياً أن صيغة العقود ذات الجانبين أي الإيجاب والقبول قد توورثت من القانون البابلي الحديث. وقد ألمعنا إلى أن تلك الفكرة القانونية في انعقاد العقود ليست بالوحيدة الإمكان، فإن هنالك فكرة أخرى منتشرة انتشارا واسعاً في القوانين القديمة تعتبر العنصر الجوهري موجوداً في تصرف واحد من المتعاقدين. مثال ذلك أن ينعقد البيع بنزول البائع عن حقه في الشيء المبيع للمشتري في مقابل ثمن معين. ويظهر من الاصطلاحات العربية أن القانون العرفي قبل الإسلام كان قد عرف هذه الفكرة في طبقة سابقة لدخول الصيغة التبادلية في العقود، وهذه الاصطلاحات بلا شك إلى الزمن الجاهلي أيضاً. فبينما

ص: 33

الاصطلاح الفني المقبول يعبر رأساً عن معنى العقل الذي يقع عليه فإن الاصطلاح الخاص بالعرض - وهو الإيجاب - يتناقض تناقضاً ظاهراً مع الدور المخصص لفعله لو اعتبر العقد، كما هو الواقع، آتياً من الجانبين. فهو يصف العرض الذي هو فعل البائع في مثالنا السابق كأنه يجعل العقد واجباً نهائياً مختوماً عليه لا رجوع فيه، بدليل معنى كلمة الوجوب في شواهد كثيرة؛ منها حديث مشهور إذ يقول النبي عن رجل أسلم ثم استشهد على الأثر: وجبت له الجنة. وعلى النقيض من ذلك فإن العقد ذا الجانبين لا يصير واجباً إلا بقول عرض سابق، بينما التصرف من جانب واحد على نحو ما أسلفنا يطابقه ذلك الاصطلاح تماماً. إن هذا العصر الجاهلي يكشف لنا عن أرض عذرية واسعة خصيبة لأبحاث مستقبلة

والمسألة الثانية التي أود أن أتناولها تتصل بعصر هو أحسم من غيره في تاريخ الشرع الإسلامي أعني عصر فقهاء المدينة السبعة. وقد كان الاعتقاد إلى الآن أن عمل هؤلاء الفقهاء الأولين للإسلام كان وضع نظام للفقه يطابق حاجات عصورهم المختلفة. ولكن الأبحاث التي جعلتنا أكثر معرفة بحالة القانون العربي في العصر السابق للإسلام هي نفسها التي علمتنا أن نقدر عمل هذا العصر الآخر بأدق مما كنا نفعل، فهذا العمل قبل كل شيء إدخال المبادئ الإسلامية في قانون كان قد نما إذ ذاك نمو كافياً. وأصحاب الفضل الأكبر في إدخال المبادئ الإسلامية في القانون العرفي الجاهلي كانت تضمهمّ دوائر الأصحاب والتَّابعين وتابعيهم في المدينة. كانوا يعملون على نفاذ الحياة بأسرها ومنها الحياة التشريعية بقواعد دينية أخلاقية، وهذه القواعد كانوا يستمدّونها ويستنتجونها قبل كل شيء من الآيات القرآنية الشرعية ثم من الأحاديث. فالأحاديث التي كانوا يأخذون بها ترجع بلا شك إلى عصر قديم جداً. ومن الجدير بالذكر أن الأبحاث الحديثة أفضت بالعلم الأوربي إلى تعديل تشككه في صحة بعض الأحاديث - ذلك التشكك الذي كان يغالى فيه أحياناً. فكثير من تلك الأحاديث لا يذكر أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله التي كانت تصير قواعد جديدة، بل يذكر أن النبي قرر وأجاز عادات أصحابه باستصوابها صريحا أو ضمنياً دون أن يستنكرها. وهذا هو البرهان المباشر لما نسمّيه استمرار السنن القانونية السابقة في الشرع الإسلامي. ولقد كان من نتائج هذا التطبيق المحتوم المنظم لأعمال القرآن والسنة أن

ص: 34

اشتمل نظام من (الأوامر والنواهي) على جميع أبواب الحياة القانونيَّة حتى التي لم ينص القرآن عليها صراحة. وروح هذه (الشريعة المقدسة) تختلف أصلاً عن روح القوانين المدينة كالقانون الروماني مثلا. فأن أمثال هذا القانون تتناول قبل كل شيء الحقوق المشتقة من أفعال معينة ذات قيمة قانونية، على حين أن الشرائع المقدسة تعني الحكم على الأفعال من حيث أنها مباحة أو محظورة. وهذا بيّن من الاصطلاحات الفنية: إن التدرج العام لأعمال الإنسان من واجبة أو مفروضة ومندوبة ومباحة أو جائزة ومكروهة ومحظورة تعبر عن صفاتها الدينية والأخلاقية. ولكن كلمة الواجب لم تدل في الاصطلاح الجاهلي - كما رأينا - على المفروض بل دلّت على الصحيح وقد تستعمل في هذا المعنى أحياناً في كتب الفقه أيضاً: ونحن نشهد حقيقة على تراجع للعنصر القانوني المحض بتأثير القواعد الأخلاقية. حتى نفس نظام المصطلحات الدالة رأساً على أنواع الصفات القانونية وهي مشروع وصحيح ومكروه وفاسد وباطل إلى غير هذا، تأثرت بتلك النظرية الدينية: فالصفة العامة وهي المشروعية، مشروعية البيع مثلاً، تشتمل حكما من هذا النوع الديني الأخلاقي؛ ثم إننا نجد صفة الكراهة تطلق على أفعال قانونية مشروعة صحيحة يليها شيء من المنهي عنه. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن هذا النظام المدرج الثاني أقل تفصيلاً من التدرج الأول، وأن بعض المصطلحات الدالة على الصفات القانونية المحضة كاللازم والنافذ والبات قد بقى بلا تحديد حاسم دقيق. وأخيراً فأن اصطلاح (الجائز) أصبح مترادفاً لاصطلاح (الصحيح) ويدل على أن الأفعال التي يطلق عليها لا بأس بها من حيث التقدير الديني الأخلاقي فهي بهذه المثابة صحيحة. وإذا قيل إن أمان المسلم الواحد مثلاً جائز فمعنى ذلك من جهة أنه غير آثم في منحه هذا الأمان، ومن جانب آخر أنه لا اعتراض على هذا الفعل، وأنه من أجل ذلك يعتبر صحيحاً. ومن هذا كله يتضح ما للتقدير الديني الأخلاقي للأعمال من أهمية ومن أولوية على الصفات القانونية المحضة في الشرع الإسلامي. وليس هذا بأقل وضوحاً في نظام الأحكام الشرعية نفسها. فإن الجانب الأكبر من أحكام المعاقدات مثلا يتسلط عليه الميل إلى استخلاص كل النتائج من تحريم الربا والميسر؛ أما أحكام العقوبات فأنها لا تتناول إلا جانباً بسيطاً من الأفعال المحرمة، بحيث يكون للأوامر والنواهي صبغة أدنى إلى أن تكون أخلاقية منها إلى الصبغة القانونية. إن مصدراً من

ص: 35

مصادرنا الكبرى فيما يتعلق بهذا العصر هو على الرغم من تاريخه الأحدث قليلاً كتاب الموطأ لمالك بن أنس. إنه جدير بالذكر أن أقوال الفقهاء السابقين يتلو بعضها بعضاً في أبوابه التي تتصل بالأوامر الأخلاقية وبكافة الأحوال الشخصية والمواريث - تلك الأحكام التي ترى صبغتها الدينية بادية ظاهرة - في حين أن هذه الأقوال نادرة في كثير من الأبواب المتصلة بالقانون التجاري الذي كان بعيداً عن دائرة الأخلاق قليل الاكتراث له لا يثير مناقشات أهل الدين. فهذه الأبواب من جهتها تمتاز بتغلب مصطلحين فيها وهما السنة والإجماع. فمعنى السنة في كتاب الموطأ هو العرف والعادة المسنونة في المدينة، لا سنة رسول الله فقط، والفرق بينهما من جهة الاصطلاح ظاهر. أما الإجماع فمقتضاه في كتاب الموطأ غالباً أن سنة من السنن القانونية لم يستنكرها واحد من الأئمة لأسباب دينية أخلاقية. ويجب أن نذكر إلى جانب كتاب الموطأ لمالك بن أنس مصدراً آخر هاماً لذلك الدور من تاريخ الشرع الإسلامي، وهو كتاب اختلاف الفقهاء لابن جرير الطبري، فهو على الرغم من القليل الذي انتهى إلينا منه؛ أكثر دلالة من الكتاب الأول. مثال ذلك أن الطبري يعلمنا أنه كانت هنالك عشرة اختلافات أساسية بين مذهب سعيد بن المسيب (أشهر فقهاء المدينة السبعة) وإجماع مذاهب الأجيال التالية، وهو شيء لا يظهر من المواضع العديدة التي أورد مالك فيها من هذا المرجع تأييداً لآرائه الشخصية. وثمة مصدر ثالث رئيسي لدراسة هذا العصر، هو كتاب أخبار القضاة لأبي بكر وكيع القاضي (توفي سنة ثلثمائة وست) فهو جامع لأخبار قضاة الأمصار الكبرى في الدولة الإسلامية طائفة طائفة على الترتيب الزمني من الابتداء إلى عصر المؤلف مبيناً ظروف توليتهم وعزلهم مفصلاً الحوادث التي وقعت طوال ولايتهم مورداً قضاياهم الهامة وأحاديثهم وشعرهم إلى غير ذلك من المعلومات. ويفيدنا هذا الكتاب عن مظهر آخر للحياة التشريعية وهو تطور بالعمل القضائي، فأن قضايا هؤلاء القضاة الأقدمين وعلى رأسهم الخلفاء الراشدين قد ساهمت مساهمة كبيرة في نمو الفقه. ولندع جانباً موادّ أخرى لم يتناولها البحث إلى الآن كتلك الموادّ التي يشتمل عليها تفسير ابن جرير الطبري الكبير، وننتقل إلى المصدر الهامّ الرابع لأبحاثنا عن ذلك العصر، ونعني به المعلومات الواردة في كتب الأحاديث وما يتعلّق بها. فقد أسلفنا القول بأن الفقهاء الأقدمين كانوا يأخذون القواعد التي كانوا يطبقونها على القانون

ص: 36

العرفي من القرآن والأحاديث التي كانوا يرونها صحيحة فلذلك ليس من العجب أن نجد إلى جانب الأحاديث كثيراً من القضايا والأحكام تتعلق بها لاسيما في الجامع الصحيح للبخاري. فإن صاحبه في تراجم الكتب والأبواب كثيراً ما يذكر آراء الفقهاء التي تدخل في موضوعه حتى ولو لم تتفق والأحاديث المذكورة أو أعوزت الأحاديث كل الاعواز. وإن لنا الحق في أن نفترض أن كل حديث ذي صلة بمسائل الفقه كان يلازمه أصلا رأي فقهي مطابق له حتى ولو كان هذا الرأي قد اختفى. والأحاديث - سواء أكانت صحيحة أم مطعونا فيها - هي في الواقع مصدر من الدرجة الأولى لفهم هذا التطور القديم للفقه، وعلى الباحثين أن يطابقوا بين الآراء الفقهيّة التي تعبر عنها الأحاديث وحالة الأشياء الحاصلة بعد استكمال الفقه على صورته النهائية. وأود أن أورد لكم بضعة أمثلة لهذه الطريقة - طريقة المطابقة بين الأحاديث الشرعيّة والفقه

فالنص الأساسي للّعان، وهو مثالنا الأول، هو الآية الآتية:(والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلاّ أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) هذا النص لا يفصل في مسألة النكاح: أيقتضي اللعان فسخه ضرورة أم لا. فجميع مذاهب الفقه تقول بالإيجاب، وتستند في ذلك إلى أحاديث. ولكن تلك الأحاديث تثبت هذا الرأي بصورة جازمة قوية حتى أن الرأي العكسي لابد أن يكون قد وُجد قبل تأليف المذاهب. ويقال إن مصعب بن الزبير قد أخذ بهذا الرأي الآخر، لكن هذا القول لا أصل له؛ ولكن الخبر المنفرد عن عثمان البَتي أنه كان يرى ذلك فيؤكده متن الأحاديث نفسه. فأما فسخ النكاح عند اللعان فقد يحتمل أن يكون على ثلاثة وجوه: أن يفسخ النكاح بالطلاق الذي يجب أن يصدر عن الزوج، أو أن يفسخه القاضي المشرف على أداء اللعان، أو أن ينفسخ بوقوع اللعان نفسه. والرأي الأول يطابق بلا ريب المعنى الواضح لطائفة كبيرة من الأحاديث، بينما لم يبقَ له أثر ما في الأقوال المروية عن الفقهاء الأقدمين ماعدا جدال منفرد ضدّه؛ ولابد أن يكون قد اندثر من زمن بعيد، وقد فسّرت تلك الأحاديث على أنها مؤيدة للرأي الثاني، وهذا الرأي تشهد به أحاديث أخرى كثيرة، ويصفه الزهري بأنه سنّة، وهو مذهب الحنفية؛ ومن الراجح على الظن أن مالك بن أنس قد أخذ به شخصياً في حين أن المالكية قد آثروا عليه الرأي الثالث. وهذا قد أخذ به الشافعي ومن

ص: 37

بعده الشافعية أيضاً؛ لكننا لا نجد أحاديث تؤيده. وهكذا يظهر من مقارنتنا للأحاديث بالمذاهب الفقهية تطوّر بيّن يتجه اتجاها معينا

فأحكام القصاص - وهو مثالنا الثاني - مبنية على آيات عديدة، منها الآية التالية:(يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) وقد فسرت هذه الآية تفسيرات مختلفة. منها تفسير يلوح أنه مطابق لمعناه الظاهر، يفيد في الواقع أن رجلا حراً لا يمكن أن يُقتل إلا في رجل حرّ وفي المرأة امرأة فقط، وأنه في الحالات الأخرى يجب أداء الدية بدلا من القصاص. ويزعم أصحاب ذلك التفسير في نفس الوقت أن هذه الآية قد نسختها آية أخرى تنص على القصاص العام وهي الآية الآتية:(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسنّ والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون). كذلك أجمعت المذاهب الآن على أن الرجل يُقتصّ منه بالمرأة. وقد فسرت الآية الأولى أيضا بهذا المعنى استناداً إلى حديث لا شك في صحته مؤدّاه أن النبي أمر بقتل رجل في امرأة. ومع هذا كله فقد وُجد الرأي القائل بأنه لا ينبغي أن يُقتل رجل في امرأة، ويُذكر من أصحاب هذا الرأي عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعطاء وعكرمة، ولكن لا يكاد يوجد حديث يؤيد هذا الرأي، وهذا المثال يفيدنا علماً بأنه - ولو أن كل حديث يطابق قولاً فقهياً - فالعكس ليس كذلك وأن بعض الآراء الفقهية يمكن أن يكون مستقلا عن الأحاديث. ومثل هذا يُقال في مسألة العلم بهل يقتل كثيرون في شخص واحد إذا اشتركوا في قتله؟ ولما كان أصحاب هذا القول الذي أخذت به مذاهب أبي حنيفة ومالك والشافعي يعوزهم حديث لا مطعن فيه، فقد كانوا مضطرّين أن يستندوا إما إلى حديث لم يكن دليلا قاطعاً وإما إلى آراء بعض القدماء، وهو مما أثار انتقادات خصومهم

ولعل هذا يكفي في وصف ذلك العصر الخصيب من تاريخ الفقه الإسلامي. وحسبنا أن نلاحظ ختاماً لهذه المسألة أنه يمكننا بالانتفاع بالمصادر الميسورة اليوم أن نفهم فهماً دقيقاً تلك الوظيفة التشريعية التي قامت بها شخصيّة قديمة كشخصية إبراهيم النخعي. وبهذه الإشارة إلى ميدان واسع لأبحاث مستقبلية عظيمة الشأن نختم هذا الحديث الأول

ص: 38

يوسف شخت

ص: 39

‌الحجر المؤابي

بقلم جريس القسوس

اكتشف الحجر المؤابي في قرية ديبون القديمة (ذيبان) الواقعة ما بين نهر أرنون القديم (أو الموجب الحالي) ومادبا في أقصى شمال مؤاب (الكرك اليوم)، وتبعد ذيبان عن نهر أرنون نحو أربعة أميال إلى الشمال؛ وقد كانت قديماً قاعدة ملوك مؤاب في عصورهم الذهبية، أي التي سيطروا فيها على مؤاب الشمالية، ومؤاب الجنوبية. وفي سنة 1868 راد قس ألماني أسمه ف. كلاين القسم الشمالي من مؤاب، ومر في طريقه بذيبان، فعثر فيها على حجر مسنود إلى جانب سور المدينة القديم، منقوش على أحد جوانبه كتابة باللغة العبرانية القديمة، ويظن ترسترام أن الرومان استعملوه في بناء سور المدينة، غير أنه زحزح من مكانه الأصلي بسبب طارئ طبيعي ربما كان زلزلة. ويعتقد ترسترام أيضاً أن الحجر دحرج من مكانه بسبب الزلزلة التي حدثت سنة 1837، ولا يرى أن هذا الحادث متقدم عن ذلك التاريخ، إذ أن الكتابة لا تزال ظاهرة للعيان رغم تعرضها الطويل للشمس والهواء والمطر، وإذا اعتبرنا قوله هذا صحيحاً، تكون الكتابة قد ظلت معرضة للحوادث الطبيعية والتغيرات الجوية مدة إحدى وثلاثين سنة فقط

أدرك ذاك القس الألماني قيمة هذا الأثر، وأراد أن يبتاعه مبدئياً، أملا أن يبعث به إلى متحف برلين، إلا أنه لم يوفق في مهمته هذه، إذ ما كاد بدو بني حميده، القاطنين في تلك الديار يدركون قيمة هذا الحجر حتى ثار النزاع بينهم فانقسموا فريقين، كل فريق يرغب في اغتصابه واحتكار ثمنه. غير أن أحد الفريقين أدلج إليه مع سوّاح فرنسيين: ولما لم يتمكّنوا من نقله لثقله، خفّفوا من كثافته بفؤوسهم، وأخيراً حطّموه إلى عدة أقسام، حملوها على بغال وقطعوا بها نهر الأردن، فتمكّن بذلك السوّاح الفرنسيون من شرائه ونقله إلى متحف اللوفر بباريس، ولا يزال هناك إلى اليوم. وقد أخذ عنه قالب من الجبس لكي يحفظ في المتحف البريطاني. ولا صحّة لما أورده المؤلف هرمان هلبرخت من أن الحمايدة حطموا هذا الحجر، أملين أن يعثروا في داخله على كنز. ولقد جمعت قطع هذا الحجر، وعددها ثمان عشرة. وصُفّت صفّا فنيّاً، وشُدَّ بعضها إلى بعض بقوالب حديدية متينة. حتى

ص: 40

استطاعوا أخيراً قراءة كل ما هو منقوش عليه

أما طول هذا الحجر فنحو ثلاثة أقدام ونصف قدم، وعرضه قدمان. وهو شبيه في مظهره الخارجي بعواميد أسر حدون الآشوري الحجرية الموجودة في متحف برلين. ولقد نقش عليه مائتان وستّون كلمة في أربعة وثلاثين سطراً، وذلك بالخط العبراني القديم

وللكتابة على هذا الأثر فضلٌ كبيرٌ على تاريخ الحضارة، لأنه حفظ لنا أنموذجاً من النحو والإنشاء العبراني القديم، ليس هذا فحسب، بل من الخط العبراني القديم أيضاً. فمن هذا الأنموذج يتّضح لنا شكل الحروف الهجائية السامية القديمة، هذا عدا أنه يساعد على دراسة تطور الخط الإغريقي

أما فحوى هذه الكتابة فهو مكّمل لما ورد في سفر الملوك الثاني (الإصحاح الثالث) من التوراة، من الحوادث عن مؤاب في القرن التاسع قبل الميلاد وذلك في عهد ميشاع ملك مؤاب الذي كان معاصراً لأحازيا ويهورام ملكي إسرائيل، ويهوشافاط ملك يهوذا. فبينما تورد التوراة قصة اتحاد يهوشافاط ويهورام وإنفاقهما على إخضاع مؤاب في عهد ميشاع، ترى ميشاع يخطّ لنا على هذا الأثر الخالد الأسباب التي أفضت إلى هذه الحرب، وكيف أن عُمْري ملك إسرائيل وابنه آحاب أخضعا الكرك، وامتلكا أرض مادبا؛ وكيف أن ميشاع تمكن بمعونة إلهه كيموش من استرجاع هذه البلاد، واغتنامه من الإسرائيليين مدينتي عطاروث ونبو وغيرهما من المدن الحصينة؛ وكيف أنه أعمل السيف في رقاب بني إسرائيل القانطين عطاروث تخليداً لاسم كيموش، وفيه يحدث ميشاع أيضاً عن اعتزامه على تحصين مدن مؤاب، وبناء قصر له في الكرك الحالية، وحفر آبار ماء فيها. أما عبادة مؤاب في عهد ميشاع، كما يظهر من هذا الأثر، فوثنية؛ إذ أن كيموش عندهم يقابل يهوه عند إسرائيل (سفر العدد ص 21: 29) (والقضاة 11: 24). والديانة عند ملكيهما أساس الوطنية والقومية الصحيحة؛ كما أن الملك أقرب فرد في الشعب إلى الإلهة. أما ماعدا كيموش فهناك (دودة وقد ورد اسمه في الكتابة على الحجر المؤابي، وإليك ترجمة ما كتب على هذا الحجر الأثري نقلا عن الكتاب الإنكليزي '

(أنا ميشاع بن كيموش. . . . . . ملك مواب الذيبوني

كان والدي ملكا على مواب مدة ثلاثين سنة، وأنا ملكت بعد والدي

ص: 41

وأنا الذي شيدت هذا المكان العالي لكيموش في مع. . . . . . (مكان الخلاص العالي) حيث أنه أنقذني من. . . . . . (مهاجميّ)

ولأنه جعلني أحقق كل ما أردت وأملت أن أفعله بمن كرهوني ولقد أنزل عمري ملك إسرائيل كلّ بلية بمواب أياماً عديدة، لأن كيموش كان ناقماً على وطنه، ولقد خلفه ابنه على العرش، وهذا بدوره رأى أن يسحق مواب، وفي عهده رأى. . . . (هذا) وأنا حققت ما كنت أؤمل أن يحل به وببيته، وهكذا هلك إسرائيل على بكرة أبيه إلى الأبد. لقد احتل عمري أرض ميدبا وسكنها طيلة حياته، ونصف حياة بنيه أي مدة أربعين سنة، ولكن كيموش استردها في أيامي

وأنا الذي بنيت بعلميعون، وأنا الذي حضرت هناك سدّ الماء وبنيت قرياثان. ولقد سكن أبناء جاد في أرض عطاروث منذ القدم. وبنى ملك إسرائيل مدينة عطاروث لنفسه وأنا حاربت هذه المدينة وامتلكتها، وفتكت بجميع أهلها

. . . . . . هذه المدينة مطمح أنظار كيموش ومواب. . وأنا الذي جلبت إلى ذلك المكان موقد مذبح (دوده) وجررته أمام كيموش في قيرايوث. وأنا الذي جعلت ورجال أيضاً يسكنون هناك

ولقد قال لي كيموش (إذهبْ وخذ نبو من إسرائيل عنوة. فذهبت عشاء وحاربتها من مطلع الفجر حتى مطلع القمر مساء وأخذتها، وذبحت أهلها، سبعمائة رجل و. . . (ولد) وامرأة و. . . (جارية) وفتاة، وكرّست المكان لعشتار كيموش. ثم أخذت. . . (عبيد) يهوه وجررتهم أمام أعين كيموش

ولقد بنى ملك إسرائيل ياحاص حيث أقام في حين مقاومته لي؛ لكن كيموش دفعه أمامي. ولقد أخذت من مواب مائتي رجل، وكل الشيوخ هناك، وقدتهم ضد ياحاص فامتلكتها وأضفتها لذيبان

لقد بنيت وسور يعارم، وسور موند؛ وجعلت لها أبواباً، وأقمت فيها حصونا، وشيّدت دار الملك. ولقد حفرت مجاري لجمع المياه وسط المدينة. ولما لم تكن بئر وسط المدينة أمرت السكان أن يحفر كلّ واحد منهم بئراً داخل بيته

وأنا الذي حفرت الحفرة في بمساعدة أسرى إسرائيل الذين كانوا في قبضتي

ص: 42

أنا الذي بنيت عراعر، وفتحت الطريق العامّة إلى أرنون. وأنا الذي بنيت بيت بامورث وقد كانت خراباً. وأنا الذي بنيت بِصِره التي كانت مهدمة. . . أما. . . ذيبان فقد كان خمسين لأن ذيبان كانت تحت طاعتي. ولقد صرت ملكا. . . مائة، في المدن التي أضفتها إلى مملكتي. وأنا الذي بنيت. . . ميدبا وبنيت دبلاثان. أما بيت بعلميعون فقد قدت إليها. . . غنم الأرض. أما فيما يخص حورنايم فقد سكنها. . . و. . . وأمرني كيموش أن أنحدر وأحارب حورنايم؛ فانحدرت. . . كيموش في أيامي و. . . . من هناك. . . . . . وأنا. . . . . .) اهـ

الجامعة الأمريكية

بيروت

جريس القسوس

ص: 43

‌في ميدان الاجتهاد

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 3 -

أصول الاجتهاد

إن أول شيء يجب أن ينظر إليه في ذلك هو ما يقوم عليه الاجتهاد من الأصول التي يرجع إليها فيه، فإن هذه الأصول إذا تركت على حالها كان ما نرجوه من فتح باب الاجتهاد قليل الثمرة، ضئيل الفائدة، ولا يؤدي إلى ما نطمح إليه من التمهيد لتشريع فقهي يجتمع فيه المسلمون على اختلاف مذاهبهم، ويتضافرون على استنباط الأحكام التي لا أثر فيها لتعصب مذهبي، ولا لحقد سياسي؛ كما تأثر بذلك اجتهادهم في الأزمان الماضية، فعمل فيه كل فريق وحده، وأخذ في ذلك بالطريق الذي يوافق هواه ومذهبه، حتى تباعدت مذاهبنا الفقهية، وأصبح الجمع بينها عسيراً مع بقاء هذه الأصول على أشكالها الحاضرة، فالسني لا يعمل إلا بإجماع أهل السنة، ولا يثق إلا بالأحاديث التي رويت في صحيح البخاري وغيره من الكتب المعتمدة عنده، والشيعي لا يعمل إلا بإجماع أهل الشيعة، ولا يثق إلا بالأحاديث التي رواها أئمته، ولا يذعن لما روي في صحيح البخاري ونحوه، كما لا يذعن السني لما يذعن له، وهكذا غير السني والشيعي، حتى أصبح كل فريق لا ينظر فيما عند الفريق الآخر من الأحاديث والأحكام، وتقطعت بهذا بيننا الأسباب، وبقيت الأحقاد القديمة تعمل إلى الآن عملها فينا مع زوال أسبابها، وذهاب عواملها

وهذا إلى أن هذه المذاهب التي نعاديها قد يكون فيها أحكام أحسن من أحكامنا، فإذا نظرنا فيها استفدنا ذلك منها، مع ما نجنيه من جمع الكلمة، والتقريب بين فرق المسلمين في هذه الأيام العصيبة

والأصول التي يرجع في الاجتهاد إليها أربعة أصول:

(1)

الكتاب، وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم منجما من ليلة اليوم السابع عشر من شهر رمضان للسنة الحادية والأربعين من ميلاده إلى تاسع ذي الحجة يوم الحج الأكبر للسنة العاشرة من الهجرة، حيث أوحي إليه بآخر آية نزلت عليه (اليوم أكملت

ص: 44

لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)

(2)

السنة: وهي ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وقد جاءت السنة مبينة للقرآن، ومفصلة له، كما قال تعالى:(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) فكان يبين ما أراد القرآن أحياناً بالقول وحده، وأحياناً بالفعل وحده، وأحياناً بهما معاً، كما صلى وقال (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقد أمر الله في القرآن باتباعه فقال:(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)

(3)

الإجماع: وهو اتفاق المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور على حكم من الأحكام الشرعية

(4)

القياس: وهو إلحاق ما لم يرد فيه نص عن النبي صلى الله وسلم بما ورد فيه ذلك بناء على وجود مشابهة بينهما

فأما القرآن الكريم فهو أصل هذه الأصول الأربعة، وقد حفظه الله تعالى لهذه الأمة الكريمة سالماً من التغيير والتبديل، وقد كان له كتاب يكتبونه على عهد النبي صلى عليه وسلم، قيل إنهم كانوا ستة وعشرين، وقيل إنهم كانوا اثنين وأربعين، وكان ما يكتب منه يوضع في بيت النبوة، وكان بعض هؤلاء الكتاب يكتبون منه صورة لأنفسهم، وكان بعض الصحابة يحفظه جمعيه، وبعضهم كان يحفظ كثيراً منه، وقد هيأت هذه الأسباب كلها حفظه بين المسلمين إلى يومنا هذا، واتفاقهم على ألفاظه ونصوصه، وهم لا يختلفون إلا في فهم بعض هذه النصوص، ومن السهل جمعهم عليها، أو تقريب مسافة الخلف بينهم فيها

وأما السنة فكانت لا تكتب في عهد رسول الله لئلا يؤثر أمرها في القرآن الكريم، ولم يكن يكتبها على عهده إلا نفر قليل، مثل عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره، فلما كان عهد عمر بن الخطاب أراد أن يكتبها فلبث شهرا يستشير ويستخير، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له، فجمع الناس وقال لهم: إني كنت ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتباً، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء

فمكث أمر السنة على هذه الحال مدة طويلة تبلغ نحو مائة سنة بعد الهجرة، وهي في هذه المدة كلها لا تؤخذ إلا بالرواية، ولا تحفظ إلا في الصدور، فلما جاء عهد عمر بن عبد

ص: 45

العزيز على رأس المائة الثانية من الهجرة، بدأ الاهتمام بتدوين السنة خوفاً عليها من الضياع، أو أن يدخل فيها ما ليس منها، وكان هذا الملك الصالح أول من أهتم بذلك، فكتب إلى عامله بالمدينة وهي مجمع رجال السنة، وكان أبا بكر بن محمد بن عمر بن حزم، أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته فاكتبه، فأني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء

ولكن هذا التدوين جاء متأخراً عن أوانه، ولم يحصل إلا بعد تشعب الأحاديث النبوية واختلافها اختلافا كبيراً يرجع بعضه إلى اختلاف الأمصار، وانقطاع بعضها عن بعض في تلك العصور فسار إلى كل مصر بمن نزل فيه من الصحابة من تلك الأحاديث ما لم يسر إلى المصر الآخر، وقد كان منها ما يحفظ بلفظه، ومنها ما يروى بمعناه على حسب ما فهمه السامع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأفهام تختلف في ذلك، بل قد يختلف فيه السمع نفسه؛ كما روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة بنت عبد الرحمن أخبرته أنها سمعت عائشة تقول - وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول إن الميت ليعذب ببكاء الحي - فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن. أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودية يبكي عليها أهلها، فقال: إنكم لتبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها

ويرجع بعض ذلك الاختلاف أيضاً إلى ما حصل من انقسام المسلمين ذلك الانقسام السياسي - إلى جماعية وشيعة وخوارج - واستفحال أمر تلك الخصومة السياسية فعمل ذلك في التبعيد بين إفهام المسلمين ما لم يعمله اختلاف الأمصار فيها

وقد كان الخير كل الخير تدوين السنة في الزمن الذي جمع فيه القرآن الكريم، ولم يكن هناك خوف بعد جمع القرآن أن تلتبس به السنة النبوية، أو أن نقع من ذلك فيما وقع فيه أهل الكتاب من قبلنا. لأن أهل الكتاب لم يكتبوا كتاب الله كما كتبناه؛ وإنما كتبوا تلك الكتب وأكبوا عليها، فالفرق في ذلك كبير بيننا وبينهم، فلو أن السنة النبوية دونت في ذلك العهد لكان لنا منها سنة متفق عليها، أو تقرب على الأقل مسافة الخلف بيننا فيها

وإذا كنا قد فاتنا من هذه الغاية الحميدة ما فاتنا، فقد يكون في هذا الخلاف في السنة النبوية خير كبير لنا، وقد عد هذا الخلاف فعلاً رحمة بالناس؛ وقيل إن اختلاف الأئمة رحمة

ص: 46

وتوسعة، ولكن هذا القول لا يؤخذ على إطلاقه، بل تقف تلك الخصومة السياسية دونه، وتجعل في هذا الخلاف ما لا يكون معه رحمة خالصة، وتوسعة عامة

وإنه ليمكننا الآن بعد ذهاب تلك الخصومة أن نعتبر من اجتهاد أئمة الشيعة والخوارج ما نعتبره من اجتهاد أئمة أهل السنة، ولا يقوم ما يحول دون ذلك إلا تغالينا في علم الجرح والتعديل الذي وضعناه بجانب علم الحديث، مع أن هذا العلم لا يعتمد إلا على ظواهر الرجال، وغاية ما يفيده الظن دون اليقين ولا يوجد ما يمنعنا بعد التخفيف من ذلك التغالي من أن نعتمد من رجال كل من أهل السنة والشيعة والخوارج من اعتمدوه، ونرفض منهم من رفضوه، وكذلك لا يوجد ما يمنعنا بعد التخفيف من ذلك التغالي أيضاً من الانتفاع بالحديث الضعيف في التشريع، والأخذ به عند الحاجة إليه، فلا نرفض من الأحاديث إلا ما ثبت أنه موضوع بيقين، ولا نتهم من رجال الحديث إلا من ثبت عليه الكذب قطعاً، ورب حديث ضعيف يكون هو الصحيح، ورب رجل متهم يكون هو الرجل الثقة

وأما الإجماع فقد اختلف في أمره، حتى قال فيه أحمد بن حنبل رضي الله عنه:(من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس قد اختلفوا، ولكن يقول لا نعلم الناس اختلفوا إذا لم يبلغه)؛ وقد حمل بعض فقهاء الحنابلة ذلك على غير إجماع الصحابة، أما إجماعهم فحجة معلوم تصوره، لكون المجمعين ثمة في قلة، أما بعدهم فأنهم في انتشار وكثرة، وكذلك نقل عن الشافعي ما يفيد أنه لا يقول بوجوده إلا في الفرض الذي لا يسع أحداً جهله، من الصلوات والزكوات وتحريم الحرام، وأما علم الخاصة الذي لا يضير العوام جهله، فيقول فيه نحو ما قاله أحمد بن حنبل

وقد اتفقوا جميعاً على أنه لا يد من استناد الإجماع إلى نص من كتاب أو سنة، وإذا كان هذا شأنه معهما فلا يكون لعده من أصول الاجتهاد شأن كبير بعدهما، على أنا إذا أبقيناه الآن بين هذه الأصول، وأردنا أن نرجع إليه فيما نروم من فتح باب الاجتهاد، فسنجد أنفسنا أمام الإجماع لأهل السنة، وأمام إجماع ثان يغايره للشيعة، وأمام إجماع ثالث يغايرهما للخوارج، وهلم جرا، وإني أوثر أن نقف وجهاً لوجه أمام النصوص التي لابد من استناد الإجماع إليها، على أن نقف جامدين أمام هذه الاجماعات المتعددة، فمن الممكن معالجة هذه النصوص بتأويل أو غيره، ومن الممكن الجمع بينها بوجه من الوجوه التي

ص: 47

تتفق فيها الكلمة، أما الإجماع لا يقبل تأويلاً ولا جمعاً، ولهذا أرى أن نحذف هذا الأصل من الأصول التي يرجع إليها في الاجتهاد، وأن نرجع مباشرة إلى النصوص التي لابد من استناده إليها، فقد يفتح الله علينا فيها بفهم جديد غير ما فهموه منها، وقد نصل بذلك إلى حل كثير من مشاكلنا الفقهية، ولا يوجد أمامنا من هذا الأصل عقبة تقف في سبيلنا

وأما القياس فهو الأصل الذي بقي لنا من أصل الرأي الذي كان يأخذ به بعض كبار الصحابة مثل عمر وعثمان وغيرهما، وكان يعرف به قوم من الفقهاء يلقبون بأهل الرأي، وهو أتم من القياس شمولا، وأكمل منه اتساعاً، إذ كان على ما يظهر من فتاويهم عبارة عن الحكم الذي بيني على القواعد العامة للدين كقوله صلى الله عليه وسلم:(لا ضرر ولا ضرار) وقوله: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ولم يكونوا يهتمون بأصل معين يشبهون بمحله الحادثة التي يفتون فيها، كما يجب ذلك في القياس، ومن هذا إسقاط عمر سهم المؤلفة قلوبهم مع أن القرآن عدهم من المستحقين، وإسقاطه الحد عن السارق عام المجاعة، وتركه التغربب في الزنا بعد أن لحق أحد المغربين بالروم وتنصر، وجعله الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ثلاثا بعد أن كان واحدة على عهد رسول الله وعهد أبي بكر وصدر من إمارته، وله من ذلك كثير

وقد حدث بعد هذا أن أخذ قوم يذمون هذا الرأي، وكان ذلك بعد ظهور العناية بجمع السنة وتدوينها، وقيام فئة من العلماء بذلك عرفوا بأهل الحديث، فشنوا غارة شعواء على أهل الرأي، وأخذوا يقولون إن الشريعة أجل وأرفع من أن تكون مجالا لآراء أهل الرأي من العباد، لأنها من الله كتاباً كانت أم سنة، وما كان كذلك يكون أبعد من الخطأ والاختلاف، والرأي من الإنسان، وهو عرضة لأن يخطئ وأن يصيب، وهنا يكون الاختلاف والفرقة، وقد نهينا عنهما - إلى غير هذا من أقوالهم في التشنيع على أهل الرأي

وهي كما ترى أقوال فيها كثير من الغلو، لأن الرأي إذا كان مبنياً على القواعد العامة للدين فهو من الله أيضاً، وهذه الفرقة التي يخشونها منه حاصلة بدونه كما نرى، وليست كل فرقة مذمومة في الدين، إنما المذموم فيه الفرقة المؤدية إلى التنابذ والتخاصم، والاختلاف في الرأي لا يصح أن يؤدي إلى شيء من هذا، مادام يكون رائدنا فيه الإخلاص وصدق النية

وقد وجدت هذه الأقوال في ذم الرأي آذاناً صاغية من الجمهور، وكان لهذا أثره في نفوس

ص: 48

أنصاره، فأخذوا يتقربون إلى أهل الحديث، ويتركون الاعتماد على هذه القواعد العامة الثابتة في الدين باليقين، إلى أن صاروا من هذا الأصل الجليل إلى قاعدة القياس التي لابد فيها من الاعتماد على أصل معين من الحديث الثابت بالظن

وإني أرى في هذا الأصل أيضاً أن نرجع فيه إلى ما كان عليه في عهده الأول من الشمول والاتساع، ولا نقتصر فيه على إلحاق الشبيه بالشبيه، ولا يخفى أن السنة قد اختلفت رواياتها اختلافا كبيرا ولابد من تحكيم الرأي فيها تحكيما مطلقا، ولست أدري معنى لتحرجنا الآن من تحكيم الرأي في علم الفقه وهو من الفروع بعد أن صرنا أخيرا إلى تحكيمه في علم الكلام وهو من الأصول، وقبلنا فيه عند تعارض دليل العقل النقل أن نرجح دليل العقل على دليل النقل، ويكون هذا بتأويل دليل النقل أو ترك أمره إلى الله تعالى

وهذا هو ما أراه في هذه الأصول الأربعة التي يقوم عليها الاجتهاد في الإسلام، وقد اقترحت في مقالي الثاني في هذا الموضوع عقد مؤتمر إسلامي من جميع المذاهب الإسلامية الباقية لفتح باب الاجتهاد فتحاً صريحا، وتنظيم أمره تنظيما يقضي على ما يساور نفوس أنصار التقليد من الخوف على الذين من فتحه

وهناك أمر خطير له أثره في تسهيل أمر الاجتهاد علينا، وفي القضاء على هذه العزلة في الاجتهاد بيننا وبين باقي الطوائف الإسلامية، وذلك هو تأليف كتاب في الفقه على جميع المذاهب الإسلامية، تجمع فيه أقوال الأئمة من سائر المذاهب المعمول بها الآن وغيرها، وتبين فيه مآخذها التي اعتمدوا عليها فيها، وهذا هو العمل الخطير الذي يجب أن يمهد به لفتح باب الاجتهاد من يدعون الآن إلى فتح بابه، وهذا هو باب المجد مفتوح على مصراعيه للرجل الذي نريد منه البدء بالعمل قبل أن تفوت عليه فرصته، ويكون للتاريخ بعد ذلك حكمه فيه، وقد بلغت اللهم فاشهد

اللهم إني لا أدعي العصمة فيما قلت، وفيما سأقول في هذا الموضوع، وإنما أريد أن أعرض رأيي فيه على صفحات مجلة (الرسالة) الغراء، فأن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمن نفسي، وإني حيثما أعرض رأيي في ذلك على صفحات هذه المجلة، فأنه سيصبح في يوم ظهورها مقروءاً لألوف الألوف من علماء الدين وغيرهم، فتشترك فيه الآراء،

ص: 49

وتمحصه البحوث، وهذه وسيلة لتمحيص الرأي لم تكن متوفرة لأهل الاجتهاد الأول، وستكون لنا عوضاً مما قد يمتازون به علينا من سعة الإطلاع والعلم

عبد المتعال الصعيدي

ص: 50

‌صورة من الحياة العلمية في مصر

تقي الدين السبكي

بقلم محمد طه الحاجري

لا أحسب أن مصر قد ظفرت في عصر من عصورها الإسلامية بما ظفرت به في عصر المماليك من مظهر علمي سابغ، وأثر في تاريخ الفكر العربي خالد، وصوت طائر مرنان في أنحاء الإمبراطورية المصرية بما لعلمائها من نفاذ في البصيرة، وعمق في التفكير، وقوة في المناظرة، وشمول في المعرفة، وإحاطة مدهشة بآثار السلف، وإبداع في شتى نواحي العلوم النظرية والشرعية، فمقدار ما وسم به هذا العصر من سطحية في أدبه، وتفاهة في الصور الشعرية المنبعثة عنه، وضعف في الأسلوب الأدبي المتعارف فيه؛ كان عجيباً جهد ما يبلغه العجب في ذلك الجو العلمي السائد به، والروح العلمية الحق المهيمنة على رجاله، على ما كان يفهم من مدلول العلم إذ ذاك. ولا تحسبنا بحاجة إلى الاستشهاد لذلك المظهر الرائع، فإن نظرة عامة إلى كتب الطبقات المصنفة في ذلك العهد مثل الدرر الكامنة، والضوء اللامع وغيرهما تشهد لهذا القول شهادة قاطعة لا تحتمل شبهة ولا تحتاج إلى مراجعة. وبمقدار ما كان يسود هذا العصر من اضطرابات سياسية مترادفة، وفتن في بلاد الأمراء متعددة، حتى لتعد سبعة عشر سلطاناً تولوا أمر البلاد مدة حياة رجل واحد كهذا الذي نترجم له، ثم ما يستتبع ذلك من فوضى في الحياة العامة لا يحدها حد ولا يضبطها ضابط؛ كانت النهضة الفكرية مطردة في سبيلها، والحياة العلمية تقدم للناس أحسن مثلها، والعلماء يقومون على مذهبهم في الحياة بالرعاية والتقدير، لا يكاد يلفتهم عنه ما تعتلج به البلاد من الفتن، وما تموج به من الاضطراب

ولسنا الآن بصدد التعليل التاريخي لهذه الظاهرة التي لا نزاع في حقيقتها، وإنما سبيلنا أن نسجلها هنا لنلفت أنظار بعض القراء عندنا إلى أن التاريخ الفكري شيء غير التاريخ السياسي، وأنه لا ينبغي أن يصرفنا إنكار أحدهما عن الإعجاب بالآخر، وإنا لنرجو أن يتجه البحث العلمي اتجاهاً جدياً دائباً إلى إثارة دفائن هذا العصر العلمي المجيد في تاريخ مصر، وأن يعنى القوم عناية بليغة بكشف آثاره وتنور أسراره، فإن في ذلك متاعاً للروح العلمية التي تتمشى في نفوسنا، وقياماً بحق مصر الكريمة علينا، وتغذية للروح القومية

ص: 51

التي نحاول بكل سبيل تقويتها وتعزيزها في قلوبنا

وإذا كانت الصورة المقيتة التي تركها التاريخ السياسي والدرس المقتضب لهذا العصر في أذهاننا، قد صرفتنا عنه إنكاراً له، حتى ليود بعض الناس لو لم تكن هذه الفترة في تاريخ مصر؛ فإن الصورة الجميلة الرائعة التي تركها التاريخ الفكري لمصر عن هذا العهد جديرة أن تصرفنا إليه وتحببنا فيه، وتجعل منه مفخرة لنا تخفق لها قلوبنا، ومثلا عالياً لطلابنا ورجال العلم عندنا؛ حينما يستطيع البحث العلمي أن ينفض التراب عن هذه الصورة، ويجلوها للناس كريمة رائعة

وإنه ليغبطنا أن نقدم اليوم وجهاً من وجوه هذه الصورة، في شخص رجل من رجال ذلك العهد، لا نخطئ إذا قلنا إنه من خير ما يمثل هذا العصر تمثيلا يملأ قلوبنا روعة وإكباراً، ويهز مشاعرنا حباً وإعجاباً، وإن كنا نأسف لأن أسباب البحث لم تهيأ لنا كما ينبغي لعرض هذه الشخصية في أكمل مجاليها: ذلكم هو العلامة الشيخ تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي

- 1 -

ولد تقي الدين في شهر صفر سنة 683هـ (أغسطس سنة 1284م)، في أسرة شريفة النسب، كريمة الحسب، تنمى إلى قبيلة الخزرج الأنصارية من بطن منها يقال لها أسلم، كما أثبت ذلك النسابة المصري شرف الدين الدمياطي، وقد أشار إلى هذا النسب الشاعر المصري ابن نباتة في مدائحه للشيخ عبد الكافي السبكي أبي تقي الدين:

وبيت فضل صحيح الوزن قد رجحت

به مفاخر آباء وأبناء

قامت لنصرة خير الأنبياء ظبا

أنصارهم واستعاضوا خير أنباء

أهل الصريحين من نطق ولحن ظبا

أهل الربيحين من نصر وإيواء

كما ذكره أيضاً القاضي صلاح الدين الصفدي في كتابه (أعيان العصر). وقال ابن فضل الله العمري في كتابه (مسالك الأبصار) في ثنايا كلامه عن الشيخ تقي الدين: (جواد جرى على أعراقه، وجاء على أثر سباقه. من عصاية الأنصار حيث يعرف في الحسب التليد، ويدخر شرف النسب للمواليد. . . . بزغ من مطلع الصحابة رضي الله عنهم، ونزع به عرقه إلى التابعين لهم بإحسان. وهو مثلهم إن لم يكن منهم)

ص: 52

ويظهر أن قبيلة (أسلم) التي ينتسب إليها تقي الدين لو تظل متميزة في مصر كما كان بعض القبائل الأخرى، بل اندمجت في المصريين وذهبت فيهم، ولعله لهذا السبب لم يذكرها المقريزي في رسالته (البيان والإعراب) بين القبائل التي بنى عليها رسالته. وإنما بقي نسب بيت السبكي معروفاً لمكانته الاجتماعية التي سنشير إليها. والحق أن ذلك البيت كان بيتاً مصرياً صميماً انطبع بالروح المصرية وسرت فيه، كما ظهر ذلك جلياً في المقدمة الجميلة التي كتبها أحد أفراد هذا البيت: بهاء الدين أبو حامد أحمد بن تقي الدين السبكي لشرحه على تلخيص المفتاح للخطيب القزويني. فقد كتب فيها فصلا عن مصر وطبيعتها ومزاجها وأثرها في أهلها. كما يبدو ذلك في عاطفة الشيخ تقي الدين نحوها حينما كان يتولى قضاء القضاة في الشام، فقد كان يتمنى أن يأتيه أجله في مصر: أمنية من ثلاث

أما مكانة هذا البيت الاجتماعية فيظهر أن منصب الوزارة كان فيه، فقد قرن اسم جد تقي الدين الثاني كما جاء في سلسلة النسب الذي أثبته شرف الدين الدمياطي، بلقب الوزير. كما أشار إلى ذلك ابن فضل الله العمري فيما كتب عن الشيخ تقي الدين. فقال:

(. . . ثم خرج من بيت الوزارة حيث تتقامر النجوم، وتتناصر ثم تتناصف الخصوم)

وهكذا نرى أنه قد أتيح لشيخنا الجليل عرق في الشرف راسخ، ومكان في المجد باذخ، وأنه قد أمدته في حياته وراثة نبيلة، وأعانته من قومه مكانة جليلة. إلى بيئة علمية خالصة ترى في العلم وحده المثل الأعلى والغاية المثلى، فقد كان أبوه زين الدين عبد الكافي السبكي من علماء العصر وفضلائه، وكان قد أدرك الإمام الكبير تقي الدين ابن دقيق العيد وصحبه وأخذ عنه وتأثر به؛ وكان ذلك الإمام آية عصره في سعة العلم ونفاذ البصيرة وقوة الخلق، حتى يقول تاج الدين السبكي في طبقاته:(ولم ندرك أحداً من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة المشار إليه في الحديث المصطفوي النبوي) وقد عرض عليه قضاء القضاة في مصر، وناهيك به منصبا، فتأبى وتمنع واستعصم بخلقه القوي وإيمانه المتين. ولكنهم مازالوا به حتى قبل، وإذا صار قاضي القضاة كان لابد له في دينه وورعه أن يتحرى جهده في تعيين نوابه على الأقاليم من صفوة العلماء. فكان زين الدين السبكي من أعيان نوابه كما كان من أعيان أصحابه: ولاه قضاء الشرقية والغربية

ص: 53

(يتبع)

محمد طه الحاجري

ص: 54

‌صديق البلاء

للأستاذ عبد الرحمن شكري

يغدر الناس في الشقاء ولكن

غدره في الرخاء لا في الشقاء

إن تَفِدْ نعمةٌ عليَّ تَلَظَّى

حسداً لي وكان من أعدائي

فإِذا الدهر مال بي كان بَكْا

ءً على محنتي وطول بلائي

المُواسِي في الحزن حتى إذا ما

كنتُ في غضبة سطا بالعداء

في سقامي حلو الحديث شَهِيٌّ

وهو يرجو أن لو يُخَلَّدَ دائي

فإِذا ما صححت عاود بغضي

وَيْله لو أُعَدَّ في الأقوياء

لدهاه الأسَى وطال عليه ال

هم حتى يموت بالبرحاء

إنْ هجاني العدو أحْسَنَ قولا

دافعاً فِرْيَةَ العِدَى بالثناء

فإِذا ما مُدِحْتُ هَمَّ بقتلي

ورماني بقذعه والهجاء

يا صديق البلاء عطفك في النح

س رياءٌ أَبْغِضْ به من رياء

إيْهِ يا قلب ما دهاك من الخ

لان أدهى من صولة الأعداء

خِلْتَ أن الصديق مثل نسيم

نافع لازم قليل العناء

لا تنال الحياة إنْ لم تَنَلْهُ

بره كالإخاء خير غذاء

إنْ تقدمتَ لا يعوقك منه

عائق في منادح الأرجاء

ويعي ما تقوله ثم لا يل

بث حتى يذيع في الأنحاء

مِنْ مديح تُطْري به مجدك الأم

جد أو لبك السَّنِيَّ الذكاء

إنْ تُرِدْهُ تَجِدْهُ أو لم تُرِدْهُ

لم تَخَفْ منه زورة الثقلاء

ما اختفى في دَخِيلَةٍ منه إلا

ما بدا ظافراً به كل رائي

وَيْكَ إن النسيم قد يُرْمِدُ الطر

ف بسافي التراب والأقذار

وهو مثل الصديق حراً وبرداً

في اختلاف الحالات والأجواء

وَلَهُ غدرة إذا اعتكر الج

ووأنحى بالصرصر الهوجاء

وعلى غِرَّةٍ يبلك بالمط

رة مِنْ بعد رونق وصفاء

وهْوَ خِدْنُ الممات واسطة العد

وى رسول الوباء والأدواء

ص: 55

عبد الرحمن شكري

ص: 56

‌فاجعة الروض

بقلم أمجد الطرابلسي

مالي أرى الروضَ بدا واجماً

كاثّاكِلِ المفؤودِ في لَوْعَتِهْ

والطيرَ في أَفيائِهِ ساهِماً

يَشرَقُ بالأَدْمُعِ من حَسْرَتِهْ

من حَطَّم الكأسَ وَقَدَّ الوَتَرْ

وأَبْدَلَ العُرْسَ تُرَى مأَْتَما؟

من أَخرسَ الطيرَ وأردى الزّهَرْ

وهذه الأفنانَ من هَشّما؟

قلتُ له: يا روضُ ماذا دَهاكْ

ومنْ كَسا بِشْرَكَ هذا الوُجومْ

قالَ: سَمومٌ أَوْرَدَتْني الهَلاكْ

وكيفَ أستطيعُ نِضالَ السَّمومْ!

دَكَّتْ على البُلْبُلِ أوطانَه

وطَوَّحَتْ بالزَّهْرِ فَوْقَ الرَّغامْ

وحَطمَتْ دوحي وأَفنانَهُ

ثُمّ مضتْ تَضْحَكُ وَسْطَ الظلامْ

فَقلْتُ يا خالِقَ هذي الرِّحابْ

الرَّوْضُ لا يَعْرِفُ مَعْنى الأذى

ففيمَ سَلَّطتَ عليهِ العذابْ

حتى قضى الزَّهْرُ وماتَ الشَّذا

ألم يكُنْ أمسِ ندِيَّ الظِّلالْ

مُوَرَّفَ الآصال عَذْبَ البُكَرْ

يَشدو بنعماكَ وهذا الجَلالْ

ما غَرَّدَ الطَّيْرُ وَرَفَّ الزَّهَرْ

ربّاه إن الرَّوْضَ عَذْبٌ هَنيء

وليسَ فيه شِرَّةُ الزَّوْبَعَهْ

وأنتَ لا ترضى عذابَ البريء

كلا ولا يُرْضيكَ أَن تَفجَعَهْ

رحماكَ لا تجعلْ نيوبَ الذئابْ

تَفْترِسُ الشاةَ وَلم تُذْنِبِ

أو فامنحِ الشاةَ سِلاحَ الغِلابْ

وأعَطِها النّابَ مَعَ المِخْلَبِ

الظلم يُضْوي وَيُّمض النفوس

فأحطم أيا ربِّ يَدَ الظالم

لا تبسم الأكوانُ بَعْدَ العُبوس

أو تَصْرِف الجوْرَ عَن العالم

أمسِ سمعْتُ الحملَ الوادِعا

وَهُوَ من السكين يَلْقَى العَذابْ

يقولُ: إن المِبْضَعَ القاطِعا

أرضى لِنَفسي من شَمات الذئاب

اطبع على العدل قلوبَ البشر

أَوْ فَليَكُنْ كلُّ الورى مجْرما

لا تنبتَ الأشواكَ بين الزَّهرْ

فالشَّوكُ لا يُحسِنُ أَنْ يرْحما

كم حُرمَ الشّاعِرُ طيبَ الكرى

وآفةُ الإنسانِ فَرْطُ الشّعورْ

ص: 57

فَصُغْ مِنَ العَطْفِ قلوبَ الورى

يا خالِقي أو قُدَّها من صُخورْ

مَنَحْتَني يا رَبّ هذا الفُؤادْ

فكانَ لي كلَّ الأسى والشقّاءْ

يا ليتَ هذا القلبَ كانَ الجمادْ!

وليت هذا العَقْلَ كان الغَباءْ!

أَينْدُبُ البُلْبُلُ أَخْدانَه

ليَطْرَبَ الرَوْضُ وَأَفْنانُه!

وَيُنْشِدُ الشاعِرُ أشْجانَه

لتُطْرِبَ العاَلَمَ ألحانُه!

رَبِّ حَرامٌ أَنْ تُقيم السّماءْ

عُرْساً إذا لَفَّ البِطاحَ الدُّجى

وأَنْ يُشادَ المَجْدُ فَوْقَ الدّماءْ

وَيَشَرَبَ الزَّهْرُ دموعَ النَّدى!

رَبِّ خَنَقْتَ الزَّهرَ غَضَّ لإِهابْ

عَذْبَ الصِّبى يؤُذيهِ لَفْحُ الرّياحْ

فابعثْ إلهي النَّسَماتِ العِذَابْ

تُداعِبُ الوَرْدَ وَتُحْي الأقاحْ

النَّرْجِسُ الرّفّافُ يا خالقِي

كَيْفَ يُطيقُ الهَوْلَ والعاصِفَهْ؟

ارْحَمْهُ رَبّاهُ ولا تُرْهِقِ

فإِنَّهُ في رِقَّةِ العاطفَهْ!

والبلبلُ المِسكين ماذا جنَى؟

هل يُحْسِنُ البُلبلُ غيرَ اللُّحونْ

لِمْ هَدَّمَ الإعْصارُ ما قَدْ بَنى؟

لِزُغْبِهِ بَيْنَ حَنايا الغُصون

هاهُوَ ذا يَسْتَصْرِخُ الظّالما

لكنّما الظّالِمُ لا يَسْمَعُ

وَيلك كَفكِفْ دمعكَ الساجِما

فالكونُ لا تَعْطِفُهُ الأدمُعُ!

خَلِّ البُكى والبَثَّ يا بُلْبُلُ

لا يُطْرِبِ الإنْسانَ هذا النُّواحْ

تَنْدُبُ يضحَكُ الجَدْوَلُ

فاحْجُبْ عَنِ الأبصارِ هذي الجراحْ

دمشق

أمجد الطرابلسي

ص: 58

‌دراسات أدبية

في الأدب الإيطالي الحديث

بقلم محمد أمين حسونه

إن العبقرية القصصية الممثلة اليوم في أعمال طائفة من الأدباء الإيطاليين، لم يعن بها مع الأسف واحد من النقدة أو المشتغلين بالآداب العربية، ومعظم الذين تحدثوا عن نهظة القصة وقفت معلوماتهم عند جبرائيل داننزيو شاعر بسكارا؛ مع أن الفن الروائي الحقيقي يبدأ بعد عصر داننزيو، بل إن الفضل في تقدم القصة الإيطالية يعود إلى تألب العناصر على الجو الشعري الحالم، وانتفاء روح المرح، وفي التحدث عن الذات، وهي الصفات التي يرتكز عليها فن داننزيو الأدبي

وليس هذا معناه أننا نغمط داننزيو حقه، بل الواقع الذي يجب الاعتراف به أن زعماء الصفوف الذين سبقوا داننزيو، كانوا إما شعراء أو نقدة أو كتاب مسرحيات أو تراجم، ولم يتمخض الجيل الأدبي عن عبقريات أو مواهب قصصية مطلقا، لأن العصر كان فوضى، لا مقاييس تحده، ولا معالم يعرف بها، وقد شبه النقادة ريشارد جارنت هذا العصر - في كتابه بأنه يحاكي المدرسة الفلسفية الإغريقية، التي وقعت تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية الفكرية

على أن الفضل في تفتح أذهان الأدباء الإيطاليين إلى الفن القصصي، إنما يعود إلى جيته وفيكتور هيجو وبلزاك وموباسان فهم في الواقع أساتذة المدرسة الأدبية الحديثة في إيطاليا، وفي مؤلفاتهم تتلمذ جيل الأدباء في أواخر القرن التاسع وأوئل القرن العشرين، وهي ظاهرة غريبة، فإن الأرض التي أنجبت في القرن الثالث عشر أستاذ الأقصوصة جيوفاني بوكاتشو، ظلت مجدبة زهاء ستة قرون إلى أن بزغ نجم داننزيو في سمائها

وقبل التحدث عن شاعرية داننزيو وفنه، نرى من الخير ألا نهمل الأثر البارز الذي غرسه أستاذه كاردوتشي في نفسه. والواقع أن كاردوتشي مؤسس مدرسة أدبية عظيمة لا نعرف لها مثيلا في الآداب الإيطالية. اللهم إلا تلك الجهود القيمة التي سجلها دانتي، وفي مدرسة كاردوتشي تتلمذ بنزبني وجراسيا ديلليدا وبيراندللو وجيوفاني بابيني وغيرهم من أعلام الأدب الحديث ولكارودتشي يرجع الفضل في تحويل الأدب الإيطالي من الصيغة القومية

ص: 59

الخالصة إلى النزعة الإنسانية والخروج برسالته من الحيز المحلي الضيق إلى المحيط العالمي وبث روح الإخاء المشتركة، وهي التي أملت عليه ملاحم: الربيع، والأم، وترنيمة الشيطان، وصقلية تحت سيوف العرب الخ. . .

ولقد خدم كاردوتشي الأدب الإيطالي كنقادة أكثر مما خدمه كشاعر، ومن هنا استطاع داننزيو أن يحمل تقاليد أستاذه مع محافظته على الطابع الخاص به. ويتمثل هذا الطابع في غمر قصصه بعناصر الاستمتاع وصبغها بألوان من الشهوة الصارخة المتأججة، فهو كفنان رجل عابد للجمال، متأمل للحياة من خلال أحاسيسه، يخضع الفن لسلطان العاطفة أكثر مما يخضعه لسيادة العقل. ومعظم أبطاله شهوانيون، لا تطيب الحياة لهم إلا في جو من القبلات والعناق، يقدرون معايير الجمال عن طريق الشهوة، وينبذون الفكر والتأمل فحياتهم داعرة متهتكة

والذين يعرفون شاعرية داننزيو في رواياته الرائعة، كانتصار الموت والفرح والنار يستطيعون أن يستشفوا من خلال سطورها روحه الهائمة، التواقة إلى عبادة الجمال والتمرغ في أحضان الفن الشهواني وأوكار الحب المبتذل الرخيص

على أن داننزيو استطاع عن طريق نزعته إلى المجد، أن يعيد إلى الأدب الإيطالي جو الوطنية الصارخ، وأن يضع لجيوش بلاده أناشيدها الحماسية التي ترتلها في ساحات الوغى والقتال

ولم يكن استيلاؤه على فيومي إلا نوعاً من الأساليب الشعرية، فبعد أن خرق معاهدات الصلح وسير أساطيله لاحتلال هذه المنطقة الحرة أذاع بياناً على العالم قال فيه:(أستحلف فرنسا التي أنجبت هيجو وأمريكا التي خرج منها لنكولن وإنجلترا التي خلقت ملنون أن تكن شاهدات عدل على ما أتيته. أنا ابن الوطن الجندي المتطوع الذي دفعته الغريزة الإنسانية إلى أن يضم الرضيعة فيومي إلى أمها إيطاليا)

وفي قصيدته الحماسية الرائعة التي خاطب بها كبلنج شاعر الاستعمار البريطاني بمناسبة حرب الحبشة، تبدو أمامنا قوة شاعريته الظامئة نحو المجد إذ قال: (إن الرياح الأفريقية القائضة التي تسفع وجوهنا اللاتينية الجميلة لا تعادل جزءا من قوة إعصار البطولة التي تهب على قريحتي كلما فتحت دواوينك لأترنم بأناشيدك الاستعمارية في الهند وإفريقيا.

ص: 60

فأراني في كهولتي عاجزاً عن أن أقود جيش بلادي إلى (فيومي) أخرى، فهيا يا أبنائي إلى النصر. . . لأن مصير مجد الإنسانية الجديد متوقف على انتصار (الرومانية) ضد (البربرية) وحلفاء البربرية. . . إن الحرب ضرورة عالمية لخلق جيل جديد وإعادة شباب الإنسانية وتطهير الأجسام والأرواح وإنعاش بطولة التاريخ)

ومن رأي داننزيو أن إيطاليا الفاشستية ترى في اسم قيصر رمزاً أبدياً لأعظم ضروب مجدها الوطني وأن غاية ما يتمناه اليوم استعادة مجد روما القديم الذي تألق في عصر قيصر

بنزبني

وعلى الضد من داننزيو، نرى زميله جيوفاني بنزبني ينحو في فنه منحى جديدا، ويؤدي رسالة أستاذه كاردوتشي عن سبيل آخر هي معالجة مشكلات العصر في ضوء من الانتقاد المر اللاذع

وعلى الرغم من أن بنزبني ولد في نفس العام الذي ولد فيه داننزيو فإن اسمه كأديب وقاص لم يعرف إلا في السنوات الأخيرة للحرب العظمى. أي في الوقت الذي بدأ الإيطاليون يتمردون فيه على أساليب داننزيو الشعرية وفنه الأناني. وقد استطاع بنزبني أن يقضي تماما على نفوذ زميله عن طريق الحملة المدبرة التي تولى قيادتها أدباء الشباب في فلورنسا وغيرهم من الملتفين حول جريدة (الصوت)

ولا يخفى ما لبنزبني من النفوذ القوي في دوائر الصحافة الأدبية فهو يعاونها بين وقت وآخر بالمساعدات المادية والأدبية

وأكثر ما نلمحه في فن بنزبني الروائي خلوه من الأساليب المعقدة والنزوع إلى حياة الطبيعة الهادئة والرجوع بالإنسانية إلى طفولتها الأولى كما في روايته (العالم يدور) وتعرضه لمتاعب الحياة المادية في شيء من السخرية اللاذعة والنقد المر ممتزجاً بمسحة من روح الفكاهة والمرح البريء. وقد استطاع في روايتيه الرائعتين (ارمندا التعسة) و (مصباح ديوجين) أن يحلق بنا في جو تمور فيه الأشباح المعذبة من جراء المشكلات الأخلاقية في العصر الحديث

جراسيا ديلليدا

ص: 61

ولعل جراسيا ديلليدا هي القصصية الوحيدة التي تبتعد بفنها الروائي عن الجو العالمي لتعيش في دائرة جزيرتها الضيقة (سردينيا) بين القرويين ورعاة الأغنام لتصور حياتهم أروع تصوير في مؤلفاتها التي تحمل طابعي السذاجة والبراءة والدعوة إلى التمسك بأهداب الفضيلة

وعلى الرغم من أن هذه القصصية المجيدة أحرزت جائزة نوبل في الأدب، وانتخبت عضواً في أكاديمية روما وفي مجمع الخالدين الذي أسسه موسولني عام 1926، وعلى أنها محور الحياة الأدبية في إيطاليا، فهي عزوف عن الشهرة، وتتحاشى جهدها الظهور في المحافل والأندية، أو بث الدعاية لفنها في الصحف والمجلات

وقد تجلت موهبة ديلليدا القصصية في روايتها (الأم) التي ظفرت من أجلها بجائزة نوبل، وهي عبارة عن مأساة قسيس شاب نفذ الحب إلى أعماق قلبه فقهره واستولى على لبه حتى غلب على أمره وأصبح خاضعاً لسلطانه بحيث أفسد عليه وظيفته الروحية المقدسة

ولكن ليس هذا كل ما في الأمر، (فالأم) التي خصصت حياتها لمحبة ابنها ووهبته للكنيسة وخدمة مجد الله حتى غدا قسيسا يصل بينها وبين السموات المشرقة، هذه الأم قدمت من الريف يوما تطلب ابنها فإذا بهذا الذي أودعته ذرات حياتها وتفكيرها، وعلقت عليه آمالها في الحياة الأخرى، تأسره امرأة فيصغي لنداء القلب، ويهجر مركزه الكنسي كي يتفرغ لشؤون الحب والحياة

وفي الساعة التي تذهب فيها الأم إلى الكنيسة لتضرع إلى الله واجفة القلب، دامعة العين أن يحرس وحيدها ويلهمه الرشد، إذا بالابن يتقدم في خطى ثابتة نحو المحراب الذي تصلي الأم على مقربة منه ليتجرد من ملابسه الدينية ويخرج من الكنيسة، فتصعق الأم وتفيض روحها إلى جانب المحراب

وقد أصبح (الأم) عنوانا مألوفا في إيطاليا، فإن ملحمة كاردوتشي الشعرية التي ظفر من أجلها بجائزة نوبل كانت موسومة باسم الأم، ومعهد الأمومة الدولي الذي أسس بسردينيا أطلق عليه اسم (الأم)

وقد ذكر النقادة الإيطالي ستاينس رويناس محرر صحيفة التريمونا، في دراسة أدبية عن قصص ديلليدا: (أن فنها الروائي يدور حول التفاؤل بالخير لأنها تؤمن بأن الله دائماً ضد

ص: 62

الشر. وهي صانعة ماهرة أكثر منها فنانة مبدعة، وبالنسبة لتصوير عادات بلدها مثالة ذات ضمير حي، أما رسم العواطف الخارجية عن محيطها ففي سذاجة فطرية بسيطة)

ولم تشذ عن هذه القاعدة إلا في رواية واحدة هي الابابة فهي مصبوغة بعاطفة إنسانية عميقة، وقد كتبتها بعد زواجها ونزوحها عن جزيرتها إلى روما حيث كان أثر انعكاس الحياة الجديدة قوياً في نفسها

أما قصتها الرائعة (السيدة الصامتة ذات الشعر الفضي) ' فهي عبارة عن تاريخ حياتها وقد كتبته بأسلوب بسيط جذاب، فقصت نشأتها في قرية نورو بسردينيا وتفوقها في الآداب وهي لا تزال طالبة بالمدرسة الثانوية حتى ظفرت بجائزة قدرها خمسون ليرة كانت إحدى المجلات قد رصدتها لأحسن قصة تقدم إليها

وتحدثت عن زواجها وعن الفضائل الشائعة في بلدها وتعلقها بجبال سردينيا وتجارها وأشجارها، وهي في هذا تقول:(أهلها هم أهلي، أرضها ووديانها شطر من كياني، فلماذا أفتش عن موضوعات قصصية وراء الأفق، مادمنا نستطيع أن نفتح أعيننا على مآس وفواجع تقع في كل ساعة بين أيدينا؟ إنه لمن العار ألا نكون في جانب الصدق. ألا نرسم الحياة التي نعيش في داخل نطاقها، ولو كانت ضئيلة تافهة، أما التعبير عن الاحساسات الخارجة عن دائرة شعورنا الحقيقي فسقوط فني بشع، إنني أكتب لنفسي اليوم، وبحكم شعوري الخاص، أما توقع النجاح فأتركه للمستقبل)

وبالإجمال فأن ديلليدا تمكنت من أن تقدم للعالم صورا واضحة من حياة أهل الجزيرة الصخرية النائبة التي لم تصل الحضارة الأوربية إلى بعض أطرافها وأن تصف عاداتهم القديمة وأساليبهم في العيش حيث يؤمن الناس بمبدأ المساواة بين الجنسين وإعدام المرأة إذا ثبت عليها جريمة الزنا

(يتبع)

محمد أمين حسونه

ص: 63

‌القصص

درامة من اسخيلوس

2 -

محاكمة أُورست

(الدرامة الثالثة من الأورستية)

المنظر: (في الأكروبوليس بأثينا)

الزمن: (بعد فرار أورست من الأديتون بحقبة غير قصيرة)

(يدخل أورست)

للأستاذ دريني خشبة

- 6 -

- (مينرفا يا ربة العدالة!

هاهو ذا أورست، المنبوذ الطريد، يلجأ إليك بعد لُغوبٍ وأَين، وكد وعناء، يستظل بظلك الوارف، ويلتمس الإنصاف في جوارك، والعدل في حماك، طاوياً إليك القفار من لدن أبوللو، إلهي الذي أنفذني إليك غير مدنس بوزر ولا مُضرّج اليدين بدم، بعد إذ نشأت ربيب غربة وحلْف آلام. . . أصلي لك يا مينرفا وأتبتل! وألوذ بك وأتوسل، أن تتأدني فتنظري في أمري، وتشدي بعدالتك أزري، وتفصلي في الحادث الجلل الذي انتدبني أبوللو له. . . فكان شجني. . . وكان حَزَني!)

وما يكاد أورست يفرغ من صلاته وبثه حتى تدخل ربات الذعر فيروعهن أن يرينه متحنثاً في معبد مينرفا

- (هيا!! إنه هو بعينه! وإن الدم ما ينفك يقطر من يديه الآثمتين! إنه هنا، وقد ذرعنا الأرض باحثات عنه! وإنا لنشم رائحة الدم تنتشر عنه! لنحط به؟ لن يفلت هذه المرة هذا القاتل! لقد اختبأ من قبل في صومعة أبوللو، وهو اليوم يأوي إلى الأكروبوليس ويسجد بين

ص: 64

يدي صورة! صورة الخالدة مينرفا! يحسب أنها تضع عنه وزره! تعال تعال! لنمزق لحمك الغض الطري، ولتغتذ بشبابك البض الفينان! ولنقذف بك في حميم الجحيم! إنك لن ترى هناك مظلوما. . . بل هم جميعاً مثلك. . . قتلة. . . آثمون. . . عتوا على أنفسهم وعلى الآلهة وعلى الناس! كل يلقى جزاءه ثمة! فلتسجل عليك هيدز كما سجلت عليهم!)

معاذ الحق يا ربات الذعر! لقد ثقفت الحكمة في معاهد الشفاء! وسترين أنني أدفع عن نفسي تلك التهمة الباطلة، لأن سلطاناً علويا يحل عقدة لساني! هاهي ذي يدي نقية بريئة طاهرة لا أثر للجريمة فيها! لقد اطهرت من الدم الذي ترين أن تأخذنني به، لأن أبوللو، تبارك وتقدس، قد صب عليها شؤبوب رحمته! أنا لم أكن يوماً مجرماً ولا قاتلاً يا ربات؟! ولقد عشت في قوم غرباء سنين عددا، فلمَ أكون مجرماً وقاتلاً اليوم!؟ لم لم أسيء إلى أحد قبل هذه المرة إن كنت آثماً شريراً مجبولاً على إيذاء الغير؟ ستمر الأيام، والزمن وحده زعيم بإظهار براءتي! وهأنذا أدعو مينرفا بفم نقي وشفتين طاهرتين، ولسان خير مُبرَّا أن تسمع إلى نجواي، وتستجيب لندائي، وتكون الفيصل الحق بيني وبينكم؛ فقد كنت، وكل مواطني، عبادها الأمناء. . . وهي لا بد مصيخة إلى صرختي. . . مهما تكن بعيدة الآن في بعض شأنها.)

- (لا يقرن في نفسك أبدا أن يحميك أبوللو، أو تدفع عنك مينرفا ما قدر عليك أن تلقاه جزاء على ما اجترحت وفاقاً!! ستذهب على وجهك على أرض كلها حسك، وفي سبيل موحشة إلا من الهموم والحسرات! خَرسْت! يا قاتل أمه! سنمزق لحمك الذي يتدفق فيه دم خطاياك، وسنأكلك حياً لتكون قرباناً للبطن الذي حملك، فبقرته جزاء له!! ويل لك. . . ويل لك! اصغ إذن لأنشودة موتك، قبل أن نبطش بك!)

- 7 -

وتعزف موسيقى الجحيم!!

فاستمع لها فماً من الرعد، وبوقاً مفزعا من أبواق الدار الآخرة، ولساناً كله ذعر من ألسن هيدز!! لقد طفقت ربات العذاب يرقصن ويغنين، وينفخن في مزامير الموت، فأنكرن من أبوللو حمايته للمجرم الذي سفك دم أمه، ووقوفه في سبيلهن من بعد يمنعهن حقهن في تعذيب القاتل، وتشَكّين من زيوس الذي يمقتهن بغير الحق، مع ما خصتهن ربات القضاء

ص: 65

من فضل على الآلهة. . . وتودعن أورست بالويل والثبور، وعظائم الأمور وبالظلمة الغاشية التي تتردى فيها روحه بعد أن يبطشن به

وفيما هن يتغنين أغنيتهن المنكرة، إذا مينرفا تقبل. . . فَيَصْمُتْن!!

- (أوه! لقد تردد في أذني دعاؤكم يا صحب، إذ أنا أجول في الأرض المفتوحة باسمي على شطئان الهلسبنت، فرأيت أن أعود إليكم، حاثة المطى التي تعرج في السموات، حاملة درعي إجبس، فما هي إلا أن خفقت خفقة أو خفقتين، حتى آبت إلى معبدي! ما بالكم؟ من هذا المسكين الراكع عند قدسي المحرم؟ وأنتن! العياذ بالأولمب؟ إنكن لا تشبهن أحداً من الناس، ولا أحدا من الآلهة؟ يا للنكر؟! ولكن. . . معذرة!. . .

- (تباركت يا ابنة زيوس سيد الأولمب وكبير الآلهة! نحن بنات الليل الدجوجيّ. . . ساحرات السُّفْل. . . موطننا الأعماق من هذه الأرض!)

- (أعلم ذلك كله. . . أسماءكن ومثواكن)

- (وتعلمين ما انتدبنا له القدر. . . صيد القتلة وتطهير الأرض من المجرمين!)

- (وإلى أين ينتهي بالقاتل، سافك الدماء، مطافه في هذه الدنيا؟)

- (إلى حيث لا فسحة أمل، ولا مهلة لِسَرّأء!)

- (إذن أنتن تحاصرنه هنا الآن؟)

- (مادام قد رضى لنفسه أن يكون قاتل أمه، ومهرق الدماء!)

- (أعن رضى؟ أم قسره على ذلك شجن لم يكن له به يدان!؟)

- (وأي شجن يقسر على قتل الوالدين؟)

- (لقد سمعت طرفاً واحداً. . . فلأسمع من الطرف الآخر)

- (إن المتهم ليعجز عن الحلف، ومن يدري؟ فقد يقسم حانثا؟؟)

- (يبدو لي أنكن تؤثرن مظهر العدالة على العدالة نفسها؟!)

- (وكيف يا ربة الحكمة الزاخرة؟ خبرينا!)

- (إي وأرباب الأولمب! لا تأبهن بنصر يأتي عن يمين كاذبة!)

- (إذن سَلِيه! واحكمي بيننا بالحق!)

- (وهل تقبلْن أن يكون قراري القرار الفصل؟)

ص: 66

- (أجل! إقراراً لما لك من فضل! وما لأبيك من نبل)

- (إذن، أجب أيها البائس بدورك! ولكن، اذكر لنا أولاً: ما أنت؟ وما موطنك؟ وأي غم يلم بك؟ ثم ادفع التهمة عن نفسك إن تكن باطلة، واذكر إن كنت على حق إن صح أنك قتلتها. . . إني لأراك تلوذ بوثني، وتستجير بقدسي، قل. . . أجب. . . تكلم. . . قل الحق. . . والحق الصراح)

وكفكف أورست عبراته، وقال:

- (إلهتي ربة العدالة)

لو كنت مجرماً سفاك دماء ما جسرت أن ألوذ بك، ولما قويت على اقتحام قدسك وتدنيس بساطك والتعلق بوثنك، وإن سفاكا مجبولا على الشر لن يستطيع أن ينبس بدعوى كاذبة في حضرة مينرفا ربة العدالة التي تستشف الأسرار وتدرك خافية القلوب وخائنة الأعين بلمحة طائرة من عينها الصائبة. . . ولقد وقفت أمام آلهة أخرى من قبل، فما كنت أجسر على قولة أرسلها إلا أن تكون حقاً. . . . . . . . . . . . إذن، أنا مواطن من آرجوس، وأبي، يا ويح له من أب، أحد عبادك المخلصين؛ إن لم يكن أحبهم إليك. . . أجاممنون يا ربة العدالة! أجاممنون قائد جندك وأمير أسطولك، الذي أعنته على أعدائك، فأنتصر على بريام وقهر إليوم، وعاد ليسبح بحمدك ويشكر لك. . . ولكن! يا للهول! لقد دبرت له زوجته الآثمة. . . أمي. . . أمي التي خانت عهد زوجها، وداست عرض مملكتها، وفتحت قلبها لغير رجلها. . . أمي هذه يا ربة العدالة قد دبرت لرئيس جندك، وأخلص عبادك قتلة غادرة، تكتنفها الظلمات، وتضرب من حولها الأسرار، فذبحته يوم عودته من الجهاد في سبيلك والذود عن اسمك، غير راعية فيه إلاً ولا مبقية على عهد. . . . . .

ثم لم تبال أن تعترف، وجثته بين يديها، أنها قتلته. . . وأنها صاحبة دمه. . . . . . وكانت قد قذفت بي، إذ أنا طفل أحوج ما يكون إلى حضن أم وفؤاد أب، إلى أعماق منفى سحيق مقفر، أعاني الذل وأدرج في حجر التعاسة، فلما شببت وبلغت الحلم، كان أول واجب علي في الحياة أن أثأر لأبي المظلوم، من أمي الآثمة، فعدت إلى آرجوس وقتلتها. . . أجل. . . قتلتها. . . قتلت المرأة التي قتلت أبي. . . أقر. . . أعترف. . . قتلت أتعس الأمهات، فهل سمعتن يا ربات العذاب وزبانيات جهنم!؟. . . . . . ذلك إذن وزري، إن

ص: 67

كان في مثل هذا العمل وزر. . . وقد شاركني فيه أبوللو. . . أوحى إلي أن أقتل أمك. . . فقتلتها. . . ولو لم تكن آثمة من قبل ما أرقت قطرة واحدة من دمها. . .

هذه يا ربة العدالة قضيتي فرَيْ رأيك فيها وأنا قابله. . . وسأخضع له. . .)

وأجهش أورست بالبكاء. . . فبدا التأثر الشديد على وجه إلهة العدالة. . .

- (قضية معضلة، وكان حري بكم يا بني الموتى ألا تضطلعوا بها. . . بل أنا نفسي أكاد أجاوز حدودي حين أقيم من نفسي فيصلاً فيها بينكم! وَيْ! لقد أقدمت على عجل إلى أثينا. . . مقدسي وطوبايْ. . . فيالك من لاجئ مهيض الجناح، مبَلبل الروح. . . في حين تبدو صحيفتك غراء ناصعة!. . . ولكن!. . . أصغ إلي يا أورست! لقد كدت أدعوك مواطناً. . . لولا ما ينبغي لك من إيضاح براءتك، وتمهيد طريقك، ورأب الصدع الذي تلج منه إلى اتهامك ربات الذعر. . . اللائى يأبين إلا أخذ المجرم بجرمه. . . لأنه عملهنّ، ولا محيص من أدائه لهن. . . فجلِّ برهانك، وأعد حجتك، وأيد حقك بيقين يقشع الشك. . . حتى أعود بالمحلفين العدول من أثينا، لأشركهم في هذه الحكومة الشائكة، والقضية المربكة. . .)

(تخرج مينرفا)

- 8 -

ويستولي طائف من الشك على ربات الذعر، وتروعهن عن مينرفا هذه النعومة التي لقيت بها أورست، فيهزجن بنشيد طويل من موسيقى الجحيم، كله قصف وكله رعد، وكله ودق يخرج من هذه الأفواه الشائهة، والألسن التي تتلوى كألسن النيران. . . وينعين على الإنسانية ما يعصف بها من ظلم إذا انتصرت الجريمة، ولم يقف في سبيلها قصاص. . . (هنالك تنقلب الدنيا فتصبح مباءةً للاثم، وهنالك يغدو الناس شراذم من اللصوص وقطاع الطرق والسفاكين، وهنالك لا يأمن والد على نفسه من ولده، ولا أم هي مطمئنة على حياتها من أبنائها. . . ويومئذ تعم الشرور وتطغي الويلات. . . حتى لا يكون شبر من الأرض فيه أمان لآمن، مادمنا نحن نائمين عن المجرمين لا نأخذهم بآثامهم، ومادام هؤلاء الأرباب يضربون سلطانهم علينا، ويتدخلون في شؤوننا، من غير حق ولا برهان مبين. . . . . .)

وتدخل مينرفا، فتهتف بسادن المعبد قائلة:

- (أذِّنْ في عبادي بالصمت أيها السادن، أو انفخ في صورك حتى تردد أصداؤه في

ص: 68

السموات معلنة انعقاد محكمة العدل، فلا ينبس أحد ممن بالمدينة الخالدة بكلمة، ليعوا شريعتي، ولينقشوها في صفحات صدورهم، ولتخلد ثمة إلى ما أشاء!)

(ويظهر أبوللو فجأة فتقول ربات الذعر:)

- (أيها الإله أبوللو! فيم أقبلت؟ ألتشارك في قضية ليس لك فيها شأن؟)

- (لقد أقبلت لأبرهن على براءة هذا الضارع البائس الذي لاذ بي، وصلى لي، وسألني معونتي لأضع عنه الوزر الذي تأخذنه به. . . وأقبلت كذلك لأدافع عن نفسي فيما يخصني من هذه القضية، لأني شريك في مقتل كليتمنسترا. . . . . . أيتها الربة العادلة مينرفا! خذي في سؤالنا بما يبدو لك. . . فأنا منصتون!!)

فتقول مينرفا: (إذن نبدأ القضية، ولقد سمعت حديث الاتهام من أفواه هؤلاء فكانت حجتهن دامغة وبرهانهن ساطعاً.)

فيشيع البشر في أوجه ربات الذعر وتخاطب رئيستهن أورست قائلة:

- ها قد سمعت. . . وسمعت من قبل كلماتنا القلائل حينما اتهمناك وأقمنا عليك البينة، فهلم فتحدث، ولتتحدث باختصار كما تحدثنا نحن من قبل، ولتجب عن هذا السؤال أولاً: أولم تذبح أمك يا أورست؟!)

- (أنا لا أنكر أنني ذبحتها يا ربات!)

- (قُضي الأمر! ها قد فرغنا من ثلث المعركة!)

- (تهْن ما شئتن؛ فأنكن لم تصرعنني بعد!)

- (ها!. . . بقي عليك أن تخبرنا كيف ذبحتها؟)

- (بأبيض ذي شفرتين! أرسلته فوق رقبتها، وخوّضت به في صدرها، فقطعت وتينها!)

- (وهل حرضك على هذه الجريمة أحد؟)

- (بأمر أبوللو كما يشهد هو بذاك!)

- (أمرك الإله، سيد الشمس، أن ترتكب جريمة قتل الأم؟)

- (أمرني بها، وأنا مؤمن بما فعلت، مطمئن إليه!)

- (ها. ها. سرعان ما تغير لهجتك حينما يسمُك القضاء العادل!)

- (سينتفض أبي في رمسه فيحل محلي! أنا لا أخشى شيئاً!!)

ص: 69

- (آي! وهكذا تعتمد على العوْن يمدك به الموتى! يا قاتل أمه!)

- (إن هذه الأم تحمل وزراً مضاعفاً وإثماً أنكر من إثمي، إن يكن لي إثم!)

- وكيف؟ قص على المحكمة!)

- (أجلْ! فلقد ذبحت بعلها. . . وذبحت أبي!!)

- (لقد خلصت من أوزارها بالموت!)

- (خلصت من أوزارها بالموت؟! ها. ها. . . عجيب أمركن! مالكن كيف تحكمن؟ لقد قتلت زوجها. . . وقتلت أبي وعاشت سنوات عشراً. . . فأين كنتن؟! لِمَ لم تقصصن أثرها كما تقصصن أثري!)

- (ذلك لأن رحماً لا تصلها بمن قتلت! ولا رابطة من دم!)

- (إي! وأنا؟ أي رابطة من الدم تصلني بمن قتلت؟ ألمجرد حملها بي وأنها ولدتني؟)

- (أكبر رابطة أيها اللعين! لقد غذتك إذ أنت في أحشائها، واحتملت كثيراً من أجلك!)

- 9 -

وكأنما ضاق أورست ذرعاً بربات الذعر فهتف بأبوللو يقول:

- (والآن يا إلهي أبوللو أدِّ شهادتك، وليفض بالحق لسانك! هل كنت على حق حين قتلت أمي؟! إني لا أنكر مما صنعت شيئاً، ولكني جد محتاج إلى دفاعك. . . فقط. . . لتجلو الحقيقة لهذا المجلس الموقر، ولكل الحاضرين هنا!!)

فينهض أبوللو، ويرسل حديثه في جلالة ووقار:

- (أصارحكم القول يا جميع من حفل بهم هذا المعبد المقدس، ولا أحسب أحداً منكم يساوره الشك فيما أقول. . . أنني أبداً ما أوحيت بشيء إلى رجل أو امرأة، إذ أنا متربع على عرشي في السموات العُلى، إلا عن أمر يصدره لي أبي بصدد هذا الشيء!! وهذا ما كان فيما نحن بصدده الآن. . . أرجو ألا تلغطوا. . . بل آمركم بالأصالة عن أبي!!!)

فتضطرب ربات الذعر وتقول كبيرتهن:

- (وتقول إن أباك - زيوس سيد الأولمب - هو الذي أذنك أن توحي إلى أورست فيثأر لمقتل أبيه، في حين لا يبالي بمقتل أمه؟!)

- (وبم يبالي؟! وماذا يقدس فيها، حين يعود رجل له وقاره وتدينه، وأيمانه الذي لا يحد

ص: 70

بربه زيوس، ظافراً من ساحة الحرب، فتذبحه زوجته الآثمة بعد أن تنصب له الأحابيل في كل شبر من قصره؟! أي زوجة هذه التي تعبث بشرف زوجها، وتمزق عرضها، وتنفي ولدها، وتذل ابنتها، وتدوس الشرائع والحرمات!؟)

- (إذن هو أبوك زيوس الذي يرثي لهذا الأب المسكين الذي قتلته زوجته! أمرك عجيب يا سيد الشمس! أبوك زيوس ينصر أورست لأنه يثأر لأبيه! إذن لم وضع زيوس نفسه الأغلال في عنق أبيه كرونوس وسجنه آخر الدهر؟ أليس هذا نقيض ذاك؟ أجب! تكلم! وأنت يا ربة العدالة! وأنتم أيها المحلفون! أعيروه أذناً صاغية!)

- (اخسأن أيتها الهولات! شاهت وجوهكن! يا عدوات السماء! إن مولاكن قد صنع ما صنع بأبيه ليكفي العالم شره - وهو مع ذاك لم يرق دمه!)

- (إذن كيف تدافع عن هذا الطريد الذي هراق دم أمه؟ وكيف تخول له أن يتربع على عرش آرجوس؟ وكيف يتسنى له أن يقدم قرباناً عن فعلته؟ وهل قربان إلا هو؟!)

- (آه! إنكن تزعمن دائماً أنه ابن كليتمنسترا!! وليس بعد هذا ضلال! إنه ليس من أهلها، لأنها عمل غير صالح!! إن أورست ابن أجاممنون فحسب! لأن أجاممنون هو الذي غرس بذرته، وإن يكن قد غرسها في أرض حمِئة ذات أوباء! ولو شاءت السماء لغرست البذرة في أرض أخرى - في أرض حقيقية - في حديقة - ثم لنشأ أورست عوداً فيناناً من غير أم. . . . . . . . . يا ربة العدالة! مينرفا يا ابنة زيوس العظيم! لقد أرسلت أورست ليرفل في ظل رحمتك النامي، وليحظى بحمايتك، وليسجد تحت قدميك، هو وشعب الأرجيف الكريم! أعيدي إليه وقاره وطمأنينته إذن، فهو جدير بهما! ليعد إلى شعبه الباسل ليظلوا إلى الأبد عبادك المخلصين! إنه بريء! إنه بريء!)

فتقول مينرفا:

- (كفى! كفى! حسبنا ما سمعنا! والآن، أعطوني موثقكم أيها المحلفون! عاهدوني على أن تؤدوا الشهادة غير متحرفين! ليكن الحق وحده رائدكم حين تدلون بآرائكم!)

(البقية في العدد القادم)

دريني خشبة

ص: 71

‌البريد الأدبي

رجائي ورجاء الزيات

كان لي ابن لم يكن يعدّ الثامنة من عمره، وفي مثل هذه الأيام من العام الماضي أطلقته - على رغمي - بين أفياء الجنة يتعجل نعيمها. وبقيت أتجرع غصص هذه الدنيا، لموته حيناً ولحياتي أحياناً

جرى عليَّ هذا الفراق الأبدي فحزنت وتكاءدني وصف هذا الحزن فأنا إلى اليوم أجد مسّه، ولا أستطيع بثه. ولقد كذبت الشعراء حين جعلوا الحزن ناراً تتقد، وتصطلي حرها الكبد. وحين زعموه حسرة تقطع النفوس، ولا تشفي منها الكؤوس. وحين تصوروه أسفاً قاتلا، وموتاً نازلا. وحين شبهوا زفراته بشواظ النار، ودموعه بالسحاب المدرار

والحق أن اللفظ يعيا بوصف حزني كما عي قلبي باحتماله. وما عيننا بوصف النعمة زائلة، إلا حين عجزنا عن فهمها ماثلة. وكيف نتصور وجوداً كانت روائح الجنة في رياه، والسلام أولى دعواه وأخراه

سميت فقيدي (رجاء) وما شغلت نفسي حين اخترت له هذا الاسم أن أكون فيه مقلداً تابعاً، وإنما ارتجلته من قلبي يوم عقدت الرجاء برجاء، وأملت أن يكون خاتمة الشقاء، وبداية الصفاء

يعلم الله يا أخي أن نعيك لرجائك قد أعاد حزني جذعاً، كما كان يوم صادفني وفيّ بقية من الأسر أقوى بها على بعض الأمر، فأما اليوم وقد انهدت قواي بما أخذ مني الأسف وما أبقى، فإني أراك قد نعيت إليّ نفسي بهذا النعي، وما قصدتَ بذلك بغياً عليّ. ولكني أنا الذي أعددت نفسي لرمسي، بين يومي وأمسي

عرفتك أديباً مثقفاً خدمت الأدب أستاذاً ومؤلفاً ومترجماً وناقداً، ثم رأيتك منذ أعوام تجمع هذه المزايا في صحيفتك الخالدة (الرسالة). وكان من حق مثلك على الأيام أن ترفه عنه وتعفيه من معضلات رزاياها حتى يفرغ لواجبه وينهض بعبئه

عرفتك وادع النفس، هادئ الخلق، حليما لا تثار، ولا تُغلب على الوقار. وكان من حق مثلك على الأيام ألا تخرجه عن وقاره. ولا تضجره بحلمه. بل تتركه لهذه الوداعة وتلك الطمأنينة، يرتع الأخوان في بحبوحتها ويفيئون إلى ظلها كلما لفحهم هجير الرعونة،

ص: 73

وآذاهم لهب الشغب. ولكن الأيام لم تمسّك بهذا الخطب الجليل إلا بعد أن عجمت عودك فوجدته صُلبا، وقرعت صفاتَك فوجدتك صَلدا، ذلك هو ظن إخوانك الذين عرفوا إيمانك بالله قويا، وعرفوك للفضيلة وفياً، فلتكن بثواب الصبر حريّا

وبعد، فاقبل عزاء رجل أشبه أمره أمرك، وأدرك - إن ضقت بالدنيا - عذرك. فساق ماضيه وحاضره سلوى تتحدث بلسان الواقع ولا تلجأ إلى خيال الواعظ

ومن عرف الأيام معرفتك لقي حوادثها في درع من الصبر مضاعفة، وشهر على الجزع مشرفيات مرهفة.

أنت يا فوق أن تعزَّى عن الأحل

ام لباب فوق الذي يعزيك عقلا

وبألفاظك اهتدي فإذا ع

زَّاك قال الذي قلت قبلا

قسيمك في الحزن

محمود مصطفى

مدرس الأدب للمتخصصين في مادته بالجامعة الأزهرية

السخاوي

طالعنا الأستاذ الباحث المحقق مؤرخ العصر محمد عبد الله عنان على صفحات الرسالة الغراء بنتائج تحقيقاته. . . . وقد أفاض إفاضة عظيمة فيها للإمام العالم أبي الفضل محمد السخاوي ولما لموسوعته الضوء اللامع من قيمة أدبية وأثر تاريخي عظيم

وقد ذكر الأستاذ عنان في إحدى مقالاته بالرسالة أن للسخاوي أثرين من نوع خاص ولهما أهمية خاصة إلى أن قال: (وقد انتهى كلاهما إلينا. أولهما كتاب تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والبقاع المباركات) الخ. . . وقد سارت دار الكتب الملكية في فهرستها على غرار الأستاذ عنان فنسبت الأثرين في فهرستها إلى الإمام السخاوي

وقد أتيت على ترجمة الإمام السخاوي قراءة وقتلتها بحثاً فلم أظفر بين مؤلفات السخاوي بهذين الأثرين اللذين نسبهما الأستاذ عنان للسخاوي كما نسبتهما دار الكتب

وليست هناك حجة تقوم بإزالة هذا اللبس أصدق مما خطه الإمام السخاوي في ترجمته لنفسه بالضوء اللامع

ص: 74

وأما الأثر الذي عناه الأستاذ عنان (الخطط والمزارات) فهو للعالم الجليل محمد بن أحمد الحنفي السخاوي وقد فرغ من تأليفه سنة 956هـ وكان حياً سنة 960هـ وقد عده ابن مخلوف في طبقات المالكية

أما الإمام السخاوي صاحب الضوء اللامع والمؤلفات العديدة التي عدها في ترجمته فقد توفي سنة 902هـ

فإحقاقاً للحقيقة وصوناً لمعالم التاريخ نأمل أن يجزم رجال التاريخ أن الأثرين اللذين عناهما الأستاذ عنان ليسا للإمام السخاوي صاحب الضوء اللامع. . كما نتقدم بالرجاء إلى العالم المثقف محمد أسعد براده مدير دار الكتب أن يصحح ذلك في فهارس الدار

والسلام على من عمل الخير أو سعى إليه.

(جرجا)

محمود عساف أبو الشباب

الأدب الألماني في المنفى

لم تقتصر الثورة الاشتراكية الوطنية الألمانية على تحطيم النظم والأوضاع السياسية الألمانية الجمهورية والديموقراطية، ولكنها حطمت صرح الحياة الألمانية القديم كله، وشملت آثارها كل نواحي الحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية؛ وكان من آثارها الظاهرة تدهور العلوم والفنون والآداب في ظل النظم الطاغية الجديدة؛ وكان قيام الحكومة الهتلرية محنة حقيقية للأدب الألماني؛ فغادر ألمانيا عدة كبيرة من أقطاب الكتاب والمفكرين، فراراً من يد المطاردة والاستعباد الفكري؛ وكان الكتاب والعلماء اليهود في مقدمة من هرعوا إلى المنفى، ولكن الأمر لم يقتصر على هؤلاء، فقد غادر الوطن القديم جمهرة من أكابر الكتاب الألمان (الآريين) لأنهم لم يطيقوا الحياة في ذلك الجو المضطرم بشهوة الانتقام السياسي، وكان في مقدمة هؤلاء عميد الأدب الألماني المعاصر توماس مان حامل إجازة نوبل، وأخوه هزيخ مان، ونشأ منذ ثلاثة أعوام، أي مذ قامت الحكومة الهتلرية في المنفى أدب مستقل يتمتع في الخارج بكامل حريته، وإن يكن يعاني صعاب المنفى ومتاعبه. ذلك لأن الحكومة الهتلرية لم تقتصر على مطاردة زعماء الأدب الألماني، بل عمدت أيضاً إلى

ص: 75

محاربتهم في أرزاقهم المستقبلة، فحظرت على الناشرين الألمان أن يعاملوهم، ومنعت كتبهم من دخول ألمانيا، ولكن ذلك لم يفت في عزم أولئك الكتاب الأحرار، فقد لقوا ضيافة حسنة في إنكلترا وفي فرنسا وفي سويسرة، ورحبت دور النشر في هذه البلاد بالتراجم الإنكليزية والفرنسية لكتبهم الجديدة، وأخذ الأدب الألماني الرفيع ينمو ويزدهر في المنفى

وقد نشأ الأدب الألماني في المنفى سامياً بطبيعة الظروف التي أحاطت به، وكان طابع الكفاح والعرض السياسي ومقارعة الفكرة والعاطفة يغلب عليه أولا؛ ومن هذا النوع كتاب هيزيخ مان (البغضاء) وهو كتاب تاريخي رائع، وقصة سياسية بقلم ليو فويختفانجر عنوانها (أخوة أوبنهايم) ظهرت في أمريكا سنة 1933؛ وأخرى بقلم بالدر أولدن وعنوانها (قصة نازي) وقد ظهرت في إنكلترا.

ولم يفقد الأدب الألماني عبقريته في المنفى، فقد دلل على أنه ما زال يحتفظ بهذه العبقرية في سلسلة من الكتب والقصص القوية المختلفة في نوعها وفنها؛ ونستطيع أن نذكر منها (هندنبورج) بقلم رودلف أولدن؛ و (شباب هنري الرابع ? لهزيخ مان، وآخر المدنيين لارنست جليزر، (والمائة يوم) ليوسف روت، و (النغم المؤسي) بقلم كلاوزه مان، ويوجد الآن تحت الطبع عدة كتب وتراجم هامة منها: ترجمة لبطرس الأكبر، وأخرى لهتلر. ويلاحظ مع ذلك أن الصبغة التاريخية والسياسية مازالت تغلب على معظم الكتب الممتازة بين تراث الأدب الألماني في المنفى. مثال ذلك كتاب (هندنبورج) لرودلف أولدن؛ وقد كان أولدن محامياً كبيراً ومحرراً في جريدة (البرليز تاجبلاط)؛ وكتابه ينم عن قوة في العرض ودقة في التمحيص والتصوير؛ وفي رأيه أن الماريشال الراحل، عميد الجمهورية الألمانية ورمز ألمانيا مدى أعوام طويلة، لم يكن سوى بروسيا؛ وأنه لم يكن رجل سياسة وتفكير قط، وإنما كان جندياً يؤمن بسيادة الطبقات، وأن سيادة الطبقة البروسية هي مصدر قوة ألمانيا وعظمتها، وعما قليل أيضاً يصدر كتاب (هتلر) لاميل لودفيج والمنتظر أنه كباقي تراجمه سيكون قطعة رائعة من التصوير النفسي

وكذلك كتب القصص، فأن يوسف روت يصور لنا في قصته (المائة يوم) صورة الطاغية (نابليون) الذي يكفر في العزلة والمنفى عن جرائمه وزلاته، ويتدبر الآلام والمظالم التي أنزلها بالأمة والشعب والوطن، ثم هو يقضي وحيدا، ويغمر أعوامه الأخيرة فراغ هائل،

ص: 76

ويرقب العالم الخارجي فشله وسقوطه؛ ويكتب يوسف روت بأسلوب ساحر، ونزعة غنائية مؤثرة حتى ليخيل إليك أنه يمزج الشعر بالنثر. ويقدم إلينا أرنست جليزر أيضاً في (آخر المدنيين) قصة سياسية هي تاريخ ألماني هاجر إلى أمريكا منذ نصف قرن وعاش في العالم الجديد بأمل العودة إلى وطنه، ولكنه لم يعد إلا قبيل قيام الحكومة الهتلرية، ويصف لنا المؤلف حياة المجتمع الألماني في الريف عقب الحرب، وروعة الهزيمة، ونكبة التضخم المالي، واعتقاد الشعب أن الذنب في ذلك كله يرجع إلى (البروسيين) وكيف أن الشعب لم ينضم إلى الحركة الهتلرية إلا باعتقاد أنها كفاح ضد السيادة البروسية. ثم يصف لنا بعد ذلك روعة اليأس الذي استحوذ على بطله حينما رأى ألمانيا الديموقراطية قد حطمت وغاضت، فغاضت معها آماله ثم حياته

ويرى النقدة أن أبدع كتب الموسم كتاب هينريخ مان (شباب هنري الرايع)؛ ويرد المؤلف في كتابه على الملاحظة التي تلاحظ في أدب المنفى، وهو أنه أدب تاريخ، ويقول لنا، أجل إن الأدب الألماني في المنفى يجب أن يكون تاريخياً، ومن التاريخ تستخرج العظات والعبر، ويستمد الأمل في المستقبل ويصف لنا المؤلف حياة هنري الرابع ملك فرنسا ومحقق وحدتها في أسلوب بديع هادئ، وفي عرض قصصي ساحر مؤثر

وهكذا ينشأ خارج ألمانيا، وفي ظلال المنفى، أدب ألماني جديد، قوي حر، تميز باستقلاله وحياته الجديدة في ظلال حرية غاضت من أرضه ومهاده، وهو يتجه بأمله إلى المستقبل القريب

بعض عناوين وأسماء

بعث إلينا أديب يستفهم عن عناوين بعض الكتاب الحديثة التي تستعرضها (الرسالة) بلغاتها الأصلية، ويرجو أن تكتب الرسالة دائماً عناوينها الأصلية وأسماء مؤلفيها بالإفرنجية. وهذا ما تفعله الرسالة في الواقع في معظم الأحوال، وإذا كنا نكتب أسماء المؤلفين أحياناً باللغة العربية فقط، فذلك اعتماداً منا على شهرة أولئك المؤلفين وعلى فطنة القارئ. وفيما يلي بعض العناوين والأسماء التي استفهم عنها الأديب المذكور في كتابه:

ص: 77