المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 143 - بتاريخ: 30 - 03 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٤٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 143

- بتاريخ: 30 - 03 - 1936

ص: -1

‌إلى أخي الزيات

الخيال العاقل

تحية صديق مشارك في الحزن آمل في العزاء

للدكتور طه حسين بك

أعرفت قط خيالاً عاقلاً أيها الأخ العزيز؟ أما أنا فقد عرفته أمس، ولم أتكلف في معرفته مشقة ولا جهدا، ولم أنفق في البحث عنه قوة ولا وقتاً، بل لم أبحث عنه وإنما سعى إلي، أو قل هممت أن أدعوه فاستجاب لي قبل الدعاء، ولكني لم أدعه لأعرفه، فإن عهدي به بعيد، بعيد جدا لا أكاد أذكر أوله، وإنما أعلم أنه رفيقي منذ بدأت أفكر، بل منذ استقبلت الحياة، ما أكثر ما زين لي الأشياء حتى كلفت بها ورغبت فيها، وما أكثر ما بغض إليّ الأشياء حتى نفرت منها وضقت بها، وما أسرع ما اخترع لي أشياء لم أكن أعرفها ولا أقدرها، فإذا هي تملأ قلبي أملا ورجاء، وتدفعني إلى العمل والنشاط، وإذا هي تملأ قلبي يأساً وقنوطاً، وتدفعني إلى الفتور والخمود والانزواء

لقد خلق لي عالماً كاملا بعيد الآماد، متنائي الأرجاء مختلف الألوان، قضيت فيه أيام الصبى وما أكثر ما تمنيت أن أعود إليه، ثم خلق لي عالما آخر ليس أقل من ذلك العالم سعة وتنوعاً واختلافاً، ولكنه مزاج من الجمال والقبح، ومن اللذة والألم، ومن اليأس والأمل، قضيت فيه أيام الشباب وما زلت أتمنى أن أعود إليه، ثم هو يرافقني الآن فيزين لي الحياة قليلا، ويقبحها في نفسي كثيراً، ويحاول أن يخلق لي ما يسر، ويحاول أن يخلق لي ما يسوء، فأطيعه حيناً، وأعصيه أحياناً، ولكنه وفي لي دائماً كلما أردت استعانته على الكتابة والإنشاء؛ وأعترف أيها الأخ العزيز بأني كنت مقتصداً أشد الاقتصاد في الالتجاء إليه والاستعانة به، لأني أعرفه جريئاً مسرفاً في الجراءة، نشيطاً غالياً في النشاط، يخترع من الصور وفنون المعاني ما لا أطيق أن أعرضه على بيئاتنا الاجتماعية التي تقتصد في الاطمئنان إلى وحي الخيال

عرفته وفياً نشيطاً متأهباً دائماً للمعونة كلما دعوته أو فزعت إليه، مقدماً من هذه المعونة أكثر مما أسأله، وأعظم جداً مما أقترح عليه. وقد دعوته أمس فاستجاب لي مسرعاً غير

ص: 1

مبطئ ولا متثاقل، بل أشهد لقد كان يكاد يتمزح نشاطا ومرحاً، ولقد كنت أتهيأ للكبح من جماحه والرد من نشاطه، وأخذه بكثير جداً من الأناة والقصد كما تعودت دائماً، ولكني لم أكد أعرض عليه ما كنت أريد أن يعينني على الأخذ فيه حتى كفكف من نشاطه، واتأد في غلوائه، وابتسم ابتسامة الهادئ المطمئن، وقال في صوت الراضي الرزين في غير عجز مؤلم، ولا قصور موئس:(إليك عني فلست مما تريد في شيء). ذلك أني كنت أريده على أن يمدني بما أصور به فصلاً من حياة النبي الكريم في هذه الأيام التي يذكر فيها المسلمون أكبر حدث من أحداثهم، وأعظم عبرة من عبرهم، والتي يعود فيها المسلمون قروناً طوالا من الزمان ليشهدوا ذلك اليوم العظيم الذي خرج فيه النبي وصديقه الصديق من مكة مهاجرين إلى الله بآمال سيفنى الزمان قبل أن تفنى، وإيمان سيزول هذا العالم قبل أن يدركه ضعف ويسعى إليه فتور، وثقة بنصر الله عاشت عليها الأجيال التي لا تحصى، وستعيش عليها الأجيال التي لا تحصى، وسيستمد المسلمون منها أبدا قوة على الجد والكد. واستقبال الحياة بما فيها من خير وشر، ومن حلو ومر، ومن محنة ونعمة

نعم دعوته أيها الأخ العزيز إلى أن يلهمني بعض ما تعود أن يوحي إلي من الصور فأعرض في غير غضب، وامتنع في غير بخل، وألح في الأعراض والامتناع، فلما ألححت عليه تبينت منه الاستحياء وإيثار العافية، والضن بنفسه على ما لا يحسن، وتجنيبها ما لا يطيق. وإذا هو يقول لي في لهجة الهادئ المطمئن: استعني فيما شئت، فقد عرفت قدرتي على الاختراع والابتكار، وحسن بلائي في لبس الحق بالباطل حتى يصبح زينة كله، ولكن من الحق ما هو أرفع من أن أسمو إليه مهما أكن قوي الجناح، وأوضح من أن أجليه مهما أكن قوي النور، وأسطع من أن أوضحه مهما أكن نافذاً بعيد الهم، وأنصح من أن أزينه مهما أكن ماهراً في اختراع الزينة وابتكار الجمال

ولئن حدثتك عن هذا الرجل الكامل لأحدثنك حديث العقل، أستغفر الله، فما يستطيع العقل أن يحدثك عنه كما يجب، لأنه أكرم وأرفع وأرقى من أن يبلغه العقل، كما أنه أكرم وأرفع وأرقى من أن يبلغه الخيال. اجتهد في أن تتمثل ما أتيح للناس أن يعرفوا من حياته، ثم انظر فيه واستمد منه فلست محتاجاً مع ذلك إلى معونة عقل أو خيال

انظر إلى الناحية الحزينة من حياته، واقصص على نفسك أطرافاً منها، فإن لم تملأ قلبك

ص: 2

عبرة وعظمة وجمالاً وحباً وإكباراً دون استعانة بعقل أو خيال، فلست إنساناً ولست من الإنسانية في شيء

انظر إلى هذا الذي ذاق اليتم جنيناً إن كان للأجنة أن يذوقوا المعاني والآلام، ثم لم يكد يستقبل الحياة ويتقدم في الصبى حتى ذاق اليتم مرة أخرى، ففقد أمه بعد أن فقد أباه، ثم لم يكد يتقدم خطوات أخرى في الصبى حتى ذاق اليتم مرة ثالثة ففقد جده بعد أن فقد أبويه، ثم ألحت عليه حياة فيها شدة وجهد، وفيها حرمان وفقر، وفيها ضيق وضنك، ثم تظاهرت هذه الآلام كلها على نفسه الكريمة الناشئة فلم تستطع أن تبلغها ولا أن تنال منها، لأن الله قد قطع الأسباب بين هذه النفس المصفاة وبين البؤس والشقاء. ثم امض معه خارجاً من الصبى داخلاً في الشباب متقدماً فيه، فإذا الحياة كما هي شديدة شاقة ثقيلة ضيقة، ولكنه مبتسم الشباب كما كان مبتسم الصبى، وادع النفس رجلاً كما كان وادع النفس طفلاً. إنه يجد ويعمل، إنه يكد ويكدح، إن الحياة تبسم له أحياناً، إن الناس من حوله يحبونه ويقدرونه ويكبرونه ويثقون به، ويطمئنون إليه ويلتمسون به العافية والسلم، ويحكمونه فيما شجر بينهم من خلاف، فلا يعرضه ذلك لبطر ولا لأشر، لأن الله قد قطع الأسباب بين نفسه المصفاة وبين ما يشوب حياة الناس من الأشر والبطر والغرور. ثم انظر إليه وقد اختاره الله لخير ما يؤثر به عبداً من عباده، وحمله أثقل أمانة حملها أحداً من خلقه، فإذا هو يلقي هذا العبء الثقيل جلداً له، صبوراً عليه، ناهضاً به ماضياً فيه، لا يعرف كلالاً ولا ملالاً ولا فتوراً، لأن الله قطع الأسباب بين نفسه المصفاة وبين ما يشوه حياة الناس من الكلال والملال والفتور

ثم انظر إليه يذوق الثكل بعد أن ذاق اليتم، ويمتحن في نفسه وسمعته، ويمتحن في صحبه وأوّلي نصره، ويمتحن في بنيه، ثم يمتحن في زوجه التي جعلها الله له رحمة يسكن إليها ويعتز بها، ثم يمتحن في دينه، ثم يمتحن في كل شيء، ثم يمتحن في كل إنسان، فإذا هو كما هو، باسم الكهولة كما كان باسم الشباب وكما كان باسم الصبى، لا يعرف الضعف ولا اليأس ولا هذا الاكتئاب العقيم إليه سبيلاً، لأن الله قطع الأسباب بين نفسه المصفاة وبين الضعف واليأس والاكتئاب العقيم

ثم انظر إليه وقد أنكر قومه وأنكره قومه، وقد ضاقت به مكة وضاق به ما حول مكة، وقد

ص: 3

لقي المحن التي لا تحتمل والمكروه الذي لا يطاق، فلم يدركه نكول ولا استسلام، وإنما فتحت له أبواب الأمل، وفرج عنه تأييد الله له ما تضايق من الأمر، فإذا هو يهاجر إلى يثرب، أفتراه اطمأن فيها إلى الدعة ونعم فيها بالخفض واللين؟ كلا، ما هذه الحروب التي لا تنقضي، والتي يمتحنه الله فيها بالنصر حيناً وبغير النصر حيناً آخر. ما هذا الجهد الذي لا ينقضي؟ ما هذا الضيق الذي يضطره أحياناً إلى الجوع؟ ما هذه الخيانات تأتيه من المنافقين؟ ما هذه الخيانات تأتيه من حلفائه من يهود؟ ما هذا الموت يتخطف أعز أصحابه عليه وآثرهم عنده؟ أفتراه يئس لذلك أو ضعف عن احتماله، أو اضطره شيء من ذلك إلى أن يحيد عن طريقه المستقيمة قيد شعرة؟ كلا! لأن الله جعل نفسه الكريمة مضاء كلها، وإباء كلهَا، وصبراً كلهَا، وثقة بالله كلها. ثم انظر إليه وقد تقدمت به السن، ولم يبق له من بنيه وبناته إلا فاطمة رحمها الله، وإذا الأيام تبسم له، وإذا الأمل يشرق أمامه وإذا المبشرات ينبئه بأن الله قد رزقه غلاماً فيسميه باسم أبيه إبراهيم، وإذا قلبه مسرور محبور، وإذا هو يشرك المسلمين معه في سروره وحبوره فيبشرهم بما بشر به، ويجد المسلمون أن عينه قد قرت فتقر عيونهم، وأن نفسه قد طابت فتطيب نفوسهم، وأن قلبه الكريم يتفتح للأمل فتتفتح قلوبهم للآمال، ولكن الله يأبى ألا أن يمتحنه شيخاً كما امتحنه صبياً وشاباً وكهلاً وإذا إبراهيم ينزع منه ولما يتم الرضاع. افتراه جزع لذلك أو أدركه ما يدرك الشيوخ من وهن وضعف. كلا. إن الله قد قطع الأسباب بين نفسه المصفاة وبين الوهن والضعف. لم يتم إبراهيم رضاعه في الدنيا فسيتمه في الجنة. وانظر إلى أبيه وإنه ليسعى في جنازته محزوناً، ولكن حزن الكرام لا حزن اليائسين ولا حزن القانطين، وإنه ليقوم على قبره وأنه ليعنى بتسوية القبر وترويته وصب الماء عليه، وإنه لينصح المسلمين إذا عملوا عملا أن يتموه وإن لم يكن لذلك غناء ظاهر، لأن من كمال العقل أن يحسن الرجل ما يعمل. ثم انظر إليه يعلن إلى ربه أنه راض بقضائه، مذعن لأمره مؤمن بحكمته، ويعلن إلى ابنه أنه محزون لفقده. ثم انظر إليه إن عينيه الكريمتين لتدمعان. وما يمنعه أن يبكي وإن البكاء ليتم مروءة الرجل أحياناً؟ ولكن انظر إليه، أترى شيئاً من حياته قد تغير؟ أترى شيئاً من رأيه في الحياة قد تغير؟ كلا. ما كان للأحداث في هذه الدنيا أن تغير نفساً هي أكبر من الدنيا؟

ص: 4

قلت لهذا الخيال ما رأيت كاليوم خيالاً عاقلاً رشيداً. إن في حديثك لعبرة لمن أراد أن يعتبر. قال وأي غرابة في أن يعقل الخيال ويرشد إذا تحدث عن محمد، وإن كان من طبعه الطموح والجموح؟. قلت لأنقلن حديثك هذا إلى صديق محزون جزع. قال: انقله راشدا إلى صديقك والى كل محزون جزع، فما أرى أن مسلما يتمثل حياة محمد من هذه الناحية من نواحيها ثم يعرف اليأس أو الجزع إلى قلبه سبيلا.

طه حسين

ص: 5

‌فلسفة قصة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

هلكت خديجةُ زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم وهلك عمه أبو طالب في عام واحد في السنة العاشرة من النبوة، فعظمت المصيبة فيهما عليه، إذ كان عمه هذا يمنعه من أذى قريش، ويقوم دونه فلا يخلصون إليه بمكروه؛ وكان أبو طالب من قريش كالعقيدة السياسية، هي بطبيعتها قوة نافذة على قوة القبيلة، فمن ثم كان هو وحده المشكلة النفسية المعقدة التي تعمل قريش جاهدة في حلها، وقامت المعركة الإسلامية الأولى بين أرادتهم وأرادته، وهم أمة تحكمهم الكلمةُ الاجتماعية التي تسير عنهم في القبائل وتاريخهم ما يقال في الألسنة من معاني المدح والذم، فيخشون المقالة أكثر مما يخشون الغارة، وقد لا يبالون بالقتلى والجرحى منهم، ولكنهم يبالون بالكلمات المجروحة

فكان من لطيف صنع الله للإسلام، وعجيب تدبيره في حماية نبيه صلى الله عليه وسلم وضع هذه القوة النفسية في أول تاريخ النبوة، تشتغل بها سخافات قريش، وتكون عملا لفراغهم الروحي، وتثير فيهم الإشكال السياسي الذي يعطل قانونهم الوحشي إلى أن يتم عملُ الأسباب الخفية التي تكسر هذا القانون؛ فأن المصنع الإلهي لا يخرج أعماله التامة العظيمة إلا من أجزاء دقيقة

أما خديجة زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت في هذه المحنة قلباً مع قلبه العظيم، وكانت لنفسه كقول (نعم) للكلمة الصادقة التي يقول لها كل الناس (لا)، وما زالت المرأة الكاملة المحبوبة المحبة هي التي تعطي الرجل ما نقص من معاني الحياة، وتلد له المسرات من عواطفها كما تلد من أحشائها، فالوجودُ يعمل بها عملين عظيمين أحدهما زيادةُ الحياة في الأجسام والآخر إتمام نقصها في المعاني

وبموت أبي طالب وخديجة أُفرد النبي صلى الله عليه وسلم بجسمه وقلبه ليتجرد من الحالة التي يغلب فيها الحس إلى الحالة التي تغلب فيها الإرادة، ثم ليخرج من أيام الاستقرار في أرضه إلى الأيام المتحركة به في هجرته، ثم لينتهي بذلك إلى غاية قوميته الصغيرة المحدودة فيتصل من ذلك بأول عالميته الكبرى

وأراد الله تعالى أن يبدأ هذا الجليل العظيم من أسمى خلال الجلال والعظمة ليكون أولُ

ص: 6

أمره شهادةً بكماله، فكانت الحسنةُ فيه بشهادة السيئة من قومه، فحلمُه بشهادة رُعونتهم، وأناته بدليل طيشهم، وحكمته ببرهان سفاهتهم، وبذلك ظهر الروحاني روحانياً في المادة

قالوا فنالت منه قريش، ووصلوا من أذاهُ إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياة عمه، حتى نثر بعضهم التراب على رأسه، كأنما يُعلمونه أنه أهون عليهم من أن يكون حراً فضلا عن أن يكون عزيزاً فضلا عن أن يكون نبياً؛ قلوا فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب وتبكي

كانت تبكي إذ لا تعلم أن هذا التراب على رأس النبي العظيم هو شذوذ الحياة الأرضية الدنيئة في مقابلة إنسانها الشاذ المنفرد. هذه القبضة من التراب الأرضي قبضة سفيهة تحاول رد الممالك الإسلامية العظيمة أن تنشأ نشأتها وتعملَ عملَها في التاريخ؛ فهي في مقدارها وسخافتها ومحاولتها كعقل قريش حينئذ في مقداره وسخافته ومحاولته

أما النبي صلى الله عليه وسلم فقال لبنته: يا بنية لا تبكي فإن الله مانعٌ أباك. حسبتْ ذلك هواناً وضيْعةً فأعلمها أن قبضةً من التراب لا تطمرُ النجم، وأن هذه الحثْوة الترابية لا تسمى معركة أثارتها الخيل فجاءت بنتيجة، وأن ساعة من الحزن في يوم لا يحكم بها على الزمن كله، وأن هذه النزوة التي تحركت الآن هي حمقُ الغباوة قوتها نهايتها

(يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك). أي ليس للنبي كبرياء ينالها الناس أو يَغُضون عنها فيأتي الدمعُ مترجماً عن المعنى الإنساني الناقص مثبتاً أنه ناقص؛ إنما هي النبوَّةُ قانونها غيرُ ما اعتادت النفس من أفراح وأحزان، وهي النبوة تجعل المختار لها غير محدود بجسده الضعيف، بل حدوده الحقائق التي فيها قوتها؛ فهو في منَعَة الواقع الذي لابد أن يقع، فلو أمكن أن يحذف يوم من الزمن أو يؤخر عن وقته أمكن أن يؤَخر النبيُّ أو يُحذف

(يا بنية لا تبكي فإن الله مانعٌ أباك). لا والله ما يقول هذه الكلمة إلا نبيٌّ وسع التاريخ في نفسه الكبيرة قبل أن يوجد هذا التاريخ في الدنيا، فكلمته هي الأيمان والثقة إذ يتكلم عن موجود

ترابٌ ينثره سفيه على رأس النبي. ويحك يا حقارةَ المادة إن ارتفاعك لعنة، إن ارتفاعك لعنة

قالوا: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر

ص: 7

والمنعة له من قومه: فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادتهم وأشرافهم فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته والقيام معه في الإسلام على من خالفه من قومه، فلم يفعلوا وأغرَوْا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط لعُتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه. ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد صلى الله عليه وسلم إلى ظل حٌبْلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من السفهاء

فلما اطمأن صلى الله عليه وسلم في مجلسه قال: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس؛ يا أرحم الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؛ إلى بعيد يتجهَّمني أو إلى عدو ملكته أمري؛ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العُتْبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك

أَلا ما أكمل هذه الإنسانية التي تثبت أن قوة الخلق هي درجة أرفع من الخلق نفسه؛ فهذا فنُّ الصبر لا الصبر فقط، وفن الحلم لا الحلم وحده

قوة الخلق هي التي تجعل الرجل العظيم ثابتاً في مركز تاريخه لا متقلقلاً في تواريخ الناس، محدوداً بعظائم شخصيته الخالدة لا بمصالح شخصه الفاني، ناظراً في الحياة إلى الوضع الثابت للحقيقة لا إلى الوضع المتغير للمنفعة

وما كان أولئك الأشرافُ وسفاؤهم وعبيدهم إلا معاني الظلم والشر والضعف تقول للنبي العظيم الذي جاء يمحوها ويُديل منها: إننا أشياء ثابتة في البشرية

لم يكن منهم الأشراف والسفهاء والعبيد، بل كان منهم العسفُ والرِّق والطيش، تسخر ثلاثتها من نبي العدل والحرية والعقل فما تسخر إلا من نفسها

صغائر الحياة قد أحاطت بمجد الحياة لتثبت الصغائر أنها الصغائر وليثبت المجد أنه المجد. كان الفريقان هما الفكرتين المتعاديتين أبداً على الأرض: إحداهما عش لتأكل وتستمع وإن أهلكت؛ والأخرى عش لتعمل وتنفعَ الناسَ وإن هلكت

كانت الأقدار تبادي هذا الروح الواسعَ بذلك الروح الضيق لينطلق الواسعُ من مكانه

ص: 8

ويستقبلَ الدنيا التي عليه أن ينشئها. فأولئك الأشراف والسفهاءُ والعبيد إن هم إلا الضيقُ والركودُ وذلُّ العيش، حول السعة الروحية والسموّ وطهارة الحياة

وقف المعنى السماويُّ بين معاني الأرض؛ ولكن نور الشمس ينبسط على التراب فلا يعفِّره التراب، وما هو بنور يضيء أكثر مما هو قوة تعمل بالعناصر التي من طبيعتها أن تحوِّل في العناصر التي من شأنها أن تتحول

وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أولئك المستهزئين قوةٌ أخرى هي القدرة التي تعمل بهذا النبي للعالم كله، وبهذه القدرة لم ينظر النبي إلى قريش وصوْلتهم عليه إلا كما ينظر إلى شيء انقضى، فكان الوجود الذي يحيط به غير موجود وكانت حقيقةُ الزمن الآتي تجعل الزمنَ الحاضر بلا حقيقة

والى هذه القدرة توجه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الدعاء الخالد يشكو أنه إنسان فيه الضعف وقلةُ الحيلة، فينطق الإنساني فيه بالشطر الأول من الدعاء يذكر انفراده وآثارَ انفراده ويتوجع لما بينه وبين إنسانية قومه؛ ثم ينطق الروحانيُّ فيه بعد ذلك إلى آخر الدعاء متوجهاً إلى مصدره الإلهي قائلاً أولَ ما يقول: إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أُبالي

ولعمري لو نطقت الشمس تدعوا الله لما خرجت عن هذا المعنى ولا زادت على قوله أعوذ بنور وجهك، تلتمس مصدر النور الأزلي حياطةَ وجودها الكامل

ولقد هزءوا من قبل بالمسيح عليه السلام فقال للساخرين منه: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته، وبهذا رد عليهم ردَّ من انسلخ منهم، وقال لهم قول من ليس له حكم فيهم، وأخذهم بالشريعة الأدبية لا العملية؛ إذ كان عليه السلام كالحكمة الطائفة ليست لكل قلب ولا لكل عقل، ولكنها لمن أُعدَّ لها، وشريعته أكثُرها في التعبير وأقلُّها في العمل، ولم تجئ بالقوة العاملة فلم يكن بدّ من أن تضع الموعظةَ في مكان السيف، وأن تكون قائمة على النهي أكثر مما هي قائمة على الأمر، وأن تكون كشمس الشتاء الجميلة لا تغلي بها الأرض وإنما عملها أن تمهّد هذه الأرض لفصل آخر

أما نبينا صلى الله عليه وسلم فلم يجب المستهزئين إذ كانت القوة الكامنة في بلاد العرب كلِّها كامنة فيه، وكان صدرُه العظيم يحمل للدنيا كلمة جديدة لا تقبل الدنيا أن تعامله عليها إلا بطريقتها الحربية؛ فلم يردَّ ردَّ الشاعر الذي يريد من الكلمة معناها البليغ ولكنه سكت

ص: 9

سكوت المشترع الذي لا يريد من الكلمة إلا عملها حين يتكلم. وكان في سكوته كلام كثير في فلسفة الإرادة والحرية والتطور وأن لابد أن يتحول القوم وأن لابد أن يتفطَّر هذا الشجرُ الأجردُ من ورق جديدٍ أخضرَ ينمو بالحياة

لم يتسخط ولم يقل شيئاً وكان كالصانع الذي لا يردّ على خطأ الآلة بسخط ولا يأس بل بإرسال يده في إصلاحها

قالوا: ورأى ابنا ربيعة عتبة وشيبة ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من السفهاء فتحركت له رَحُمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له عدَّاس، فقالا له: خذ قِطْفاً من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه. ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما وضع يده قال: بسم الله، ثم أكل؛ فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا لكلام ما يقوله أهل هذه البلدة

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس وما دينك؟

قال: أنا نصراني وأنا رجل من أهل نيَنَوى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس ابن متي. قال: وما يدريك ما يونس بن متي؟ قال صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي

فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه ورجليه

يا عجباً لرموز القدر في هذه القصة

لقد أسرع الخير والكرامة والإجلال فأقبلت تعتذر عن الشر والسفاهة والطيش، وجاءت القبلات بعد كلمات العداوة

وكان ابنا ربيعة من ألد أعداء الإسلام، وممن مشوا إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم من أشراف قريش يسألونه أن يكفَّه عنهم أو يخليَ بينهم وبينه، أو ينازلوه وإياه حتى يهلك أحد الفريقين، فانقلبت الغريزة الوحشية إلى معناها الإنساني الذي جاء به الدين لأن المستقبل الديني للفكر لا للغريزة

وجاءت النصرانية تعانق الإسلام وتعزُّه إذ الدين الصحيح من الدين الصحيح كالأخ من أخيه، غير أن نسب الاخوة الدمُ ونسب الأديان العقل

ثم أتم القدر رمزه في هذه القصة، بقِطف العنب سائغاً عذباً مملوءا حلاوة؛ فباسم الله كان

ص: 10

قطفُ العنب رمزا لهذا العنقود الإسلامي العظيم الذي امتلأ حَبَّا كلُّ حبة فيه مملكة

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 11

‌أوربا على المنحدر

2 -

من فرساي إلى لوكارنو

مسألة الرين وسلام أوربا

بقلم باحث دبلوماسي كبير

لماذا أقدمت ألمانيا على تصرفها الجريء فأعلنت إلغاء ميثاق لوكارنو واحتلت منطقة الرين المجردة في هذا الظرف العصيب الذي تجوزه أوربا؟ لقد شرحت ألمانيا وجهة نظرها وبسطت البواعث التي أملت بتصرفها في مذكرتها التي قدمتها إلى الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو في السابع من مارس؛ وكذلك على لسان زعيمها الهر هتلر في الخطاب الذي ألقاه في نفس اليوم في مجلس الريخستاج؛ وتؤكد ألمانيا في الوثيقتين أن السبب المباشر لتصرفها هو عقد الميثاق الفرنسي الروسي الذي أبرم أخيراً، فألمانيا ترى في عقد هذا الميثاق خطراً يهدد سلامتها، ونقضاً من جانب فرنسا لميثاق لوكارنو يبرر تصرفها، وهي تشرح وجهة نظرها في مذكرتها فيما يلي:

(إن ألمانيا منذ عقد الميثاق الفرنسي الروسي في 2 مايو سنة 1935، قد لفتت نظر الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو أكثر من مرة. إلى أن العهود التي قطعتها فرنسا على نفسها في الميثاق الجديد لا تتفق مع العهود التي قطعتها على نفسها في لوكارنو؛ وإنه لا ريب في أن الميثاق الفرنسي الروسي موجه إلى ألمانيا وحدها وبالذات، وأن فرنسا ارتبطت فيه إزاء روسيا بعهود خاصة في حالة وقوع حرب بين ألمانيا وروسيا، وهذه العهود تنافي عهد عصبة الأمم والتزامات ميثاق الرين (ميثاق لوكارنو) المؤسسة عليه؛ وتحالف فرنسا على هذا النحو مع دولة مدججة بالسلاح ضد ألمانيا يخلق حالة جديدة، ويقضي على نظام السلام في الرين بأكمله، ويجعل ألمانيا في حل من تعهداتها السابقة الخ. . . . .)

والى جانب هذا السبب المادي المباشر الذي تتقدم به ألمانيا لتبرير تصرفها، يقدم إلينا هير هتلر في خطابه عدة أسباب قومية معنوية تتعلق بشرف ألمانيا وكرامتها وحقها في الحياة سيدة حرة، فألمانيا تريد أن تعيش في سلام، ولا تفكر مطلقاً في الاعتداء على أحد، ولكنها تريد أن تعيش مع باقي الدول على قدم المساواة، وأن تتمتع بنفس الحقوق والمزايا التي

ص: 12

تتمتع بها جميع الدول الأخرى، وأن تحتل المكان اللائق بعظمتها؛ وهي لا تستطيع أن تحقق هذه الآمال المشروعة إذا لبثت مصفدة بأغلال معاهدة الصلح ونصوص ميثاق لوكارنو الذي يحرمها من السيادة على منطقة الرين، وهي نحو خمس ألمانيا

الميثاق الفرنسي السوفيتي

ويكرر الهير هتلر في خطابه أن السبب المباشر الذي يملي بهذا الموقف على ألمانيا هو عقد الميثاق الفرنسي السوفيتي؛ ذلك أن فرنسا تتعهد بمقتضى هذا الميثاق عند وقوع حرب بين روسيا وألمانيا بالتزامات عسكرية تنافي عهد عصبية الأمم وميثاق لوكارنو، وأنها تغدو عندئذ مضطرة إلى مهاجمة ألمانيا؛ وإذاً فعقد فرنسا لمثل هذا الميثاق مع دولة مسلحة من الرأس إلى القدم كروسيا موجه بلا ريب إلى ألمانيا، والى ألمانيا وحدها، وهي بذلك تخلق موقعاً جديداً يتنافى مع تعهدات ميثاق لوكارنو

وقد عقد الميثاق الفرنسي السوفيتي في الثاني من مايو الماضي بعد مفاوضات طويلة بين فرنسا وروسيا، واحتجت ألمانيا على عقده يومئذ لدى الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو؛ ثم أبرم هذا الميثاق أخيراً وأصبح بذلك وثيقة نهائية لها خطرها في سير السلام الأوربي

ويتألف الميثاق المذكور من خمس مواد وبروتوكول تفسيري. وتنص المادة الأولى منه على وجوب التشاور السريع بين الدولتين تطبيقاً للمادة 10 من ميثاق العصبة إذا وقع على إحداهما اعتداء لا مبرر له (والمادة العاشرة من الميثاق هي الخاصة بمقاومة كل اعتداء على استقلال أي عضو من أعضائها) وتنص المادة الثانية على وجوب تقديم المساعدة السريعة للفريق المعتدي عليه طبقاً للمادة 15 فقرة 7 من ميثاق العصبة إذا لم يتخذ مجلس العصبة في الأمر قراراً سريعاً. والمادة الثالثة تقرر التعهد بالمساعدة والمعاونة في حالة الاعتداء الذي لا مبرر له طبقاً لنص المادتين 17 و16 فقرة 3 من ميثاق العصبة. وتنص المادة الرابعة على أن هذه التعهدات لا تمنع الطرفين بأي حال من القيام بالتعهدات التي يفرضها الميثاق. وتنص المادة الخامسة على مدة الميثاق، وعلى أن المعاونة المشار إليها فيه قاصرة على أوربا؛ ولا يطلب تنفيذ التعهد الخاص بالمعاونة إذا لم يكن الاعتداء واقعاً على أرض الطرفين المتعاقدين ذاتها. ويتضمن الميثاق أيضاً تحفظات خاصة باحترام المواثيق والعهود السابقة ولا سيما ميثاق لوكارنو، وينص أيضاً على إمكان عقد ميثاق

ص: 13

محلي شرقي، وعلى أنه يتسنى لأي دولة يهمها أمر السلامة العامة أن تشترك فيه

هذه هي خلاصة الميثاق الفرنسي السوفيتي الذي اتخذت ألمانيا من عقده ثم إبرامه ذريعة لموقفها الأخير، وقد بدأت ألمانيا بالفعل على أثر عقد الميثاق بنحو ثلاثة أسابيع (في 25 مايو سنة 1935) بتقديم احتجاجها على عقده إلى فرنسا والى باقي الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو

بيد أنه يلاحظ أن تذرع السياسة الألمانية بالميثاق الفرنسي السوفيتي ليس إلا وسيلة ظاهرة أو مباشرة لتبرير تصرفها في استعادة سيادتها على الرين؛ ويلوح لنا أن هذه الخطوة الجديدة التي اتخذتها ألمانيا الهتلرية لتحطيم البقية الباقية من الأغلال العسكرية التي فرضتها معاهدة الصلح إنما هي حلقة جديدة في برنامج مقرر ترى ألمانيا تنفيذه ضرورياً لاستعادة مركزها العسكري القديم، وهيبتها القديمة كدولة عظمى؛ وقد رأيناها تتخذ في العام الماضي من تقرير فرنسا إطالة الخدمة العسكرية ذريعة سريعة لإلغاء نصوص معاهدة الصلح الخاصة بتحديد تسليحات ألمانيا، وتقرير الخدمة العسكرية الإجبارية، وإبلاغ الجيش الألماني إلى ستمائة ألف؛ وليس إلغاء ألمانيا لنصوص معاهدة الصلح الخاصة بتحريم منطقة الرين ونصوص ميثاق لوكارنو إلا تتمة لهذه السياسة التي ترمي إلى تحرير ألمانيا تحريرأً شاملاً من كل الأغلال التي صفدت بها معاهدة فرساي سيادتها السياسية أو العسكرية؛ وقد رأينا أن ميثاق لوكارنو لم يكن إلا تأييداً لنصوص معاهدة الصلح الخاصة بمنطقة الرين

ماذا ترتب على موقف ألمانيا

ماذا ترتب على الخطوة الجريئة المزدوجة التي اتخذتها ألمانيا في السابع من مارس؟ إن دوائر السياسة العليا في أوربا كلها ما زالت تشغل منه ثلاثة أسابيع بما قد يفضي إليه تصرف ألمانيا من العواقب الخطيرة؛ وقد كانت الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو وفي مقدمتها فرنسا أشد الدول اهتماماً بالموقف الجديد الذي خلقته ألمانيا بتصرفها؛ ففرنسا ترى أن ألمانيا قد انتهكت عهودها مرة أخرى وأن هذا الانتهاك الجديد خطر على سلامتها، وتؤيدها بلجيكا في رأيها واعتقادها

وقد رأينا أن ميثاق لوكارنو ينص على الإجراءات التي تتبع في حالة مخالفة نصوصه أو

ص: 14

نصوص معاهدة الصلح الخاصة بمنطقة الرين ضد الدولة التي ترتكب المخالفة؛ وهذه الإجراءات هي التي اتبعت في الحال عقب تصرف ألمانيا؛ فقد اجتمعت دول لوكارنو وهي فرنسا وبريطانيا العظمى وبلجيكا وإيطاليا في مؤتمر عقد أولا في باريس ثم نقل إلى لندن، واستدعى في الحال مجلس عصبة الأمم إلى دورة خاصة تعقد في لندن أيضاً لبحث الموضوع طبقاً لنصوص ميثاق العصبة التي يحيل إليها ميثاق لوكارنو؛ وكان المفروض أولا أن مؤتمر لوكارنو لم يجتمع إلا ليسجل انتهاك ألمانيا لمعاهدة الصلح وللميثاق وأن مجلس عصبة الأمم لم يجتمع إلا ليسجل مثل هذا الانتهاك وليتخذ ما يقضي به ميثاق العصبة من إنصاف الدولة المعتدى عليها وتقرير العقوبات الاقتصادية على الدولة المعتدية، إذا هي لم تذعن للتسوية الودية؛ وكانت هذه هي أول وجهة للسياسة الفرنسية، وكانت فرنسا أشد دول لوكارنو غضباً وتشدداً باعتبارها هدف (الاعتداء) الألماني، وكانت ترجو أن تحمل باقي الدول الموقعة معها، ولا سيما بريطانيا على اتخاذ سياسة الشدة والإرغام وحمل ألمانيا على سحب جنودها من الرين قبل التفاهم معها على أية تسوية جديدة؛ ولكن ظهر منذ المقابلات والمباحثات الأولى أن الاتفاق لم يكن تاما بين دول لوكارنو، وأن فرنسا تكاد تقف وحيدة في تشددها لا يؤيدها سوى بلجيكا إلى حد ما. ذلك أن إنكلترا لا تنظر إلى تصرف ألمانيا بنفس العين، وترى أنه قد حان الوقت منذ بعيد لأن تفوز ألمانيا بحقها في المساواة في التسليح والضمانات السلمية، وأنه ليس من العدالة ولا من الممكن أن ترغم أبد الدهر على قبول هذا الإرغام والإجحاف، وأنه خير للسلام الأوربي أن يسمح لألمانيا بالتعاون مع باقي الدول العظمى على قدم المساواة والتفاهم؛ هذا ومن جهة أخرى فقد رأت إنكلترا الفرصة سانحة لأن تلقي على فرنسا درساً في قيمة التعاون البريطاني، وأن تؤاخذها بطريقة عملية فعالة على موقفها في المسألة الحبشية وعلى ما أبدته من التلون والمخادعة والمماذقة في مؤازرة إيطاليا وتفويت غرض السياسة البريطانية من الضغط على إيطاليا وفرض العقوبات الاقتصادية عليها عن طريق عصبة الأمم؛ أما إيطاليا فقد رأت أيضاً فرصة سانحة للمساومة والمطالبة بإلغاء العقوبات المفروضة عليها إذا أريد أن تقوم بنصيبها من العهود المفروضة في لوكارنو

لهذا كان تصدع جبهة ميثاق لوكارنو ظاهرا؛ وكانت ألمانيا من جهة أخرى قد وضعت

ص: 15

الدول أمام الأمر الواقع بمقترحاتها السلمية التي سجلها هتلر في خطابه، وخلاصتها أن ألمانيا على أهبة لأن تعقد ميثاقا بعدم الاعتداء مع فرنسا وبلجيكا لمدة خمس وعشرين سنة لكي تضمن سلامة الحدود بين ألمانيا وبينهما وأن تعفي إنجلترا وإيطاليا من ضمان هذا الميثاق، وأن تعقد ألمانيا بينهما وبين الدول الغربية ميثاقا جويا بعدم الاعتداء؛ وأنها أي ألمانيا على أهبة للعودة إلى عصبة الأمم بعد أن تقرر حقها كاملا في المساواة وأعيدت سيادتها كاملة وزال بذلك سبب خروجها من العصبة؛ وأنها تؤمل أن توضع تسوية معقولة لمسألة المستعمرات، وأن يفصل عهد عصبة الأمم من معاهدة فرساي؛ فهذه الاقتراحات الإيجابية كانت أيضاً عاملا آخر في شل سياسة العنف والمقاومة وتمهيد الطريق إلى محاولة أوربية جديدة في سبيل التفاهم وعقد المواثيق الجديدة

ولا حاجة بنا لأن نتبع هنا تلك المباحثات والمفاوضات المشعبة التي تدور في لندن منذ أكثر من أسبوعين؛ ويكفي أن نقرر أن السياسة الإنكليزية فازت بتحقيق الشطر الأول من برنامجها فحالت دون الصدام الخطر الذي كانت تثيره سياسة العنف حتما، وحملت فرنسا على التزام جانب الاعتدال والتروي، واتخذت لنفسها مرة أخرى دور الوساطة والتوفيق؛ ومهدت لاشتراك ألمانيا في المفاوضات الدائرة لتصفية الموقف وعقد تسوية جديدة على الأسس التي تقترحها إنكلترا بالاتفاق مع دول لوكارنو. وقد تمت المرحلة الأولى من هذه المفاوضات بعقد اتفاق تمهيدي بين دول لوكارنو وهي إنكلترا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا خلاصته أن تتعاون هيئات أركان حرب هذه الدول في وضع الخطط اللازمة لرد الاعتداء المدبر، وأن يرفع الميثاق الفرنسي السوفيتي إلى محكمة لاهاي لتقرير ما إذا كان مخالفاً لميثاق لوكارنو أم لا؛ وفي أثناء ذلك يجب أن تسحب ألمانيا جنودها من منطقة الرين، إلى مسافة عشرين كيلومتراً داخل حدودها الغربية وتحتل هذه المنطقة قوة رمزية من الجنود الدولية حتى تتم التسوية النهائية، ولا تزيد ألمانيا جنودها في منطقة الرين عما هي عليه، ولا ترسل إليها مواد حربية، ولا تنشئ فيها مطارات أو تحصينات، وتتولى الإشراف على تنفيذ هذه الشروط لجنة دولية محايدة؛ وتتعهد فرنسا وبلجيكا من جانبهما بالمحافظة على الحالة الراهنة عند الحدود، وهذا مع تعهد دول لوكارنو بالمحافظة على تعهداتها تأميناً لسلامة فرنسا، فإذا وافقت ألمانيا على هذه التسوية التمهيدية فإنها تدعى للاشتراك في

ص: 16

مفاوضات عامة تجري على أسس مقترحات هتلر، وحل مسألة الرين، وعقد ميثاق جديد بالضمان المتبادل يحل مكان ميثاق لوكارنو. وإذا رفضت ألمانيا هذه التسوية فإن دول لوكارنو تعيد النظر في الموقف كله؛ وإلى كتابة هذه السطور لم تكن ألمانيا قد قالت كلمتها. على أنه يلاحظ أن الاتفاق التمهيدي مع ميله نحو الوفاق ينافي مبدأ المساواة الذي تصر ألمانيا على تطبيقه، ولهذا يرجح أن ترفضه ألمانيا أو أن تدخل عليه من التعديلات ما يحقق في نظرها مبدأ المساواة الحقة، وعلى أي حال فإنه لابد من مفاوضات ومراجعات طويلة أخرى قبل أن تحظى مسألة الرين بحل يستقر معه سلام أوربا مدى حين

وليس من ريب من أن ألمانيا قد قطعت بتصرفها الجريء خطوة حاسمة في سبيل استكمال سيادتها وهيبتها كدولة عظمى وفي أنها ستخرج ظافرة من هذا النضال السياسي، ذلك أن الدول الغربية، وأوربا كلها، ترتعد كلما لاح لها شبح الحرب؛ بيد أن تصرف ألمانيا في مسألة الرين سيغدو أيضاً نذيراً جديداً لفرنسا يحملها على مضاعفة حذرها واهبتها للمعركة القادمة الكبرى

(* * *)

ص: 17

‌خواطر

في الحياة والموت

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كلما فكرت في أمر الموت ازددت حيرة، وكنت أظن أن إطالة الفكرة فيه رياضة حسنة عليه. وأن ذلك جدير بأن يصغر الدنيا في عيني، ويجعلني بالحياة أقل احتفالا، فإذا الأمر على خلاف ذلك، والحال على نقيضه. وما أظن بغيري إلا أنه مثلي، وقد أقول لنفسي حين أخلو بها - وقلما أفعل هذا الآن - ٍ إن كون المرء يحيا ليموت ليس بالغاية أو النهاية التي يسكن إليها الحي ويطيب بها نفسها، وما أشبه ما يفعل بنا هذا القدر الجاري علينا بما نصنعه نحن بخراف العيد - نسمنها لنذبحها آخر الأمر، وفرق ما بيننا وبين الخراف أن هذه تزداد لحماً وشحما وأنا نزداد علماً وفهماً؛ ولا أدري من الذي قال إن الحياة مدرسة، ولكن الذي أدريه أنها أعجب المدارس وأخفاها - ولا أقول أقلها - حكمة، ذلك أن التعلم فيها يستمر إلى نهاية العمر، ولا سبيل إلى اختصار الأمر أو الاجتزاء ببعض العلم عن بعضه، لانتفاء الإرادة الشخصية، ولأن المدرسة هي الدنيا كلها، فلا خروج منها إلا بالخروج من عالم الأحياء، والعالم والجاهل سيان، واللبيب كالغبي، والساعي في وزن القاعد، والمصير واحد، والمآل لا يختلف، وكل من في هذه المدرسة العجيبة يتلقى علومه الخاصة التي لا تشبه دروس غيره، ولا ترى أحداً يسأله هل حذق الدرس أم أهمله ونسيه؟ وكل واحد عالم وجاهل في آن معاً، يعرف ما أتيح له أن يعرف، ويجهل ما عدا ذلك أجمعه. وقل أن ينتفع أحد بما تعلم في حياته لأنه يدفن معه في قبره، ويلف عليه وعلى تجاربه ومعارفه كفن واحد. وكم تساءلت - وأنا أتدبر هذا كله - عن الحكمة في تضييع ما أفاد الإنسان في حياته من العلم والخبرة؟؟ ذلك أن كل ما حصل في حياته يموت معه، ولا سبيل إلى استنقاذ التجاريب والمعارف والانتفاع بها بعد أن يقضي صاحبها نحبه ويستوفي أجله. فهل هذه يا ترى خسارة تصيب الإنسانية كلما مات منها فرد، أم لا خسارة هناك عليها ولا ضير؟؟ من يدري؟

وسهل أن يفهم المرء أن يخلق ليحيا، ولكن العسير أن تجعله يفهم أنه يخلق للممات. فلماذا يكون هذا هكذا؟ وإذا صح أن الحياة مدرسة، أفلا يكون الأصدقاء والأشبه بالواقع أن نقول

ص: 18

إن غايتا تدريب الأحياء على الموت وإعدادهم له؛ ذلك أن الإنسان يموت منه كل يوم شيء، وشجرته لا تزال تتساقط ورقاتها وزهراتها واحدة في إثر أخرى، حتى تصوح وتعطب، وانظر ما يفعل الزمن بآمالنا ورغائبنا ومساعينا وبأجسامنا ونفوسنا؟؟ والآمال يدركها الحين، والشباب يذهب، والصباحة يغيض ماؤها، والنشاط ينضب معينه، والشعر الأسود يبيض، والقوة تسترق، والقناة المعتدلة تتقوس، والسمع يثقل، والنظر يضعف، والشهوات تفتر، والعجز يدب دبيبه شيئاً فشيئاً. حتى يوافي الأجل فيكون كل هذا تمهيداً له تتدرب به النفوس على السكون إلى الموت. حتى كر الأيام إيذان مستمر بالموت الزاحف، وليس يسع الإنسان حين يتأمل ذلك إلا أن يشعر أن كل يوم يعيشه، هو يوم يموته، والواقع أن الإنسان في يومه غير ما كان في أمسه، لأن الحياة قائمة على التحول، أو هي دائرة على الموت إذا شئت، ولا سبيل فيها إلى بقاء شيء أو ركود حال، وكل ساعة تمضي علينا تمضي بشيء منا، أو على الأصح بصورة من صور وجودنا وحالة من حالات نفوسنا وأجسامنا، وكون المرء يتغير معناه أنه يذهب ويجيء غيره، ويموت ثم يخلق خلقاً آخر، ولكن سرعة التعاقب في الخلق تجعل الصورة الجديدة مولدة من القديمة الفانية وشبيهة بها شبها يخفي وجوه الاختلاط: والذي يديم النظر في المرآة لا يفطن إلى التغير الذي حدث، ولكن الذي يبعد عهده بالمرايا لا يسعه إلا أن يرى أن صورته قد تغيرت، وحالت عما كان يعرف

فالموت يعيث فينا نهارا وليلا. وصباحا ومساء، وكل إحساس أو رأي أو اعتقاد لنا يتغير، هو ضرب من الموت يدركنا، والشيخوخة والأمراض وما يصيبنا من خيبة في آمالنا أو إخفاق في مساعينا - رياضة لنا على ما نحن صائرون إليه من المآل. وقد أتساءل أحياناً عن معنى حياة مجهولة للموت ودائرة عليه ومتسربة فيه - في كل حيلة ومظهر؟؟ ولا جواب هناك أعرفه لسؤالي، وقد يئست من إمكان الاهتداء، حتى لم أعد أحفل لا الحياة ولا الموت، أو أبالي كيف أكون في يومي، وماذا يكون من أمري في غدي. وهل الإنسان إلا مقبرة متحركة؟؟ بل أنا أبالي - كما قدمت في مستهل هذه الكلمة - ولكني أغالط نفسي، وأصرفها عن النظر إلى هذا الجانب الأسود، وألهيها وأسليها بما أستطيع أن أرقيه على جوانب العيش من ضوء يردها مشرقة ضاحكة. ومن هنا نشداني للفكاهة وحرصي على

ص: 19

الوقوع عليها. ومتى تساوى الحزن والفرح، وتعادل الغضب والرضى، وكان الاهتداء في وزن الحيرة والضلال، وصار البكاء والضحك سبين، فالضحك أولى إذا قدرت عليه؛ والدنيا مأتم، فما أحقنا بأن نسري الناس، أو نسري عنهم، أو نذهلهم لحظات عن تنغيص حياة مبطنة بالموت، وذلك يتطلب الإرادة، ولكن الإرادة تكتسب

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 20

‌4 - التعليم والحالة الاجتماعية

في مصر

للأستاذ إسماعيل مظهر

أظهرت في مقالي السابق أن لكل أمة من الأمم ثقافة تقليدية ترثها من أسلافها، وأبنت أن هذه الثقافة تصبح بالوراثة قطعة من غريزتها وجزءاً من فطرتها، لا تنفك عنه أمة من الأمم أو تكون قد انفكت عن أخص مميزاتها وأعظم مظاهرها الاجتماعية. وعقبت على ذلك كله بمجمل العلاقات التي تربط كل أمة بثقافتها التقليدية إظهاراً لوجهة نظري في هذه المسألة الحيوية

على أن ما أحطت به في مقالي السابق قد قصر على بيان العلاقة التي تربط الثقافة التقليدية في كل أمة بمظاهرها الاجتماعية من حيث أنها مظاهر اقتصادية لا غير. والآن أريد قبل أن أختم هذه البحوث أن أظهر أن لنظريتي في الثقافة التقليدية أثراً في تكوين العقلية الفردية وتكييف العقلية الجماعية، مُنشَّأةً في كل أمة من الأمم بمقتضى الظروف والحالات التي لابستها منذ أقدم عصورها التاريخية

ومن أجل أن نبين عن حقيقة ما نقصد إليه نقصر الكلام على أخص الظواهر التي ثارت من حولها عجاجة النقد وكثر فيها الجدل حتى أصبحت من عقلية الجمهور المتعلم جزءاً لا يتجزأ

ولا ريبة أن في حياتنا الحاضرة مظاهر، هي بحكم العصر الذي نعيش فيه والحالات التي تكتنفنا، أجلى من غيرها وأبين في تكييف عقليتنا من كل الظواهر الأخرى، وأقصد بذلك الأدب من ناحية، والوطنية من ناحية أخرى

وأول ما يبدر إلى ذهن الباحث في هذا المقام أن يسأل: أمن علاقة بين الثقافة التقليدية والأدب؟ أهنالك من صلة بين هذه الثقافة والوطنية؟ أيكون لماضي الأمم أثر في تكوين أدبها وصبغ وطنيتها بصبغة خاصة، وهل من رابطة تربط بين تصورات ومشاعر وعواطف درجت عليها القرون، وبين أبناء جيل يخيل إليهم أنهم نفضوا أيديهم من الماضي وأنزلوا عن كواهلهم تراب الأزمان الغابرة، فأصبحوا خلقاً جديداً، وأمة مستحدثة من عناصر لا تمت إلى القديم بسبب من الأسباب؟

ص: 21

وما كان لباحث أن يسأل هذا السؤال، وما كان لهذا السؤال أن يدور في مخيلة مفكر، لو أن لنا بثقافتنا التقليدية صلة أو كان لهذه الثقافة علاقة بأدبنا، أو صلة بوطنيتنا. وإنما يدور هذا السؤال في مخيلة كل مفكر يحكم أننا قطعنا صلتنا بالماضي، وفرطنا عقد رابطتنا بمصر القديمة، وبالأحرى حللنا العقدة التي تصل بين حبل حياتنا الحاضرة والخيوط التي تتكون منها شبكة حياتنا الماضية، ولا شك في أن الفرد ثمرة الماضي، قبل أن يكون ابن الحاضر، وصلته بذلك الماضي صلة وراثة. أما صلته بالحاضر فصلة ضرورة

ولا مرية في أن هذا السؤال غير طبيعي في أمة أحكمت صلتها بماضيها، ووثقت روابطها بثقافة آبائها الأولين. فهو بمثابة أن تسأل مثلاً: أمن علاقة بين دمي الذي يجري في عروقي ودم جدي أو جد جدي؟ وهل بين تصوراتي ومشاعري وميولي، وبين طبيعة الأرض التي تغذيني والهواء الذي ينميني والسماء التي تظلني؟ ذلك بأن الأمم متى أحكمت صلتها بماضيها ونشقت دائماً عبير الروح الذي سرى في كيانها منذ أبعد العصور لن تشعر يوماً بأنها في محيط غير محيطها الطبيعي، أو أنها في بيئة غير بيئتها الفطرية، فيظهر أثر ذلك كله معكوساً في جماع مظاهرها وبخاصة في آدابها وفي وطنيتها. أما ونحن نشعر الآن بأن أدبنا أدب مصنوع لا أدب فطري، وأن وطنيتنا وطنية ظاهرية لا وطنية حقيقية، فإنه من الطبيعي أن نسائل أنفسنا عن سبب ذلك، ومن الطبيعي أن نجد الجواب في النظرية التي أدلينا بها من قبل في العلاقة التي تقوم بين المظاهر الاجتماعية والثقافة التقليدية التي تختص بها كل أمة من الأمم، وتختص مصر بصورة منها

قرأت منذ سنوات قصيدة في مجلة (أبولو) عنوانها (قبرة شيلي)، وعكفت كعادتي في كل ما أقرأ من المترجمات على مقابلتها بالأصل، فألفيت أن الشاعر المترجم قد أجاد في المحافظة على المعاني الأصيلة قدر ما تهيئ أوزان الشعر وقوافيه ومفردات اللغة العربية لمترجم أن ينقل شعراً من الإنجليزية إلى العربية، ولقد أحسن الشاعر المترجم سبك المعاني في قالب عربي يلائم روح التجديد مع المحافظة على جرس الأسلوب العربي، فأكبرت القصيدة وأعدت تلاوتها مرات مبالغ في الوقوف على ما فيها من أوجه النقد ووزنها على مقتضى المعايير التي أومن بها في تقييم الشعر، ولم ألبث أن أحللتها بين ما أعتقد أنه من جيد الشعر الحديث، غير أني بعد كل هذا كنت أشعر بأن في القصيدة ماهية أخرى تبعدها عن

ص: 22

طبعي، وتقصيها عن تصوراتي وتجاريبي، وتلقي في روعي أبى غريب عن الجو الذي تخلقه من حولي. فلا الجو الذي وضعه (شيلي) وغشاه بالسحاب القاتم الشديد السواد هو الجو الذي أعرفه، ولا الغناء القوي الحنون الذي ترسله قبرته هو نفس الغناء الذي أعهده في قبراتنا، ولا لونها الأصفر الزِّرْيابي الذي يجعلها تحت السحب السوداء كأنها شرارة من لهب، هو لون القبرة المغبرة السفعاء التي آنسها في حقولي. كذلك رأيت في ذكر السيول والأمطار الغامرة التي ترسلها سماء إنجلترا شيئاً جديداً لا علاقة له بمحيطي ولا صلة له ببيئتي، وعلى الجملة شعرت بأني أقرأ خيالاً إنجليزياً في شعر عربي. خيال يجذبني من ناحيته إلى ثقافة غير ثقافتي التقليدية بل يقصيني عن تجاريبي ومشاهداتي، وأن كل ما تهيئ لي القصيدة من قدرة على التصور هو ما تحمل ألفاظها العربية من معانٍ أتخيلها تخيلاً وأصورها تصوير الحدس والوهم، وأن آلة الأداء، وهي اللغة العربية هي الناحية الوَحِدة التي تقربني بعض التقريب من الجو الشعري الذي تكيف به القصيدة مشاعري، ولا شك في أن الشعر شيء، وآلة أدائه شيء آخر، وإنما يكون الشعر متصلاً بطبع الإنسان متى استمد عناصره من ثقافة تقليدية لا يعنت التصور إدراكها، ولا يتعب الخيال تصويرها، فيشتمل على نواحي النفس ويخاطب الروح بديئة قبل أن يخاطب العقل

عقبت على هذا بقراءة قصة مترجمة عن كاتب روسي مشهور، فآنست فيها شططاً في الوصف ومغالاة في التقدير، وتحليلات نفسية معقدة غاية التعقيد، بعيدة كل البعد عن بساطة الروح المصري الذي آنسه في الفلاح الساذج الذي نشأت محوطاً بثقافته التقليدية، ولا أريد أن أبحث شخصيات هذه الرواية لأحكم أنه كان في الدنيا شخصيات حقيقية تقابل الشخصيات التي وضعها الكاتب وحلل نفسياتها، وإنما أريد أن أقول إن تحليل ذلك الكاتب مهما كان فيه من حق وبعد عن المغالاة، وسواء أكانت الصفات التي أضفاها على شخصياته تلك صفات يمكن لنفس بشرية أن تنطوي عليها، أم إنها شخصيات خيالية لا تقوم لها حقائق في الخارج، فجل ما أرمي إليه أن أقول إنها شخصيات لا تربطني بها رابطة ولا تصلني بها صلة، وأن محيطي الذي أعيش فيه ينكر وجودها وينفي حقيقتها، بالرغم من أن شخصاً آخر في محيط آخر قد يرى أنها شخصيات طبيعية، بل قد يجسمها خياله على مقتضى تجاريبه التي يشهدها في حياته

ص: 23

ولا أقصد بذلك أن مثل هذا الأدب غير مفيد في توسيع مجال الخيال، وتنويع الصور المتخيلة وتوطيد قواعد الأدب المصري من حيث صلته بالآداب الأخرى. وإنما أقول إنه مهما كان فيه من المميزات فهو أدب دخيل لا أدب أصيل. أدب لا علاقة له بثقافتنا التقليدية، فهو من طبع غير طبعنا وفطرة خلاف فطرتنا. إنما هو أدب تصويري لا أدب حقيقي، مقيسة معابيره بمقياس حياتنا الخاصة ومحيطنا الخاص. أدب لا تهضم منه فطرتنا إلا القليل النادر. هذا على اعتبار أن العلم بالأدب شيء وهضمه وتمثيله في الروح شيء آخر، ولن يكون للأدب من أثر في الحياة إلاّ بأن تمثله الروح فيصبح جزءاً منها، فتسترشد بِمُثُله، وتتعظ بِمثُلاته، وتدرك منه الحقائق إدراك استيعاب لا إدراك علم بها دون الإيمان بما فيها من حق وواقع

وما أريد أن أستطرد في ضرب الأمثال فإن فيما أوردت منها غنى عن ذكر غيرها. ذلك بأن كثيراً مما نقرأ في الصحف والمجلات وكثير من المؤلفات يجري هذا المجرى ويسيل هذا السيل، حتى لقد أصبح أدبنا الحديث لكثرة ما فيه من الرقع والرتوق، ولكثرة ما فيه من صور الأمم الأوربية كأنه (عصبة أمم) أخرى، ولكن في صحف سطرت بكلمات عربية

في وسط هذه الصور العجيبة المتنافرة، وفي غمرة تلك الفوضى السائدة في الأدب على مختلف ألوانه، وعلى متضارب وجوهه، ومتباين ضروبه، أتقع على الأدب المصري الصحيح الذي يمثل الروح المصرية؟ بكلمة واحدة أقول (لا)؛ وبودي لو يتسنى لي أن أكتب كلمة (لا) في صحيفة وحدها وبأكبر قطع تعرفه المطابع العربية

يشعر كل المشتغلين بالأدب، أدباء كانوا أو طلاب أدب، نقاداً كانوا أو قارئين، بأن بين الأدب الذي يعكفون على درسه أو قراءته وبين نفوسهم بوناً شاسعاً، وأن بينه وبين أرواحهم الممثلة في أخيلتهم ومشاعرهم وعواطفهم وأمزجتهم صدعاً متنائيا. وقد يأخذهم القلق حيناً، وقد تتملكهم الريبة أحياناً في أحقية ذلك الأدب بالبقاء في بيئة لا تعرفه ولا يعرفها، ولكن قلقهم لا يلبث أن يهدأ، وريبتهم لا تني إلا قليلا حتى تزول، إذ يرون أن ذلك الأدب أدب الساعة لا أدب العمر، مستدلين على ذلك بأن الآثار الأدبية التي ظهرت في العشرين عاماً الماضية لم يفلح جماعها في تكوين مذهب واحد ثابت الدعائم قوي الأركان

ص: 24

محدود الغايات بيِّن المثل، فعاش ولم يمت. أما السبب في أن كل إنتاجنا الأدبي إنما هو للفناء فراجع إلى أنه أدب مسروق أو على الأقل أدب مسلوب من آداب الأمم الأخرى وليس فيه من أثر المصرية إلا أنه مكتوب بلغة عربية، ولكن بأساليب أصبحت بدورها أضعف من أن تحسن أداء رسالة الأدب

ولقد سمعت بعض المشتغلين بالأدب يقولون إن نقل الآداب الأوربية إنما هو بمثابة دم جديد يغذي أدبنا بالحياة، ويمده بأسباب البقاء. غير أن هذا الرأي على ما في ظاهره من حق، فإنه أشبه بحق يراد به باطل. ووجه الباطل فيه أنهم يفرضون أن لنا أدباً يغذيه الأدب الأوربي، وذلك ما لم يقم عليه أقل دليل حتى الآن. فأين الشعر المصري الحقيق بأن يدعي شعراً مصرياً؟ وأين القصة المصرية التي تصور حياة مصر تصويراً صحيحاً مقتطعاً من الطبع المصري ومن الثقافة المصرية الصحيحة؟ بل أين الأديب الذي عكف على درس العقلية المصرية وقصر جهده على تفهم الروح التي تنطوي عليها ضلوع ذلك الفلاح الساذج الذي هو لغز الألغاز وسر الأسرار؟ أين الأديب الذي أحاط بتاريخ مصر منذ أبعد عصورها وكون من ذلك التاريخ صوراً تظهر معكوسة في أدبه شعراً أو نثرا، وأين الأدب الذي يصور ما نزل بنا من نوائب الدهر وبلايا الأيام، وما حاق بنا من مظالم يصرخ بها تاريخنا، بل أين الأدب الذي يرينا كيف ابتلع الفلاح الساذج الهادئ الطبع اللين الجانب بما فيه من قوة المقاومة السلبية، الفرس والروم والرومان والعرب والمماليك والأتراك، ولا يزال مستعدا لابتلاع خمسين قيصرية من أمثال هذه القيصريات العظام وهو قابع في عقر حقله الصغير وفي كسر بيته الطيني، تاركا دورات الحظ تدور بالسعد حيناً وبالنحس حينا آخر، وما يهمه في الحياة من شيء إلا أن يضحك ساخراً من الأمم والأقدار

على أن الإطناب في مثل هذه الأشياء تحصيل حاصل، والاستطراد في ذكر الشواهد عبث، لأننا نشعر شعوراً كاملا بأن الأدب المصري اسم على غير مسمى، وإن شئت فقل إنه فرض لا حقيقة له. وإنما أقصد بالأدب المصري الأدب المقتطع من حياتنا ومن أنفسنا ومن أخيلتنا. الأدب الذي إذا قرأته تبينت فيه مصر وأرض مصر وسماء مصر وتاريخ مصر، وعلى الجملة كل ما توحي به مصر من الموحيات الدفينة في نفوسنا، الرسيسة في طبعنا، الحائرة في أرواحنا

ص: 25

أما السبب في كل هذا فهو أننا بعدنا عن ثقافتنا التقليدية، بل إننا قطعنا صلتنا بالماضي وهمنا في فلوات لا نعرف فيها طريقا يسلك، لا إلى الأمام لنصير أوربيين صرفاً، ولا إلى الوراء لنعود إلى مصريتنا مرة أخرى. وإذن فنحن في التيه، ولكنه التيه الذي سوف لا نخرج من ظلماته مادمنا غير قادرين على تقييم حقائق وجودنا تقييما صحيحاً، ومادمنا عاجزين عن أن ندرك تلك الحقيقة الأولية، حقيقة أن ثقافتنا التقليدية هي الملجأ الأخير الذي يوقظ فينا (الروح المصرية) التي من طريقها نكوّن الأدب المصري. الأدب المصري الذي ينبغي أن يكون من حيتنا الأدبية بمثابة الجهاز الهضمي في الحيوان، فيه تهضم الآداب الأخرى، ثم تتمثل أدباً جديداً ملائماً لآدابنا ومشاعرنا وأخيلتنا، وفي الوقت ذاته تطرد النفايات. تلك النفايات التي تسمم أدبنا الآن وتفسده، لأن أدبنا الجديد أضعف من أن يفرزها إلى خارج جسمه المتهدم الضئيل

هذا من حيث الأدب. أما الوطنية المصرية ووصفها بأنها وطنية ظاهرية، فلا يرجع إلى حب الأغراب، ولا إلى حب النقد بغير دليل يقام أو حجة مقبولة. لهذا نقسم الوطنية قسمين: قسما يمثله الشباب المتعلم وعلى رأسه الأحزاب، وقسما يمثله الفلاح الساذج

على أنه ينبغي لنا قبل الاستطراد في شرح مزايا القسمين أن نتعرف كيف نشأت الوطنية، ومن أي نبع تستمد تصوراتها. وما من شك في أن الوطنية المصرية إنما استمدت أولى خطواتها من آداب الثورة الفرنسية الكبرى فلبت نظام الحياة في أوربا في أواخر القرن الثامن عشر. والدليل القاطع على هذا أنه منذ عصر عرابي إلى اليوم ترى أثر القسمين واضحاً جلياً في كل ما أدت الوطنية المصرية من الخدم الجسام لمستقبل مصر الحديثة. فالقسم الأول يأتم بالنظريات التي ذاعت في فرنسا في عصر ثورتها، وظل مؤتماً بها حتى بدء الحرب العظمى، والقسم الثاني ظل مستمسكا بتصوراته القديمة التي عكف عليها طوال العصور التي ظلت فيها مصر ميداناً لتطاحن الأمم والقيصريات

أما الفئة الأولى، وهي الفئة التي عكفت على النظريات الأوربية تستمد منها تصورات الوطنية، فكانت في كل الأدوار التاريخية منذ ستة عقود من الأزمان ذات الأثر الواضح في تكييف الظروف التي لابست كياننا السياسي. فهي التي بثت الروح الجديدة، وساقتها في طريق أجبر مقاوميها على أن يعدلوا من موقفهم إزاءها تدريجيا على مقتضى قوتها أو

ص: 26

ضعفها حتى أصبحنا اليوم وفي حياتنا السياسية عنصر جديد لم تعرفه مصر منذ عشرين قرناً من الأزمان. غير أنه مهما قيل في هذه الوطنية مظاهرها قاصرة على تصورات فئة قليلة العدد مقيسة بتبعية الذين يؤمنون بالوطنية مسبوكة في القالب الذي صوره الفلاح المصري ليكون حداً لوطنيته. وأن كلامنا إنما ينصب على وطنية هذا الفلاح دون غيرها

قد تعجب ويشتد بك العجب إذا أنا قررت هنا أن الفلاح المصري شديد الوطنية مغال فيها، بل متطرف في وطنيته أشد تطرف، ولكنك بجانب هذا تسأل أين الآثار التي تتجلى فيها هذه الوطنية، فأجيبك بأنها تظهر كل يوم على صفحات جرائدنا الأخبارية، وتشغل بها الحكومة في أكثر أيام السنة، ألا تقرأ كل يوم أن فلاحاً حز رقبة أخيه لأنه اعتدى على حقله فهد جزءا من حدوده؟ ألا تسمع أن أسرة شهرت السلاح في وجه أخرى لأن أحد أفرادهما أراد أن يأخذ نصيب آخر من الماء، وأن الموقعة انجلت عن قتيل وجرحى وأسرى هم رهن التحقيق؟ إذن فاعرف أن هذه هي الآثار التي تترتب على وطنية الفلاح المصري. أما الوطنية نفسها فتنطوي على حب الحقل والدفاع عنه بالمال وبالولد وبالروح،، ذلك بأن الفلاح الذي فقد حقوقه المدنية والسياسية طوال عصور قلما تعيها الذكريات، ونزل به من الفادحات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، لم يصبح عنده في الدنيا من شيء ذي قيمة إلاَّ ذلك الحقل بحدوده الأربعة، وإلاَّ ذلك النزر من الماء الذي يجود عليه بالرزق الحلال

أما السبب في أن تنضمر الوطنية المصرية حتى تصبح في نظر الفلاح الذي هو أهم عناصر مصر الحيوية، محوية في داخل هذه الحدود الضيقة، فراجع إلى أسباب تاريخية. فأنه منذ غزو الاسكندر المقدوني، ومن قبله بعشر سنين، أي منذ أن طرد الفرس آخر ملوك الفراعنة واسمه (نقطانيبو) لم يسد المصريون في بلادهم يوماً واحداً، وظل المصريون بين الحقول يزرعونها ليعولوا أنفسهم ويعولوا أسيادهم الذين يتسلطون عليهم من أية أمة كانوا وبأي دين دانوا، فلقد استطاع المصريون قبل الغزو الفارسي الأخير أن يستردوا حريتهم المرة بعد المرة، عقيب كل غزو دهمتهم به أمة أجنبية كالهكسوس وغيرهم، وأن يقيموا على عرش بلادهم أسراً من الفراعنة تحي تقاليد الحكم والثقافة واللغة، تلك التقاليد التي نشأت وربت في مدى عصور لا تعيها الذكريات. ولكن تلك

ص: 27

الغزوة كانت آخر عهد ملوك الفراعنة الذين تجري في عروقهم الدماء الوطنية بالحكم على ضفاف النيل والى آخر الدهور. فمنذ فتح الاسكندر خضعت مصر إلى ألف سنة لحكم هِلِّيني الحضارة من مقدونيين ورومان، وفي نهايتها صارت مصر جزءاً من جسم الإسلام، فبدلت تبديلاً، وأصبحت لها لغة أخرى، ونظام اجتماعي لا عهد لها به، ودين جديد، ونبذ الإلهة الذين عبدوا في مصر على أنهم آلهتها الخواص الآلاف من السنين نبذاً أبدياً، ثم دفنوا في ثراها

ومنذ ذلك التاريخ لم يفز مصري أصيل بالحكم على شطآن النيل، بل لقد مرت عصور طويلة كعصر البطالسة مثلا، لم يكن في الحكومة كلها من مصري شغل مركزاً أكبر من مركز صَرَّاف يجبي الأموال. بل رأى المصريون معابدهم المقدسة تستباح فيتخذها المقدونيون موضعاً للهوهم وعبثهم وسكرهم وعربدتهم ورأوا الفرس يذبحون عجلهم المقدس من قبل ذلك

ولقد كان لهذه الملابسات التاريخية آثار كيَّفتْ الوطنية المصرية فحدتها بحدود الحقل المقدس، وإنما صار الحقل مقدساً في عين المصري لأنه كان الملجأ الوحيد الذي لجأ إليه فحماه من الانقراض التام. ولولا ذلك الحقل إذن لأصبحت مصر اليوم إما رومية وإما لاتينية. ولكن الحقل قام سداَ بين الغزاة وبين المصريين أين منه سد يأجوج ومأجوج. ذلك بأن ثرى مصر لا يزرعه إلا المصري ولن يقوى عليه غير المصري. لهذا عبده المصريون بعد (أبيس)، وقدسوه في الأعصر الحديثة تقديسا ليس فوقه عندهم من شيء إلا خشية الله. ففي الحقل وقوته وفي طرف منه قطعة سويت لا تزيد مساحتها عن بضعة أقدام مربعة فرشت بنبات الحلفاء هي مُصًلاَّه. فالحقل للفلاح عالم صغير مقدس يذود عنه بالروح ويبذل في سبيله الدم، لأنه ملجؤه الأخير وملاذه ومبتغاه

فلا عجب إذن في أن تنحصر الوطنية المصرية، وإنما نعني به وطنية السواد من أهل مصر، في حدود ذلك الحقل ولا تتعداه. وكيف تتعداه وقد آنست فيه الحياة آلاف السنين واستقرت في تربته الأجيال ثم الأجيال؟

وكما أننا عجزنا عن أن نكون أدباً مصرياً صحيحاً قوي الروح والأخيلة، بأن بعدنا عن ثقافتنا التقليدية، فكذلك عجزنا عن أن نخرج، لهذا السبب عينه، وطنيتنا من حدود الحقل

ص: 28

إلى حدود مصر، وليس هذا وحده السبب في أن وطنيتنا ظاهرية، بل إن هنالك سبباً آخر يتجلى في أن الفريق الأول من وطنيينا، وهم الذين يستمدون تصوراتهم الوطنية منقولة من أوربا، لم يتغلغلوا في صميم مصر ليفهموا حقيقة السبب في ضعف الوطنية المصرية، وإنما يجب علينا أن نعكف على ثقافة تقليدية ننتزعها من صميم مصر لتكون عوننا في بناء صرح المجد كاملا اقتصادا وأدباً ووطنية

أما فشلنا في هذا حتى الآن فإلى أي شيء نعزوه؟ إلى السياسة التي جرى عليها التعليم في بلادنا بغير جدال. وسنظهر في البحث التالي، جهد مستطاعنا، كيف ننجو بثقافة تقليدية مستحدثة تنقذنا من البوار المحتوم

(الرسالة) تخالف الأستاذ الكاتب في بعض ما جاء في مقاله

وخاصة في وطنية الفلاح واقتصارها على الحقل، وقد نشرناه

عملا بحرية الرأي

إسماعيل مظهر

(الرسالة) تخالف الأستاذ الكاتب في بعض ما جاء في مقاله وخاصة في وطنية الفلاح واقتصارها على الحقل، وقد نشرناه عملا مجرية الرأي

ص: 29

‌في تاريخ الفقه الإسلامي

ثلاث محاضرات

للدكتور يوسف شخت

الأستاذ بجامعة كونيكسبرج، والأستاذ بالجامعة المصرية

- 2 -

قدمنا في محاضرتنا الأولى بضع ملاحظات على الطريقتين الشرقية والغربية لدرس تاريخ الفقه الإسلامي، وأبدينا الكلام عن بعض مسائل متعلقة بعصرين هامين من تاريخ الشريعة: العصر التمهيدي وهو ما قبل الإسلام، والعصر الأساسي وهو زمن فقهاء المدينة السبعة. وتتناول محاضرتنا هذه دوراً ثالثاً: الدور الذي تكونت فيه المذاهب. فأول من أسس مدرسة في تاريخ الشرع الإسلامي هو - كما نعلم الآن - محمد بن إدريس الشافعي. وكونه المؤسس لعلم حقيقي في الفقه أمر يظهر بجلاء من كتابه الموسوم بالرسالة في أصول الفقه الذي بحث فيه عن طريقة هذا العلم، كما يبدو من النظام الباهر الذي وضع عليه الشريعة في كتابه الكبير المسمى (بالأم) وفضله هو أنه بعث اليقظة في الفكرة الفقهية الإسلامية، وأنه لا يبرهن عند الحاجة إلى الدلائل وابتغاء الوصول إلى نتائج عملية فقط، بل يبرهن دائماً ومبدئياً، وأنه يبحث أيضاً عن شروط الاحتجاج التشريعي وطرقه بوجه عام. وكتابه العظيم يتيح لنا إدراك طبيعة فكرته الفقهية وعناصرها إدراكا تاماً ويمكننا من مقابلتها بآرائه في طريقة علم الفقه المعروضة في كتاب الرسالة، وخاصتها البارزة هي الدقة والجلاء اللذان يحملانه على مخالفة كثير مما كان مسلماً به قبله دون أن يضيق بهذا أفق تفكيره، ودون أن يحصر نفسه في دائرة مخصوصة، فأن اجتهاد الشافعي ليتجه على الأخص إلى تنظيم الفقه؛ ونراه يعمل بلا انقطاع على إيجاد تماسك بين الأحكام المنفردة وعلى التحاشي عن أي تناقض بين نتائجها الأخيرة؛ ومهما يكن من أمر السابقين واللاحقين في هذا الشأن فإن الشافعي كان له أعمق الأثر في تنشئة طريقة القياس التي ظلت من مميزات علم الفقه؛ ونقصان التعريفات والتحديدات القانونية الفنية في الشرع الإسلامي يتصل مباشرة بالدور الحاسم الذي يقوم به القياس. من الطبيعي جدا أن ذلك النجاح العظيم

ص: 30

الذي لم يسبق له مثيل، والذي افتتح في تاريخ الشرع الإسلامي عصراً جديداً قد أحدث ضجة واسعة، وأفضى إلى تأسيس المذهب الشافعي. ولكن كل هذا لا ينطبق على المذاهب التي سبقته: وعلى الأخص المذهبين الحنفي والمالكي؛ والأرجح أنها نزعات عامة كانت قد بدت في نواح مختلفة، وما بينها من الخلاف يرجع قبل كل شيء إلى أسباب جغرافية ومدنية عامة: إما بتنوع القوانين العرفية المندمجة في الفقه؛ وإما باتحاد العمل والعلم في نواح متماسكة؛ أما اختلاف الأساليب والطرق الفقهية فليس له إلا المقام الثاني، كذلك مذهب الحجاز لم يكن تقليدياً من حيث المبدأ بل من حيث أنه يمثل السنة المدنية؛ ومذهب العراق لم يكن أوسع حرية من ذلك بل كل ما هنالك أنه متفق وتطور حياة العراق المادية والفكرية التي تعرضت لكثير من التأثيرات الخارجية، وامتزجت بكثير من العناصر الأجنبية. كان هذان المذهبان في مرحلتهما القديمة يحتاجان إلى تنظيم محكم، فهما لم يرتبا صفوف أتباعهما إلا بتأثير المذهب الشافعي وعلى غراره، فاختار كل واحد منهما شخصاً ممتازاً ينتسب إليه، جديراً بتمثيله، والأدلة كثيرة على هذه الطريقة من النظر في نشأة المذاهب الفقهية: فلقد ظلت التسميتان الأصليتان من (أهل العراق) و (أهل الحجاز) تطلقان على أصحاب هذين المذهبين حتى بعد عصر مؤسسيهما المزعومين أبي حنيفة ومالك، في حين أن أصحاب الشافعي كانوا ينعتون بهذا الاسم منذ أول الأمر؛ وأنه لا يزال موضع شك في عدد كبير من الفقهاء أن يعتبروا أعضاء للمذهب المالكي، وخصوصاً للمذهب الحنفي أو يعتبروا فقهاء مستقلين، على حين أن مسئلة كهذه لا تلحق الشافعية. أما مالك فأن الشهرة الشخصية العظيمة التي ظل يستمتع بها طوال حياته لابد أن تكون قد ساعدت على اختياره رئيساً ناسبا لمذهب الحجاز؛ بيد أن هذه الشهرة قد عزتها إليه المصادر المتناهية في القدم لنقده الدقيق للأحاديث ولرجالها لا لاجتهاده التشريعي البحت. وكون الشافعي قد ميزه بين أهل المدينة بأن ألف كتابا صغيراً فيما خالف فيه مالكا من المسائل ليس بعجيب لأن الشافعي أخذ العلم منه. ونفس النجاح العظيم الذي لقيه الكتاب الموّطأ لمالك وحده بين عدد من الكتب المماثلة له يمكن أن يعلل أبسط تعليل إذا لم نعده كتاباً مبتكراً ذا آراء شخصية بل عددناه كتابا يعبر عن إجماع المدنيين في عصر المؤلف ملتزماً الطريقة الوسطى مجتنباً التطرف في المسائل المختلف فيها. ولدينا ما يحملنا على الاعتقاد بأن مالكا

ص: 31

قد توخا الغرض وهو شاعر بذلك كل الشعور. أما في المذهب العراقي فواضح أن أبا حنيفة يشغل من حيث تطوّر آرائه مكاناً أقل شأناً بكثير من مكانة أصحابه أبى يوسف وزفر ومحمد بن الحسن الشيباني. وإنما يرد ذكرهم كثيراً على هذا الترتيب في الكتب الأقدم عهداً؛ وانمحاء ذكر زفر وثبوت ثالوث أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وكذلك وضع قواعد للإيثار عند الاختيار بين آرائهم المختلفة - كل هذا يرجع تاريخه إلى عهد متأخر نسبياً. وليس لأبي حنيفة فيما عدا الفقه الأكبر - وهو عقيدة وجيزة ذات روايات مختلفة بعضها موضوعة ولكن واحدة منها صحيحة - ليس له فيما عدا ذلك كتاب صحيح من تأليفه؛ لأن مسانيد أبي حنيفة قد جُمعت فيما بعد من أحاديث وردت في كتب أصحابه؛ والأقوال الواردة عنه في مؤلفات تلاميذه لا يتجاوز غالبها المراجعات العامة، يسندون بها إليه آراءهم الشخصية، وهذا يحمل على افتراض أنه لا يرجع إلى اجتهاد أبي حنيفة الشخصي من تفاصيل المذهب الحنفي إلا شيء قليل

وعلى الرغم من ذلك فأن المصادفة السعيدة قد مكنتنا من أن ندرك على الأقل ناحية من شخصيته التشريعية. فقد حكى محمد ابن الحسن الشيباني في كتابه المسمى بالمخارج في الحيل ما يأتي: (سئل أبو حنيفة عن أخوين تزوجا أختين فزفت كل واحدة منهما إلى زوج أختها ولم يعلموا حتى أصبحوا فذكر ذلك لأبي حنيفة وطلبوا الحيلة فيه فقال أبو حنيفة (ليطلق كل واحد من الأخوين امرأته تطليقة ثم يتزوج كل واحد منهما المرأة التي دخل بها مكانها فيكون ذلك جائزاً لأنها منه في عدة ولا عدة عليها من الزوج الأول). قال محمد وقد جاء في هذا حديث عيبناه). ولا يسع أحداً أن يزعم أن هذه الحكاية ليست إلا افتراء موضوعا أريد به تعظيم حكمة أبي حنيفة، لأن عين ذلك الجواب موجود أيضا في كتاب الآثار لنفس المؤلف مروياً عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي. وأما الحديث الآخر الذي عابه الشيباني نفسه فقد احتفظ به شمس الأئمة السرخسي في كتاب المبسوط قال فيه (ذُكر لهذه المسألة حكاية أنها وقعت لبعض الأشراف بالكوفة، وكان قد جمع الفقهاء رحمهم الله لوليمته وفيهم أبو حنيفة رحمه الله وكان في عداد الشبان يومئذ، فكانوا جالسين على المائدة إذ سمعوا ولولة النساء، فقيل ماذا أصابهن، فذكروا أنهم غلطوا فأدخلوا امرأة كل واحد منهما على صاحبه ودخل كل واحد منهما بالتي أدخلت عليه، فقالوا إن العلماء

ص: 32

على مائدتكم فسلوهم عن ذلك فسألوا، فقال سفيان الثوري رحمه الله: فيها قضى عليّ رضي الله عنه: على كل واحد من الزوجين المهر وعلى كل واحدة منهما العدّة فإذا انقضت عدّتها دخل بها زوجها، وأبو حنيفة رحمه الله ينكت بإصبعه على طرف المائدة كالمفكر في شيء، فقال من إلى جنبه أبرز ما عندك، هل عندك شيء آخر، فغضب سفيان الثوري رحمه الله، فقال ماذا يكون عنده بعد قضاء عليّ رضي الله عنه، يعني في الوطء بالشبهة. فقال أبو حنيفة رحمه الله: عليّ بالزوجين، فأتي بهما فسأل كل واحد منهما: هل تعجبك المرأة التي دخلت بها؟ قال نعم، ثم قال لكل واحد منهما طلّق امرأتك تطليقة فطلّقها، ثم زوّج من كل واحد منهما المرأة التي دخل بها، وقال قوما إلى أهلكما على بركة الله تعالى. فقال سفيان رحمه الله: ما هذا الذي صنعت. فقال: أحسن الوجوه وأقربها إلى الألفة وأبعدها عن العداوة، أرأيت لو صبر كل واحد منهما حتى تنقضي العدّة أما كان يبقى في قلب كل واحد منهما شيء بدخول أخيه بزوجته. . . فعجبوا من فطنة أبي حنيفة رحمه الله وحسن تأمله). والفرق بين المسألة الفقهية في الأولى والقصة الروائية في الثانية واضح. ومن المهم أن نعرف أن مثل هذه الحكايات الرامية إلى تعظيم أبي حنيفة قد استطاع معاصرو الشيباني من إذاعتها حتى يعيبها هو. وليست الحكاية هذه الحكاية بالوحيدة من نوعها، بل توجد أخرى تشبهها كل الشبه. فالشيباني يروي في كتابه المذكور ما يلي:

(حدثني حفص بن عمر أن رجلا أتى أبا حنيفة ليلا فقال إني كنت مع امرأتي. . . إذ تغضبت علي. . . فأبت أن تكلمني فقلت لها أنت طالق لئن لم تكلميني الليلة. . . فأبت أن تكلمني. . . وأخاف أن يطلع الفجر ولم تكلمني فتذهب مني. فقال أبو حنيفة ما أجد لك من حيلة إلا في خصلة واحدة. . . اذهب فقل لها تذكرين أنك عربية وأني إنما خرجت الساعة فسألت عن أبويك فإذا أمك نبطية. فأتاه فقال: يا عدوة الله الخ. فقالت: كذبت والله.) وهاهو ذا السرخسي أيضاً يورد لهذه الحكاية صورة روائية محضة: (أنه قال للرجل ارجع إلى بيتك حتى آتي بيتك فأتشفع لك فرجع إلى بيته وجاء أبو حنيفة رحمه الله في أثره وصعد مئذنة محلته وأذّن فظنّت المرأة أن الفجر قد طلع. فقالت: الحمد لله الذي نجاني منك. فجاء أبو حنيفة رحمه الله إلى الباب وقال قد برت يمينك وأنا الذي أذنت أذان بلال رضي الله عنه في نصف الليل). ولا يسعنا أن نشك في أن الصيغة الأولى لهذه تاريخية والأخرى

ص: 33

خيالية. والمغزى أن أبا حنيفة كان فقهياً عملياً كثير الحيل حتى أن الجيل الذي تلاه بالغ في وصفه بتلك الصفة التي لابد أن تكون بدت له من خصائص أبي حنيفة الشخصية بالحكايات الموضوعة: ومن الغريب أن نلاحظ أنه في زمن متأخر صار أبو يوسف هو الذي اشتهر عند القصاص بأنه مثال الفقيه المبتكر للحيل العملية

والشيباني أحرى من أصحابه بأن يشغل بين الحنفية مكاناً يشبه المكان الذي يشغله مالك بين المالكية. ومن سوء الحظ أنه ليس بين أيدي الجمهور إلى الآن من كافة كتب الشيباني إلا موجزان وهما كتاب الجامع الصغير المطبوع في بولاق وكتاب المخارج في الحيل السالف الذكر الذي نشرناه نحن (وطبعات مؤلفين من مؤلفاته الأخرى طبعت في الهند نادرة جداً فهي كأنها غير موجودة) وليس كتاب المخارج في الحيل إلا في موضوع محدود، وبناء الجامع الصغير على مسائل منفردة - وهو ترتيب تطرف فيه الشيباني في هذا الكتاب تسهيلا للحفظ - لا يسمح لنا باستخراج المبادئ التي تقوم عليها الأحكام إلا من طريق الاستنتاج غير المؤمن. ومؤلفات الشيباني الرئيسية موجودة مع ذلك في مخطوطات قديمة صحيحة موجود منها قسم عظيم جداً في مكاتب استانبول. أتيح لي أنا شخصياً أن أنشر في مؤلف ذي ثلاث أجزاء فهرستاً لتلك المخطوطات ولغيرها تهم مؤرخي الفقه، وتسمح هذه الفهارس لمن أراد، أن يطلع عليها بسهولة ويتولى طبعها. والحاجة قبل كل شيء إلى تعريف كتاب الأصل الذي هو أوسع مؤلفات الشيباني وكتاب الجامع الكبير. ومع كل منهما يوجد عدد كبير من شروح وتلخيصات وحواش الخ تسهل دراستهما. ويكاد لا يقل عن هذين الكتابين أهمية كتاب الزيادات وقد شرح أيضاً مراراً كثيرة، وكتاب زيادة الزيادات، يدل عنوانهما على غرضهما أي إتمام ما في المؤلفين الكبيرين، ثم كتاب الآثار، ثم كتاب الحجج. وهذا الكتاب، ومعه مسانيد أبي حنيفة التي لا يزال أقدم رواياتها غير مطبوعة أيضاً، يعلمنا الأساس السني لا للمذهب الحنفي فحسب، بل للمذهب العراقي في العصر السابق له أيضاً. وكتاب الحجج هو أول مثال لما ألف في اختلاف المذاهب، وصاحبه يعنى بوجه خاص بأنواع الخلافيات بين أهل الكوفة وأهل المدينة، فأنه يسمي الحنفية والمالكية على هذا النحو. ولكي نقدر أصول المذهب الحنفي حق القدر ينبغي أن نطلع على نصوص هذه الكتب بعينها. ذلك أن مذاهب الفقه المختلفة لا تميزها مبادئ

ص: 34

أحكامها فحسب بل تميزها أيضاً قائمة المسائل التي تدرس في كل واحد منها، مع طبيعة هذه المسائل. ففي باب الغصب مثلا يتناول مالك بالبحث قبل كل شيء الحالات التي يكون فيها الشيء المغضوب مثلياً، فيحمله هذا على الميل إلى مصلحة الغاصب حتى لا يكون عليه إلا أن يعوض من الشيء المغضوب كمية مماثلة. أما الشافعي فعلى النقيض من ذلك يعنى بالحالات التي يُدخِل فيها الغاضب تعديلا على الشيء المغضوب، فيميل بذلك إلى تحميله التبعة عن كل ضرر قد ينشأ عن ذلك التعديل بحيث يصبح موقعه عند الشافعي أسوأ بكثير مما هو عند مالك. أما مبادئ مذهب الشيباني فنحن عاجزون عن الحكم عليها إلى الآن لانتفاء النصوص. وطبع هذه النصوص لازم أيضاً باعتبار أنها المبدأ للبحث عن تطور الأحكام داخل المذهب الحنفي، والقاعدة العامة هي أن المسائل التي قررتها الكتب السابقة تنضم صراحة أو على الأقل إضماراً إلى الكتب اللاحقة التي تكون من جنسها، فالمسائل التي ترد في كتاب لأول مرة تمثل على وجه الإجمال النتائج التي استحدثتها المباحثات وتطور الأقوال بين هذا الكتاب والكتب التي سبقته. وهذه الطريقة التي تنطبق بطبيعة الحال على كافة المذاهب الفقهية ستسمح لنا بأن نتبع عن كثب تاريخ أحكامها وأقوالها

ونحن إلى الآن لم نذكر المذهب الحنبلي. وكثير من الفقهاء المسلمين وفي جملتهم ابن جرير الطبري قد آخذوا أحمد بن حنبل الذي يعتبره الجمهور مؤسساً لهذا المذهب بأنه محدث فقط وليس بفقيه، ولم يكن من الميسور لنا إلى الآن أن نقرر ألهذا الرأي ما يبرره أم لا. ولكن كتاب المسائل الموجود منه ثلاث روايات لم يطبع منها إلا واحدة طبعة خاصة يصعب الحصول عليها - أقول إن كتاب المسائل هذا الذي يشتمل على أجوبة الإمام أحمد بن حنبل على المسائل التي وجهت إليه في كافة أبواب الفقه كما يشتمل كتاب المدونة الكبرى على أجوبة مالك ابن أنس يسمح لنا بأن نؤكد أن الإمام أحمد نفسه أراد أن يكون فقهياً لأنه كان يعلم مذهباً فقهياً مفصلا لا يقتصر على شرح الأحاديث. ولهذا ينبغي ألا نعتبر مجموع أحاديثه الكبير المشهور بالمسند كأنه مؤلف قائم بذاته فحسب، بل نعتبره أيضاً كتاباً يضع الإمام أحمد فيه الأساس لمذهبه الفقهي. ولا يعني هذا أنه أسس المذهب السني السلفي في الفقه بنفس المعنى الذي أسس الشافعي مذهبه على مقتضاه، لأننا نجد قبله

ص: 35

وبعده فقهاء عديدين ذوي صبغة سنية سلفية، ومذهبهم مستقل عن مذهب الإمام أحمد. ويلوح مع ذلك أن دائرة تلاميذه بمذهبهم كانت الوحيدة التي بقيت من تلك الطريقة السنية السلفية المصبوغة بالأخذ بالأحاديث قبل كل شيء في الشرع الإسلامي

وإني لأختتم هذه المحاضرة الثانية متمنياً أن تنشر الكتب الحنفية العظيمة الشأن التي أسلفنا الإشارة إليها أقرب ما يمكن، فأن هذا الميدان ميدان خصب للتعاون بين العلماء الشرقيين والأوربيين، ذلك التعاون الذي ألمعت إليه في بدء حديثي الأول، فأن فقهاء اليوم باشتراكهم في تحقيق هذا الغرض سوف يعودون بفضل إحياء ماضي علمهم كما قد فعلوا بطبع كتاب الأم للإمام الشافعي

يوسف شخت

ص: 36

‌بين شكسبير وابن الرومي

للأستاذ عبد الرحمن شكري

ليست هذه المقالة موازنة بين شاعرين، وإنما هي صلة بين قصيدتين لتقارب موضوعهما، وأعني قصيدة رثاء مارك أنطونيوس ليوليوس قيصر، وحث الجمهور على الأخذ بثأره، وقصيدة ابن الرومي في رثاء أهل البصرة عندما دخلها صاحب الزنج وفتك بأهلها وسبى نساءهم ومثل بهم أشنع تمثيل، وفي هذه القصيدة يحث ابن الرومي جمهور المسلمين عامة وأصحاب الشأن في الدولة العباسية تعريضاً على الأخذ بثأر أهل البصرة والنفير لقتال صاحب الزنج، وتقاربت القصيدتان في نظري أيضاً لمهارة ما أرى فيهما من الأسلوب الخطابي والقدرة على السيطرة على الجماهير بمختلف الأساليب الخطابية، فينتقل القائل فيهما من باعث للشعور إلى باعث، ومن عاطفة إلى عاطفة، ومن حيلة في إثارة النفوس إلى حيلة أخرى، ومن حجة إلى حجة، ومن ترغيب إلى إرهاب، ومن حنان إلى استفظاع، ومن رقة الذكرى الماضية إلى هول الكارثة، وتقرأ القصيدة منهما فتحس كأنها قطعة موسيقية توقع على مختلف الأوتار والآلات والأصوات لتعبر عن مختلف الأحاسيس، وتمتاز قصيدة شكسبير في أنها أبرع ما قرأت في شعر الغربيين من هذا النوع من التأثير الخطابي، كما تمتاز قصيدة ابن الرومي في أنها أروع ما في اللغة العربية من هذا التأثير الخطابي وأكثره تنويعاً لأساليب التأثير، ولا يقتصر تأثير القصيدة على كثرة وسائل إثارة النفس كما ذكرت، ولكن الشاعر فيها يستخدم تكرار بعض الأساليب والعبارات تكراراً يراد به زيادة التأثير الخطابي، والقصيدة لا تمتاز في ألفاظ أو عبارات منمقة فخمة، ولكنها تشعر القارئ كأنها قيلت ارتجالا أو أن إحساس الشاعر كان أسرع من أن يدع له مجالاً للأغراب في اللفظ والتنميق الصناعي، ففخامتها فخامة الشعور المتدفق، وعندي أن القصيدة خطبة أكثر منها قصيدة تقرأ في دعة وسكون، فيكون أثرها أتم وأعم إذا تخيل القارئ كارثة البصرة وما حل بها، وشارك الشاعر في شعوره وفي رغبته في إثارة أهل بغداد. ثم إذا هو قالها على أسلوب الخطباء متتبعاً اختلاف أساليب الشاعر في إثارة النفس مغيراً من صوته ولهجته في إلقائها حسب تغير تلك الأساليب، فإنه يجد فيها روعة لا مثيل لها في نوعها في اللغة العربية

ص: 37

وقصيدة شكسبير تختلف من أجل أن الخطيب كان مضطراً أن يداهن الذين يريد إثارة الرومان عليهم، فحمدهم على أن سمحوا له برثاء يوليوس قيصر، ونفى عن نفسه العداء لهم كما نفى عن نفسه القدرة تمهيداً لإظهار قدرته، وكي يظن السامعون أن أثر المأساة هو الذي أثارهم لا قدرته الخطابية. ثم جعل يمدح قتلة يوليوس قيصر ومزج مدحه إياهم بالسخر الخفي، ثم ذكر فضل يوليوس قيصر على الرومان وكشف لهم عن جثته وأراهم جروحه الدامية وجعل يستدرجهم من طريق الرحمة والإقرار بفضل المقتول إلى النقمة على القتلة ومجاهرتهم بالعداء والتشنيع، وابن الرومي لم يكن في حاجة إلى مداهنة صاحب الزنج فكان يسميه اللعين من أول الأمر، ويكيل له الهجاء صاعا بعد صاع، ولكن انظر كيف يتدرج من التوجع لما حل بالبصرة إلى وصف دقيق لما أصابها من الزنج، ويبدأ وصفه بدخول الزنج المدينة فيقول:

دخلوها كأنهم قطع اللي

ل إذا راح مدلهم الظلام

ثم يذكر كل ما حدث من قتل وذبح وهتك للأعراض وسبي وإحراق وتخريب وتمثيل حتى يأخذ الفزع بالقارئ مأخذه ثم يلتفت إلى الذكرى فيتذكر رخاء أهلها ونعيمهم وعمار المدينة وبهجتها، ثم يتوجع ويظهر الحياء من خذلانهم، ويذكر الناس بمحاسبة الله ومخاصمة النبي إياهم

ثم يلوح للناس بالعار اللاحق بهم ويحضهم على الأخذ بثأر أهل البصرة. والقصيدة طويلة تقع في أكثر من ثمانين بيتاً، ولما كان أثرها الخطابي يزداد من تراكم قول على قول وإثارة على إثارة لا من بيت القصيد أو من قطع ممتازة. فكل اقتطاف منها لا ينصفها، ولاسيما أن أسلوبها ليس بالأسلوب الذي يقرأ في دعة لديباجته بل يقال جهراً مع تنويع الصوت حسب مرمى الشاعر الخطيب

ويخل لي أن حافظ إبراهيم كان متأثراً بروح هذه القصيدة عندما نظم قصيدته في رثاء قصر الجزيرة وقصيدته في زلزال مسينا

ومن تكرار ابن الرومي المطرب المؤثر ترديده اللهف في قوله:

لهف نفسي عليك أيتها البص

رة لهفاً كمثل لهب الضرام

لهف نفسي عليك يا فرضة البل

دان لهفاً يبقى على الأعوام

ص: 38

لهف نفسي لجمعك المتفاني

لهف نفسي لعزك المستضام

أو ترديدكم في قوله:

كم ضنين بنفسه رام منجى

فتلقوا جبينه بالحسام

كم أخ قد رأى أخاه قتيلا

تَرِبَ الخد بين صرعى كرام

كم رضيع هناك قد فطموه

بشبا السيف قبل حين الفطام

أو ترديد من في قوله:

من رآهن في المساق سبايا

داميات الوجوه للأقدام

من رآهن في المقاسم وسط ال

زنج يقسمن بينهم بالسهام

من رآهن يتخذن إماء

بعد ملك الإماء والخدَّام

أو ترديد أين في قوله:

أين ضوضاء ذلك الخلق فيها

أين أسواقها ذوات الزحام

أين فلك فيها وفلك إليها

منشئات في البحر كالأعلام

أو ترديد أفعال الأمر في أخريات القصيدة، وهذا الترديد ما هو إلا ناحية من نواحي أسلوبها الخطابي ومثل من أمثلته وطريقة من طرقه المؤثرة، والأسلوب الخطابي نفسه ما هو إلا ناحية من نواحي الإجادة الشعرية التي تتعدد وسائلها في القصيدة، وفي القصيدة ناحية تزيد ألمها في النفس وهي إعادة الشاعر عرض فظائع القتل والتخريب والتمثيل بعد أن ينتقل بالقارئ أو السامع في هدوء إلى ذكرى نعيمها الزائل، وبعد أن يهدئ من روعه بعرض مناظر أمنها وسعادتها ودعة أهلها الماضية فكأنه ينكأ القرح بعد أن يضمده، ويضرب القلب بعد أن يربت عليه، ويجذب الأعصاب بعد أن تسكن

عبد الرحمن شكري

ص: 39

‌الإمبراطورية الآسيوية هل تصبح حقيقة تاريخية

بقلم جورج حداد

لقد مرت على القارة الآسيوية قرون ازدهرت فيها إمبراطوريات عديدة، ووحدت قسما غير يسير من هذه القطعة من الأرض، ولا نقتصر في ذكر هذه الإمبراطوريات على ما قام منها في العالم القديم. كإمبراطورية البابليين، والآشوريين، والفرس، وإنما هنالك دول إمبراطورية واسعة نشأت في العصور الوسطى بعد سقوط دولة الرومان وأهمها الإمبراطورية العربية التي سيطرت على آسيا الغربية والوسطى، وامتدت إلى حدود الصين، وهكذا كانت القارة الآسيوية إذ ذاك تحكمها إمبراطوريتان كبيرتان إمبراطورية أبناء ماء السماء (الصين) في الشرق، وإمبراطورية أبناء يعرب في معظم القسم الباقي. انقرضت بعد ذلك إمبراطورية العرب وضعفت إمبراطورية الصين وتغيرت حالها وبدأت العصور الحديثة تحدثنا عن قيام إمبراطورية يابانية كانت قليلة الشأن حتى منتصف القرن الماضي، ومن ثم أخذت تزدهر وتنمو حتى ليخال المطلع على شؤونها أنها ستبني إمبراطورية آسيوية لم يعرف التاريخ لها مثيلاً

إن حكاية تقدم اليابان والحق يقال حكاية عجيبة وأعجب ما فيها تلك السرعة التي قضت فيها على نظامها القديم منذ ثورة 1868 الدستورية، وأنشأت لنفسها قوة حربية في البر والبحر حتى أصبحت تضاهي أعظم دول الأرض، وكذلك يدهشك نجاحها في إنشاء قوة صناعية لا تقل عن قوى أهم دول أوربا وأمريكا الصناعية اليوم. ثم نجاحها في مناوأة جارتيها الكبيرتين الصين والروسيا، واكتساحها قسما من ممتلكاتها. فروسيا القيصرية والصين الإمبراطورية قد عجزتا بين أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر عن صد هجوم اليابان فأعطتها الأولى نصف جزيرة سخالين وبور آرثر، وأعطتها الثانية جزيرة فورموزه مع منحها شبه جزيرة كوريا الاستقلال، وكان استقلال كوريا خطوة نحو استيلاء اليابان عليها. فلم تأت سنة 1910 إلا وكانت حكومة الميكادو صاحبة الأمر فيها، ولم تنته الحرب العالمية وتوقع معاهدة فرساي إلا وكانت اليابان قد وضعت يدها على بعض مستعمرات الألمان السابقة في المحيط الهادي وأصبحت من الدول الكبرى التي يحسب لها حساب في السياسة العالمية وخصوصاً في المحيط الهادي

ص: 40

لم تقف مطامع اليابان في القارة الآسيوية عند حد الاستيلاء على كوريا وبعض الجزر فهي عدا شعورها الوطني المتين وعزتها القومية تشعر بحاجة إلى التوسع، وحالتها تشبه حالة إنكلترا وجميع الدول الصناعية الكبرى. فمساحة جزرها تبلغ تقريباً مساحة الجزر البريطانية، وعدد سكانها يزيد على عدد سكان بلاد الإنكليز، وما تنتجه اليابان من المواد الغذائية لا يكفيها، كما أنه ليس فيها من المواد الأولية ما يكفي حاجات صناعتها. فكوريا هي مركز تصدير الأرز إلى اليابان، ومنشوريا التي كانت من ملحقات الصين منذ ثلاث سنوات غنية بالمعادن، وهذه حوادث السنوات الأخيرة قد أرتنا كيف اهتمت حكومة الميكادو بمنشوريا، وأرسلت جيوشها إليها وتمكنت من فصلها تماماً عن الصين، وإقامة حكومة مستقلة فيها تحت نفوذها، وهكذا أتيح لها أن تسيطر على خمسين مليوناً من النفوس في منشوريا وكوريا، بينهم قسم من رعاياها اليابانيين، والمواصلات سريعة والعلاقات متينة بين هذه الملحقات البرية وجزر اليابان

واليوم هل وقفت مطامع اليابان عند هذا الحد؟ إن حوادث هذه الأيام تجيبنا بالنفي، وماذا يريد اليابانيون إذاً؟ أنهم يريدون انفصال المقاطعات الخمس في شمال الصين عن حكومة نانكين فتقيم حكومة مستقلة كما حصل في منشوريا وتقبل مراقبتهم ونفوذهم، وأخيراً قد تطلب هذه المقاطعات الحكومة الملكية فتقبل حكم إمبراطور منشوريا الحالي الذي كان إمبراطور الصين كلها في عام 1911. عندئذ يتم تشكيل إمبراطورية كبرى من منشوريا والمقاطعات الخمس يبلغ عدد سكانها 120 مليوناً من النفوس، وتحميها الدولة اليابانية، وبعد مدة قد يذكر إمبراطور منشوريا حكومة نانكين الجمهورية بأن الصين كانت موحدة في العصور السابقة فيزحف بجيوش منظمة تعضدها حكومة اليابان على نانكين، فيتم وضع أيدي اليابان على بلاد الصين كلها، ولا يغربن عن الذهن أن الصين كانت قديماً تحكم تركستان الصينية والتيبت وتحمي عدا منشوريا وكوريا ومنغوليا الهند الصينية أيضاً، فهل تفكر اليابان في ضم هذه كلها إلى إمبراطوريتها الواسعة؟ إنها بدون أن تضم هذه المقاطعات تكون بعد أن يتم استيلاؤها على ما يعرف بالصين الأصلية قد حكمت إمبراطورية يزيد عدد سكانها عن ربع سكان العالم، وتكون إمبراطوريتها في قارة واحدة غير مجزأة منتشرة أقسامها في جميع القارات كالإمبراطورية البريطانية

ص: 41

إن سياسة اليابان سوف لا تتغير. فقد أرادت منذ 1915 أن تفرض حمايتها الاقتصادية والسياسية على الصين، ولكنها فشلت. إلا أنها واصلت جهودها فتوصلت في السنوات الثلاث الأخيرة إلى نتيجة باهرة، وقد تتوصل إلى أكثر من ذلك بعد بضعة شهور. إن ما طلبه زعماء المقاطعات الخمس في شمالي الصين هو تشكيل هيئة تسمى المجلس السياسي الشمالي للجمهورية الصينية له استقلاله الإداري ويشبه مجلس منغوليا المستقل، ويكاد يتم انفصال هذه المقاطعات عن الصين وعلى هذا المبدأ، ولكن تحت سيطرة حكومة طوكيو اليابانية. ومهما يكن فإن اليابان مستعدة أن تبذل جهوداً جبارة لتحقيق برنامجها في الصين. غير أن الولايات المتحدة ذات قوات كبرى في المحيط الهادي وجيوش روسيا السوفيتية بالمرصاد على نهر الآمور وأسطولها رابض شرقي فلاديفستك

هذا وقد لوحظ مؤخراً شيء من التطور في العلاقات بين بريطانيا العظمى وروسيا نظراً لمصالحهما المشتركة في الشرق الأقصى، وهذا التقارب بين الدولتين الكبيرتين يعد من أشد الحوادث بروزاً في السياسة الدولية. فاليوم قد تبدلت الحال بين الدولتين وزال ذلك التنافر في مصالحهما إن كان في جهات بحر البلطيق أو في جنوب شرقي أوربا، وفي الشرق الأدنى والهند والشرق الأقصى. فقد كادت مطامح روسيا القيصرية في الماضي تؤدي إلى الحرب مع إنكلترا نظراً لاحتكاك مصالحهما أكثر من مرة في تركيا وفارس وأفغانستان وعلى حدود الهند، ولكن الخطر الألماني الذي يهدد الدولتين هو الذي أجبرهما على تناسي العداوة وحملهما قبل الحرب الكبرى على الاتفاق سوياً ضد حكومة برلين. وعادت العلاقات بعد الحرب الكبرى فساءت بين الدولتين لأن خطر الشيوعية الآتي من موسكو هال بريطانيا العظمى، ولأنه كان من رأي روسيا إعادة النظر في معاهدات 1919، غير أن روسيا تحققت بأن قلب تلك المعاهدات لا يأتي إلا بعد حرب لا تعلم إذا كانت تسفر عن نتائج أحسن من نتائج الحرب الماضية. فهي اليوم تريد السلم وهذا ما تريده إنكلترا أيضا. وقد أصبحت مدفوعة بسياسة اليابان الهجومية إلى التفتيش عن صداقة دول ذات مصالح في الشرق الأقصى. والتعاون بين بريطانيا العظمى وروسيا يفي بمصالح الدولتين خصوصاً لأن تلك المصالح لا تصطدم اليوم على طول الخط الممتد من البلطيق إلى الشرق الأقصى. فقد انقضى عهد مطامح القياصرة في القسطنطينية وأجزاء الدولة

ص: 42

العثمانية وزال النزاع بين إنكلترا وروسيا في خليج فارس وأفغانستان. وليس لروسيا مطامح في الهند اليوم لأنه ليس لها أسواق تجارية فيها إن كان في الصادر أو في الوارد، وكذلك ليس لها رؤوس أموال تثمرها هناك. والروسيا تهتم بإنهاض قواها في الداخل قبل كل شيء ولذلك تحتاج إلى السلم. وأما في الشرق الأقصى فإنها تريد ضمان وحدة الصين، وسياستها هناك تشبه سياسة إنكلترا في الدولة العثمانية في القرن الماضي. فهي تنظر بعين الحسد - كما تنظر إنكلترا أيضاً - إلى توسع اليابان على حساب الصين

إن وزارة الخارجية الإنكليزية اليوم تريد أن تعوض عن خطيئتها قي سياستها نحو الروسيا منذ عشر سنوات. فالخطر الياباني الذي لم تشأ حكومات إنكلترا السابقة أن تراه والخوف الذي يهدد مستعمرات إنكلترا لم يعد مجرد خرافة. إن اليابان اليوم تتسلط على ثلث الإمبراطورية الصينية السابقة وعما قريب ستبدأ الحرب الحقيقية بين إنكلترا واليابان في آسيا الوسطى حيث تدافع اليابان عن استقلال الأمة الصينية وتطالب إنكلترا بإعطاء الصين ما أخذته منها. وسوف لا تقف عند هذا الحد، بل ربما وضعت أساساً لسياستها هذه العبارة التي بدأ رجال السياسة في اليابان يرددونها وهي (آسيا للأسيويين) كما وضع الرئيس منرو منذ أكثر من قرن خلا مبدأ لسياسة حكومة الولايات المتحدة (أمريكا للأمريكيين) واليابانيون ماضون في تنفيذ برنامجهم وعندما يصبحون على أبواب (كاشغار) في تركستان الصينية، لا يصعب عليهم الهجوم على الهند

ومن المحقق أن إنكلترا لا تقف مكتوفة اليدين أمام هذه الأخطار، فهي تقوم بتحصين سنغافورة، وستدفع ثمن ذلك باهظاً - نحو 30 مليون جنيه. غير أن هذه القاعدة الحربية ليست كافية أمام أمة تستعد لفتح آسيا كلها. وإنكلترا وحدها لا يمكنها الوقوف في وجه هذا الخطر الأصفر، وهي لذلك تسعى للحصول على مساعدة الدول الأخرى، ويظهر أنه لابد للوقوف في وجه الخطر الياباني من اتفاق بين الدول الأربع: الروسيا وإنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة. ويقول أحد الصحفيين الروس بهذه المناسبة إن نظام الضمانات المشتركة لأجل السلام لا يجب أن يكون كمظلة يمكن وضعها في مخزن الحبوب لكي تأكلها الفيران ثم إخراجها لاستعمالها ضد حرارة الشمس، لأن هذه المظلة متى ما أكلت قماشها الفيران لا يمكن استعمالها للوقاية من حرارة الشمس. والصحفي يؤكد أن روسيا

ص: 43

مستعدة للتضحية في سبيل توطيد السلم ولتأييد الدول في نزاعها ضد الذين وضعوا مبدأ لهم سياسة الهجوم. وهكذا فإن أساس الاتفاق موجود بين إنكلترا وروسيا. وسيظهر التاريخ إلى أين تؤدي سياسة التوسع الياباني وفي أي مرحلة من سيرها نحو بناء إمبراطوريتها الآسيوية ستقفها دول أوربا وأمريكا

(حلب)

جورج حداد

ص: 44

‌على شواطئ الآستانة

ساعة في متحف (طوب قبو)

للأستاذ كمال إبراهيم

وقصدت إلى دار السلطان، ومنازل الخلائف من آل عثمان، وقد أصبحت بما فيها متحف الزائر، ومُجتلَى الناظر، ومطاف المتفرج، بعدما كانت تطاول السماء في رفعتها، وتُصاول العُصم في منعتها، وكانت في حمّى كبطون القلاع، ومن يحم حولها يوشك أن يقع في شراك الموت

أجل، وكانت هذه المغاني التي نطيف بها اليوم، تفيض بالنعيم، وتختال في جلال الملك، وتزدهي بأبهة السلطان، وكان الزمان قد بسم لها بسمة الإقبال، ثم أغفى عنها حيناً، ولكنها إغفاءة اليقظان، فما لبث حتى بعدها حتى اهتاجت هوائجه، وانباجت بالشر بوائجه، فأحال حالها، وأهلك أهلها، وأباد سلطانها، وتركها عبرة للمعتبر، وعظةً للناظر:

ثم انقضت تلك السنون وأهلها

فكأنها وكأنهم أحلام

وكانت كجنة الخلد، موشيَّة الأديم، رفّافة النسيم، دانية الظلال، زهراء ناضرة، وعرائس القصر في مقاصيرهن، يصورن مباهج الحياة، وإشراق السعادة، وفتنة الوجود، فإذا ما خطرن في مطاف وشبهن، وسرن متثاقلات بحَلْيهن وحُللهن، خلت السعادة حيث كُنَّ، تقيم إذا أقمن، وترحل حيث يرحلن

من الهيف لو أن الخلاخل صُيرت

لها وُشُحاً جالت عليها الخلاخل

مها الوحش إلا أن هاتا أوانسُ

قنا الخط، إلا أن تلك ذوابل

وجنبات القصر موّاجة بالحشم والعبيد، والأبواب قائمة بالحجاب، والجميع ناكسة أبصارهم، عانية رقابهم، لعزة الملك، ورب الصولجان، وظل الله على الأرض. .

واليوم، واهاً لها اليوم، قد أقفرت من ذويها، وثكلت ساكنيها، وأصبحت خبراً يروى، وكتاباً يقرأ ويطوى

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

دخلت إلى تلك القصور المعروفة بـ (طوب قبو) وقد باتت متحف المتفرجين، وملهى الزائرين، يرودون الأبصار في آثار السلطنة الماضية، ويطوفون بين الأركان الباقية،

ص: 45

ويتقلبون فيما خلفه الخلفاء، من عروض ومتاع، وحلل ونفائس، يقابل الداخل عن شماله، غرفة السلطان تصاقبها أخرى لمجلس وزرائه، وقد أبقيتا على ما كانتا عليه، وفي أعلى المجلس روشنٌ أعدّ لجلالته، يُشرف منه على جلساته، فإذا خرجت منه أفضى بك الطريق إلى قصور متفرقة جعل في كل منها صنف من العروض والأثاث، واللباس والحلل، والحلي والشارات، مما كان في بيوت السلاطين، وقد نسقت في معارضها أبدع تنسيق، ونمقتها يد الفن أجمل تنميق، وما هي غير نفائس العصور، وتحف الحياة ومعجزات الصناعة، وبواكير البراعة، التي أنفق حذقة الصناع فيها حياتهم، وحبسوا في نمنمتها جهودهم وأوقاتهم، فجاءت تخطف الأبصار بروائها، وتذهل الألباب بأناقتها وزخرفها. .

ينتهي الطائف بعد هذا إلى بيوت السلاطين، وقد أبقى كل منها على ما كان عليه في عهد من عاش فيه، وهي متصلة متداخلة، يفضي بك بعضها إلى بعض، ويسلمك منها مجاز إلى مجاز، حتى تضلك السبل، وتنفذ معك الحيل في تعرج الموالج والمخارج، ولولا دليل معنا خرِّيت لعمي علينا القصد، وأنفقنا الزمن في أخذ ورد

سرت في هذه القصور، وصور الماضين تمر من أمامي صامتة ناطقة، فصرت أقيم في كل ركن مشهداً، ومن كل حجر معبداً، وفي كل لوح منظراً مخلداً، حتى توزعتني الصور والرسوم، وغشيتني الأشباح والطيوف؛ وازدحمت في خاطري الأخيلة والذكريات؛ هاهي ذي الآثار الصامتات قد انتصبت لناظري حزينة تتوارى كأشباح الموتى، وهذه قواعد البيت كأنها بعض قواعد الأهرام، تفيض بعبر الدهر، وتنطق بغوائل الزمن وفجاءات القدر كل يوم، ومن يدري ما تخبئ لها الأيام بعد حين، وقد أصبحت بين عشية وضحاها كما تراها

عمرت للسرور دهرا فصارت

للتعزي رباعهم والتأسي

فلها أن أعينها بدموع

موقفات على الصبابة حبس

ذاك مني وليست الدار داري

في اقتراب منهم ولا الجنس جنسي

أجل سرت في تلك القصور، وكأني بمواكب السلاطين الحافلة، غادية راحة في أيام الجمع والأعياد، وكأني بخليفة المسلمين قد خرج من قصره، في طلعة الخلافة، وأبهة الملك محفوفا ببطانته، مزفوفا من رعيته، تستره عن الناظرين، صفوف الحجاب، وهياكل

ص: 46

الحرس، وقامات الشرطة بملابسهم المفوفة، وأوسمتهم المزخرفة، ومن ورائهم جماهير الشعب المحتشدة على طواري الدرب الكبير متدافعة، وقد استطالت الأعناق إلى اجتلاء تلك الطلعة المباركة، وأنفاس المصلين تملأ الجامع القديم (أياصوفيا) بالدعوات الصالحات، والكلمات الطيبات والابتهال إليه تعالى، أن يمد في حياة خليفة المسلمين، وينصره على القوم الكافرين

ويصاقب تلك القصور إلى شط البحر، جنة لفّاء، روحاء زهراء، يخترقها درب عريض، قامت على جانبه أشجار فينانة، وارفة غيدانة، مبسوطة الأمليد، ملتفة العساليج، وقد عقدت فروعها من فوقها سماء من الأوراق، تزري بزرقة السماء، حجبت شمسها إلا خيوطاً منها، فكانت كما قالت بنت زياد في وصف واد:

حللنا دوحه فحنا علينا

حنو المرضعات على الفطيم

تصد الشمس أنّى واجهَتنا

فتتحجبها وتأذن للنسيم

وذكرت حين سرت هناك غريب اللسان، قول أبي الطيب في شعب بوان:

ولكن الفتى العربي فيها

غريب الوجه واليد واللسان

ملاعب جنة لو سار فيها

سليمان لسار بترجمان

سرت في ذلك الدرب الظليل، ونواسم البحر الندية تجوس خلال أدواحه، وتتقلب بين أزهاره وأوراقه، فعبق شذاها، وطاب رياها، تلامس الوجه، فيتفتح لها الصدر، وتخلص لها الروح، أفضى بي السير إلى مسالك تنشعب من ذلك الدرب، تكتنفها ملاعب وميادين، ودارات ورحب، فإذا أمعن السائر في السير بدا له البحر متسع الأفق، وتزاحمت الآستانة لناظريه متعالية على ضفاف البسفور، وقد احتضنت الماء، وعانقت السماء، فكانت فتنة العالم، وسحر الوجود. فإذا ما بلغ شط البحر، وقد شطت بخياله تلك الصور والذكر، لاح له ذلك التمثال الفخم، وسط رحبة من الأرض، لرجل (تركيا) اليوم، فيعود به هذا المشهد الحديث، إلى الحقيقة بعد خيال، والى الحاضر بعد غياب، والى الساعة التي هو فيها بعد استغراق طويل

كمال إبراهيم

المدرس في دار المعلمين ببغداد

ص: 47

‌الحركة الفكرية في السودان

بقلم حيدر موسى

طريف جداً أن نسمع حديث أبناء العروبة عن الحركات الأدبية في بلاد الشرق المختلفة، وجميل جداً أن تكون (الرسالة) الفيحاء ميداناً رحباً نرى فيه تلك الأقلام القوية تصول وتجول فنعجب بها وتمتلئ نفوسنا بشتى الاحساسات الحلوة التي لا تتعدى حب أبناء الضاد لبعضهم، وقد عزمت حين قرأت تلك المقالات الطلية أن أرفع صوتي الضعيف بين تلك الأصوات الداوية العالية وأرسل ضوءاً على الحركة الفكرية في وطني السودان، ليعرف إخواني أبناء أسفل الوادي شيئاً قليلا عن النهضة القلمية في أعلى الوادي، فلعل حديثي يقع في نفوسهم الكريمة موقعاً حسناً ولعله لا يكون ممجوجاً

إن أدب السودان يسير وراء الأدب المصري ويتبعه خطوة خطوة، نظراً للجوار ولتشابه الأخلاق والعادات وغير ذلك من الأوصاف التي فرغ رجال التاريخ من سردها ووفقوا في ذلك توفيقاً عظيما. ولذلك أود ألا أكرر لأن التكرار تمجه الأذواق السليمة

أجل إننا نسير وراءكم ونحاكيكم كما يحاكي الطفل أخاه الأكبر، لكن سيرنا ببطء وبخطوات متزنة لأننا نخشى الكبوة ولنأمن سوء العاقبة. إن صحفكم على اختلاف أنواعها ومذاهبها مقروءة لدى كل الطبقات في المدن الكبيرة ويطالعها المتعلمون في القرى، وللصحف الأدبية الراقية التي تبعث بها إلينا مطابعكم المحل الأول، فترى الشبان كانوا يتأبطون (السياسة الأسبوعية) في إبان حياتها، وعندما اختفت وظهرت (الرسالة) وسدت الثغرة تهافتوا عليها وخطبوا ودهاً فإذا أنت تراها بأيديهم في النوادي والمجالس والمنازل ثم في عربات الترام أيضاً حتى صارت قراءتها محتمة على كل أديب ومتأدب، وسل الأستاذ الزيات يحدثك بالأرقام عن مبلغ ذلك الذيوع والانتشار الواسع الذي قل أن تحظى به غير الرسالة، وصدقوني يا أحبائي القراء فلست أقول هذا القول تقرباً من الأستاذ. بل أقول الحق كأي رجل حر

الشباب السوداني متطلع دائماً إلى العلياء، وخصص جهده ووقته - في الوقت الحاضر - للإلمام بمختلف الآداب والفنون، وللموظفين وهم خيرة المتعلمين النصيب الأوفر في هذا الميدان رغم ضيق وقتهم وقلة مالهم، فترى النوادي بها جمعيات أدبية تقوم بتنظيم

ص: 49

المحاضرات والمناظرات جهد المستطاع، حتى النوادي الرياضية لم تهمل الأدب بجانب اشتغالها بترقية الروح الرياضية. كذلك تعنى النوادي المختلفة بإقامة حفلات تمثيلية تعرض فيها الروايات العربية والمصرية، ويسرني كل السرور أن القصة السودانية قد صار لها شأن في عالم التمثيل السوداني، ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنها اكتسحت أو كادت تكتسح الروايات غير الوطنية، وكل هذه الروايات البلدية موضوعة بالشعر الشعبي المسمى (الدوبيت) وهو كالغناء يقع في نفوس السامعين موقعاً حسناً وبنغمة حلوة تثير الحماسة؛ ودعني أعرفك بأسماء هذه الروايات فمنها (مصرع تاجوج ومحلق) وهي معروفة لدى المصريين، وقد نشر ملخصها في بعض المجلات المصرية ثم رواية (خراب سوبا) ورواية (فتاة المستقبل) ورواية (البتول) وغيرها وقد أعيد تمثيل الروايات كثيراً نظراً للإقبال العظيم الذي قوبلت به من الجمهور المتعطش لكل ما هو سوداني أصيل، وهذا شعور طيب بالقومية يسرني أن أنوه عنه في هذا المقام ليعرف أبناء العروبة أي شعب نبيل في أعلى الوادي، وإن كنا نخجل أن نشيد بأعمالنا وهذه عادتنا ولا سبيل إلى الخلاص منها. فينا الشعراء والأدباء، وفينا المجددون والمحافظون، لكن التجديد غالب، والفضل للشباب الذي هو الحركة والنشاط. أما حركة التأليف فضعيفة لغلاء أجرة المطابع ولعدم وجود ناشرين يتولون إخراج الكتب، ويوجد الآن أدباء وشعراء يملكون كتبا ودواوين شعرية وهم حائرون لا يعرفون كيف يخرجون هذه الآثار الأدبية التي هي فخر للسودان، والحقيقة أن هذه المشكلة مسألة المسائل ويتألم لها الأدباء ولا يدرون لها حلا، ولذلك لا تجد كتاباً قيماً أخرج للآن في السودان لا لعقم في القرائح. كلا: بل للعذر الذي بيناه

أما الصحافة فحدث عنها ولا حرج، فلدينا الآن جريدة حضارة السودان، وجريدة السودان، وتصدران في الأسبوع مرتين، وجريدة النيل اليومية وملحقها الأدبي الأسبوعي، ومجلة الفجر وهي نصف شهرية، كذلك لكلية غردون مجلة خاصة لا تقف فائدتها على الطلاب فحسب، بل لا تخلو من فائدة، ولجمعية الكشافة مجلة أيضاً تتناول أحياناً بعض الموضوعات الأدبية، وقد اختفت بعض المجلات كمجلة النهضة السودانية، ومجلة مرآة السودان نظراً لقلة المال وفداحة أجرة المطابع، وقد كان لاختفائهما أثر سيئ في القلوب، وفي نظري أن صحفنا السودانية لو وجدت الإقبال الذي هي أهل له في البلاد العربية

ص: 50

وخاصة في مصر لما تعثرت ولما اختفت أو شكت من قلة الإقبال والمال، ولأدت خدمات مضاعفة لوطننا الناشئ المحتاج للدعاية الواسعة، ليرتفع صوتنا في الأصقاع البعيدة، وليصير شأن غير شأننا الحاضر

إننا نتسابق في اقتناء الكتب المصرية والصحف المصرية، وقد استفدنا كل الفائدة من ذلك، ففتحت عيوننا، وتذوقنا الأدب، وعرفنا الحياة، أفليس من المستحسن أن تساعدونا بقراءة صحفنا والتعليق على إنتاجنا الأدبي، لتنيروا لنا الطريق بصائب نصحكم وتجاربكم؟ وفي رأيي أن (الرسالة) خير من يقوم بهذه المهمة نظراً لانتشارها العظيم في السودان، ولوجود فطاحل الأساتذة في أسرتها

إننا شرحنا حالنا لأبناء العمومة في مصر أكثر من مرة، وقلنا أننا نعرف كل شيء يجري تحت سماء مصر، ونتألم إن ألمت بها ملمة، ونفرح إذا نالت ما تصبو إليه من رفعة وحرية، وليس غريبا إذن إن طلبنا منهم أن يعاملونا بالمثل. نعم إننا أقل منهم علما وثقافة وبمعونتهم يمكننا أن نسير نحو النور وصوب الثقافة الحقة التي هي أمنية كل سوداني، حتى الجهلاء من المسنين قد بدأوا يتعلمون القراءة وعرفوا فائدتها أخيراً، فتطوع الشباب وانبرى للقيام بهذا الواجب والنتائج تدعو للتفاؤل الشديد

كثر الجدل بين الشباب السوداني عن الأدب القوي الذي دعا إليه الأستاذ الجليل أحمد أمين، فاشتد النقاش بين مؤيد ومعارض ولم تعرف النتيجة بعد

لعل من الطريف أن نذكر أن بعض الصحف السودانية تعارض في نشر القصائد الغزلية على صفحاتها، وحجتها في ذلك غير مقبولة لأن الغزل معروف من قديم الزمان، ولكننا نحاول التوفيق بين آرائها وآرائنا فعسى أن نوفق

هأنا قد تحدثت عن بعض النواحي، فعلى إخواني أدباء السودان أن يتمموا ما بدأت

حيدر موسى

ص: 51

‌صورة من الحياة العلمية في مصر

2 -

تقي الدين السبكي

بقلم محمد طه الحاجري

وفي أثناء هذه الولاية ولد له تقي الدين، وفي هذا البيت الكريم الذي ترفرف عليه روح العلم والورع نشأ نشأة مباركة بين أبيه وعمه الشيخ صدر الدين أحد أفاضل العلماء، يرعيانه ويتوليان أمره. وينشئانه أحسن تنشأة وأكرمها؛ فقد رأيا فيه ملامح النجابة والذكاء والإقبال على العلم والجلد عليه، والانصراف عن اللهو ولذائذ الحياة، ما جعلهما يتنوران من خلاله أنه سيكون إماماً من أئمة العلم ورجلاً من رجال الخلق والفضل. فقد حكى عنه أبنه تاج الدين (أنه كان يخرج من البيت صلاة الصبح فيشتغل على المشايخ إلى أن يعود قريب الظهر، فيجد أهل البيت قد عملوا له فروجا، فيأكل؛ ويعود إلى الاشتغال إلى المغرب؛ فيأكل شيئاً حلوا لطيفاً، ثم يشتغل بالليل؛ وهكذا لا يعرف غير ذلك. . . . . وكأن الله قد أقام والده ووالدته للقيام بأمره، فلا يعرف شيئاً من حال نفسه.)

لقد كانت طفولة عجيبة، تلك الطفولة الجادة العاملة الوقور المنصرفة عن اللهو واللعب ومنازع الصبيان، ولقد عجب أبوه نفسه مرة من هذه الظاهرة، ورأى في انصراف ابنه عن عبث الأطفال، والنيل من لذائذ الطعام أمر لا يتفق مع سنه الصغير فأشار على أمه أن تعطيه درهما أو درهمين عله أن يرى في السوق شيئا يشتهيه فيشتريه، فعقدت له أمه منديلا على نصف درهم، وهو يروح به ويغدو، إلى أن ضاق بحمله، فألقاه إلى أمه، وقال لها ما شأني بهذا، وما أصنع به؟. . .

وإن هذه الأحاديث التي يرويها تاج الدين عن أبيه جديرة بأن تكون صحيحة، وهي ترسم لنا صورة لتقي الدين الطفل، تتسق كل الاتساق مع صورة تقي الدين الرجل الكهل؛ فكأنما كان ثمة روح من عند الله أخذت توجهه منذ مولده إلى غايته المقدورة، وترسم له السبيل إليها، وتحوطه أن ينحرف عنها. ولسنا نشك في أنه ثمرة كريمة مباركة لكل الظروف التي قدمنا ذكرها

وكان الأب ما يفتأ يذهب إلى مصر ليلقي بها قاضي القضاة فكان يستصحب معه ابنه ليزيره معاهد العلم، ويشهده ربوع الفضل، فمرة يزور به مدرسة الحديث الكاملية ويدخل

ص: 52

به على شيخ الإسلام تقي الدين ابن دقيق العيد. ومرة يذهب به إلى ابن بنت الأعز، وأخرى إلى غيره من علماء العصر، وهو فرح به مستبشر، والولد يرى هذا السمت وهذه الهيبة وذلك الوقار وتلك المثل العليا لما انطوت عليه نفسه. فيتوثب قلبه، ويمتلئ صدره بهجة وطموحا

ثم عزم الأب أن يقيمه في القاهرة بين أولئك الأعلام، وفي ذلك الجو العلمي؛ وكان قد تفقه وحفظ كتاب التنبيه؛ ولكنه حين عرض الأمر على ابن دقيق العيد عارض فيه وكأنما استصغر سنه، وأشفق عليه من الغربة. فقال لأبيه: عد به إلى (البر) حتى يصير فاضلاً. فعاد به، وفاته ما كان يحرص عليه أبوه، فيما يظهر، من التتلمذ على شيخ الإسلام والأخذ عنه، والتشيع بمبادئه؛ فأنه لم يعد إلى القاهرة إلا بعد وفاة ابن دقيق العيد أي نحو سنة 702هـ (1302م)

- 2 -

جاء تقي الدين إلى القاهرة ولم يكد يبلغ العشرين من عمره، وهو يتوثب رغبة إلى ارواء غليله العلمي في هذه البيئة العلمية الخالصة التي تتجاوب فيها أصداء العلم المختلفة، وتقوم بها المناظرات بين الآراء المتباينة، وكان بها طائفة من الأئمة الأعلام في مختلف الفنون:

كان بها ابن الرفعة شيخ الشافعية، وإمام الفقهاء، وبه تفقه السبكي

وكان بها في الأصول والمعقولات الإمام النظار علاء الدين الباجي، وكان رجلا واسع الباع في المناظرة، مستقل الرأي في الاستنباط، (لا يفتي في مسألة حتى يقوم عنده الدليل عليها، فإن لم ينهض عنده قال: مذهب الشافعي كذا، والأصح عند الأصحاب كذا، ولا يجزم) كما يقول عنه صاحب طبقات الشافعية؛ وما نشك في أنه كان قوي الأثر في تقي الدين، عظيم اليد على قوته في الجدل، مشجعاً على الاستقلال في الرأي، حتى ليعدون له مسائل كثيرة من فروع الفقه انفرد بالرأي فيها دون إمامه الشافعي وأصحابه وخلفائه؛ وإذا كان مرجع هذا في أول الأمر إلى فطرته السليمة، وبصيرته السديدة، وإدراكه القوي؛ فإن لمثل ذلك الإمام فضل التسديد وتقوية تلك النزعة الفطرية، وحمايتها من عوامل الضعف

وكان بها في فن الحديث العلامة الكبير الحافظ شرف الدين الدمياطي إمام أهل الحديث، وأستاذ الأستاذين في معرفة الأنساب، وكان صديقاً لأبي تقي الدين مكبراً له، فاختص الابن

ص: 53

بأكبر الرعاية، وأقبل تقي الدين على درسه بالمدرسة المنصورية وأكثر من صحبته والملازمة له والأخذ عنه بتلك الحافظة المدهشة التي يقولون عنها: إنه كان ما يكاد يسمع شيئاً حتى يحفظه، ولا يحفظ شيئاً فينساه وإن طال عليه الأمد وبعد به العهد، حتى صار آية في فن الحديث ومعرفة الرجال والجرح والتعديل، ولكنه لم يدرك شرف الدين إلا وهو شيخ هم كبير في عشرة التسعين فكان شديد الحرص على صحبته وملازمته حتى لا يكاد يتركه، ثم لم يلبث شرف الدين أن مات فجأة عقب مفارقته له في 15 ذي القعدة سنة 705، ولم يكن قد أشبع رغبته من فن الحديث بعد، فلازم بعده كبير أهل الفن في عصره، الحافظ سعد الدين الحارثي

وكان بها في علوم العربية أبو حيان الأندلسي وكان عليه طابع المدرسة الأندلسية من الحفظ والتوسع في رواية الشعر واللغة والقراءات، والتبحر في معرفة قواعد النحو ومذاهبه، وأثر من المدرسة المصرية من النظر والمقابلة والمراجعة وروح النقد والتحليل، فتتلمذ تقي الدين له، وقرأ عليه كثيراً من كتب النحو مثل كتاب سيبويه وكتاب ابن عصفور وغيرهما، وكان أبو حيان يمرن تلاميذه على صناعة النظم، فيقترح عليهم عروضاً خاصاً وبحراً معيناً ينظمون عليه، ولتقي الدين قصيدة على حرف الزاي جاءت من هذا السبيل، ولعلها خير ما صنع من الشعر، فلم يكن له في هذا الباب سليقة، وقد غلب عليه المذهب الفكري النقدي، فجاء شعره نازلا ركيكا، وسنعرض شيئاً منه في هذا البحث متى عرضت المناسبة

ثم لا ننسى من شيوخه الذين تركوا فيه أثرا بليغاً، وإن لم يكن من الناحية العلمية المحضة، تاج الدين بن عطاء الله السكندري، وكان من حسن حظه أنه ترك الإسكندرية؛ واستوطن القاهرة، وبقي بها يعظ الناس ويرشدهم، ويحدث تلاميذه ويبصرهم إلى أن مات سنة 709 وكان إمام أهل التصوف، جميل السياق، صافي الأسلوب، ساحر العبارة، فنال في الناس مكانة عالية، ومال إليه تقي الدين وصحبه، وانعقد بينهما حب قوي وعلاقة مؤكدة. وظل أثر الروح الصوفية التي كانت على أخلص ما يكون في ابن عطاء الله ظاهرا قوياً في تلميذه تقي الدين في شتى أدوار حياته، وكثير من أقواله وتصرفاته

وكان من شيوخه كذلك الشيخ تقي الدين ابن الصائغ في القراءات، والشيخ شرف الدين

ص: 54

البغدادي في المنطق والخلاف، والشيخ علم الدين العراقي في التفسير، والشيخ عبد الله الغماري المالكي في الفرائض

وقد رحل إلى الإسكندرية وسمع من رجال الحديث فيها، وكان بها طائفة منهم يرحل إليهم طلاب الحديث مثل أبي الحسن الصواف

وإلى ذلك الحين كان قد نضج وامتلأ وصلب عوده، ورأى فيه شيوخه رجلاً يناظرهم كلا في فنه، فجعلوا يملؤن المجالس بذكره والثناء عليه والإعجاب به، حتى استطار أمره، وامتلأت أندية القاهرة بالحديث عنه. ولم يبق إلا أن يرحل إلى الشام ليسمع من محدثيها فتتم له الغاية في فن الحديث

وكذلك رحل إلى الشام رحلته الأولى في سنة 706 (1306م) وسمع من رجالها أمثال الذهبي والمزي والبرزالي وابن الموازيني وابن مشرف، وعقد بها المجالس للمناظرة، فتجلت هناك عبقريته، وسمت في نظر القوم منزلته، وامتلأ علماؤها إعجاباً به، ومكث بها عاماً يسمع ويناظر، حتى أصبح حديث الناس في الشام كما كان حديثهم في مصر؛ وبذلك أشرف على الغاية في بعد الشهرة وذيوع الصيت

يتبع

محمد طه الجري

ص: 55

‌الطالب.

. .

للشاعر الوجداني أحمد رامي

مشرق كالضحى مع الصبح غاد

في إهاب من الشباب النادي

يطلب العلم من معاهده الغ

رّ ويروي من نجعة الورّاد

طلعت شمسه على الدار فازدا

ن ضحاها باليمن والإسعاد

وعلى ثغره ابتسامة بشر

بعثتها هشاشة في الفؤاد

هو في البيت حبَّة القلب والعي

ن مناط الآمال قصد المراد

فرح الأهل يوم أشرق فيهم

كوكباً لاح في سماء الوادي

شبّ فيهم طفلاً صبيح المحيَّا

كابتسام النّوار في الأعواد

ومشى الطفل في الربوع صبيّاً

يقبس المجد من سنا الأجداد

ثم أضحى فتى يتوق إلى الفه

م ويمضي إلى سبيل الرشاد

مازه فوق سنّه خلة الفط

نة في الرأي والذكا الوقاد

لا تراه إلا يجيل سؤالا

دقّ في كنهه طريق السداد

أو تراه إلا يقول جوابا

يترك الرأي واضح الاعتقاد

نعمة أسبغت عليه من الله

وفضل من السميع الهادي

أيها الطالب الطموح إلى المج

د تقدّم دنياك دار الجهاد

قف أمام الكتاب وأقرا كلام

الله يهدي إلى صلاح العباد

واستملّ الحديث ينطق بالحق

ويدعو إلى كريم الوداد

وتمعن فيما افاض أولو ال

ألباب من حكمة ومن إرشاد

وانظر السابقين في حلبة المج

د وطوّف بكعبة القصّاد

قد عقدنا عليك كل الأماني

منذ نادى البشير بالميلاد

ص: 56

‌صوت المتنبي

مهداة إلى الجامعة المصرية بمناسبة (أسبوع المتنبي) فيها

للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير

من الملأ العُلْوي، من عالم الخلد

أُهِلُّ عليكم بالتحيات والحمد!

تقحّمت حُجب الغيب حتى أتيتكم

لأجزيكم عن بعض إحسانكم عندي

قطعتُ حدودَ (الأين) في متطاولٍ

مِن اللوح يفنى البعدُ فيه من البعد!

كأن الفضاء اللانهائي سائرٌ

على كُرَةٍ لا حد فيها سوى حدي

إذا ما ركضت السير في فلواته

تشابه ما قبلي عليَّ وما بعدي!

إلى أن تجاوزت النجوم جواذباً

إليهنَّ عِطفي، غير أن لسن من قصدي!

يناشدنني - والنُّور ثَمَّ لسانُها -

لأُنشِدها شعري، وأُصفيها ودي

ولو لم تكن (مصرٌ) و (جلَّقٌ) الهوى

و (بغداد) لم أبخل عليها بما عندي

معانِ قضى فيها الشباب مآربي

وسلَّت بها كُبرى العزائم إفرِ لدي

وأمليتُ في الدهر غرَّ قصائدي

فغنى بها الأجيالَ في السهل والنجد

قطعت حدود (الأين) حتى أتيتكم

فمن (لمتى) ما بيننا قام كالسَّدِّ؟

أجل؛ ألف عام حال بيني وبينكم

فلولا سبقتم، أو تأخر بي عهدي!

سعدتُ بلقياكم وفزتم برؤيتي

لو أن يد المقدار ألغته في العدّ!

ألا فتزحزح يا زمان! لشاعر

يريد فلا تقوى الجبال على صدي

أغرك أنَّ الأرض قد شربت دمي؟

وانَّ عيون الشُّهب قد شهدت لحدي؟

رويدك! قد خلدتُ في الشعر محضَهُ

ولم يبق منه للتراب سوى الدُّردي!

فها هو في الأجيال ينساب صافيا

إلى ابنٍ. . إلى ابنٍ. . من أبيه. . من الجد

يزيد على الأيام كالخمر سورةً

لو أنَّ حُميَّا الخمر تَهدى كما يَهدي

أنا الخالد الساري بأعصاب شَعبه

وما شعبُه بالنَّزْر أو ضَرِعِ الخدّ

بني مصر! أنفاس الخلود عليكم!

ونشرُ الخزامى والرياحين والورد!

سبقتم إلى تكريم ذكراي غيركم

وقِدماً سبقتم للمكارم والمجد!

رأيت (بلاد الضاد) عقداً منظما

ولكنَّ (مصراً) فيه واسطةُ العقد

ص: 57

قضيت لمصر بالأمامة بينها

وهل لقضاء شئته أنا من ردّ؟!

ومَن غيركم أهدى إلى (الضاد) شاعراً

(كشوقي) ومنطيقاً كجباركم (سعد)؟

أحبهما؛ لا بل أقدّس فيهما

مشابه من عزمي وأصداَء من وجدي!

أعدتم إلى (الفصحى) الحياة فزحزحت

بأيدكمُ كابوس تُبَّتَ والصُّغْدِ!

هي الضاد لن يذوي على الدهر عودها

وقد خصّها (الذكر) المقدَّس بالخُلد!

ستبدأُ مِن حيث انتهت سائر الُّلغى

خُطاها إلى حدّ يجل عن الحدّ

ولا تعتبوها فهي بعدُ صغيرةٌ

ولم يتنفّس صدرها بعدُ عن نَهد!

على أنّها بالرغم من صُغْر سنها

لناعسة الجفنين ميَّاسة القدّ!

يكاد يصيح الحب بين شفاهها:

(أنا الحب! ما أُخفيه فوق الذي أُبدي!)

(تمنّ يلذ المستهام بمثله

وإن كان لا يغني فتيلا ولا يجدي)

(وغيظ على الأيام كالنار في الحشا

ولكنه غيظ الأسير على القِدّ)

فلو عشتُ في هذا الزمان وأهله

لغيّرتُ من نهجي وضاعفتُ من جُهدي!

وكنت تنكبت الملوك ومدحها

فليسوا بأكفائي وإن نالهم حمدي

(وأتعس خلق الله من زاد همه

وقصّر عما تشتهي النفس في الوُجْد)

يقول أناس إنني قد هجوتكم

فإما أرادوا الشّر أو جهلوا قصدي

ولم أهجُ إلا حالةً غاظني بها

وقوف بني الأحرار بين يدَيْ عبد

ولستُ أُبالي مادحاً لي وهاجيا

فقد رويَتْ نفسي من الصِّيِت والمجد

ولي منهما ما لم يَنله مملَّكٌ

ولا شاعر قبلي ولا شاعر بعدي

ولكنني أصبحت رمزاً لمجدكم

يضمكم روضي ويجمعكم وِرْدي

فمن نالني بالسوء نالكُم به

لذاك، ويعوي ضدَكم مَنْ عوى ضدي

أبى الله إلا أنَّ مجديَ مجدُكم

وإنْ رغم الشاني، ومجدُكم مجدي!

أبوكم أبي يوم التفاخر (يعرب)!

وجدّكم (فرعون) أضحى بكم جدي!!

تألّهَ، و (التاريخ) طفلٌ ومُلكه

تَبَسُّمُ ذاك الطفل نُوغيَ في المهد!!

تُكَلَّلُ بالريحان هاماتُ ضيفه

وتُنضَحُ أَبهاء النِّدام بما وَرْدِ

وقد أعلنت فيها المجامر وَجْدها

فصَّعدن أنفاسا من العود والنِدّ

ص: 58

تقوم عليهم في شفوف رقيقة

جوارٍ كمثل اللؤلؤ النَثر والنّضْد

يطفن عليهم بابنة الكرم حُرةً

وبالنُقْل بعد اللحم والزُبد والشَّهد

فلا غرو في دعوى النبوة مثلُه

وليس له فوق البسيطة من ند!

ويعجبني الجبَّار! إذ هو قوّة

يهيم بها قلبي وأَعبدها جُهدي!

كذا فلتكن فتيان يعرب إنْ تُرِد

حياةً لها ما بين أعدائها الُّلدِّ!

حرام عليكم أن يقوموا وتقعدوا

وأن تهزلوا والقومُ ماضون في الجد

كثيرٌ عليهم بعدُ أن تَقِفُوهُم

بني اللؤم منكم موقف الند للند

فكيف بأن يعلوا عليكم ويضربوا

على العُرب دون العزّ سدًّا على سدّ!

رفعتم شباب النيل أمس لوآءها!

فنفَّسْتمُ كربي وبرَّدتمُ وجدي

وثرتم على الحامي العتيد وصحتمُ:

(نعيش كراماً أو نغيّب في اللحد!)

بنفسي دماءً أهرقت في جهادكم

تحنُّ إلى أسلافها قبل في (أُحد!)

جريرتها أن كُلِّفَتْ حملَ قيدها

وما خُلِقتْ إلا قضاءً على القيد!

أضاء سناها (بالشآم) فروَّعتْ

عِداها ورّدتها إلى خُطّةٍ قَصْد

أرى الحق في الدنيا يُرَدُّ لقاهر

ولم أره يوماً يرد لِمُستْجَدِ!

(فإِن لم تُنلكم نَصْف قوم مودّةً

أنال القنا. والخوف خير من الود)

ولن تبلغ الأعداء من مصر مطمعاً

وقد زأرت فيها اللبوءُ مع الأسْد!

تناهت سلالات الجبابرة الأولى

بنو هيكل الدنيا إلى هيكل فرد

تقوم عليه أمة عربّية

رسالتها هدى الشعوب إلى الرشد

على كاهل الدنيا استقلت بموطنٍ

من (المغرب الأقصى) إلى (الشطّ) ممتد

إذا هتفت (مصر) بلحن جهادها

تعالى صداه في (العراق) وفي (نجد)

وخفّ له في (حضرموت) مهلِّلٌ

وجلجل في آفاق (تونس) كالرعد

رأيت (بلاد الضاد) عقداً منظما

ولكنَّ (مصراً) فيه واسطة العقد

قضيت (لمصر) بالإمامة بينها

وما لقضاء شئته أنا من رد!

علي أحمد باكثير

ص: 59

‌خيبة رجاء

إلى الوالد الواجد الأستاذ أحمد حسن الزيات

للأستاذ محمود غنيم

راح كأن لم يوجد

يا ليته لم يولد

ما الْيُتْم فقْد والد

ألْيُتم فقد الولد

يا غرة الفرقد هـ

لاَّ عشت عمر الفرقد

عيد الربيع قد أتى

ما لك لم تعّيد

ما لك لم تبسم له

عن لؤلؤ منضد

ما فعلت نسمته

بخدك المورد

يأيها العصفور قم

بين الطيور غرد

قم املأ البيت نشا

طاً بين لهوٍ وَدَدِ

البيت ما لم تأوه

كالدير أو كالمسجد

أعزز على أبيك أن

تصمت صمت الأبد

ما أبعد الصبر على

فقد الصبي الأملد

صادٍ أصاب مَنهَلاً

لكنه لم يَرد

وإنما أطفال هـ

ذا اليوم أبطال الغد

ويح البنين ويحهم

في الموت أو في المولد

هم عودوا قلبي الأسى

وقبلهم لم أعتد

لسقمهم وموتهم

حزازة في الكبد

تخطفهم يد الردى

ونحن مكتوفو اليد

ليت الذي يسلهم

يسعد بالتجلد

ليت لنا أفئدة

منحوتة من جلمد

كم عاقر بدونهم

يعيش عيش المفرد

ووالد من همهم

يشيب قبل الموعد

أحمد يا خير أب

خطبك خطب البلد

ص: 60

رِيعَ الشَّرى بأسره

إذ مات شبل الأسد

الخطب غير هيّن

والصبر غير مسعد

والشعر غير طيّع

ماذا أقول سيدي

ما لمِصُاب أحمد

غيرُ يراع أحمد

(كوم حماده)

محمود غنيم

ص: 61

‌دراسات أدبية

في الأدب الإيطالي الحديث

بقلم محمد أمين حسونة

- 2 -

البيراندلية الحديثة

ويكاد لويجي بيراندللو يعد ألمع شخصية في الأدب الإيطالي الحديث، كما أنه أعظم كاتب مسرحي في هذا العصر. وهو من الأدباء الذين تأثروا إلى مدى بعيد بنظريات العلامة النفساني سيجموند فرويد، وقد استطاع أن يجسم تضاعيف هذه النظريات في رواياته التي تدور حول رسم وتصوير العواطف الخفية التي تسبح في العقل الباطن، وتظهر الآونة بعد الأخرى على سطح العقل الواعي فتصطدم بالتقاليد والنواميس الطبيعية

على أن أشد ما يؤسف له هو أننا لم نفهم بيراندللو إلا من حيث أنه كاتب مسرحي فقط، أما من وجهة أنه قاص عبقري فلا يزال مجهولا رغم ما أنتجه من القصص الممتازة التي تدل على قوة الملاحظة وخلق الشخصيات الناضجة التي تطابق الواقع وما امتاز به من تحليل الشخصية ورد العناصر إلى أصولها

بيراندللو - في عرف بعض النقدة - رمز للعالم الحديث فهو يشعر شعوراً عميقاً بالزمن الحاضر المضطرب بسبب الحوادث والماديات اللاصقة به. ونحن إذا شاهدنا مسرحياته لنقارنها بقصصه شعرنا باضطراب وعدم استقرار. بل لما وجدنا شيئاً نتعلق به لننجو بأنفسنا، فكأننا في بحر مضطرب ثائر لا يهدأ، وكل بطل من أبطاله ليس الواقع إلا (هملت جديد) لا يعرف معنى للاستقرار. وكلما تعمق في الحياة ازداد اضطرابا، فهو أمام الحياة في حالة ذعر وخوف

وشخصية بيراندللو نفسها تعد مثالا حياً للمضطربين الذين لا ينشدون الراحة إلا في حالة ثورة فكرية، وقد أطلق عليه دانبيل روبس في كتابه ، لقب (البلشفكي العقلي)، أي أنه صاحب مذهب شيوعي متطرف بالنسبة للفكر الإنساني، على أننا لا نقر هذه التسمية الخاطئة، لأن الشيوعية المتطرفة تفكر في إعادة البناء بعد الهدم، على حين أن بيراندللو

ص: 62

يهدم ولا يبني

ويدور فن بيراندللو الروائي حول الشعور بالحياة، ويؤدي إلى فكرة مبهمة عامة، فإذا ما تطورت برزت أمامها عقبات لصدها عن اتخاذ طريقها الطبيعي، وأهم هذه العقبات ما يتعلق بالدين والأخلاق والقوانين، وما يجري للإنسان في حياته العادية أما أدبه فيرتكز على نظريات فلسفية يعبر عنها بلسان أبطاله، وليس الأدب في نظره سوى وسيلة للحياة في الخيال وللفرار من المتاعب المادية. فإذا فكر في موضوع رواية مسرحية أو قصة استسلم إليها وأحس أنه بعيد وسطه الحقيقي ليحلق في الجو المصطنع الذي يبتكره خياله. وهو في هذا يقول:(لا سيادة لنا مطلقا على أفكارنا وعواطفنا ورغباتنا، وأننا لسنا سادة بشخصياتنا، بل إن هذه الشخصية تخضع غالباً لأحكام الكون ولجميع ضروب التأثيرات النفسية. وأنه ليس لنا كيان شخصي معين بل إن شخصيتنا تتبع أعمال الغير، فنحن نلعب الدور الذي تفرضه البيئة ويفرضه المجتمع. وأننا سوف ننتهي إلى حيث لا نعرف)

ويخيل إلى أن بيراندللو يشبه من ناحيته الفلسفية عمر الخيام الذي كان ينادي بالقضاء والقدر، والى أن أساس الكون ومحور نظامه ليس إلا الاضطرار والجبر. فالقدر في نظر كل منهما أزلي والقضاء أعمى، ولسنا سوى آلات في يد الدهر، تحركنا كما تحرك الريح الشجر، فليس لنا من إرادة ولا في وسعنا أن نستقل بآرائنا إنما نحن (رخاخ) في رقعة شطرنج

يعارض النقادة الإيطالي النابه فردريك نارديللي في كتابه المسمى (حياة ومتاعب بيراندللو ، - الرأي القائل بوجوب فصل حياة الفنان الخاصة عن فنه كيما يتسنى الحكم عليه أو في صالحه، فيصف لنا في أمانة وبساطة المصائب التي لاقاها بيراندللو في كافة أدوار حياته وارتباطها بفنه، فقد ولد بيراندللو وشب في جزيرة صقلية، ولذا فمن السهل أن نجد ظل الحياة الصقلية واضحاً عميقاً في رواياته ونجد أيضاً رسم التقاليد والعادات والحياة الاجتماعية الصقلية في عصر النهضة، والإشارة عن طريق خفي في إحدى مسرحياته بما وقع لأمه في بدء شبابها. فقد ظل والده بعد العام الأول من زواجه يعاشر ابنة عمته الأرملة، فحملت منه بما أدى إلى أن يمنحها هبة مالية بمثابة بائنة تساعدها على الزواج في بلد آخر

ص: 63

ففي رواية بيراندللو المسماة اكساء العارين يرسم لنا بطلته وهي أرملة تسمى أرزيليا حاولت أن تحمل الناس على الاعتقاد بأن محاولتها الانتحار كانت بسبب هجر خطيبها، ولكن الواقع أنها هي التي خدعته. وقد حاولت الانتحار لأنها ضبطت في حالة مريبة مع رب الأسرة الذي تعمل مربية لأولاده. وفي خلال ذلك مات الطفل الذي عهد إليها بتربيته تحت تأثير حادث خفي، وقد أنقذت أرزيليا من الانتحار بأعجوبة. فتألب الصحفيون حولها وأخذوا يمطرونها بوابل من الأسئلة، لأن الرأي العام مهتم بمسألتها، ولكن بعد فوات زمن طويل جعل الناس يستوضحونها الأسباب التي حملتها على الانتحار، فلم يسعها أمام إلحاحهم سوى الاعتراف بالحقيقة والبوح بالسر، وعندئذ سقط القناع، وأمام حرج موقفها وتبكيت الضمير عاودت الانتحار وفي هذه المرة نجحت

فتأثير الحادث الذي سمعه بيراندللو وهو في حداثته من أبيه كان لا يزال لاصقاً بذهنه، فلم يجد بدا من أن يصوغه في قالب روائي وأن يخلع عليه طريقته في تأليف مسرحياته واضعاً أشخاصه في حالة إبهام وغموض وتجلد أمام الآلام، مسدلا القناع على وجوههم، ولكن هذا القناع لا يلبث أن يمزقه بعد حين ليعيد إليهم شخصياتهم الحقيقية

أما في روايته (المرحوم ماثياس باسكال) ففيها لأول مرة يعالج الخيال والواقع والحياة والموت والجنون والحكمة، وهي تدور حول تحليل شخصية رجل فقير يدعى ماثياس باسكال هرب من زوجه وحماته لشراسة طبعهما، قاصداً الهجرة إلى أمريكا، غير أنه وقف في طريقه بمونت كارلو ليجرب حظه على مائدة الروليت فاسعفه الحظ وربح أرباحا طائلة، وحدث في اليوم التالي لاختفائه أن وجدت جثة غريق مجهول في النهر فزعم أهل قريته أنها جثة ماثياس ودفن على هذا الزعم وتسربت الحادثة إلى ماثياس عن طريق الصحف وهو في مونت كارلو فقرر أن يعيش مختفيا وأن يتجرد من شخصيته الحقيقية ليعيش متحررا من الروابط الاجتماعية، لكنه بعد أن يتعرى من شخصيته يفقد توازنه بدليل أنه يقول:(إن الشيء الوحيد الذي أؤكده هو أنني كنت أدعى ماثياس باسكال). بل ربما نسى أنه كان يدعي بهذا الاسم!

وكثيراً ما يعيب النقدة على بيراندللو أنه يغرق في الخيال وفي عمق التفكير، ولكن في مؤلفات هذا الكاتب المتدفق الثائر نجد أن فنه سبق الحياة في الكشف عن حقائق ملموسة.

ص: 64

وعلى الرغم من أنه ابتكر شخصية ماثياس باسكال فقد طابق خياله منطق الحقيقة مطابقة تامة إلى حد أن حادث ماثياس باسكال وقع بالفعل في إيطاليا بعد تأليفه هذه الرواية بعشرين عاماً!

وهناك روايته الأخرى الموسومة بعنوان (ايف ولين) وخلاصتها أن شاباً من رجال الأعمال تزوج من فتاة اسمها ايفلين وعاشا عيشة اللهو والحب، ووقع الزوج في عجز وضيق مالي فلجأ إلى التزوير في حسابات عملائه، وقبل أن يفتضح أمره فر من وجه العدالة تاركا امرأته الشابة وطفلا له منها، وعطف عليهما محامي الزوج وآواهما في بيته وأصبحت المرأة في حكم زوجته وأنجبت منه طفلة وقد مر على حياتهما الهادئة المطمئنة أحد عشر عاماً، عاد بعدها الزوج الهارب كأشد ما يكون حباً وهياماً بامرأته. وهنا يظهر لنا ازدواج الشخصية كأوضح ما يكون جلاء، فقد حارت المرأة بين زوجها القديم وزوجها الجديد، وإنها لتذكر حياتها القديمة بما فيها من ألوان زاهية مرحة كلها الهوى والشباب وتقابل بينها وبين الحياة التي تحياها، فطابعها الوقار والرصانة والركود والانصراف إلى الواجبات. وأن لها من زوجها الأول طفلا هو اليوم شابة قوي جميل، ومن زوجها الثاني طفلة تحبها حباً يعادل حبها لولدها الشاب. وكلاهما يمثل ناحية خاصة من حياته بألوانها وصورها المتباينة. وإنها لتحن إلى حياتها الأولى المفعمة بالنشاط والهوى والشباب ولكنها تؤثر حياتها الراهنة بما يحوطها من وقار وإذعان وانصراف عن اللهو إلى الجد الصارم. وهي في حياتها الأولى يدعوها زوجها متحبباً إليها (ايف) وزوجها الثاني متحببا أيضاً (لين). وكل شطرة من هذا الاسم تثير في نفسها صورا ومعاني وألوانا مختلفة لا سبيل إلى التوفيق والملاءمة بينها وتنتهي الرواية بأن ترضى بحياتها الراهنة وأن يذهب ابنها الشاب ليعيش مع أبيه ولكنها مع ذلك لا تزال تحب زوجها الأول وتحن إلى حياتها القديمة وتشتهيها، وإنما هي قنعت بحياتها الراهنة لظروف لا تستطيع أن تتحداها

وقد ظن البعض أن هذه الرواية وليدة الخيال فمن المحال أن يقع في الحياة ما يشابهها، ولكن الحوادث أثبتت أن في الحياة مشكلات لا تقل في غرابتها عن فن بيراندللو، فقد وقعت في بودابست أخيراً حادثة تزوير، ارتكبها شاب يدعى فرادلبير، وفر إلى بلاد أخرى تاركا زوجه وطفلة، فاقترنت المرأة بعد أن يئست من عودة الزوج وأنجبت من زوجها

ص: 65

الجديد طفلا، وقد رجع الزوج الأول بعد مرور أربعة عشر عاما ووصل إلى علمه زواج امرأته! وشغلت القضية أذهان الجمهور زمناً وأصبحت حديث الأندية والمجتمعات إلى أن مثلت مسرحية بيراندللو هناك فظن أكثر الناس أن المؤلف إنما يشير إلى هذه الحادثة بينما هو كتب مسرحياته قبل الحادثة بثمان سنوات!

(يتبع)

محمد أمين حسونة

ص: 66

‌القصص

درامة من اسخيلوس

3 -

محاكمة أُورست

(الدرامة الثالثة من الأورستية)

تتمة

للأستاذ درني خشبة

- 10 -

واهتزت مينرفا فوق عرشها الممرّد، وتوجهت بالقول إلى المحلّفين العدول من الأثينين:

- (أيها الأثينيون! أنتم يا من اجتمعتم للنظر معي في قضية هذا الدم المسفوك لأول مرة في تاريخ الإنسانية! أصغوا وعوا! إن شعب ايجيوس العظيم ليتلفّت قي أقصى الأرض ينظر هل ما يزال هذا البيت الذي أسِّس على التقوى وشيدت دعائمه على العدل، عند حسن ظنهم به، ورجائهم فيه!؟ إن بحسْب الأكروبوليس فخرا أن أقامَتْه الأمازون تقديساً لمجد إيرس الخالد، إذْ كن يقتفين أثر ثيذيوس، فنسين ذَحَلَهن، واطّرحْن إِحَنهُن، لأنه لاذ بهذا الجبل. . . فهل كثير أن تنسوْا أضغانكم، قبل أن تعطوني موثقكم، فلا تميلوا ولا تحيدوا، ولا تعدلوا عن سبيل الحق، حين تعطون أصواتكم، إما لأورست، وإما عليه!! إنكم هنا لا تخشون عنتا ولا ترهبون رهقا، وإنكم لرضيّون مخلصون، وإنكم لتتفجّر قلوبكم حنانا ورحمة! وإني هنا لأبارككم، وأنزل شآبيب رحمتي عليكم، مادمتم خابتين خاشعين، تَصَّدَّعون من خشيتي! وإني أبدا ساهرة عليكم، أوليكم معروفي، وأرزقكم بركتي فأنتم دائماً شعبي، وأنتم آخر الدهر أمتي. هلموا إذن فاكتبوا أصواتكم، ونقوا سرائركم، وبَروا أيمانكم، ألا تميلوا ولا تأثموا. . . وحسبكم ما قدمت لكم!!)

وهوّمت ربات الذعر تهويمةً ثم قالت:

ص: 67

- (على أننا نرجو ألا يحتقرنا الملأ، وألا تعدي وجود في أرضك تدنيساً لها!!)

فينهض أبوللو ويقول: (بيد أنني أحذركن يا ربات، ألا تجعلن نبوءاتي عبثاً، فأن أبي سيد الأولمب يؤيدني فيها جميعا)

- (نبوءاتك عن آثام الفجرة الكفَرة، التي ستلطخ الإنسانية منذ اليوم!!)

- (وأين كنتن يا ربات يوم أن قتل إكسيون أبا زوجته؟ أليس أبي قد اقتص منه بيده؟)

- (اهرف يا أبوللو بما شئت! ولكن ثق أننا لن نبرح هذه الأرض مادمت أنت فيها تحض على القتل، وتحرض على الجريمة وتغوي الناس على الفساد!)

- (ولن تبرح الآلهة، كباراً وصغاراً، تحمي عبادها من شروركن!)

- (كما تحمي عبدك الآن وقد ارتكب أشنع الجرائم، وكما تحمي عبادك دائماً؟)

- (وإذا لم تحم الآلهة عبادها وتدركها بالرحمة وقت الشدة فمتى تصنع هذا؟)

- (ولم يبق إلا أن ترشوا صغيرات الآلهة بقدح من الخمر فيضللن ضلالك، وتنعكس الشرائع!؟)

- (وليتني أستطيع إضلالكن فلا تجرعن البرايا سمومكن!!)

- (هيه!! لقد عيل صبرنا!! ألا متى ننتهي من هذه القضية فنترك لك هذه الأرض بمن فيها!!)

(وحين يفرغان من هذا الحوار يكون المحلفون قد فرغوا من وضع الأوراق التي تشمل أصواتهم في صندوق الاقتراع. . . . . . . . . . . . . .)

ثم تقول مينرفا: (وعلي الآن أن أبدي رأيي حراً بحيث لا يتأثر به أحد منكم!

أنا في صف أورست!! أجل أنا في صف أورست!! أنا مينرفا، التي لم تلدني أم، لا أبالي كثير بأم قتلت لأنها خانت بعلها، وذبحته، وخربت بيتها من معاني الأبوة والأمومة طوبى لك يا أورست! إذا تساوت الأصوات لك وعليك فإن صوتي يرجح حقك، ويؤزر براءتك!! طوبى لك يا أورست!)

فينتشي أورست من رهبة وفرح ويقول، مخاطباً أبوللو (يا إلهي أبوللو! النتيجة يا إلهي!! لي أم عليّ؟!)

وتلحظ ربات الذعر ما ترمقها به الأنظار المستهزئة فتخاطب مينرفا قائلة: (أيتها الربة

ص: 68

مينرفا! أترين إليهم كيف يلمزونني؟!)

فيقول أورست: (إن ساعة خلاصي أو نجاتي تقترب حثيثة!!)

فتقول ربات الذعر: (وإن ساعة إثبات حقوقنا أو تجريدنا منها لتقترب حثيثة أيضاً!

ويهتف أبوللو بمن يفرزون الأصوات قائلاً: رويدكم أيها الفرازون! دققوا جهدكم في فرز الأصوات! وإياكم أن تخطئوا في واحد منها، فرب زلة من أحدكم تقلب الحق زوراً، وترسل البريء إلى سواء الجحيم!!)

ويسر رئيس الفرازين كلاماً إلى مينرفا فيعلوا البشر أسارير وجهها وتقول: (بشراك يا أورست! لقد وضع عنك وزرك واطهرْت من هذا الدم!! الأصوات متساوية لك وعليك، وصوتي يبرئك ويرجح حقك! فالبشرى لك!)

ويستولي على أورست طائف من الذهول، فيسجد بين يدي مينرفا ويقول:

- (مينرفا! إلهة العدالة! تباركت وتقدست! اليوم فقط صرت خليقاً بأن أكون مواطناً من آرجوليس! لقد نشأت في دار غربة، نضوهم وحليف آلام، ولم أكن أفكر إلا في الخلاص من حياتي المرة المترعة بالمتاعب، فتردين لي أنت اعتباري وطمأنينتي وميراثي في عرش آبائي. . . في لحظة عادلة تحت بيتك المكرم!! تقدست وتباركت يا مينرفا! يا ابنَة زيوس سيد الأولمب العظيم! زيوس حارسي الأمين، الساهر على رعاياه من ذروة جبل إيدا! سلام إلى الأبد يا مينرفا المباركة سلام إلى الأبد بين آرجوليس وبين أثينا الخالدة التي تباركينها وتحرسينها؟ لن تكون بينهما حرب ما عشت، فإذا قضيت فلن تكون حرب بينهما كذلك! فإذا حدثت أميراً من أمراء آرجوس نفسه بأن تكون هذه الحرب، فسأنتفض تحت ركامي لأجعل حياته شِقْوةً لا تحتمل، وأروعه بأطياف من الذعر تأخذ عليه سبيله أنى توجه، وتصير أيامه ظلمة، وأضواء الحياة في قلبه وعينيه مرارة وديجورا! هذا موثقي وتلك أقسامي يا ربة العدالة! أما إذا حافظ شعبي على السلام بين بلادينا، فسارفرف عليه بالمحبة وأصلي من أجله في أعماق هيدز! وداعاً يا مينرفا! وداعاً يا حارس أثينا الأمين! زيدي في مجدها وامنحيها البركة والجلود!)

(ويسجد سجدتين ويغادر الأكروبوليس)

- 11 -

ص: 69

أما ربات الذعر فتأخذهن الحنقة، وتضطرم نفوسهن بالغضب وتنقلب كل منهن بركانا يقذف بالحمم؛ ويطفقن يتوعدن ويزمجرن ويتغنين نشيداً من أناشيد الجحيم جرسه رعد، ونغمه شواظ من نحاس يتردد في أفواههن، ويتحشرج في حلوقهن، ثم ينذرن ألا يذرن على أرض مينرفا مسبحاً باسمها ولا دياراً؛ وينهين نشيدهن بالبكاء على مجدهن الضائع، والرثاء لحقهن المغصوب. فتهتف مينرفا بهن:

- (على رسلكن يا ربات! فيم هذا الغضب، وهذه الضجة لِمَهْ؟! لقد رضيتن بي حكما فيما اختلفتن فيه، ولقد أخذ العدل مجراه، وسارت القضية بكل أمانة وكل إحسان. . . ولقد كانت براءة أورست ناصعة بحيث يكون من الظلم لو أننا أخذناه بما أردتن أخذه به. . . فلنفئ جميعاً إلى الحق، فهو دائما أبلج. . . . . . علام هذا النذير يا ربات؟ ما لأثينا الخالدة الآمنة النائمة في رعايتي، القارة في كنفي، وما لهذا الضغن الذي يغلي في قلوبكن؟! قمين بكن ألا تكن حربا على هذا الشعب الذي يسبح باسمي ويولي وجه شطر معبدي، وأنا أضمن لكن محبته، وأضمن لكن إجلاله، وأضمن لكن أن يقيم الهياكل باسمكن، وُيطنّب المعابد لكن. . .

- 12 -

ولكن ربات العذاب تغلو في النذير غلوا لا يليق بالآلهة، وتعود إلى ترديد النشيد الممقوت، نشيد جهنم الذي كله قصف وكله رعد، فترى مينرفا أن تأخذهن هذه المرة بالحزم، إشفاقا منها على أثينا الخالدة أن يصيبها مكر ربات العذاب

- (إذن. . . فأنتن تعرفن أنني وحدي أملك مفاتح زيوس. . . أبي. . . سيد الأولمب! أجل. . . أنا صاحبتها. . . وهي مسخرة لي وحدي، من دون الآلهة أجمعين. . . مفاتح زيوس، مفاتح نقمته. . . نقمته. . . هل سمعتن؟! المفاتح التي إن أردت حركتها فأرسلت عليكن صواعق السماء وشهبها الرواصد! وهنالك، وهنالك فقط، تندمن على ما فرطتن في حقي، وهنالك تلقين السَّلَمَ راغمات يا ربات، وهنالك أيضاً تسلم أثينا من شروركن؛ وتسلم جناتها من قحطكن، وقصورها من خرابكن

هل هذا خير؟ أم خير أن تقاسمنني محبة هذا الشعب البريء فيسبح لكن ويقدم الضحايا

ص: 70

لكن، فتقطفن لأول مرة في حياتكن أول ثمرة شهية من أولياء مخلصين؟!)

- (ويلاه! يا لسوء حظوظنا، ويا لشؤم منقلبنا؛ لقد رضينا بالقسمة الضيزى إذ تقسّم الآلهة الشعائر في أول الأزل، ورضينا بهذا المأوى المظلم الدجوجي في أعماق السفل، ورضينا بسخط الناس ومقت الأرباب لما اضطلعنا به من تعذيب المجرمين وأخذ الآثمين بآثامهم. . . أفما كان بحسبنا كل أولئك حتى تجردنا صغار الآلهة حتى من هذا الحق الهضيم!! ويلاه! أدركنا يا أمنا الأرض! الغوث الغوث يا آلهة الظلمة. . .!)

وتلحظ مينرفا أن تهديدها قد فل من غرب ربات الذعر، فقللن من غلوائهن، وخففن من خيلائهن، فرأت أن تلين معهن، وذلك من حسن سياسة ربة الحكمة:

- (أنا لم أمتهن بحال ربة الأرض، مولاتكن المقدسة، ولم أمتهن كذلك آلهة الظلام، فهم جميعاً أكبر مني سنا، وأكثر تجربة، ولكني والحمد لأبي سيد الأولمب، قد رزقت من الحكمة والحصافة قدراً أتيه به على جميع الآلهة، وأفاخر به كل الأرباب. على أنني أعرض عليكن أن تقمن معي في هذا المعبد المبارك راضيات، تتقبلن صلوات الشعب وأضحياته، على أن توقينه غضبكن، وتجنبنه أرزاءكن، وحسبكن أن تقاسمنني ما هو حق خالص لي)

- (نقاسمك؟! وأي نصيب يخلص لنا في معبدك يا مينرفا؟)

- (نصيب لا يصيبكن فيه غضب من الناس ولا من الآلهة، فلا تأبينه!)

- (أفإن قبلنا غرضك. أفتكون لنا حقوق ثمة؟)

- (حقوق وأي حقوق! لن تكون سعادة في بيت إلا بمشيئتكن!)

- (وهل تضمنين لنا هذا؟)

- بحيث تباركن عبادكن يا ربات، فلا تنزلن بهم رزاياكن؟!)

- (وتؤكدين لنا هذا الحق طوال الأبد؟)

- ولماذا أعد، وأنا في الحالين لن أخسر شيئاً؟)

- (قديرة يا مينرفا! لقد أسكنت غضبنا!)

- (أقمن معي إذن، واكسبن محبة شعبي!)

- (وهل لنا أن نتغنى أناشيدنا هنا؟ (وأنتم تمقتونها يا آلهة؟!))

ص: 71

- (تغنين ما شئتن (إلا أناشيد الجحيم)، تغنين أناشيد الجمال والشمس المشرقة، تغنين أناشيد القمر البازغ والطبيعة المتبرجة، تغنين أناشيد اليمن والإقبال يا ربات! تغنين أناشيد الإسعاد تمزجنها بموسيقى السماء، وإني أباركها جميعا، وقد أتغنى بها معكن!)

- (إذن رضينا بما أشرت يا مينرفا!)

- (وإذن، فإني أعاهدكن على الحق تارة أخرى، وأن نحكم بالعدل بين ذوي الخطايا والأوزار، فكل من تأكد لنا إجرامه، فلكن أن تفتكن به، وتؤاخذنه بما كسبت يداه)

- (ولك إذن ألا نضار أحدا، وألا نمس حقلا ولا غيضة ولا بستاناً بأذى. . . فليكثر الخير! ولتمتلئ الأرض المخضرة قطعاناً؟ ولتمطر السماء منا وسلوى)

- (سجلوا أيها الأثينيون! أيها المحلفون سجلوا! سجلوا يا سادة أثينا، واعلموا أن الشر إذا نزل بأهله فحسب، فهو خير للجميع! واعلموا كذلك أن من الخير ما ينبت من شر محض، وأن لكم أن تأمنوا ربات العذاب مادمتم مخلصين مطهرين. . .

- (لتكن أرضهم منضورة بأفواف الزهر، ولتبعد عنهم رزايا الزمان؛ وليأمنوا غدرات الأيام، وليرفرف عليهم فيءٌ من اليمن، ولتباركهم السماء دائماً!)

- (إذن تمت نعماؤنا يا ربات، فليتم إلى الأبد السلام!)

وتأمر مينرفا فيقام حفل ضخم ينشد فيه الجميع نشيد السلام، ويضمخ المعبد ببخور المسك والعنبر والند؛ ثم ينادي المنادي فيصمت الجميع لحظة، وإذا هرمز الكريم يبدو من عليائه؛ ويهبط قليلا قليلا. . .

ويتقدم إلى ربات الذعر فيقودهن إلى مملكة السفل. . . إلى عالم الظلمات. . . . إلى أعماق الأرض، حيث مقرهن، وحيث مستودعهن!. . . . .

وهكذا تكتفي أثينا شرهن بفضل مينرفا الحازمة. . . وهكذا يقرر القصاص ولو من الآباء. . وهكذا يسود العدل ويعم الإحسان

درني خشبة

ص: 72

‌البريد الأدبي

في ترجمة السخاوي أيضا

نشرت الرسالة في عددها الماضي (العدد 142) كلمة للأديب محمود عساف أبو الشباب يشير فيها إلى نقطة وردت في بحث كنت نشرته في الرسالة منذ أشهر عن الحافظ شمس الدين السخاوي في العددين 103 و104 الصادرين في شهر يونية الماضي

ومن الغريب أن نفس الأديب كان قد نشر نفس الكلمة في الرسالة في العدد 107 الصادر في 22 يولية الماضي، وهو يعيد نشرها الآن بعد عشرة أشهر مع تحوير يسير فيها

أما الملاحظة التي يلح الأديب في إثباتها وتكرارها فهي أني قد ذكرت في الفصل الذي كتبته عن تراث السخاوي أنه ترك ضمن آثاره أثرين هما (تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والبقاع المباركات) و (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) وأن في نسبة هذين الأثرين للسخاوي خطأ محققاً يجب تصحيحه، وأنه أي صاحب الملاحظة، قد درس ترجمة السخاوي وقتلها بحثاً فلم يظفر بين مؤلفاته بذكر لهذين الأثرين

وجوابي على هذه الملاحظة هو أن في نسبة الأثر الأول أي (تحفة الأحباب) للسخاوي شك لم يتسع وقتي لتحقيقه واستجلائه، وفي نسبته لسمي السخاوي الآخر أيضاً شك لا أستطيع القطع معه بصحة هذا النسبة وذلك رغم ما ورد في شأنها في بعض الكتب المتأخرة؛ وهذا الشك في نسبة (تحفة الأحباب) للسخاوي معروف في البيئات التي تعنى بدراسته، بيد أن البحث لم ينته في ذلك إلى رأي حاسم

وأما نسبة الأثر الثاني أعني كتاب (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) إلى الحافظ السخاوي فليس فيها ذرة من الريب. فالسخاوي يذكره في ترجمته لنفسه بين مصنفاته في التاريخ بعنوان (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التواريخ)(راجع الضوء اللامع في مخطوط دار الكتب المصور المجلد الرابع القسم الأول ص75 و76) ويذكر السخاوي أيضاً في نهاية كتابه أنه أتمه بمكة سنة 897هـ؛ وقد طبع هذا الأثر أخيراً فعلى الأديب أن يراجعه ليتحقق

وأما كون السخاوي لم يذكر أثراً معيناً من آثاره في ترجمته، فيكون دليلا على أنه لم يكتبه، فتدليل خاطئ؛ ذلك لأن السخاوي يقف في ترجمة نفسه في الضوء اللامع حتى سنة 897هـ أو أوائل سنة 898هـ أي قبل وفاته بنحو خمسة أعوام، (وقد توفي بمكة سنة

ص: 73

902هـ) وقد كتب السخاوي في تلك الفترة التي تقدمت وفاته عدة كتب ورسائل أخرى لم يشر إليها في الضوء اللامع

وأخيراً أرجو أن يعتقد الكاتب الأديب أن القول الفصل في مثل هذه الدراسات لا يمكن أن يكتفي فيه بالقول المرسل أو الاستناد إلى بعض الروايات الضعيفة، ومازال الأمر فيما يتعلق بالأثر الأول في حاجة إلى استكمال البحث، وهو بحث أرجو أن يتسع وقتي لإجرائه متى توفرت مواده ومصادره الوثيقة

محمد عبد الله عنان

كتاب جديد عن هتلر

صدر أخيراً كتاب جديد عن هير هتلر، وقد صدرت في الأعوام الثلاثة الأخيرة كتب عديدة عن زعيم ألمانيا الجديدة منها ما يرتفع به إلى السماكين كزعيم ومصلح، ومنها ما يصوره زعيما عادياً لم ترفعه إلى مركزه أية عبقرية أو مواهب خاصة، وإنما رفعته إليه ظروف خاصة. ولكن الكتاب الجديد يمتاز بالتمحيص الهادئ والتصوير الدقيق؛ وهو من قلم كاتب وسياسي فرنسي كبير هو مسيو فرانسوا دي تسان وعنوانه:(ها أودلف هتلر) وقد كان مؤلف الكتاب مدى أعوام طويلة وكيلا لوزارة الخارجية، وهو من الكتاب الساسة الذين توفروا على دراسة الشؤون الدولية دراسة عميقة متزنة. وكتابه عن هتلر أكثر من ترجمة لهذا الزعيم، فهو في الواقع تاريخ كامل للحركة الاشتراكية الوطنية في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وفي سائر وجوهها ومناحيها

ويحاول مسيو تسان أن يعرض حديثه عن هتلر وعن الاشتراكية الوطنية عرضاً محايداً مجرداً عن الشهوات والنزعات الخاصة. وهو يحاول حتى في سرد الحوادث الدامية المروعة التي اقترنت بقيام حكم النازي أن يبتعد عن التفاصيل والتعليقات المثيرة، ويكتفي بالإشارة الطائرة إلى كثير من ضروب الاضطهاد والفظائع التي نزلت بالأحزاب المعارضة وباليهود. بيد أنه لا يسعه إلا أن يقدم إلينا ألمانيا على ضوء هذه الحوادث المثيرة مشبعة بروح العصور الوسطى، متشحة بثوب ظاهر من الهمجية، مستندة إلى القوة الغاشمة وحدها في فهم القانون والحق. ويستعرض المؤلف الحوادث المتعاقبة منذ قيام

ص: 74

الحكم الهتلري حتى وفاة هندنبورج واتشاح هتلر بثوب (الزعامة)، ويفصل لنا حادثة إحراق الريخستاج، وحوادث 30 يونية الدامية، ويشرح لنا النظم والأساليب النازية الجديدة التي أدت إلى توحيد ألمانيا وسحق النظم الاتحادية القديمة، وإقامة أمة موثقة العرى في قبضة طاغية هو في نفس الوقت رئيس حكومة ورئيس دولة.

وبين لنا مسيو تسان آثار النظام الجديد في تعبئة الشباب وسحق الآراء الشيوعية، وتحطيم اليهودية، وإخراج اليهود من حظيرة القانون، وإضعاف شوكة الكثلكة، وعلى الجملة في إنشاء (الدولة الشاملة التي تغذيها تخيلات زعيم متصوف، والتي تعتمد على قوة عسكرية تزيد كل يوم، ومازالت وجهة استخدامها في المستقبل لغزاً لحضارتنا وللعالم). كذلك يشرح لنا مسيو تسان آثار الإجراءات الدامية التي اتخذها الزعيم بيديه في 30 يونيه، وكيف أنها وقعت تحت تأثير (الريخسفر)(الجيش) وسحقت نفوذ ذوي الأقمصة السمراء، واستبعدت من الحركة عناصر المغامرين، ووضعت حداً لمنافسة فرق الهجوم للجيش؛ وكيف انتهى تعاون الريخسفر مع هتلر إلى إلغاء النصوص العسكرية في معاهدة الصلح، وإقامة جيش ألماني جديد قوامه ستمائة ألف

ولم يكن ميسوراً أن تقع هذه الانقلابات الشاملة دون تعبئة الرأي العام وتوجيهه، ومن ثم فقد لجأت الحركة النازية إلى أشد أساليب الدعوة، واتخذت الفكرة الجنسية والجرمانية أساساً لدعوتها، ونظمت هذه الدعوة بشتى الوسائل، بالمسرح والسينما والراديو والكتابة. كذلك حشدت الجامعات والمدارس والحركة التعليمية كلها لتأييد المبادئ النازية، وأنشئ معهد لصوغ التاريخ القومي طبقاً للنظريات النازية، وأضحت الحركة الفكرية كلها أداة نافذة في يد النظام الجديد تهيئ بها النشء والشباب للخضوع المطبق

ويشرح لنا المؤلف أدوار الحركة التي نظمت لسحق اليهودية منذ بدايتها وكيف أنها انتهت إلى وضع اليهودية من الوجهة الاجتماعية والاقتصادية في نوع من العزلة المطبقة التي تشبه نظام (الجيتو) في العصور الوسطى

ويتناول المؤلف تطورات السياسة الألمانية الجديدة في هذه الفترة وموقف ألمانيا من المعاهدات ومشاريعه السلام، ودعاواها في المستعمرات، وكل ما يتعلق بهذه الشؤون، وما أحرزته في هذا الميدان من النتائج

ص: 75

وقد كتب الكتاب بأسلوب قوي متزن تطبعه نزعة السياسي الهادئ والمؤرخ المحقق

المباراة الصحفية الأدبية

بيان من إدارة المطبوعات

إلحاقا بمشروع حضرة صاحب الدولة علي ماهر باشا الخاص بالمباراة الصحفية الأدبية تتشرف إدارة المطبوعات بأن تذيع على حضرات الصحفيين والكاتبين بأن اختيار دولته قد وقع على حضرات أصحاب الفضيلة والمعالي والسعادة الآتية أسماؤهم بعد رؤساء اللجان التحكيم كل في الموضوع الذي يخصه وترك لكل من حضراتهم حرية اختيار زملائه أعضاء لجنته، وستذيع الإدارة قريباً أسماء الجميع كما أنها ستذيع ما قد يتراءى لهذه اللجان من توجيهات وإرشادات وقواعد وأسس

وقد تفضل دولة الوزير فأمر بامتداد مدة تقديم الموضوعات إلى أمد نهايته 10 أبريل سنة 1936 في غير تحديد لحجم ما يكتب وفي مطلق الحرية للكاتب فيما يريد إبداءه من آراء ومقترحات وأن التفضيل يكون للرسالة العملية النتائج، وليس ثمت من حاجة إلى التطويل فيما هو ظاهر جليّ، وأن العبرة كل العبرة في حسن التصوير ودقته، والإلمام الصحيح بشتى نواحي الموضوع العملية الإنتاجية. كما أن دولت قد أشار بترك الحرية المطلقة لحضرات المتقدمين من الصحفيين والكاتبين في أن يرجئوا نشر رسائلهم إلى ما بعد ظهور نتائج المباراة أو أن ينشروها من الآن فيما يختارون من صحف ومجلات

كذلك أمر دولته أن تطبع الرسائل الفائزة في كتاب خاص رغبة في إذاعتها والاستفادة من وجاهتها ونشر للثقافة وحسن الإفادة، وأن يذاع منها من محطة الإذاعة الحكومية اللاسلكية ما تشير به لجان التحكيم تعميما للفائدة بأوسع ما يكون

وترجو إدارة المطبوعات - رغبة منها في عدم إضاعة الوقت - أن يتكرم حضرات الراغبين في دخول هذه المباراة بإرسال خمس صور مما يكتبون في الموضوع الذي يختارونه إلى حضرات أصحاب الفضيلة والمعالي والسعادة رؤساء اللجان كل فيما يخصه وهم حضرات:

الموضوع الأول: رسالة الأزهر في القرن العشرين

رئيس لجنة التحكيم: حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي

ص: 76

شيخ الأزهر الشريف والمعاهد الدينية

الموضوع الثاني: اللغة والدين والعادات باعتبارها من مقومات الاستقلال

رئيس لجنة التحكيم: سعادة الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا مدير الجامعة المصرية

الموضوع الثالث: أثر الحافز الشخصي في تطور الإصلاح الاجتماعي والوسائل العملية لتوجيهه للخير العام

رئيس لجنة التحكيم: الأستاذ الكبير مكرم عبيد نقيب المحامين

الموضوع الرابع: البطالة ووسائل علاجها. والتعليم الإقليمي وأثره في علاج البطالة

رئيس لجنة التحكيم: حضرة صاحب السعادة أحمد عبد الوهاب باشا وزير المالية

الموضوع الخامس: التربية الوطنية الاستقلالية وأثرها في بناء الأمة

رئيس لجنة التحكيم: الأستاذ الكبير محمود فهمي النقراشي

الموضوع السادس: عدة النجاح لرجل القرن العشرين

رئيس لجنة التحكيم: حضرة صاحب السعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا

الموضوع السابع: تدعيم الحياة الدستورية والوحدة الوطنية وتكوين الوطني المستنير

رئيس لجنة التحكيم: حضرة صاحب العزة الدكتور بهي الدين بركات بك

الموضوع الثامن: ترقية الفلاح اجتماعياً

رئيس لجنة التحكيم: حضرة صاحب السعادة محمد طلعت حرب باشا

الموضوع التاسع: استثمار نهضة المرأة المصرية للخير العام

رئيس لجنة التحكيم: حضرة صاحب السعادة علي الشمسي باشا

الموضوع العاشر: وضع نشيد وطني قومي

رئيس لجنة التحكيم: الأستاذ الكبير الدكتور أحمد ماهر

حول المباراة الأدبية

ورد إلينا من إدارة المطبوعات ما يأتي. . .

إلحاقاً لمشروع حضرة صاحب الدولة علي ماهر باشا الخاص بالمباراة الصحفية الأدبية وموضوعاتها العشرة السابق إذاعتها

تتشرف إدارة المطبوعات بأن تذيع أيضاً أن دولته قد أمر بإضافة الموضوعين الآتيين

ص: 77

ليكونا ضمن موضوعات المباراة المتقدمة وهما:

1 -

سلامة الدولة في حفظ الأمن والنظام واحترام القانون

2 -

البوليس - وهو من حراس القانون - صديق الشعب - ووجوب مساعدة الشعب له في أداء واجباته

وستذيع الإدارة قريباً أسماء حضرات رئيس وأعضاء لجنتي التحكيم في هذين الموضوعين الذين سيتفضلون بقبول المساهمة في هذه الخدمة الثقافية العامة

ص: 78