المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 144 - بتاريخ: 06 - 04 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٤٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 144

- بتاريخ: 06 - 04 - 1936

ص: -1

‌ولدي!!

يا قارئي أنت صديقي فدعني أُرِقْ على يديك هذه العَبرات الباقية! هذا ولدي كما ترى، رُزِقُته على حال عابسة كاليأس، وكهولة بائسة كالهرم، وحياة باردة كالموت، فأشرق في نفسي إشراق الأمل، وأورق في عودي إيراق الربيع، وولّد في حياتي العقيمة معاني الجِدّة والاستمرار والخلود!

كنت في طريق الحياة كالشارد الهيمان، انشد الراحة ولا أجد الظل، وأُفيض المحبة ولا أجد الحبيب، وألبس الناس ولا أجد الأنس، وأكسب المال ولا أجد السعادة، وأعالج العيش ولا أدرك الغاية!! كنت كالصوت الأصم لا يرجعه صدى، والروح الحائر لا يقرُّه هدى، والمعنى المبهم لا يحدده خاطر!! كنت كالآلة نتجتها آلةٌ واستهلكها عمل، فهي تخدم غيرها بالتسخير، وتميت نفسها بالدءوب، ولا تحفظ نوعها بالولادة؛ فكان يصلني بالماضي أبي، ويمسكني بالحاضر أجلي، ثم لا يربطني بالمستقبل رابط من أمل أو ولد. فلما جاءني (رجاء) وجدتني أولد فيه من جديد؛ فأنا أنظر إلى الدنيا بعين الخيال، وأبسم إلى الوجود بثغر الأطفال، وأضطرب في الحياة اضطراب الحي الكامل يدفعه من ورائه طمع، ويجذبه من أمامه طموح! شعرت بالدم الحار يتدفق نشيطاً في جسمي، وبالأمل القوي ينبعث جديداً في نفسي، وبالمرح الفتيَّ يضج لاهياً في حياتي، وبالعيش الكئيب تتراقص على حواشيه الخضر عرائس المنى! فأنا ألعب مع رجاء بلُعبه، وأتحدث إلى رجاء بلغته، وأُتبع عقلي هوى رجاء فأدخل معه دخول البراءة في كل ملهي، وأطير به طيران الفراشة في كل روض ثم لم يعد العمل الذي أعمله جديراً بعزمي، ولا الجهد الذي أبذله كفاء لغايتي، فضاعفت السعي، وتجاهلت النصَب، وتناسيت المرض، وطلبت النجاح في كل وجه! ذلك لأن الصبي الذكي الجميل أطال حياتي بحياته، ووسَّع وجودي بوجوده، فكان عمري يغوص في طوايا العدم قليلاً قليلا ليمد عمره بالبقاء، كما يغوص أصل الشجرة في الأرض ليمد فروعها بالغذاء

شغل رجاء فراغي كله، وملأ وجودي كله، حتى أصبح شغلي ووجودي! فهو صغيراً أنا، وأنا كبيراً هو؛ يأكل فأشبع، ويشرب فأرتوي، وينام فأستريح، ويحلم فتسبح روحي وروحه في إشراق سماوي من الغبطة لا يوصف ولا يحد!!

ما هذا الضياء الذي يشع في نظراتي؟ ما هذا الرجاء الذي يشيع في بسماتي؟ ما هذا

ص: 1

الرضى الذي يغمر نفسي؟ ما هذا النعيم الذي يملأ شعوري؟ ذلك كله انعكاس حياة على حياة، وتدفق روح في روح، وتأثير ولد في والد!؟

ثم انقضت تلك السنون الأربع! فصوحت الواحة وأوحش القفر، وانطفأت الومضة وأغطش الليل، وتبدد الحلم وتجهم الواقع، وأخفق الطب ومات رجاء!!

يا جبار السموات والأرض رحُماك!! أفي مثل خفقة الوسنان تبدَّل الدنيا غير الدنيا، فيعود النعيم شقاء والملأ خلاء والأمل ذكرى؟! أفي مثل تحية العجلان يصمت الروض الغرد، ويسكن البيت اللاعب، ويقبح الوجود الجميل؟! حنانيك يا لطيف! ما هذا اللهيب الغريب الذي يهب على غشاء الصدر ومراق البطن فيرمض الحشا ويذيب لفائف القلب؟ اللهم هذا القضاء فأين اللطف؟ وهذا البلاء فأين الصبر؟ وهذا العدل فأين الرحمة؟

إن قلبي ينزف من عيني عبرات بعضها صامت وبعضها معول! فهل لبيان الدمع ترجمان، ولعويل الثاكل ألحان؟ إن اللغة كون محدود فهل تترجم اللانهاية؟ وإن الآلة عصب مكدود فهل تعزف الضرم الواري؟ إن من يعرف حالي قبل رجاء وحالي معه يعرف حالي بعده! أشهد لقد جزعت عليه جزعا لم يغن فيه عزاء ولا عظة! كنت أنفر ممن يعزيني عنه لأنه يهينه، وأسكن إلى من يباكيني عليه لأنه يُكبِره، وأستريح إلى النادبات يندبن الكبد الذي مات والأمل الذي فات والملك الذي رُفع!

لم يكن رجاء طفلا عاديا حتى أملك الصبر عنه وأطيع السلوان فيه؛ إنما كان صورة الخيال الشاعر ورغبة القلب المشوق! كان وهو في سنه التي تراها يعرف أوضاع الأدب، ويدرك أسرار الجمال، ويفهم شؤون الأسرة ويؤلف لي (الحواديت) كلما ضمني وإياه مجلس السمر! كان يجعل نفسه دائما بطل (الحدوتة) فهو يصرع الأسود التي هاجمت الناس من حديقة الحيوانات، ويدفع (العساكر) عن التلاميذ في أيام المظاهرات، ويجمع مساكين الحي في فناء الدار ليوزع عليهم ما صاده ببندقيته الصغيرة من مختلف الطير!

وا لهف نفسي عليه يوم تسلل إليه الحمام الراصد في وعكة قال الطبيب إنها (البرد)، ثم أعلن بعد ثلاثة أيام أنها (الدفتريا)! لقد عبث الداء الوبيل بجسمه النضر كما تعبث الريح السموم بالزهرة الغضة! ولكن ذكاءه وجماله ولطفه ما برحت قوية ناصعة، تصارع العدم بحيوية الطفولة، وتحاجُّ القدر في حكمة الحياة والموت!!

ص: 2

وا لهف نفسي عليه ساعة أخذته غصة الموت، وأدركته شهقة الروح، فصاح بملء فمه الجميل:(بابا! بابا!) كأنما ظن أباه يدفع عنه ما لا يدفع عن نفسه!

لنا الله من قبلك ومن بعدك يا رجاء، وللذين تطولوا بالمواساة فيك السلامة والبقاء!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌تجديد الإسلام

رسالة الأزهر في القرن العشرين

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

(الأزهر)، هذه هي الكلمة التي لا يقابلها في خيال الأمة المصرية إلا كلمهُ (الهرم). وفي كلتا اللفظتين يكمن سرُّ خفي من أسرار التاريخ التي تجعل بعض الكلمات ميراثاً عقلياً للأمة، يُنسي مادة اللغة فيها، ولا يبقي منها إلا مادة النفس، إذ تكون هذه الكلمات تعبيراً عن شيء ثابت ثبات الفكرة التي لا تتغير، مستقرٍ في الروح القومية استقراره في الزمن، متجسم من معناه كأن الطبيعة قد أفردته بمادته دون ما يشاركه في هذه المادة؛ فالحجر في الهرم الأكبر يكاد يكون في العقل زماناً لا حجراً، وفناً لا جسما؛ والمكان في الأزهر يغيب فيه معنى المكان، وينقلب إلى قوة عقلية ساحرة، توجد في المنظور غير المنظور

وعندي أن الأزهر في زمننا هذا يكاد يكون تفسيراً جديداً للحديث: (مصر كنانة الله في أرضه)، فعلماؤه اليوم أسهم نافذة من أسهم الله يرمي بها من أراد دينه بالسوء فيمسكها للهيبة ويرمي بها للنصر، ويجب أن يكون هذا المعنى أول معانيهم في هذا القرن العشرين الذي ابتلى بملء عشرين قرناً من الجرأة على الأديان وإهمالها والإلحاد فيها

أول شيء في رسالة الأزهر في القرن العشرين، أن يكون أهله قوة إلهية معدَّة للنصر، مهيأة للنضال، مسددة للإصابة، مقدرة في طبيعتها أحسن تقدير؛ تشعر الناس بالاطمئنان إلى عملها، وتوحي إلى كل من يراها الإيمان الثابت بمعناها؛ ولن يأتي لهم هذا إلا إذا انقلبوا إلى طبيعتهم الصحيحة، فلا يكون العلم تحرفاً ولا مهنة ولا مكسبة، ولا يكون في أوراق الكتب خيال (أوراق البنك). . . . بل تظهر فيهم العظمة الروحانية آمرة ناهية في المادة لا مأمورة منهية بها، ويرتفع كل منهم بنفسه، فيكون مقرر خلق في الحياة قبل أن يكون معلم علم في الحياة، لينبث منهم مغناطيس النبوة يجذب النفوس بهم أقوى مما تجذبها ضلالات العصر؛ فما يحتاج الناس في هذا الزمن إلى العالم - وإن الكتب والعلوم لتملأ الدنيا - وإنما يحتاجون إلى ضمير العالم

وقد عجزت المدنية أن توجد هذا الضمير، مع أن الإسلام في حقيقته ليس شيئاً إلا قانون هذا الضمير، إذ هو دين قائم على أن الله لا ينظر من الإنسان إلى صورته ولكن إلى

ص: 4

عمله؛ فأول ما ينبغي أن يحمله الأزهر من رسالته ضمائر أهله

والناس خاضعون للمادة بقانون حياتهم، وبقانون آخر هو قانون القرن العشرين. . . فهم من ثمَّ في أشد الحاجة إلى أن يجدوا بينهم المتسلط على المادة بقانون حياته ليروا بأعينهم القوى الدنيئة مغلوبة، ثم ليجدوا في هذا الإنسان أساس القدوة والاحتذاء فيتصلوا منه بقوتين: قوة التعليم وقوة التحويل. هذا هو سر الإسلام الأول الذي نفذ به من أمة إلى أمة ولم يقم له شيء يصده إذ كان ينفذ في الطبيعة الإنسانية نفسها

ومن أخص واجبات الأزهر في هذا القرن العشرين أن يعمل أول شيء لإقرار معنى الإسلام الصحيح في المسلمين أنفسهم، فإن أكثرهم اليوم قد أصبحوا مسلمين بالنسب لا غير. . . وما منهم إلا من هو في حاجة إلى تجديد الإسلام. والحكومات الإسلامية عاجزة في هذا بل هي من أسباب هذا الشر، لأن وجوداً سياسياً ووجوداً مدنياً. أما الأزهر فهو وحده الذي يصلح لإتمام نقص الحكومة في هذا الباب؛ وهو وحده الذي يسعُه ما تعجز عنه؛ وأسبابُ نجاحه مهيأة ثابتة إذ كان له بقوة التاريخ حكم الزعامة الإسلامية، وكانت فيه عند المسلمين بقيةُ الوحي على الأرض، ثم كان هو صورة المزاج النفسي الإسلامي المحض. بيد أنه فرَّط في واجب هذه الزعامة وفقد القوة التي كان يحكم بها وهي قوة المثل الأعلى التي كانت تجعل الرجل من علمائه كما قلنا مرة: إنساناً تتخيَّره المعاني السامية تظهر فيه بأسلوب عملي فيكون في قومه ضرباً من التربية والتعليم بقاعدة منتزعة من مثالها مشروحةٍ بهذا المثال نفسه. والعقيدة في سواد الناس بغير هذا المثل الأعلى هي أول مغلوب في صراع قوى الحياة

لقد اعتاد المسلمون من قديم أن يجعلوا أبصارهم إلى علماء الأزهر فيتَّبعونهم ويتأسَّون بهم ويمنحونهم الطاعة وينزلون على حكمهم ويلتمسون في سيرتهم التفسير لمشكلات النفس، ويعرفون بهم معنى صغر الدنيا ومعنى كبر الأعمال العظيمة؛ وكان غنى العالم الديني شيئاً غير المال بل شيئاً أعظم من المال إذ كان - يجد حقيقة الغنى في إجلال الناس لفقره كأنه مُلك لا فقر. وكان زهده قوة حاكمة فيها الصلابة والشدة والهيبة والسمو وفيها كل سلطان الخير والشر لأن فيها كل النزعات الاستقلالية؛ ويكاد الزهد الصحيح يكون هو وحده القوة التي تجعل علماء الدين حقائق مؤثرة عاملة في حياة الناس أغنيائهم وفقرائهم، لا حقائق

ص: 5

متروكة لنفسها يوحشُ الناسَ منها أنها متروكة لنفسها

وعلماء الأزهر في الحقيقة هم قوانين نفسية نافذة على الشعب، وعملهم أردُّ على الناس من قوانين الحكومة، بل هم التصحيح لهذه القوانين إذا جرت الأمور على عللها وأسبابها؛ فيجب عليهم أن يحققوا وجودهم وأن يتناولوا الأمة من ناحية قلوبها وأرواحها، وأن يُعدُّوا تلاميذهم في الأزهر كما يعدون القوانين الدقيقة لا طلاباً يرتزقون بالعلم

أين صوت الأزهر وعمله في هذه الحياة المائجة بما في السطح وما في القاع. . . وأين وحي هذه القوة التي ميثاقها أن تجعل النبوة كأنها شيء واقع في الحياة المصرية لا خبرٌ تاريخي فيها.؟

لقد أصبح إيمان المسلمين كأنه عادة الإيمان لا الإيمان نفسه، ورجع الإسلام في كتبه الفقهية وكأنه أديان مختلفة متناقضة لا دين واحد. فرسالة الأزهر أن يجدد عمل النبوة في الشعب، وأن ينقي عمل التاريخ في الكتب، وأن يبطل عمل الوثنية في العادات، وأن يعطي الأمة دينها الواضح السمح الميسر وقانونها العملي الذي فيه سعادتها وقوَّتها

ولا وسيلة إلى ذلك إلا أن يكون الأزهر جريئاً في قيادة الحركة الروحية الإسلامية، جريئاً في عمله لهذه القيادة، آخذا بأسباب هذا العمل، ملحاً في طلب هذه الأسباب، مصراً على هذا الطلب. وكل هذا يكون عبثاً إن لم يكن رجال الأزهر وطلبته أمثلةً من الأمثلة القوية في الدين والخلُق والصلابة لتبدأ الحالة النفسية فيهم، فإنها إن بدأت لا تقف؛ والمثل الأعلى حاكم بطبيعته على الإنسانية، مطاعٌ بحكمه فيها، محبوبٌ بطاعتها له

والمادة المطَّهرة للدين والأخلاق لا تجدها الأمة إلا في الأزهر، فعلى الأزهر أن يثبت أن فيه تلك المادة بإظهار عملها لا بإلصاق الورقة المكتوب فيها الاسم على الزجاجة. . .

ومن ثم يكون واجب الأزهر أن يطلب الإشراف على التعليم الإسلامي في المدارس وأن يدفع الحركة الدينية دفعاً بوسائل مختلفة؛ أولها أن يحمل وزارة المعارف على إقامة فرض الصلاة في جميع مدارسها، من مدرسة حرية الفكر. . فنازلاً؛ والأمة الإسلامية كلها تشد رأي الأزهر في هذا. وإذا نحن استخرجنا التفسير العملي لهذه الآية الكريمة:(أدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) دلتنا الآية بنفسها على كل تلك الوسائل، فما الحكمة هنا إلا السياسة الاجتماعية في العمل، وليست الموعظة الحسنة إلا الطريقة النفسية في

ص: 6

الدعوة

العلماء ورثة الأنبياء؛ وليس النبي من الأنبياء إلا تاريخ شدائد ومحن، ومجاهدة في هداية الناس، ومراغمة للوجود الفاسد، ومكابدة التصحيح للحالة النفسية للأمة. فهذا كله هو الذي يورث عن الأنبياء لا العلم وتعليمه فقط

وإذا قامت رسالة الأزهر على هذه الحقائق، وأصبح وجوده هو المعنى المتمم للحكومة المعاون لها في ضبط الحياة النفسية للشعب وحياطتها وأمنها ورفاهتها واستقرارها - اتجهت طبيعته إلى أداء رسالته الكبرى للقرن العشرين بعد أن يكون حقق الذرائع إلى هذه الرسالة من فتح باب الاجتهاد وتنقية التاريخ الفقهي وتهذيب الروح الإسلامي والسمو به عن المعاني الكلامية الجدلية السخيفة، ثم استخراج أسرار القرآن الكريم المكتنَّة فيه لهذه العصور العلمية الأخيرة؛ وبعد أن يكون قد اجتمعت فيه القوة التي تمسك الإسلام على سنته بين القديم والجديد، لا ينكره هذا ولا يغيره ذاك؛ وبعد أن يكون الأزهر قد استفاض على العالم العربي بكتبه ودعاته ومبعوثيه من حاملي علمه ورسل إلهامه

أما تلك الرسالة الكبرى فهي بث الدعوة الإسلامية في أوربا وأمريكا واليابان، بلغات الأوربيين والأمريكيين واليابانيين في ألسنة أزهرية مُرهفة مصقولة لها بيان الأدب ودقة العلم وإحاطة الفلسفة، وإلهام الشعر، وبصيرة الحكمة، وقدرة السياسة؛ ألسنة أزهرية لا يوجد الآن منها لسانٌ واحد في الأزهر، ولكنها لن توجد إلا في الأزهر؛ ولا قيمة لرسالته في القرن العشرين إذا هو لم يوجدها فتكون المتكلمة عنه والحاملة لرسالته. وما هذه البعثات التي قرر الأزهر ابتعاثها إلى أوربا إلا أول تاريخ تلك الألسنة

إن الوسيلة التي نشرت الإسلام من قبل لم تكن أجنحة الملائكة ولا كانت قوة من جهنم؛ ولا تزال هي هي التي تنشره، فليس مستحيلا ولا متعذرا أن يغزو هذا الدين أوربا وأمريكا واليابان كما غزا العالم القديم. ولم يكن السلاح من قبل إلا طريقة لإيجاد الإسلام في الأمة الغريبة عنه حتى إذا وجد تولىَّ هو الدعوة لنفسه بقوة الناموس الطبيعي القائم على أن الأصلح هو الأبقى، وانحازت إليه الإنسانية لأنه قانون طبيعتها السليمة، ودين فطرتها القوية، وقد ظل الإسلام ينتشر ولم يحمله إلا التاجر كما ينتشر وحاملهُ الجيش؛ فليس علينا إلا تغيير السلاح في هذا العصر وجعله سلاحا من فلسفة الدين وأسرار حكمته. فهذا الدين

ص: 7

كما قلنا في بعض كلامنا أعمالٌ مفَّصلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه مصلحة، فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي الثابت المستقر تنظّم به أحوال النفس على ميزة وبصيرة، ويدع للحياة عقلها العمليَّ المتجدد المتغير تنظم به أحوال الطبيعة على قصد وهدى. وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه لا يغني عنه في ذلك دين آخر ولا يؤدي تأديته في هذه الحاجة أدبٌ ولا علم ولا فلسفة كأنما هو نبع في الأرض لمعاني النور بازاء الشمس نبع النور في السماء

ليس على الأزهر إلا أن يوجد من الإسلام في تلك الأمم ما يستمر، ثم الاستمرار هو يوجد ما يثبت، والثابت يوجد ما يدوم. وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذا في قوله: نضَّر الله امرءا سمع مني شيئاً فبلغه كما سمعه، فربَّ مُبلَّغ أوعى له من سامع

أما والله إن هذا المبلَّغ الذي هو أوعى له من السامع لن يكون في التاريخ بأدق المعنى إلا أوربا وأمريكا في هذا الزمن العلمي إذا نحن عرفنا كيف نبلغ

أنا مستيقن أن فيلسوف الإسلام الذي سينتشر الدين على يده في أوربا وأمريكا لن يخرج إلا من الأزهر، وما كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله إلا أول التطور المنتهي إلى هذه الغاية، وسيكون عمل فلاسفة الأزهر استخراج قانون السعادة لتلك الأمم من آداب الإسلام وأعماله ثم مخاطبة الأمم بأفكارها وعواطفها والإفضاء من ذلك إلى ضميرها الاجتماعي فإن أول الدين هناك أسلوبه الذي يظهر به

هذه هي رسالة الأزهر في القرن العشرين ويجب أن يتحقق بوسائلها من الآن؛ ومن وسائلها أن يُعالن بها لتكون موثقاً عليه. ويحسن بالأزهر في سبيل ذلك أن يضم إليه كل مفكرا إسلامي ذي إلهام أو بحث دقيق أو إحاطة شاملة؛ فنكون له ألقاب علمية يمنحهم إياها وإن لم يتخرجوا فيه ثم يستعين بعلمهم وإلهامهم وآرائهم. وبهذه الألقاب يمتد الأزهر إلى حدود فكرية بعيدة ويصبح أوسع في أثره على الحياة الإسلامية ويحقق لنفسه المعنى الجامعي

وفي تلك السبيل يجب على الأزهر أن يختار أياماً في كل سنة يجمع فيها من المسلمين (قرش الإسلام) ليجد مادة النفقة الواسعة في نشر دين الله. وليس على الأرض مسلم ولا مسلمة لا يبسط يده، فما يحتاج هذا التدبير لأكثر من إقراره وتنظيمه وإعلانه في الأمم

ص: 8

الإسلامية ومواسمها الكبرى وخاصة موسم الحج. وهذا العمل هو نفسه وسيلة من أقوى الوسائل في تنبيه الشعور الإسلامي وتحقيق المعاونة في نشر الدين وحياطته، وعسى أن تكون له نتائج اجتماعية لا موضع لتفصيلها، وعسى أن يكون (قرش الإسلام) مادة لأعمال إسلامية ذات بال وهو على أي الأحوال صلة روحية تجعل الأزهر كأنه معطيه لكل مسلم لا آخذه.

والخلاصة أن أول رسالة الأزهر في القرن العشرين اهتداء الأزهر إلى حقيقة موضعه في القرن العشرين (وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين).

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 9

‌النهضات القومية العامة في أوربا وفي الشرق

للدكتور عبد الرزاق السنهوري

عميد كلية الحقوق ببغداد

تمهيد:

دعتني لجنة الثقافة بدار المعلمين لإلقاء محاضرات عامة، فترددت في اختيار موضوع هذه المحاضرات، ذلك أني رجل أشتغل بالقانون، والناس لا يرحبون كثيراً لا بالقانون ولا برجال القانون، وكيف يستسيغ الناس القانون، وهو جاف لا طلاوة فيه، أو ترحب برجال القانون، وهم رجال صناعتهم الخوض في المنازعات، فإن لم توجد خلقوها خلقا؟ هذه هي سمعة رجال القانون عند الجمهور، ولا أحاول أن أدافع عنهم، وإن كنت منهم، فإني أخشى أن ينازعوني حق النيابة عنهم والتحدث باسمهم. لذلك آثرت أن أتجرد الليلة عن هذه الصفة، وأن أتقدم إليكم بموضوع لا شأن له بالقانون، واخترت أن يكون موضوعي عن النهضات القومية في أوربا وفي الشرق

ولست أزعم أنني توفرت على دراسة موضوعي دراسة دقيقة، فإن الدراسة الحق لهذا الموضوع تقتضي الخوض في فلسفة التاريخ والاجتماع، مما أعفيكم منه، كما أعفيكم من سماع الأحاديث القانونية الجافة. لذلك سترونني هذه الليلة أمس موضوعي مساً خفيفاً، في رفق وهوادة، محاذرا أن أثقل عليكم أو أن أثقل على نفسي، راجياً العذر إذا قصرت في التعمق، فإن الغرض الأول الذي توخيته من هذه المحاضرات، ليس هو الغرض العلمي. بل هي الرغبة في استخلاص بعض الدروس للشعوب الشرقية في نهضاتها الحديثة، في ضوء التجارب التي مرت بها الأمم الغربية

ومادمت سأتكلم في النهضات القومية، ومادامت النهضة تقوم على روابط، فإني أبدأ بتحديد معنى الرابطة، تمهيداً للكلام في النهضات القومية

الرابطة وحدة تجمع طائفة من الناس، وتقرب ما بينهم، وتميزهم من الطوائف الأخرى، فالرابطة إذن لها وجهان: وجه إيجابي، هو ذلك التقريب، وكلما توثقت أواصره كان في ذلك الخير كله. ووجه سلبي، هو ذلك التنافر والتباعد ما بين طائفة وأخرى، وكلما أغرق

ص: 10

فيه كان تعصباً، والتعصب كريه مذموم

ولابد من وجود الروابط في الجمعيات البشرية، وتفرق الناس شيعاً وأحزاباً. نعم لو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، ولكانت هناك رابطة واحدة تربط الناس جميعاً، هي رابطة الإنسانية، ولكن ذلك المثل العالي لم يتحقق حتى الآن، وقد لا يتحقق إلى مدة طويلة، بل قد لا يتحقق أبداً، لذلك يجب أن نواجه الأمر الواقع، وأن ننظر على أي أساس يتميز الناس أمماً وشعوباً

ولنبدأ باستعراض التاريخ استعراضاً سريعاً، لنستخلص منه الروابط المتعاقبة التي ربطت الجمعيات البشرية في أوربا، منذ العصور الوسطى إلى الآن. إن المستعرض لتاريخ الغرب يستطيع أن يقرر أن الجمعيات البشرية قد تقاربت وتباعدت، على أسس اختلفت باختلاف مراحل التاريخ. ففي العصور الوسطى كان الأساس هو الدين، إذ تجمعت الشعوب الغربية وقامت وحدتها على الدين المسيحي، ثم أخذت رابطة الدين تنحل شيئاً فشيئاً، وأخذت تحل محلها رابطة الوطن، ومازالت أواصر الوطنية تتماسك، ثم تتوثق، حتى قوى التعصب لها، وحتى قامت الحروب ما بين الشعوب المختلفة في الوطن وإن اتحدت في الجنس، وبقى الأمر كذلك حتى مستهل القرن التاسع عشر، إذ قويت رابطة الوطن بعد نشوب الثورة الفرنسية وحروب نابليون، ثم أخذت رابطة أخرى في الظهور، رابطة تقوم لا على فكرة الوطن ولا على فكرة الجنس، بل على فكرة الكفاح ما بين الطبقات، ووجوب سيادة طبقة العمال، وبهذه الرابطة نادى الاشتراكيون، وأخذ أمر الاشتراكية يقوى شيئاً فشيئاً، ومذاهبها تتنوع وتتشعب، حتى الحرب الكبرى، إذ استفحل شأن الاشتراكية بارتماء الروسيا في أحضان البلشفية.

على أن رابطة الوطن، وقد وقفت إلى جانبها رابطة أخرى مقاربة لها هي رابطة الجنس، لم يفتر نشاطها، بل نزلت إلى ميدان النضال. وهانحن اليوم نشهد عراكا عنيفاً ما بين رابطتي الوطن والجنس من جهة، ورابطة الطبقات من جهة أخرى

هذا بيان إجمالي عن الروابط التي تعاقبت على أوربا منذ العصور الوسطى إلى اليوم: من رابطة الدين، إلى رابطة الوطن، إلى رابطة الجنس، إلى رابطة الطبقات، ونحن نفصل الآن ما أجملناه

ص: 11

1 -

العصور الوسطى: رابطة الدين

قلت إن الشعوب الأوربية كانت تجمعها في العصور الوسطى جامعة الدين، وكانت الدولة لا تقوم على القومية أو الوطنية في تلك العصور، بل كانت الدولة والقومية منفصلتين إحداهما عن الأخرى منذ العصور القديمة، فقد كانت اليونان قومية واحدة تتنازعها دول متعددة، وكانت الرومان قوميات متعددة تندمج في دولة واحدة. ولما جاءت العصور الوسطى تجمعت الشعوب الأوربية في ظل الدين المسيحي، يقود زمامها سلطتان: سلطة روحية هي سلطة البابا، وسلطة زمنية هي سلطة الإمبراطور. واستندت الكنيسة إلى السلطة الزمنية دهوراً طوالا، فإن المسيحية كان قد اشتد كاهلها في ظل الإمبراطورية الرومانية، إذ بعد أن ناوأتها هذه الإمبراطورية زمناً طويلا، واضطهدت معتنقيها، وسامتهم الخسف والعذاب، تغلبت قوة الإيمان، وانتصرت المسيحية، واتخذتها الإمبراطورية الشرقية ديناً رسمياً للدولة

ولما سقطت الإمبراطورية الرومانية شعرت الكنيسة بحاجتها إلى سلطة زمنية تستند إليها، وبقى المثل الأعلى للشعوب الغربية هو أن تتجمع في ظل الكنيسة. وقد تحققت هذه الأمنية إلى حد كبير في آخر القرن الثامن، وقام بتحقيقها شارلمان، فقد وحد غرب أوربا بعد أن أخضعها لسلطانه، وتوجه البابا ليو الثالث في سنة 800 في كنيسة القديس بطرس، إمبراطورا على العالم المسيحي، وخليفة للقياصرة من الرومان، وأعاد الإمبراطور أوتو الجرماني وحدة العالم المسيحي مرة أخرى في القرن العاشر، أما الكنيسة نفسها فقد كان ظلها ينبسط على العالم المسيحي، يحقق وحدة هذا العالم، وقد كان لها أعوان منبثون في كل قطر وبلد، يؤيدون سلطانها، وينفذون إرادتها، وسلاح الكنيسة إذ ذاك هو الغفران والحرمان، تغفر لمن تشاء، وتحرم من تشاء، فكلمتها نافذة مطاعة، والعالم المسيحي ينظر إليها رمزاً لوحدته

وبقيت الرابطة الدينية قوية متينة دهوراً طوالا، ثم أخذت في الانحلال، ويرجع السبب في انحلالها إلى الحروب الطويلة التي نشبت ما بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، وإلى اتصال العالم المسيحي بالعالم الإسلامي بعد انقضاء الحروب الصليبية، مما خفف من حدة التعصب الديني، وإلى الإصلاح الديني الذي كان من شأنه أن يشق العالم المسيحي إلى

ص: 12

كثلكة وبروتستانتية، وأخيراً، وبنوع خاص إلى عصر النهضة في العلوم والفلسفة، تلك النهضة التي افتتحت بها العصور الحديثة في أوربا، فبدد نور العلم ما كان قد تلبد من غياهب التعصب، وانقشعت ظلمات الجهالة، وميز الناس بين الروابط المدنية والروابط الدينية، فحكموا في الأولى عقولهم، وفي الأخرى ضمائرهم، وأعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.

2 -

العصور الحديثة: رابطة الوطن ورابطة الجنس

وننتقل الآن من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وقد بدأت هذه العصور في أوربا منذ القرن السادس عشر، وبدأت معها رابطة الوطن تحل محل رابطة الدين، وقد كان يمنع من توثق رابطة الوطن في الماضي أمران:(الأمر الأول) رابطة الدين وقد رأينا كيف تفككت هذه الرابطة. (الأمر الثاني) شيوع النظام الإقطاعي في الشعوب الأوربية، وقد كان من شأن هذا النظام أن يفكك سلطان الدولة، وأن يوزعه بين النبلاء، فلم تكن تقوم للدولة ولا للقومية قائمة في ظل هذا النظام. ثم أخذ يزول شيئاً فشيئاً، ويرجع السبب في ذلك إلى تقدم التجارة والصناعة؛ مما جعل طبقة التجار والصناع وهي الطبقة الوسطى ذات شأن كبير. فأضعفت من سلطان الأرستقراطية والنبلاء، وحلت البرجوازية التجارية والصناعية محل الأرستقراطية النبيلة، واستندت إليها السلطة المركزية، واستعانت بها في توطيد سلطانها وهدم سلطان النبلاء

وغرس تقدم التجارة والصناعة عند الأمم الغربية حب الاستعمار سعياً وراء أسواق جديدة للتجارة، أو جرياً وراء الحصول على المواد الأولى للصناعة، وقويت نزعة الاستعمار عند الدول الغربية الكبرى، وتنافست، فقامت الحروب بينها، وزادت كل أمة شعوراً بقوميتها، وهكذا نرى أن الاستعمار كان من شأنه أن يقوي الوطنية، وأن يذكي نار التعصب للقومية

وقد بلغت رابطة الوطنية أوجها من القوة بعد نشوب الثورة الفرنسية وحروب نابليون، وبقيت قوية عنيفة طوال القرن التاسع عشر، رغماً عن حركة الرجعية التي رفع لواءها مؤتمر فينا. وأخذت القوميات التي لم تستكمل استقلالها تكافح في سبيل هذا الاستقلال، وخرجت منتصرة من هذا الكفاح. فاستقلت اليونان عن الدولة العثمانية، والبلجيك عن هولندا، وإيطاليا عن النمسا، وأخفقت بولونيا والمجر، ولم يقدر لهما النجاح إلا بعد الحرب

ص: 13

الكبرى، واستقلت بعض ولايات البلقان، وتكونت الإمبراطورية الألمانية، بعد أن اصطدمت القومية الألمانية بالقومية الفرنسية، وجر هذا الاصطدام إلى حروب دامية وأهوال

على أن تقدم الصناعة بنوع خاص، لاسيما في القرن التاسع عشر، كان له أثران خطيران غير تقوية روح الوطنية والنزعة الاستعمارية. (الأثر الأول) تقويته روح الديمقراطية، التي بدأ غرسها الثورة الإنجليزية، وأنبتتها الثورتان الأمريكية والفرنسية. وللديمقراطية حديث طويل، يصح أن يكون موضوعاً مستقلاً لسلسلة من المحاضرات. (الأثر الثاني) غرسه روح الاشتراكية، وهنا نرى عجباً. فإن الصناعة، التي قوت رابطة الوطنية، أوجدت إلى جانبها رابطة أخرى مناقضة لها كل المناقضة، هي رابطة الطبقات. إذ قويت طبقة العمال بفضل تقدم الصناعة الكبير، وأخذت تشعر بقوتها، وتجمعت كتلاً كتلاً، وسرى روح التفاهم ما بين العمال من جميع القوميات، وصاح فيهم ماركس صيحته المشهورة:(أيها العمال من جميع أنحاء العالم، هلموا إلى رفع لواء الاتحاد)، وعارضت روح الطبقات روح الوطنية، وبدأت الاشتراكية تدخل في دور عملي، ولم يعد بد للأمم الأوربية من أن تواجه هذه الحركة الجديدة

وقبل أن ننتقل من الوطنية إلى الاشتراكية، نقف قليلاً، لنعرف معنى الوطنية التي أكثرنا من الإشارة إليها، فقد تحاشينا تعريفها حتى الآن، إذ ليس من السهل تحديد هذا المعنى الدقيق، فالوطنية جامعة تقوم على روابط طبيعية وأخرى صناعية، وأول الروابط الطبيعية هو وحدة الجنس والدم، ويلي هذا وحدة الإقليم الجغرافي. ثم وحدة اللغة، ويترتب على هذه الوحدات المختلفة وحدة لتاريخ ووحدة التقاليد، هذه الروابط الطبيعية التي تجمع ما بين أبناء شعب واحد، وتجعل من هذا الشعب وطناً يشعر بذاته. فإذا اقترنت بهذه الروابط الطبيعية رابطة أخرى صناعية، هي وحدة النظام السياسي، فقد استكملت الوطنية ذاتيتها، واستجمعت مقوماتها ومشخصاتها، وإذا انظم إلى كل هذه الروابط وحدة الدين، فقد بلغت الوطنية الأوج من عنفوانها وقوتها. على أن اجتماع كل هذه الروابط ليس ضرورياً لتكوين الوطن، فوجود بعضها يكفي. والمهم أن يتوحد المكان الجغرافي والنظام السياسي، ويتبع ذلك وحدة التاريخ ووحدة التقاليد. فقد تضم رقعة جغرافية قوماً مختلفي الجنس، ولكن يتحد

ص: 14

تاريخهم وتقاليدهم، فإذا انضموا إلى نظام سياسي واحد كوّنوا وطناً، وقد يتفرق أبناء الجنس الواحد بين أوطان متعددة، كل وطن له مقوماته الذاتية من لغة وتاريخ وتقاليد، وقد يتجمع القوم متحدين جنساً مختلفين ديناً، ولا يمنع اختلاف الدين من تكون الوطن، ومن هنا نرى أن رابطة الوطن لا تتفق تماماً مع رابطة الجنس والدم. فالرابطة الأولى فيها شيء من العوامل الصناعية تعززها وتقويها، والرابطة الثانية، رابطة الدم، تقوم على الطبيعة ذاتها، ولا تعارض بين رابطة الوطن ورابطة الجنس والدم، حتى لو ضم الوطن الواحد أجناساً مختلفة. إلا إذا أسيء فهم الوطنية، وأخذت لا على أنها صلة حب وتآلف بين هذه الأجناس، بل صلة كراهية ومقت لكل قومية أخرى

(يتبع)

عبد الرزاق السنهوري

ص: 15

‌صور من القرن الثامن عشر

جاكومو كازانوفا

جوَّاب مجتمع ومغامر مرح

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كان القرن الثامن عشر في أوربا عصر الخفاء والدعوات السرية، والثورات الفكرية والاجتماعية؛ وكان أيضاً عصر المغامرات الشائقة، والحياة المرسلة الناعمة، والعيش الخفض، وازدراء التبعات، عصر المرح والطرب الميسور

وليس معنى ذلك أن القرن الثامن عشر كان عصرا ذهبيا يزهو فيه المجتمع ويزدهر؛ فقد كان في الواقع عصر الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتوالية؛ ولكنه كان عصر تطور فكري عميق يبلغ المجتمع فيه ذروة أزمته الروحية والنفسية، ويصل إلى نوع من اليأس والاستهتار، ويلتمس في حياة النسيان والعيش المرح عزاء ومتنفسا

وقد تناولنا في مقال سابق شخصية من أعجب شخصيات هذا القرن وداعية من أغرب دعاته، ونعني يعقوب فرنك أو البارون فون أوفنباخ ورأينا كيف كان القرن الثامن عشر مهبط الدعاة والمغامرين من كل ضرب، وكيف كان الخفاء يغمرهم ويثير من حولهم كثيرا من الدهشة والروع، وكيف كان أولئك الدعاة المغامرون يخلبون ألباب مجتمعات هذا العصر برائع شخصياتهم ومظاهرهم، وظرف خلالهم وشمائلهم، وسحر مزاعمهم وأقوالهم، وخفاء غاياتهم ووسائلهم

والآن نتناول شخصية أخرى من أعجب شخصيات هذا القرن أيضا، ولكن من طراز آخر، هي شخصية جاكومو كازانوفا

كازانوفا! مغامر جريء يخلق لنفسه من العدم شخصية باهرة، ويدخل الحياة من باب ذهبي، ويستقبلها بابتسامة خالدة؛ ويفتتح المجتمع الرفيع بذكائه ودهائه وخبثه، وظرف خلاله وشمائله؛ ويرتفع في ميدان المغامرة إلى الذروة، ويهبط إلى الدرك الأسفل؛ ويستمرئ أمتع المسرات والملاذ، كما يتذوق أمر ضروب السقوط والفاقة؛ وينحدر من فتوة باهرة ظافرة برفاهة العيش الساطع المرح، إلى كهولة حافلة بصنوف الخيبة واليأس، ثم

ص: 16

إلى شيخوخة مظلمة مغمورة بائسة، ثم إلى عالم العدم في قبر ناء مجهول

لم يكن كازانوفا شخصية عظيمة تجدر بالخلود في صحف التاريخ؛ ولكنه كان شخصية من نوع خاص تنحرف بطرافتها وغريب أطوارها عن سلك المجتمع الوديع الهادئ، ولكن تنفث في نفس الوقت بقوتها واضطرام خلالها أينما حلت في جوانب هذا المجتمع كثيرا من الفضول والسحر، وتغزو بمرحها وأناقتها قلوب أولئك الذين يعبدون الجمال والظرف مهما اتخذوا من أثواب خلابة طائرة؛ وقد كان كازانوفا يتشح بأثواب خلابة طائرة، ولكن مؤثرة ساحرة، ولم يكن يهمه في الحياة سوى النجاح مهما كان خلبا، والظفر بتحقيق أهوائه مهما كانت ومهما كانت الوسائل والصور؛ وقد ترك لنا فوق ذلك عن حياته الغريبة الحافلة مذكرات طلية شائقة مازالت تعتبر إلى يومنا تحفة أدبية فنية لها قيمتها ولها سحرها

ولهذا يظفر كازانوفا من التاريخ بالذكر والتدوين، وتغدو سيرته العجيبة سجلا حافلا لخلال عصره، وتغدو موضوعا ومستقى لأقلام بارعة تخرج عنها المؤلفات الحافلة

ولد جاكومو كازانوفا في الثاني من شهر أبريل سنة 1725 بمدينة البندقية؛ وكان أبوه جايتانو ممثلا متواضعا ألقى به إلى البندقية وإلى المسرح قدر غريب، ذلك أنه هام في صباه بممثلة حسناء تدعى لافراجوليتا، وترك من أجلها أسرته وموطنه بارما، واحترف الرقص والتمثيل؛ ثم فتر هواهما بعد ذلك وتركته الممثلة لتجري وراء مغامرات أخرى، فاستبقى من بعدها حرفته، والتحق للعمل بأحد مسارح البندقية؛ وكان يقيم في المنزل المواجه لمسكنه صانع أحذية يدعى فاروزي وزوجته مارسيا وابنتهما الحسناء جوفانا أو زانيتا، فنشأت بين جايتانو وزانيتا علائق غرامية، ثم فر العاشقان ذات يوم وعقدا زواجهما في فبراير سنة 1724، وبعد عام ولد ابنهما جاكومو

ولم تلبث زانيتا أن حملها تيار المسرح، فظهرت إلى جانب زوجها، وانفق الزوجان بضعة أعوام في التجول من مدينة إلى أخرى ومن مسرح إلى آخر؛ ثم أصيب الزوج أثناء وجودهما بالبندقية بمرض خطير أودى بحياته في أواخر سنة 1733

وكان جايتانو كازانوفا فتى وديعا حسن الخلال، يؤثر الانزواء والعزلة؛ أما زانيتا فقد كانت بالعكس فتاة ذكية ماكرة مضطرمة النفس والأهواء؛ وكانت ممثلة بارعة تمتع بكثير من الظرف والسحر؛ وكانت دائمة التجول في عواصم القارة، من لندن إلى بطرسبرج، تحرز

ص: 17

النجاح والظفر أينما حلت؛ وكان مستقرها الأخير في مدينة درسدن حيث عينها مختار سكسونية ممثلة مدى الحياة، وهنالك أنفقت بقية حياتها حتى توفيت سنة 1776

وكانت زانيتا قد رزقت غير جاكومو بثلاثة أبناء آخرين وابنتين، وتركتهم جميعاً بالبندقية لدى والدتها مارسيا فاروزي؛ وكانت مارسيا امرأة بسيطة جاهلة ولكن ذكية مخلصة، فكرست كل نشاطها وعنايتها لتربية أحفادها ولاسيما كبيرهم جاكومو؛ ويشير كازانوفا في مذكراته إلى ذلك الحرمان من عطف أبويه، ويقول لنا إنهما لم يكلماه قط، ويشير أيضاً إلى عطف جدته ورعايتها ويقول لنا إنه كان طوال حياته يذكرها بالحب والعرفان والإجلال

ونشأ جاكومو ضعيفاً سقيما، ولكن تبدو عليه إمارات الذكاء والنجابة؛ وكان للأسرة صديق من أعيان المدينة يدعى جورجو بافو، فاهتم بأمر الصبي العليل؛ وكان بافو جوادا طيب القلب، ولكن فاسد الخلال والسيرة؛ وكان شاعرا، ولكن شعره يفيض تهتكا وفجورا؛ فنصح بإرسال الصبي إلى بادوا ليتعلم في معاهدها ويستفيد من هوائها؛ وكانت زانيتا والدة جاكومو يومئذ في البندقية، فنزلت عند هذا النصح، وحملت جاكومو إلى بادوا، ورتبت مقامه هنالك؛ وأقام جاكومو مدى حين عند امرأة سلافية، ولكن ما لبث أن عاف المكث لديها لسوء المعاملة ورداءة المسكن والطعام، ثم نقل على أثر ذلك إلى منزل معلمه الأب جوزّي، فارتاحت نفسه لمقامه الجديد، وأقام لدى أستاذه منعما مكرما

وقضى كازانوفا بضعة أعوام عند معلمه، ودرس قليلا من اللاتينية واليونانية والنحو. وكان تقدمه سريعاً حتى أن الأب جوزي ما لبث أن اختاره لمعاونته في التدريس؛ وكان كازانوفا قد ناهز يومئذ الخامسة عشرة، وأخذت تبدو عليه إمارات الاضطرام الكامنة في جوانحه والتي ورثها عن والديه، فبدأ يقرأ الكتب المثيرة، ويزعج معلمه بمختلف الأسئلة المحرجة، ويحدج أخت معلمه بتينا - وهي فتاة في نحو العشرين من عمرها - بنظرات ملتهبة. ولما انتهت دراسته الابتدائية، دخل مدرسة الحقوق في جامعة بادوا الشهيرة، وأطلق لنفسه عنان الحرية، وأخذ يغشي دور اللهو والميسر، فانزعج معلمه، وانزعجت جدته وبادرت إلى بادوا وصحبته معها إلى البندقية، وهنالك استأنف دراسته

وفي البندقية تفتحت غرائزه وأهواؤه، وانكب على صنوف اللهو؛ ولكنه مع ذلك كان يتذوق دراسته وحياته العلمية، وكان ذلك الفتى اليافع الذي يضطرم ظمأ إلى اللهو والمرح،

ص: 18

يضطرم في نفس الوقت ظمأ إلى العرفان والدرس؛ وكان في الثامنة عشرة يأخذ بقسط حسن من الأدب والفلسفة والمبادئ العلمية، ولم يكن خلال عبثه ولهوه ليغضي عن التفكير في مستقبله؛ فلم يمض سوى قليل على عوده إلى البندقية حتى استطاع أن ينتظم في سلك رجال الدين وأن يحصل على وظيفة دينية صغيرة. أجل استهل كازانوفا حياته العملية قساً، وهو الذي خاض فيما بعد غماراً من اللهو والفجور قلما يخوضها بشر! ولم يكن ذلك منه ورعاً أو رغبة في خدمة الدين، ولكن الانضواء تحت لواء الكنيسة كان يومئذ وسيلة فريدة لأبناء الشعب الذين يطمحون إلى مستقبل ما؛ وكان ذلك المنصب المتواضع الذي لا يحتم عليه الارتباط بعهد الكنيسة، يفتح له كثيراً من الأبواب المغلقة، ويحقق له كثيراً من المزايا التي تعاونه على التقدم في سبيل الحياة

ولم يمض سوى قليل حتى استطاع كازانوفا أن يجوز إلى المجتمع الرفيع وأن يعترف بكثير من الكبراء والنبلاء؛ وكان بين هؤلاء، غير صديقه وحاميه القديم بافو، سيد يدعى مالبيرو، وهو شيخ سابق، وثري منعم، يعيش في قصر فخم، ويجمع حوله جمهرة من الخلان الظرفاء، يتسامرون ويتحدثون عن اللهو والنساء والحب، كما يتحدثون عن السياسة والمسرح؛ وألفى مالبيرو في القس الفتى رفيقاً مؤنساً فاصطفاه واتخذه سميره وخله الحميم ومعاونه على تنظيم حفلاته الأنيقة؛ وكان كازانوفا في الواقع يتمتع في هذا الميدان بكثير من حسن الذوق والشمائل الرقيقة، فيتقدم لخدمة السيدات برشاقة ويخلب ألبابهن بظرفه، ويسبغ بحركاته وأحاديثه على الحفل كله مسحة من البهجة والرواء

وكانت البندقية يومئذ - في منتصف القرن الثامن عشر - منزل اللهو والمرح، تموج في الليل بالمسارح ودور اللهو، وتغمرها لمحة ساطعة من بهائها السابق؛ وكان الحب يرفرف على أرجائها وتنساب القوارب النحيلة في شوارعها المائية تحمل أزواج المحبين تحت جنح الظلام وأضواء القمر، وتقرع كؤوس الهوى في كل ناحية، ويسود الحبور والبهجة؛ وكان كازانوفا يخوض هذه الغمار المرحة سعيدا منعماً، ويستمرئ هذه المناظر البديعة التي تقدمها إليه المدينة التالدة، في ظل الرعاية التي يشمله بها صديقه وحاميه السيد مالبيرو

بيد أنه لم يلبث أن فقد هذه الرعاية. ذلك أنه كان للسيد مالبيرو صاحبة فتية حسناء تدعى تيريز، وكان كازانوفا يرنو إليها ويحوم حولها، ففي ذات يوم استطاع أن ينفرد بها في أحد

ص: 19

المخادع، وبينا هو يبثها جواه، إذ فاجأهما مالبيرو فانهال عليه ضرباً بعصاه، وطرده من منزله شر طرد، وفقد كازانوفا بذلك أكبر عضد، وأقصى عن ذلك المجتمع الساطع الذي كان يغشاه؛ وتولته على أثر ذلك نوبة من اليأس والكمد؛ وكانت جدته قد توفيت قبل ذلك بقليل، فأخذ يتصرف في مقتنيات المنزل ويبددها، واضطر الوصي على أخوته إلى التدخل، ووصل الأمر إلى القضاء فقبض عليه وأودع السجن؛ وفقد أثناء ذلك منصبه الديني وأخرج من حضيرة الكنيسة؛ ولما أطلق سراحه بعد ذلك بقليل، شعر أن البندقية تضيق به وبمشاريعه وأنه لم يبق له فيها أمل أو مقام

وكانت أمه قد كتبت إليه توصيه بالسفر إلى أسقف كالابريا فهو صديق لها وفي وسعه أن يعاونه وأن يوصي به؛ فعول عندئذ على السفر إلى رومه، ولكن الأسقف كان قد غادرها إلى مقر وظيفته في الجنوب؛ وكانت نقوده القليلة قد نفدت، وساءت حاله، واضطر أن يلتمس العيش بأخس الوسائل؛ وتعرف أثناء الطريق بتاجر يوناني يتاجر في الزئبق، واتفق معه على طريقة لغش الزئبق وتحصيل ثمنه مضاعفاً، واستطاع بهذه الوسيلة أن يكسب قدراً من المال؛ ووصل أخيراً إلى مارتيرانو مقر الأسقف، ولكنه شعر بآماله تتحطم حينما رأى حالة الأسقف الزرية من منزل قفر متهدم، وبؤس ظاهر، وعزلة قاتلة؛ فارتد أدراجه إلى نابولي ومعه بقية من المال؛ وهنالك بسم له الحظ، وقضى بضعة أيام سعيدة، تعرف خلالها بامرأة حسناء تدعى لوكريزيا وتوثقت علائقه معها بسرعة، وكانت في الواقع أول صاحبة حقيقية خضعت لسلطان هواه

ثم نراه بعد ذلك في رومه يطرق الأبواب ويحاول أن يشق طريقه؛ وقد كان عندئذ موفقاً إذ استطاع أن يلتحق بوظيفة في حاشية الكردينال اكوافيفا؛ وقضى حيناً في رومه يستزيد من الدرس وينعم بصحبة لوكريزيا، ويهيئ لنفسه جواً من الرعاية والعطف بذكائه وذلاقته ورقة شمائله

على أن هذه الحياة الهادئة المستقرة لم تكن لتروق فتى مضطرم الجوانح مثل كازانوفا، فقد كانت نفسه الوثابة الظمأى إلى المغامرة تحمله إلى آفاق أخرى؛ وكان شبح المرأة يثيره ويلهبه أينما وجد؛ وسرعان ما لفت الأنظار بفضائحه ودسائسه الغرامية وتفاقم الأمر حينما أتهم بإغراء سيدة تمت إلى بعض الأحبار بصلات وثيقة؛ ففقد وظيفته ومركزه مرة أخرى،

ص: 20

ورأى نفسه مرغماً على مغادرة رومه فغادرها إلى قسطنطينية يحدوه دائماً ظمأ المغامرة وتدفعه طلعة التجوال

ثم عاد إلى البندقية ولكن عاد إليها في ثياب ضابط. ذلك أنه مر في طريقه بالمعسكرات النمسوية والأسبانية، وحصل على ترخيص بالانتظام في سلك الجيش، وقدر أنه يستطيع أن يخلق له في ظل هذا الثوب حياة جديدة، ولكنه لم يحرز ترقية نظراً لسوء سلوكه، فخلع ثوبه العسكري واشتغل مدى حين كاتباً في مكتب محام، ولكنه لم يسكن طويلاً إلى هذا المنصب الوضيع؛ وأخيرا ذكر أنه يستطيع العزف على القيثارة مذ كان صبياً يدرس في بادوا، فانتظم عازفاً في إحدى الفرق المتواضعة؛ وفي ذات ليلة تعرف بسيد كبير وشيخ سابق يدعى براجادين في حفلة كان يعزف فيها، وقدر أن أصيب هذا الشيخ في نفس الليلة بنوبة صرع، وكان كازانوفا إلى جانبه في قاربه، فهرع إلى غوثه واستدعى له طبيباً، ولبث يعنى به حتى شفى، فعرف له براجادين هذه اليد، وقربه إليه وأنزله بقصره الفخم وأجرى عليه النفقة الواسعة، واستطاع كازانوفا في نفس الوقت أن يؤثر في مضيفه بمزاعمه في معرفة الغيب وضروب السحر، وأن يكسب ثقته، وأن يعود بفضل رعايته فيغزو ذلك المجتمع الرفيع الذي أقصي عنه مدى حين

(للبحث بقية)

(النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان

ص: 21

‌عشر كلمات

مهداة إلى (الأستاذ الزيات)

للأستاذ علي الطنطاوي

- 1 -

قال الله تعالى: (يا أيها الّذينَ آمنوا اصبروا وصابروا)(ولنَبْلُوَنّكم بشيء من الخوفِ والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشّر الصابرين). (ولنَبْلونكم حتى نعلَم المجاهدين منكم والصابرين). (واستعينوا بالصبر والصلاة إنّ الله مع الصابرين)(إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب)

- 2 -

قال أبو سنان: دفنت ابني سناناً، وأبو طلحة الخولاني جالس على شفير القبر، فلما فرغت قال: ألا أبشرك؟ قلت: بلى. قال: حدثني أبو موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنّة وسموه بيت الحمد

وعن أنس قال: اشتكى ابن لأبي طلحة فمات وأبو طلحة خارج ولم يعلم، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً ونحّته في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة، قال: كيف الغلام؟ قالت قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح؛ فظنّ أبو طلحة أنها صادقة، ثم قربت له العشاء، ووطّأت له الفراش، فلما أصبح اغتسل، فلما أراد أن يخرج أعلمته بموت الغلام، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبره، فقال: لعّله أن يبارك لكما في ليلتكما، فجاءهما تسعة أولاد كلهم قرءوا القرآن

- 3 -

قال محمد بن خلف: كان لإبراهيم الحربي ابن، وكان له إحدى عشرة سنة، قد حفظ القرآن، ولقنه من الفقه شيئاً كثيراً، فمات، فجئت أعزيه، فقال لي: كنت اشتهي موته. فقلت: يا أبا اسحق، أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا في صبيّ قد أنجب، ولقنته الحديث والفقه؟ قال: نعم،

ص: 22

رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، وكأن صبياناً بأيديهم القلال فيها الماء، يستقبلون الناس يسقونهم، وكأن اليوم حار شديد حره، فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، فنظر إليّ فقال: لا، ليس أنت أبي، فقلت: فأيش أنتم؟ قال: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا، وخلفنا آباءنا نستقبلهم فنسقيهم الماء، فلهذا تمنيت موته

- 4 -

كتب سعيد بن حميد إلى محمد بن عبد الله: ليس المعزّى على سلوك السبيل التي سلكها الناس من قبله، والمضيّ على السنة التي سنها صالحوا السلف له، وقد بلغني ما حدث من قضاء الله في أم الأمير، فنالني من ألم الرزية، وفاجع المصيبة ما ينال خدمه الذين يخصهم ما خصه من النعم، ويتصرفون معه فيما تناوله الله به من المحن، فأعظم الله للأمير الأجر، واجزل له المثوبة والذخر، ولا أراه في نعمة عنده نقصاً، ووفقه عند النعم للشكر الموجب للمزيد، وعند المحن للصبر المحرز للثواب، إنه هو الكريم الوهاب، ورحم الله الماضية رحمة من رضى سعيه، وجازاه بأحسن عمله، ولو كانت السبل إلى الشخوص إلى باب الأمير سهلة، لكان الله قد أجلّ الأمير عن أن يعزيه مثلي بالرسول دون اللقاء، وبالكتاب دون الشفاه؛ ولكن الكتاب لقاء من لا سبيل له إلى الحركة، وقبول العذر عمن حيل بينه وبين الواجب

- 5 -

لما حضرت الإسكندر الوفاة كتب إلى أمه أن اصنعي طعاماً ويحضره الناس، ثم تقدمي إليهم ألا يأكل منه محزون، ففعلت، فلم يبسط أحد إليه يده، فقالت: مالكم لا تأكلون؟ فقالوا: إنك تقدمت إلينا ألا يأكل منه محزون، وليس منا إلا من أصيب بحميم أو قريب. فقالت: مات والله أبني، وما أوصى إليّ بهذا إلا ليعزيني

- 6 -

كتب ابن السماك إلى الرشيد يعزيه عن ابن له: أما بعد، فإن استطعت أن يكون شكرك لله حين قبضه، أكثر من شكرك له حين وهبه فافعل، فإنه حين قبضه أحرز لك هبته، ولو سلم لم تسلم من فتنته، أرأيت حزنك على ذهابه، وتلهفك لفراقه؟ أرضيت الدار لنفسك

ص: 23

فترضاها لأبيك؟ أما هو فقد خلص من الكدر، وبقيت أنت معلقاً بالخطر؛ واعلم أن المصيبة مصيبتان إن جزعت، وإنما هي واحدة إن صبرت، فلا تجمع الأمرين على نفسك

- 7 -

قدم رجل من عبس، ضرير محطوم الوجه على الوليد، فسأله عن سبب ضرّه، فقال بت ليلة في بطن واد ولا أعلم على الأرض عبسياً يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل فأذهب ما كان لي من أهل ومال وولد، إلا صبياً رضيعاً، وبعيراً صعباً، فنذّ البعير والصبي معي، فوضعته واتبعت البعير لأحبسه، فما جاوزت إلا ورأس الذئب في بطنه قد أكله، فتركته واتبعت البعير فاستدار ورمحني رمحة حطم بها وجهي، وأذهب عيني. فأصبحت لا ذا مال ولا ذا ولد

فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة ليعلم أن في الناس من هو أعظم بلاء منه، وكان عروة بن الزبير أصيب بابن له وأصابه الداء الخبيث في إحدى رجليه فقطعها، فكان يقول: كانوا أربعة - يعني بنيه - فأبقيت ثلاثة وأخذت واحداً، وكن أربعاً - يعني يديه ورجليه - فأخذت واحدة وأبقيت ثلاثة؛ أحمدك، لئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت أبقيت لقد عافيت. وشخص إلى المدينة فأتاه الناس يبكون ويتوجعون، فقال: إن كنتم تعدونني للسباق والصراع فقد أودى، وإن كنتم تعدونني للسان والجاه فقد أبقى الله خيراً كثيراً. .

- 8 -

وعزى موسى بن المهدي سليمان بن أبي جعفر عن ابن له فقال: أيسرك وهو بلية وفتنة، ويحزنك وهو صلاة ورحمة؟

وعزّى سهل بن هارون فقال: التهنئة على آجل الثواب، أولى من التعزية على ما حلّ من المصيبة

وقال عبد الله بن الأهتم: مات لي ابن وأنا بمكة، فجزعت عليه جزعاً شديداً، فدخل عليّ ابن جُريج يعزيني، فقال يا أبا محمد، اسلُ صبرا واحتساباً، قبل أن تسلو غفلة ونسياناً

وعزّى عليّ كرم الله وجهه الأشعث عن ابنه، فقال: إن تحزن فقد استحقت ذلك منك الرحم، وإن تصبر فإن في الله خلفاً من كل هالك، مع أنك إن صبرت جرى عليك القدر

ص: 24

وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت آثم

- 9 -

جزع رجل على ابن له فشكى ذلك إلى الحسن، فقال له: هل كان أبنك يغيب عنك؟ قال: نعم، كان مغيبه عني أكثر من حضوره. قال: فاتركه غائباً، فإنه لم يغب عنك غيبة الأجر لك فيها أعظم من هذه الغيبة

- 10 -

وكتب بعض الكتاب معزياً: لو كان يمسك من أذى يشترى أو يفتدى، رجوت أن أكون غير باخل بما تضن به النفوس، وأن أكون سترا بينك وبين كل ملم ومحذور، فأعظم الله أجرك، وأجزل ذخرك، ولا خذل صبرك، ولا جعل للشيطان حظا فيك ولا سبيلا عليك

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته

علي الطنطاوي

ص: 25

‌5 - التعليم والحالة الاجتماعية في مصر

للأستاذ إسماعيل مظهر

لقد بلغنا من البحث ذلك المبلغ الذي يهيئ لنا أن نخلص إلى النتائج، فقد شرحنا الأسباب التي أفضت بنا إلى تخريج متعلمين عاطلين لا عمل لهم، ولا بيئة يمكن أن ينتفع فيها بما تعلموا، وصورنا مجمل النتائج الاجتماعية التي تترتب على هذه الحال، وطبقنا النظريات الاجتماعية فاستنبطنا منها صورة لما سوف يكون عليه مجتمعنا في المستقبل القريب والنتائج السيئة التي ستظهر آثارها جلية واضحة في عجزنا عن الاحتفاظ بحملة اجتماعية ثابتة قوية الأركان، وعطفنا من ثم على وصف صورة من أدبنا ووطنيتنا، وعزونا كل النقائص إلى نظرية جديدة محصلها أن الانفصال عن ثقافتنا التقليدية كان سبباً في أن نصبح ككائن حي لا معدة له، يأكل ولا يهضم، فتراكمت في كيانه كل النفايات التي لا تلائم طبعه ولا تتفق ومزاجه، وأن ذلك كان سبباً في ألا تظهر له شخصية خاصة به، وأصبح كَلاًّ على غيره بأن فقد استقلاله الذاتي في الحياة

ويجدر بنا بعد ذلك أن نعين مم تتكون الثقافة التقليدية، ليتيسر لنا أن نحدد البحث تحديداً منطقياً مقبولا، فإن لكل ثقافة تقليدية اختصت بها أمة من الأمم مكونات تنتهي إلى أصول بعينها؛ وعندي أن للثقافة التقليدية عنصرين: الأول عنصر عقلي، والثاني عنصر معاشي، وكلاهما موروث؛ فالأول يتكون وراثة من اللغة والدين والتاريخ والأدب والفنون الخ، والثاني يتكون وراثة من كل ما يتعلق بالأحوال المعاشية، وهي في مصر الزراعة وما يتعلق بها من المنتجات، ومن أجل أن يكمل استقلال الفرد استقلالا عملياً في الحياة، ينبغي أن يتجه تنشيئه إلى أصل أساسي، وبالأحرى إلى سياسة عملية ترمي إلى وصله بالعنصرين وصلا وثيقاً، حتى يستطيع أن يمثل جميع ما يلقح به من مقتضيات الثقافة الحديثة، فيكفيها على حسب ما تتطلبه حاجات ثقافته التقليدية، وأن ينفي عن جسمه كل ما هو غير ملائم له، فيضل سليما؛ شأن كائن اتصف بكل ما تمده به حيوية مكتملة من الصفات الضرورية للحياة، وتتكافأ في كيانه كل الأعمال المنظمة التي ترجع إلى قدرة أعضائه على تنظيم وظائفها المتبادلة تنظيما دقيقاً يساعد الطبيعة على أن تفسح له في الحياة مركزاً جديراً بما يتصف به من صفات، وبما له من مقدرة على الاستقلال بذاته

ص: 26

تتصل مصر بثقافتين من أمجد الثقافات التي خلفها النوع الإنساني: ثقافة العرب: ديناً ولغة؛ وثقافة المصريين: فناً وحياة؛ ولاشك في أن الثقافتين تمتزجان الآن في المصريين امتزاجاً عظيما، حتى ليتعين علينا أن نقول إن ما نعني بالثقافة التقليدية ينحصر فيما ينتج مزيج الثقافتين القديمتين من حالات تشعر بأن ماضينا مكون منها، وأن دمنا ملقح بها، وأن تصوراتنا وأخيلتنا ومشاعرنا وجماع ما فينا من صفات إنما تنعكس عنها وتنبعث منها. وكذلك إذا قلنا (المصرية) فإنا لا نعني بها شيئاً إلا مزيج تينك الثقافتين المجيدتين اللتين كونتا لنا على مرور العصور تراثاً قوياً نستند إليه، ودعامة مثلى لمجد ينتظرنا إذا نحن استوحيناهما واسترشدنا بوحيهما، واتخذناهما أساسا نقيم عليه لمستقبلنا، ولم نعزف عنهما شأننا الآن

وإذن يكون لنا من ثقافتنا التقليدية ناحيتان: الأولى ثقافة تزودنا بها اللغة العربية والدين الإسلامي؛ وهذه الناحية تكون أكثر ما فينا من نزعات الأدب والعلم؛ والثانية ثقافة تزودنا بها مصر لقديمة؛ وهذه بدورها تكون متجهنا الفني والمعاشي، ومنهما معا يتكون ذلك التراث الخالد الذي ندعوه ثقافة المصرين التقليدية

ولن يكون هذا البحث كاملا إلا إذا عرفنا قيمة اتصالنا بهذه الثقافة ومقدار ما نحتاج إليها في تكوين نهضتنا الحديثة تكوينا نضمن معه الثمرة العملية التي ترجى من جيل جديد قادر على الكفاح في الحياة، والعمل المنتج الذي يعيننا على إقرار الحالات الاجتماعية على أساس ثابت، وآمل أن أكون قد أفلحت بعض الشيء في تصوير ذلك في سياق هذا البحث

لا ريبة في أن التعليم العام هو الأداة التي تمهد لنا سبيل الاتصال بثقافتنا، ولقد وضح لنا حتى الآن أن السياسة التي جرى عليها التعليم في بلادنا قد أضعفت من وسائل هذه الأداة أضعافا ظهر أثره جليا في كل مرافقنا، بل وفي كل نواحي حياتنا عقلية ومادية

عمد الأوربيون منذ عصر النهضة الأدبية الحديثة إلى الاتصال بثقافتين أوربيتين كانتا العماد الأول والسنادة العظمى في تلك النهضة. عمدوا إلى ثقافة اليونان وثقافة الرومان، حتى لقد غالوا في ذلك باتخاذ اللغة اللاتينية لغة رسمية في العلم وفي الأدب وفي الفن، فأحيوا بذلك ثقافتين لم يكن لهم مناص من إحيائهما لتكونا الوصلة بينهم وبين ماض صبغ ثقافته حوض البحر المتوسط قروناً بصبغة خاصة ولون خاص؛ ولا تزال جامعات أوربا

ص: 27

حتى اليوم تعنى العناية كلها بتلقيح عقول الناشئين بتراث الثقافتين معاً، بل وتجعل درس اللغتين اليونانية واللاتينية أصلا من أصول التثقيف العالي، فلم كان ذلك؟ ولأي من الأسباب الحيوية التي شعر بها الأوربيون في بدء نهضتهم ترجع هذه الظاهرة؟ إنها ترجع كما قلنا إلى أن الثقافة التقليدية هي الأصل الذي يجب أن يضل ثابتا في بناء الأمم الأدبي والاجتماعي، ليكون ملقحا للآراء والنظريات وضروب الثقافات الدخيلة، احتفاظا بالطابع الأصيل في الأمة، ذلك الطابع الذي هو جزء من كيانها وقطعة من وجودها، وليكون في الوقت ذاته العدة في تمثيل ما يتصل بثقافة الأمة من الثقافات المنتحلة غير الأصيلة، وتكييفها تكييفا يتفق ونزعاتها ومشاعرها وأخيلتها، وعلى الجملة يتفق وثقافتها التقليدية. فهل اتبعنا في نهضتنا هذا السبيل القويم؟ وهل كفل لنا التعليم الوصول إلى هذه الغايات العليا؟

كلاَّ. لم يكفل لنا التعليم شيئاً من هذا. وأقصد به التعليم بناحيته: الناحية التي تمثل وراثتنا عن العرب لغة وديناً، وأعني بها الأزهر، فإنه لم يلقح بشيء من الثقافات الحديثة التي يجب أن يلقح بها لتكون له بمثابة الدم الجديد يجري في العروق القديمة. وكذلك لم تعن الناحية التي تمثل ثقافتنا الدخيلة: أي الثقافة الأوربية وأعني بها ناحية التعليم الزمني، بأن تكوّن فينا تلك الفطرة التي تصلنا بثقافتنا التقليدية لتكون معملا حديثاً يتحلل فيه ما يصلنا عن أوربا، ويخرج منها مصبوغاً بصبغة مصرية أصيلة. ومثل الأزهر في ذلك كمثل كائن حي هَضمَ ولم يأكل، ومثل التعليم الزمني كمثل كائن حي أكل ولم يهضم. فناحية جائعة وناحية متخومة

لقد ظل اتصال الأزهر بذلك الجزء الذي يمثله من ثقافتنا التقليدية غير مكيف بمقتضيات العصور والحالات التي قامت خلالها وهو أقل تكيفاً بمقتضيات هذا العصر منه بمقتضيات كل عصر مضى. أما إذا كانت كلمة الثقافة تدل على تكييف الذهن تكييفاً تاريخياً أول شيء - ونقصد بالتكييف التاريخي خلق تصورات جديدة من تاريخ الأمم القديمة - فما من شك إذن في أن الأزهر لم يتصل بالثقافة التقليدية من ناحيتها التي تخلق هذا التصور، وإنما اتصل بناحية من الثقافة التقليدية صدت التصوّرات عن الابتعاث في سبيل الابتكار. وكذلك ظل تعليمنا الزمني بعيداً عن الاتصال بثقافتنا التقليدية من جميع نواحيها تقريباً. ومن هنا

ص: 28

ذلك الصدع المتنائي الذي نلحظه قائما بين الناحيتين

ولقد يخيل إلى أن ما مضينا فيه من بحث هذه الناحية كاف للبيان عما نقصده من ضرورة الاتصال بثقافتنا التقليدية من الوجهة العقلية. أما الوجهة الفنية المعاشية، وهي الناحية التي لها الأثر الأكبر في علاج الحالات الاجتماعية التي قامت حفافينا من الناحية الاقتصادية، فتلك ما سوف أصور كيفية الاتصال بها تصوراً عملياً لأن ذلك هو الغرض الأول من بحثنا هذا

إذا كنا ما قلنا صحيحاً من أن البطالة في مصر والتعليم أمران متصلان أشد الاتصال، باعتبار أن أحدهما مرض والثاني علاج، فالواجب يقضي علينا بعد أن أظهرنا أوجه الاتصال أن نبين عن الطريق العملي الذي يجعل العلاج ناجعاً في القضاء على الداء. ولما كانت ثقافتنا التقليدية من الوجهة المعاشية هي الزراعة تحتم علينا بحكم الضرورة أن ننقل درجتي التعليم الأوليين، أي الابتدائي والثانوي، وهما الدرجتان التكوينيتان في مراحل التعليم، من المدن إلى القرى، وأن نقيمهما على سياسة تختلف اختلافاً تاماً عن السياسة التي يجريان عليها الآن

تجري سياسة التعليم الآن في هاتين المرحلتين على أساس نظري بعيد عن أن يجعل لنا أي اتصال بثقافتنا التقليدية، من وجهتيها العقلية والمعاشية. وإني لا أكون مغالياً إذا قلت إن هذه السياسة لا تصلنا بثقافة أوربا أيضاً بحيث تجعلنا قادرين على فهم ما ننقل منها فهماً صحيحاً مفيداً. وما قولك في شاب يخرج من التعليم الثانوي جاهلاً بلغته العربية وأصولها وآدابها غير متصل بآداب دينه، غير عارف بشيء من تاريخ بلاده، وبالأحرى من تاريخ العرب أو تاريخ مصر، عاجز عن التعبير تعبيراً صحيحاً بأي من اللغتين الأوربيتين اللتين يتلقاهما في مراحل ذلك التعليم؟ أضف إلى ذلك أنه بجانب هذا يخرج من التعليم الثانوي غير متصل بشيء من ثقافة بلاده التقليدية من الوجهة المعاشية، غير متصل بطبيعة الأرض التي أنشأته أو بطرق استغلالها مشحون الذهن بنظريات وأوهام يتعذر معها أن يعايش الفلاح وأن يدرك شيئاً من سر حياته وتقاليده وخطراته ونفسيته. فكأننا بهذا التعليم نخلق من حوله جواً مصطنعا وبيئة عقلية غريبة عن طبعه؛ فيصبح بذلك أداة عاطلة في جسم الاجتماع وبزرة حية للتبرم من الحالات القائمة من حوله في مرباه، بل

ص: 29

ومنشأ للقلق ومرتعا لغرس الأفكار المتطرفة الخاطئة؛ وعلى الجملة يكون موضعا خصبا لغرس بذور الشر والفساد، والعمل على قلب النظم الاجتماعية طمعاً في الحصول على نظم تلائم كفاياته وتتفق ومؤهلاته التي أهله لها التعليم. ذلك بأن كل عقلية لها تكوين خاص تنشد من طريقه دائماً البيئة التي ترضيها، وعجز المتعلم العاطل عن الإنتاج إنما يحمله بمقتضى موحيات عقله الباطن على أن يعمل على تكوين البيئة التي تلائمه متخذاً من النظم الاجتماعية التي نشأ فيها مادة يجرب فيها مقدار ما في نفسه من قوة التحليل، لا من قوة التشييد، على خلق البيئة التي ترضيه، والنظم التي توائم عقليته وكفاياته

إن الخطوة الأولى التي ندعو إليها وهي نقل درجتي التعليم الأولين من المدن إلى القرى، لخطوة ضرورية في علاج سياسة التعليم، وهي الخطوة الأساسية في وصل التعليم بثقافة البلاد التقليدية من الوجهة المعاشية. أما الخطوة الثانية فتنحصر في إقامة مدارس الحقول، فتشيد المدرسة على أرض فسيحة تكفي لأن تكون ميداناً يتعلم فيه الطلاب طرق الزراعة العلمية على القواعد الحديثة، ويجب مع هذا أن تلغى الشهادة الابتدائية ويكتفى بشهادة التعليم الثانوي، وأن يبدأ الطالب حياته التعليمية من الثامنة، ويفرغ من تعليمه الثانوي بعد عشرين سنة، فيخرج من المدرسة وله من العمر ثماني عشرة سنة أو عشرون سنة. فإذا أراد أن يتخصص بعد ذلك في التعليم العالي فله ذلك ولكن بعد أن يكون قد اتصل بثقافة بلاده التقليدية، وقامت معلوماته على أساس عملي رشيد، يكون إليه مرد رزقه إذا تخصص وعجز عن كسب رزقه الحلال.

هذا هيكل من الرأي يحتاج إلى شرح وجيز. فأننا لا نعني أن تعليم الطلاب في تلك المدارس الزراعة العملية يجب ألا يصل الطالب بالناحية النظرية، وإنما نعني أن يكون أساس التعليم فيها الزراعة العملية وما يتصل بها من العلوم، وبجانب ذلك تعليم نظري قائم في أول الأمر على الاتصال بثقافة المصريين التقليدية من الوجهة العقلية، مع العناية بأمر اللغات الأوربية عناية كبرى حتى يتيسر لنا الاتصال بثقافة العصر اتصالاً وثيقاً صحيحاً

أضف إلى ذلك أن الطالب ينبغي أن يلقن كل ما يتصل بالإنتاج الصناعي من الوجهة الزراعية، فيخرج ملماً بطائفة من الصناعات المتصلة بمحصولات بلاده الزراعية عارفاً بسرها ووجهة الانتفاع بها. وإني لن أغلي إذا قلت إن كثيراً من الذين ينجحون من أهل

ص: 30

أوربا في بلادنا أكثر اتصالا بثقافة بلادنا التقليدية من الوجهة المعاشية من الطالب المتخرج في كلية عليا من كلياتنا. وفي هذا سر نجاحه العملي وسر عطل شبابنا عن العمل. ولهذا يتحتم علينا أن ندعو إلى نشر الصناعات، ولكن الصناعات التي تتصل أو شيء بمنتوجاتنا الزراعية، وأن نصدف عن غيرها لأنها لا تفيدنا شيئاً في حياتنا المعاشية أو تثبيت حالاتنا الاجتماعية المرتجة الشاذة. وبخاصة إذا وعينا أن دور التعليم على اختلاف نواحيها تخرج كل عام عدداً من المتعلمين تعليما غير عملي زائداً عن حاجة البلاد.

وإنما يجب أن يتجه التعليم في الحقول إلى غاية أخلاقية، محصلها أن يغرس في طبيعة المتعلمين تصور جديد في شرف المهنة التقليدية التي ورثناها عن أسلافنا، ألا وهي الزراعة. فإن التلميذ يجب أن يضع يده في كل عمل يمكن أن يؤديه الفلاح بنفسه، وأن يتصل من طريق عضلاته بكل ما تتطلب مهنة الزراعة من أعمال جسمانية، وأنه لا يرى في ذلك شيئاً خادشاً لعزته أو مذلا لنفسه

أورثتنا الحكم التركي المشؤوم عادة احتقار الفلاح، لأن كلمة (فلاح) كانت توازي عند التركي أحط ألفاظ الشتم وأشنع كلمات السباب. ولطول الأمد الذي اعتدنا أن نسمع فيه هذه الكلمة مؤدية ذلك المعنى غرس في طبيعة المصريين أنفسهم، بطريق التكرار ومستوعيات العقل الباطن، ميل إلى احتقار الفلاح واحتقار مهنته، والاعتقاد بأن العمل اليدوي في الزراعة إنما هو عقاب نفسي مرهق للنفس خادش للذة. وأنت ترى أن الأعراب في مصر قد انتحلوا هذه العادة. فإنك إذا سألت أعرابياً أفلاح أنت؟ أجابك على الفور:(كلا! أنا عربي!) ولكن بنبرات تدل على أنه يعتبر الكلمة اعتداء على مكانته السامية، وقد يكون من خشاش الناس ومن ذؤبان العرب، مهلهل الثياب قذر المنظر والمخبر.

ولم يقف الأمر عند هذا، بل إنك تجد أن الفلاح إذا قضى خدمته العسكرية وسرح من الجيش أنف أن يعود إلى الحقل أو أن يحمل المحراث أو يقود الماشية؛ فإذا عجز عن أن يكون شرطياً، قضى وقته في القرية عاطلا أو محترفاً حرفة أخرى غير الزراعة، فتجده نجاراً أو حداداً لا يملك قوت يومه. وقد يتطرف بعضهم في احتقار مهنة آبائه فيغشى المجالس عازفاً على قيثارة، لأنه كان في موسيقى الجيش، مستجدياً بها، كأنما هو يعتقد أن الاستجداء بالعزف على قيثارة أشرف من العمل في الحقول. ولاشك في أن هذه الظاهرة قد

ص: 31

أورثت نقصا نفسيا يمكن تعليله علمياً، ولكن ليس هنا مكان إيضاحه. ولكن ذلك لا يحول دون القول بأن هذه الظاهرة من السهل علاجها بأن نعود أولادنا الاعتقاد بشرف المهنة التي تربي جسومهم، وعليها قامت مدينتهم منذ أقدم العصور، على أن نفهمهم أولاً أن لهم مدنية وماضيا جديرين بالاحترام

والمحصل أننا لن نخلص من نتائج البطالة إلا بالالتجاء إلى إقامة سياسة التعليم على قواعد جديدة أساسها الأول الرجوع إلى ثقافتنا التقليدية، فنخرج رجالا مستقلين بأنفسهم يعرفون كيف يرجعون إلى حضن أمهم الأولى (مصر) إذا أرادوا الحياة سعيدة هنية. ومن أجل أن نصل إلى هذه النتيجة ينبغي لنا أن ننتحي أسلوباً معيناً ينحصر في تنفيذ الآتي:

أولاً - جعل مدة التعليمين الابتدائي والثانوي عشر سنوات يمتزج فيها التعليم النظري بالتعليم العملي الزراعي، وأن يغرس في الطلاب روح الاعتقاد بشرف مهنة آبائهم التقليدية، وأن يقترن هذا التعليم بتلقين الصناعات الزراعية وبخاصة ما يتعلق بالزراعة العملية منها

ثانياً - درس تاريخ العرب والمصريين درساً تحليلياً وافياً

ثالثاً - درس مبادئ العلوم والآداب العامة، وهي الجهة التي تلقح بها عقولنا من الثقافة الحديثة

رابعاً - درس آداب العرب ومبادئ الدين العليا.

خامساً - درس عقائد المصريين القدماء وطرق معيشتهم وآثارهم وأعيادهم، وعلى الجملة كل ما يتعلق بحياة الجماعة في مصر القديمة

وهنالك بجانب هذا أشياء يجب أن يهيأ الناشئ بمعرفتها ولكنها جميعاً تفاريع عمل هذه الأصول فلا محل لذكرها

فإذا تخرج الطالب وله من العمر ثماني عشرة سنة أو عشرون أصبح على الحكومة له واجباً تؤديه، هو أن تمنحه قطعة من أرضها المملوكة لها يؤدي لها ثمناً قليلاً على أقساط طويلة، وأن تمده برأس مال إن احتاج إليه يسدد مع ثمن الأرض ليكون عونه على إعداد عدته لحياة العمل والكفاح

هذا طريق الخلاص، وهو وحده طريق القضاء على البطالة، وإخراج جيل جديد منشَّأٍ على

ص: 32

طرق عملية، جيل مكافح عامل خال من آثار الأمراض الاجتماعية، جيل يشعر بأنه مستقل في الحياة وأن له عزة الرجولة وشرف الانتساب إلى مصر الخالدة، جيل، هو جيل الاستقلال الحقيقي والعمل لمجد النيل

إسماعيل مظهر

ص: 33

‌قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

وكيل كلية العلوم

الدفتريا

بين واجد سمها الفرنسيّ، وكاشف ترياقها الألماني

- 1 -

في عام 1888 ألقى بستور من كفه المشارط والأنابيب، ونفض يده من الأبحاث، فقام تلميذه أميل رو فالتقط الذي ألقاه أستاذه، وغمر يده في الذي ترك سيده، واتخذ لنفسه بحثاً مستقلاً. فلم يمض قليل من الزمن حتى اكتشف سّماً غريباً يتحلّب من بَشِلاّت الدفتريا سمّاً تقتل الأوقية المركزة منه خمسة وسبعين ألف كلب كبير

وبعد هذا بسنوات قليلة، بينا كوخ يخفّض من رأسه نحت وابل الشتائم واللعنات التي صبها عليه من كانوا آمنوا بعلاج سلّه المزعوم ثم خُدِعوا فيه وجَنَوا منه الثُّكْل والأحزان، قام أحد تلاميذه، وكان شاعراً، فخفّف من إخفاق أستاذه كوخ بأن كشف في دم الخنازير الغينية عن مادة غريبة إذا هي التقت بسم الدفتريا ذهبت بشره وجعلته بَرداً على الناس وسلاما، وكان اسم هذا الشاعر العالم أميل بارنج

اكتشف أميل الفرنسي سم هذا الداء، واكتشف أميل الألماني ترياقه، فأحيا الأميلان الأمل في أنفس الناس بعد أن أضاعه كوخ بنكبته الكبرى؛ فعادوا ولو إلى حين يرجون أن تصبح المكروبات أصدقاء الإنسان بعد أن كانت أعداءه، وأن تصير لُعبات لا تضر، يتَلَّهى بها البُحاث ويتسلون من سأم وعناء

قام هذان الشابان بتجاربَ أي تجاربَ أي تجاربٍ لاستقصاء هذا الداء؛ قاما بها في هلعٍ مجنونٍ ليخلّصوا أرواح البرايا. شقا طريقهما إلى غايتهما في مجزرة لم تسمع الدنيا بمثلها. جزرا فيها عدداً لا يحصى من الخنازير الغينية، جزراها ليخلّصا من الموت عدداً أكبر لا

ص: 34

يحصى من الأطفال المساكين. ففي الأمساء كانت معاملهم كميادين القتال في الأزمان الخوالي، حين كان الجند تُبقر بطونهم وتقطّع أوداجهم بالحراب تارة والنبال تارة أخرى. ضرب رو بأظفاره كالغول في أطحلة الموتى من الأطفال، ودار بارنج بين الدماء في ظلام من الجهل دامس حتى اصطدم أنفه بباب انفتح له عن حقائق وضّاءة باهرة ما كانت لتخطر على بال الإلهة

ولكنهما دفعا عن كل تجربة ناجحة ثمناً غالياً: ألفَ تجربة فاشلة، ولكن مع هذا، وبرغم هذا، قد اكتشفا الترياق

وما كان لهما أن يكتشفاه لولا أن سبقهما كشفٌ متواضع قام به فردريك لُفلار صياد المكروب الذي حمل على شفته شارباً ألمانيا حربيا علا واستطال حتى حجب بصره، فكان إذا نظر في المجهر نحّاه عن عينه؛ وكان يعمل لُفلار إلى يمين أستاذه كوخ في زمن البطولة الأولى حين كان يتصيد مكروب السل. ففي أوائل ذلك العقد التاسع من القرن الغابر كانت وطأة الدفتريا شديدة جداً، والدفتيريا داء تشتد وطأته وتلين في القرن الواحد مراراً. وامتلأت في المستشفيات عنابر الأطفال بالمرضى، وعلت أصوات أهليهم بنحيب لا فائدةَ منه تعود ولا نفع يُرجى، وخرجت من تلك الحلوق الصغيرة سعلة تصحبها قرقرة تنذر بأن الاختناق قريب، وتراءت وجوههم الصغيرة الزرقاء في وساداتهم البيضاء وقد ازرقّت من فعل اليد الخفية التي عصرت حلوقهم وضغطت على قلوبهم. ومشى الأطباء في هذه الأروقة يسترون يأس القلوب ببشاشة الوجوه، وساروا من سرير إلى سرير لا حول لهم ولا قّوة إلا أن يدسّوا في حلق طفل مختنق أنبوبة في هذا الغشاء الذي يسد عليه منفذ الهواء يحاولون بذلك أن يفتحوا له منفذاً إلى رئتيه

وقذفت خمسة أسرة من كل عشرة بأحمالها إلى رواق الأموات. وكان في أسفل الدار، وكان به لُفلار يعمل بجد لا يفتر، وهمة لا تضعف. كان يغلي مشارط، ويحمي في النار أسلاك البلاتين، ويدخلها إلى هذه الحلوق الجامدة من تلك الأجسام الهامدة التي أخفق الأطباء في طلب الحياة لها؛ ثم يخرجها منها وقد حملت مادة شهباء، فإما أن يدخلها في أنابيب رفيعة يسدها بنتافات من القطن بيضاء، وإما أن يضع عليها الأصباغ ثم ينظرها بالمجهر فيريه بَشِلاّتغريبة منتفخة الأطراف، وقد تنقّطت وتخططت بصبغته الجميلة الزرقاء، وكشف عن

ص: 35

هذه البشلة في الحلوق جميعها، وأسرع يطلع أستاذه كوخ عليها

لاشك أن كوخ أخذ بيد لفلار أخذا وهو يكشف عن هذه البشلة. وكأني بك تسمع كوخ يقول له: (لا فائدة من النط إلى استنتاجات غير ناضجة، يجب عليك أول شيء أن تربيِّ هذا المكروب نقيا، ثم عليك بعد ذلك أن تحقنه في حيوانات، فإذا هي أصيبت بمرض يشبه دفتريا الإنسان تماما، إذن. . . .) كيف كان يضل لفلار وإلى جانبه هذا المتحذلق الشديد في حذلقته، هذا الحذر الغالي في حذره، طَلاّبُ الحقيقة وسيد قنّاص المكروب؟ كيف كان يضل لفلار وإلى جانبه هذا الداهية ينظر إليه ازورارا من نظارته التي ما كانت تفارق عينيه أبدا؟

وامتحن لفلار جثة طفل بعد أخرى، وفتش في كل جزء من أجزائها وهي طريحة تبعث الأسى في القلوب، وصبغ مائة سليخة مختلفة من كل عضو من أعضائها، ثم حاول أن يربيِّ هذه البشلات المخططة نقيّة، وأفلح في ذلك سريعا، ولكنه لم يجد هذه البشلات حيثما بحث في الأجساد إلا في الغشاء الذي بحلوقها، ودائما في هذه الحلوق، إلا طفل أو طفلين، كان يقع على هذه البشلات المنتفخة الأطراف، فتفكّر لفلار:(كيف تأتى لهذه المكروبات القلائل التي لا تحلّ من الجسم إلا في الحلق، كيف تأتىَّ لها وهي لا تفارق مكانها أن تقتل الطفل بمثل هذه السرعة؟ ولكن لعل الأولى بي أن أتبع ما قال السيد كوخ). وبدأ يحقن زريعاته من البشلات النقية في الأرانب في قصباتها الهوائية، وفي الخنازير الغينية تحت جلودها. وما أسرع ما ماتت هذه الحيوانات. ماتت في يومين أو ثلاثة كما يموت الطفل أو كانت أسبق إلى الموت. ثم أخذ يبحث عن المكروبات في أجسام هذه الحيوانات فلم يجدها إلا حيث دخلت الحقنة فحسب. . . . . . وأحيانا أعوزه وجودها حتى هنالك، إلا أن تكون وحدات منها قليلة ضعيفة لا تقوى على الإضرار ببرغوث صغير.

وتساءل لفلار: كيف أن قليلا من بشلات تحل من الجسم في ركن قصِيّ منه، كيف أنها في قلتها وعزلتها تستطيع أن تصرع هذا الجسم وهو في عظمه أكبر منها ملايين المرات

وكان لفلار باحثاً أميناً لا يفوقه في أمانته من البُحّاث أحد. وكان دقيقاً بطبعه فكانت تواتيه الدقة بغير عناء. وكان أقل الرجال حظا من الخيال الجامح فلم يتدخل شيء منه في نتائجه الدقيقة فيزينها - أم هو يفسدها - بالذي ليس منها. وجلس يوما إلى مكتبه وكتب رسالة

ص: 36

علمية تتضمن خلاصة بحثه، فكانت مقالة متواضعة، باردة، لا تؤمل قارئها في شيء، ولا تحمسه لأمر. كانت على نقيض ما يكتب المحامون. وجادل فيها أمر هذه البشلات، أهي سبب الدفتريا وجرثومتها أم هي غير ذلك. ذكر كل الحقائق التي قد تؤدي إلى أنها جرثومتها حقا، وذكر كل الحقائق التي قد تؤدي إلى نقيض ذلك. تشبث بالأمانة تشبثا كبيراً، وكتب كل ما قد ينفي أن تكون هذه البشلة سبب الداء: وكأني بك تسمعه إذ يحدث نفسه وهو يكتب فيقول: (قد تكون هذه المكروبة هي السبب، ولكني في عدد قليل من جثث الأطفال لم أستطع أن أجدها. . . والحيوانات التي حقنتها لم يصبها شلل كالذي يصيب الأطفال. . . والحقيقة التي هي أشد مناقضة لي هي أني وجدت نفس هذه المكروبة - وهي تقتل الأرنب والخنزير الغينيّ - في حلق طفل ليس عليه من أعراض الدفتريا شيء)

وغالى في أمانته فلم يقدر بحثه الجميل الذي أتاه حق قدره، ولكنه في أخر رسالته كتب فقرة أوحى فيها بحل المعضل وفك المشكل وإيضاح السبيل إلى سر هذا الداء، إيضاح السبيل إلى غيره لا إلى نفسه، إلى الفرنسي رو وإلى الألماني بارنج اللذين جاءا من بعده وكانا أشد منه خيالاً وأنفذ به في المشكلات المعضلات بصيرة. غريب أمر لفلار! عرف السبيل الذي يسلكه لبلوغ الغاية، ولكن بدل أن يتحرك هو ويقوم على قدميه فيسلكها، إذا به يدل غيره فيفوز سواه بالحمد دونه. قال لفلار:(إن هذه البشلة تبقى على رقعة قليلة لا تخرج عنها في غشاءٍ ميّت في حلق الطفل المريض. وتبقى كذلك في مساحة ضيقة لا تعدوها تحت جلد الخنزير الغيني بعد حقنه. فهي لا تتكاثر فتصير ملايين وتعم الجسم كما نتوقع ولكنها مع ذلك تقتل حيث هي من مكانها! فكيف يكون هذا؟ لابد أنها تصنع سّما يخرج عنها فيسير وحده في الجسم حتى يصل إلى موضع منه قتّال. فلابد من التفتيش عن هذا السمّ ولابد من وجوده. فتشوا عنه في جثث الأطفال، أو فتشوا عنه في أجسام الخنازير الغينية التي قتلها الداء. نعم. نعم. أو فتشوا عنه في الحساء الذي تنموا فيه البشلة وتربو. . . إن الرجل الذي يكشف عن هذا السم سيثبت ما عجزت أنا عن إثباته)

هذا هو الحلم الذي أرآه لفلار؛ هذه هي الرجية التي ارتجاها؛ هذا هو المفتاح الذي وضعه لفلار في كف رو، والذي فتح به رو ما استغلق على لفلار

في العدد القادم: كيف أكتشف رو سم الدفتريا

ص: 37

أحمد زكي

ص: 38

‌الحياة الأدبية في لبنان

بقلم سامي الشقيفي

كتب الأستاذ علي الطنطاوي في عدد سلف من (الرسالة) عن الحياة الأدبية في دمشق، وفي عدد آخر تكلم الأستاذ عبد الوهاب الأمين عن الحياة الأدبية في العراق، فكان من الإنصاف لإتمام الفائدة أن نتكلم عن الحياة الأدبية في لبنان

ظواهر الحركة الأدبية في لبنان راكدة كما في سوريا والعراق. فالصحافة الأدبية تكاد تكون معدومة، أما التأليف والنشر فتمر الأسابيع والأشهر دون أن تخرج المطابع كتابا نفيسا؛ وجمهور الشباب معرض عن المنتوجات الأدبية العربية - الواقع أن إقبال الشباب في الأقطار العربية على الثقافة الأجنبية (وان يكن نفخ روحاً جديداً في الأدب العربي) قد أضر كثيرا بالحركة الأدبية خصوصاً في لبنان. فشبابنا المثقف حائر بين الأدب الغربي (العالمي حقاً) والأدب العربي الناقص بازائه. يقبل على الأول لأنه يرضي ذوقه وثقافته، ويجذبه إلى الأدب العربي نوع من الشعور الوطني. في مصر والعراق وسوريا - وهي بلدان مسلمة - يتعلم الشبان القرآن منذ صغرهم فينشئون وفي نفوسهم ملكة عربية لا تستطيع الآداب الأجنبية أن تطغي عليها. وليس الأمر كذلك في لبنان. ولولا البكالورية اللبنانية التي توجب على الطلاب درس الأدب العربي لأهمله هذا النشء الجديد دون ما تبكيت

وقد كانت الحركة الأدبية عندنا في لبنان إلى الأمس القريب تنجلي بقصيدة رثاء أو مدح أو مقالة شكوى أو كتاب لا يتعدى موضوعه المبتذل الفارغ؛ ولكن من الإنصاف أن نقول إن البعض من أدبائنا نشروا كتباً لا بأس بها وإن كان لا يرضى عنها الذوق الأدبي السائد اليوم، ومن هؤلاء الأدباء أمين الريحاني صاحب (ملوك العرب - ابن سعود - فيصل الأول - قلب العراق)، وعمر الفاخوري صاحب (غاندي - أناتول فرانس)، ولبيب الرياشي وجميل بيهم، وميخائيل نعيمه مؤلف (المراحل - جبران)، وسلمى صائغ كاتبة (النسمات) ونظيره زين الدين مؤلفة (السفور والحجاب)

وقد أثر على النشاط الأدبي عندنا المجتمعات التي كانت تعقدها سيدات على جانب وافر من العلم والذكاء، وهذه المجتمعات تشبه في أكثر النواحي صالونات أديبات فرنسا في

ص: 39

القرن التاسع عشر. ومن أشهر سيداتنا الأديبات سلمى صائغ وحبوبة حداد وماري يني وجوليا طعمه. أما الصحافة التي يتجلى فيها النشاط الأدبي فقد كانت المجلات النسائية العديدة كالمرأة الجديدة والحياة الجديدة ومينرفا والخدر - وكان الاعتقاد السائد بين الأدباء أن المثل الأعلى في الأدب هو أدب القرن السابع عشر الفرنسي (وإن كانوا لم يطلعوا عليه)؛ والمتطرفون منهم كانوا يقتبسون من العصر الرومانتيكي - أما اليوم وقد نضج هذا الفوج من الأدباء الذين ذكرناهم ولا يرجى منهم أفضل مما أنتجوا، فقد هدمت حركتهم الأدبية وتوقفت مجلاتهم وأفسحوا المجال لغيرهم. فعندنا الآن فوج من الأدباء الشبان (لا يزالون زغب الحواصل فلم يطيروا بعد في الأجواء) كما قال أحد الكتاب، إلا أنهم أثروا على الأدب في لبنان. منهم عصبة العشرة التي بثت روحاً جديداً في الأدب ووجهت خطواته على غرار الأدب الغربي الحديث؛ ولكن حركتها ما عتمت أن سكنت ولما تؤد رسالتها على الوجه الأكمل الذي كانت ترجوه. وقامت أخيراً ندوة الاثني عشر تضم عددا من الشبان المثقفين ثقافة عالية يجتهدون للنهوض بالأدب في لبنان نهضة صحيحة من كل نواحيه؛ والأدب في لبنان يتجه نحو القصة لأنها تتحمل الدروس النفسانية ولأنها من أرقى صور الأدب؛ ومن أبرز الذين يعنون بالقصة خليل تقي الدين وتوفيق عواد ورئيف الخوري، وقد تطورت عقلية النشء الجديد من الأدباء على نحو الأدب الفرنسي الحديث حتى أن عندنا ما يدعونه الأدب العاري يبشر به فؤاد حبيش؛ وعندنا الأدب الشعبي ينشره توفيق عواد ورئيف الخوري؛ وهم يرون أن الأدب يجب أن يستمد مواده من كل مظاهر الحياة لا من خفايا النفس وعواطفها فقط

أما النقد الأدبي على الأساليب العلمية الحديثة فحامل لوائه في لبنان فؤاد البستاني الذي كان له الفضل الكبير في توجيه الشبان نحو الثقافة العربية بنشره سلسلة (الروائع)، وهو الآن يعد كتاباً عن عواصم الأدب يبحث في تأثير المحيط على الأدب. فلكي يفهمنا الأدب العباسي ويطلعنا عليه يصف لنا بيئته في بغداد؛ وفضل فؤاد البستاني الأكبر أنه دون سواه من الأدباء يشجع من يرى فيه سمات الأديب فيحثه على التأليف والنشر ويعضده بنفوذه الأدبي الكبير. وثمة نقادة آخر يمكننا أن نقارنه في كثير من النواحي بالأستاذ أحمد أمين، هو جبرائيل جبور الذي ينشر الآن كتاباً ضخماً عن عمر بن أبي ربيعة (دون جوان)

ص: 40

العرب

وأما في الشعر فقد ساد أول الأمر محافظون ينظمون في الرثاء والمديح والغزل والفخر أيضاً لا يحيدون كثيراً عن أمراء الشعر في الأعصر الماضية، إنما كان يلمع في شعرهم وميض من التجدد وتسمع في أبياتهم رنة موسيقية عذبة. ومن أشهر الذين أجادوا أمين تقي الدين وبشاره الخوري. ثم جاء الشاعر الياس أبو شبكه فتطور معه الشعر بما حمله إليه من نفس صادق وبخروجه عن أدب المناسبات والمواضيع الجوفاء؛ وخطا يوسف غصوب بالشعر خطوة واسعة موفقة بديوانه (القفص المهجور). وكان المرحوم أديب مظهر أول من أدخل إلى الشعر العربي نظرية الشعر الرمزي التي يعتنقها اليوم شعراء مجيدون حقاً كصلاح لبكي وأمين نحله وسعيد عقل الذي نشر مسرحية شعرية موفقة جداً (بنت يفتاح). لن أسهب في الكلام عن الشعر الحديث في لبنان ولكن أكتفي بالقول أنه من أرقى ما عرفته الآداب العربية. وثمة شعر لبناني محض يمثل فرعاً لنفسه هو الشعر العامي، وقد ارتقى جداً وزعيمه الأول رشيد نخلة؛ ولقد تطور هذا النوع من الشعر على غرار الشعر الحديث؛ ومحدث هذا التطور ميشيل طراد فهو أيضاً ينهج نهج الشعراء (الرمزيين)، والشعر اللبناني هذا يمتاز بشدة تأثيره على النفس

وكان من إقبال اللبنانيين على الآداب الأجنبية أنهم أضحوا يؤلفون بهذه اللغات. وكُتُب الريحاني وجبران بالإنكليزية مثلاً مشهورة؛ وهنالك كتب في السياسة والحقوق باللغة الفرنسية. وآخر ما أنتجه اللبنانيون من دواوين شعر فرنسي كان له دوي بعيد في فرنسا ونال لأجله بعضهم الجوائز من محافل الأدب العالية كشارل قرم الذي نال جائزة ادجاربو في فرنسا لديوانه الجبل الملهم، وغيره أيضاَ

وينشط اللبنانيون جداً للتأليف باللغات الأجنبية، ولنقل أفضل مؤلفاتهم العربية إلى الفرنسية ليطلعوا الغرب على ثقافتهم (وهي مظهر رقيهم) ويأخذوا مكانهم في الأدب العالمي

والخلاصة أننا لسنا متشائمين من حال الأدب عندنا. بل ما نراه حولنا من مظاهر النشاط الكامن يبشرنا بمستقبل زاهر وبأن الحركة الأدبية في لبنان ستخطو خطوات بعيدة جداً

سامي الشقيفي

ص: 41

‌في تاريخ الفقه الإسلامي

المحاضرة الثالثة

للدكتور يوسف شخت

الأستاذ بجامعة كونيكسبرج، والأستاذ بالجامعة المصرية

تكلمنا في المحاضرتين السابقتين عن مسائل تتعلّق بثلاثة أدوار قديمة من تاريخ الشرع الإسلامي، وهي العصر الجاهلي - وليسمح لي بإدخاله في هذا النطاق الواسع - وعصر فقهاء المدينة السبعة، والعصر الذي تكونت فيه المذاهب الكبرى. فالآن، ونحن مستمرون على السير بموجب الترتيب الزمني، ننتهي إلى دور تندر مصادره؛ فمن العجب أن نلاحظ أنه لم يبلغنا إلا القليل جداً من مؤلفات الزمن بين بدايات المذاهب (التي توجد لها مصادر معاصرة ولو لو تطبع كلها) والنهضة العظيمة التي بلغها علم الفقه في القرن الخامس للهجرة، ونتيجة هذا الدور لابد أن تكون ذلك بالتنظيم والتنسيق للفقه الذي نشاهد أكمل مظاهره عند المذاهب الثلاثة في وقت واحد تقريبا: للحنفية على يد القدوري، وللشافعية على يد الغزالي، وللمالكية على يد سيدي خليل. ويلوح أنه ليس مستحيلاً أن نتمكن من اكتشاف وثائق أكثر تبياناً لهذا الدور الغامض، إذا ما وجدنا أن بعض مؤلفات أبي جعفر الطحاوي الفقيه المصري المشهور وبعض الكتب الأخرى التابعة لذلك العصر قد كانت حليفة البقاء. وقبل أن يتحقق هذا الأمل علينا أن نقتبس معلوماتنا من الكتب التي تعالج اختلاف الفقهاء، وهي كتب هدتنا المصادفة الغريبة إلى عدد غير قليل منها راجع إلى القرن الرابع الذي نبحث عنه، وهذا مما يبرر بضع ملاحظات على هذا النوع من كتب الفقه على العموم. فقد ذكرنا في محاضرتنا السابقة أول كتاب وضع في هذا الفن وهو كتاب الحجج لمحمد بن الحسن الشيباني. فهذا الكتاب يشترك مع بضع رسائل للشافعي في غرض يحتمل أنه أحدث هذا الفن كله، وهو مجادلة المعارضين التي تستلزم بطبيعة الحال إبداء آرائهم. وأما كتاب اختلاف الفقهاء لابن جرير الطبري الذي ذكرناه أيضاً قبلاً فيحل فيه محل هذا الغرض شيء آخر، هو المقارنة والموازنة بين أقوال المتقدمين تأسيساً لمذهب المؤلف نفسه؛ وأن هذا الكتاب أولى أن ينسب إلى القرن الثالث وإن كان مؤلفه قد

ص: 42

مات في سنة ثلاثمائة وعشر. وهذان النوعان من كتب الاختلاف ظلا قائمين إلى القرن الرابع، وإلى جانبهما قد نشأ نوع آخر، وهو نوع الكتب التي تُثبت الآراء المتنافسة لغرض علمي محض. وأحياناً نجد المؤلف الواحد قد ألف في الاختلاف أكثر من كتاب واحد. من ذلك أن الطحاوي الذي أسلفنا ذكره ألف كتاب شرح معاني الآثار، وغرضه الراجح هو المجادلة بحيث أنه لا يذكر حتى أسماء خصومه، ولكن له أيضاً كتاب اختلاف الفقهاء الذي يدلي فيه برأيه الشخصي على أثر عرض الآراء المختلفة والأدلة الدالة عليها. وقد ألف معاصره محمد بن إبراهيم بن منذر النيسابوري كتاب الاختلاف الذي يمثل هذا النوع الثاني، كما ألف أيضاً كتابين من النوع الثالث وهما كتاب الإشراف على مذهب أهل العلم، والكتاب الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف؛ وهذا الاهتمام العلمي المحض قد حمله أيضاً على أن يجمع في كتاب الإجماع المسائل التي لا اختلاف فيها. أما المسائل المختلف فيها ضمن المذهب الحنفي فلدينا الروايات الثلاث لكتاب مختلف الرواية لأبي الليث السمرقندي، وهو أيضاً من النوع الثالث العلمي المحض. وقد ذكرت كل تلك الكتب تفصيلا لأنها على العموم غير معروفة إلا للقلائل برغم أهميتها، ولأنها لم تطبع بعد إلا شرح معاني الآثار للطحاوي. وأما أكثر الكتب المؤلفة في هذا الموضوع في زمن متأخر في القرن الخامس وما بعده، فلا يمكننا أن نوازي بينها وبين تلك المصادر القديمة، ولا ينبغي أن نعتبرها وسيلة يعتمد عليها في الحصول على معلومات جلَّية، لأن تلك الكتب كثيراً ما تناقض نفسها وتناقض حقيقة الأمر، أي أقوال المذاهب المشهورة. وذلك لأنها ليست قائمة على معلومات مباشرة بل يتوقف بعضها على بعض. كذلك كتاب الميزان للشعراني ليس إلا تغييراً لكتاب (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة) للدمشقي، وهذا بدوره مختصر لكتاب الإشراف على مذاهب الأشراف لابن هبيرة إلى حدّ أن جميع الأغلاط الموجودة في ذلك الكتاب تتكرر في هذين. وينبغي ألا نؤاخذ ابن هبيرة بشدة بهذه الأغلاط لأن كتاب الإشراف ليس إلا رواية مستقلة لفصل من كتابه الكبير المسمى بالإفصاح عن معاني الصحاح، وهو شرح مفصل للأحاديث الصحيحة، ومضمون كتاب الإشراف كله وارد في كتاب الإفصاح شرحاً للحديث النبوي المشهور: اختلاف أمتي رحمة

إن أخبار المتأخرين من المؤلفين عن مبادئ مذاهبهم وأقوال الفقهاء الأقدمين يجب أن تقابَل

ص: 43

على العموم بتحفظ شبيه بالتحفظ الذي ينبغي أن تقابل به كتب الاختلاف الأحدث عهداً، حتى ولو كان أولئك المؤلفون من أصحاب المذهب الذي يتحدثون عن أئمته. فإنا نشاهد في المذاهب ابتداء من القرن الخامس افتقاراً للروايات فيما يتعلق بأقوال أصاحبها الأولين، وهو مما يجعل دراسة مؤلفاتهم الأصلية أحرى وأوجب. وإني لأستمدّ أمثلتي من كتاب المخارج في الحيل لمحمد بن الحسن الشيباني السالف الذكر الذي لا ريب في صحته مقارناً له بشرح السرخسي المتأخر لأقوال محمد بن الحسن المروية في كتاب المبسوط. فالشيباني يقول في مسألة معينة على وجه الإجمال:(لا آمن أن يبرئه بعض الفقهاء.) ولكن السرخسي يعترف بأنه لا علم له بمن قال بهذا القول. والشيباني يقول في التحليل: إذا قال واحد منهم هذه المقالة (أي لو قالت الزوجة تزوجني فحللني، أو قال الزوج الأول تزوج هذه المرأة فحللها لي، أو قال الزوج الثاني أتزوجك فأحلك لزوجك الأول) لم تحل للزوج بهذا النكاح الثاني)؛ فالسرخسي في تعليقاته على هذا الكلام يقول: إن النكاح الثاني عند الشيباني صحيح، لكن التحليل في هذه الظروف لا يحصل، في حين أن النكاح الثاني عند أبي يوسف فاسد غير صحيح؛ ولكن السرخسي في موضع آخر ينسب القول الأول إلى أبي يوسف، والقول الثاني إلى محمد بن الحسن الشيباني. ويقول السرخسي في مسألة أخرى إنه يُنسَب إلى أبي يوسف قولان متناقضان دون أن يستطاع اعتبار أحدهما سابقاً، والآخر متأخراً، فهو مع ذلك يجهد نفسه في التوفيق بين القولين بوجه مفتعل. ويقول السرخسي في الحيل المستعملة لمنع الشفعة:(وعند محمد رحمه الله هو مكروه أشد الكراهة) وهذا ليس صحيحاً لأن الشيباني قد جمع أمثال تلك الحيل في باب طويل من كتابه المتقدم ذكره نقرأ فيه كلاماً كهذا: (أرأيت رجلا يريد أن يشتري داراً، ويخاف أن يأخذها جارها بالشفعة فكره أن يمنعه من ذلك فيظلمه، وكره أن يعطيه الدار فيدخل عليه ما يُكرَه. هل عندك في ذلك حيلة؟ قال: نعم الخ). وإليكم مسألة تدل على أن رأياً نُسب خطأ إلى أبي حنيفة قد ظفر بأن يصبح مسلم به في المذهب كله: فنقرأ في الفتاوي العالمكيرية: (فاعلم بأن الوقف على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يصح مضافاً إلى ما بعد الموت بطريق الوصية، هكذا ذكر الخصاف رحمه الله، ومحفوظنا أن الوقف عند أبي حنيفة رحمه الله صحيح إذا كان مضافا إلى ما بعد الموت أو كان موصى به) ومع ذلك فالخبر الذي ذكره

ص: 44

الخصاف هو الصحيح، لأن هذا يظهر من قول الشيباني نفسه في كتاب المخارج في الحيل. وقد أمكن أيضاً أن تتسرب أخبار ملفقة إلى حواشي كتب الشيباني حتى في زمن قديم جداً، وينبغي لهذا كله أن يتحاشى المرء قبول شهادة كتب أحدث عهداً في أقوال الأئمة الأقدمين من دون تمحيص. وسبب تلك الأغلاط يرجع قبل كل شيء إلى تضاؤل الاهتمام بآراء فقدت أهميتها العملية بعد التدوين النهائي للأحكام في المذاهب، ويرجع أيضاً إلى الظن الطبيعي أن تلك الأحكام المدونة هي عين الآراء الشخصية للأئمة الأقدمين، ويرجع أخيراً إلى استبدال عبارات مثل (في قياس قول أبي حنيفة) بعبارات أخرى مثل (في قول أبي حنيفة) فحسب، وهو شيء نراه حتى في الكتب القديمة جداً

وأخرى المسائل التي سنبحث عنها هي مسألة القانون العرفي في بلاد الإسلام، فبينا أن العلاقة بين الأحكام الشرعية والأحكام العرفية - كما رأينا - وجهة مركزية من تطور الفقه نفسه في الأدوار الأقدم عهداً فإن هذه العلاقة تصبح بعد ذلك عندما استقر الفقه في صورته النهائية مطلباً مستقلاً. ومن بينات القوة الروحية العظيمة التي استمتعت بها الشريعة أنها بلغت حد فرض نفسها على القانون العرفي؛ وإن كان هذا القانون قد بلغ من ناحيته أو كاد يبلغ حد احتكار العمل القانوني من الوجهة المادية؛ وهذا باد من أن الناس تحققوا وجود قانون عرفي يعارض كثيراً من الأحكام الشرعية، وأنهم فسروا هذا من الوجهة التاريخية بأن الأجيال المتأخرة لم تبلغ شأن السلف الصالح، ومن الوجهة الأخلاقية بمبدأ الضرورة التي أغنت عن العمل بالأحكام الشرعية. وعلى هذا النسق أوجد عالم مصري معاصر فيما يتعلق بالخلافة التي تناءى تاريخها أصلا عن قواعد الشرع، قواعدَ ثانوية موجهة إلى التطبيق العملي ولكنها مع ذلك مصنوعة على طراز تلك القواعد الشرعية. فأما ما يتعلق بالفقه فقد رأى أهله أن يوفقوا بينه وبين العرف على قدر المستطاع مما أفضى في التطور المتأخر للمذهب المالكي المغربي خصوصاً إلى أن يجيزوا عدة تصرفات عرفية لم تكن تعرفها الشريعة من قبل. أما العمل العرفي فكثيراً ما حاول أصحابه أن يحتفظوا بمظاهر المطابقة للشريعة على الأقل، في حين أن حقائق الأمور كانت بعيدة عنها بعداً شاسعاً؛ وهكذا أقاموا في حالة أخذ السارق والسكران عند ارتكاب الجريمة حدود السرقة والشرب رأساً معتقدين اعتقاداً صميما أنهم يطبقون الشريعة ولكن دون أن يعنوا بالإجراءات الدقيقة

ص: 45

التي فرضتها الشريعة، وهكذا ذهب بعضهم إلى حد ذبح مجرم يستحق الموت وفاقاً لقواعد ذبح الضحايا. وأنظمة المحتسبٍ وناظر المظلم لا يراد بها إلا اجتياز الهوة التي تباعدت شقتها بين منطقة الشريعة ومنطقة الحياة القانونية العرفية، فلهذا ليست من الشريعة المحضة؛ ومنذ الزمن القديم كانت حاجة الشريعة محسوسة إلى أن يندمج فيها العرف القانوني وأن تتيح لمن يهمهم الأمرُ الوسائلَ لعقد تصرفات تقتضيها العادة مع مراعاة أحكام الشريعة الإلهية التي تجمع بين المخارج البسيطة والطرف الفقهية الأريبة. فبهذه الحيل يصل المرء من طريق تصرفات شرعية إلى نتائج تطابق الحاجات العملية، ولكن لا تسّلم بها قواعد الفقه رأساً، فهي من جهة الفقه مخارج ومواضعات، ومن جهة العرف جهود في جعل العرف مقبولاً موافقاً للشرع

وقد أنشأ الحنفية هذا الفن من الفقه وتعهدوه، ونجد أن أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني على رأس سلسلة طويلة من الفقهاء قد ألفوا في الحيل؛ وقد انتهى إلينا كتاب محمد بن الحسن كاملا، (وهو المسمى بكتاب المخارج في الحيل الذي ذكرناه مراراً)، ويشتمل على مسائل عديدة نقلها صاحبه من كتاب أبي يوسف. أما المذاهب الأخرى فالحيل فيها أقل شأناً منها عند الحنفية، حتى أن الشافعي والبخاري الذي كان نفسه شافعياً وغيرهما قد حاربوا الحيل حرباً عواماً. ولم يمنع هذا أن المتأخرين من الشافعية قد أحسوا بالحاجة إلى تأليف كتب في الحيل على مثال كتب الحنفية وأن ينسبوا إلى الشافعي نفسه من المخارج العملية ما قد ورد في كتاب محمد بن الحسن الشيباني؛ وقد أفرد الحنبلي الكبير ابن قيم الجوزية للحيل بحثاً طويلاً، وبرغم مناهضته للمكر ومنعه للفرار من أحكام الشريعة وصل في بحثه إلى اعتبار كثير من تلك المخارج مشروعاً خاصة في دائرة التصرفات التجارية. وأشهر كتاب في هذا الباب هو كتاب الحيل والمخارج المنسوب خطأ إلى أبي بكر أحمد بن عمرو الخصاف الحنفي، فالواقع أن كتابه الحقيقي ليس إلا رواية لكتاب المخارج في الحيل للشيباني، وقد عنى الخصاف بأن يستبعد منها كل إشارة قد تدل على مؤلفه الأصلي؛ والكتاب الذي اشتهر به هو تأليف عظيم الشأن لمؤلف مجهول عاش في حوالي سنة أربعمائة، وهو مصدر فريد في بابه لمعرفة القانون العرفي الذي كان يعمل به في ذلك الزمن في العراق (كما نظن) يكشف لنا عن مستواه العالي واصطلاحاته الراقية، وهذا

ص: 46

القانون العرفي يميزه الدور الهام الذي يقوم به الإقرار، فإنه لا سبيل إلى الرجوع فيه، ولهذا يصلح جيداً لأن يكون مبعثاً للنتائج القانونية المقصودة، كما يميزه دور العدول الأمناء الذين يثق بهم المتعاقدان يقومون بالتوسط بينهما في علاقتهما التعاقدية، وكما تميزه أيضاً كثرة استعمال الوثائق المكتوبة، فكل هذه الخصائص توجد مجتمعة في كتب (المواضعة)، وهي وثائق يكتبها المتعاقدان وليست لها قيمة قانونية مباشرة، لكنها تصلح لإثبات حقيقة الأمر فيما بين المتعاقدين من العلاقات التي لا يكشف عنها بل يسترها عادةً عدد من التصرفات والإقرارات الموضوعة؛ وتحفظ هذه الوثائق - أي كتب المواضعة - مع الوثائق الفقهية الحقيقية التي توضح وظيفتها عند عدل أمين يثق به المتعاقدان ويعمل هو بمقتضاها فيما بينهما ابتغاء معاملتهما بالعدل والإنصاف ومنع أي منهما عن أن ينتفع بتصرف أو إقرار منفرد لما فيه ضرر لمصلحة الآخر. وإليكم مثالاً قد يوضح كل هذا إيضاحاً تاماً:(قلت: رجل له على رجل مال، فوكل رجلاً أن يتقاضى هذا المال ويستخرجه على أن له نصفه أو ثلثه، هل يجوز هذا؟ قال: لا، وإن وكله على هذا الشرط فاقتضى المال كان له أجرة مثله لا يجاوز بها ما جعل له. . . قلت: فهل في هذا من حيلة؟ قال: نعم، الحيلة في ذلك أن يقر الذي باسمه المال لابن هذا الوكيل أو لرجل يختاره الوكيل بثلث المال بحق عرفه له ويوكله بقبضه. . . ثم يوكل الذي باسمه المال والمقر له بالثلث هذا الوكيل باستيفاء المال واستخلاصه فإن خرج المال كان للمقر له الثلث من ذلك. . . . قلت: فإن قال صاحب المال: أرأيت إن أقررت بثلث المال لمن يريد الوكيل فإذا وقعت الشهادة على ذلك لم يقم هذا الوكيل باستيفاء المال أو أحدث حدثاً تبطل به الوكالة فقد صار هذا الرجل شريكا لي في المال بثلثه، فما الحيلة؟ قال: يعدلون كتاب الإقرار على يدي من يثقون به ويكتبون مواضعة بينهم تكون على يدي العدل يعمل بما فيها ويحملهم عليها، فإن خرج هذا المال بتقاضي الوكيل وقيامه كان لهذا الرجل الثلث. . . وإن لم يخرج من المال شيء أو لم يقم بذلك أو أحدث حدثاً تبطل الوكالة به لم يكن للرجل المقر له بثلث المال شيء ورد العدل منهم الكتب على من يجب ردها عليه، ويحكون في المواضعة أمرهم كله ليعمل العدل بينهم بذلك)

والمصدر الثاني الرئيسي لمعرفة القانون العرفي في بلاد الإسلام هو الشروط والوثائق.

ص: 47

ويوجد إلى جانب الدور الهام الذي تؤديه الوثائق المكتوبة في باب الحيل كتب كثيرة في الشروط عند الحنفية كما هي موجودة عند المالكية والشافعية. وجدير بالذكر أن أكثر المؤلفين لكتب الحيل من الحنفية ألفوا أيضاً في الشروط، وأنهم من جانب آخر قد اشتغلوا غالبا بالوصايا والأوقاف أيضاً بصورة تجعل من الممكن أن يستبين المرء في الكتب الحنفية على مرور القرون ميلا ظاهرا إلى البحث عن الموضوعات ذات الأهمية العملية، وتلك الأهمية العملية لكتب الشروط ناتجة عن نفس وجودها، ذلك أن الفقه لا يقبل إلا الشهادة الشفوية ولا يستلزم وثائق مكتوبة، وذلك العلم وحده لم يفلح في جعل الشروط في ذلك المركز العظيم الذي هي فيه من عمل الفقه. وترجع عادة تحرير التصرفات إلى العصر الجاهلي، فقد ظهر أن الوثائق في ذلك الزمن لم تكن محض مذكرات يستعين بها الشهود (كما هي الحال في علم الفقه) بل كانت وثائق مستقلة تنطق بمضمونها لا ريب أنها لم تزدوج بالشهادة الشفوية إلا في مرحلة ثانوية؛ وقد أقر القرآن هذه الحالة في نوع من العقود في الآية التالية:(يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب، وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا، فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل، واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكن رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا، ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله، ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها، وأشهدوا إذا تبايعتم، ولا يضار كاتب ولا شهيد، وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم، واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم. وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة، فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي أؤتمن أمانته وليتق الله ربه، ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم.) وفي آية أخرى ذكر القرآن الوثائق المكتوبة في إعتاق الرقيق على أنها شيء معروف: (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً.) حتى الاصطلاح الخاص بالإعتاق التعاقدي في مصطلح الفقه، وهو الكتابة، يدل على أن ذلك كان مكتوباً في الغالب على الأقل؛

ص: 48

والأمر السابق الذكر وهو أن الشروط والوثائق تقوم في تطبيق الشريعة العملي بدور أهم بكثير مما يعينه لها علم الفقه - ذلك الأمر لا نفهمه إلا ببقاء عادة ثابتة قديمة تقتضي تحرير العقود بالكتابة؛ ومن الراجح أن تلك العادة الموجودة في القانون العرفي العربي الجاهلي كانت تأثرت بنفوذ التمدن العراقي، فإن العراق مشهور بالدور الهام الذي قامت به الوثائق المكتوبة في حياته القانونية والأدبية منذ زمن قديم جداً. أما الوثائق التي تبينها وتوضحها كتب الشروط، وكذلك الوثائق الأصلية التي احتفظ بها فهي تتفق بطبيعة الحال في مضمونها المادي مع أحكام الشريعة الإسلامية بحسب الظروف والإمكان، وخصائصها البارزة لا تظهر إلا في صيغتها التي تغيرت تغيراً كبيراً على كر القرون، لكنها كانت دائماً خاضعة لقواعد فنية صارمة. وإليكم خاصة جديرة بالذكر تشترك فيها كتب الشروط القديمة بأجمعها: قد تلونا آنفاً آية قرآنية تنص على أن (الذي عليه الحق) يكتب ويمل؛ وأما في كتب الشروط القديمة فالقاعدة الأساسية هي يملي الكتاب المدين (أو من يقوم مقامه من المتعاقدين) على المديون (أو القائم مقامه) وأن يقرّ هذا بصحة الوثيقة ويُشهد على ذلك الشاهدين

وثمة مصدر ثالث لدراسة القانون العرفي، وهو التشريع المدني الدنيوي في بلاد الإسلام. ومن الحق أن الشريعة الإسلامية لا تعترف بتشريع مستقل يقوم إلى جانبها، وتلك التشريعات المدنية حتى في أوائل العصور الحديثة لم تزعم أكثر من أن تكون ملحقات بالشريعة في الدائرة التي سمحت لها بها؛ والواقع أن تلك التشريعات كثيراً ما جاوزت هذه الحدود. وأشهر مثال لمثل تلك التشريعات هو ما يسمى (بالقانوننامجات العثمانية)، فإنه بينا كانت أكثرها تتصل بمسائل إدارية، قد ردتها الشريعة إلى اختصاص الدولة، فإن أول قانون من هذه القوانين وهو (قانوننامه) السلطان محمد الفاتح بنظم العقوبات أيضاً والأحكام الشرعية في الواقع لم تنفذ في تلك المنطقة أحياناً كثيرة، وتفترض هذه القانوننامه أن القصاص يمكن إجراؤه بخلاف الحدود، وقد وضعت بدلا منها قانوناً جنائياً كاملا يختلف أصلا عن أحكام الشريعة، وإن كان يذكرها في مواضع عديدة ويستعير منها بعض القواعد الأساسية؛ ويمتاز هذا القانون الجنائي بالدور الهام الذي تؤديه الغرامات المالية المختلفة المبالغ تبعاً لثروة المذنب. حتى الزاني بشرط أن يثبت عليه البينة وفاقاً لقواعد الشريعة

ص: 49

يعاقب عليه بغرامات مختلفة القدر على حسب كونه متزوجاً أو غير متزوج (وتهمنا ملاحظة التعديل الذي أدخل بهذا على فكرة الإحصان في الشريعة) والأرقاء لا يدفعون إلا نصف المبلغ المفروض على الأحرار، والسكر أيضاً (وهو يقوم مقام الشرب في الشريعة) لا يعاقب عليه إلا بالتعزير؛ وهو يُترك في الشريعة لتقدير القاضي، وأما في هذه القانوننامه فالتعزير دائماً ضربات بعصا مقرونة بغرامة مالية، ويطبق نفس هذا التدبير على السرقة ولا يقام الحد إلا في سرقة الخيل؛ ويكون في هذه الحالة إما قطع اليد وإما غرامة باهضة جداً، ولابد من أن هذه الجريمة كانت تعتبر خطيرة بصفة خاصة؛ وجلي أن هذا القانون الجنائي يراد به أن يحل محل القسم المطابق له من الفقه تماماً لا إكماله فقط، لكنهم على كل حال يتحاشون أن يقولوا بهذا صراحة ويطلقون عبارات من قبيل (السياسة في مقابلة الجنايات) أو (بدل السياسة) على إبدال الحدود بالغرامات المالية؛ وقد اتخذت هذه القانوننامه أنموذجاً للقوانين العثمانية التي تعالج نفس الموضوع

وعلاقة أخرى بين الشريعة الإسلامية والتشريع المدني، تخالف كل ما تقدم مخالفة تامة، توجد في الدور الأخير من تاريخ الشرع وهو تطوره المعاصر، وحسبنا أن نذكركم بالتعديلات التي أدخلت منذ سنة ألف وتسعمائة وعشرين على الأحوال الشخصية في مصر؛ ولسنا نريد أن نبحث الآن عن تلك الظاهرة المهمة للحياة القانونية المصرية لأن الوقت الذي نملكه قد انتهى. وإنما نستشهد بها هنا كدليل على أن العلم الأوربي الذي يشتغل بتاريخ الفقه الإسلامي لا يتناول الأزمان الماضية فقط، بل يجهد في استيعاب الحياة الحاضرة أيضاً، وأن موضوعه الواسع ليس ميتاً جامداً بل لا يزال قوياً متطوراً. فإن كنت قد وُفقت إلى إطلاعكم على شيء من الروح العلمية الخالصة المهيمنة على دراستنا هذه فقد حققت بعض الغرض من هذه الأحاديث كل التحقيق

يوسف شخت

ص: 50

‌صورة من الحياة العلمية في مصر

3 -

تقي الدين السبكي

بقلم محمد طه الحاجري

- 3 -

وبعد أن قضى من الشام حاجته عاد إلى مصر سنة سبع، فاستوطن القاهرة، وانقطع فيها لتصنيف الرسائل والكتب، وتعليق الشروح، والجلوس للطلاب. وقد ألقيت إليه رياسة الشافعية، فجعلت الأسئلة والاستفتاءات ترد عليه من أنحاء الشرق العربي كثيرة متلاحقة، وهو يجيب عليها ويفتي فيها. وكان من عادته - كما ذكر ابنه تاج الدين - أن يشرك في بحثها ومناقشتها أبناءه وتلاميذه، إلا أن تكون متعلقة بأحوال المتصوفة وأهل الباطن فيكتم أمرها وأسماء أصحابها وما يراه فيها. إذا كان ذلك خارجا عن حدود النظر العقلي والاستدلال المنطقي

وقد لبث على ذلك - منذ عودته من السماع بالشام إلى رجوعه إليها قاضي قضاتها - أثنين وعشرين عاماً، حج في أثنائها ثم ذهب إلى المدينة لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك سنة 716هـ

ولم يل تقي الدين في هذه الفترة عملاً يتصل بالسلطان، أو أمراً من أمور الدولة، على كفايته ومقدرته، فقد كانت تنقصه المرونة الخليقة التي تقضي بالتزلف والتودد، ثم بالمصانعة والمداهنة والإغماض في الحق أحيانا؛ ولهذا كانت مادة عيشه تافهة ضيقة مهددة بما تقضي به شهوات الأمراء وغايات المزدلفين؛ فكل ما نعرف من هذا أنه تولى مشيخة جامع ابن طولون فترة من الزمن، وكان يأتيه منها رزق زهيد مما وقفه عليه الملك المنصور حسام الدين لاجين (696 - 698هـ 1296 - 1298م) ولكن هذه المشيخة لم تلبث أن طارت من يده وأخذت منه سنة 719 (1319م). وله في هذا المقام شعر نورد شيئا منه، لأنه - مع ركاكته - يدل على روحه العلمية الخالصة التي تضع العلم فوق كل اعتبار:

كمال الفتى بالعلم لا بالمناصب

ورتبة أهل العلم أسنى المراتب

ص: 51

فلا تعدلن بالعلم مالاً ورفعة

وسمر القنا أو مرهفات القواضب

وهب أدبرت دنياك عنك فلا تبل

فعنها لقد عوضت صفو المشارب

فما قدر ذي الدنيا؟ وما قدر أهلها؟

وما اللهو بالأولاد أو بالكواعب؟

إذا قست ما بين العلوم وبينها

بعقل صحيح، صادق الفكر، صائب

فما لذة تبقى، ولا عيش يقتنى

سوى العلم أعلى من جميع المكاسب

وهكذا كانت روحه العلمية الغلابة التي كان يتعزى بها عما فاته من متاع الدنيا. وقد ظلت هذه الوظيفة محتجزة دونه حتى عام 727 (1327) فعادت إليه وبقيت في يده إلى سنة 739هـ حينما اختير لقضاء الشام

وسبب آخر من أسباب الحياة المحدودة كان في يده، ولم يخل كذلك من شهوات العابثين في انتزاعه: ذلك هو وظيفة التدريس بالمدرسة المنصورية، وكانت مسندة أول الأمر إلى قاضي القضاة جمال الدين الزرعي، ثم عين قاضي قضاة الشام 723 (1323م) فحل تقي الدين السبكي محله، وكان جديراً بذلك. ولكن الزرعي لم يطل في قضاء الشام مقامه، فلم يلبث عاماً حتى عزل عنه. وكان صديقاً لأرغون نائب المملكة المصرية في ذلك الحين، فبلغه ذلك وهو بالحجاز، فشق عليه أن يحرم صديقه مكانه في مصر والشام؛ واستشاط غيظاً وحنقا على تقي الدين، وأقسم ليزيلنه عن مكانه، ويعيدن إليه صاحبه، متى عاد إلى مصر؛ وترامت بذلك الأخبار إلى الشيخ، ولم يكن له ما يكفل رزقه غير هذه الوظيفة، وكاد يصبح ضحية شهوة جامحة، لولا أن أرغون ما كاد يصل إلى مصر حتى قبض عليه في بعض ما كان يسود ذلك العهد؛ ففل بذلك من حده، ووقي الشيخ شر نزوته وكيده

هذا كله والعهد عهد الملك الناصر ابن قلاوون، وهو خير عهود ذلك العصر، وأقلها خضوعا للنزوات الطائشة

وقبل أن ندع هذا الدور من حياة تقي الدين السبكي، نرى أن لابد من الإشارة إلى مجهود من مجهوداته العلمية الموفقة، قام به في تلك الفترة، وقد رفع كثيراً من شأنه، وكان له أثر غير صغير في حياته، فيما نحسب، ذلك هو رده على أبي العباس ابن تيمية في مسألة الطلاق ومسألة الزيارة. وقد كتب رده على كل من المسألتين في كتابين: أحدهما موجز مجمل، والآخر كبير مفصل؛ ويظهر أنه قد أبدى في رده مقدرة فائقة في النقد والبيان،

ص: 52

وأبان عن سعة اطلاع وحضور بديهة، كما بعد عن الشطط والتجريح، والتزم جانب الإنصاف والمعدلة، مما دعا إلى إعجاب الأشاعرة به، وإكبار ابن تيمية نفسه له، وثنائه عليه فيما كتبه دفعا لنقده

واحسبني لا أبعد عن الصواب إذا زعمت أن هذا الرد كان السبب في توجه نظر السلطان إليه، واختياره لقضاء الشام، بعد أن لبث ذلك المنصب لعبة للأهواء منذ مات جلال الدين القزويني سنة 719 (1319) حتى سنة 739هـ. وإصراره على ذلك على إصراراً ذهبت معه كل محاولات الطويلة في التملص من هذا التقليد، ووهن معه كل ما نذرع به لقاء هذا الأمر الذي يقدر عاقبته، ويعرف حق المعرفة خطورته

ذلك أنه وإن كان قد ذهب في رده مذهباً علمياً خالصا فقد تناول به مسألة تعني أولي الأمر كما تعني العلماء، فإن ظهور ابن تيمية في الشام بمذهبه الذي ينقض مذهب الأشاعرة، وانتصاره له بكل ما أوتي من قوة في البيان والمناظرة، فرق أهل الشام فرقتين، واجتذب إليه طائفة غير قليلة من أعيان العلماء أمثال المزي والذهبي والبرزالي: خرجوا على الأشعرية وهي المذهب الرسمي للدولة منذ كان الأيوبيون إلى ذلك العصر، بعضهم في صراحة وجلاء، وبعضهم في تنكر واستخفاء، وسنرى فيما يلي بعض الظواهر في هذا مما يؤيد ما نذهب إليه من أن اختيار السبكي لقضاء الشام كان منظوراً فيه إلى هذه الحالة، مرجواً منه القضاء على هذه الفتنة.

- 4 -

وهكذا تولى السبكي قضاء الشام في 19 جمادى الآخرة سنة 739 (2 يناير سنة 1339)، فغادر مصر إليها، وانتقل بذلك من حياته البسيطة الساذجة، إلى حياة مركبة معقدة، وترك بيئته الهادئة الوادعة التي ترفرف عليها روح العلم، وتسري فيها نفحات الأبوة الكريمة، إلى ذلك المضطرب الواسع الذي يموج بشتى النزعات ومختلف النزوات؛ وتسوده روح خبيثة في مذاهب يزعمون لها صفة الدين تقتتل، وشهوات باسم الحكم تفرض وتنفذ، وأين يذهب السبكي في مثل هذا الجو؟ وهو المطبوع على الصراحة في الحق، والصلابة في الخلق، والاستقامة في الرأي، إلا أن يصبح غرضا للمعاندة والمضاجرة والشهوات الخبيثة الفاجرة؛ ولهذا نجد ابنه تاج الدين يقول في هذا الصدد بلهجة مريرة: (فقبل الولاية يا لها

ص: 53

غلطة أف لها، وورطة ليته صمم ولا فعلها) وسنرى فيما يلي صوراً مختلفة لهذه الحالة

وإنما نعرض الآن حياته العلمية في الشام عرضا موجزاً، فنلاحظ أن أغلب مصنفاته كتبها في الفترة التي قضاها بمصر كما نص على ذلك ابنه، ولا ريب أن هذه الحياة الجديدة بما تفرضه من تكاليف ومشاق قد شغلته عن العلم بعض الشيء؛ هذا إلى كبر سنه، فقد تولى قضاء الشام وهو في حدود الستين، فكانت دواعي التأليف قد فترت في نفسه، حتى لنراه في أواخر حياته يميل إلى التأمل، ويجنح إلى (المراقبة)، ويزهد فيما كان مشغوفا به من قبل من المناظرة العلمية على قواعدها المقررة

على أنه قد كتب في الشام أبحاثا جليلة يتجلى فيها عمق التفكير ونفاذ البصيرة والإحاطة، ونجد بعضا منها في ثنايا كتب ابنيه: بهاء الدين أبي حامد أحمد بن علي السبكي، وتاج الدين عبد الوهاب صاحب الطبقات

ثم إنه ما كاد يصل إلى الشام حتى جلس للتحديث في (الكلاسة) وسمع منه أئمة الحديث في عصره كلمزي والذهبي والبرزالي، وقرأ عليه جميع معجمه ابن أبن عمه الحافظ محمد بن عبد اللطيف السبكي. ثم تولى سنة 742 (1341م) مشيخة دار الحديث الأشرفية خلفا للحافظ جمال الدين أبي الحجاج المزي، وفي سنة 745 (1344م) تولى التدريس في (الشامية البرانية) خلفا لأستاذها شمس الدين ابن النقيب، كما تولى خطابة الجامع الأموي وباشرها مدة لطيفة

(يتبع)

محمد طه الحاجري

ص: 54

‌عند بحر مويس شتاء

للأستاذ عبد الرحمن شكري

كم خشع العابر من قبلنا

على ضفاف النهر وقت الأصيل

أو في مساء إذ ترى ظلمة

قد عشَّشت في الدوح دوحا كغيل

وربما كنا الأولى قد مضوا

وإن نأى الظن وعز الدليل

وما الذي ينأى بنا عنهمُ

من منظر أو خاطر أو ميول

كم منظر تحسب إمَّا بدا

من أخذة الفكر ووهم الذهول

انك - والقلب خبير به -

أجَلْتَ قِدْما فيه لحظ المجيل

الدوح كالمفْكِر في هدأة

إذ سكن الجو سكون الكهول

أو ثاكلات طال ثكل بها

فَسَكَّنَتْ من شجوها والعويل

أو صمتت من طول ما عُمّرَت

كصمتة الشيخ الوقور الجليل

والنهر كالزئبق في لمعة

وركدة ما إنْ بها من مسيل

عهدته في صيفه لؤلؤا

لو أن للؤلؤ سيلا يسيل

والسحب كالأشجار قد عرشت

في الأفق تبدو مثل ظل ظليل

أو قطع من حلم غامض

أو كمثار النقع أو كالطلول

والجو قد روَّع من قره

كأنه قر ممات يصول

أنفاس ثغر الموت في قره

تخرج من ثغر لجسم مَخِيل

والأرض غبراء سوى ما بدا

من عشبها منتثرا كالفلول

كأنما الدجن غدا تربها

وتربها الجهم كدجن سديل

تشابهت في اللون عهدي بها

في صيفها واللون غير القليل

عهدي بها كالحود في عرسها

زاهية الأصباغ شتى الذيول

خِيلَ حدادا إذ دجا لونها

وهو كعقب العرس حتم البديل

خلاعة للصيف خلابة

وفي الشتاء الحسن جم الفصول

تباين الحسنان في روقة

لكنه زاد جلال الجميل

كم متعة جاءت بها رهبة

كرهبة البرق وعادي السيول

ص: 55

‌لحن على الماء

بقلم العوضي الوكيل

ركبت زورقاً على النيل، ومعي ثلاثة من أصدقائي، وهب الله أحدهم نعمة حسن الصوت وقد غنى صاحبنا فأجاد، وما منا إلا طرب له واستعاد. . . .

وهذه القصيدة صدى هذا الغناء:

تَغَنَّ، فما أحلى أغانيك في الماء

لها في نواحيه هواتفُ أصداءِ

تغن بألحان تواكَبنَ في النُّهى

قديماً ولا تمهل سكوني وإصغائي

تغن فإن الماء حولك ظامئٌ

إليك، فبلل بالغناءِ صدى الماءِ

ترقرق كالنسم الوديع هنيهةً

وغضَّن منه السطح في غير إغضاء

كأن له نفسا إليك مشوقةً

وروحاً يتيه اللحن منها بأعضاءِ

ينازع في الأنغام جوّا مُشَعْشَعاً

بها، لم تخالطه نواشز ضوضاء

ألا غَنِّنَا. . . . وابسط أغانيك كلها

بصوت كنفح الزهر، أو طلعة البدر

حماداك أن نصغي إليك بمهجةٍ

تفيض بآلام شداد يدا الدهر

تثير بها ما لم ترج مثاره

وتحيي بها ما لم يَدُرْ لك في فكر

وتبعث فيها ماضيا قد نسيته

ولكنه لم ينس عهدي وما أدري

تعيد بها من دارس العمر حقبة

تصورها الأوهام. . . ليست من العمر

ألا غننا. . . حسبي من اللحن نغمة

تفيض على الأرواح كالنهل الغمر

نعم. . . وامزج الماء الصفي بلحنك ال

صفي فإن اللحن في الماء ذائبُ

فإن نحن أومأنا إليه برشفةٍ

فبالنور صرفاً قد تمتع شارب

وموجان من ماء ولحن تواكبا

ويا حبذا في الحس هذا التواكب

ص: 57

‌أُمَيةُ تُبْعَث

جزاكم ذو الجلال بني دمشق

وعز الشرق أوله دمشق

(شوقي)

للأستاذ أمجد الطرابلسي

شِعْري أَرَدْتُ لَهُ عُلًى وَخُلودا

فَنظَمْتُهُ لِبَنِي الشام عُقودا

وَجَعَلْتُهُ لَحْناً يَفيضُ بِحُبَّهِم

وَيَرِنُّ في سمْعِ الزَّمانِ نَشيدا

آليتُ لا أَنْفَكُّ أَهْتِفُ باسمِهِمْ

طَرَباً وَأُعْلِنُ فَضْلَهُمْ تَغْريدا

وَأَهزُّ مِنْهُمْ في السّلامِ بَلابلاً

تَشْدو الحياةَ، وفي القَتامِ أُسودا

وَأَصوغُ منْ يَوْمِ الجِهادِ مَلاحِماً

تُرْوى، وَأُنْطِقُها الرُّبى والبِيدا

حتى أرى وطني تَحَرَّرَ وانْبرَى

يطوي الشُّعوب إلى السماءِ صعودا

أدِمِشقُ يا مهوى رؤايَ، وما أرى

إلا بمغناكِ المقامَ رَغيدا

هلا أبيحُكِ خافقي ولحونَه

وَأَخصُّكِ التبجيلَ والتمجيدا

من فيض سحرك قد قبستُ قصائدي

فَوقفتهُا لك نُدْفةً وقصيدا

سأحوكها تحكي شذاكِ لطافة

وأصوغها تحكي رُباك ورودا

وأَنا المحِبُّ، وما سواكِ حبيبةٌ

أشدو بحُسنِكِ يا شامُ عميدا

يا غضبة أُمويةً من جِلِّق

حطمتْ سلاسلَ صُلْبةً وَقيودا

ضجَّت لها كل الشعوب؛ أما ترى

كيف استفاضت في الدُّنى ترْديدا

ألمت دِمشقُ من الخنوع فزمجرت

أنَفاً وطبقتِ الفضاَء رعودا

وَقفت تناضل كالَّلباةِ جراَءة

لا شِرَّة حفلَتْ ولا تهديدا

لم تسمع الدنيا بمِثْلِ ثباتِها

درْساً يهيج المرْهق المصفودا

خمسون يوماً في الجهادِ مجيدة

كانت فخاراً للشام مجيدا

حشدت جحافلَها لُبىً وضَياغماً

صُبراً تَعافُ مذَلةً وسجودا

رَضىَ الإلهُ عن الشبابِ فإِنّهُ

أضحى لنهضتِنا لواً وَعمودا

ضحى الأمانيَّ العِذابَ كَخُلقه

ومضى يخلفُ للمكارم عيدا

رضىَ الإله عن اللباةِ فإِنها

شادت بناءً للفخار عتيدا

ص: 58

مهرَت حماها والعُلى أكبادها

ومشت يهيج نضالُها الرِّعديدا

رَوْضُ تجهَّز لِلْجهاد فلم يدع

دَوحاً وَلا زَهراً ولا أُملوداً

لو كنتَ تشاهِدَه غداة كفاحِه

لرأيتَ جيشاً للنِّضالِ حَشيدا

أو كنت ثمة شاهداً أطفاله

لرأيتَ جُنداً عُدة وعديدا

صبرَوا على مُرِّ الطَّوى وتحملوا

فقراً على غير الأباة شديدا

حَفُّوا بِأَلوية الجهاد وأقسموا

ألا يكونوا للقويِّ عبيدا

كلٌّ يسيرُ إلى الأمامِ مشمِّراً

وقد استعد لأن يعود شهيدا

وَعِتادُه قِطعُ الصفا لكن في

إيمانه ما يصدعُ الجلمودا

وفؤادُه بين الأضالع شعلة

حرى تشعُّ عزيمة ووقودا

سقطوا أمام بيوتهم، وسط الحمى

صرعى فما حفلوا لظى وحديدا

شهداءُ مثلُ الزهر في أكمامه

كانوا على ظلم القويِّ شهودا

يا ابْنَ الحضارة، هلْ علمِت حضارة

تروى دماً وَمدامعاً وَكبودا

ركزتْ على الدَّمِ والجماجِم عرشها

ثم ارْتدت زُورَ الطّلاء برودا

لبست بياضاً ناصعاً لكنها

أخفت قلوباً كالضغائن سودا

يا منقذ الحرِّية الزهراءِ في

زمن غدوْت لِلَيْلِهِ فرقودا

أعلنتَ للإِنسان حقاً اقدساً

وَأََدتْهُ طاغيةُ العروش عهودا

دَرْسٌ غذوْتَ به الشُّعوبَ جميعها

فكسرتَ أغلالاً وَهِجت هجودا

أتلومُ شعباً هَب يبعثُ مجدهُ

وَيُعيد فخراً كالخلود تليدا

يمشي على لهبِ اللظى لحقوقهِ

وَيخوضُ لاستقْلاله (البارودا)

قالوا: حَقودٌ! قُلتُ طاشَ خَيالُكم

فَفتى العُروبةِ لا يكونُ حقودا

وهو يطلبُ استقلاله بدمائه

لا يجتدي كرماً ويسألُ جودا

رُدوا له الحقَّ السليبَ مسلماً

تَجدوهُ إلْماً صادقاً وَوَدودا

الشرقُ سمْحٌ منذ كانَ وإنما

مُلئت حضارتُكم قذى وَحقودا

يا جيرةً ضمدوا جراحة جلِّق

إذ جُرْحها يتلمَّسُ التضميدا

لله نصرتُكم أخاكم إنّها

قد أصبحتْ مثلاً يسير شرودا

ص: 59

كانتْ على القربى الملِحَّةِ آية

جُلى، وَرَمزاً ساطِعاً مشهودا

قُلْ لِلْغويِّ يرى العروبةَ أنهراً

لا تسْتقى ويرى الوفاقَ بعيدا

إن العروبة في المواطِن كلها

ضمِنَتْ لها آلامها التوحيدا

جسدٌ يئنُّ إذا اشتكى عضو به

من ذا رأى شِلواً يعيش وحيدا

يا يومَ عادَ المصطفونَ إلى الحمى

ضَمِن الزمانُ لمجدِكَ التخليدا

في جيد هذا الشرق كنت قُلادة

وأراك في عمر الجهاد فريدا

ما مرَّ يوم أو مررت بخاطري

إلا سطعت لناظريَّ جديدا

يا يوم عادوا والجلالُ يحفُّهم

لا السِّجن قد هابوا ولا التشريدا

طلعوا علينا كالكواكب رفعة

وهفوا على هامِ الرِّجالِ بُنودا

سل مُقلتي لما بدت رُكبانُهم

هل بُدّدت عبراتُها تبديدا

واسأل فؤادي هل أهلَّ مصفِّقاً

أو هل شدا في رَكبهمْ غِرِّيدا

زَحَفَتْ دمشق تحوطهم بقلوبها

وْلداً وأشياخاً تَدبُّ وغيدا

تتزاحَمُ العَبَراتُ في آماقهِم

فرحاً فتنثْرُ لُؤلُؤاً منضودا

كدُّوا الحناجِرَ فرْحةً بإيابهم

وتدافعوا مثل الأتيِّ وُفودا

أرأيتَ كيف طغى العُبابُ على الثرى

أو كيف تحتضِنُ الرؤومُ وليدا

يا من رأى المأسورَ عاد مكرَّماً

والآسِرَ المأْفون فرَّ طَريدا

يطوي البحارَ السود يطلب ملجأً

وَحِمىً وَيضربُ في البلاد شريدا

أنى تحَّولَ فالسماءُ صواعق

والأرضُ فاغرةٌ هُوى ولحودا

وأمامه أنى تقلبَ نِسوْةٌ

يخْمشن أجياداً زَهَتْ وخدودا

ذُقْ ما يذُوقُ الظالمون! ومن يُهِنْ

أنَفَ الشعوبِ يهُنْ وَيَقض كميدا

وفد الشام ويا رسول جهادها

أني حللت تر القلوب مهودا

الله والشعب المبارك عزمه

قد أولياك النصر والتأييدا

فاسحب من الحب الثمين سوابغاً

واصحب من العطف العميم جنودا

واهبط رباعاً من (فَرَنْسةَ) خُضِّبت

بِدَمِ الأباةِ سباسباَ ونجودا

دكّت حصونَ الظالمين سيوفُهم

والظلم تذروه السيوف بديدا

ص: 60

جِئْهُمْ فَبثْهم السلام وقل لهم:

(يا من نشرتم لِلْحقوق بنودا

يا موقدين لهيب أروع ثورةٍ

تركت عروش المالكين حصيدا

والمرسلين على الظلوم صواعقاً

والباذلين مع الضعيف جُهودا

لا تكتبوا بشبا السِّنان عهودكم

فالحبُّ أصدق موثقاً وعهودا

ضِنوا بهذا الشعب يوماً أن يهي

إعجابه بنِضالكم ويبيدا)

يا وَفدُ سر بحمى الإله وحِفظه

واستنجز المأمول والموعدا

وارجع إلينا بالحياةِ مظَفّراً

واسطع بشائرَ في الحمى وسعودا

أمجد الطرابلسي

ص: 61

‌القصص

درامة من اسخيلوس

المتضرّعات

للأستاذ دريني خشبة

مقدمة:

كتب إسخيلوس هذه الثلاثية الرائعة وهو شاب في مقتبل حياته، ولم يبق منها، وا أسفاه، غير الدرامة الأولى، أما الثانية والثالثة فما تزلان مفقودتين. وقد استطاع العلماء الجهابذة من الألمان الحصول على مغزاهما، وبهذا تمت لنا الثلاثية بموضوعها وإن لم تتم بمبناها. والدرامة تنبع من أسطورة يو التي نشرتها الرسالة آنفا والتي تتلخص في أن زيوس كبير أرباب الأولمب أحب الفتاة يو حباً مبرحا فكان يختلف إليها سراً مخافة أن تضبطه وإياها زوجه حيرا فيحدث ما لا تحمد عقباه. . . ولكن. . . وقع ما خافه زيوس. . . فبينما كان يلهو بحبيبته مرة إذ لمح زوجه مقبلة. . . فأسقط في يده. . وسحر يو بقرة بيضاء. . . وراح يدعي أنه يرعاها. . . ولكن الحيلة لم تنطل على حيرا فسألته أن يمنحها البقرة علامة على حبه لها، فأجابها. . . وناطت بها حيرا خادمها الفظيع آرجس، ذا المائة عين يحرسها ويلحظها أنى سارت وأيان توجهت. . وذاقت يو الأمرين من هذه الحال حتى لقيت أباها رب أحد الأنهار مرة فتحدثت إليه بما كان من أمرها مع زيوس. . ولم يطق سيد الأولمب صبراً، فأنفذ ولده الصناع هرمز إلى آرجس ليحتال عليه ويقتله وينقذ يو من شره. . . وأفلح هرمز في مهمته، ولكن حيرا نقمت على البقرة وسلطت عليها ذبابا ساماً ما فتئ يقرصها ويعضها حتى تصالح زيوس وحيرا، ورجاها أن تطلق سراح يو فقبلت، على شريطة أن تنطلق من هيلاس كلها!! وقبل زيوس، وأعاد إلى يو صورتها. . . وأنفذها إلى. . . شطئان مصر. . . حيث تزوجت بفرعونها العظيم. . . وكان من نسلها هؤلاء النسوة المتضرعات، اللائى يتحدث إسخيلوس عنهن في هذه الثلاثية

ص: 62

ونحن نعتمد في تلخيص الدرامة الأولى الباقية على ترجمة لويس كامبل (طبعة إكسفورد) الشعرية، أما الدرامتان الأخريان المفقودتان (مصلحات فراش النوم) و (دانايديز) كما ذكرهما الأستاذ جلبرت موري في تاريخه عن الأدب الإغريقي (طبعة أبلتون ص217) فسنخلصهما معاً معتمدين في ذلك على الأستاذ هـ. ا. جربر ص 142

- 1 -

يرجع بنا إسخيلوس إلى عصر موغل في القدم، حتى ليكاد أن يكون عصرا خرافياً

ذلك هو العصر الذي كان في إيجبتوس أميراً على مصر السفلى. . . إيجبتوس الذي لا يعرفه التاريخ. . .

وكان لهذا الأمير خمسون ابناً، وكان لأخيه دانوس خمسون ابنة، فأراد إيجبتوس أن يزوج أبناه الخمسين من بنات أخيه الخمسين، برغم ما في هذا الزواج من مخالفة لشرائع الدين في مصر في هذا الزمان، ذلك أن هذا الدين الذي كان يبيح زواج الأخ من أخته، كان مع ذاك يحرم زواج ابن العم من بنت العم، ويعتبره - لو تم - نوعاً من الزنى

- 2 -

لذلك صمم دانوس، التقي الورع المتعبد، المتفاني في طاعة الآلهة، ألا يتم هذا الزواج

وسبب آخر جعل دانوس يغلو في تصميمه، ويتشبث به، برغم ما تجره عليه عداوة أخيه، أمير مصر العظيم، من بلاء وأرزاء

ذلك أنه كان لا ينوي تزويج واحدة من بناته الخمسين قبل أن يودع الحياة، وقبل أن يجيئه الموت، وقبل أن يجرع كأس المنون حتف أنفه! وكيف؟

لقد ذكر دانوس، حين كلمه أخوه الأمير في بناته الخمسين، تلك الرؤيا المفزعة التي أريها إذ هو شاب في غضارة الشباب، فأقضت مضجعه، وطمست مباهج الحياة في قلبه، وتركته لا يفكر إلا في هذه النهاية المريرة التي تدحرجه إلى شفاها الأيام؛ ويقذف به في هاويتها الزمان الغدار!!

رأى دانوس، إذ هو نائم فوق ضفاف النيل السندسية المعشوشبة، في ليلة مقمرة من ليالي الصيف الجميل الفضي، أن زوجاً من أزواج بناته يقتله، ويغمد خنجره ذا القبضة الذهبية

ص: 63

في أحشائه، ثم يقذف بجثته الممزقة بعد ذلك في النيل، فتحملها أواذيه إلى اليم المصطخب، إلى حيث لا يدرك لها قرار!!

(إذن لن أزوج واحدة من بناتي!!)

وذهب في الأرض على وجهه يلقي الكهان وسدنة الآلهة ليفسروا له الرؤيا، فما زاده لقاؤهم إلا ترويعاً، لأنهم جميعاً أكدوها له. . . وإذن. . . (فلن أزوج واحدة من بناتي!!)

- 3 -

وألح إيجبتوس على أخيه، ولكن دانوس ظل يمطله. . ويمطله

وأعد دانوس مركباً كبيراً حمل فيه بناته. . . وأبحر في ظلام الليل. . . إلى مملكة جدته. . . جدته يو. . . حبيبة زيوس سيد الأولمب وكبير الإلهة. . . . ليبارك ذراريها، ويسهر على أحفادها!

وقد ضرب في البحر، ولعبت بمركبه الأنواء، وطفق يلقي مور اليم وتناحر الموج ما أرخص له الموت. . . لولا أن استوى على شاطئ آرجوس، فنزل وقد بلغ منه الأين، وحطمه النصب

- 4 -

وسار ببناته حتى بعد قليلا عن الشاطئ، وحتى كان في البقعة المباركة المطهرة، التي جعلتها آرجوس حرماً للآلهة، وأقامت فيها التماثيل لأربابها. فوقف دانوس يعرّف بناته بسادة الأولمب، وانطلق البنات يغنين لآلهة هيلاس، ويقرئنهن السلام من آلهة النيل، وطفقن يهزجن بنشيد طويل حلو، تنضحه الدموع وتصهره حرق في الضلوع، ويفيض منه الموجعان الشجو والشكو!!

وإنهن لفي صلاتهن وتغنيهن، وإذا رجل طوال سامق، بادي الهيبة موفور الوقار يخرج إليهن فجأة من الأدغال القريبة، فيقف لحظة يرنو إليهن، ثم يتقدم فيسألهن:

- (مَن النَّسوةُ المهاجرات في هذا الزي الغريب! منظر عجب وآلهة الأولمب! الشاكيات الباكيات في ثياب بربرية، لا أرجفية ولا إغريقية؟! منْ؟ ما هذه الأفنان الناضرة؟ أمن الزيتون هي! وفيم وضعتُنها عند أقدام التماثيل يا مهجرات؟ تماثل آلهتنا، وأوثان أربابنا

ص: 64

المباركة؟)

وتتقدم إليه كبراهن فتسائله:

- (إن يكن قد بدهك زينا فمن أنت! أمواطن من آرجوليس؟ أم موكل بهذا الحرم تحرسه وتقوم عليه؟ أم عظيم من آرجوس ونابه من حكامها؟ هل للسيد أن يجيب؟!)

وهش الرجل وبش، وتبسم ضاحكا من قول الفتاة، ثم تلطف فذكر له أن ببلاسجوس بن باليختون، ملك آرجوس وحامي ذمارها؛ وأوضح فذكر شعبه وأملاكه ومدائنه، وهذا السهل وذاك الجبل وتلك الوهاد. . . وهاتيك البطاح

واهتزت الفتاة من رهبة وقالت: (إذن. . . فنحن نمت إلى آرجوس بوشائج القربى، نحن يا مولاي من نسل البقرة المشردة على حفافي النيل. . . هرعنا إلى آرجوس نلتمس الحمى!)

- (من نسل البقرة المشردة؟ وتمتن إلى آرجوس بوشائج القربى؟ عجيب وآلهة الأولمب؟ إن ملامحكن لا تدل على أصل إغريقي البتة!! وربما كنتن من هذه القبائل الضاربة في أباطح إفريقيا. . . من مصر. . . أو من أثيوبيا يا بنات! أو عسى أن تكن هنديات من اللائى يضربن أفخاذ الإبل هنا وهناك في جنبات آسيا. . . آه! لا لا، بل عسى أن تكن أمازونات يا فتيات!! أمازونات لا يعرفن الرجال قط. . . يغتذين باللحم النيئ!. . . خبرنني بحق الآلهة عليكن. . . إن كنتن تمتن بوشيجة إلى آرجوس فكيف كان ذلك؟. . .)

- (قد يعرف الملك ما كان بين سيد الأولمب وبين يو من علائق!)

- (أجل، أعرف. . . أعرف. . . ولكن ماذا كانت عاقبة يو؟)

- (لقد سحرتها حيرا بقرة. . .)

- (وزيوس؟!. . .)

- (سحر نفسه عجلا جسدا له خوار!)

- (ثم. . . . . .)

- (ثم لم تبال به حيرا، بل وكلت ببقرتها حارساً غليظاَ ذا مائة عين!)

- (مائة عين؟ حارس ذو مائة عين من أجل بقرة واحدة؟ يا له من راع!)

- (أجل. . . آرجس أيها الملك، الذي قتله هرمز)

ص: 65

- (ولما قتله هرمز، هل أطلق سراح البقرة؟)

- (لا، ولكنها أرسلت عليها الذبابة السامة تعضها، وتنغص حياتها، وتزيدها شقاء على شقاء

- (وأين انتهى بها المطاف يا فتاة!)

- (خاضت البحر اللجي حتى كانت على شواطئ مصر حيث تتدفق أمواه النيل. وثمة أعاد إليها زيوس شبابها وعنفوانها وأولدها إبافوس. . . منشئ ممفيس

- (وهلا تذكرين لها أطفالاً آخرين؟)

- (بلى. ولدها (بل) وقد أنجب بل ولدين كريمين، أبانا هذا الشيخ. . . و. . .

- (أباكم؟ ما أسمه؟. . .

- (دانوس أيها الملك ونحن بناته الخمسون. . .

- (وأخوه؟ ما اسم أخيه؟

- (إيجبتوس أمير مصر وملكها. . . والآن! هل تأكدت من صدق منشئنا؟

- (لا ريب! حصحص الحق! ولكن اذكري لي! فيم هاجرتن من بلادكن؟

- (أوه!! إنه لأمر يهيج أشجاننا أيها الملك!؟ يا للدنيا التي تكظها الآلام. . .

- (إن لكن لشكاة يا فتيات، فلا تخشين أن تبحن بها، إنكن بحضرة ملك آرجوس وإن هذه الأفنان التي وضعتنها عند أقدام إلهتنا لنتكلم عن شكاتكن!. . .

- (إن كان لابد أن تعرف، فقد رفضنا أن نكون خولا لعمنا إيجبتوس! لقد أرادنا على أن نكون متعة لأبنائه الخمسين فرفضنا، لأن شرائعنا تأبى ذلك. . . وها قد لجأنا إليك لتحمينا فلا تسلمنا لعمنا أبدا!)

- (يا للهول!! إني لألمح لهب الحرب يومض في ظلماء المستقبل!)

- (ولكن زيوس سيكون إلى جانبك!)

- (أواه! قد أجر الحراب على آرجوس! من يستطيع أن يمنع إيجبتوس حقه فيكن؟)

- (الآلهة تستطيع ذلك إذا أيدت قضيتنا وآزرتنا أيها الملك. . . الآلهة تنصر الفضيلة دائماً)

- (على كل. . . أنا لا أستطيع أن أبرم في ذاك أمراً دون أن أستشير شعبي ورجال

ص: 66

دولتي!)

- (أنت الحكومة وأنت الشعب وأنت الدولة!)

- (كلا يا فتيات! أنا ملك آرجوس فحسب! لا بد من الشورى!)

- (إذن!. . .

- (إذن ماذا يا فتيات!

- (إذن. . . وحق آلهتك. . . لنشنقن أنفسنا في جذوع هذه التماثيل! ولتكونن مأساتنا خزياً أبدياً في شرف آرجوس لا تمحوه الأيام!!

- (وا حربا! على رسلكن يا فتيات! لا تسئن الظن بشرف آرجوس وشجاعة ملكها. . . ولكنا هنا قلب واحد ينبض بأحاسيس واحدة! بيد أنني أدلكن على مخرج من هذا المأزق الحرج. . . ليذهب أبوكن - هذا الشيخ - بهذه الأفنان الناضرة، فليلقها لدى أقدام الآلهة في معبد المدينة حيث يعكف الشعب على أربابه يبتهل إليها ويصلي لها. . . فإذا سأله في ذلك أحد، فليبث شكواه، وليذرف دموعه، وليكسب إلى جانبه الجماهير الحاشدة التي نحكم باسمها ونستمد منها سلطاننا! فهنالك، وهنالك فقط، يستطيع ملك آرجوس أن يؤيدكن، وأن يحميكن. . . أما أن أعدكن بالحماية من غير أن أرجع إلى شعبي. . . فـ. . . فأنا أخشى أن يقولوا إني أذهبت ريحهم وهرقت دماءهم فيما لم يكونوا منه بسبيل!!)

- 5 -

ويُنْفذ الملك مرشداً مع دانوس يدله على الطريق إلى معبد آرجوس الجامع، ويودع البنات لينطلق بدوره، فيؤيد قضيتهن بين وزرائه، وليرقق قلوب الشعب من أجلهن، وليضمن لهن مؤازرة آرجوس كلها

ويأخذ الفتيات في صلاة طويلة كلها آمال وكلها أماني، وكلها ضراعة وكلها ابتهال، وكلها تذكير للآلهة بما حاق بذرية يو التعساء، ثم ثناء على أرباب الأولمب لا ينتهي!

- 6 -

وفيما هن يصلين هذه الصلاة الطويلة، إذا أبوهن، دانوس الشيخ، يدخل عليهن فجأة، حامل إليهن البشرى

ص: 67

- (ليهنكن يا فتيات!! ليهنكن! لقد ضمنا أصوات الشعب وتأييد آرجوس!)

- (أبانا! بوركت! يا للبشرى! ولكن. . . قص علينا كيف تم ذلك بحق الآلهة عليك!)

- (ما كدت أجوس خلال آرجوس حتى تكبكب الشعب حولي، مأخوذاً بغرابة بزتي وعجيب هيئتي. . . وزادهم إجلالاً أني ظهرت فيهم كضيف للملك وصديق لآرجوليس؛ فلما نثرت الأفنان عند أقدام الآلهة، وصليت وبكيت، وبثثت شكواي، رثى الأرجيف الكرماء لي، فناشدتهم أن يؤازروني، ويشددوا عضدي، ضد عدوي الغاشم الذي أراد أن يفضحني فيكن، ويجر الخزي عليكن. فهتفوا لي، وحيوني تحية الأبناء الأمناء، وأعطوني موثقهم على افتدائي بأزكى الدماء. . . وعاهدوني على أن يذودوا العالمين دوني. . . ثم هالني أن أرى السماء ترسل أضواءها فتملأ أركان المعبد بهاءً وتكسبها رونقاً ورواء. . . وأقبل الملك فهتف الشعب له، والتفوا حوله، فخطبهم في شأني وحذرهم أن يغضبوا زيوس ربهم إذا لم يؤازروني، وينصروني، ويؤيدوا حقي على باطل عدوي. فهتفوا بلسان واحد أن كيف لا ينصرون لاجئاً إلى قدس زيوس، مستجيرا به، مستشفعاً بآرجوس يرجو حماها! ثم عرضوا آخر الأمر أن أقيم بين ظهرانيهم كواحد منهم، وأن تكون لكن من الحقوق ما للأرجيفيات، غير خائفات ولا مروعات. . . هذه يا بناتي قصتي، وهذه أقضية السماء فاشكرن لها وتبتلن)

(البقية في العدد القادم)

دريني خشبة

ص: 68

‌البريد الأدبي

أخي الأستاذ الزيات

لا أقدر أن أعلل المصادفة التي جعلتني أكتب قبيل شهر هذه المقطوعة

(الاتصال):

(لم تخلق الحياة جزءا يستطيع أن يعيش متصلا،

حتى الأموات الذين أتموا دوراتهم يبقى اتصالهم بأرواحنا،

والأحياء أنفسهم هل يستطيعون أن يعيشوا بغير أموات؟

هم في يقظاتهم يمشون وراء خواطرهم وأفكارهم

وهم في أحلامهم يعيشون في جزائرهم النائية. . .)

ثم قدمت لي المصادفة كتاب (المرملة) لماترلنك، فلمست بدهشة وتأثير (صوفيته العميقة) وإحساسه بالموتى الذين لا يموتون

(لنكن مطمئنين فالموت لا يحفظ لنا شيئاً أكثر تجهماً من الحياة، وما الموت إلا حياة لا ينفذ إليها نصب ولا حزن ولا شقاء! حيثما يقيم فالريح مقيم ولا شيء يضيع)

(لا نصلِّ من أجل الموتى! ولكن لنأتهم مبتهلين فان ما يملكونه لتقديمه إلينا أكثر مما نملكه لتقديمه إليهم)

ثم جاءت كلامة الأستاذ أحمد أمين تحمل إليك التعزية في الرجاء الذاهب والكوكب الغارب!

يقول بوذا: (لا تقيد نفسك بالمحسوسات، فالتقيد بها يشقيك. . . عش متجردا من كل حب محسوس وعلاقة محسوسة) وقد أجد في هذه الكلمة كل الشفاء لو تستقر في النفس. ولكن النفس التي تؤلف كل هذا المحسوس وترتبط به في كل لحظة وتعيش معه في كل مكان، كيف ينزع منها ولا تجد لنزعه مرارة؟ وكيف لا تحس به النفس وهي تغذيه كل يوم بدموع!

جميل أن أعيش بعيداً عن المحسوس، وأجمل منه هذا العقل الذي يغرس في قلبي هذا الإيمان المجرد؛ وهل أستطيع أن أبلغ الإيمان المجرد إلا بعد أن تجردني الحادثات وتنثر أوراقي كالشجرة التي لا تلمس نفسها وتحس وجودها إلا بعد أن تتجرد من أوراقها

ص: 69

وأزهارها. ولا يأتي التجرد من غير ثمن!

ثمن هذا التجرد شقاء نتحمله، وألوان من العذاب نتذوقها، وقطع من أكبادنا تمشي على الأرض إلى الأرض!

لا أستطيع أن أقول لك: (تعز يا أخي بالتجرد!) وهذا التجرد نفسه يحتاج إلى تعزية. ولا أن أقول: (انفض يديك من الصغير المفقود) فانه جر إلى التراب قطعة من كبدك معه. ولكن دع هذه القطعة فيها حركة وفيها حياة. . . تحيا تحت التراب كما تحيا فوقه. . . ومتى رأيت أن الحياة تعمل هناك كما تعمل هنا، وأبصرت أن الحياة التي تتمشى في جذور الأرض هي التي تتمشى في مطالع أزهارها. كان لك من هذا عزاء، لأنك تأمن على هذه القطعة التي سلخت منك. وفي الذكرى المتصلة حياة، وفي الرجاء المتصل الذي لا ينقطع ألف حياة.

خليل هنداوي

حول راثي الأندلس المجهول

يرجع الفضل في العودة إلى إثارة البحث عن صاحب القصيدة

التي نشرها، للمرة الأولى، الدكتور صوالح محمد بالجزائر

سنة 1919، إلى صديقي السيد عبد الرحمن حجي، مدرس

اللغة العربية بمدرسة أبناء الأعيان بسلا. واتخذ ميدانه

(الرسالة)(عدد 131 - 6136) وطلب من المشتغلين بالأدب

الأندلسي أن يعلنوا عن صاحبها إذا عرفوه، فلم يجيبه أحد

سوى السيد محمد عبد الله عنان الذي حاول في مقالة نشرتها

له (الرسالة) أيضاً عدد (133 - 20136) تحقيق فترة الدهر

التي يرجع إليها قرض القصيدة تسهيلا في البحث عن صاحبها

ص: 70

وعصره. وقال السيد حجي إنه عرض القصيدة على المؤرخ

المغربي السيد محمد بن على الدكالي السلوي فذكر له أن

صاحبها كما يفهم من القصيدة من المرية، ولعله أبو جعفر بن

خاتمة، وقد تكون مذكورة في كتابه (مزية المرية) الذي في

دير الأسكوربال نسخة منه. وقال السيد حجي أيضا إن

الدكتور صوالح قال في كتابه إن هذه القصيدة من جملة

القصائد التي بعثها مسلمو الأندلس يستغيثون بها السلطان

العثماني بايزيد الثاني. ولم نعثر نحن على هذا القول في

الكتاب المذكور

أما نسبتها إلى أبي جعفر أحمد بن خاتمة فهو غلط تاريخي، فقد مات هذا في اليوم السابع من شهر شعبان سنة 770 (فهرست أبي عبد الحضرامي السبتي، التي ألفها له الخطيب بن مرزوق (النفح، ج3، ص244، ط القاهرة)

وابن خاتمة من معاصري لسان الدين بن الخطيب المشهورين وله معه مكاتبات. وله أيضا في الوزير قصائد (النفح، ج3، ص433 ط القاهرة). ومن جهة أخرى، فقد ترجم الوزير في الإحاطة لابن خاتمة وعَدّه من أصدقائه (الإحاطة، ج1، ص174، ط القاهرة 1319)

فليست القصيدة إذاً لابن خاتمة الذي مات، على الأقل، منذ 80 سنة قبل الفترة التاريخية التي قيلت فيها والمُستَنْتجَة منها، كما لا يمكن أن تجيء في كتابه (مزية المرية)

وجاء البيت 77 من القصيدة هكذا:

ترى في الأسى أعلامَها وهي خُشَّع

ومِنْبرها مُستَعِبرٌ وسَريرُها

سقطت (في) من صدره في الأصل وفي (الرسالة)، إلا أن ناشر الأصل نَبّه عن ذلك في آخر الكتاب في جدول التصحيح. ولعل صديقي حجي أغفل النظر إلى الجدول

ص: 71

حول ذخيرة ابن بسام أيضا

واهتيل الكتابة إلى (الرسالة) التي مضى لها الكلام حول ذخيرة ابن بسام (عدد 115) لأزيد أن النسختين المعروفتين اليوم بالمغرب الأقصى من هذا التأليف هما:

1 -

نسخة ينقصها الجزء الرابع في خزانة السيد عباس بن إبراهيم، أحد قضاة مدينة مراكش الحاليين

2 -

نسخة أخرى ينقصها الجزء الرابع أيضا، كانت لأوقاف مدينة تطوان بمنطقة النفوذ الأسباني بالمغرب، ولكن شخصا توصل إلى اقتنائها وحملها إلى الرباط بمنطقة النفوذ الفرنسي. وقد اقتنتها منه الحكومة المغربية لخزانة الرباط العمومية. وقد دخلتها فعلا، وقيدت برقم (1324) بدفتر المخطوطات العربية الثاني. ولم يقتنها السيد ليفي بروفنسال لنفسه كما شاع ذلك بالمغرب. وقد استعارها أخيراً السيد ليفي بروفانسال الأستاذ بجامعة الجزائر بواسطة خزانة مدينة الجزائر الأهلية. ولعله لينشرها أو ليقارنها بأخرى. ومما لاشك فيه أن بخزائن المغرب نسخا أخرى لا تزال مجهولة

عبرات حرار

ولتسمح لي (الرسالة) مرة أخرى، لأنتهز هذه الفرصة أيضاً لأوجه هذا السؤال إلى السيد عبد القادر المغربي رئيس المجمع العربي بدمشق سابقاً

سيدي:

قلتَ في (مجلة مجمع اللغة العربية الملكي)(عدد 1 صفحة 338):

(إن العرب إن لم يصفوا الدّموع بلفظ الحَرَارة فانهم وصفوها بمرادف الحرارة، أعني (السخونة والإحراق). . .

(والفرق بين العربي والإفرنجي: أن الأولين ينسبون السُّخونة إلى عين نفسها، والإفرنج ينسبون الحرارة إلى دموعها

فما رأيك يا سيدي في قول الخنساء:

مَنْ كان يوماً باكِياً سَيّداً

فليبكه بالعَبرَات الحرار

(سلا - المغرب الأقصى)

ص: 72

محمد حصار

كتاب هام عن المسألة الفلسطينية

أثارت المسألة الفلسطينية في العهد الأخير كثيراً من الاهتمام وصدرت عنها وعن تطوراتها كتب كثيرة، ولكن معظم هذه الكتب تميل إلى الناحية اليهودية وإلى تأييد السياسة البريطانية وإنشاء الوطن القومي اليهودي، وقلما ينصف العرب أو يقدر مطالبهم وحقوقهم قدرها؛ بيد أنه ظهر أخيرا كتاب بالإنكليزية عن المسألة الفلسطينية عنوانه (فلسطين العربية) بقلم السيدة بياتريس ستيوارث إركسن يؤثر الناحية العربية بكثير من الشرح والتفصيل، ويميل إلى إنصاف العرب وتصوير وجهة النظر العربية تصويراً عادلاً. وتمهد المؤلفة لبحثها باستعراض تاريخ فلسطين منذ أقدم العصور حتى الحرب الكبرى، ثم تاريخ المسألة الصهيونية منذ فاتحة القرن الماضي حتى سعي اليهودية إلى عرض تأييدها ونفوذها على الحكومة الإنكليزية مقابل إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وصدور عهد بلفور الشهير بإنشاء الوطن القومي، ثم قيام الانتداب البريطاني على فلسطين

وتشير المؤلفة إلى إغفال رأي العرب فتقول إن منح فلسطين لتكون وطناً قومياً لم يرجع فيه إلى رأي السكان (الفقراء) الذين كانوا حلفاءنا. كذلك لم تقدر فيه عواقب تدفق الهجرة إلى بلد صغير محدود الموارد، ولم تكن هناك سياسة ثابتة لمعالجة الموقف الذي ينشأ عن ذلك، وهي سياسة كان يجب أن تقوم على استشارة ذوي الشأن جميعاً، وأن يراعي فيها تنفيذ الشطر الثاني من تصريح بلفور الخاص بأنه (لن يعمل شيء يمكن أن يضر بالحقوق المدنية أو الدينية للطوائف غير اليهودية من سكان فلسطين)، ولا ريب أن تعيين هذه الحقوق الدينية والمدنية كان من شأنه أن يفر كثيراً من سوء التفاهم، وأن يحمل العرب على الثقة بالدولة المنتدبة، وأن يزيد في احتمال التعاون بين مختلف العناصر

وقد هرع اليهود إلى البلاد لا كمهاجرين بل كفاتحين، وشعر العرب بأنهم حرموا كل نصيب في النفوذ والحكم؛ وكان المندوب السامي الأول يهودياً، فكان تعيينه ضربة للعرب. وتعاقب المندوبون السامون وتعاقبت الوزارات البريطانية ولم يجد العرب إنصافاً، وألفت

ص: 73

السلطات يدها مغلولة بنصوص الانتداب، واستمر الاحتكاك بين العرب واليهود؛ وزادت المنازعات الدينية الأمور تعقيداً، وكانت تنتهي أحياناً بسفك الدماء. بيد أن اليهود لم يكتفوا بما بلغه الوطن القومي من التوطد والتقدم، فهنالك (حزب الإعادة) الذي يتزعمه فلادمير جابوتنسكي، وهو يطالب بإطلاق الهجرة اليهودية من كل قيد، وحماية المستعمرين بمنحهم حقوقاً ومزايا خاصة، وغير ذلك من المطالب المتطرفة

ولا ريب أن العرب يقابلون كل هذه المطالب والدعاوى بالإنكار والمقاومة؛ ومن المستحيل أن تعاون الأحوال القائمة على وضع أي حل مرض للمسألة الفلسطينية

وتقترح المؤلفة من عندها حلا يقوم على التوزيع الجفرافي، وترى تقسيم فلسطين إلى قسمين يكون كل منهما دولة خاصة، فتكون إحدى الدولتين عربية وعاصمتها بيت المقدس وثغرها يافا؛ وتكون الأخرى يهودية وعاصمتها وثغرها تل أبيب، وتنضم الدولتان إلى عصبة الأمم؛ وتعتبر بيت المقدس وحيرون وطبرية وصفد وبيت لحم مدناً دينية تخضع للنظم والقوانين التي تضعها عصبة الأمم، وتبقي حيفا ثغراً حراً، وتضم شرق الأردن إلى فلسطين العربية

والخلاصة أن المؤلفة تبدي كثيرا من الاعتدال في عرض المسألة الفلسطينية وتخص الناحية العربية بكثير من الإنصاف والعطف، وتبدي شجاعة في عرض القضية العربية يندر أن يبديها قلم أجنبي. ومن ثم فان كتابها خليق باهتمام العرب، وهو بلا ريب وثيقة مفيدة في عرض القضية العربية في إنكلترا وفي أوربا

قصص فلسطينية

صدرت أخيرا ترجمة إنكليزية عبرية من القصص الفلسطينية عنوانها أعني (قافلة فلسطين) بقلم الكاتب اليهودي موشي سميلانسكي وهذا الكاتب القاص معروف بين مواطنيه بقوة تصويره وطرافة خياله. ويحتوي كتابه المذكور على إحدى عشرة قصص فلسطينية، عن اليهود والفلاحين والبدو، ويميل سميلانسكي بنوع خاص إلى تصوير الحياة الريفية، ويجد هذا النوع من الصور. وبين القصص المذكورة عدة تمتاز بحسن السبك والمفاجآت المدهشة، وبينها عدد يمتاز بحسن التصوير والدراسة الطبيعية والنفسية العميقة ولاسيما فيما يتعلق بدسائس القرية، ووصف الحياة الريفية ذاتها وحياة الفلاحين وأعمالهم

ص: 74

في الحقل والمنزل، ومما يلاحظ أن الكاتب حتى في دراساته الوصفية يجانب الإسهاب الممل، ويقتصر في الوصف واللفظ على ما لابد منه لإظهار الصور والمعاني

طريقة المجمع اللغوي في كتابة الأعلام الأعجمية

وافق مجمع اللغة العربية الملكي على القواعد الآتية في كتابة الأعلام الأعجمية وهي:

1 -

أن يكتب العلم الإفرنجي بحسب نطقه في اللغة الإفرنجية ومعه اللفظ الإفرنجي بحروف لاتينية بين قوسين في البحوث والكتب العلمية على حسب ما يقرره المجمع في شأن كتابة الأصوات اللاتينية التي لا نظير لها في العربية

2 -

تكتب أسماء الأعلام بحسب النطق بها في لغتها الأصلية أي كما ينطق بها أهلها وليس كما تكتب. مع مراعاة ما يأتي:

3 -

جميع المعربات القديمة من أسماء البلدان والممالك والأشخاص المشهورين في التاريخ التي ذكرت في كتب العرب يحافظ عليها كما نطق بها قديماً، ويجوز أن نذكر الأسماء الحديثة التي شاعت بين قوسين، وإذا اختلف العرب في نطقين رجح أوثقهما

4 -

أسماء البلدان والأعلام الأجنبية التي اشتهرت حديثاً بنطق خاص وصيغة خاصة مثل باريس وإنجلترا والنمسا وفرنسا وغير ذلك تبقى كما اشتهرت نطقاً وكتابة

5 -

الأعلام القديمة يونانية ولاتينية ينظر في وضع قواعد خاصة بها

6 -

الأعلام السامية القديمة التي تكتب بحروف الهجاء الخاصة بها توضع لها قواعد خاصة بها

7 -

اللغات التي لا تزال تكتب بالحروف العربية، ولكن فيها أصواتاً ليس لها حروف عربية، ولهذه الأصوات في لغاتها حروف خاصة اصطلح عليها كالفارسية والملاوية والهندستانية والتركية في الحكم العثماني، ترى اللجنة بشأنها أن تدرس هذه الأصوات الخاصة وتتخذ لها الحروف التي وضعها لها أهلها

8 -

بعض القبائل والبلاد الإسلامية لها لغة خاصة لا يستعملونها غالباً في الكتابة، وإنما يكتبون باللغة العربية، ولكن لها أعلاماً بعض أصواتها لا يطابق الحروف العربية، وقد وضعوا لها إشارات لتأدية هذا النطق، وفي بعض الأحيان تكون هذه الإشارات متعددة للصوت الواحد - ترى اللجنة بعد البحث أن يختار أحد الاصطلاحات في كتابة هذه

ص: 75

الأعلام

وانتهى المجمع من المناقشة في هذا القرار بوضع الحرف - جاف - ويكتب كافا على شرطتها ثلاث نقط

9 -

الأسماء الأجنبية النصرانية تكتب كما عربها نصارى الشرق. فمثلا يقال بطرس في وبقطر في وبولص في ويعقوب في وأيوب في وهكذا

10 -

قبلت اللجنة إدخال الحروف ورسمته باء تحتها ثلاث نقط و (تش ورسمته جيما تحتها ثلاث نقط، وورسمته زايا فوقها ثلاث نقط، وورسمته كافاً فوقها ثلاث نقط وهو حرف الجاف، وقد أرادت اللجنة من إدخال هذه الحروف للإشارة بها إلى بعض الأصوات التي لا توجد في العربية واختارت هذه العلامات لتداولها في اللغات الفارسية والتركية والهندية والملايوية

11 -

قبلت اللجنة أن يكتب الحرف واوا بثلاث نقط فوقها وقد عدلت اللجنة عن كتابة (ف) بثلاث نقط لأن هذا الحرف مستعمل في بلاد المغرب إشارة إلى الحرف (جاف) أي الكاف المعقودة، وفي الملايو إشارة إلى الحرف لتعيين بعض الأصوات في الأعلام الإفرنجية

1 -

اللغات التي لا تزال تكتب بالحروف العربية ولكن فيها أصواتاً تخالف أصوات الحروف العربية ولهذه الأصوات في لغاتها حروف خاصة اصطلح عليها كالفارسية والملايوية والهندستانية، ترى اللجنة بشأنها أن تدرس هذه الأصوات الخاصة وتتخذ لها الحروف التي وضعها لها أهلها

وقد درست اللجنة هذه الأصوات الخاصة المشار إليها ووضعت فيها ثلاثة قرارات:

(أ) الحرف (انج) في لغة الملايو. يرسم نون وجاف وهو يرسم في لغة الملايو غينا فوقها ثلاث نقط

(ب) الحروف الهندية المرسومة راء ذات أربع نقط، وتنطق بين الراء والضاد، وكذلك الراء التي فوقها طاء يكتفى بكتابتها راء عربية. وكذلك الذال التي فوقها أربعة نقط يكتفى بكتابتها دالا عربية

(جـ) بعض أسماء البلاد في الجزائر والهند الشرقية ومقاطعة موريتانيا وما يليها تنتهي

ص: 76

بحسب نطق أهلها بفتحة مثل ولات ومندر وبعضهم يكتب بعد الحرف الأخير المفتوح تاء مربوطة، وترى اللجنة أن تختم كل الأعلام التي من هذا القبيل بتاء مربوطة وقد اتبع ابن بطوطة هذه القاعدة

2 -

حرف - بالإنجليزي يكتب ألفا. وإذا كان في أول الكلمة كتب ألفاً عليها همزة. والحروف الإنجليزية ، ، وكل ما أشبهها في النطق تكتب بالعربية ياء. وإذا كان الحرف ممالا في اللغة الأجنبية، وضعت ألف قصيرة قبل الياء لتدل على أنه ممال كالعدد (8) للدلالة على الإشمام مثل كوته والحرف الأول هو حرف الجاف

3 -

تكتب الأعلام التركية كما كتبها الترك بالحروف العربية حسب الاصطلاحات المتداولة عندهم، قبل اتخاذ الحروف اللاتينية وما جد بعد ذلك فحكمه حكم اللغات الإفرنجية

4 -

الأعلام الأجنبية المنتهية في نطقها الأصلي بألف تكتب بالألف إلا فيما عربه العرب بالتاء المربوطة، كبخارى وبصرى وكسرى وعيسى وموسى

5 -

الإمالة:

رأت اللجنة أن توضع علامة أشبه بالمدة الرأسية للدلالة على هذا الصوت كما في - مثلا فتكتب هكذا جيبور مع وضع مدة رأسية فوق الياء ولذلك يكتب حرف كما ينطق به أهل كل لغة، لأنه في الألمانية ينطق (ي) وفي الأسبانية (خ) كما هو في موخاكار وكذلك رأت اللجنة أن تضع علامتين للدلالة على حرف وحرف المخفف والمثل على الأولي فتكتب في العربية (زان ده لوز) بوضع ثلاث نقط فوق الزاي وعلى اللام علامة رقم (7) للدلالة على هذا الصوت والثانية كما في فتكتب في العربية كوته وعلى الجاف علامة تشبه رقم (8) كما سبق ذلك

حول كتاب الذخيرة أيضاً

للمرة الثانية نرى في سيدة الصحف العربية (الرسالة) الغراء التنويه التام بالعلامة المستشرق الفرنسي الأستاذ ليفي بروفنسال إذ كان السبب الوحيد في استكشاف أثر حافل عن تاريخ الأندلس هو نسخة كاملة من كتاب (الذخيرة) لابن بسام، وساعده على ذلك أنه كان مديراً لمعهد المباحث العالية المغربية برباط الفتح، فقد نوهت به للمرة الأولى في العدد (115) بقولها (. . . لبث يبحث وينقب أعواماً طويلة في خبايا المكاتب المغربية حتى

ص: 77

ظفر بنسخة حسنة كاملة من كتاب: (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) وقالت مثل ذلك في العدد (140)

على أن الحقيقة ونفس الأمر خلاف ما كتبته الصحف الأوربية وخلاف ما نقلته الرسالة. والحقيقة التي لا يشوبها شيء هي أن كتاب الذخيرة كان في خزانة القائد الأكبر السيد اليزيد ابن الصالح الغماري (القاطن بغمارة من أعمال تطوان) من جملة الآثار النفيسة الموجودة بخزانته القيمة التي خلفها أسلافه الكرام حبوساً على عائلته أولاد صالح. وفي ذات يوم أتاه بعض أصدقائه وطلب من إعارة الذخيرة على أن يلتزم بطبعها والريع يقسمه بينهما، فاستحيا منه القائد ومكنه منها، فذهب تواً إلى خزانة المخزن الكبرى بالرباط وطلب من رئيسها شراءها منه فأخذها وأجله للغد، وفي الغد ذهب للخزانة فأعطاه الرئيس (3000) فرنك ثمن الذخيرة، فأبى من البيع، فلم يرض الرئيس بردها له قائلاً: إن المخزن الشريف أرادها فخذ الثمن أو اذهب؛ فلم ينفعه إلا أن اخذ الثمن وذهب لسبيله. تلك حقيقة قصة كتاب (الذخيرة) واكتشافها

ونحن لا ننكر فضل الأستاذ ليفي بروفنسال فهو كما ذكرت (الرسالة) الغراء وزيادة، وإن ننس فلا ننس جهوده التي بذلها نحو الكتب الإسلامية، وإنما نحب إظهار الحقيقة ليس إلا. ومن الكتب التي اعتني بنشرها هذا الأستاذ ولم تذكرها الرسالة: المجلد الأول من (الجامع الصحيح) للإمام أبي عبد الله البخاري المكتوب بخط ورواية أبي عمران موسى بن سعادة الأندلسي، نقل منه نسخاً عديدة بالتصوير الشمسي ومعه كتاب (التنويه والإشادة بمقام رواية ابن سعادة) للعلامة المحدث الشهير صاحب الفضيلة السيد محمد عبد الحي الكناني، والقسم الثاني من (الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام) لذي الوزارتين لسان الدين بن الخطيب، وكتاب (مفاخر البربر) مجهول المؤلف، و (نخبة تاريخية) جامعة لأخبار المغرب الأقصى جمعها من كتب شتى، و (نبذ تاريخية) في أخبار البربر في القرون الوسطى انتخبها من كتاب مفاخر البرير المتقدم وغيرها من الكتب

(فاس - المغرب الأقصى)

إدريس الكتاني

ص: 78