المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 145 - بتاريخ: 13 - 04 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٤٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 145

- بتاريخ: 13 - 04 - 1936

ص: -1

‌اللغة والدين والعادات باعتبارها من مقومات

‌الاستقلال

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

ليست حقيقة الأمة في هذا الظاهر الذي يبدو من شعب مجتمع محكوم بقوانينه وأوضاعه؛ ولكن تلك الحقيقة هي الكائن الروحيُّ المكتنُّ في الشعب، الخالص له من طبيعته، المقصورُ عليه في تركيبه؛ كعصير الشجرة لا يُرى عمله والشجرة كلها هي عمله

وهذا الكائن الروحي هو الصورة الكبرى للنسب في ذوي الوشيجة من الأفراد، بيد أنه يحقق في الشعب قرابة الصفات بعضها من بعض؛ فيجعل للأمة شأن الأسرة، ويخلق في الوطن معنى الدار، ويوجد في الاختلاف نزعة التشابه، ويرد المتعدد إلى طبيعة الوحدة، ويبدع للأمة شخصيتها المتميزة، ويوجب لهذه الشخصية بازاء غيرها قانون التناصر والحميَّة؛ إذ يجعل الخواطر مشتركة، والدواعي مستوية، والنوازع متآزرة، فتجتمع الأمة كلها على الرأي: تتساند له بقواها، ويشد بعضها بعضاً فيه. وبهذا كله يكون روح الأمة قد وضع في كلمة الأمة معناها

والخلق القومي الذي ينشئه للأمة كائنها الروحي، هو المبادئ المنتزعة من أثر الدين واللغة والعادات، وهو قانون نافذ يستمد قوته من نفسه، إذ يعمل في الحيِّز الباطن من وراء الشعور، متسلطا على الفكر، مصرِّفاً لبواعث النفس؛ فهو وحده الذي يملأ الحي بنوع حياته، وهو طابع الزمن على الأمم، وكأنه على التحقيق وضعُ الأجداد علامتهم الخاصة على ذريتهم

أما اللغة فهي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودا متميزا قائما بخصائصه؛ فهي قومية الفكر، تتحد بها الأمة في صور التفكير وأساليب أخذ المعنى من المادة. والدقة في تركيب اللغة دليل على دقة الملكات في أهلها؛ وعمقها هو عمق الروح ودليل الحس على ميل الأمة إلى التفكير والبحث في الأسباب والعلل؛ وكثرة مشتقاتها برهان على نزعة الحرية وطماحها، فإن روح الاستعباد ضيق لا يتسع، ودأبه في المستعبدين لزوم الكلمة والكلمات القليلة

وإذا كانت اللغة بهذه المنزلة، وكانت أمتها حريصة عليها، ناهضة بها، متسعة فيها، مكبرة

ص: 1

شأنها، فما يأتي ذلك إلا من روح التسلط في شعبها، والمطابقة بين طبيعته وعمل طبيعته، وكونه سيد أمره، ومحقق وجوده، ومستعمل قوته، والآخذ بحقه. فأما إذا كان منه التراخي والإهمال، وترك اللغة للطبيعة السوقية، وإصغار أمرها، وتهوين خطرها، وإيثار غيرها بالحب والإكبار؛ فهذا شعب خادم لا مخدوم، تابعٌ لا متبوع، ضعيف عن تكاليف السيادة، لا يطيق أن يحمل عظمة ميراثه، مجتزئٌ ببعض حقه، مكتفٍ بضرورات العيش، يوضع لحكمه القانون الذي أكثره للحرمان وأقله للفائدة التي هي كالحرمان

لا جرم كانت لغة الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين؛ فلن يتحول الشعب أول ما يتحوّلُ إلا من لغته؛ إذ يكون منشأ التحول من أفكاره وعواطفه وآماله، وهو إذا انقطع من نسب لغته انقطع من نسب ماضيه، ورجعت قوميته صورة محفوظة في التاريخ، لا صورة محققة في وجوده. فليس كاللغة نسب للعاطفة والفكر؛ حتى إن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشأ منهم ناشئ على لغة، ونشأ الثاني على أخرى، والثالث على لغة ثالثة، لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء

وما ذلَّت لغةُ شعب إلا ذلَّ، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار. ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها؛ فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثة في عمل واحد: أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجناً مؤبداً؛ وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً؛ وأما الثالث فتقييدُ مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها؛ فأمرهم من بعدها لأمره تَبَع

والذين يتعلقون اللغات الأجنبية ينزعون إلى أهلها بطبيعة هذا التعلق إن لم تكن عصبيتهم للغتهم قوية مستحكمة من قِبَل الدين أو القومية. فتراهم إذا وهنت فيهم هذه العصبية يخجلون من قوميتهم، ويتبرءون من سلفهم، وينسلخون من تاريخهم، وتقوم بأنفسهم الكراهةٌ للغتهم وآداب لغتهم، ولقومهم وأشياء قومهم؛ فلا يستطيع وطنهم أن يوحي إليهم أسرار روحه؛ إذ لا يوافق منهم استجابة في الطبيعة، وينقادون بالحب لغيره فيتجاوزونه وهم فيه، ويرثون دماءهم من أهلهم ثم تكون العواطف في هذه الدماء للأجنبي؛ ومن ثم تصبح عندهم قيمة الأشياء بمصدرها لا بنفسها، وبالخيال المتوهم فيها لا بالحقيقة التي تحملها، فيكون شيء الأجنبي في مذهبهم أجمل وأثمن لأن إليه الميل وفيه الإكبار والإعظام، وقد يكون

ص: 2

الوطني مثله أو أجمل منه بيد أنه فقد الميل، فضعفت صلته بالنفس، فعادت كل مميزاته لا تميزه

وأعجبُ من هذا في أمرهم، أن أشياء الأجنبي لا تحمل معانيها الساحرة في نفوسهم إلا إذا بقيت حاملة أسماءها الأجنبية، فإن سمِّي الأجنبي بلغتهم القومية نقص معناه عندهم وتصاغر وظهرت فيه ذلة. . . وما ذاك إلا صِغَر نفوسهم وذلتها، إذ لا ينتخون لقوميتهم فلا يلهمهم الحرف من لغتهم ما يلهمهم الحرف الأجنبي

والشرق مبتلى بهذه العلة، ومنها جاءت مشاكله أو أكثرها؛ وليس في العالم أمة عزيزة الجانب تقدم لغة غيرها على لغة نفسها، وبهذا لا يعرفون للأشياء الأجنبية موضعاً إلا من وراء حدود الأشياء الوطنية؛ ولو أخذنا نحن الشرقيين بهذا، لكان هذا وحده علاجاً حاسماً لأكثر مشاكلنا

فاللغات تتنازع القومية، ولَهيَ والله احتلال عقلي في الشعوب التي ضعفت عصبيتها؛ وإذا هانت اللغة القومية على أهلها، أثرت اللغة الأجنبية في الخلق القومي ما يؤثر الجو الأجنبي في الجسم الذي انتقل إليه وأقام فيه

أما إذا قويت العصبية، وعزت اللغة، وثارت لها الحّميّة؛ فلن تكون اللغات الأجنبية إلا خادمة يُرتَفَق بها، ويرجع شبر الأجنبي شبرا لا متراً. . . . وتكون تلك العصبية للغة القومية مادةً وعوناً لكل ما هو قومي؛ فيصبح كل شيء أجنبي قد خضع لقوة قاهرة غالبة، هي قوة الإيمان بالمجد الوطني واستقلال الوطن؛ ومتى تعين الأول أنه الأول، فكل قوى الوجود لا تجعل الذي بعده شيئاً إلا أنه الثاني

والدين هو حقيقة الخلق الاجتماعي في الأمة، وهو الذي يجعل القلوب كلها طبقة واحدة على اختلاف المظاهر الاجتماعية عالية ونازلة وما بينهما، فهو بذلك الضمير القانوني للشعب، وبه لا بغيره ثبات الأمة على فضائلها النفسية، وفيه لا في سواه معنى إنسانية القلب

ولهذا كان الدين من أقوى الوسائل التي يعول عليها في إيقاظ ضمير الأمة، وتنبيه روحها، واهتياج خيالها؛ إذ فيه أعظمُ السلطة التي لها وحدها قوة الغلبة على الماديات. فسلطان الدين هو سلطان كل فرد على ذاته وطبيعته؛ ومتى قوى هذا السلطان في شعب، كان حمياً

ص: 3

أبيّاً، لا ترغمه قوة، ولا يعنو للقهر

ولولا التدين بالشريعة، لما استقامت الطاعة للقانون في النفس؛ ولولا الطاعة النفسية للقوانين، لما انتظمت أمة؛ فليس عمل الدين إلا تحديد مكان الحي في فضائل الحياة، وتعيين تبعته في حقوقها وواجباتها، وجعل ذلك كله نظاماً مستقراً فيه لا يتغير، ودفع الإنسان بهذا النظام نحو الأكمل، ودائماً نحو الأكمل

وكل أمة ضعف الدينُ فيها، اختلت هندستها الاجتماعية، وماج بعضها في بعض؛ فإن من دقيق الحكمة في هذا الدين أنه لم يجعل الغاية الأخيرة من الحياة في هذه الأرض؛ وذلك لتنظيم الغايات الأرضية في الناس؛ فلا يأكل بعضهم بعضا، فيغتني الغني وهو آمن، ويفتقر الفقير وهو قانع، ويكون ثواب الأعلى في أن يعود على الأسفل بالمبرَّة، وثواب الأسفل في أن يصير على ترك الأعلى في منزلته؛ ثم ينصرف الجميع بفضائلهم إلى تحقيق الغاية الإلهية الواحدة، التي لا يكبر عليها الكبير، ولا يصغر عنها الصغير؛ وهي الحق، والصلاح والخير، والتعاون على البر والتقوى

ومادام عمل الدين هو تكوين الخلق الثابت الدائب في عمله، المعتز بقوته، المطمئن إلى صبره، النافر من الضعف، الأبي على الذل، الكافر بالاستعباد، المؤمن بالموت في المدافعة عن حوزته، المجْزِيّ بتساميه وبذله وعطفه وإيثاره ومفاداته، العامل في مصلحة الجماعة، المقيد في منافعه بواجباته نحو الناس - مادام عمل الدين هو تكوين هذا الخلق - فيكون الدين في حقيقته هو جعل الحس بالشريعة أقوى من الحس بالمادة؛ ولعمري ما يجد الاستقلال قوة هي أقوى له وأرد عليه من هذا المعنى إذا تقرر في نفس الأمة وانطبعت عليه

وهذه الأمة الدينية التي يكون واجبها أن تَشْرُف وتسود وتعتز، يكون واجب هذا الواجب فيها ألا تسقط ولا تخضع ولا تذل

وبتلك الأصول العظيمة التي ينشئها الدين الصحيح القوي في النفس، يتهيأ النجاح السياسي للشعب المحافظ عليه المنتصر له؛ إذ يكون من الخلال الطبيعية في زعمائه ورجاله، الثبات على النزعة السياسية، والصلابة في الحق، والإيمان بمجد العمل، وتغليب ذلك على الأحوال المادية التي تعترض ذا الرأي لتفتنه عن رأيه ومذهبه: من مال، أو جاه، أو

ص: 4

منصب، أو موافقة الهوى، أو خشية النقمة، أو خوف الوعيد، إلى غيرها من كل ما يستميل به الباطل أو يرهب به الظلم

ولا يذهبن عنك أن الرجل المؤمن، القوي الإيمان، الممتلئ ثقة ويقيناً ووفاءً وصدقاً وعزماً وإصراراً على فضيلته وثباتاً على ما يلقي في سبيلها - لا يكون رجلاً كالناس؛ بل هو رجل الاستقلال الذي واجبه جزء من طبيعته وغايته السامية لا تنفصل عنه، هو رجلُ صِدْقِ المبدأ، وصدق الكلمة، وصدق الأمل، وصدق النزعة؛ وهو الرجل الذي ينفجر في التاريخ كلما احتاجت الحياة الوطنية إلى إطلاق قنابلها للنصر

والعادات هي الماضي الذي يعيش في الحاضر، وهي وحدة تاريخية في الشعب؛ تجمعه كما يجمعه الأصل الواحد؛ ثم هي كالدين في قيامها على أساس أدبي في النفس، وفي اشتمالها على التحريم والتحليل؛ وتكاد عادات الشعب تكون ديناً ضيقاً خاصاً به، يحصره في قبيله ووطنه، ويحقق في أفراده الألفة والتشابك، ويأخذهم جميعاً بمذهب واحد: هو إجلال الماضي

وإجلال الماضي في كل شعب تاريخي، هو الوسيلة الروحية التي يستوحي بها الشعب أبطاله، وفلاسفته، وعلماءه، وأدباءه، وأهل الفن منه؛ فيوحون إليه وحي عظائمهم التي لم يغلبها الموت؛ وبهذا تكون صورهم العظيمة حية في تاريخه، وحية في آماله وأعصابه

والعادات هي وحدها التي تجعل الوطن شيئاً نفسياً حقيقياً؛ حتى ليشعر الإنسان أن لأرضه أمومة الأم التي ولدته، ولقومه أبوة الأب الذي جاء به إلى الحياة. وليس يعرف هذا إلا من اغترب عن وطنه، وخالط غير قومه، واستوحش من غير عاداته؛ فهناك هناك يثبت الوطن نفسه بعظمة وجبروت كأنه وحده هو الدنيا

وهذه الطبيعة الناشئة في النفس من أثر العادات هي التي تنبه في الوطني روح التميز عن الأجنبي، وتوحش نفسه منه كأنها حاسة الأرض تنبه أهلها وتنذرهم الخطر

ومتى صدقت الوطنية في النفس، أقرت كل شيء أجنبي في حقيقته الأجنبية؛ فكان هذا هو أول مظاهر الاستقلال، وكان أقوى الذرائع إلى المجد الوطني

وباللغة والدين والعادات، ينحصر الشعب في ذاته السامية بخصائصها ومقوماتها؛ فلا يسهل انتزاعه منها ولا انتسافه من تاريخه؛ وإذا ألجئ إلى حال من القهر، لم ينخذل ولم

ص: 5

يتضعضع، واستمر يعمل ما تعمله الشوكة الحادة: إن لم تترك لنفسها، لم تعط من نفسها إلا الوَخْز. . . . . . . . .

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 6

‌2 - النهضات القومية العامة في أوربا وفي الشرق

للدكتور عبد الرزاق السنهوري

عميد كلية الحقوق ببغداد

وإذا كانت حركة الرابطة الوطنية بقيت قوية عنيفة في أوروبا طوال القرن التاسع عشر كما قدمنا، فإن هذه الحركة قد اقترنت بها حركة رابطة الجنس، ولم تتعارض الحركتان. فإن الوطن الفرنسي والوطن الإيطالي والوطن الأسباني، وغير هذه من الأوطان اللاتينية ترعرعت واشتدت ولم تتعارض مع الجامعة اللاتينية؛ على أن اتفاق رابطة الوطن مع رابطة الجنس يظهر رائعاً أخاذاً إذا انتقلنا إلى الشعوب الجرمانية؛ فكل شعب له وطنه؛

‌2 - النهضات القومية العامة في أوربا وفي الشرق

للدكتور عبد الرزاق السنهوري

عميد كلية الحقوق ببغداد

وإذا كانت حركة الرابطة الوطنية بقيت قوية عنيفة في أوروبا طوال القرن التاسع عشر كما قدمنا، فإن هذه الحركة قد اقترنت بها حركة رابطة الجنس، ولم تتعارض الحركتان. فإن الوطن الفرنسي والوطن الإيطالي والوطن الأسباني، وغير هذه من الأوطان اللاتينية ترعرعت واشتدت ولم تتعارض مع الجامعة اللاتينية؛ على أن اتفاق رابطة الوطن مع رابطة الجنس يظهر رائعاً أخاذاً إذا انتقلنا إلى الشعوب الجرمانية؛ فكل شعب له وطنه؛ وكثيراً ما حاربت بروسيا في الماضي دولاً أخرى جرمانية؛ وكثيراً ما حاربت النمسا وانتصرت عليها، ومع كل ذلك فإن الشعوب الجرمانية لا ينسيها الإغراق في وطنيتها أنها تنتسب جميعاً إلى جنس واحد، وأن دماً واحداً يجري في عروق الجميع

على أن ائتلاف رابطة الوطن مع رابطة الجنس يختلف قوة وضعفاً. فالرابطتان أضعف ما تكونان ائتلافاً إذا كانت رابطة الوطن قوية متماسكة، تستطيع القيام على رجليها دون حاجة إلى معين؛ والمثل لذلك الوطن الفرنسي والوطن الإيطالي، والرابطتان أقوى ما تكونان ائتلافاً إذا ضعف وطن، فيستمسك بوطن آخر قوي من جنسه، كما هو الحال بين النمسا وألمانيا، وكذلك إذا كان كل وطن ضعيفاً بذاته قوياً باجتماعه مع الأوطان الأخرى من جنسه، كما هو الحال بين الأقطار العربية؛ وأخيراً إذا اندمجت جنسيات متعددة في إمبراطورية واحدة، ثم أخذت هذه الإمبراطورية المصطنعة في الانحلال، فإن حركة الجنسيات تقوى في هذه الحالة، وتتمخض عن حركات استقلالية، كما وقع هذا الأمر للإمبراطورية النمسوية وللإمبراطورية العثمانية

وقد آن لنا أن ننتقل إلى المرحلة الثالثة في النهضات القومية الأوربية، وهي المرحلة الحاضرة، وقد بدأت منذ فجر القرن العشرين، وبنوع خاص بعد الحرب الكبرى

3 -

الوقت الحاضر: رابطة الوطن والجنس ورابطة الطبقات

نشهد في الوقت الحاضر في أوروبا صراعاً عنيفاً ما بين رابطتين، وكفاحاً مستعراً ما بين

ص: 7

نظامين من نظم الحكم. أما الرابطتان فإحداهما رابطة الوطن وتعززها رابطة الجنس، والثانية رابطة الطبقات أو الحركة الاشتراكية. وأما النظامان فأحدهما هو النظام الديمقراطي، والآخر هو النظام الدكتاتوري

وما بنا أن نعني بحركة ضعيفة ولدت عرجاء بعد أن تمخضت عنها آلام الإنسانية من أهوال الحرب الكبرى، وتلك هي رابطة البشرية، تنتظم بني البشر كافة في جامعة واحدة، يسمونها اليوم بعصبة الأمم. فإن رابطة البشرية هذه لا تزال وليداً بين الحياة والموت، فلندع لها بالبقاء ولنتركها جانباً

ولنستعرض الكفاح الذي نشهده الآن في أوروبا بين رابطة الوطن ورابطة الطبقات

ليس هذا الكفاح وليد القرن العشرين، بل هو قد بدأ منذ القرن التاسع عشر، وقد تعقبنا أصوله في لمحة سريعة عندما كنا نتكلم في تقدم الصناعات الكبرى الذي قوى هاتين الرابطتين المتناقضتين. والآن نعرض لهذا الكفاح في شيء من التفصيل، فنتكلم في الاشتراكية وقد قامت على رابطة الطبقات، ثم نتكلم في الفاشية والنازية، وقد قامت الأولى على رابطة الوطن والأخرى على رابطة الجنس

أ - الاشتراكية

بدأت الاشتراكية تتأصل جذورها في أوروبا منذ القرن التاسع عشر. وقد نبتت في تلك التربة الصناعية التي سبق لنا ذكرها، إذ كثر عدد الطبقات العاملة، واستغلهم أصحاب رؤوس الأموال استغلالاً تأباه الإنسانية. فوجدت الاشتراكية جواً صالحاً تترعرع فيه وتزدهر. على أن المذهب الاشتراكي لم يكن وليد القرن التاسع عشر، فهو مذهب قديم، يمكن أن نرجع أصوله إلى أفلاطون الفيلسوف اليوناني المعروف، وقد كان يقول بالشيوعية في الملكية وفي الأسرة، ووضع كتابه (الجمهورية) يؤيد فيه هذا المذهب. وقام في أوائل القرن السادس عشر توماس مورا يقول بالشيوعية في المال دون الأسرة، في كتابه (جزيرة أتوبيا). ولكن الاشتراكية لم تأخذ شكلاً علمياً منظماً إلا بقلم زعيمها الأكبر كارل ماركس نبي الاشتراكية في أواسط القرن التاسع عشر

وللاشتراكية فلسفة علمية ولها خطط عملية. أما فلسفتها فنظرة مادية إلى وقائع التاريخ، وتفسير هذه الوقائع تفسيراً اقتصادياً محضا. وهذا ما يسمى عادة بالمادية التاريخية أو

ص: 8

بالتفسير الاقتصادي للتاريخ. أما خططها العملية فقد انقسم أنصارها بالنسبة لها إلى فريقين: فريق معتدل يقول بالعمل في الدائرة الدستورية، والوصول إلى الحكم من طريق النظم النيابية المشروعة، أي اتخاذ الديمقراطية وسيلة لتحقيق الحكومة الاشتراكية. وفريق متطرف يقول بعدم الجدوى من كل هذه الخطط، ولابد من الثورة والانتقاض على الديمقراطية الرأسمالية وهد أركان النظام النيابي، والاستيلاء على الحكم بالقوة، حتى تتحقق الحكومة الاشتراكية. وكان كارل ماركس قد أسس الدولية الأولى في سنة 1864 في لندن، حتى يجمع شتات العمال من جميع أطراف العالم. ثم لما انقسم أشياعه إلى الفريقين المتقدمي الذكر، أسس الفريق المعتدل الدولية الثانية، وأسس الفريق المتطرف الدولية الثالثة، وهي دولية موسكو المعروفة

وأقول لكم كلمة موجزة عن المادية التاريخية أو التفسير الاقتصادي للتاريخ، حتى نتفهم المذهب الاشتراكي من ناحيته الفلسفية. تتلخص هذه المادية التاريخية في فكرة جوهرية، هي أن الحاجات المادية للإنسان والعوامل الاقتصادية التي تحيط به هي التي تسيّر التاريخ وتكيّف الحوادث. وكل حوادث التاريخ ومراحله المتعاقبة لا يمكن تفسيرها إلا تفسيراً اقتصادياً؛ وليس للإنسانية إلا تاريخ واحد، هو تاريخها الاقتصادي المادي؛ أما الدين، وأما الأخلاق، وأما المثل العليا، وأما العظمة والبطولة، فكل هذا شيء مرده إلى المادة، تحكمه وتسيطر عليه. فالمذهب الاشتراكي ينظر إلى الحياة كوحدة لا تقبل التجزئة وهي وحدة المادة لحمتها وسداها

والى جانب فكرة الوحدة المادية للحياة توجد فكرة الحتمية، فالعالم مسير لا مخير؛ وكل ما يقع في العالم من حوادث هو من عمل الإنسان، ولكنه عمل دفعته إليه الظروف دفعاً، فلا اختيار له فيه ولا إرادة. ويقول لنا انجلز شريك ماركس في تأسيس المذهب الاشتراكي الحديث: لا تظنوا أن الحركات الفكرية الكبرى التي تظهر من وقت لآخر هي وليدة أفكارنا، بل هي وليدة الظروف الاقتصادية الملابسة، كان لابد من وجودها فوجدت، وسخر لها أناس يقولون بها. ولو أن مارتن لوثر مؤسس البروتستانتية لم يوجد لوجد لوثر آخر يدعو إلى ما دعا إليه لوثر الأول. وماركس نفسه، إذا كان قد قال بالمادية التاريخية فذلك لأنها فكرة ولدتها ظروف البيئة الاقتصادية، وكان حتما أن يقول بها رجل أراد القدر أن

ص: 9

يكون ماركس. وأبطال التاريخ يولدون كما تولد الحركات الفكرية الكبرى، تنشئهم الظروف الاقتصادية؛ فنابليون وكروموبل وقيصر وغيرهم من عظماء التاريخ جاءوا في الساعة التي كانوا لابد أن يجيئوا فيها، ولو لم يجيئوا هم بالذات لجاء غيرهم، فيتغير الاسم ويبقى الرجل. وكل عصر له أبطاله، إذا لم يجدهم عفواً فانه يخلقهم خلقاً. وإذا لم توجد البطولة الحق في الرجل الزعيم، فإن حاجات الوقت المادية والمصالح الاقتصادية تنفخ فيه روح بطولة مصطنعة وتجعل منه رجل الساعة. هذا هو رأي انجلز في البطولة والأبطال

فالعظمة ليست إذن إلا صنع الجيل وبنت البيئة. أما العوامل الحقيقة التي تصنع التاريخ صنعاً، فليست هي بطولة العظماء، إنما هي القوات الاقتصادية، تبدأ في تغيير الفكر البشري، ثم تدفعه إلى الأمام. وهكذا يرتبط بالعمل، ويسوق ذاك إلى هذا. ومصدر كل من الفكر والعمل إنما هو العامل الاقتصادي، مثل ذلك تقدم الصناعات الكبرى وتكدس رؤوس الأموال. هذا هو العامل الاقتصادي الذي يحكم العالم في العصر الحاضر. وقد أوجد هذا العامل طبقة أصحاب رؤوس الأموال، أو البورجوازية، قوية مسيطرة على أقدار العالم. ولكن هذا العامل الاقتصادي نفسه أوجد أيضاً طبقة العمال تستغلهم البورجوازية وتسلبهم ثمرة جهودهم. هذا الوضع الاقتصادي هو الذي أوجد حركة فكرية عند طبقة العمال، وقد شعروا بالظلم يحيق بهم. وهذه الحركة الفكرية هي التي تدفعهم إلى العمل. فالعامل الاقتصادي هو الذي أوجد البورجوازية، والبورجوازية هي التي أوجدت العمال، والعمال هم الذين سيهدمون البورجوازية. وقد كتب كارل ماركس في منشوره المشهور إلى الحزب الاشتراكي سنة 1848:(إن البورجوازية لم يقتصروا على صنع الأسلحة التي ستقتلهم، بل هم هيئوا أيضاً الرجال الذين سيضربون بهذه الأسلحة)

فقيام البورجوازية وسيطرتهم على العالم الاقتصادي، وسقوطهم بعد ذلك على يد العمال، كل هذه حوادث تدفع إليها الإنسانية دفعاً من طريق العوامل الاقتصادية؛ فالرجال إذن مسخرون، علموا أو لم يعلموا، لخدمة حاجات اقتصادية اقتضتها البيئة التي يعيشون فيها، وهم يظنون أنهم يعملون لأغراض مادية. فلوثر مثلاً كان يعتقد أنه يعمل لمجد المسيح، والواقع من الأمر أن ثورته لم تكن إلا سداً لحاجة البورجوازية الألمانية التي كانت تستغلها الكنيسة الرومانية. وليس الرجال في نشاطهم بوجه عام إلا ممثلين لطبقات اقتصادية،

ص: 10

يجيبون نداءها، ويسدون حاجتها. اسمعوا ما يقوله كارل ماركس في كتابه (بؤس الفلسفة) رداً على ما كتبه برودون في كتابه (فلسفة البؤس):(إن الروابط الاجتماعية متصلة اتصالاً وثيقاً بقوات الإنتاج، فالناس إذا حصلوا على قوات منتجة جديدة يغيرون طرق الإنتاج، وإذا غيروا طرق الإنتاج وغيروا كذلك نظام كسبهم للعيش فقد غيروا في جميع روابطهم الاجتماعية. هذه هي طاحونة الهواء تنبت وسطاً إقطاعياً يسوده النبلاء. أما الطاحونة التي تدور بالبخار، فتنبت وسطاً صناعياً يسوده أصحاب رؤوس الأموال. ونفس الرجال الذين يقيمون روابطهم الاجتماعية على مقتضى الطرق المادية للإنتاج هم الذين يصوغون أيضاً المبادئ والأفكار والحدود وفقاً لروابطهم الاجتماعية)

فالعوامل الاقتصادية التي تصنع التاريخ في رأي ماركس وانجلز هي وسائل الإنتاج، يضاف إليها وسائل النقل وتداول الثروة والبيئة الجغرافية التي تقوم فيها العوامل الاقتصادية

وكل هذه العوامل الاقتصادية تدور حول نقطة واحدة، هي الكفاح ما بين الطبقات. فالكفاح ما بين الطبقات يسود جميع النظم الاجتماعية: يسود النظام السياسي، وما تاريخ الحكومة إلا تاريخ نضال مستمر ما بين طبقة وأخرى تتداول السيادة والسلطان؛ يسود النظام القانوني، وما القانون إلا صورة منعكسة من وسائل الإنتاج الاقتصادي، وهو لم يوجد إلا لحماية المصالح الاقتصادية، أي حماية مصالح الطبقة السائدة؛ يسود الدين والفلسفة والأدب والأخلاق، وإذا لم يكن الأصل في هذا كله عاملاً اقتصادياً فإن هذه العوامل الأدبية تتطور بعد نشوئها وفقاً للحاجات الاقتصادية ولمصالح المتغلب من الطبقات

ثم ينتقل ماركس وانجلز من بسط النظرية إلى تطبيقها على الحوادث التاريخية. فعندهما أن النظام الإقطاعي هو الذي خلق العصور الوسطى تسود فيها طبقة النبلاء، وأن نظام الصناعة الكبرى هو الذي خلق العصور الحديثة تسود فيها طبقة البورجوازية، وأن الكارثة لابد واقعة: والكارثة لفظ له مدلوله في إنجيل الاشتراكية، فالاشتراكيون يتربصون الدوائر بالبورجوازية، ويترقبون الوقت الذي سيحين لانتقال محتم إلى عصر جديد تحل فيه الكارثة بالبورجوازية على يد العمال

فماركس يستغل إذن نظريته في المادية التاريخية ليخدم بها مذهبه الاشتراكي، فينادي

ص: 11

بالكفاح ما بين الطبقات، ويحاول أن يوحد العمال في جميع أنحاء العالم، ويشعلها حربا زبونا بين نبي الإنسانية جمعاء، حرباً تقوم لا بين وطن ووطن، ولا بين جنس وجنس، بل بين طبقة وطبقة: بين البورجوازية والعمال، فتسقط البورجوازية ويسود العمال

ونحن لا نعرض بنقد أو بتحبيذ للمذهب الاشتراكي ونقتصر على أن نستخلص مما قدمناه أن هناك نزعة في أوروبا وجدت منذ القرن التاسع عشر وقالت برابطة الطبقات، وعارضت الروابط المبنية على الوطن والجنس، واعتبرت العمال في جميع الأوطان ومن جميع الأجناس إخواناً متآلفين. وهم جميعاً خصوم للبورجوازية في جميع الأوطان ومن جميع الأجناس. وقد أخذت هذه النزعة تشتد شيئاً فشيئاً طوال القرن التاسع عشر، ثم دخلت في دور عملي حاسم أثناء الحرب الكبرى، حيث قامت البلشفية في الروسيا، وأصبحت الاشتراكية مذهباً عملياً لنظام قائم من الحكم، أقامه لينين على أنقاض القيصرية، بعد أن اقتلعها واجتذها من أصولها. وأوجد انقلاب سنة 1917 النظام السوفيتي في الروسيا في ظروف معروفة، ولا يزال هذا النظام قائماً في الروسيا حتى الآن

ويذكرنا القرن العشرون، بالنسبة لقيام الاشتراكية وانتشارها في العالم برغم مقاومة الحكومات لها بالقرن التاسع عشر، بالنسبة لقيام الحركات الوطنية وانتشارها في أوروبا برغم مقاومة الحكومات الرجعية لها. والشبه غريب بين الحرب الكبرى وحروب نابليون، وبين مؤتمر فرسايل المحافظ ومؤتمر فينا الرجعي

على أننا نريد أن نبسط الحقائق كاملة، فليس من الدقة في شيء أن نقول إن الاشتراكية بقيت وحدها في الميدان، بل يجب أن نفتح أعيننا على ما يجري الآن أمامنا من صراع عنيف بين الاشتراكية والوطنية. فإن الحركات القائمة على رابطة الوطن ورابطة الجنس لم تخمد جذوتها في أوروبا، بل هي قد زادت اشتعالاً. وكأن حرب الطبقات التي شهرتها البلشفية في وجه العالم، تلك الحروب الشعواء التي أذكى نارها العمال صاروا لها وقوداً، وهم يريدون من ورائها أن يبسطوا سلطانهم، وأن يحكموا بالسيف والنار، تلك الحرب العنيفة القاسية قد استفزت دعاة الوطنية في أوروبا وألبتهم فوقفوا صفوفاً متراصة أمام هذا العدو المشترك. ووقعت الواقعة، ونشب عراك دموي بين دعاة الاشتراكية ودعاة الوطنية، وانضوى دعاة الوطنية في أقوى مظهر من جهادهم تحت لواء حركتين مشهورتين: هما

ص: 12

الفاشية الإيطالية تحت قيادة موسوليني، والنازية الألمانية تحت قيادة هتلر. ووقف كل من هاتين الحركتين سداً منيعاً أمام تيار البلشفية الجارف، ووقف كل منهما يريد أن يبسط سلطانه. ونرجئ الكلام فيهما إلى المحاضرة القادمة

عبد الرزاق السنهوري

ص: 13

‌صور من القرن الثامن عشر

2 -

جاكومو كازانوفا

جوَّاب مجتمع ومغامر مرح

للأستاذ محمد عبد الله عنان

قضى كازانوفا صباه وفتوته الأولى محروماً من عطف والديه، يجوز حياة مضطربة، ويتقلب بين شظف العيش ورفاهته، ويلقي بنفسه المضطرمة إلى غمار من اللهو والإدمان والخلاعة، ويلتمس متاع الحياة بأي الوسائل. وكان يرى لهواً ولعباً، ولكن الحياة الناعمة تتطلب الرزق الوفير، ولابد أن يجد كازانوفا لنفسه وسائل الارتزاق. وكانت المقامرة يومئذ رذيلة المجتمع الرفيع، ولكنها كانت أيضاً ملاذ المغامرين من كل ضرب، يلتمسون بها الرزق والثراء؛ وكازانوفا مقامر بارع، فلم لا ينزل إلى هذا الميدان؟ وبسم له الحظ في المقامرة، وانتظم في سلك المقامرين المحترفين الذين يستحلون كل الوسائل للكسب أو للسرقة المستترة؛ ورأى فوق ذلك أن يتشح بثوب الخفاء، وأن يحترف الشعوذة وكشف الأسرار؛ وكانت الأذهان يومئذ تشغف بالخفي والمجهول، وكان كازانوفا يجيد هذا الضرب من الشعوذة، وقد رأيناه يتخذه سبيلا لتمكين نفوذه لدى صديقه وحاميه الجديد السيد براجادين

وهكذا نزل كازانوفا إلى ميدان المغامرة مسلحاً بأسلحة العصر، يلتمس الرزق من طريق المقامرة، ويلتمس النفوذ من طريق الشعوذة، ومن ورائه عصبة من الأصدقاء الأقوياء الذين يخلبهم بروائه وظرفه وشعوذته؛ وكانت هذه الحياة في نظر المغامر هي المثلى، وكان يرى المجتمع من حوله موبوءاً يموج رذيلة وفساداً، ويرى الشرف والكرامة والنزاهة وكل ما إليها كلمات جوفاء لا يتحلى بها أرفع من يسودون المجتمع من أمراء وأحبار وسادة، فكيف يطلب إليه هو أن يخضع حياته لمثل هذه الأباطيل؟

وكان كازانوفا ينزل يومئذ عن السيد براجادين كما رأينا، ويعيش منعما مرفهاً، يقضي أيامه في لهو ولعب ونزه وغزل لا ينقطع، يجوب شوارع البندقية المائية في قاربه الوثير، ويتسقط مواعيد الحب كل مساء. وكانت المرأة عنده غاية الغايات، وكان الحب فنه ومهنته

ص: 14

التي كأنه فطر عليها بطبيعته وخلاله وعواطفه، وكان مسلحاً لهذه الغاية بأخص الصفات التي تذلل له غزو القلوب، فقد كان بديع القد والتكوين، وسيم الطلعة، ذا سمرة جذابة؛ وكانت عيناه الواسعتان تشعان سحرا وذكاء وشهوة؛ وكان ذا شخصية جذابة، حلو الحديث والشمائل، جواداً، جم الأدب والظرف، يضطرم حباً وجوى؛ وكانت له فراسة خاصة في تفهم عقلية المرأة وميولها؛ وكان ظفره المتوالي في الحب يذكي عزائمه ورغباته، ويدفعه دائماً إلى البحث عن غزوات جديدة؛ وكان يشعر شيئاً فشيئاً أن البندقية لم يبق فيها ما يمكن أن يغزوا وأن يستمرئ، وأن إيطاليا كلها قد غدت تضيق بجولاته ومغامراته؛ وكانت فرنسا تجذبه يومئذ بشهرتها وروعة الحياة الساطعة التي يحياها المجتمع الرفيع فيها؛ وسرعان ما سنحت له الفرصة لتحقيق أمنيته، فسافر إلى باريس ليخوض غمار هذه الحياة الساطعة، وكان يومئذ في نحو السادسة والعشرين

وكان المجتمع الفرنسي، ينحدر يومئذ، في عهد لويس الخامس عشر، إلى نوع من الخمول الباهر، ويستمرئ حياة عاطلة من المثل المعنوية الرفيعة، فياضة بالرغبات والشهوات الوضيعة؛ وكانت دولة الغانيات، من أمثال دوباري وبومبادور هي صاحبة الحول والسلطان يومئذ؛ وكان يلتف حول هذا الملك الخليع بلاط وضيع الخلال، يضرب بتهتكه وانحلاله للمجتمع الرفيع أسوأ المثل؛ وكانت حياة هذا المجتمع - مجتمع النبلاء والسادة - كلها لهو ولعب وحب وغزل وفساد ورياء؛ فإلى هذا المجتمع الباهر الخامل معاً هبط كازانوفا يبحث عن طالعه في عالم الحب؛ وهنالك تعرف منذ مقدمه بمواطنه الممثل الشهير ماريو باليتي وزوجته سلفيا، وكانا يومئذ من أعلام مسرح (الكوميديا الإيطالية)؛ فعلمه شيئاً من اللغة الفرنسية، وعرفه بكثير من الشخصيات البارزة من رجال ونساء؛ واندفع كازانوفا إلى هذا العالم الجديد يتذوق مسراته، ويتابع غزواته النسائية بين الممثلات والراقصات وسيدات المجتمع الرفيع؛ وهو يذكر لنا في مذكراته التي نشير إليها فيما بعد، طائفة من أسماء هؤلاء اللائى ظفر بهن في تلك الفترة مثل ميمي ابنة السيدة التي نزل عندها، والآنسة فزيان وهي فتاة أجنبية زائرة، ولويزون مورفي الشهيرة التي أدخلت (حريم) لويس الخامس عشر فيما بعد، والآنسة سنت هيلير، وسيلفيا زوجة صديقه، وغيرهن؛ واستطاع كازانوفا في نفس الوقت أن يتذوق طرفاً من الحياة الأدبية، وأن يتصل ببعض

ص: 15

كبار الأدباء والكتاب مثل فونتينل ودلامبير والأب فوازنون ومدام دي بوكاج، وأن ينظم بعض القصائد، وأن يترجم بعض القطع والرسائل

وعاد كازانوفا إلى البندقية (سنة 1753) وقد فاضت نفسه غبطة وزهوا بما تذوق من صنوف اللهو الرفيع، وما حقق لنفسه من ظفر في ميدان الحب، وبدت له البندقية عندئذ ضيقة متواضعة، بالنسبة لما رأى وشهد في باريس؛ وذكت أطماعه وأمانيه، وزاد غروراً وترفعاً واستهتاراً، وأخذ ينظر إلى هذا المجتمع البندقي من عل، ويتصل بالكبراء والسفراء ولاسيما سفير فرنسا الأب دي برني؛ ولم يكن كازانوفا متحفظاً في أقواله أو أعماله. فكان يطلق العنان لآرائه المتطرفة، ويزاول الشعوذة علناً، وكان يثير على نفسه السخط في كل ناحية، وكانت علائقه الغرامية موضع الحديث ومثار النقمة؛ وكان ثمة جماعة من النبلاء والكبراء الذين يضايقهم بلسانه ومنافساته الغرامية يتربصون الفرص لسحقه؛ وكان من هؤلاء كبير من كبراء الدولة هو (الشيخ) كوندلمر النائب العام؛ وكان لهذا الشيخ القوي صاحبة تدعى مدام زورزي سطا عليها كازانوفا وانتزعها منه، فاعتزم التنكيل به، وأطلق في أثره جواسيس الشرطة يقدمون عنه التقارير القاذفة، وفيها أنه يتصل بالسفراء الأجانب بعلائق مريبة، ويخدع البسطاء بمزاعمه السحرية، ويعيش على نفقة الغير، ويغوي البنات والنساء المتزوجات، ويسخر من الدين، وينتمي إلى البناء الحر (الماسونية)، وغير ذلك من التهم الخطيرة التي تكفي لإدانته وإهلاكه

وعلى أثر ذلك قررت محكمة التحقيق (التفتيش) اعتقال المتهم، وفي فجر 26 يوليه سنة 1755 ذهب مدير الشرطة مع ثلة من رجاله إلى منزل كازانوفا واعتقله، وأخذه مصفدا إلى قصر الدوجات؛ وهنالك ألقي به إلى السجن المواجه في غرفة لا هواء فيها ولا نور تعمرها الجرذان والحشرات المختلفة، وتكاد لانخفاضها تقصر عن إيواء قامته المديدة؛ وفي الحادي والعشرين من أغسطس قضت محكمة التفتيش بإدانته في التهم التي نسبت إليه ولاسيما الطعن في الدين، وقضت بسجنه خمسة أعوام في سجن (الرصاص) الشهير (بيومبي) وهو الذي اعتقل فيه. وقضى كازانوفا أيامه الأولى في السجن في ذهول ويأس يكاد يمزقه الغيظ والكمد، وكان منقطع الصلة بالعالم الخارجي، لا يعرف شيئاً عن سبب اعتقاله أو مداه؛ وكان يؤمل بادئ ذي بدء أن يسترد حريته بسرعة بمؤازرة بعض أصدقائه

ص: 16

الأقوياء، ولكن الشهور تعاقبت عليه دون أن ينفذ إلى وكره المظلم شعاع من الأمل، وأعقب الصيف الخريف ثم تعاقبت الفصول، عندئذ ترك اليأس جانباً، واستعاد عزمه وقوة نفسه، وعول على الفرار؛ وما زال يعمل في خفاء وصمت، ويغالب الصعاب والرقابة الصارمة حتى نضج مشروعه. وفي ليل اليوم الأول من نوفمبر، فر كازانوفا مع شريكه وجاره في السجن الأب بالبي، وذلك بأن خرقا عرش الغرفة الرصاصي، واستطاعا بعد مجهود عنيف مروع أن ينحدرا من جدران القصر إلى ميدان القديس مرقص، واستقلا زورقا حملهما في جوف الظلام بعيدا عن مواطن الخطر؛ ولم يأمن كازانوفا على نفسه حتى جاز حدود البندقية إلى ارض بورجو دي فالزجانو المجاورة، وبذلك أمن شر مطارديه واستطاع أن يتنفس نسيم الحرية مرة أخرى

وتركت تلك المحنة في نفس كازانوفا اعمق الأثر، وكان قد جاوز الثلاثين يومئذ، واستحالت لديه نزعات الحداثة إلى نوع من التفكير المتزن، وأخذت الأطماع والأماني تغلب على نفسه، وتخضع لديه نزواته المضطرمة؛ وكان همه دائماً أن يغزو المجتمع الرفيع، ولكن غزو المجتمع الرفيع يقتضي مالا ومغامرة؛ وكان المجتمع الباريزي الذي عرفه حيناً وتذوق فيه لذة الظفر والأمل يجذبه دائماً ويلوح له بأعظم الأماني؛ ولهذا نراه في باريس في يناير سنة 1757 يبحث عن طالعه كرة أخرى؛ وكان صديقه وحاميه القديم السيد براجادين يمده بمرتب حسن، وكان صديقه الأب دي برني سفير فرنسا السابق في البندقية قد عاد إلى فرنسا، وتولى وزارة الخارجية، فتقدم إليه يطلب عونه، فأوصى به بعض كبراء الدولة؛ وكانت المشكلة المالية أهم ما يشغل فرنسا يومئذ وفي سبيل حلها تقدم أغرب المشاريع والاقتراحات. وكان من بين المشاريع التي وضعت لإيجاد بعض المال أن تصدر الدولة (أوراق يانصيب) يغطي إيرادها نفقات المدرسة الحربية التي أنشئت يومئذ لتخريج ضباط للجيش الفرنسي؛ وكان يضطلع بالمشروع أخوان إيطاليان يدعوان كالسابيجي، فاتصل كازانوفا بذوي النفوذ والمشرفين على العمل، وكان يتمتع في ذلك الميدان ببعض الخبرة ويقدم عن المشروع آراءه وملاحظاته، فرؤى أن يعين مديرا للمشروع بمرتب ضخم وعمولة حسنة، وصدر بالمشروع قرار وزاري في أكتوبر سنة 1757

ص: 17

وهكذا تبوأ كازانوفا منصباً خطيراً مربحا يحقق له تلك الحياة الناعمة المستقلة التي طالما طمح إليها، واتخذ له مسكنا فخماً في ضاحية سان دني يموج بالنعم والحشم. وأقبل الناس على شراء أوراق اليانصيب الحكومية إقبالا حسنا؛ ووقع السحب الأول في إبريل من العام التالي وأسفر عن نتائج مرضية؛ ثم وقع مراراً خلال العامين التاليين، وظفرت المدرسة الحربية بكل النفقات اللازمة؛ وحقق كازانوفا لنفسه ربحاً وفيراً يقال إنه بلغ مائة ألف في العام، هذا عدا ما كان يربحه من أعمال التنجيم والشعوذة التي لم ينقطع عن مزاولتها؛ وعهد إليه أثناء ذلك ببعض المهام الرسمية السرية فأداها بنجاح؛ وعهد إليه أيضاً بمهمة مالية في هولندة فأسفرت عن نتائج مرضية؛ وهكذا ذاع اسمه وتوطد مركزه، وزاد ثراؤه، وشعر لأول مرة في حياته بأنه غدا الرجل الذي طمح أن يغدو، ينثر الذهب من حوله بلا حساب، ويحقق لنفسه أعز الرغبات والأهواء والأماني

واتخذ كازانوفا لنفسه خارج باريس مسكناً آخر غير مسكنه الباريسي أنيقاً وثيراً به حاشية باهرة، وخيل مطهمة، وهنالك كان يقظي معظم أوقاته في متاع ومرح، يطلق لنفسه عنان الهوى والحب، ويستمرئ غزواته النسائية بلا انقطاع؛ وكان كازانوفا يعشق الحياة الفخمة، ويتعلق بمظاهر العظمة والأناقة، ولكنه لبث دائماً ذلك المحب النهم الذي تغلب لديه الغرائز الوضيعة، والذي يسعى إلى إرضاء شهواته المضطرمة بأي الوسائل، وفي أي الظروف والمناسبات

وانفق كازانوفا في باريس بضعة أعوام في عيش طروب خفض يغزو جميع القلوب، وينعم بوصل السيدات والغانيات من كل ضرب ويزاول التنجيم والشعوذة؛ وكان يتسمى عندئذ بالشفاليه دي سنجال، أو الشفالييه سنجال دي فاروزي، ويبهر الناس بروعة مظاهره وأساليبه، ويتقرب من الأكابر، وينعم بالجاه والنفوذ والثراء. بيد أن هذه الحياة الباهرة كانت تنضح دائماً عن جوانب وثغرات مريبة؛ ذلك أن كازانوفا لم يكن متحوطاً في مغامراته وعبثه؛ ولم يكن يحجم عن أي الوسائل لاستلاب المال أو القلوب؛ ومن ذلك أنه اشترك في حادث تزوير أوراق مالية، وأغرى عدد من أكابر السيدات، ومنهن المركيزة دورفي التي خدعها واستحوذ على قلبها ومالها بشعوذته؛ وسطا على كثير من الأزواج والآباء، فاستلب منهم زوجاتهم أو بناتهم، واتصل بجماعة خطرة من الأفاقين ولصوص

ص: 18

المجتمع الرفيع يدبر معها الخطط والمشاريع المريبة؛ وذاعت هذه الوقائع والفضائح المزرية، وكادت تدفع بالمغامر الجريء إلى غمار لا تحمد عواقبها، ولكنه آثر الهجرة مرة أخرى، ويمم عندئذ شطر هولندة مزوداً ببقية من المال والجاه وتوصيات بعض الأكابر

ونزل كازانوفا في لاهاي سنة 1759؛ واستأنف هنالك حياة البذخ والطرب، يعيد سيرته التي جازها في كل المواطن، عاشقاً مضطرماً تحمله شهواته حيثما يحمله ظفره، وتسقطه فرائسه بين أذرعه تباعا، ويبتز المال من هنا وهنالك بكل الوسائل والحيل، ويستمرئ حياة الخديعة والشعوذة والغواية إلى الذروة، ويثير حوله بعد حين نفس الشكوك والريب التي يثيرها أينما حل؛ وإذ يشعر بأن وسائله وحيله ومظاهره كلها قد نفقت، وأن الجو يتجهم من حوله، يعتزم الرحيل والنقلة. وهكذا غادر كازانوفا لاهاي كما غادر باريس من قبل مثقلاً بالريب والفضائح، وهبط إلى لندن في خريف سنة 1763 تحدوه آمال وأماني أخرى

(للبحث بقية)

(النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان

ص: 19

‌الخصيان

أصل العادة وتاريخها وانتشارها

للدكتور مأمون عبد السلام

هوت الغيرة الجنسية بالإنسان إلى دركة ما دون الوحوش، فوسوس إليه الشيطان أن ينتزع الرجولة من الأبرياء ليتخذهم خداماً يأتمنهم على عرض نسائه وحفظة لطهارتهن. هذا هو الأصل في اتخاذ الخصيان. وهي عادة لجأ إليها الصينيون والهنود والبابليون والفرس من عصور خالية، فقد أخبرنا هيرودوت بما كان للخصيان من السطوة في دولة الفرس في عهده

وقد عرفهم العرب من قديم فقالوا: (خصي بصي ومخصي، وتقول العامة طواشي، وهي كلمة مولدة ليست من كلام العرب. فقد كان من عادة العرب الجاهلية أن يخصوا أسراهم كما كان يفعل قدماء المصريين؛ وتجد ذلك مصوراً على جدران مدينة حابو، وكما يفعل الأحباش الآن. وهذه العادة قديمة في مصر، فقد عثروا في هرم أوناس على مخطوط عرف منه أن حوريس سل خصيتي سيت. وقد اتخذ الفراعنة الخصيان في قصورهم فبلغوا من النفوذ والسطوة ما حدا بهم إلى قتل أمانيميس وهو الفرعون الثاني من العائلة الثانية عشرة

ونظراً للاعتقاد السائد بأمانة الخصيان فقد أطلق اسم الخصي على أمناء فرعون وملوك بني إسرائيل، فقد جاء في سفر التكوين (1: 39): (وأما يوسف فأنزل إلى مصر واشتراه فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط) وكلنا يعلم أن فوطيفار وهو العزيز كان متزوجاً وقد راودت زوجه يوسف عليه السلام عن نفسه فأبى واستعصم

وقد اتخذ بنو إسرائيل الخصيان كما ذكر في الكتاب المقدس (الملوك الثاني 32: 9 - 33 و15: 24 وأخبار الأيام الأول 1: 28 وإستير 1: 6 - 2) وقد حرمت التوراة اتخاذ الخصيان وخصاء الحيوان، فقد جاء في سفر التثنية (1: 23): لا يدخل مخصي بالرض أو محجبوب في جماعة الرب. وجاء في سفر اللاوبين: ومرضوض الخصية ومسحوقها ومنزوعها ومقطوعها لا تقربوا للرب

وقد أخذ الإغريق هذه العادة عن الشعوب الأسيوية التي غزاها الاسكندر المقدوني فانتشرت بينهم بعد موته؛ واسم الخصي عندهم يونوقوس (ومنها الكلمة الإفرنجية بونوق

ص: 20

(واشتقاقها من يونو بمعنى الفراش وايقيون بمعنى الحارس أي حارس فراش الزوجية

وقد أدخل هذه العادة هليو جابال إلى رومه في عهد الإمبراطورية أي في نهاية القرن الثالث وتفشت بعد ذلك في الدولة البيزنطية

وقد حتمت بعض العبادات الخصاء على اتباعها ليتفرغوا للتعبد كما كان يفعل كهنة الهياكل الوثنية السورية القديمة

وقد جاء ذكر الخصيان في إنجيل متي (12: 19): (لأنه يوجد خصيان ولودوا هكذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات. من استطاع أن يقبل فليقبل) وقد اعتمد بعض المسيحيين المتقدمين على هذه الآية وخصوا أنفسهم ليتحرروا من الوقوع في الخطيئة. وأول من فعل ذلك أوريجانوس الإسكندري المولود سنة 185 أو سنة 186 ميلادية، وقد أحسن أبوه تهذيبه فتلقى العلم على أكابر علماء المسيحية أمثال بانطينوس وكليمان في المدارس الكاتدرائية وهي مدارس دينية كانوا يتلقون فيها الفقه المسيحي والعلوم الإغريقية (على نحو الجامعة الأزهرية في الإسلام)؛ وقد خصى نفسه زهداً منه في الحياة الدنيا ورغبة في تلقين النساء العلم. وقد قضى ثمانية وعشرين عاماً بالإسكندرية رحل خلالها إلى رومه وإنطاكية وبلاد العرب خدمة للدين والعلم

وقد اقتدى الكثير من المسيحيين بأوريجانوس فظهرت في القرن الثالث المسيحي فرقة الفليسيين نسبة إلى فيلسيوس العربي رئيسهم الذي قال إن الخلاص لا يتم إلا بالخصاء؛ فكانوا يخصون أنفسهم ومن يقع في أيديهم تقرباً إلى الله تعالى. وقد ثبت المجمع النيقادي الذي عقده الإمبراطور قسطنطين الخصاء في قوانينه فاستمرت العادة بين بعض الطوائف المسيحية حتى حرمها البابا ليو الثالث عشر

ورغماً عن ذلك فقد استمر بعض الروسيين إلى أول الثورة الشيوعية على اتباعها، فقد كان منهم فرقة من الخصيان المتعبدين اسمها سكوبسي أي الخصيان

وكان من عادة الطليان أن يخصوا الأولاد قبل البلوغ ليحافظوا على نعومة أصواتهم وحدتها للغناء في الكنائس والمسارح إذ كانوا يمنعون النساء من مزاولة ذلك. فحرم هذه العادة البابا اكليمنس الرابع عشر ولكنه لم يتمكن من إبطالها حتى في رومه عقر داره

ص: 21

ويحرم الدين الإسلامي الخصاء في الإنسان والحيوان، وورد في ذلك أحاديث؛ وقد اعتبر أبو العباس رضي الله عنه الخصاء عملية شيطانية يحرمها المولى

وقد دفعت أبهة الملك معاوية بن أبي سفيان فجارى ملوك الروم في اتخاذ الخصيان فكان أول من أتخذهم في الإسلام كما ذكر المسعودي. ومن ثم تفشت هذه العادة في الدول الإسلامية وخاصة عند بني عثمان وعنهم أخذنا كلمة (أغا) للخصي، وأصل الكلمة أقا بالفارسية بمعنى السيد؛ ويعني بها العثمانيون الأخ الأكبر وصف الضابط ورئيس فرقة الانكشارية، ثم أطلقت على الخصي، وقد انتشر هذا الاسم في ممتلكات آل عثمان كالشام ومصر والجزائر وغيرها

وكان جميع خصيان مصر وشمال إفريقيا وبلاد العرب والشام وتركيا من السود والحبشان، وأصلهم من الرقيق يخصونهم في بلدة باجرمي بالسودان

وقد تكلم عن الرقيق بمصر بورخهاردت وهو رحالة سويسري كان في خدمة الإنجليز جاء إلى مصر وقام في 22 فبراير سنة 1813 من أسوان إلى بلاد النوبة، وكان يحكمها إذ ذاك أولاد حسن كاشف الثلاثة، فذكر أن بورغو غرب دارفور كانت مكان خصاء الرقيق ومنها كان يحملون إلى سواكن ومكة والمدينة ومصر، ولكن السواد الأعظم من الخصيان يرسلون إلى أوروبا وتركيا كانوا من الرقيق الذي كان يحمل إلى أسيوط، وكانوا يخصون في قرية تسمى زاوية الدير قرب أسيوط، وكان يقوم بهذه العملية راهبان من أهلها حازا شهرة كبيرة في ذلك. وكانا محط ازدراء المصريين جميعاً؛ ولكنهما كانا يقومان بهذه العملية تحت حماية الحكومة مقابل ضريبة سنوية يدفعونها

ونسبة الوفيات من الخصاء منخفضة بعكس ما قد يعتقد، فقد مات من جرائها اثنان من ستين ولدا خصوا في خريف سنة 1813، ولا تزيد النسبة في العادة على اثنين في المائة. وكانت عادتهم أن يقوموا بهذه العملية حال وصول القافلة من دارفور أو سنار ويختار لها الأولاد من سن الثامنة إلى الثانية عشرة الذين يمتازون بقوتهم وتناسق أعضائهم وذكائهم

وكانت أجرة العملية ستين قرشا. وقد بلغ متوسط ما كان يخصي بأسيوط مائة وخمسين خصياً في السنة، وكان ثمن الخصي بأسيوط في هذا العهد ألف قرش

ويقول بورخهاردت إنه في سنة 1811 أمر محمد علي باشا أن يخصي مائتا عبد دارفوري

ص: 22

ليرسلهم هدية سنية إلى السلطان الأعظم بالأستانة. وقد روي أن الخصيان البيض قليلون بتركيا، وأنه رأى بالحجاز عدداً من الخصيان الهنود في خصوا في بلاد الهند وأرسلوا هدية إلى الحجاز

وقد رجع بعض العرب إبان الحرب الوهابية الأولى إلى عادتهم في الجاهلية وهي خصاء الأسرى، وذلك أن الشريف غالب أمير مكة أسر أربعين رجلا من قبيلة يمنية وهي قبيلة تدين بالمذهب الوهابي، وكان في حرب معهم فأمر بأن يخصوا ثم يفك أسرهم فماتوا من جراء ذلك سوى اثنين رجعا إلى قبيلتهما بعد أن التأمت جراحهما؛ وقد امتلأ قلباهما بالحقد والضغينة فقتل أحدهما ابن عم الشريف غالب في إحدى المعارك، وأما الآخر فقتل وهو يحاول اقتحام خيل الشريف ليقتله بنفسه

وينجم عن الخصاء أن يبطل فعل الغدد الجنسية وخاصة إفرازاتها الداخلية التي لها تأثير كبير في التوازن الفسيولوجي والجنسي؛ ويكون التأثير على أشده في الصغار ويقل كلما كبر سن من يراد خصاؤه، فينمو الصبي المخصي كالأنثى فلا ينبت شعر وجهه، ويكون صوته رفيعاً وعظامه كعظام النساء وعضلاته لينة ويتضخم عجزه، ويصبح أكثر ميلاً إلى الدس والإيقاع. ويكون التأثير في البالغ أقل ظهوراً فيضعف شعر الذقن أو قد يختفي، ويتغير الصوت. ويتعرض الرجل بعد الخصي لاضطرابات عصبية شديدة ولأفكار سوداوية تنشأ عن جمود العاطفة الجنسية، أما إن خصي الرجل وهو كهل فالتغير لا يكون ملموساً

وقد يتسرب إلى الذهن أن الخصاء يضعف من حدة العقل والشجاعة وهذا خطأ محض، ففي التاريخ أدلة تثبت ما كان للخصيان من القوة والبأس والتبحر في العلوم وعلو الباع في سياسة الأمم وقيادة الجيوش. فمن الخصيان الذين خلد التاريخ أسماءهم باغوص الفارسي الملقب بصانع الملوك، وفافورينوس الفيلسوف صديق بلوطارخ، وأرسطو نيقوس القائد البطليموسي، وفوطين وزير بطليموس، وأيوتروب وزير اركاديوس

وكان للخصيان شأن عظيم في عهود كثيرة من التاريخ الإسلامي وخاصة بمصر فكان أظهرهم الأستاذ أبو المسك كافور الاخشيدي الذي انتزع الملك لنفسه وخطب باسمه على المنابر، ثم الطواشي محسن الصالحي، والطواشي صبيح في آخر عهد الدولة الأيوبية. وقد

ص: 23

أشار إليهما المرحوم ميخائيل بك شاروبيم في كتابه (الكافي) عند كلامه عن أسر المصريين لملك فرنسا فقال إنه لما اشتد الأمر على الفرنسيس وقلت عندهم الأقوات وصعب لذلك عليهم المقام قبالة المسلمين رحلوا يريدون دمياط فاقتفى المسلمون أثرهم فانحاز الملك لويز بمن معه من الملوك والأمراء إلى بلد هناك وطلبوا الأمان فأمنهم الطواشي محسن الصالحي ثم غدر بهم وأحضرهم أسرى إلى المنصورة فقيد الملك لويز وجعله في دار كان ينزلها كاتب الإنشاء فخر الدين بن لقمان وآثارها لا تزال باقية إلى الآن وقد تهدم أكثرها ووكل به الطواشي صبيح المعظمي، وفي ذلك يقول الشاعر مهدداً الفرنسيس:

دار ابن لقمان على حالها

والقيد باق والطواشي صبيح

وليس أمر خليل أغا وما كان له من السطوة في عهد إسماعيل عنا ببعيد.

مأمون عبد السلام

ص: 24

‌قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

وكيل كلية العلوم

الدفتريا

بين واجد سمها الفرنسيّ، وكاشف ترياقها الألمانيّ

ومضت أربع سنوات تحققت بعدها نبوءة لُفلار، وبم تحققت؟ بتجربة تظهر لك غاية في السخافة، والحقيقة التي لا شبهة فيها أنها تجربة أوغلت في الخيال وتفانينه بقدر ما بعدت عن دائرة الحقيقة واليقين. تجربة ما كان يحسب حاسب إلا أنها تنتهي بقتل الخنزير الغيني الذي استُخدم فيها غرقاً؛ ولم تكن هذه التجربة بدعاً في الذي أوحاه هذا العصر من تجارب، فبحث المكروب في باريس كان عندئذ على أشده حدّة وعنفاً، يصدر عن قلوب هائجة محمومة لا عن عقول هادئة باردة، ففي هذا العصر كان بستور خائر القوى، منهدم الكيان، بعد نُصرته التي كانت من كشفه فكسين الكلب، فقنع بأن يشرف في ضعفه على بناء المعهد بالمليون فرنك الذي كان يقام في شارع ديتو وكان في باريس في هذه الفترة متشكنيوف وكان رجلا جموحا احترف البحث في المكروب فسلك فيه سبيلا وسطاً بين العلم والشعوذة، وكان جاء باريس من أوديسا الروسية ليجشأ فيها بنظريات غريبة تتحدث عن بلع كرات الدم البيضاء للجراثيم؛ وأخذ في هذا العصر أشياع بستور يحزمون مجاهرهم في عيابهم ويسافرون إلى سيجون في الهند الصينية وإلى أستراليا، يقصدون إلى كشف مكروبات لأدواء عجيبة لم يكن لها وجود أبداً. وفزعت أمهات كثيرات إلى بستور، والأمل يملأ قلوبهن، يرجونه في كتب لا عد لها أن يُنجي أولادهن من أمراض شنيعة عديدة، ولكن بستور كان رجلا مجهودا منهوكا

كتبت إليه إحداهن تقول: (إنك لو شئت لوجدت دواء لهذا الداء اللعين الذي يدعى بالدفتريا، انك لو فعلت لأعطيت الحياة لأطفالنا وكان لك ثواب ذلك، أننا نذكرك لهم، ونحفّظ اسمك

ص: 25

إياهم بأنك رب خير للإنسانية كبير عميم

ولكن بستور كان قد غاض معينه، فلم يبق فيه إلا ذَماء، فقام عنه رو يحاول محو الدفتريا من على ظهر الأرض، وأعانه في هذا يرسين وهو رجل لا يهاب الموت، كان من نصيبه بعد ذلك أن اكتشف جرثومة الموت الأسود فنال بها مجداً كبيرا، ولم يكن الذي أتاه رو من ذلك علما، إنما كان جهادا وحرباً. كانت تحدوه عاطفة قوية فاقتحم السبل إلى غايته اقتحاماً، فلم يتريث كما يتريث المكتشفون لاختطاط الخطة ومصابرة الفرصة في دهاء وافتنان. ولست أقول إن (رو) بدأ بحثه من أجل هذا الكتاب الذي كتبته تلك البائسة تسترحم فيه بستور، ولكني أريد أن أقرر أن رو بدأ بحثه وأكبر همه تخليص الأرواح لا علم الحقائق، فهذا البيت في شارع ديتو ما كان يضم إلا رجالا إنسانيين همهم خلاص البشرية وتخفيف ويلاتها، يستوي في ذلك ربّه الشيخ المشلول، وغاسل القناني الخامل الحقير. كلهم كانوا يعملون لخلاص الناس، وهذا طيب جميل، ولكنهم حادوا من أجله أحياناً عن السبيل الذي لا بد من سلوكه لبلوغ الحقيقة. . . . ومع هذا، وبرغم هذا، فقد كشف رو كشفاً رائعاً مجيداً

كانت الدفتريا تفتك بباريس فتكاد ذريعاً. فذهب رو ويرسين إلى مستشفى الأطفال فوجدا هناك نفس البشلة التي كان وجدها لُفلار. فربوها في حساء بقارورة، وترسما الخطى المعروفة، فحقنا مقادير كبيرة من هذا الحساء في كثير من طيور وحيوانات منحوسة الطالع فماتت ضحية العلم، دون أن تعلم بما ضحت، فترضى وتطيب نفساً عن نصيبها. ولم يكن هذا الذي بدءا فيه بحثاً كثير النفع كثير الإنتاج مستنيراً، ولكنهما لم يلبثا أن وقعا وشيكا على الدليل الذي أعوز لُفلار، فإن الحساء شلّ الأرانب. ذهب مفعوله في أوردتها فلم تمض إلا أيام قلائل حتى سارت تجر أرجلها الخلفية وراءها عرجا. فسر أصحاب التجربة سروراً كبيراً. وزحف الشلل إلى أجسامها حتى بلغ أكتافها وأرجلها الأمامية ثم ماتت في شللها وبللها ولزاجتها شرّ ميتة

قال رو وقد ملأته رغبة شديدة في الإيمان بالذي يقول: (إن هذه البشلة تقتل الأرانب على نحو ما تقتل الأطفال. . . . لابد إذن أنها هي سبب الدفتريا الذي لا شك فيه، ولابد أني واجد الآن هذه الجرثومة في هذه الأرانب. واستخرج عدداً كبيراً من الأنسجة من كل ركن

ص: 26

من بضعة جثث من هذه الأرانب، واستخرج أطحلتها وقلوبها، وزرع منها زريعات كثيرة، ولكنه لم يجد بها بشلة واحدة. أنها أيام قلائل فقط مضت منذ حقن بلايين من البشلات في كل أرنب منها. ولكن هاهي ذي ملقاة أمامه، قد انتزع أحشاءها، وقطّع أوصالها، وفتش فيها مبتدئاً بأنوفها الحمراء منتهياً بما تحت ذيولها البيضاء، ولكنه لم يعثر بها على بشلة واحدة. إذن فما الذي قتلها؟!

فجاءت نبوءة لُفلار تمر سريعة كالبرق بخاطره. فتفكر وقال: (لابد أن هذه البشلات تصنع سما وهي في الحساء، ولابد أن هذا السم هو الذي يشل ويقتل

وانبعثت فيه روح البحث الصحيح، روح المعرفة للمعرفة، فنسي الأطفال وبلواهم، وأكبّ على الخنازير الغينية والأرانب يثخنها قتلا وجزرا، فقد وجب عليه أن يثبت أن هذه البشلات تعصر سماً من أجسامها الدِقّاق

وبدأ هو ويرسين يدوران يتحسسان في الظلام عن تجارب تهديهم إلى إثبات ما يبغيان إثباته. وطال تحسسهما، وبعدت طرائقهما عن طرائق العلم. ولهما العذر في ذلك، فلم يكن لديهما في هذا الباب طرائق معروفة، ولم يكن سبقهما فيه سابق فيترسمون خطاه على هدى وبصيرة. ولم يسمع أحد قبلهما بأن باحثاً فصل سماً من أجسام المكروبات، إلا بستور فقد كان حاول شيئاً لم يستتمه من هذا. كانا وحدهما في ظلمة هذه الجهلة. ولكنهما استطاعا أن يقدحا عود كبريت. . . قالا:(إن البشلة لابد تصب سمها في الحساء، كما تصب سمها في دم الطفل وهي مقيمة على غشاء حلقه). بالطبع هما لم يثبتا هذا

ووقف رو حجاجه النظري، وسئم الدوران منه في دائرة لا تنتهي، واعتزم حل المُعْضل في المعمل بيديه. وجد أن التلمس في هذا العماء لا يجديه نفعاً. وجد أنه كرجل اختل محرك سيارته فتعطلت، فأراد أن يصلحه وهو لا يدري من عمل المحركات شيئاً. فكان الأولى به أن يتعلم كيف تعمل المحركات أولا. فقام إلى قارورات من الزجاج كبيرة، ووضع فيها أحسية خالية من المكروب طاهرة، ثم بذر فيها بشلات نقية من الدفتريا، ثم أودعها في المدافئ لتربى. فلما بقيت فيها أربعة أيام وتم نضجها قال رو:(والآن فعلينا فصل الحساء من المكروب). وجهز الاثنان لذلك جهازا غريبا، مُرشّحاً له شكل الشمعة إلا أنه أجوف، صنعاه من مادة صينية دقيقة اكتنزت حباتها وضاقت مسامها فأذِنت بنفاذ

ص: 27

الحساء ورفضت فوات المكروب فيها. ونصبا هذه الشمعات الجوفاء في مخابير من الزجاج لامعة صقيلة، وقاما يصبان الأحسية فيها على حذر شديد مخافة أن يصيبهما رشاش قاتل منها، ولكنها أبت أن تنفذ من الشموع إلى المخابير، وأخيراً استطاعا أن ينفذاها بهواء مضغوط ضغطا شديدا، فلما تم لهما ذلك تنفسا الصعداء وهما يصفقان على المنضدة، ذلك الراشح الرائق قد تراءى في قواريره الصغيرة أصفر كالكهرمان ولم تكن به جرثومة واحدة

وتمتم رو لنفسه: (هذا السائل لا شك يحتوي السم. نعم لقد حبست الشموع ما كان به من جراثيم، ولكنه مع هذا لابد أنه يقتل الحيوانات، وهرج المعمل ومرج بالمساعدين وهم يحضرون الخنازير والأرانب، فلما حضرت ذهبت إبر المحاقن في بطونها بهذا السائل الذهبي، ضربتها فيها يد رو، وهي يد خفيفة بارعة

وانقلب رو فصار فتاكا سفاحاً، وملأ قلبه حب القتل، فلم يجيء إلى معمله يوماً إلا وفي نفسه رغبة كرغبة المجنون أن يجد حيواناته قتيلة صريعة. وكأني بك تسمعه يصيح إلى يرسين:(إن السم لابد فاعل فعله الآن فيها، لابد أنه ضارب بنابه الآن في مقاتلها)، ثم هما ينظران معاً فلا يجدان ما يشفي غليلهما ويؤمن على نبوءتهما، فلا الشعور انتفشت، ولا الأرجل الخلفية شلت فتجرجرت، ولا الأجسام ارتعشت وانتفضت

كان وقع ذلك شديداً عليهما. بعد كل هذا التعب، وكل هذا التجريب والتفنين في دقة وحذر، تظل هذه الحيوانات تقرض بقولها في أقفاصها قرضاً، وتثب فيها وثبا، وتتغازل ذكورها وإناثها وتتهارش هذا الهراش السخيف الذي لابد منه لإيجاد النسل وتواصل الجنس. . . إنها تملأ أمعدتها وتشبع شهوتها ولا تأبه لشيء. أما هؤلاء الأناسي المردة الطوال الذين أحسنوا غذاءها هذا الإحسان فليحقنوا في أوردتها أو في بطونها من ذاك الحساء ما شاءوا. أيدعونه سما؟ لقد طال بهم الخيال، وكذب الخال. إن يكن سما فهو لا يزيدها إلا هناءة وطيب حال

وحاول رو مرة أخرى فحقن مقادير أكبر من حسائه في طائفة حيواناته، ثم في أخرى، ثم في أخرى، ولكن من غير جدوى. لم يكن في الحساء سم

لو أن رو رجل عاقل عادي لكفاه الذي جرى، واقتنع بأن الحساء الذي أودعه المدفأ أياماً ثم

ص: 28

رشحه لم يكن به سم قط. ألم يكفه هذا العدد العديد من الحيوانات التي ضاعت سدى؟ ولكن رو - ولتحمده الأمهات والأطفال المساكين، ولترعه الملائكة التي تحفظ البحاث المجانين - ولكن رو كان في تلك الساعة مجنونا. أصابه مس كالذي كان يصيب أستاذه بستور فيجعله يرى الصواب في الذي يراه الناس أجمع خطأ، ويقدح ذهنه فتخرج منه التجربة المستحيلة الناجحة. كأني بك تسمع هذا الرجل المسلول ذا وجه الصقر يصيح لنفسه:(هنا، في هذا الحساء سم لا محالة). وكأني بك تراه يدور في معمله يصيح هذه الصيحة إلى القوارير المصففة على الأرفف التربة، وإلى الأرانب والخنازير الغينية، وهي لو استطاعت لضحكت من هذا المجهود الخائب الذي بذله ويبذله رجاء قتلها. (لابد من سم في هذا الحساء الذي نمت فيه بشلات الدفتريا، وإلا فكيف ماتت الأرانب إذن؟)

وأخيراً، بعد أن قضى الأسابيع يحقن أحسيته في الحيوانات ويزيد مقدار ما يحقن فيها كل مرة، أخيراً عزم على أن يحقن في الخنزير ثلاثين مقداراً من الحساء دفعة واحدة، ففعل وكاد يغرق الخنزير بحسائه. كان مثله في ذلك مثل المقامر الذي سئم الخسارة، فلما يئس جازف فوضع على الرقعة كل ماله. حتى بستور ما كان ليجسر هذه الجسارة فيحقن الخنزير الغيني الصغير تحت جلده بخمسة وثلاثين سنتميتراً من الحساء كما فعل رو. أليس في هذا المقدار لو أنه ماء نقي ما يقتل الخنزير بمجرد حجمه. وهو إذا مات فأي نتيجة تستخرج من هذا عن وجود السم في الحساء. . . . ولكن رو لم يأبه لذلك، فدفع بهذا المقدار من الحساء وهو كالبحر في بطن الخنزير. ودفع بمقدار مثله في وريد بأذن أرنب، فكان كمن صب جردل ماء في أوردة إنسان متوسط الجرم

ولكن بهذا الأسلوب الغريب كتب رو اسمه في لوحة المجد، فعلى الناس أن يخلدوها على الدهر ويحفظوها من البلى ما بقي على ظهر هذه البسيطة إنسي. احتمل الأرنب والخنزير تلك الشربة الهائلة وصمدا لجرمها الكبير، وهَنِئا بالسلامة ونعما بالعيش يوماً أو يومين بعد هذا، ولكن لم يمض على ذلك غير ثمان وأربعين ساعة حتى انتصب شعراهما على ظهريهما، وأخذا يتنفسان اختلاجا. وماتا بعد خمسة أيام، وظهرت عليهما نفس الأعراض التي ظهرت على الحيوانات الأخرى التي ماتت عقب حقنها بمكروب الدفتريا نفسه لا بحسائه المرشَّح. وبهذا اكتشف رو سم الدفتريا. . .

ص: 29

لو أن الأمر اقتصر على هذه التجربة، وما تضمنته من جرعة هائلة من حساء ضعيف السم، إذن لضحك قناص المكروب منها ومن صاحبها رو، ولتخذوا منها فكاهة فاضحة:(إن تكن قارورة كبيرة من مكروب الدفتريا لا تخرج إلا هذا السم القليل حتى ليحتاج إلى أكثر هذه القارورة لقتل خنزير غيني صغير، فأنى لبشلات قليلة تحل في زور الطفل أن تصنع من هذا السم ما يكفي للقضاء على جرمه الكبير! هذا حمق أي حمق!)

ومع هذا فرو حل بذلك العقدة الأولى. وبهذه التجربة السخيفة قدح أول قدحة وأطار أول شرر شعّ في ظلمة الطريق فعرف به إلى أي ناحية يتجه وعلى أي جنبيه يميل. فأخذ يتحسس طريقه بين الأحراج ويشق سبيله بين الأدغال بطائفة من التجارب الدقيقة حتى انفتح له السبيل بغتة عن أرض عراء فعرف مكانه واستوثق مما هو فيه. واستغرق في ذلك شهرين عرف بعدهما السبب في ضعف السم بحسائه. واتضح له أنه لم يكن ترك الحساء ببشلاته في المدفأ مدة كافية، فلم تتمكن البشلات من العمل فلم تصنع من السم ما تعودت أن تصنعه. وعلى هذا صنع حساء جديداً ووضع فيه بشلات جديدة أودعها المدفأ وأبقاها هناك في حرارة كحرارة الجسم مدة اثنين وأربعين يوماً. فلما أخرجها أخرج سماً كأقوى ما تكون السموم، وحقن القليل منه في حيواناته فصنع بها ما لا يُصنع. وأخذ في تقليل مقدار ما يحقن فيها عسى أن يقلل فتكه بهذه الحيوانات ولكنه حاول عبثاً، وظل ينظر بعين واسعة وقلب مغتبط تياه إلى القطرات القليلة من هذا السم تذهب بالأرانب وتقتل الشياه وتلقي بالكلاب صريعة. ثم أخذ يتلهى بهذا السائل الفتاك، فجففه، وأراد دراسة كيميائه فأخفق. ثم ركّزه تركّيزاً كبيراً، ووزن ما ركّز، ثم عكف يجري عمليات حسابية طويلة

فوجد أن الأوقية منه تقتل 600000 خنزير غيني، أو 75000 كلب كبير. ووجد أن الخنزير الغيني الذي يناله من هذا السم جزء من 600000 جزء من الأوقية تتحول أنسجة جسمه فتكون كأنسجة جسم الطفل الذي يموت بالدفتريا

هكذا أوّل رو حلم لفلار وحقق نبوءته؛ وعلى هذا النحو كشف عن رسول الموت السائل الذي يتحلّب من أجسام هذه البشلات الصغيرة الحقيرة كشف رو لنا عن الطريقة التي تقتل بها هذه البشلات الأطفال، ولكنه لم يكشف لنا عن طريقة ندفع بها شرها، والكتاب الذي

ص: 30

بعثته تلك الأم البائسة لبستور تسأل فيه دواء لهذا الداء بقي على المكتب لا يجد له جواباً، ومع هذا فعمل رو بلغ أمره الأطباء فتعلموا كيف يربون تلك البشلات من حلوق المرضى من الأطفال، وأثمر عدة اقتراحات بغرغرات نافعة يغسلون حلوقهم بها، ولكن رو لم يكن له صبر بستور ولا حيلته

في العدد القادم: بارنج يكتشف ترياق الدفتريا

أحمد زكي

ص: 31

‌نشأة مقاييس الذكاء

للأستاذ علي محمد فهمي

مدرس التربية التجريبية المساعد بمعهد التربية للبنين

ليس علم النفس بالعلم الحديث، بل هو قديم من أيام أرسطاطاليس، ولكنه لم يثمر إلا في القرن العشرين ومن ثم صار علماء علم النفس يبحثون بجد في العقل وكنهه، وفي الذكاء وأصله، فاستفادت التربية من قياس ذكاء الأطفال. وقد قطعت الأبحاث في محاولة قياس الذكاء عدة مراحل أهمها أربع:

المرحلة الأولى

في هذه المرحلة لاحظ الباحثون بادئ الأمر أن هناك تبايناً بين الأفراد في الفهم والتفكير والتذكر والقدرة على التعلم وإن هذا التفاوت يختلف باختلاف الجنس والعمر والبيئة، وكانت الجهود كلها موجهة إلى محاولة تعيين مقدرة المرء العقلية بواسطة شكل جسمه وخاصة الرأس والعاهات الخلقية التي في الإنسان، فأول ما نشأت فكرة إيجاد مقاييس للذكاء كانت عبارة عن مجرد فحص الحالة الجسمية

وكان أول من تناولها بالبحث والكتابة فيها الأستاذ لافاتير سنة 1772 فقد نشر في هذه السنة بحثاً عن معرفة صفات الإنسان العقلية والنفسية من ملامح الوجه

ثم نشر جول صاحب نظرية الجمجمة كتابا عن معرفة صفات الناس من أشكال رءوسهم وقياس عظامهم الجمجمية فعمل خريطة للعقل وقسمه إلى ملكات وكانت الملكة تكبر أو تصغر بحسب قوتها وضعفها ويسمى هذا العلم بعلم الفراسة

ثم تبعه في بحثه الدكتور بل سنة 1806 ثم داروين سنة 1872 وكانا يعتبران أن صفات الشخص العقلية تعرف من حالة عضلاته، فالخائف مثلا تظهر عليه علامات كأن تفتح عيناه وترتعش ركبتاه وغير ذلك من علامات الخوف؛ فإذا كان الخوف مستمراً فانه يترك في وجه الشخص طابعا يدل عليه، ولكن ثبت خطأ هذه النظرية إذ قد توجد علامات مشتركة بين حالات مختلفة فلا يمكن مثلا التمييز بين علامات الضحك من السرور وعلامات الضحك من الاستغراب والاستهزاء

ص: 32

قام بعد ذلك الأستاذ لمبروزو الأخصائي في علم الإجرام بمباحثه وأتى بفكرة جديدة وهي الحكم على صفات الناس العقلية والنفسية من العلامات التشريحية فهو يقول بأن هناك وصمات وتشويهات معينة في الجسم يدل وجودها فيه على ميل فطري للإجرام، فمثلا كبر الرأس وشكله وعدم مساواة نصفيه وعرض الجبهة وضيقها والأنف العريض والمقلوب والمفرطح وسقف الحلق الضيق والمرتفع - ويكون عادة على شكل 8 - والآذان عديمة الحلمة والمشوهة والكبيرة الحجم، كل هذه العلامات أو العاهات كما يقول الأستاذ لومبروزو هي علامات صحيحة للإجرام موجودة مع الطفل من يوم ولادته. وعلى ذلك فهو يرى أن الشذوذ في الخلقة يرجع إلى شذوذ في النفس والعقل. وقد نشرت ملاحظات هذا العالم وتجاربه هو ومساعدوه في أواخر القرن التاسع عشر، ولكن على توالي الزمن اقتنع العلماء بأن الحكم على العقل أو النفس بمجرد مشاهدة الخلقة حكم لا قيمة له بل يجب اختبار الصفات العقلية والنفسية باختبارات عقلية سيكولوجية

هدأت الأفكار بعد ذلك نوعا ما وتحولت عن نظرية لمبروزو وعلاقتها بالإجرام: هنالك نشط الباحثون واستنفذوا جهدهم في البحث فوصلوا إلى أن كبر حجم الجمجمة دليل على كبر حجم المخ، وكبر حجم المخ دليل على الذكاء والعكس، غير أنه فاتهم للأسف أن الذكاء لا يقدر بكبر حجم المخ ولا بصغره وإنما يقدر بسمك المادة السنجابية وكثرة تلافيف المخ الخ. وقد نشط الأستاذ بيرسون في بحث هذا الرأي فأجرى تجاربه على 500 طالب من جامعة كولومبيا بأمريكا فوجد أن العلاقة بين حجم المخ والذكاء تكاد تكون معدومة

المرحلة الثانية

بعد ذلك ظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر ثلاث حركات علمية مهدت السبيل لظهور المقاييس العقلية وهي:

أولا: ظهور علم النفس التجريبي في ألمانيا على يد ويبر الذي اهتم بدراسة الاحساسات وحاول أن يطبق عليها روح القرن التاسع عشر وهي الروح العلمية التجريبية، وتبعه عالم ألماني اسمه فخنر ثم تبعهما سلسلة علماء حتى جاء وند وأنشأ أول معمل لعلم النفس في ليبزج سنة 1879، وكان متجهاً لدراسة الاحساسات لوجود فلسفة الترابط في إنجلترا في ذلك الوقت، وفلسفة الترابط هذه تقول إن أصل كل حياة فكرية هي الاحساسات، وإذن

ص: 33

فالاحساسات هي أساس نشوء الحياة العقلية، ولذلك عمد وند لدراسة زمن الرجع وهو الزمن الذي ينقضي بين وصول المؤثر وبين حصول الرد عليه، لأنه دليل على سرعة العمليات العقلية، وكان يساعده في أبحاثه الأمريكي كاتل الذي لاحظ أن الأشخاص يختلف بعضهم عن بعض في زمن الرجع، وكانت أبحاثه ضد رغبة أستاذه وإن كانت تعتبر الآن من الينابيع التي غذت المقاييس العقلية

ثانياً: دراسة الوراثة في إنجلترا: وأول من بدأ بدراستها هو فرنسيس جالتون وهو أحد أقارب داروين واشترك معه في أبحاثه في نظرية النشوء والارتقاء، ولكن داروين كان كل همه دراسة وراثة الإنسان من وجهة الجسم فقط فاهتم جالتون بدراسة وراثة الصفات العقلية، وقد نشر سنة 1883 كتابه (أبحاث في القوى العقلية) وبه عدة أبحاث خاصة بالخيال ومحاولات بسيطة لقياس الصفات العقلية، ثم فتح في لندن معملا للقياس العقلي والجسمي، وسماها مقاييس انتروبولوجية (خاصة بدراسة البشر)

على أن بحث السير جالتون هذا وإن كان خلوا من الملاحظات والنتائج إلا أنه يعد أول عالم فكر في موضوع الذكاء وقياسه

ثالثاً: حركة علم النفس الطبي في فرنسا: أخذ علم النفس يتجه اتجاها عمليا في فرنسا وذلك لأن الفرنسيين مهتمون بالطب، ولأن علم النفس يتصل بالطب اتصالا تاما، ومن الموضوعات التي كان لها أثر في القياس العقلي ظهور مسألة قياس ضعفاء العقول فأخذ الناس في القرن الثامن عشر يهتمون بهم ويتفهمون حالتهم ويحاولون علاجهم. ساعد على ذلك عثور صياد في غابة بفرنسا على طفل في حالة همجية، فأخذه إلى باريس وفحصه الأطباء وعهدوا بتربيته إلى فيلسوف طبيب اسمه إتار وكان طبيبا في معهد الصم والبكم، فجرب على الطفل الطرق الحسية ليرى تأثيرها على تعليمه وتحوله من الهمجية، وبعد مضي مدة وجد أن التقدم في حالة الطفل بطيء فأرسله إلى معهد خيري، حيث كان يشتغل طبيب اسمه سيجان وكان تلميذاً لأتار فلم ييأس هذا من استعمال الطرق الحسية مع الولد حتى نجحت وتقدم الولد تقدما ملموسا

ذلك إلى إنشاء مدرسة لتربية ضعفاء العقول على طريقة وشاع استعمال هذه المدارس ثم جدت مشكلة الحكم على عقل الطفل فحمل ذلك وزارة المعارف في فرنسا على إنشاء لجنة

ص: 34

لدراسة هذه المشكلة، وكان من بين أعضائها بينيه الذي عمل أول مقياس عملي للذكاء سنة 1904

المرحلة الثالثة

ذكرنا أن كاتل كان يبحث مع وند في ألمانيا وزار جالتون في لندن، ولما عاد إلى أمريكا عين مدرساً لعلم النفس فنشر سنة 1890 برنامجاً للقياس العقلي اقترح فيه أن تطبق مقاييس خاصة على طلبة مدرسته، وكانت المقاييس بسيطة تقاس بها القوى الحركية والتمييز الحسي ومظاهر أولية للذاكرة والحكم

نشر كاتل هذه الاختبارات في مجلة إنكليزية ذيلها جالتون بالتعضيد فآثر نشرها في أوربا وأمريكا وطبقها علماء النفس حتى أنه في سنة 1896 استأجر جاسترو مكانا في معرض شيكاغو وأخذ يختبر ذكاء الأشخاص نظير أجر، ثم أخذ كاتل في تطبيق هذه الاختبارات على الطلبة في جامعة كولومبيا نشرت نتائجها سنة 1901 وقارن جلبرت نتائج هذه الاختبارات التي عملت على الطلبة بنتائج حكم المدرسين على الطلبة أنفسهم، فوجد أن الاتفاق بين الاثنين ضعيف جدا

ومن ذلك نرى أن هذه المقاييس لم تكن مضبوطة، ولم تدل على الذكاء تماما، لأنها تقيس قوى فردية ليس بينها وبين القوة العقلية العامة علاقة متينة، وقد أدى هذا النقص إلى التحول عن هذه المقاييس وأصبحت جامعة كولومبيا تحت رئاسة مركزا للبحث في هذه المقاييس، وبالتدريج تغلبت الروح العلمية فأخذ علم النفس صبغه طبية في فرنسا، وابتدأ الفرنسيون يهتمون بقياس العمليات العقلية ذات الأهمية الظاهرة في الحياة، وفي سنة 1896 ظهر مقال للعلامة بينيه في مجلة السنة النفسانية التي اتخذها مسرحا لنشر أبحاثه المختلفة، وكان يحرر الجزء الأعظم منها بنفسه باذلا في ذلك مجهودا كبيرا ومهتماً من البداية بمسألة الذكاء وقياسه معالجا إياه من نواح عدة، وقد لخص بينيه الأبحاث التي عملت قبل ذلك وحمل على الاختبارات الموجودة حملة شديدة إذ كانت تقيس قوي عقلية بسيطة ليست مهمة في الحياة، فكانت حسية وحركية، ولكن الناس لا يتميزون في الذكاء بقوة الإحساس والحركة وإنما يتميزون بقوة الحكم والخيال والذاكرة. وذكر بينيه أيضا في مقاله أنه لابد لقياس الذكاء من ترك المقاييس القديمة والبحث عن أخرى لقياس القوى

ص: 35

العقلية العليا، فكان لهذا المقال أثر كبير نقل مقاييس الذكاء من نظريات إلى معامل، وأبطل استعمال الأجهزة النحاسية التي كانت تستعمل، ومن ذلك الحين تدفقت الاختبارات العقلية التي قام بها فريق كبير من العلماء، على أننا لا يمكننا نتبع كل هذه الاختبارات وإنما نتكلم على أهمها وهو اختبار بينيه

ولد الفرد بينيه بمدينة نيس من أعمال فرنسا سنة 1857 وحصل على إجازة الحقوق سنة 1878 ثم عكف على دراسة الطب وتتلمذ للعالمين المشهورين وقتئذ فيريه وشاركوه ولاسيما الثاني منهما فقد بث فيه روح الاهتمام بدراسة نفسيات الشواذ من الناس. ثم تعاون بينيه مع آخرين على إنشاء معمل للأبحاث النفسية في السربون ثم أصبح هو مديراً لهذا المعمل وكان أحد أعضاء اللجنة التي شكلتها وزارة المعارف الفرنسية لاختيار ضعاف العقول فخطر له أن يدعم عمله في هذه اللجنة ببحث قيم يتخذ أساساً وعوناً لبقية البحوث في المستقبل؛ وبدأ عمله بالبحث في ماهية ضعف العقل، ومن هو ضعيف العقل من الأولاد الذي يحتاج إلى تعليم خاص، وقد خصص جهوده كلها ومواهبه العلمية لإنجاز هذا العمل وعكف عليه زمناً لا يقل عن سبع سنوات وفق فيها إلى غرضه وأخرج مقياساً علمياً عملياً حقاً، وظهرت له سلسلة أبحاث في المقاييس العقلية. وقد رأى أن الانتباه الإرادي والذكاء مرتبطان لدرجة أنه يمكن اتخاذ مقاييس الانتباه دليلا على الذكاء فوضع اختبارات عديدة منها زمن الرجع وإعادة بعض أعداد والسرعة في عدد دقات الكرنومتر.

وقام عالم ألماني آخر اسمه ايبنجوس سنة 1897 وعمل اختباراً سماء طريقة ويسمى الآن طريقة التكميل فدلت الاختبارات التكميلية على أنها من أحسن الاختبارات للذكاء، والأساس الذي بني عليه هو اعتقاده أن الذكاء لا يتجلى في إدراك المؤثرات متفرقة وإنما يتجلى في ضم المؤثرات بعضها إلى بعض لتركيب وحدة كلية، ففي الجملة الواحدة مثلا لا يتجلى الذكاء في فهم كل كلمة على حدة بل في فهم الجملة كلها وهي فكرة وجيهة جداً، وقد استمر البحث حتى سنة 1905 حين ظهر أول مقياس كامل للذكاء من عمل بينيه ومساعده سيمون ثم عدلاه في سنة 1908 وفي سنة 1911 وترجم مقياس سنة 1908 إلى لغات عدة فأحدث أثراً كبيراً في العالم وجرب في بلاد كثيرة وقد سخر بعض الناس من مقياس بينيه وقالوا إنه ليس له فائدة عملية، ولكن أكثر العلماء رأوا فائدته وكان بينيه

ص: 36

مشبعاً بالروح العلمية الحديثة، وظل يدخل إصلاحات عدة في مقياسه ومات سنة 1912

وقد كان من نتيجة تجربة مقياس بينيه في بلاد كثيرة أن تجلت الحاجة إلى تعديله بما يلائم حالة كل بلد منها، ولذلك ظهرت له تنقيحات عديدة منها خمسة أو ستة في أمريكا وتعديل أو اثنان في ألمانيا وإنجلترا، وأهم هذه التنقيحات تنقيح الأستاذ تيرمان الأمريكي وكان أستاذاً بجامعة استانفورد وسمي التنقيح باسم الجامعة

وكان ترمان مهتما بمسألة القياس العقلي حتى قبل ظهور

مقياس بينيه، فقد ألف بحثاً في العبقرية والغباوة حاول به أن

يوجد أسئلة تميز بين الأذكياء والأغبياء وقد نشر أبحاثه هذه

في سنة 1906 ولما نشر مقياس بينيه اهتم به اهتماماً كبيراً

وابتدأ بمساعدة شلد في تعديل هذا القياس بأن ضم إليه عددا

من اختباراته وأوجد مقياساً منقحاً ولكن أهم من ذلك أنه أدخل

في تنقيحه فكرة جديدة ليست من عنده ولكنها من عند عالم

ألماني يدعى استرن وهي فكرة نسبة الذكاء، وقد كان بينيه

يعتمد في مقياسه على تأخر أو تقدم العمر العقلي عن العمر

الزمني، ولكن التجربة دلت على أن هذه الطريقة ليست دقيقة،

فمثلا إذا فرضنا أن ولداً عمره العقلي 7 سنوات والزمني 5

سنوات فإن تقدمه العقلي على حساب بينيه يكون مماثلا لولد

عمره العقلي 12 سنة وعمره الزمني 10 سنوات أما استرن

فيقول إن ذكاء الأول أكبر من الثاني لأن نسبة الذكاء في

ص: 37

الأول أكبر منها في الثاني، فنسبة ذكاء الأول 57=1. 4 بينما

في الثاني 1012=1. 2 - أخذ ترمان هذه الفكرة نفسها

وأضافها إلى مقياسه المنقح إلا أنه ضرب هذه النسبة في 100

لكي يتلافى الكسور فتكون نسبة ذكاء الأول 140 والثاني

120 وقد نقل الأستاذ القباني اختبار ستنفرد بينيه هذا إلى

العربية بعد أن أدخل كثيراً من التعديلات الضرورية عليه

لجعله ملائماً للبيئة المصرية

المرحلة الرابعة

كل المقاييس التي ذكرت لفظية وقد اعترض على هذا النوع من المقاييس: -

(1)

لأن الطالب الذي تكون بيئته لا تساعده على التعبير يظلم في هذه البيئة، ولذا فالتلميذ الذي من وسط اجتماعي راق يكون أذكى من تلميذ من وسط اجتماعي فقير، لأن الأول يسمع مناقشات ويشترك فيها بينما لا يقابل الثاني من أبيه أو أمه إلا بالزجر والضرب

(2)

وهناك أطفال لا تتوفر عندهم ملكة الكلام أو غير متمكنين من اللغة الموضوع بها الاختبار

(3)

وهناك أطفال من ذوي العاهات كفاقدي السمع والنطق يصعب اختبارهم بهذه المقاييس اللفظية

(4)

في بعض البلاد تختلف اللغة الدراجة التي يتعلمها الطفل عن لغة الاختبار كمصر مثلا

كل ما تقدم أدى إلى البحث عن اختبارات أخرى تصلح لهذه الحالات كلها ولذا عملت اختبارات عملية بمعنى أن المطلوب فيها سؤال لا يجاوب عليه باللفظ، ولكن يكلف المفحوص بالقيام بعمل يعمله أمام المختبر، ومن أمثلتها لوحة الأشكال - وبها أشكال مختلفة مجوفة يعطى للطالب أجسام مماثلة لها بحيث يضع كل جسم في الشكل المجوف

ص: 38

المماثل له، وهناك لوحات سهلة التركيب وأخرى صعبة التركيب يمكن في مثل هذه اللوحات احتساب عدد تغيير القطع حتى يجد الولد القطعة المطلوبة وحساب الزمن الذي يستغرقه المختبر في إتمام تركيب اللوحة

وهناك نوع آخر من هذه الاختبارات يسمى اختبار التواهات مثل بيت جحا ولكنها مرسومة على ورق فيدخل الطالب من باب ويخرج من آخر

وهناك نوع ثالث وهو لوحة الصور يلصق عليها صورة مقطوع منها أجزاء، وهذه الأجزاء تعطى للتلميذ ويطلب منه تكميل الصورة

كل هذه الاختبارات فردية تعطى لكل فرد على حدة فتطبيقها يحتاج إلى وقت كبير ولذا فنحن في حاجة إلى اختبارات لا تحتاج إلى وقت كبير فاخترعت اختبارات جمعية إذ فكر من تلاميذ في عمل اختبار جمعي، وقام علماء النفس بأمريكا بعمل اختبارات جمعية، فألفوا مقاييس الجيش، وأطلقوا على الأول منها مقياس وهو من النوع اللفظي على الثاني وهو اختبار عملي جمعي تستعمل فيه الصور، وقد ارتاح رجال الجيش إلى نتيجة هذه الاختبارات فانتشرت من أمريكا إلى بقية العالم

علي محمد فهمي

ص: 39

‌في المباراة الأدبية

استثمار نهضة المرأة المصرية للخير العام

للآنسة فتحية عزمي

كانت نهضة المرأة في مصر إحدى ثمار الفورة الوطنية المباركة التي انبجست من قلوب أبنائها البررة عام 1919؛ وإذا كانت الثورات التي حدثنا عنها التاريخ قد أفادت العالم من كل نواحيه، وخلقت روحاً جديداً من التطور في كل مرافقه، فإن مصر هي الأخرى قد جنت من وراء ثورتها الفتية نهضة مباركة بدأ أثرها جليا في السنين الأخيرة في الأدب والفنون والعلوم والاقتصاد والسياسة. وكان من أبرز هذه المظاهر وأروعها خروج المرأة المصرية من معقل التقاليد العتيقة المرذولة إلى الحياة العملية الصحيحة بعد الجهل المخيم والخمود الطويل. . .

لقد مضى على المرأة المصرية حين من الدهر لم تكن شيئاً مذكوراً حتى نفخ الزعيم الخالد (سعد) العظيم في صُور الثورة فلبت مع الملبين، وترامت في ميدان الجهاد مع المترامين، فرأينا كيف يجتذب صوت الداعي الأخاذ النقاذ خدور العذارى والسيدات إلى حيث النداء والتضحية، وكيف أن المرأة المصرية الحيية الساذجة قد ألقت عنها خمارها لتجابه بوجهها الحديد والنار في جانب الرجل، تشد عضده بمظهرها الحماسي الجريء، وتبعث في نفسه روح البسالة والإقدام، فيسارع إلى الموت باسماً لا ينكص ولا يتزعزع، وهكذا سجل التاريخ للمصرية في ذياك العام المجيد صفحة فخار ستبقى خالدة مادامت مصر ومادامت الوطنية والحرية، كما سجل للمرأة البدوية وراء الأجيال السحيقة يوم تبعت رجلها في الحروب تؤازره وتشجعه وتنشد خلفه أناشيد الحماسة والنصر فيشتد ساعده ويثبت جنانه فلا يتجلجل ولا يتحلحل إلا إلى نصر محقق حيث يعود إليها مزهواً بإكليل الظفر، أو إلى قبر في الفلاة موحش حيث الشرف كل الشرف والخلود كل الخلود. . .

فنهضة المرأة الحق في مصر لم تكن إلا وليدة الثورة، وكل ما قام قبل هذا التاريخ لترقية مستواها لم يكن إلا محاولات ضئيلة لا تكاد تذكر إلى جانب تلك الطفرة الهائلة التي قذفتها إليها الثورة، وهنا يحق لنا أن نحني الرأس في هذا المقام إجلالا لذكرى زعيمنا الخالد الذي تفجر من فيض وطنيته ما ننعم فيه الآن من نهضات عمت مرافقنا الحيوية، ثم نحيي في

ص: 40

جثمانه الهامد الوطنية الصحيحة والوجدان الحي والتضحية الفادحة والعمل الخالد المقيم. . .

وأخذت بعد ذلك نهضة المرأة المصرية تسير سيرها الحثيث نحو التقدم المنشود ففتحت أمامها موارد العلم لتغترف ما شاءت حتى صارت إلى ما هي عليه الآن من رقي وثقافة يكادان أن يضعاها في مستوى زميلتها الغربية، ولكن هل آتت هذه النهضة أكلها حقا؟ وماذا كان اثر هذه النهضة في الحياة العامة؟؟

لا يسع كل منصف إلا أن يحكم معنا أن تعليم المرأة لدينا قد بلغ شوطاً بعيداً وخاصة في الأعوام القلائل الأخيرة، فمنا الآن الأديبات والطبيبات والحقوقيات وغيرهن ممن نلن من الثقافة العالية نصيباً وافرا، ولكن العمل الرئيسي الذي خلقت له المرأة يؤول اليوم تدريجياً إلى الإهمال: فالشؤون المنزلية وتربية الأولاد وإعدادهم للحياة الصحيحة ثم تفهم الحياة الزوجية ودرسها درسا وافيا، كل ذلك أضحى في نظر سيداتنا وخاصة المثقفات منهن شيئا ثانويا أولى منه إتقان أدوات الزينة والجري وراء الأزياء الحديثة حتى أصبحنا في خشية من انطباق قول الآنسة دي سكودراي علينا:(أن فتاة تنسى النظر إلى السماء لا تحسن شيئا على الأرض!!)

(إن النساء أتين العالم لعمل الحساء وإنسال الأولاد وماعدا هذا فأنهن يظهرن بمظهر مزعج) كلمة مريرة قالها موليير عن المرأة، وهي وإن كانت تهكما لاذعا كاد صاحبها يخرج بها إلى حد المغالاة، أو جاوزها فعلا، إلا أن فيه إشارة إلى الوظيفة الأولى للمرأة التي أشرنا إليها من قبل. وأنه لخليق بالمرأة المصرية وقد ضربت في الثقافة العامة بسهم وافر أن تضع نصب عينيها الرسالة التي أوجدتها الطبيعة من أجلها وتؤديها على أتمها خالصة في سبيل الله والواجب، ومن ثم تضرب في خضم الحياة العملية ما شاء لها الفكر الوقاد على ضوء الخبرة والمعرفة. أما أن تعنى بالأمور الفرعية دون تقويم الأساس وتمكينه فهذا ما لا يقره منطق سليم ولا تبيحه نفس الطبيعة التي فطرت كل شيء لغرض معين وهيأته لرسالة محدودة

في يقيني أن خير استثمار أن خير استثمار المرأة العصرية للخير العام ينحصر في شيء واحد وهو: تشييد صرح حياتنا الاجتماعية على أساس مكين ونظام متقن؛ وإذا كانت

ص: 41

نهضة المرأة عندنا قد قامت على تعليمها فأحرِ بنا أن نستغل هذا التعليم لتمهيد سبل السعادة لأزواجنا ومعاونتهم على العيش، ثم تدبير بيوتنا وتثقيف أولادنا ثقافة أخلاقية وعلمية ووطنية ليشبوا رجالا بكل ما في هذه الكلمة من معنى سام جليل؛ ومتى تركزت حياتنا الاجتماعية على هذه الأسس الوطيدة صلحت حياتنا العامة وأعددنا للوطن أشبالا تغذوا بلبان الوطنية واهتدوا بهدي العلم إلى سواء السبيل

صدقوني أنّا لسنا بحاجة إلى المرأة المثقفة العالية بقدر حاجتنا إلى الأم الصالحة أو (المدرسة الأولى) كما نعتها الكتّاب والشعراء قديما، وهاهي تي البلاد تئن من أقصاها إلى أقصاها من كابوس البطالة الذي يجثم على أنفاسها ويزداد هولاً يوماً بعد يوم باطراد زيادة عدد المتعلمين الذين تلفظهم المدارس كل عام لمواجهة الحياة العملية حتى ضاقت بهم سبلها وغصت بهم على رحبها، وهذا الجيش الجرار من شباب الأمة المتعلم العاطل أولى منا نحن معشر النساء المثقفات بالعمل، فبماذا يمكن إذاً استثمار نهضة المرأة المصرية للخير العام؟؟

ليس هناك سوى رد واحد على هذا السؤال، هو ما قلته، وهو أن خير طريقة لهذا الاستثمار هو الاستثمار الاجتماعي المعنوي الذي ذكرت لا الاستثمار المادي كما يمكن أن يفهم من كلمة (الاستثمار) وذلك لأن هذا الاستثمار المادي الأخير نحن في غنى عنه بما لدينا من أيد عاطلة عديدة أحق بالتشغيل من جهة، وعدا ذلك فإن استثمار نهضة المرأة المصرية اجتماعيا يركز حياتنا العامة ويسيرها في طريق التطور المرجو غير بطيئة ولا وجلة

ويبدو لنا من أخبار الغرب التي يحملها إلينا البريد الأوربي الأخير من أن العالم قد بدأ يحس مدى خطئه في قصر تعليم المرأة على ثقافتها فحسب دون العناية بالغرض الأساسي الذي خلقت له؛ فهذي الآن فرنسا تحارب فكرة إعطاء الحقوق السياسية للنساء ومساواتهن بالرجال؛ وها نحن أولاء نرى ألمانيا وإيطاليا تضمان في جملة أنظمتها الجديدة أن تعود المرأة إلى سالف عصرها من التزام البيوت والقيام على تربية الأطفال، ومنعهن ما أمكن من تعاطي أعمال الرجال. وقد قرأنا للأستاذ محمد كرد علي ملخصاً لكتاب ظهر أخيراً في فرنسا حول هذا الصدد للدكتور روبرتوش بدأه بكلام لثلاثة من مشاهير الكتاب أحدهم

ص: 42

تيودور جوران قال: (إن رفعة المرأة بلية صدرت إلينا من البلاد الأجنبية ولا سيما من أمريكا وجرمانيا وبلاد الشمال، وكان هذا النفوذ المتألف من كل غريب يكفي أن يكون منه إنتاج قد يتلاءم مع تركيبنا الفرنسي) وقال روبر كبيو: (من السهل الدلالة على أن دعوى رفع شأن المرأة كانت أبداً وليدة المذهب الاشتراكي فقد نرانا نسقط فيها على أفكار اشتراكية بعينها، وعلى معان لهم وتغيرات، وعلى كلمات ما برح الاشتراكيون يرددونها مع سفسطات كانت ولا تزال مألوفة لهم، وما المرأة إلا أعدى عدو لرفعة شأنها، فهي موقنة بأنها تخسر من نفوذها الخاص أربعة أضعاف ما تربحه من نفوذها العام، ولا يتأتى مما ترمي إليه إدخال أدنى إصلاح على النظام الاجتماعي) وقال الثالث تينابر (إن حقوق النساء وتحريرهن الأدبي هذا حسن وجميل، ولكن يا سيداتي حررن أنفسكن أولاً من الخياطة، فإن لم تكن لكن هذه الشجاعة فلا تطالبن إلى أن تحصلن على ما بقى) وقد استعرض المؤلف في كتابه نهضة المرأة نشأتها إلى اليوم وحللها تحليلاً دقيقاً عاب عليها عنايتها بثقافتها دون الغرض الرئيسي الذي هيأتها له الطبيعة. من هنا نرى أن أعرق الأمم الغربية في النهضة النسوية قد بدأت تتحسس مدى خطئها في توجيه المرأة إلى غير ما خلقت له ولم يعد بين هاته الدول من أخذتها هذه المدنية الطاغية عن جادة الطريق سوى تركيا الحديثة التي خالت أنه لم يبق بينها وبين مساواة العالم المتمدين سوى هذه الغلطة الاجتماعية النسائية فأبت إلا أن تشرب الكأس حتى الثمالة، وما أشك أنها ستجني ثمرة هذا التقليد الأعمى علقما وصابا كما جنته براقش

قدر لرجلك قبل الخطو موضعها

فمن علا جبلاً عن غرة زلجا

ولنتدبر نحن في المستقبل قبل أن نخطو إليه، ولنتبين من أي طريق تسوق المدنية الغرور، ولنستمع صوت الطبيعة الغضبى تصرخ في وجوهنا: لقد خلقت المرأة لتكون نظام الأسرة وتكمل الشطر الثاني من حياة الرجل، وتقدم له وللعالم كأس السعادة مترعة هنيئة، فلا يخلبنكم بريق المدينة الخادع الكاذب فتعبثوا بنظمي وتقلبوها رأساً على عقب، لا يصيبكم ما أصاب من قبلكم من المتعنتين المستكبرين. . .

وبعد. . . فهذا رأيي في استثار المرأة المصرية للخير العام أدلي به راجية أن أكون بذلك قد أرضيت الواجب والضمير، وإن كنت قد عرضت نفسي للوم البعض من سيداتي

ص: 43

المثقفات ممن يرين في الحياة غير رأيي، ولا يفوتني هنا أن أهمس في آذان هؤلاء أنه خير للمرأة من حياة زوجية سعيدة يحفها البنون وترف عليها الهناءة من مجد عريض يكلل هامتها ووسام نبيل تحمله. ذلك لأن المرأة خلقت للرجال والرجل خلق للعمل، وأن مجد المرأة حداد ظاهر على إسعادها كما قالت مدام دي استال، فلا تغامروا بالمرأة في تجربة قد أدرك العالم المتمدين خطأها ولا تستثمروها في غير ما خلقت له وإلا تكونوا كطالب الماء من الصخر، أو مستنبت الزرع في المهمه القفر

ومكلف الأيام ضد طباعها

متطلب في الماء جذوة نار!!

فتحية عزمي

ص: 44

‌صورة من المجتمع الجزائري

إني أرى في المنام!

للأستاذ محمد سعيد الزاهري

عضو جمعية العلماء الجزائريين

خرج من السوق خائباً مكتئباً، ملامحه عليها غبرة ترهقها قترة، تدل على ما يأكل نفسه من الهم القاتل، والحزن العميق، يحمل في إحدى يديه (قفة) فارغة لا شيء فيها، وفي الأخرى (سبحة) غليظة جداً، وهو يقول بصوت واضح مسموع:(هذا ما يريد لي فلان، وهذا ما يريد لي فلان. . .) وذكر ناساً بأسمائهم من رجال الإصلاح الإسلامي في الجزائر، ومضى يردد ما يقول إلى مسافة بعيدة من السوق

هو (شيخ) لإحدى الطرق الصوفية في هذه البلاد. قد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا. تراه فترى وجها كالحا مسنوناً، ولحية قذرة صفراء كان دخاناً كثيفاً لا يزال يتعهدها ويغشاها من حين إلى حين. كان يعتنق طريقة صوفية، فلما لم يجد فيها معاشا تحول عنها إلى طريقة أخرى يعيش فيها حميلة أحبابها ومعتنقيها، فلا يدع وليمة ولا جنازة لأحدهم إلا هرول إليها متعرضا لما قد يكون فيها من صدقات أو نفحات. ولقد مرد على هذا الأسلوب من التكسب فأتقنه وتفنن فيه، فهو يبث العيون والأرصاد يتنسمون له أخبار الأفراح والأتراح، ويُرسل في المدائن حاشرين يأتونه بالزوار والمريدين يرجون مغفرته ويلتمسون منه البركة والخير! ويرتكب هؤلاء الدعاة الذين يدعون الناس إليه ضروباً من الترغيب والترهيب، فينحلونه المناقب والصالحات، والخوارق والمعجزات! فيزعمون (أن من يطيع الشيخ فقد أطاع الله) وأن الرسول (ص) لا يفارق الشيخ طرفة عين، وأن من اتبع الشيخ فجزاؤهم عند ربهم جنات عَدْن يدخلونها، وأن من خالفه مأواهم النار وبئس المصير

وقفوا ذات يوم على فاكِهيّ وقالوا له: إن شيخنا يقرئك السلام ويقول لك يا بني إني أرى في المنام كأنك تتخبط في ضحضاح من النار وأنت تستغيث فلا تغاث حتى استغثت بي، وذكرتني باسمي فأخذت بيدك، وأنقذتك من الهلاك. وتعبير هذه الرؤيا هو أنك رجل قد غرق في ذنوبه وخطاياه، ولا خلاص لك إلا بأيدينا. . . ثم لا يزال هؤلاء بالرجل يزينون

ص: 45

إليه الشيخ، ويحثون على زيارته، حتى يقع في الفخ، ويزور الشيخ ويأخذ عنه (الوسيلة). وهنا يصير مريداً ممن يرزقون الشيخ، ويؤدون إليه كل ما هو في حاجة إليه من طعام وشراب ومن نقود ومتاع

ولقد مد الشيخ أحبولته مرة أخرى فاصطاد رجلا مخلصاً بسيطاً، طيب القلب. يقال له (علاّل)، وكان هذا عاملا مجداً يدر عليه عمله كسباً وفيراً، وخيراً كثيراً. وكان سمحاً كريماً، فكان يرزق الشيخ ويقوت عيال الشيخ، ويجزل له العطايا والهبات. فلم يكن يشتري لنفسه شيئاً إلا اشترى مثله للشيخ، ولا قضى لنفسه حاجة إلا قضى للشيخ حاجة مثلها، فإن اشترى لنفسه رطلا من البن أو العنب اشترى للشيخ من ذلك رطلا أو رطلين اثنين، أو فصل لنفسه عباءة فصل للشيخ عباءة أحسن منها وأغلى وهلم جرا

واتفق أن صاحباً لعلاّل قدم من الحج فأهدى إليه عمامة حجازية من الحرير الغالي، فأهداها بدوره إلى شيخه، وأن صاحباً له أخر قدم من فاس فأهدى إليه (جلاّبة) من القماش الرفيع الذي يلائم مرح الشباب، ولا يصلح للشيخ الفاني، وأراد الرجل أن يرتديها فتذكر الشيخ فاشترى له (جلاَّبة) تناسب الشيخوخة ووقارها بقيمة تفوق قيمة (جلابته) الأولى، وارتداها في يوم جمعة، وما هي إلا أن رآها الشيخ عليه حتى أرسل إليه من يحثونه على أن يهديها إليه، فانتزعها لفوره من على ظهره ووهبه إياها، فأرسل الشيخ بالعمامة و (الجلابة) إلى السوق فباعهما ببعض ثمنهما؛ وشهد (علال) صفقة البيع، وظن أنهما سرقتا من الشيخ فسأل الدلال عنهما فأخبره بالواقع، فكبر عليه أن تباع (هديته) وهو يسمع ويرى، فاشتراهما للمرة الثانية، وجعل يحدث نفسه ويقول:

ترى أبلغ من هواني على الشيخ أن يبيع ما أهديه إليه؟ وما هو مصير هدياتي) الأخرى؟ أم بلغ من هوان الشيخ علي نفسه أن يتاجر بما يهدي إليه الناس؟ وعلى أية حال فأنا لا أرضى لنفسي هذا المصير. وأحس الشيخ أن الرجل قد بدا يتنكر له ويجفوه، فخشي أن يفلت من يديه، ويولي عنه مدبراً. فعزم في نفسه أمراً، وعزم أن يلعب آخر دور في الرواية، وكان يعلم أن عقيلة علال تملك حلياً ومصوغا ومبلغاً من المال، فدبر للاستيلاء على ذلك حيلة من عمل الشيطان، فبلغ بها ما أراد. وذلك بأن أرسل إليها نساء ماكرات من اللائى قد أعدهن لمثل هذا الأمر، فقلن لها: إن سيدنا يقرئك السلام، ويقول لك يا بنيتي إني

ص: 46

أرى في المنام أنك كنت مضطجعة نائمة، فجاءت امرأة أخرى فاختطفت منك غطاءك الذي يغطيك وكان من الحرير الأبيض بياض الثلج، فوثبت أنت من سريرك فزعة مذعورة تستغيثين وتملئين الدنيا ولولة وصياحاً:) غطائي! ستري! غطائي! ستري!) فاجتمع عليك خلق كثير، فكان اجتماعهم هذا ضغثاً على إبالة، وزاد في مصابك ولوعتك أن أحداً منهم لم يتقدم لإغاثتك، حتى جئت أنا وانتزعت من الغاصبة غطاءك ورددته عليك. ثم قلن لها إن تعبير هذه الرؤيا هو أن امرأة أخرى ستأخذ منك زوجك ولا يرده عليك سوى سيدنا، وهو يستطيع أن يدفع عنك هذا البلاء سلفاً من الآن، بشرط أن تدفعي إليه ثلاثة آلاف فرنك مقدماً. فرجعت السيدة إلى نفسها تبحث حياتها الزوجية فلم تعثر على أدنى شيء ينبئ بصدق هذه الرؤيا فلم تطاوعها نفسها أن تتهم زوجها ظلماً بغير حق أو أن تظن به الظنون، وهي ما علمت عليه من سوء. فلم تكترث لهذه الرؤيا، وقالت إنها أضغاث أحلام. ولكن الشيخ كان جاداً غير هازل، فدس إلى فتاة من الفتيات اللائى ينتمين إليه من أوهمتها أن الشيخ قد دعا الله لها أن يرزقها زوجاً كريماً، وأن الله قد استجاب له فيها، وقال: (إني أرى في المنام أن فلانة قد زُفت إلى علال في احتفال رائع مهيب. وكانت هذه من الآنسات العانسات، ففرحت وأعطت الشيخ من العطاء الجزيل ما أرضاه، وجعلت منذ ذلك اليوم تعرض لعلال، وتبدي له من زينتها تفتنه وتغريه حتى وقعت من نفسه، ومال إليها، وشرع الشيخ يمهد لها الطريق، فدس إلى علال من يهدمون عليه أسرته الهانئة السعيدة، ويملؤون سمعه بما يفرقون به بين المرء وزوجه. وما هي إلا أن وقع بين الزوجين خلاف بسيط حتى أخرج علال أم ولده من دارها وأطلق سراحها. وسرعان ما التف به أعوان الشيخ وأحكموا الصلة بينه وبين الفتاة العانسة، وعقدوا له عليها من ليلته عقدة النكاح

وأتى على المطلقة حين من الدهر تجرعت فيه طعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً، وذاقت من مصائب الدهر وأرزائه ما لا يعلمه إلا الله، فلقد خسرت زوجها على حين غفلة، وهي أشدّ ما تكون حباً له واطمئنانا إليه، وإخلاصاً له وحدبا عليه. وهي تخشى أن ينتزع وحيدها من بين أحضانها، وهي لا تُطيق أن تتحطم سعادتها وهناءتها ليتم هناء عدوتها؛ ولقد فكرت في الانتحار، وهمت به مراراً لولا إبقاؤها على وحيدها، ولكنها التجأت أخيراً إلى الشيخ مذعنة طائعة، قد أسلمت له وجهها، وفوضت إليه أمرها، ترجوه أن يعيد إليها زوجها، وله

ص: 47

بعد ذلك ما يشاء ويختار، فرفع القيمة هذه المرة، وجعلها عشرة آلاف فرنك تدفعها إليه نقداً. وبعد توسلات ومساومات رضي فتسلم منها خمسة آلاف نقدته إياها، وباعت فيها بعض ما تملك من حلي ومصوغ. وقعدت في دارها تنتظر النتيجة على أحر من الجمر

وطفق الشيخ يتودد إلى (علال) ويلاطفه حتى نسى الماضي القديم، وأحله من نفسه محل الثقة والرضى. وما استيقن الشيخ من الرجل حتى قال له ذات يوم - وهما على انفراد -: يا بني إني أرى في المنام أنك لست بخير في أهلك هذه التي لم تتعظ بكونها قضت زهرة أيامها عانسة بائرة، فقد حادت عن طريق الشرف والاستقامة من غير أن تحفظ لك غيباً أو تعترف لك بجميل. وأنا كما تعلم إذا رأيت الرؤيا جاءت كفلق الصبح. وكان الشيخ قد أوعز إلى بعض أعوانه فأخبروا علالا بأن عرضه أصبح مضغة في الأفواه، تلوكه ألسنة السوء، وأن النساء في الحمامات وفي الولائم والمناحات يسلقن أهله بألسنة حِداد. فما كذب الرجل فيما سمع، وأسرع إلى (خيْرةَ) ففك عصمتها وأعلنها بطلاقها، وهي ما تزال بعدُ عروساً في خدرها، ولم ينصل خضابها. وغدا عليه الشيخ في وجوه من أعوانه وشركائه 0يتوسل إليه) أن يراجع زوجته الأولى، ويقول له: يا يني إني أرى في المنام أن جبريل عليه السلام قد زوجكها من فوق السموات العلى، فأذعن الرجل، ولم يكد ينقضي يومه ذاك حتى كانت قد جليت عليه مرة أخرى

لقد اطمأنت (خيرةُ) إلى الأيام، وحسبت أن زواجها هذا قد جعل حداً لوحدتها وشقائها، وظنت أنها بهذا الزواج مقبلة على حياة منزلية هانئة سعيدة لا حزن فيها ولا عناء فإذا بها تتلقى هذه الصدمة العنيفة القاسية الأليمة التي لا رحمة فيها، فتملأ نفسها حيرة واضطراباً، وتملؤها ظلمة ويأساً، فلم تطق الصبر ولا الاحتمال، فتحنق وتثور انتقاماً لنفسها، فإذا هي تنقم من نفسها، وقد ضلت السبيل، واندفعت في الغي وسقطت في الهوة التي لا قرار لها

وأراد الشيخ أن يحج إلى بيت الله الحرام لا إيماناً واحتساباً لأنه ممن يزعمون أن زيارة الضريح الفلاني تعدل عند الله ثواب حجة وعمرة معاً؛ ولكنه يريد التكسب والارتزاق، فطاف على الناس يستعينهم على الحج، فيزعم لهذا أنه سيدعو له الله تعالى عند البيت المحرم، ويزعم للآخر أنه سيستغفر له عند مقام إبراهيم، ويتناول على ذلك أجره سلفاً. أما الذين يستلمُ منهم سلفاً أثمان (الأردية) و (العمائم) و (السبحات) وما إلى ذلك مما سيحمله

ص: 48

لهم معه من الحجاز فهم كثيرون جداً، لا يكاد يأخذهم إحصاء. وانتهى به المطاف إلى ضحيته (خيرة) فدخل عليها وهي في منزلها، وقد أثرت من حياتها الجديدة الماجنة وأصبحت ذات مال فخجلت لمرآه وأدركها الحياء، غير أنه أخذ يزين لها ما هي فيه، ويزعم لها أن الله قد غفر لها جميع ما اكتسبت من الخطيئة والإثم. وقال لها: يا بنيتي إني أرى في المنام أن سيد الوجود (ص) يقول لك: طوفي بالبيت العتيق وزوري قبري تخرجي من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، فإن لم تستطيعي إلى الحج سبيلا، فليحج عنك هذا الرجل الصالح (يعني الشيخ نفسه). ولم يزل بها حتى آمنت له، ودفعت إليه سائر النفقات ليحج عنها. فلما آب جاءها ببعض الهدايا مكتوباً عليها:(إلى الحاجة خيْرة)!

كان الناس في بحبوحة من اليسر والرخاء تملأ أيديهم الدراهم والدنانير فكان الشيخ في نعيم وعيش رخيم، يأتيه رزقه رغداً من كل مكان: هذا يعطيه رطلاً من اللحم ويحمله له راتباً يومياً، وذاك يعطيه شيئاً من الخضر والفواكه، ويجعله له عطاء غير مجذوذ، وذلك يهدي إليه قنطاراً من السميد، ويجعلها له جراية شهرية وهكذا الخ الخ، فكان إذا دخل السوق خرج منها و (قفته) ملآى - مجاناً - بكل ما هو في حاجة إليه. فلما أعسر الناس، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم من شدة ما يعانون من ضنك وضيق نضبت موارد الشيخ، وانقطعت عنه الرواتب والعطايا، ولم يعد يملأ (قفته) بالمجان، ولم يعد يلتمس لنفسه صدقة جارية عند أحد الباعة إلا وجدها قد بطلت. وقطعت الأزمة دابرها، فالأزمة إذن هي السبب الأول في مصاب هذا الشيخ، وزملائه من الأشياخ، فإن كان لابد لهم أن يلوموا هذه الأزمة الخانقة، وليلوموا بعدها هذه اليقظة الشاملة التي شملت الدنيا كلها، ثم يأتي بعد ذلك دور هؤلاء المصلحين

(وهران)

محمد السعيد الزاهري

ص: 49

‌الحياة الأدبية في الحجاز

بقلم عبد المجيد شبكشي

كان الأدب العربي مثال الكمال والروعة والازدهار والانتشار في دولة الأمويين وفي صدر الدولة العباسية. وكان نصيب الحجاز من هذا الازدهار طيباً مرموقا، واقتضى خلوه من الأحداث السياسية أن يحيا مغموراً حتى تجرد من العلم والثقافة وصفر من الرجال الممتازين، وعملت الهجرة على محو مقوماته ومميزاته

ثم بدرت بادرة من بوادر النهوض ونسمة من نسمات الحياة بعد فنفخت في الحجاز روح اليقظة الفكرية فأخذ يسترجع ماضيه بفضل جهود البعض من أبنائه المخلصين الذين جرى في عروقهم الدم الحجازي الحر فتأثروا لتدهوره تأثراً قوياً جعل قلوبهم تتقطع أسفاً وحزناً على الماضي العزيز الذي ذهب هباء منثوراً وغرق الحجاز بعده في الجهالة وأضاع تراثه المجيد

سرت اليقظة في أفكار بعض شباب الحجاز وأحسّوا بالواجب الوطني وتنبهوا إلى فضل الأدب في نهضات الشعوب فتأسست لجان للاجتماع، ونواد للأدب حيث قاموا فمثلوا حركة أدبية لا تشوبها شائبة بالنسبة إلى تلك الحالة وبالنسبة أيضاً لعدم وجود مؤهلات كافية لدرس الأدب، حتى المدارس كانت إذ ذاك بسيطة جداً يتخرج منها التلميذ وهو لا يعرف من مواضيع الحياة شيئا

ثم جاء دور التكوين للنهضة الفكرية وكان ذلك قبل عشرة أعوام تقريباً نظم في خلالها أدباء الحجاز الشعر وكتبوا النثر ونشروا نماذج منه وأعلنوا عن أفكارهم وسجلوا آراءهم، فشعر الحجاز حينذاك بدبيب الحياة يتمشى فيه، وأحس بجمال الأدب والفن معاً، وحينذاك قام أحد أدباء الحجاز البارزين وأصدر كتاباً أدبياً يضم بين دفتيه مختارات لأدباء الحجاز فأثبت للأمة أن هناك أدباً راقياً يدعى الأدب الحجازي. وقد تجد في هذه المجموعة روح الحجاز الأدبية ممثلة من حيث صحة النزعة وبساطة التفكير وجماله، فكان عمل هذا الأديب بشير يقظة فكرية منظمة، وقد كان الأدب الحجازي في ذلك العهد بسيطاً شأن كل شيء في بدايته. ولكن الأفكار كانت سائرة مع الحياة متأثرة باتجاهها فلم يمض وقت طويل حتى نضجت تلك الأفكار، وازدهر الأدب بعض الازدهار، ولولا ما نشأ بعد من عوائق

ص: 50

شتى وقفت بالحرية الفكرية بعض الشيء لاضطرد تقدمها. ونستطيع أن نقول بحق إن الموفقين من شباب الحجاز في الناحية الأدبية قليلو العدد جداً، والكتاب البارزين في الحجاز لا يزيدون على عشرة، ولكن أقلامهم الممتازة هي التي صورت مبلغ تأثر الحجاز باليقظة الفكرية ومدى إدراكه. أما قراء الأدب فكثيرون وهم ممن أنجبتهم المدارس الحالية، وهؤلاء بلا شك يرجى لهم مستقبل طيب مرموق

والحجاز اليوم بفضل الله ثم بفضل جهود أبنائه المخلصين متقدم بخطوات واسعة إلى الأمام، وميال إلى احتذاء أدب مصر ونزعتها الفكرية، ولا غرابة إذ شابه البعض من أدباء الحجاز بعض أدباء مصر في روحهم الأدبية وصار يكد ويجتهد في الحصول على ما يريده فوق ذلك من المثل الأعلى حتى يدرك المرمى الذي يقصده!

والأدب الحجازي اليوم رمز لما في أفئدة الحجازيين من عواطف وإحساس وحب وولاء، ولما في نفوسهم من شعور وكرم أخلاق، ولما في ضمائرهم من مبدأ واستقامة وغرام عميق بالحرية. وتختلف الأوساط الأدبية اليوم باختلاف قوتها ومداركها وتطورها وتجددها وبما يستتبعه هذا الاختلاف من تأثر بأساليب النقد البريء والتأمل الممتع والبحث الناضج، أو النقد المتهافت والنظرات الجوفاء والبحث الضعيف الخ، وهذا الاختلاف يعطينا صورة واضحة للتطور والتجدد في الأفكار تتحد مع نواميس الكون في نشوئه وتطوره. وليس غريباً على الحجاز أو الحجازيين أن يتأثروا بمؤثرات هذا العصر الحديث وفنونه ونزعاته، وأن تكون حياتهم ميالة إلى اقتباس أساليب جديدة في الحياة والأدب، فإن ذلك من بوادر النجاح وأسبابه، وهو دليل اليقظة، ونؤمل أن ينال الحجاز نصيبه من التقدم والشهرة والحرية التي هي من مبادئ الحياة الصحيحة في هذا العصر. على أن هذا الروح الأدبي السامي المتمثل اليوم في الحجاز حسب ما هو مشاهد وملموس هو بلا شك تأثر صحيح ومعقول، وهو المأمول أيضاً لبلاد لها ماض أدبي حافل

وأدباؤنا يشعرون ويتأثرون بعوامل الحياة الفكرية ويجيدون التصرف في فنون القول ويبدعون في سبك العبارات ووضعها في قالب من الحكمة والذوق ليحوزوا قصب السبق في معترك الحياة الأدبية وليرفعوا اسم بلادهم عالياً، وهذا ما يرجوه ويناصره كل أديب حجازي وهب موهبة الإحساس والشعور بالحياة وفرائضها - وليس ولله الحمد ثمة ركود

ص: 51

ولا فتور في النفوس والأفكار

(مكة)

عبد المجيد شبكشي

ص: 52

‌صورة من الحياة العلمية في مصر

4 -

تقي الدين السبكي

بقلم محمد طه الحاجري

تتمة

ولقد خلفت له هذه الولايات متاعب غير قليلة، وأثارت عليه دفائن من الحقد وسخائم القلوب، فقد نقم عليه ولايته قضاء الشام قوم من أهلها كانوا يطمعون فيها؛ وأخص هؤلاء أسرة جلال الدين القزويني قاضي قضاة الشام من قبل، وطبيعي أن يأخذ ذلك الحقد سبيله من السعاية والوشاية والتحريض عليه والتنفير منه؛ ثم كانت ولايته لخطابة الجامع الأموي مما زاد الأمر ضغثاً على إبّالة؛ فقد كانت الخطابة في بيت القزويني كذلك، ويقول زين الدين عمر بن الوردي في تاريخه:(لما توفي الخطيب بدر الدين محمد بن القاضي جلال الدين القزويني خطيب دمشق تولى السبكي الخطابة، وجرى بينه وبين تاج الدين عبد الرحيم أخي الخطيب المتوفى وقائع، وفي آخر الأمر تعصبت الدمشقة مع تاج الدين، فاستمر خطيبا). وكذلك أغضبت ولايته مشيخة دار الحديث الأشرفية قوما من أهل الشام كانوا يرشحون شمس الدين بن النقيب، ولقد سيقت إليه هذه الولاية وهو كاره، إذ كان قد رأى أن الذهبي هو الأحق بها وقد عينه لها، لولا سلطان الشهوات كما سنرى ذلك

هذا وجه من وجوه الحالة في الشام، وقبيل مما كان يسبب له المتاعب والآلام؛ وهناك وجه آخر يتعلق بما أشرنا إليه من قبل عما أوجده مذهب ابن تيمية من تفريق وخروج على المذهب الرسمي السائد

وقد رأينا أن اختياره كان منظورا فيه إلى تلك الحالة من السلطان، ونقول الآن إن القوم في دمشق كانوا يرون فيه ذلك أيضا، وكانوا يأملون أن يخلصهم من آثار (الحنابلة) وما أثاره زعيمهم القوي الجديد؛ ولعل المطامع الشخصية حسبت في ذلك سلما يمكن أن ترتقيه وتصل إلى أغراضها في مظهر ديني سابغ؛ ولكن تقي الدين كان أحكم من أن ينخدع بمثل هذا، كما كان أكبر من أن يخلط في تقدير الأمور؛ فأغضب الطامعين ولم يرض جماعة المتشددين المتكلفين

ص: 53

وهنا يحسن بنا أن ننقل نص ما حكاه التاج السبكي عن أبيه في أثناء ترجمته للحافظ أبي الحجاج المزي، ففيه صورة دقيقة حية لما حن بصدده، قال:

(. . . . وحكى لي، فيما يحكيه من تسكين فتن أهل الشام، أنه عقب دخول دمشق بليلة واحدة حضر إليه الشيخ صدر الدين سليمان بن عبد الحكم المالكي - وكان الشيخ الإمام يحبه - قال دخل إلي وقت العشاء الآخرة، وقال أمورا يريد بها تعريفي بأهل دمشق، قال: فذكر لي البرزالي وملازمته لي، ثم انتهى إلى المزي فقال: وينبغي لك عزله عن مدرسة دار الحديث الأشرفية، قال الشيخ الإمام: فاقشعر جلدي، وغاب فكري، وقلت في نفسي: هذا إمام المحدثين! والله لو عاش الدارقطني لاستحيا أن يدرس مكانه! قال: وسكت، ثم منعت الناس من الدخول على ليلا، فقلت هذه بلدة كثيرة الفتن؛ فقلت أنا للشيخ الإمام: إن صدر الدين المالكي لا ينكر رتبة المزي في الحديث، ولكن كأنه لاحظ ما هو شرط واقفها من أن شيخها لابد أن يكون أشعري العقيدة، والمزي وإن كان حين ولي كتب بخطه أنه أشعري، إلا أن الناس لا يصدقونه في ذلك فقال: أعرف أن هذا هو الذي لاحظه صدر الدين، ولكن من ذا الذي يتجاسر أن يقول: المزي لا يصلح لدار الحديث؟ والله ركني! ما يحتمل هذا الكلام!

فأنت ترى أن أول ما ووجه به السبكي في الشام هو الإنكار على البرزالي والمزي وإضرابهما، ممن يتهمون بالميل مع ابن تيمية وأن أول ما تقدم به إليه فقهاؤها هو (إعلان الحرب) على هؤلاء، وموقف السبكي من هذا موقف نبيل مجيد، فقد رأى الأمر فتنة لا ينبغي أن يفتتن فيها مع المفتونين، فركن إلى دينه وضميره، وترك بنيات السبل، ولم يعبأ بهذه الصغائر وما تنطوي عليه من إنذار وتهديد، ولبث مصاحبا للبرزالي ملازما له، إلى أن خرج إلى الحج وقضى نحبه، ثم ما فتئ يذكره ويثني عليه أطيب الثناء، وأقر المزي في مكانه بدار الحديث إلى أن مات سنة 742هـ، وكان يكبره غاية الإكبار، ويحث ابنه على ملازمته والانتفاع به، لا يصرفه عن ذلك تقولات المتقولين ولا ازورار المزورين

ولما مات المزي كان ثمت مظهر آخر من مظاهر هذه الفتنة في تعيين خلف له، فقد كان الذهبي هو وحده البقية الباقية من رجال الحديث الجديرين بتولي مشيخة (دار الحديث) ولكنه كان متهماً بمشايعة الحنابلة شيعة ابن تيمية، فمال عنه القوم لذلك، ورشحوا شمس

ص: 54

الدين بن النقيب، ودعوا له ولجوا في الدعوة. أما السبكي - وإليه حق التعيين - فلم يغلبه الهوى على الحق، ولم تأخذه في سبيل العلم عصبية، ولم يبال بصياح الصائحين، فعين الذهبي في ذلك المنصب. وهنا اشتدت ثورة القوم وعلا صخبهم، وهو مصر على رأيه حتى لم يبق بد من حضور نائب الشام وكان في ذلك الحين (الطنيغا)، فلم يستطع التوفيق. وأخيراً رأى شيخ الحنفية أن تحل الأزمة بأن يتولى المشيخة السبكي نفسه، ووافق الأمير على هذا الرأي وهو يقول:(أعلم الناس بهذا العلم الذهبي وقاضي القضاة، وقاضي القضاة أشعري قطعا، وقطع الشك باليقين أولى.) وانتهى الأمر على ذلك بعد أن كاد يفضي إلى فتنة لا يعرف مداها

فموقف السبكي هذا من شيعة ابن تيمية وإغضائه عن العصبية المذهبية هذا الإغضاء وعدم مسايرته الأشاعرة في كل ما يشتهون أفسح المجال أمام المنخرصين، ومكن الحقد من أن يجد سبيله معبدا بين جمهور الناس وفي مجالس الخاصة، ولاسيما في مجلس الأمير نائب دمشق، ففسدت الصلات بين الشيخ وبين أغلب الذين تولوا نيابة الشام، وكثيراً ما قامت الحرب بينه وبينهم، وما كان يطفئها إلا ما كان ولاة ذلك العهد معرضين له من العزل الوشيك أو القتل المفاجئ

على أن السبب الأول في توتر العلائق بينه وبين النواب يرجع - في حقيقة الأمر - إلى صلابته في الحق، وصراحته في تقريره، وتقديره لقدر منصبه، واعتباره إياه حرماً لا ينبغي لأحد أن يتطاول إليه أو ينال منه؛ فهو الحفيظ على الحق الذي جاء الشرع ببيانه؛ فكل تفريط فيه، أو تعريض له، أو ملاينة في تنفيذه فإنما مردها إلى هذا الشرع الذي يقدسه، وحاشاه! وكان الولاة من ناحية أخرى، قوماً عجما، أدعياء في الدين، لا يتعدى إيمانهم مظهرهم، ولا يعرفون الحق إلا أمراً ينفذ، وشهوة تقضى، وعتواً واستكباراً في الأرض، إلا قليلاً منهم. ثم كان يزيد اضطراماً ما كان يلقيه فيها من السعايات والنمائم من كانوا يداخلونهم من أهل الشام، ومنهم بعض العلماء مثل شهاب الدين العمري الذي كان يقع فيه في مجلس الأمير ايدغمش ومما يدل على دسائس القوم عند الولاة أن أحد هؤلاء الأمراء، واسمه فيما يورده صاحب الطبقات (طغره تمر) كان فيما يقول من أصحب الناس له في مصر، فلما جاء إلى الشام غيّره عليه الشاميون، وأعانهم عليه امتناعه من امتثال

ص: 55

أوامره

ولقد هم السبكي مرة أن يستقيل من منصبه، وكان ذلك في ولاية ايدغمش سنة 742، وكان قد بلغ في معاندته وإيذائه مبلغا كبيرا. ولكنه يظهر أنه رأى في هذه الاستقالة تحقيقا لشهوته، وتخليا عن واجبه، فعدل عنها واستمر في مجاهدته. وأراد ايدغمش أن يتخلص منه، وأن يلتجئ إلى دعوى الدين في محاربته، فجعل يجمع الفقهاء للفتوى عليه - وما كانت تعوزهم مقدمات الإفتاء - وكاد الأمر يتم للنائب لولا أن جاء (البريدي) إلى الشيخ يطلبه إلى باب السلطان في أمر من الأمور، فذهب إلى مصر، وهناك أوجد أزمة غير هينة الحل؛ فقد أصرّ على ألا يعود إلى الشام وفيها ايدغمش، وليس من اليسير عزل نائب من أجل قاض مهما علت منزلته. ولكن القدر كان أسرع إلى حل هذا الأزمة وأقضى فيها من كل تدبير وقضاء، فقد جاء الخبر بموت ايدغمش موت الفجاءة، وعاد الشيخ إلى دمشق يعيد سيرة الحق المجاهد الظافر

وممن آذاه وأضجره نائب اسمه (أرغون شاه)، تولى نيابة الشام سنة 748، ويروى أن الشيخ كان يمسك بطرزه ويقول له:(يا أمير! أنا أموت وأنت تموت!) وتأمل أنت في هذا قوة الإيمان والجرأة في الحق. وقد ظل ذلك الرجل في نيابة الشام سنتين ثم قتل

كان آخر هؤلاء النواب أرغون الكاملي، وكان رجلا فظا غليظ القلب. وقد حكى تاج الدين أن أباه (حكم مرة في واقعة جرت وصمم فيها، وعانده أرغون الكاملي نائب الشام وكاد الأمر يطلخّم شاما ومصر، فقد ذكر القاضي صلاح الدين الصفدي أنه عبر إليه وقال: يا مولانا! لقد أعذرت، ووفيت ما عليك؛ وهؤلاء ما يعملون الحق؛ فلم تلق بنفسك إلى التهلكة وتعاديهم؟ فتأمل ملياً ثم قال:

فليت الذي بيني وبينك عامر

وبيني وبين العالمين خراب

ويا عجبا لتلك الشيخوخة التي لا تزيدها الأيام إلا صلابة وقوة، وذلك الإيمان الذي لا تزيده مظاهر القوة إلا غلبة واستعلاء

وهكذا كانت حياة تقي الدين السبكي في الشام: ملجأ للحق يلوذ به ويعتصم، ومثالا للخلق القوي الذي لا يتثلم، وآية من آيات الله على قوة الروح الإنسانية متى خلصت من الرعونات والترهات فلا يغلبها غالب

ص: 56

ولقد كان الحنين إلى الوطن يهز الشيخ هزا، فذهب إلى مصر، وخلع عليه سلطانها، ثم عاد منها إلى دمشق سنة 754 (1353م)

وفي ذي القعدة سنة 755هـ (1354) نال منه الضعف وأدركه المرض؛ ولما اشتد عليه استخلف على قضاء الشام ابنه تاج الدين، فتقلده. وكان في أثناء مرضه شديد اللهف على العودة إلى وطنه عظيم الحرص على أن يدركه فيها أجله؛ فسافر إلى مصر ولبث فيها أياماً يكابد العلة، حتى أدركته الوفاة ليلة الاثنين 3 جمادى الآخرة سنة 756 (10 سبتمبر سنة 1354م) وخلف ميراثا جليلا ضخما مما صنفه في كثير من الفنون، وميراثا آخر أجل وأضخم في ابنيه العلامتين: بهاء الدين وتاج الدين. ولعل الله يوفقنا لدراسة حياتيهما، ورسم صورة لهما

كلية الآداب

محمد طه الحاجري

ص: 57

‌قرب الموتى

للأستاذ عبد الرحمن شكري

يا روح إِلف أليف الموت والحُفَرِ

قومي اسألي عن أليف الهم والسهرِ

أو فابعثي هاتفاً بالليل يؤنسني

لو كان لِلْمَيْتِ من شوق ومن ذِكَرِ

وحَلِّقي فوق قوم كنتِ زينتهم

كالطير تهبط فوق الوكر في الشجر

فإن نورك نور النجم يرشدنا

ورحلة العيش تحكي رحلة السفر

أو كالملاك تهدي وهي خافية

وتُشْعِرُ النفس طُهْراً ليس في السِّيَرِ

عجز عن الشر لم أبصره في نفر

يا شر ما خَلّفَ الأحباب من نفر

غرارة ربما لو عشتِ ما بقيت

إذاً عداك الردى عن مهبط البشر

هل تلك طبع الصبا تودي الحياة به

لا بل غرار فؤادٍ غير ذي نُكُر

فصانك الله في أمن وفي كَنَفٍ

وقُدْسِ طُهْر كصون المرء للذخُر

كأنما أنتِ ذُخْرٌ لا يجود به

على الدُّنَى وهي من ضَيْر ومن أشر

ما أقرب الميت من حي وإن بعدت

مكانة بين هذا الوِرْدِ والصَّدَرِ

إن الأولَى خلفونا بعدهم ومضوا

ما خلَّفونَا وإن غابوا عن النظر

هم في الأمانيِّ والأرواح والذِكَرِ

منا وفي القلب والأشجان والفِكَر

فكيف نجزع من فَقْدٍ وما انتقلوا

إلا إلى النفس حرزا ريْم مِن غَيِر

يا قرب دارهمُ من واصل لهمُ

بالنفس إن لم يكن بالعين والأثر

ووحشة النفس من حيٍّ يغايرها

أشد من وحشة في السمع والبصر

من حاضرين وإن ماتوا وإن بعدوا

وإن غدوا كحديث الركب والسمر

ورب ذكرى تعيد المَيْتَ في شبح

يكاد يُلمَسُ لولا رادع الحذر

ماض من الدهر والأقوام يخبرنا

أن لا مسافة بين المهد والحُفَر

عبد الرحمن شكري

ص: 58

‌زهرتي المختارة

بقلم الياس قنصل

يا زهرتي العاطرة الناضَرهْ

هل شوّهتْ كفُّ البلى حسنَكِ؟

جنتكِ في الليل يدٌ جائره

لو أنها تمثلتْ حزنَكِ

لفرقتي، ما سبَّبتْ بينَكِ

يا زهرتي جملّكِ المبدعُ

لتبدعي البهجةَ في روضتي

ورصعَّت ذاك إليها أدمعُ

من الندى الباكي بلا مقلةِ

لتسكبي العزاء في مهجتي

يا زهرتي عنكِ سينأى الفتونْ

وقد نأيت عن حمى الشاعر

وبعد أن كنتِ مقرّ العيونْ

ستستحين من فتى ناظر

يعرضُ عن جمالك الفاترِ

أما أنا يا زهرتي، فالأسى

أنْشَبَ في جوانحي مخلبَهْ

أبعدكِ الدهرُ وقلبي احتسى

من المرار أكؤساً مصئبَهْ

أربتْ على أناتّه المرعبَهْ

يا زهرتي كيف أعزي الزهور

إذا رأين عرشك الخاويا

تطوف حوله بقايا العبيرْ

هامسة: ولىّ القضا نائيا

بها، وغادر السنا باكيا. . .

والطيرُ إن تسألْ، فماذا يكونْ

لها جوابي عند تغريدها

كم رفرفت فوقك بين الغصونْ

وأسمعتْكِ من أناشيدها

نجوى، جلالها بترديدِها

يا زهرتي ليهنأ السارقُ

بما حبتْه روضتي من أريجْ

وليغتنم نضرتَكِ الرامقُ

وليسكر النفسَ بحسن بهيج

ففي ثناياكِ بهاه يموجْ

يا زهرتي كذا أرادَ القضاءْ

بحكمهِ، فحزنُنا لا يفيدْ

ويأسنا يبعدُ عنا العزاءْ

ويجعل العيشَ بهذا الوجودْ

ص: 59

حشرجةً، فيها العناءُ الشديدْ. . .

(عاصمة الأرجنتين)

الياس قنصل

ص: 60

‌الليلة الثانية عشرة

- 2 -

المشهد الثاني: على ساحل البحر

(تظهر فيولا والقبطان والبحارة)

للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير

فيولا: أيّ بلاد هذه؟ رفقتي!

القبطان: إيليريا!

أخي بِإلّيسيِومُ!

بجنّة يخلد سكانها

ويكمل الأنس بها والنعيم

مالي وإيليريا!. . مَهٍ!. . علَّه

مثلي نجا؛ هل مستحيلاً أروم؟

معُجزةٌ للحظِّ أن تسلمي!

فيولا:

بمثلها الحظ لصِنوي كريم!

القبطان:

صدقتِ يا سيدتي، إنني

أعضُد رَجْواكِ، وربي عليم

لما طغى الماء على فلكنا

وزاغ منكم عن حِجاَه الحلم

وَأُدْتُم الزورقَ حتى لقد

كاد من الكظَّة ألا يعوم

رأيته يسبح في لجةٍ

تهوي به حيناً وحينا تقوم

رجاؤه شدَّ بأعضاده

وأنَّه ذاك الشجاع العزوم

فشد كفَّيه إلى قائم

في البحر ضمَّ الطفلِ صدر الرؤوم

كأنه (أريان) مستمسكا

بظهر ذاك الحيوان العظيم

والهائجُ المحنَق من حوله

قد راضه فهو وليّ حميم!

راقبته ما أسطعتُ حتى اختفى

عن ناظري تحت ظلال الغيوم!

فيولا:

ص: 61

شكراً لما طَمْأَنْتَ، علَّ السَّما

تجمع قلبين بقلب رحيم!

سلامتي أوحت - وأيَّدتَ ما

أوحته لي - أن ابن أمّي سليم

أتعرف هذي البلاد؟

القبطان: أجل

بلاديَ أعرفها جيّدا

ثلاثٌ من السَّاع تكفي لتُوْ

صِلَنا منشأي ثَمَّ والمولدا

فيولا: ومن يَتَّلى حكمهَا؟

القبطان: سيّد

زكا خُلقاً، وسما محتدا

فيولا: وماذا اسمه؟

القبطان: أُرِسِنُو

فيولا: أُرِسِنُو؟

أبي كان سمَّاه لي مُحْمِدَا

وأعزبَ كان!

القبطان: وأعزبَ لَمْ

يَزَلْ؛ فقريباً توَّشى الصَّدى

بإِغْرامِهِ بأوليفيا الجمي

لةِ

فيولا:

ما هي؟

القبطان

عذراء مثل النّدى!

أبوها شريف قضى منذ عا

مٍ وأوصى بها نجلَه الأوحدا

أخاها الحبيبَ إليها الذي

به بعد ذلك ثنيّ الردى

فآلت أسًى لا ترى أو تعا

شِر مِن بعده رجلا أبدا (؟)

فيولا:

ويحَهَا مِن مسكينة! آه لو أخْ

دمُها! ربما أُسرِّي أساها

ربما أستطيع أن أنُصرَ الحبّ

وألقي بذوره في رُباها

وأرِيها صوابَها في هوى الدو

ق، وأُنشي دنياه في دنياها

ريثما تستقر حالي، ويُدرَى

مَنْ أنا

القبطان:

خطةً مُحالا أراها

إِنها حرَّمت على رُسُل الخطّا

ب طرًّا أن يَقربوا من حِماها

ص: 62

لن ترى وجه طارق منهم قط

ولا الدوق نفسه إِنْ أتاها

فيولا:

لك يا سيدي شمائل غُرٌّ

لا تراها عينٌ فلا تَهواها

غيّبت فيك باطناً من معاني

ها، وحلّتك ظاهراً من حِلاها

لا تَلُمْ إن قلتُ: الطبيعة حاَبتْ

كَ، وقل لي هل أنت ممن رشَاها؟

ليس هذا من دأبها؛ فهي تكسو

حيَّة الروض لينها وبَهاها!

وإليك اطمأن قلبي، وما أح

سب نفسي تضِلُ فيك هداها

كنِ عمادي في خطة ربمَّا تص

عب، لكن لا شك في جدواها

وسأجزيك ما تطيب به نف

سُك مما ينالني مِن جَنَاها

زُرْ بي الدوق في كساءِ وصفٍ

عارضاً خدمتي لكي يرضاها

فكأني وقد تسربت كالما

ء جرى بين نفسه ولِحَاها

واصطفاني لنفسه، وشكاني

مطمئنَّا من هّمهِ ما عَناَها

وسرت في أعماقها رُوْحُ ألحا

ني فهزَّت أوتارَ موسيقاها

واطَّبتْه فصاحتي كَرسول

نحو اوليفيا يُذيب صَفَاها

كنْ لِسرّي قبرا؛ وأَترك حالي

لليالي تختارُ لي عُقباها

القبطان:

نَفّذيها؛ وفي قرارة نفسي ال

سِر لن ينتهي إلى أدناها

إن أُحِرّك به لساني فلا التذّ

ت عيوني بنُورها وكَرَاها!

فيولا: لك شكري، هيّا بنا!

القبطان: ربّ سَدِّدْ

مِن خُطاهُ! ولا أقول: خُطاها!

علي أحمد باكثير

ص: 63

‌دراسات أدبية

في الأدب الإيطالي الحديث

بقلم محمد أمين حسونه

- 3 -

تألق نجم بيراندللو بعد النجاح العظيم الذي أحرزته روايته (المرحوم ماتياس باسكال)، وكسفت شمسه أسماء الروائيين المعاصرين، وبدأ النقدة يتحدثون عن فنه ويولونه اهتمامهم، ثم اختير ليشغل كرسي أستاذ الأدب الإيطالي بالجامعة وانتعشت حالته المالية بما أمكن أن يمحو من سجل حياته بعض المتاعب المادية، وأن يسدل عليها ستار النسيان

ولكي نعطي صورة واضحة من حياة هذا الكاتب وارتباطها بفنه، نقول إن التغلب على المتاعب المادية لم يكن كل شيء، إذ هبت في بيته عاصفة عكرت الجو مرة أخرى، فأعصاب زوجته تحطمت، ونوباتها العصبية تزداد بسبب غيرتها العمياء من تلميذات زوجها في الجامعة، وقد حاول بيراندللو كثيرا أن يزيل شكوكها وأوهمها، فسمح لها بألا تعطيه من راتبه إلا بما يسمح له بابتياع سجائر أو أجر الترام، غير أن هذه المحاولات فشلت، وأخذ هذا الحيوان السام الذي يدعونه الغيرة يمتص من شبابها ودمها بعد أن قدم إليها أسلحة جديدة من الشكوك والأوهام، ولم يكن لرأي زوجها أية قيمة عندها ولا أي تأثير في نفسها. وعلى حين فجأة ذبل جمالها وانطفأ بريق عينيها، وأصبحت تعتقد أنها مراقبة ومكروهة حتى من أولادها، وأنهم جميعاً قد اتفقوا على أن يدسوا لها السم في الدسم. ولما اشتد بها الداء فكر أخواتها في إدخالها إحدى مصحات الأمراض العقلية

وكانت الحرب العظمى قد شبت واختير ابنه البكر ليخوض غمارها، وفي غضون ذلك وقع أسيرا، أما ابنه الأصغر فكانت تجرى له عملية جراحية بإحدى مستشفيات روما حتى إذا اجتاز دور النقاهة أرسل فورا إلى خطوط النار

وكانت ابنة بيراندللو تتأذى من سوء معاملة الأم لها؛ ولما فقدت الأمل في إزالة الشكوك نحوها حاولت الانتحار، غير أنها نجت، ففكرت في الهرب ودخلت أحد الأديرة لتقضي بقية حياتها بين جدرانه

ص: 64

وكان ستيفانو - والد بيراندللو - قد وصل من صقلية، بعد أن صمد دهرا في وجه المصائب، فمن موت زوجه، إلى إفلاس تجارته وضياع ثروته، إلى غير ذلك من الآلام والمتاعب التي انتهت بفقد بصره

ولما كان بيراندللو مشغولا في خلال هذه الفترة بمصير ولديه اللذين ذهبا إلى الحرب، ومضطراً إلى أن يقضي يومه بين زوجة مأفونة، ووالد عاجز ضرير، وابنة وصمته بميسم العار، كان لابد من أن تخرج هذه الأشباح المعذبة التي تسكن ذهنه، وأن يقدمها للناس في ثوب درامي عنيف يجمع بين روح الواقع وبين الخيال

وهكذا غصت المقاعد في مسرح سكالا بميلانو ليشهد الجمهور مسرحية بيراندللو الجديدة (ستة أشخاص يبحثون عن مؤلف ' التي ابتدع فيها فنا جديدا وعالما يموج بالصور والأشباح والشخصيات المجزأة

والواقع أن فترة المتاعب والآلام التي اجتازها هذا المؤلف الثائر في كافة أطوار حياته هي التي دفعته إلى أن يقول بلسان إحدى بطلاته: (ليست الأعمال إلا حقائب خاوية تملؤها أذهاننا)

وهي التي أدت به إلى أن يكره العقل، لا لأن العقل سجن، بل لأنه صدفة فارغة لا تملؤها سوى الغريزة العمياء. فالحوادث مثلها مثل الأكياس لا يمكنها الوقوف وهي فارغة. كذلك إذا أريد أن يظل الحادث حياً في الذاكرة، منتصباً بين ظلال الوعي وجب أن يكون له معنى واضح وأن تستقصي الأسباب والبواعث التي أدت إليه

حتى نظريات بيراندللو ليست سوى إنذار بهدم المنطق وإفلاس العقل وتفوق الخيال على الحقيقة. وعنده أن للأرواح لغة خاصة تتفاهم بها ووسائل تدفعها من وقت لآخر للقيام بأعمال باهرة على حين أن الشخصيات المادية لا تتجاوز في علاقاتها غير الحديث العادي

ومما يحملنا على الاعتقاد بأن نظريات بيراندللو البيسكولوجية لا تصل به إلى تفسير الناس، أنه يلجأ شخصياً إلى هؤلاء الناس لتفسير ألغازه، ولولا روح المرح والفكاهة التي تخلع على مؤلفاته ظلاً هائماً ومسحة خاصة لتباعد بينها وبين مركز الألم لكان فنه الروائي هو الجحيم والإنسانية المعذبة

لقد درس كل من إدجار ألن بو وستيفنسن نظرية ازدواج الشخصية وفوضاها في الإنسان.

ص: 65

أما بيراندللو فهو يقسم الشخصية في فنه الروائي إلى عشرة أو مائة أو ألف أو أكثر. فالفرد عنده مكون من شخصيات متناقضة كالحيوان الخرافي الذي تتحدث عنه أساطير الإغريق. وهو لا يعرف الأخلاق والعادات ولا يقدر الإرادة أو الشهوة المتغلبة لأن جميع مشاعره قابلة للتحول والتغير والتأثر

على أن أهم ما يرتكز عليه فنه ظواهر التحليلات النفسية وتعدد المنازعات. فكل شيء نظره مرجعه إلى التفسير، بل قد يجوز أن يتخذ شخص ما صورة معينة في نظر أحد محللي نفس الشخصية. وقد قال بيراندللو بلسان إحدى بطلاته في روايته (شهوة الشرف):(لا شك أن مدام أنيتا هي امرأة أخرى، وليس هذا كل ما أقوله، بل هي أخرى وأخرى وأخرى أيضاً، بعدد الأشخاص الذين تعرفهم والذين يعرفونها)

وفي عام 1922 ترك بيراندللو منصبه في الجامعة ليتفرغ للأدب والمسرح فوضع روايات: حصان في القمر، ومهزلة الموت والفخ، وأنت تضحك، وزوجها، وهنري الرابع. وسافر برفقة فرقة تمثيلية ألفها إلى عواصم أوربا ومدنها، وبمرور الزمن تراكمت عليه الأعمال بسبب إخراج رواياته على مسارح باريس وبرلين ولندن ونيويورك وبونس إيرس وموسكو، وكان لابد من أن يسافر إلى جميع هذه العواصم ليشرف بنفسه على إخراج رواياته

يقول ادريانو تلجر في كتاب نشره عن فن بيراندللو المسرحي أنه لم يتأثر في فنه بالمؤثرات اللاتينية بل يدل أدبه على أنه تأثر بأدب الشمال). وليس ذلك بغريب من كتاب الجنوب واللاتين، والكثيرون منهم أمثال داننزيو وجوزيف جيا كونرا قد تأثروا إلى مدى بعيد بأدب ابسن وطريقته في تحليل المشكلات الاجتماعية. والواقع أن ابسن سبق أن أقام فترة طويلة في إيطاليا وكان له الفضل الأكبر في تكوين مدرسة روائية مسرحية تمت إلى فنه بأقوى الصلات

أضف إلى ذلك أن بيراندللو برع في رسم مآسي الحياة وفواجع المجتمع براعة قلما أتيحت لكاتب يعاصره. وهو يتلاعب بألفاظه تلاعبا يخلع عليها وعلى أسلوبه مسحة تتفق ونظرياته الفلسفية في الإنسان والروح. وليست دراماته سوى سرد ماضيه وتصوير نفسيته، فهو من هذه الناحية لا ينحت الخيال ولا يتكلف التصوير، ولكنه ممن يروحون عن

ص: 66

أنفسهم بهذه الزفرات الموجعة

على أن الشيء الوحيد الذي يوجهه نقدة المسرح في أوربا إلى فن بيراندللو يتلخص في نقطة واحدة، هي أنه يجزئ شخصياته بما يؤدي إلى هدم أساس الحياة والجنس البشري، فبعض الشخصيات التي يضعها وسط الخيال تؤدي إلى ضياع الفكرة التي ينشدها الفن المسرحي لاسيما وهو بعد الخيال حقيقة لا خطأ. ولو اعتبرنا الخيال واقعياً لوجب علينا بطريق الاستنتاج أن نعتبر الخيال والواقع متساويين من حيث الحقيقة، ومع كل فبيراندللو هو أكثر الكتاب الروائيين والمسرحيين إنتاجا على الرغم من عدم تحوله عن نظرياته التي يخضع لها في كل ما يكتب

(يتبع)

محمد أمين حسونه

ص: 67

‌القصص

درامة من اسخيلوس

2 -

المتضرعات

للأستاذ دريني خشبة

- 7 -

وصمت الأب دانوس، وغمرت الفتيات موجة أثيرية من الفرح، وتقدمن نحو الآلهة يصلين ويهزجن، وينظمن الشكران عقودا من جمان دموعهن فيجعلنه قلائد على جيد آرجوس، ويدعون للملك بالمجد، ولمدينته الخالدة بالنصر والعز والتأييد

وما يكدن يفرغن من صلاتهن وإنشادهن، حتى يثب أبوهن الشيخ المتهالك وثبة قوية. . . ويقف على شرف من حرم الآلهة المقدس، ثم يرسل في اليم المضطرب نظرات حائرة من عينيه الغائرتين. . . كمن ينظر في كتاب الغيب!!

- يا للهول! أصمتن يا فتيات. . . أصمتن! إن الزمن يسوق إليكن أحداثه فوق أعراف الثبج. . . انظرن!؟ إنها تقترب منا رويدا رويدا! واو حربا يا بناتي البائسات؟ سفينة مصرية لا ريب في ذلك! آه! إنها من سفائن اللعين إيجبتوس! لا شك! لا شك! هاهي ذي قلاعها وشراعها! كابية كوجهه، كاسفة كقلبه. . . وي! لقد طوى الملاحون الشراع، وأعملوا سواعدهم في المجاديف! إنها ما تفتأ تقترب! ولكن! لا عليكن يا فتيات! لا عليكن أبدا! إن لكن من هؤلاء الآلهة ذادةً، وإن لكن منهم حُماة أُباة! ويل لمن يستهزئ بأرباب الأولمب وأي ويل؟ إن له لساعة تشيب من هولها النواصي! لقد قدم الأوغاد يطلبونكن لمتعة الوحوش الذين لا يخشون الآلهة ولا يرعون حدود السماء. . . لا. . لن يكون هذا أبداً. . .)

فترتعد فرائص الفتيات، وتقول كبراهن:

- (أبتاه! إنا لنذوب من فرق يا أبتاه! يا للفزع الأكبر! ماذا أفاد سفرنا الطويل، وغربتنا

ص: 68

النازحة؟ لطالما انتعلنا الدماء، وضربنا غوارب الماء لنكون بنجوة، فأين النجاء! أبتاه! إنا نذوب من فرق. . .)

- (لتطمئن قلوبكن يا بناتي، فلقد صمم الأرجيف البواسل أن يحاربوا إلى آخر قطرة من دمائهم من أجل قضيتكن. . .) اهدأن! اهدأن فهذه الإلهة تحميكن!)

- (وهل يصبر الأرجيف المترفون على شياطين إيجبتوس يا أبتاه؟ انظر! لقد جمعوا اللهاذم من محاربي مصر. . . . فمن لنا! من لنا!؟)

- (إنكن لن تلبثن أن ترين الأبطال المقرنين في الحديد، المقنعين في الزرد، فلا تهلعن!)

- (ولكن. . . لتقف معنا يا أبتاه! لا تتركنا! فنحن أضعف من أن نشهد المعركة! إن هؤلاء القادمين في السفينة الغبراء وحوش يحملون قلوباً خرساء. . . ولن يثنيهم أن يشهدوا هذه الآلهة، إذ هم ضواري ليبيا، لا يعرفون قرباناً ولا مذبحاً ولا شريعة، ولا يرهبون آلهة ولا يوقرون أوثاناً!)

(يهم دانوس أن يغادر بناته، فتقول كبراهن:)

- (أبتاه! إلى أين؟ لن تغادرنا. . . لن تغادرنا يا أبتاه)

- (تلبثن يا فتيات ولا ترهبن شيئاً! إنهم لابد لهم من وقت طويل حتى ترسو سفينتهم، وينزلوا إلى البر ويربطوا أمراسها في صخرة أو جذع. . . وقد لا يجدون مرفأ هنا فيقلعون إلى مكان بعيد. . . اهدأن. . . لا تفزعن هكذا! ما هذا الفرق! تلبثن هنا حتى أعود بجيش الأرجيف أو بمدد من ببلاسجوس! لقد وعد! لقد وعد أن يحمينا، وأيده الشعب كله في ذلك. . . . . تلبثن. . . . . لا تفزعن. . . . . ولا تذهب قلوبكن شعاعا!)

(يخرج دانوس)

- 8 -

وتهلع الفتيات ويتفزعن، ويتضرعن إلى الآلهة أن تنقذهن من ذلك البلاء المنتظر، ويرسلن أنشودة طويلة حزينة. . .

والسفينة تقترب!

وهي كلما اقتربت وجفت نفوسهن، وخفقت قلوبهن، وتبلبلت أفكارهن، وتعلقن بالدمى المرمرية التي. . . تثلجت حتى ما تحس. . . وتحجرت حتى ما تعي. . .

ص: 69

وغابت السفينة عن الأنظار فجأة. . ولكنها غابت لترسو. .

وطفق الفتيات يهزجن. . . ويصلين. . . ويبكين. . .

- 9 -

(يدخل القائد المصري)

- (سو. . . ش. . . أصغين يا فتيات! حذار ألا تطعن! هلم إلى سيف البحر، فاركبن في السفينة معنا! أسرعن! لا تقاومن، وإلا حملناكن بالقوة! أسرعن، وي! أنتن لا تتحركن! أسرعن يا فتيات! إن لم تسرعن فستحل بكن نقمة! سنشدكن من شعوركن ونجركن على الؤى والأحجار حتى تدمى جسومكن؛ إلى البحر. . . إلى البحر!)

(وينقض الجنود فيدافعون الفتيات فتقول كبراهن:)

- (ويل لكم أيها الضواري وويل لأميركم! ليت هذا الخضم ابتلعكم قبل أن تصلوا إلى هنا!)

- (أنصح لكم يا فتيات ألا تقاومن! إنكن ضعيفات، وللقوة أن تصنع ما تشاء بكن! دعن هذه المجالس حول هذه الآلهة التي لابد أنها تسخر منكن! ستحملكن السفينة إلى أوطانكن فالحذار من المقاومة!)

- (كلا! لن نعود إلى جنة الأرض وجحيم القلوب! الفردوس الذي يفيض كل سنة دماً يصهر العاطفة ويحرق الضلوع. . . . . .)

- (وبعد، إنني مرغم إذن على استعمال القوة المطلقة التي يخوليها الأمر الذي بيدي! سأنتزعكن من مقاعدكن في هذا الحرم! سنجركن من شعوركن وخمركن، ونبحر بكن برغمكن!)

- (أنت تهرف كأن عيون السماء مغمضة عنك! كأنك إذا كنت وسط اللجة لم تخش شيئاً! أيها الكافر بالآلهة!)

- (ولو لن ما شئتن! ادعين آلهتكن، وسنرى هل تهرع لمعونتكن!! أبداً لن تهربن من يدي إيجبتوس أبدا! إنه كالهواء مدرككن أنى وُجهتن! فولولن واصخبن! وأعولن وابكين تعاستكن!)

- (ثم ماذا؟ زدنا من وقاحتك يا ابن النيل! بذاء! أيها المسخ! يا ربيب التماسيح! ليتها

ص: 70

تطعمت بك، أو خللت ثناياها بلحمك قبل أن تجئ إلى هنا!)

- (سو. . . ش. . . كفى! حسبكن صراخاً! إن لم ترضخن. . . فشعوركن تحكم بيننا وبينكن! سنجركن منها إلى السفينة يا فتيات!)

(يهم الجند أن يجروهن!)

- (أبانا! أين أنت يا أبانا! الغوث الغوث! هذه العناكب المتلمظة! يا أمنا الأرض! يا أبانا زيوس! عونك يا آلهة! يا سيد الأولمب! نحن حفيدات يو!! أدركنا! ادفع عنا هذه الضواري!)

- (عبثاً تستصرخن آلهتكن يا فتيات؟ هي ليست لنا بآلهة! فنحن لا نرهبها ولا نخشاها! إنها لم تنشئنا، ولم تختلط بقلوبنا. . . نحن لا نباليها!)

(يجرها من شعورها)

- ويلك أيها اللئيم! يا أفعوان النيل ذا الأنياب! أغرب فلست أفعى مثلك أيها الأرقم! العون العون يا سيد الأولمب! زيوس يا إلهي! أدركني أستحلفك بأمك ربة هذه الأرض!)

- (أسرعن إلى السفينة إذن! وإلا! فسندك عظامكن فوق هذه الآطام! أطعن يا فتيات فهو خير لكن!)

- (يا سادة آرجوس! أدركننا يا أرجيف: أيها الأوفياء!)

- (بل سادة مصر! أبناء إيجبتوس الكرماء ستلقينهم وشيكا يا عذارى!)

(يا ملك آرجوس الكريم! الغوث: لقد وعدتنا! بيلاسجوس!)

- (طالما تأبيتن، فشعوركن تطيعنا، وهي أطوع لنا منكن!)

(يجروهن على الحجارة بشدة فيدخل الملك)

- 10 -

- (وي! من أولاء! من الجائسون خلال مملكة بيلاسجوس، العائثون في جنبات آرجوس، غير المبالين بحرم الأرباب! من أنتم يا هؤلاء؟ هل هانت عليكم آرجوس فأنتم تأفكون في ساحاتها غير هيابين! مالكم ولأولئك النسوة! مالكم تحركون ألسنتكم بالفحش، وتسلقونهن بالهُجْر!؟ إن هنالك لعدالة تحميهن أيها الحمقى!)

- (أي هجر وأي فحش، ماذا صنعنا بهن!)

ص: 71

يا للآلهة؟ أنت أجنبي وقد نزلت بلاداً غير بلادك، فكيف ضللت سبيل الحسنى؟!)

- (أجل: ولكنني أجنبي قد عثر بضالته المنشودة، ورجيته المفقودة

- (وأية قوة هنا تملك، فتسندك!)

- (أنا أحتكم إلى هرمز، حامي الغرباء!)

- هرمز؟! أمرك عجب وحق هرمز؟ لقد دنست حرم الآلهة جميعا!)

- (بل أنا أدين للنيل. . . حابي!. . . وأعبد آلهة النيل!)

- (إذن فلا اعتبار لآلهة آرجوس عندك؟)

- (إذا كان منها ما يحول بيني وبين ضالتي. . . وإلا. . . فسأمضي بصيدي)

- (ارفع يدك عن الفتيات. . . وإلا. . . فسرعان ما تندم ولات حين مندم)

- (كأني بك تشيع الكرم في عباراتك!)

- (لا كرامة ولا بشاشة لمن دنس الحرم المقدس!)

- (قل ما شئت، فالجلة الأمراء من أبناء إيجبتوس. . . آ. . . أجل. . . سأذكر لهم كل شيء)

- (لا يعنيني أن تنقل إليهم أي حديث عني!)

- (عجبا! وكيف؟ إذن نبئني ماذا أقول له كرسول منه إليك! يبدو لي أن مارس وحده سيحكم بيننا وبينك، وعندها، يعرفنا أينا من يندم ولات حين مندم! هؤلاء بنات عمهن، وقد جئت من أجلهن، فكيف أعود بدونهن! لم نسمح للغضب أن يروي دماءنا! يا للأرواح البريئة! ثم. من أنت؟)

- (غداً تعرف من أنا، أنت والعصبة من رفاقك! ولكن. . . لن نسمح لك أن يصطحبك أولئك الفتيات إلا إذا رضين هن ذلك. . . فلن يذهبن معك برغمهن. . . إن مملكتنا كلها تؤيدهن وتؤازر حقهن، ولن تسلمهن لقوة مهما عتت أو لجبروت مهما طغى! إن لنا لقانوناً أقدس، لم ينقش في صخر، ولم يسطر في بردي، فاسمعه من فمي، واغرب من أمامي!)

- (ويْ! لقد ضمنت كلماتك إعلان الحرب علينا! فمن لك برجال يضمنون لك النصر؟!)

- (غدا يملأ الرجال السهل والجبل وشطئان هذا الخضم رجال. . . مذاويد. . . لم يدنسوا أفواههم بجعة الشعير ولا بنبيذ النمر. . . أغرب يا أحمق!)

ص: 72

(ينسحب المصريون)

- 11 -

(وأما أنتن يا عذارى فلا ترهبن شيئاً في الوجود ما دمتن معنا وبين ظهرانينا! إن آرجوليس كلها ستحميكن وستكافح عنكن، فهلم إلى قلعتها العتيدة، إن لكل منكن فيها حصنا أمنع من النجم، وآمن من السماء! فقرن في غرفاتكن ثمة، فهي أخلق بكن، وأطيب إلى نفوسكن، وأروح عليكن. . . على الرحب والسعة يا عذارى! إني وشعبي نفتديكن، فقرن عينا وطبن نفسا. . .)

- (بوركت يا خدن الأرباب، جزاك سيد الأولمب عنا خيرا، وكتب لك ولمملكتك السلامة، وجعلك وجعلها بنجوة من غدرات الأيام، وبدوات الزمان!. . . أيها الملك! لقد غمرنا إحسانك فنحن ندين لك بهذه الأرواح المفزعة، والنفوس المروعة، التي أذهبت عنها الشجو وجلوت ما بها من حزن! أبانا أيها الملك! إنه رجل شيخ حطمته الآلام، وناءت على صدره الخطوب. . . ائذن له يصحبنا إلى منازلنا، ويهيئ لنا جوارنا، ويتخير لنا أولياءنا ذلك أدنى ألا يأسى أو يحزن! (ويوجهن القول إلى وصيفات الملك) أما أنتن أيها الوصيفات فرشّدننا إلى حيث يدلكن أبونا. . . وابشرن! فسيهب كلا منكن أمَةَ جزاء ما خدمتننا وسهرتن علينا)

- 12 -

(يدخل دانوس)

- (احمدن للملك، وصلين للآلهة يا بناتي! القرابين وإضحيات الخمر، إنا ندين للأراجيف البواسل بأرواحنا ما في ذلك من شك، فقرين لآلهتهن القرابين، وقدّمن الأضحيات! الثناء لهذا الملك الكريم يا فتيات، فلقد أنقذنا من الذبح ونجانا من الفضيحة. . . حمداً له، حمداً له وشكراً!!

أما أنتن، فخذن أهبتكن. . . إلى قلعة المدينة وذؤابة شرف آرجوس! ولي عنكن وصاة أرجو ألا تخيب، تلك أن تضربْن بخمركن على جيوبكن، ولا تبدين من معالم فتونكن، ما تشغلن به قلوب الرجال، وتبلبلن ببعضه أفئدة الناس، ولا تنسين أننا في كنفهم وارفون في

ص: 73

ظلالهم. . . فالشرف الشرف يا بناتي! والعصمة العصمة!! حتى نجتاز شوارع آرجوس، فاغضضن من أبصاركن إذا ساورتكن الجماهير، وأحدقت بكن الجماعات؛ ولا تبادلن أحد نظرة. . . لا تدري إلا الآلهة ما بعدها. . .)

ويلتف العذارى بأبيهن يعطينه موثقهن، ثم يأخذن في إنشادهن الحلو، وتغنيهن الجميل، وقد انقسمن إلى جماعتين، هذه تغني. . . وهذه ترّجع. . وتمتلئ الأرجاء شدواو. . . شجوا. . . وموسيقى

دريني خشبة

(البقية - وهي خلاصة الدرامتين المفقودتين - في العدد

القادم)

ص: 74

‌البريد الأدبي

تاريخ جديد لليهود

تثير المسألة اليهودية اليوم كثيراً من الاهتمام، ولهذا يصدر اليوم كثير من الكتب التي تتعلق بالمسألة اليهودية أو تاريخ اليهود سواء بأقلام كتاب اليهودية أو غيرهم من الباحثين من مختلف الأمم. وقد صدر أخيراً تاريخ جديد لليهودية بقلم مؤرخ يهودي كبير هو الدكتور سيسيل روث وعنوانه (تاريخ اليهود)، ويقع الكتاب في مجلد واحد، ومع ذلك يقدم إلينا صورة شاملة واضحة من تاريخ اليهودية منذ أقدم العصور إلى يومنا، وقد صدر من قبل كثير من التواريخ الجامعة عن اليهودية، مثل كتاب إيفالد وكتاب بيتر بير المؤرخين الألمانيين، وكتاب ميلمان المؤرخ الإنكليزي، ولكن هذه المصنفات القوية الجامعة ينقصها اليوم طابع الجدة الذي يطبع الكتب المعاصرة، ذلك أن المسألة اليهودية قد جازت منذ منتصف القرن الماضي إلى يومنا أطوارا كثيرة هامة؛ وكتاب الدكتور روث يمتاز بهذا الطابع المحدث، والدكتور روث أستاذ موضوعه، فهو من أكابر مؤرخي اليهودية وكتابها، وقد كتب عدة مباحث عن تاريخ اليهودية في العصور الوسطى في السلسلة التي أصدرتها جامعة كامبردج عن تاريخ العصور الوسطى، وفي دائرة المعارف اليهودية؛ وكتب أيضاً تاريخ اليهود المتنصرين في أسبانيا وتاريخ اليهود في البندقية وعدة كتب ومباحث أخرى

ويقدم إلينا الدكتور روث صورة واضحة جامعة من تاريخ الشعب اليهودي؛ ويوضح لنا كيف أن اليهودي خلق منذ أقدم العصور (جوالا) يضرب في الآفاق، وأنه يصح أن يسمى بحق (اليهودي التائه)؛ ويرى الدكتور روث أن اضطهاد اليهودية منذ تفرقها يتخذ في جميع العصور وفي جميع الأمم أشكالاً وضروباً متماثلة؛ ففي ظل الدول البربرية والنصرانية والإسلامية، وفي الشرق والغرب، نرى نفس الإجراءات والأساليب تتخذ لمطاردة اليهودية: القتل والتشريد والمصادرة، وإلى يومنا نرى نفس الصورة المروعة، وقد تزدهر اليهودية أحياناً في فترات قليلة نادرة ويتبوأ رجالها منصب ممتازة في السياسة والمالية وفي العلوم والآداب، ولكن يد المطاردة لا تلبث أن تسحقها، ويحاول الدكتور روث أن يوضح لنا كيف أن اليهودية حصرت معظم اهتمامها في الشؤون المالية، وكيف أن اليهودي انتهى بفعل

ص: 75

الزمن إلى التخصص في الاتجار بالمال والربا، ذلك أن اليهودي كان محروماً طوال العصور الوسطى من مزاولة أية مهنة أو حرفة أخرى، ولم يترك له سوى احتراف المتاجرة بالمال والربا الممقوت؛ ومن ثم كانت نشأة اليهودية المالية وتقدمها بمضي الزمن في هذا الميدان؛ وقد كانت اليهودية منذ العصور الوسطى ملاذ المعاملات المالية والصيرفية

ومما يلفت النظر في كتاب الدكتور روث رأيه في صلب المسيح، وكيف أن المسئول عن توقيع هذه العقوبة عليه هم الرومانيون لا اليهود؛ وكيف أن اليهود كانوا يودون إطلاقه؛ وهذا الرأي يخالف ما اصطلح عليه معظم مؤرخي النصرانية من أن اليهود هم الذين شددوا في صلبه في حين أن الرومانيين كانوا يؤثرون إطلاقه

ويتتبع الدكتور روث تاريخ اليهودية ومسائلها حتى يومنا. وكتابه قيم جداً من الوجهة العلمية؛ وأسلوبه قوي واضح؛ ولا ريب أنه سيثير اهتمام كل مشتغل بالمسألة اليهودية أو تاريخ الشعب اليهودي

كتاب عن بونابرت في مصر

يعتبر مسيو فرانسوا شارل رو السفير الفرنسي السابق من خاصة الباحثين في تاريخ نابليون وفي تحليل شخصيته ومواهبه؛ وقد خص الحملة الفرنسية المصرية بكثير من مباحثه وتحقيقاته، وآخر ما كتب في هذا الموضوع كتاباً عنوانه (بونابرت حاكم مصر) ' وفيه يحلل شخصية بونابرت ونفسيته حين إعداد الحملة الفرنسية؛ ويرى مسيو شارل رو أن نابليون لم يكن يومئذ الجندي العظيم فقط، ولكنه كان أيضاً أديباً وصحفيا، يقدر ما للدعوة والرأي العام من قوة، ولذلك لم يكتف بأن يزود جيشه بالمدافع والذخائر، بل رأى فوق ذلك أن يزوده بطائفة كبيرة من العلماء والفنيين وأن يحمل معه مطبعة كاملة. وفي ذلك ما يدل على أن نابليون كان يتمتع بعقلية عصرية لا تقل في حداثتها وابتكارها عن عقلية عصرنا

ويقول مسيو شارل رو أن نابليون كان يقصد الهند عن طريق مصر. وأنه كان يقدر للذهاب والإياب إلى فرنسا ستة أعوام. وكان يقول أن عمري تسعة وعشرون عاما فقط، وهذا ليس بعمر؛ وسيكون عمري عند العودة خمسة وثلاثين) ولم يكن نابليون تحدوه حين

ص: 76

قدم إلى مصر أية عواطف دينية. أجل جاء الفرنسيون إلى مصر أيام الحروب الصليبية ليقاتلوا الهلال ويسحقوا الإسلام، ولكن نابليون جاء إلى مصر ليحقق مشروعاً سياسيا واستعماريا ضخما، ولم يفته عند مقدمه أن يصدر (عن طريق مطبعته) منشوراً إلى المصريين يقول فيه أنه وجنده مثلهم يعبدون الله، وأنه عاقب البابا ونهب مالطه وفرسانها المتعصبين، وأنه لم يأت ليسحق الإسلام وإنما أتى بالعكس ليعيد إليه مجده! وكان نابليون طول إقامته بمصر يتظاهر دائماً باحترام الشعائر والعادات الدينية وتكريم العلماء ومصادقتهم

بيد أن هذا الحلم الجميل قد انهار بسرعة، ولم يلبث بونابرت أن غادر مصر شبه هارب؛ وقد عاد إلى فرنسا بعد أن حنكته تجارب عديدة؛ ولم يكن عدوه شعبا أو مجتمعا وإنما كان عدوه التعصب؛ وقد ألفى مصر، أم العلوم والفنون منذ العصور الغابرة في سبات عميق، وألقاها فريسة للترك، ولم يبق في واديها النضر غير أرض مجدبة ينتهبها من استطاع. بيد أنه إذا كانت الحملة العسكرية قد أخفقت في تحقيق أغراضها، فإن الحملة العلمية قد حققت أعظم الثمار؛ وقد درس العلماء الفرنسيون كل ما في مصر من طبيعة ومن حيوان ونبات، ودرسوا أحوالها الاجتماعية وأمراضها المتوطنة، وأنشأوا المجمع العلمي بالقاهرة؛ وكان نابليون يرهق علماءه بمختلف الأسئلة: هل يمكن زرع القطن في مصر؟ وهل يمكن غرس الكروم؟ وهل تقام طواحين الهواء؟ وهل يمكن تحسين خبز الفلاح؟

كل ذلك يعرضه مسيو شارل رو في كتابه الجديد بأسلوب ساحر يجمع بين دقة البحث واتزان الحكم، ومتاع العرض. ومن المحقق أن كتابه يعتبر ثروة جديدة في مكتبة الحملة الفرنسية

رسائل الشاعر الروسي بوشكين

تستعد دوائر الشعر والأدب للاحتفال في العام القادم بالعيد المئوي لوفاة الشاعر الروسي الكبير (بوشكين) وقد كان بوشكين من أعظم شعراء القرن التاسع عشر، وكانت الروح الأوربية اللاتينية تغلب لديه على الروح الآسيوية الروسية؛ بيد أنه لم يترجم كثيراً إلى اللغات الغربية وبخاصة إلى الفرنسية كمواطنه ومعاصريه الأكابر مثل جوجول وتورجنيف ودستويفسكي. ويرجع ذلك إلى قوة شعره التي يصعب إخراجها بلغة أخرى. وأعظم

ص: 77

مؤلفات بوشكين هي بلا ريب قصته الشعرية (أوجين أونجين)، وهي دراسة بديعة للعادات والأخلاق الروسية في القرن التاسع عشر

وكان بوشكين رجلا غريب الأطوار والنزعات، يضطرم بعواطف غريبة. ومما يذكر أنه حينما اعتزم الزواج في سنة 1826، خطب فتيات عدة قبل أن يلتقي بالحسناء ناتالي جونتشاروف؛ وكانت تلك الفترة أكثر فترات حياته اضطرابا

ويعتزم الكاتب الروسي سرج ليفار بهذه المناسبة أن ينشر رسائل الشاعر بوشكين إلى حبيبته ناتالي بنصها الأصلي، وأن يعلق عليها وأن يوضح ما غمض منها؛ وهذه الخطابات تصور لنا حياة الشاعر في هذه الفترة أحسن تصوير، وهي فتر حافلة بمختلف الحوادث والمفاجآت وضروب السعادة الغرامية. بيد أن هذا الزواج السعيد لم يلبث أن انتهي بفاجعة مؤلمة. ذلك أن بوشكين قتل مدافعاً عن شرف زوجه ناتاليا في مبارزة أصيب فيها بجراح مميتة. وسيضم هذا المجلد الذي يحتوي على رسائل بوشكين ترجمة وافية لحياة ناتاليا بقلم المسيو هوفمان، وهي ترجمة مؤثرة شائقة

وفاة كاتب ألماني كبير

من أنباء برلين أن الشاعر والكاتب الألماني الكبير إدوارد شتوكين قد توفي في الحادية والسبعين من عمره، وقد كان شتوكن شاعراً من الجيل القديم أعني من شعراء الإمبراطورية، وله شعر كثير يمتاز بقوته ورصانته، وكان أيضاً باحثاً كبيراً يؤثر القصة العلمية والتاريخية باهتمامه، واشتهر شتوكن بنوع خاص بالإبداع في القصة التاريخية، وأشهر قصصه من ذلك الطراز (الفاتحون) وهي قصة تاريخية رائعة في مجلدين كبيرين، وتدور حوادثها حول فتح المكسيك على يد الأسبان في أوائل القرن السادس عشر؛ وبطل القصة البارز هو فاتح المكسيك هرناندو كورتيز، وبطلتها هي دونا مارينا الفتاة الهندية الشهيرة التي غدت خليلة الفاتح ومهدت للأسبان كثيراً من مصاعب الفتح، ويصف شتوكن حوادث هذا الفتح الشهير وصفاً قوياً شائقاً، ويستعرض أحوال الهنود الحمر ومدينتهم وعاداتهم في فصول ممتعة تقوم على الحقائق التاريخية والعلمية الثابتة؛ ويبدع بنوع خاص في وصف الوقائع الدموية التي جرت بين الهنود والأسبان، ومناظر الضحايا البشرية التي كان ينظمها الهنود للتقرب من الإلهة؛ ويمزج شتوكن هذه الحوادث والمناظر

ص: 78

التاريخية المروعة بلمحات من الخيال الساحر والعرض الشائق

وقد أحرز شتوكن برواية (الفاتحون) شهرة عظيمة، ومازالت تعتبر من أعظم ما أخرجت القصة الألمانية المعاصرة، ولشتوكن عدة قصص وكتب نقدية أخرى

وكان شتوكن مدى أعوام طويلة عضواً في الأكاديمية الألمانية للأدب القصصي

كتاب جديد لميترلنك

صدر أخيراً كتاب جديد للكاتب البلجيكي الكبير ميترلنك عنوانه (المرملة) ومن الصعب أن نحدد موضوع الكتاب؛ بيد أنه كمعظم كتب ميترلنك مزيج من الاستعراض والنقد والفلسفة، ويكتب ميترلنك عادة بروح ثورية، ولكنه يبدو في كتابه الأخير أكثر هدوءا؛ وهو يحمل في الفصل الذي يخصصه لأحزان الأسرة الملوكية البلجيكية على القدر الجائر، ولكنه يثور في وقار؛ ويحدثنا ميترلنك عن ضعف الآثار المترتبة على التعليم الديني، ويرى في فلسفة باسكال ضعفاً ولاسيما في نظريته الخاصة (بالأسطورة التي لا تقارن) إشارة إلى النصرانية، ثم يحدثنا بعد ذلك عن الموت، ويرى أنه ليس عدواً للإنسانية بالقدر الذي تصوره روعته وآثاره المحزنة. وذلك أن الموت هو قانون الإنسانية كلها، وهذا التضامن في تلقي محنة الموت من البشر جميعاً يسبغ على الموت صورة محبوبة. وربما استطاع الإنسان أن يوفر على نفسه كثيراً من ضروب الألم والحزن إذا هو نبذ الحلم المستحيل (بأنه ذاهب لن يكون له ذهاب). ومازال الإنسان من حيث التضامن أقل شأناً من بعض الحشرات كالنمل مثلا، فلو أن الإنسان أدرك عاطفة التضامن على حقيقتها، لغدا كل إنسان (إنسانية بأسرها)

حول ترجمة السخاوي أيضاً

نشرت الرسالة في العدد 143، وفي هذا المكان رد الأستاذ عنان على ما لاحظه أديب من قراء الرسالة على ما ورد في ترجمته للحافظ السخاوي بخصوص كتابي (تحفة الأحباب) و (الإعلان بالتوبيخ)، وقد تلقينا في هذا الموضوع الكلمتين الآتيتين:

- 1 -

اطلعت في العدد 142 من (الرسالة) الغراء على ما كتبه الأديب الفاضل السيد محمود

ص: 79

عساف أبو الشباب مصححاً نسبة كتاب (تحفة الأحباب في الخطط والمزارات) إلى محمد بن أحمد الحنفي السخاوي الذي فرغ من تأليفه عام 956، لا إلى محمد ابن عبد الرحمن السخاوي الشافعي المتوفى سنة 902 مستدلا بما ذكره صاحب الطبقات المالكية، وبعدم عد السخاوي (محمد ابن عبد الرحمن المتوفى سنة 902) ذلك الكتاب في جريدة مؤلفاته التي سردها بالتفصيل مرتبة مبوبة في ترجمته لنفسه من (الضوء اللامع - الجزء الثامن)، ويمكن أن يستدل لذلك بعدم إحالة السخاوي في تراجم (الضوء اللامع) على كتاب له في المزارات مع كثرة إحالته على مؤلفاته في أكثر التراجم

ولكن الأديب أبا الشباب تسرع في نقل عبارة الأستاذ المؤرخ السيد محمد عبد الله عنان، فقال في ختام كلمته:(فإحقاقا للحقيقة، وصوناً لمعالم التاريخ نأمل أن يجزم رجال التاريخ أن الأثرين اللذين عناهما الأستاذ عنان ليسا للإمام السخاوي صاحب الضوء اللامع). . .

لأن عبارة الأستاذ عنان في العدد 104 هي: (ونجد أخيراً في تراث السخاوي أثرين من نوع خاص ولهما أهمية خاصة، أولهما كتاب تحفة الأحباب. . . . وأما الثاني فهو كتاب (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ. . .)

وليس من شك في أن (الأثر الثاني) هو من مؤلفات السخاوي إذ ذكره في صدر مؤلفاته التاريخية، والمؤرخون مجمعون على ذلك، بل الكتاب نفسه ينادي بذلك في كل باب من أبوابه، فالأستاذ عنان أضاف إلى مؤلفات السخاوي صاحب الضوء كتاباً لم يكن من تصنيفه (وله سلف في هذه النسبة الخاطئة)، والأديب أبو الشباب نفى من جريدة مؤلفات السخاوي كتاباً أجمعوا على أنه من تأليفه (وليس له سلف في ذلك) جزى الله الجميع خيراً.

من قراء الرسالة

- 2 -

قرأت في عدد الرسالة الأسبق كلمة الأستاذ محمود عساف أبو الشباب - عن السخاوي مؤلف الضوء اللامع والسخاوي الآخر مؤلف تحفة الأحباب في المزارات، ولهذه المناسبة أذكر أن كتاب تحفة الأحباب الذي طبع على هامش كتاب نفح الطيب - طبعة سقيمة - ليس للسخاوي الحافظ حقيقة، بل هو لسخاوي آخر كان معاصراً له وتأخر موته عنه، وثمة

ص: 80

دلائل كثيرة تؤيد هذه النظرية، وقد لا يتسع المقام لسردها في هذه العجالة، بيد أني أقول - أن الأستاذ حسن قاسم (مؤلف كتاب المزارات المصرية والآثار الإسلامية في مصر والقاهرة المعزية، الذي يطبع الآن في القاهرة - والذي لي حظ الشرف بالاشتراك فيه - قد أعلن أنه وفي هذا الموضوع حقه وأعطاه من العناية ما يستحق، وقد تلمست من ترددي على دار الكتب المصرية - أن كثيراً من موظفيها يعلم ذلك، وقد يكون قسم التغيير العربي أو قسم الفهارس قام بتصحيح ذلك لخدمة التاريخ، وأذكر مما قاله الأستاذ قاسم عن السخاوي مؤلف التحفة، أنه على نور الدين حنفي المذهب، ألف هذا الكتاب من الكواكب السيارة لابن الزيات - الذي طبع في دار الكتب - ومن مصباح الدياجي لمجد الدين بن الناسخ المعروف بابن عين الفضلاء المحفوظ منه نسخة بدار الكتب وأصلها لعلي مبارك باشا، وقد رأيناه كثيراً ما ينقل عنها في خططه - ومنها نسخة - في لجنة حفظ الآثار العربية

ويذكر أيضاً أن الأجهوري اقتبس كتابه هذا في مؤلف له (سماه مزارات الأشراف المدفونين بمصر) وترجم له في خاتمته، وهذا المصدر محفوظ منه نسخته الخطية بمكتبة الأستاذ قاسم. .

الآنسة فردوس عبد العزيز مظهر

بعثة الجامعة المصرية إلى اليمن

غادر القاهرة إلى اليمن بعثة الجامعة المصرية، وهي مؤلفة من الدكتور سليمان حزين وسيقوم بدراسة حفائر ما قبل التاريخ، والأستاذ خليل يحيي نامي ويبحث في النقوش والمخطوطات واللهجات الخاصة باليمن، وهما من أعضاء هيئة التدريس لكلية الآداب، والأستاذ مصري شكري وسيقوم بأبحاث في الجيولوجيا، والأستاذ محمد توفيق العربي ويبحث في الحشرات بتلك البلاد، وهما من أعضاء هيئة التدريس بكلية العلوم

وتستغرق مدة إقامة البعثة باليمن ستة أشهر. وقد قررت الجامعة منح حضراتهم مكافأة قدرها 1800ج تلقاء أبحاثهم ودراساتهم وقد تزاد تلك المكافأة 200 جنيه

ص: 81