الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 146
- بتاريخ: 20 - 04 - 1936
من عبر السيرة
محمد الوالد
إن في الحزن القوي عزاء الجزع الضعيف
تخطفت المنايا السود فلذات الرسول بنات بعد بنين، فلم يبق إلا فاطمة قرة لعينه وعزاء لنفسه. وكانت جراحات القلب العظيم لا تجد لمسها الممض فراغاً بين آلام الرسالة فتندمل في سكون وصمت. فلما عنتْ سُورة الشرك في مكة، وعلت كلمة الله في الجزيرة، وتحققت وحدة العرب في الوجود، وأخذت نفحات السلام الإلهي تنضح الجو المشتعل بالنار، وتطهر الثرى المخضوب بالدم، تنبهت في الإنسان الأعلى مشاعر الطبيعة، وتجددت في العربي الرسول عواطف الأبوة، وحزّ في نفس محمد أن يرى أمهات المؤمنين يعقمن عشرة أعوام متتابعة، فبيوتهن التسعة حول المسجد المهلل الذاكر غرقى في السكون الرهيب والصمت الموحش، لا يؤنس حجراتها غناء المهد، ولا يبهج أفنيتها مرح الطفولة
لا ريب أن أسرة محمد الرسول شملت جزيرة العرب كلها، وستشمل عالم الإسلام أجمع؛ ولكن أسرة محمد الرجل لا تزال ألماً من آلام العبقرية، ومحنة من محن البطولة. تدرع باسم الله وبرز وحده لشياطين الأرض، فجاهد الوثنية حتى أقر الحق، وعالج الإنسانية حتى أعلن الخير، وشذب الطبيعة حتى أنمى الجمال، وبلغ الرسالة حتى لم يبق لرضى الله غاية لم تدرك، ولا لصلاح الناس سبيل لم تشترع. ولكنه هدف للستين في جهاد الشرك والجهل والهوى، ولا يزال يجد في جوانب نفسه الكبيرة عاطفة لم تُرضَ، وحاجة لم تُقض، ورسالة لم تتم! تلك هي عاطفة القلب للولد، وحاجة النفس إلى التجدد، ورسالة الحياة إلى الحياة
بين ظلال النخل والكرْم، وفي بيت المصري على العالية من ضواحي المدينة، أتم الله نعمته على رسوله فوهب له على الكبر إبراهيم! يومئذ تنفس الصبح بأنفاس الفردوس، وضاحكت الشمس خمائل يثرب من خلال الأجنحة النيرة، ومست يد الربيع المخصبة دوحة النبوة، وغرقت نفوس المؤمنين في مثل صفاء الخلد، وأقبل المهاجرون والأنصار على المسجد المستبشر يهنئون النبي بالخليفة الوليد والأمل الجديد والعوض المبارك؛ ونهض الرسول الوالد إلى بيت مارية القبطية ليرى نعمة ربه، وبضعة كبده، فوجد في
طلعة إبراهيم الأنس الذي يعوزه، والرضى الذي يرجوه، والخلف الذي يتمثله؛ ففاضت غبطته لله حمداً، وعلى المؤمنين بركة، وفي الفقراء صدقة. رفع أمه إلى مقام أزواجه، ونفح مرضعته بسبع من المعزى سمان يحلبن عليها وعليه، ثم عقَّ له بكبشين أملحين، وتصدق بزنة شعره فضة؛ وتعودّ كل صباح أن يزور أم ولده فيحمله منها ليضمه ويشمه، ويتذوق طعم السعادة الأرضية في ريحه، ويطالع نفسه العائدة في نفسه، ثم يدخل به على الأمهات اللائى ولدن جميع المسلمين ولم يلدن، فيباهي بحسنه، ويغتبط بنموه، ويحتمل راضياً في سبيل ذلك كله غيرة حُميرائه وكيد نسائه
ولكن أنبياء الله موضع بلائه وسر حكمته! دعوتهم الحق والحق ثقيل، وعدتهم الصبر والصبر كليل، وبرهانهم الألم والألم قاتل! غرباء في الأرض لأنهم من السماء، وأغراض لسهام القدر لأنهم ضحايا، وأمثلة لبؤس العيش لأنهم عِبر! هذا إبراهيم حبة قلب أبيه وسواد عين أمه مسبوتاً على فراش المرض تحت النخيل! تذوي نضارته على وهج الحمى، وتذوب حشاشته على عَرْك الموت، وأمه وخالته قائمتان على سريره تشهدان منظراً يهون في جانبه على الوالدين الجنون والكفر والعدم! وهذا أبو إبراهيم يضعضعه النبأ المروع فيتحامل على عبد الرحمن بن عوف، ويمشي ثقيل الخطى لهيف الفؤاد، إلى الصغير المحتضر! لو كان لمتاع العيش غناء لتقلب فيه المؤمن، ولو كان لقانون الموت استثناء لأفلت منه المصلح، ولو كان في قلب الثاكل المحزون شبهة لجلتها محنة الله لرسوله!
أخذ النبي إبراهيم من حجر أمه فوضعه في حجره، ثم نظر من خلال الدمع إلى قسماته المشرقة تغشاها ظلال الموت، وقال بصوت متهدج وفؤاد متأجج واستسلام مطمئن:(إنا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئاً)
يا لله لقلوب الوالدين! إن النبي الذي ولد في مهد اليُتم، ودرج في حجر العُدم، وتقسمت عمره عوادي الخطوب، فكابد أذى قريش وحقد المنافقين وكيد اليهود، وعالج مكاره الدعوة من القلة والذلة والهزيمة والفتنة، وقد احتمل كل ذلك بصبر المجاهد ويقين المؤمن وعزم الرسول، ويصيبه الله في إبراهيم وهو رضيع فيرفض عنه الصبر، ويتملكه الجزع، ويقف من الثكل الأليم موقف كل والد يرى جزءه الجديد يبلى، ورجاءه الناشئ يخيب، ثم يقول:
(إن العين لتدمع، وإن القلب ليجزع، وإنا بعدك يا إبراهيم لمحزونون: أما والله لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنّا عليك بأشد من هذا!) وينال من الصحابة حزن الرسول فيتقدمون إليه يذكرونه ما نهى عنه فيقول: (ما عن الحزن نهيت! وإنما نهيت عن العويل. وإن ترون بي أثرُ ما بالقلب من محبة ورحمة، ومن لم يُبد الرحمة لا يبدي غيره عليه الرحمة)
على أن حزن الرسل لا يكون إلا بمقدار ما فيهم من ضعف الإنسان. لذلك لم يلبث الرسول أن عاد إلى نفسه فصلى على ولده، وسوى عليه القبر بيده، ثم رش فوقه الماء وأعلم عليه علامة وقال:(إنها لا تضر ولا تنفع، ولكنها تقر عين الحي، وإن العبد إذا عمل عملاً أحب الله أن يتقنه)
تعزيت يا رسول الله لأن الألم سبيل من سبل دعوتك، والعزاء أصل من أصول دينك، والأرض وما عليها أهون من دمعك. والسماء وما فيها ثواب لصبرك، ولكن ماذا يصنع البائس المحزون إذا فقد الرجاء، وليس له في يومه صبر ولا في غده عزاء؟
أحمد حسن الزيات
على هامش السيرة
حديث عداس
للدكتور طه حسين بك
قال عتبة بن ربيعة لأخيه شيبة: أنظر إلى هذا الرجل المقبل على حائطنا ومن ورائه السفهاء والعبيد قد أغرو به وسلطوا عليه، فهم يؤذونه بألسنتهم، وهم يؤذونه بما يحصبونه به من الحصى والأحجار! ألا تثبته؟ قال شيبة وقد نظر فأطال: بلى! والله إني لأعرفه كما تعرفه، وإن قلبي ليرق له كما يرق له قلبك، وإن نفسي لتثور غضباً له كما تثور نفسك، ولقد هممت ومازلت أنازع نفسي أن أفزع إلى نصره وجواره وحمايته من حلماء ثقيف وسفائها. ولولا ما بينه وبين قومنا، ولولا أني أعلم أننا إن فعلنا كان لنا مع قومنا أمر عظيم وخطب جليل. قال عتبة: وا رحمتاه لابن عمنا من قومه! ثم وا رحمتاه لقومنا من أنفسهم! ما كنت أحسب أن يبلغ الأمر بقريش أن يذلل عزيزها ونحن شاهدان، وأن يجترئ حي من أحياء العرب وإن كانوا ثقيفاً، على أن يسوءوا رجلاً من قريش وإن كان مستضعفاً مهيناً. فكيف بابن عبد المطلب وابن أخي حمزة والعباس؟ وكان هذان الرجلان من أشراف قريش قد ذهبا إلى بستان لهما في الطائف يصلحان من أمره وأمرهما، ويهيئان لتجارتهما: يجمعان ما تنفذه ثقيف مع تجار قريش إلى اليمن في رحلتها إلى اليمن، وإلى الشام في رحلتها إلى الشام. وكانا قد أقاما في الطائف أياماً، وأقبل في أثناء ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على ثقيف يلتمس عندهم النصر والعون والجوار بعد أن تنكرت له مكة بطاحها وظواهرها، وبعد أن تنكر له الناس حتى أقربهم إليه وأدناهم منه، وبعد أن فقد عمه الذي كان يمنعه ويقوم دونه، وبعد أن فقد زوجه التي كانت ترعاه وتكلؤه وتحوطه بالرحمة والحب والحنان، وكان قد لزم داره بعد هاتين الكارثتين لا يكاد يبرحها خائفاً محزوناً حتى أقبل عليه عمه أبو لهب فأمنه وأعلن إليه أنه يقوم من حمايته بما كان يقوم به أبو طالب. فسرى عن النبي الكريم شيئاً واستأنف الخروج من داره والذهاب إلى المسجد، والاضطراب في مكة، ولكن قوماً من قريش ألحوا على أبي لهب حتى غيروه على ابن أخيه فاسترد جوره وحمايته، وعاد من حرب النبي وعداوته إلى مثل ما كان عليه قبل أن يموت أبو طالب. فلما ضاقت مكة بخير أبنائها خرج إلى الطائف يلتمس جوار ثقيف، فأقام
فيهم ما شاء الله أن يقيم، يسعى عند هذا ويتلطف لذاك، وكلهم يرده وكلهم يمتنع عليه. وكان مقامه فيهم قد أخافهم وثقل عليهم وأثار في نفوسهم إشفاقاً أن يصيب مدينتهم ما أصاب مكة من اضطراب الأمر، وانتفاض الضعفاء على الأقوياء واستجابة قوم لهذا الرجل الذي أنكره قومه ولم تره مدينته إلا ما يكره. فتقدموا إليه في الرحيل عنهم، ولم يكد يفعل حتى أغروا به سفلة الناس وسفهاءهم يؤذونه بالقول والفعل حتى ألجئوه ضعيفاً مكدوداً وكئيباً محزوناً إلى حائط هذين القرشيين، وأقبل النبي وقوراً هادئ الخطى مطمئن النفس، تظهر على وجه الكريم آيات الضعف.، وآيات القوة، وآيات الحزن، وآيات الرجاء. ضعف مصدره الجهد والعناء، وقوة مصدرها الحزم والعزم، وحزن مصدره الرحمة لهؤلاء الذين يدعوهم إلى الخير فيبغونه بالسوء، ويرشدهم إلى النجح فيريدونه بالمكروه؛ ورجاء مصدره الثقة لأن الله لم يختره لرسالته ليخذله قبل أن يتم أمره، ويعلي كلمته، ويظهر دينه على الدين كله، وبأن الله لا يصيبه بما يصيبه به من المكروه إلا امتحاناً لقلبه وابتلاء لنفسه وتمحيصاً لطبعه
أقبل هادئاً والناس من ورائه مضطربون. مستأنياً والناس من ورائه مسرعون، حتى انتهى إلى ظل من ظلال البستان فجلس متعباً مكدوداً، والقرشيان ينظران إليه ويرقان له ويعطفان عليه، وينازعان نفسيهما إلى نصره ومعونته، وقد كادا يفعلان لولا أن ذكرا قريشاً، ولولا أن ذكر عتبة بن ربيعة صهره أبا سفيان وقدر ما يلقاه وما يلقاه أخوه من قريش إن منح محمداً معونة أو نصراً؛ ولكنهما رأيا ابن عمهما يأوي إلى ظلالهما مكروباً محزوناً، فلم يملكا أن يمتنعا عن أن ينالاه بأيسر الخير وأهون البر، فيدعوان عداساً عبداً من عبيدهما ويأمرانه أن يحمل إلى هذا الرجل الضعيف المكدود شيئاً من عنب البستان ليصيب منه، ويمضي العبد منفذاً أمرهما، ولكنهما لا يستطيعان أن ينصرفا عن مكانهما ولا أن يحولا بصرهما عن ابن عمهما، وقد أهينت فيه قريش كلها، لولا أن قريشاً قد احتفظت بأحلامهما فهما ينظران ويرثيان، ويعمل الأسى في قلبيهما والعبد يسعى بالطبق إلى هذا الرجل المحزون، حتى إذا انتهى إليه وضع الطبق بين يديه، وأقبل الرجل على العنب يريد أن يصيب منه، والعبد قائم منه غير بعيد، ولكن القرشيين ينظران فيريان عجباً: يريان كأن حديثاً قصيراً قد دار بين الرجل وبين هذا العبد؛ ثم يريان العبد وقد أكب على
هذا الرجل الحزين يقبل رأسه ويديه ورجليه باكياً مستعبراً، مندفعاً في حديث لا يكاد ينقضي، مظهراً من التكرمة والإجلال لهذا الرجل ما لم يتعود أن يظهر لأحد من سيديه. فيقول أحد القرشيين: ويحك لقد أفسد علينا ابن عمنا هذا العبد! وما أرى إلا أن ثقيفاً معذرين إن خافوا منه على عبيدهم وضعفائهم وأقويائهم أيضاً ما خفنا نحن منه على العبيد والضعفاء والأقوياء؛ وهذا الرجل قد نهض وقوراً هادئاً، ومضى أمامه وقوراً هادئاً، ومضى العبد معه شيئاً من الطريق. ثم وقف يشيعه بطرفه حتى غاب عن طرفه وعن طرف القرشيين
هنالك عاد العبد إلى سيديه، وفي وجهه آيات الكآبة والحزن، وفي وجهه مع ذلك آيات الطمأنينة والرضى، ودموع تجري من عينيه لم يدريا أكانت دموع حزن وابتئاس، أم كانت دموع غبطة وابتهاج
يقول عتبة بن ربيعة للعبد رفيقاً به عطوفاً عليه: ويحك يا عداس! إن لك من هذا الرجل لشأناً، فاقصص علينا بدء حديثك فقد رأيناك حفياً به متلطفاً له، مكباً عليه تقبله باكياً مواسياً، ثم مرافقاً له تشيعه بشخصك ثم بطرفك. قال العبد: نعم يا مولاي إن لي مع هذا الرجل لشأناً وحديثاً عجيباً، وأحبب إلي أن أقص عليكما حديثي! ولكن أي حديثي تريدان؟ أتريدان حديثي منذ اليوم، أم تريدان حديثي القديم الذي مضت عليه أعوام طوال، والذي دفعني إلى بلادكم هذه، والذي اضطرني إلى ما أنا فيه من رق، أعمل لكما بيدي في هذا البستان، وما عملت لأحد قبلكما بيدي، وما عملت لنفسي بيدي، وإن كان الناس ليعملون لي كما أعمل لكما الآن؟ قال عتبة وقد ثارت في نفسه طبيعة العربي الذي أترف وفيه فضل من بداوة، فهو مشغوف بالقصص، كلف بغريب الحديث. قال عتبة: وإن لك لحديثاً قديماً بينه وبين حديثك هذا الجديد سبباً. قال عداس: نعم. قال عتبة: فاقصص علينا حديثك. وأخذ القرشيان مجلسهما استعداداً لسماع الحديث. وهم العبد أن يبدأ حديثه قائماً، ولكنهما أذنا له في الجلوس فجلس وأطرق وأغرق في صمت غير طويل، ولكنه كان عميقاً. ثم قال: لقد انتهيت إلى هذا الرجل منذ حين فسمعته يقول كلاماً ما أعرف أن الناس يقولونه أو يقولون مثله في هذه الأرض. فلما سألته عن ذلك حدثني بحديث ما يعرفه إلا نبي. وكأن حديثه هذا مني على ميعاد، أو كنت أنا من حديثه هذا على ميعاد. لقد سألني سؤالاً لم
يسألنه أحد منذ وطئت هذه البلاد. سألني عن موطني الذي نزحت منه، فأنبأته بما لا تعلمان وبم يحسن أن تعلماه الآن، وهو أني رجل من أهل نينوى، نشأت في بيت من بيوت الأحرار الذين إن لم يتح لهم الملك والإمارة، فقد أتيحت لهم الثروة والغنى؛ وكنت موفور الحظ من النعمة وحسن الحال، فارغاً لما يفرغ له أمثالي في تلك البلاد من تقسيم الوقت بين لذة الجسم ولذة العقل؛ ألهو ما وسعني اللهو، ثم أقرأ وأختلف إلى مجالس العلماء والفلاسفة من القسس والرهبان فأسمع منهم وأتحدث إليهم، وآخذ معهم في ألوان من الجدل حول ما يختلف الناس فيه عندنا من أصول الدين والعلم، وأنتما لا تعلمان من أمرنا في تلك البلاد إلا قليلاً، إنما تعنيان ويعنى قومكما بما تحملون إلينا من تجارة، وما تصدرون به عنا من مال، وما تصيبون في بلادنا من هذه اللذات اليسيرة. فأما ما دون ذلك فليس لكم به علم، وليس لكم عنه سؤال؛ ولو قد دخلتم في حياتنا وعرفتم دقائق أمرنا، لرأيتم أن في نفوسنا اضطراباً شديداً، وغلياناً متصلاً، وضيقاً بالسلطان، وتمرداً على النظام، وإنكاراً لما ورثنا من عادة، وشكا فيما تلقينا من دين. ساءت فينا سيرة السلطان فنقمنا من نظام الحكم، وساءت فينا سيرة القسس فشككنا في الدين؛ فأما العاجزون فقد أعطوا طاعة ظاهرة وأضمروا عصياناً خفياً، وعكفوا على اللذات يستعينون بها على احتمال الحياة؛ وأما الأقوياء وأولو العزم فقد فكروا وقدروا وجدوا في التفكير والتقدير يلتمسون فرجاً من حرج ومخرجاً من ضيق، وكنت فيما رأيت من هؤلاء. فلما ضقت بالحياة في مدينتي ولم أجد عند علمائها وقسسها شيئاً خرجت مسافراً إلى الشام ألتمس في السياحة تسلية وعلماً، وأبتغي فيها ظفراً بالخير، ولست أقص عليكما رحلتي إلى الشام ومنازلي في طريقي إليها، واضطرابي في مدنها وقراها، ويأسي من قسسها وعلمائها، وضيقي بسادتها وحكامها، ولكني انتهيت بعد كثير من الاضطراب إلى دير من الأديرة يقوم في آخر العمران وأول الصحراء مما يلي بلادكم هذه، وأقمت في هذا الدير دهراً راضياً عن حياته الهادئة المطمئنة راضياً عن حياة أهله الآمنين الوادعين الأخيار، ناعم النفس بعشرتهم مستمتعاً بأحاديثهم، ولكنني سمعت من أحاديثهم عجباً: رأيت لهم فيما بينهم أمراً يتحدثون عنه بالرمز، ويومئون إليه بالإشارة، ورأيت حديثهم هذا الرمزي يكثر ويشتد إمعانهم فيه كلما مرت بديرهم من قوافلكم هذه التي تردد على بلاد الروم. رأيتهم يعرفون أنباء هذه القوافل
قبل أن تصل إليهم فيتهيئون لها ويستقبلونها ويكثرون من سؤالها، ويظهرون الحفاوة بها. ثم يخلو بعضهم إلى بعض، فيتبادلون بينهم أحاديث الرمز والإشارة والإيماء، ويقول بعضهم لبعض: لم يأت النبأ بعد؛ أو يقول بعضهم لبعض: لقد انقطع النبأ بعد أن جاءت بشائره. فلما كثر علي منهم ذلك أزمعت أن أعلم علمه، فتلطفت لهم وتوسلت إليهم حتى عرفت أنهم ينتظرون إصلاحاً دينياً ذا بال، وأنهم قرءوا في كتبهم أن هذا الإصلاح يأتيهم من قبل هذه البلاد، وأنهم حسبوا وقدروا ورأوا أن زمان هذا الإصلاح قد أظل الناس، وأن أنباء قد انتهت إليهم وأحاديث قد نقلت لهم، وكلها يدل على أن أوان هذا الإصلاح قد آن. ثم قصوا علي من هذه الأنباء والبشائر أطرافاً، فلم أملك أن كلفت بالرحلة إلى بلادكم، وقلت ما يمنعني أن أبعدني السفر؟ وما يمنعني أن أتصل بقافلة من قوافلكم هذه فأبلغ معها هذه الأرض، فأعلم من علمها، وأصيب من تجارتها؟ ولعلي أظفر بما يتحرق إليه هؤلاء الرهبان شوقاً؛ وأنتما تعلمان كيف كان الاتفاق بيني وبين تلك القافلة التي أمنتني على نفسي ومالي، وضمنت لي أن أبلغ بلادكم هذه موفوراً فأصيب من تجارتها وأعود معها من قابل إلى الشام، حتى إذا بعدنا عن بلاد الروم وانقطعت أسبابي من أسباب قيصر عدا أهل هذه القافلة على مالي فاحتجزوه ثم عدوا علي فاتخذوني بضاعة وباعوني من صاحبكما ذاك الذي اشتريتماني منه قريباً من يثرب
فهذا بدء حديثي أيها السيدان، وقد عملت في بستانكما أعواماً، وكان الناس يتحدثون من حولي بهذه الأحداث التي تحدث في مكة ويتناقلون من حولي أنباء هذا الرجل الذي ينكر الأوثان ويدعو إلى التوحيد، ويريد أن ينصف المظلوم من الظالم، والعبد من السيد، ويسوي بين الضعيف والقوي؛ وكان الناس يتحدثون من حولي بما يلقى هذا الرجل في بلده من شر، ومما يمتحن به أصحابه من ألوان الفتنة، وكنت كلما سمعت هذه الأحاديث هششت لها، وطابت بها نفسي. وأحسست أن النبأ الأعظم قريب؛ وكنت أقدر أن صاحب هذا النبأ يجب أن يكون كإخوانه الذين سبقوه علماً بدين الله، داعياً إليه، مخبراً من أنباء الأولين بما لا يخبر به الناس، وكم وددت لو أتيح لي أن أنحدر إلى مكتكما هذه فأسأل صاحبكما وأسمع منه، ولكن الرق في بلادكما شديد. فنحن أرأف منكم بالرقيق، وأعطف منكم عليه، وقد لبثت في بستانكما هذا أسمع الأنباء وألتمسها وأتحرق شوقاً إلى مصدرها حتى أقبل
صاحبكما هذا منذ حين؛ ولقد رثيت له حين رأيته وأوشاب الناس من حوله يؤذونه بألسنتهم وأيديهم. ولقد هممت أن أفزع لنصره والذود عنه. وما كنت أعلم من أمره شيئاً، ولكنها الرحمة عطفتني عليه؛ ولقد هممت أن أستأذنكما في إيوائه وإيثاره بشيء من القرى، ولكني رأيتكما تنظران وتتحدثان ولا تنشطان؛ ثم أمرتماني بالسعي إليه، فلما بلغته سمعت منه كلاماً ما سمعت مثله في هذه الأرض. فلما سألته عن ذلك سألني عن موطني. فلما أنبأته به قال هذا موطن يونس نبي الله. فما شككت في أنه صاحبي الذي أقبلت ألتمس أنباءه. قال عتبة ويحك يا عداس إن حديثك هذا العجب، ولكنا نخشى أن يفسد عليك صاحبنا دينك، وإن دينك لخير مما يدعوا إليه. قال عداس: مهلاً يا سيدي! إن الذي يقول ما سمعت لا يدعوا إلى شر ولا يغري بفساد، ولا يأمر إلا بمعروف. ولا يقول إلا حقاً. قال شيبة: ويحك يا عداس لقد سحرك صاحبنا فيمن سحر، فماذا سمعت منه؟ قال عداس: بل لقد هداني فيمن هدى، ولقد سمعته يناجي ربه بحديث ما سمعت أعذب منه. لقد حفظت حديثه، وإنك لتعلم ما أنا بالعربي، وما حفظ أحاديثكم علي بيسير. قال عتبة: فهات أعد علينا ما سمعت. قال سمعته يقول: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
ولم يفرغ العبد من هذا الحديث حتى أغرق في بكاء هادئ، وأغرق سيداه في وجوم عميق. ثم ثاب القوم جميعاً إلى أنفسهم ونظر القرشيان أحدهما إلى بعض نظرة المستخذي الأسف. ثم قال عتبة لعداس: أنت وما تشاء يا عداس من حب صاحبك وطاعته، ولكن لا تنس أن لنا عليك حقاً وطاعة، وأنا حريصان على ألا تظهر من أمرك شيئاً فتضطرنا فيك إلى ما نكره، وتضطر قومنا فينا إلى ما تكره
ومضت أعوام وحدثت أحداث، ونظر العبد الشيخ ذات يوم فإذا محمد صلى الله عليه وسلم قد ضرب عسكره حول الطائف يحاصر فيها ثقيفاً؛ وكان عداس قد انتقل من ملك ابني ربيعة بعد موتهما إلى الثقفيين، وإذا نفسه تنازعه إلى صاحبه، وإذا هو يحرض الرقيق
ويبث فيهم الدعوة إلى الخروج على سادتهم واللحاق بجيش المحاصرين، وإذا نفر من الرقيق يجتمعون إليه، وإذا هم يقتحمون الأسوار ويهبطون إلى العسكر مسرعين وترميهم مقاتلة ثقيف بالنبل فتصرع منهم جماعة فيهم عداس قد مات قبل أن يبلغ صاحبه العظيم، ويخلص سائرهم إلى النبي فيهديهم إلى الإسلام ويردهم إلى الحرية، وينصرف عن حصار الطائف حتى إذا أسلمت ثقيف تكلمت في رقيقها أولئك وأرادت ردهم إلى الطاعة، فيقول النبي الكريم: كلا! هؤلاء عتقاء الله
طه حسين
منطقة الإيمان
للأستاذ توفيق الحكيم
حينما كنت وكيلاً للنائب العام كنت أرى عجباً في قاعات المحاكم وجلسات التحقيق؛ وكنت أفكر كثيراً في أمر ذلك الشرير الذي طالعت صحيفة حياته فإذا آثام ودماء تسيل منها، ومع ذلك يقف أمامي متطلعاً إلى السماء، ويأبى أن يقسم بالمصحف كذبا. هذا الآدمي قد انطلقت غرائزه الدنيا لا يقوم لها شيء، لكن بقيت برغم هذا في نفسه منطقة عذراء لم يتطرق إليها فساد: منطقة العقيدة! أهناك إذن حد فاصل بين العقيدة والغريزة؟ كذلك كان يدهشني أمر صديق من خيرة القضاة، كثير الورع، حريص على العبادة والصلاة؛ ومع ذلك بقي عقله حراً من كل قيد. ما يدور بيننا حديث في الخالق والخليقة حتى يذهب هو في التدليل والمنطق كل مذهب إلى أن يقع في الإلحاد وإنكار الجنة والنار. وينادي المؤذن بالصلاة فإذا القاضي يسرع مخلصاً إلى ذلك الدين الذي قال فيه منذ لحظة قولاً عظيما. أهناك إذن حد فاصل بين العقيدة والعقل؟
إذا قلنا مع القائلين إن العقل والقلب والغريزة ملكات ثلاث منفصلة إحداها عن الأخرى، فإن هذا القول يؤدي حتما إلى نتائج غريبة قد تعدل من نظرتنا إلى الأشياء. ولعل أول ما يفهم من هذا الاستقلال بين ملكات تباين ألوان الحقيقة لدى كل منها؛ فما يصدق عند القلب، قد لا يصدق عند العقل. بل إن كل ملكة من تلك الملكات تسيطر على عالم مختلف جد الاختلاف عن عالم الأخرى. يقابل ذلك في المحسوسات تلك الحدود والحواجز بين الحواس، فعالم البصر منفصل عن عالم السمع، والحقيقة البصرية غير الحقيقة السمعية، وما يعتبر موجوداً في منطقة العين لا يعتبر موجوداً في منطقة الأذن، فهذا الحجر الساكن حقيقةُ تراها العين المبصرة، ولكن الأذن لا تدرك ولن تدرك هذه الحقيقة، ولن تعرف مطلقاً ما هو الحجر وما شكله، لأن عالمها وهو عالم الأصوات لا يخطر له على بال أن في الوجود عالما يسمى عالم المرئيات. فالعقل لا يدرك إلا ما يلائم وظيفته وما يخضع لمقاييسه. والحقيقة العقلية ليست الحقيقة المطلقة، وليست الحقيقة كلها. ولكنها الحقيقة التي يستطيع العقل أن يراها من زاويته. فإذا كانت العقيدة مرجعها القلب، فإن العقل لن يرى منها إلا الشطر الذي يستطيع أن يراه، ويظل محجوبا عنه الشطر الواقع في دائرة القلب.
فوجود الخالق الجبار المنتقم الرحمن اللطيف لاشك فيه عنه القلب؛ أما العقل فإن استطاع بالمنطق أن يتصور وجود الخالق، فأنه قد يرتاب في صحة تلك الصفات المنسوبة إليه؛ وقد يراها في منطقة صفات آدمية أسبغها البشر على خالقهم إجلالاً له، لأنهم وهم بشر لا يملكون غير تلك الصفات التي هي في عرفهم مرادف الإكبار والتقدير. أما حقيقة الخالق فأمر بعيد عن مقدرة العقل، وهل يستطيع الجزء أن يرى الكل؟ هل تستطيع الكبد في جسم الإنسان مثلاً أن تحيط إدراكاً بحقيقة شكل الإنسان الخارجي وهي جزء منه داخل فيه؟ إن كل ما تدركه الكبد هو وجود تلك المواد التي تمر بها كل يوم فتحولها إلى إفرازات دون أن تدري من أين جاءت، ولا إلى أين تذهب. العقل أيضاً يرى الأحياء كل يوم تدور دورتها دون أن يدري من أين جاءت ولا إلى أين تذهب. فالحقيقة العقلية أو العلمية لا يتجاوز علمها الكائنات التي تمر بالحواس؛ ومن يحمل العقل أكثر من قدرته فهو إنما يريد منه المستحيل، كمن يطلب إلى الكبد مضغ الطعام. فالحقيقة العقلية أو العلمية شيء، والحقيقة الاحساسية أو الدينية شيء آخر؛ وإن رجال الدين يقعون دائماً في الخطأ، إذ يبسمون بسمة الظفر كلما قال رجال العلم قولاً يتفق مع الدين، ويقطبون تقطيب الغضب كلما نقض رجال العلم أسس الدين. وما أحراهم في كلتا الحالين أن يبسموا غير مكترثين بسمة الصفاء واليقين، وأن يعتقدوا تمام الاعتقاد أن العلم في كلا الحالين كاذب عندهم وإن صدق، وأن لا شأن للعلم بهم، وأن الحقيقة الدينية بعيدة عن وسائل العلم ودائرة بحثه، وأن العقل يستطيع أن يهدم الدين كما يشاء دون أن يسمع القلب طرقة واحدة من طرقات معوله، وأن أولئك الملحدين الذين سخروا عقولهم الكبيرة لتفنيد الدين وهدم أصوله والشك والتشكيك في جوهره ووجوده، لم يستطيعوا لحظة واحدة أن يسكتوا صرخات القلب الحارة الصاعدة إلى ذلك الموجود الأسمى الذي بيده نفوسهم. إن عقولهم كانت ترغى وتزبد بالكلام المعقول والمنقول، وقلوبهم في معزل عن كل هذا الصخب، لا تشعر ولا تدري شيئاً عن المعركة الحامية القائمة في تلك الرؤوس. فالتوفيق بين العلم والدين ضرب من العبث. على أن اجتهاد المجتهدين في هذا السبيل لم يتعدى ذلك الجانب من الدين الخاضع بطبيعته لحكم العقل، وهو الجانب الاجتماعي المبني على الأخلاق وما يتفرع عنه من فكرة الفضيلة والرذيلة. . .
وهنا يتساءل الناس دائماً: ما الدين؟ أهو شيء مفيد للبشر في أمر حياتهم ومعاشهم؟ أم إنه طريق لحل اللغز الأكبر وسبيل للنفوذ إلى المجهول؟. في الواقع أن كل دين من الأديان المعروفة يتكون من هذين الوجهين. فالدين كقانون اجتماعي ينظم الغرائز ويحفظ التوازن بين الخير والشر، هو أمر متعلق بذات الإنسان، متصل إذن بعقله وعلمه. على أن عنصر (الأخلاق) في الأديان ليس كل جوهرها. فإن بعض البلاد قد استطاعت أن تجد في (الأخلاق) غنى لها عن (الأديان)؛ إنما قوة الدين وحقيقته في العقيدة والإيمان (بالذات الأزلية). هنا لا سبيل إلى الدنو من تلك (الذات) إلا عن طريق يقصر عنه العلم الإنساني، بل يقصر عنه كل علم، لأن العلم معناه الإحاطة، والذات الأبدية لا يمكن أن يحيط بها محيط، لأنها غير متناهية الوجود. فالاتصال بها عن طريق العلم المحدود مستحيل. هاهنا يبدو عمل الدين ضرورة للبشر. إني ما كتبت هذه الكلمة اليوم إلا لألفت نظر رجال الدين إلى وجوب التسامح والهدوء كلما قام باحث يتكلم في الدين عن طريق العقل، فإن الشرق اليوم مقبل على حياة علمية واسعة مهادها المعاهد والجامعات؛ ولابد لنماء ملكة العقل من التفكير الحر الطليق، كما لا بد لحياة ملكة القلب من الشعور الحار العميق. فليترك رجال الدين المفكرون يفكرون كما يشاءون، ويثرثرون كما يريدون، ويعرضون بضاعتهم الكلامية التي هي كلها بهرجهم الآدمي الأجوف، فإن كل هذا الضجيج العقلي لن يصل خبره إلى القلب الذي لا يفتر لحظة عن التسبيح رغماً عنهم بالعقيدة التي ركبت عليها حياته النابضة. . .
توفيق الحكيم
الإسلام كعامل في المدنية
للأستاذ أحمد أمين
لعل أهم تراث الإسلام وأثره في المدنية أمران: (الأول) العقيدة الإسلامية، لأني أرى أن كل ما نشأ عن الإسلام من فتح وعلم وإدارة وفن وغيرها أثر من آثارها، فالعربي قبيل الإسلام كان هو العربي بعيده، في جسمه وجوهر عقله ومعدنه، ولم يجعله يتجه إلى الفتح ويرى نفسه جديراً بأن يقف في المستوى الذي تقف فيه أرقى الأمم في عصره - وهما الفرس والروم - بل يرى نفسه أرقى منهما، وأجدر بأن يحكمهما ويوجههما وجهة خيراً من وجهتهما ويدخل التعديل على مدينتهما - إلا عقيدته؛ فهي - وحدها - الشيء الجديد في حياة العربي المسلم. لم يأت الإسلام في أول دعوته بنظريات هندسية، ولم يخترع آلات حربية، ولا فنوناً جديدة، ولا نوعاً من الإدارة جديداً، لأن هذه كلها أمور ثانوية بجانب العقيدة؛ فالعقيدة إذا صلحت أصلحت كل فاسد، ونشأ عنها كل أسباب التقدم ولو كان صاحبها فقيراً جاهلاً، حتى ولو كان في بلد جدب وأرض قفر، ولو لم ينشأ في مدنية ولو لم يرث حضارة. والعقيدة إذا فسدت أضاعت الثورة الموروثة ولم ينفع معها علم ولم يفد غنى، كلا ولا تنفع أرض خصبة ولا مدنية فخمة، ففيلة الفرس لم تثبت أمام بعير البدوي، ولا الدروع المضاعفة الرومانية استطاعت أن تصمد أمام نبال العربي وقوسه الساذجة، لأن بعير البدوي كان يحمل على ظهره قلباً مؤمناً، وفيل الفارسي كان يحمل فؤادا هواء؛ والقوس العربية كانت تصدر عن عقيدة صحيحة قوية ملتهبة، ودروع الروماني كانت تتضمن قلباً لا عقيدة فيه، كل همه شهوة ينالها ومتاع زائل بأمل أن يلتذ به، فإن فقد العربي حياته في القتال فلا بأس فإنما يعجل ذلك من قربه من الله، وإذا فقد الفارسي أو الروماني نفسه فيالها من خسارة، فقد حرم الخمر والنساء وحرم متع الحياة؛ فإذا قاتل العربي قدم حياته فحفظت حياته، وإذا قاتل الآخر قدم عدده وادخر حياته فخسر عدده وحياته. لم يتغير شيء في حياة العربي عند ظهور الإسلام إلا عقيدته، وكل شيء تغير غيرها فبسببها. وقد كنت أود أن أقتصر على الكلام فيها لولا أن هناك ناحية أخرى تهمنا كأثر قوي في بناء المدنية وهي (أثر الثقافة الإسلامية في المدنية)، فهي من جهة أكبر أثر للعقيدة، ومن جهة أخرى أقوى مركز ترتكز عليه المدنية. لهذا سنحصر قولنا في هاتين
الناحيتين وفيهما الغناء
العقيدة الإسلامية -
كان العرب في جاهليتهم يعبدون الأصنام، قد اتخذت كل قبيلة إلهاً من صنم أو وثن، وقدمت إليه القرابين وجعلته الآمر الناهي، وهو طور تكاد تكون الأمم كلها قد مرت عليه وأن اختلفت أسماء أصنامها باختلاف بيئاتها؛ ذلك لأن في طبيعة الناس الإيمان بقوة فوق قوتهم تدفع عنهم الشر وتجلب لهم الخير، وتحي وتميت، وتخلق وتفني؛ وإذا كان العقل قاصراً ركز هذه القوة في شيء من المادة خلع عليه هذه الصفات، فأحياناً يكون صنما، وأحيناً يكون الشمس والنجوم، وأحياناً يكون شجراً، وأحياناً يكون حيواناً، وأحياناً يكون نهراً أو بحراً، فكل هذه الكوائن عبدت عند الأمم المختلفة، لأنها أحست أن في أعماق نفسها عقيدة بقوة فوق قواها. تساوت الأمم في هذا، ولكنها اختلفت في الشكل الذي تجسد فيه هذه القوة فتعبده، بحسب قوتها العقلية والخيالية ومواضعها الجغرافية وبيئتها الاجتماعية
وكانت هذه هي الحالة الساذجة للعبادة عند الأمم يعترفون بإله أو إلهة، ويشكلونها في شيء محسوس يقدمون لها صنوف التعظيم والتمجيد - فكرة حق ولكنها اتخذت مظاهر خرافية كالطفلة في غريزتها الأمومة، وفي طبيعتها الإشراف على تنظيم الحياة البيتية، فهي تتخذ لها لعباً من عرائس تجعلها أبناءها وبناتها وتمنحها عطفها، وتنفذ عليها أوامرها إجابة لداعي الغريرة الكامنة وإرهاصاً لما يكون منها بعد نموها
وأحياناً يحاول أن يتخلص من المادة فيعبد أرواحاً جناً أو ملائكة أو نحو ذلك، ولكن سرعان ما ينتكس ثانية فيسبغ عليها أوصاف المادة فيجعلها ذكوراً وإناثاً، ويجعل لها أجنحة تطير بها، ويجعل لها قروناً وذيولاً لأنه لم يرق حتى يستطيع أن يتحرر من عبادة المادة بتاتاً
كذلك كان العرب بل كان أكثرهم في حالة منحطة من عبادة المادة، يعبدون الحجر لا النجوم ولا الأرواح، ويأتمرون بأمرها في زعمهم في إقامة ورحيل، وإقدام وإحجام، وزواج وطلاق
وعبادة الأصنام كائنة ما كانت - تشل حركة العقل، وتضعف قوة النفس، وتحط الحياة الاجتماعية، وتجعلها حياة خرافية وضيعة. مثل هذه العقيدة تعوق العلم، لأن العلم لا
يلائمها، وتعوق التفكير الصحيح لأنه ليس من طبيعتها، وتعوق التقدم الاجتماعي لأنه أساس إطلاق الفكر من قيوده، والفكر مشلول بعبادة الأصنام
ومن أجل هذا كان أهم ما أتت به سلسلة الأنبياء محاربة هذه العقيدة، وتخليص الفكر من قيوده التي قيدته بها العقيدة في الحجر والشجر، والنجوم والبحار والأنهار؛ وكان نجاحهم في أول الأمر قليلا قليلا، لأنه لم يكن يقوى على احتمال تجريد الإله عن المادة إلا القليل من الناس، وحتى في العصور الحديثة لا تزال النزعة إلى مادية الإله تتسرب في أشكال مختلفة، مع رقي العقل البشري ونموه ونضوجه
وقد بدأت هذه الدعوة إلى التجديد في الأمم السامية من عهد إبراهيم، واستمرت بين الظهور والخفاء، وكلما تقدم الناس كانوا أكثر لها استعدادا وأقرب قبولا، حتى أتى محمد (ص) فدعا دعوته الجريئة الصريحة إلى كسر الأصنام وتحطيم الأوثان وتخليص العقيدة من كل شرك، وتجريد الله من كل مادية؛ وكان شعار عقيدته (لا إله إلا الله)، ومدار عقيدته (ليس كمثله شيء)؛ فالأصنام ليست تصلح لشيء إلا للمعاول، والنجوم هو الذي خلقها ونظم حركاتها، والبحار والأنهار هو الذي خلقها وأجرى ماءها، والملائكة هو الذي خلقهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)، لا شيء يشاركه في ألوهيته من مادة أو روح - هو حقيقة واضحة معقولة في شكل - غيبت عن العقول حقيقته، وظهرت لهم صفاته، فهو الخالق لكل هذه الظواهر، وهو الذي يسيرها، وهو غرضها الأسمى؛ هو وحدة لا تعدد بأي حال - تنزه عن المادة وتنزه عن الشريك
سلك القرآن في الدعوة إلى الإيمان مسلكا خاصا، فبعد أن أبان للإنسان أن الله خالق كل شيء، وأنه رب العالمين، طلب إليه أن ينظر إلى كل شيء في العالم من صغير وكبير، فسيرى فيه مظهراً من مظاهر الألوهية، ودليلا على عظمة الله وقدرته لم ينهج القرآن منهج الفلاسفة في دوران العقل حول نفسه ليستخرج منها نظريات مجردة، ومقدمات ونتائج منطقية، إنما طلب أن تمتزج النفس بالعالم، وأن ينفذ العقل إلى رب العالم عن طريق العالم، لأن هذه الطريقة أكثر إحياء للشعور، ومبعثاً لحياة القلوب؛ والإيمان ليس يعتمد على العقل وحده، بل هو يعتمد على القلب أكثر من اعتماده على العقل. من أجل هذا طلب القرآن النظر إلى كل شيء في العالم من الذباب والنحل والعنكبوت، إلى الفيل
والجمل، إلى البحر والنهر، إلى السماء والأرض، إلى السحاب المسخر بين السماء والأرض، إلى الشمس والقمر، إلى الليل والنهار. والقرآن مملوء بالآيات التي تصل الإنسان بالعالم، وتصل العالم بالقلب، وتبعث حرارة الإيمان بالله، وتملأ القلب حياة وحماسة. وهذا هو الذي ملأ صدر الصدر الأول من المسلمين بالعقيدة، وجعلهم يبيعون أنفسهم في سبيل الله عن سخاء. وهذا بعينه هو الذي شجع المسلمين على البحث العلمي، فقد اتجهوا إلى العالم يستدلون به على خالقه فدفعهم ذلك إلى العالم يتعرفون طبيعته وقوانينه، وهذا هو العلم. لم يطلب إليهم الإسلام أن يعيشوا في صوامع يديرون طاحونة العقل على هواء، بل طلب إليهم أن يتصلوا بالعالم يدرسونه وينظرون فيه خلقه وخالقهم، فكان ذلك داعية للعلم والمدنية معاً. لم يتطلب الإسلام من صاحبه أن يعيش عيشة روحية مطلقة مجردة عن المادة، بل طلب إليه أن يمزج الحياة الروحية بالحياة المادية، وأن يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته، وأن يتزوج ويصلي، وأن ينعم بالحياة فلا يحرم على نفسه زينة الدنيا وطيبات الرزق كما ينعم بالنظر وبالتفكير في ملكوت الله، وبعبارة أخرى لم يتطلب الإسلام من الإنسان أن يكون ملكا، وإنما طلب إليه أن يكون إنساناً كاملا، يعيش وفق ما خلق، فقد خلق جسما وروحا، فلجسمه عليه حق، ولروحه عليه حق؛ فلا عجب بعدُ أن رأينا المسلم يساهم في بناء المدنية لأنها واجبه، وفي بناء الروحية لأنها مطلبه
لم ينح الإسلام منحى العلم، يقرر القوانين جافة جامدة كما تفعل العلوم الرياضية والطبيعية، وكما تفعل الميتافيزقيا اليونانية فهذا هو العلم؛ ولكنه سلك مسلكا سماه (الحكمة) وقال:(ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب)؛ وما الفقر بين العلم والحكمة؟ العلم هو هذا النوع من المعرفة التي تأتي من طريق الحواس وما تألف منها؛ فإذا نظمت هذه المعارف ووضعت كل طائفة منها في مجموعة سميت علماً. أما الحكمة فمزج الروح والنفس بالعالم، والعلم يغذي العقل وحده؛ أما الحكمة فتغذي العقل والمشاعر، وهذه المشاعر هي التي عبر عنها الدين بالقلب والفؤاد. إذا كان العلم ينظر إلى الإنسان فيقسمه إلى أجناس، وإلى أمم، وإلى ذكور وإناث، فالحكمة تنظر إلى الإنسانية في الإنسان وإلى الإنسانية التي من ورائها الله يسيرها وينظمها ويمنحها الوجود ويمدها بروح منه. وإذا كان العلم يقسم النبات إلى فصائل، ويميز اختصاص كل فصيلة، فالحكمة ترى في اختلاف
أنواع النبات دليلا على القدرة الإلهية. وهكذا بينا في العلم تمد الطبيعة رباطا بينها وبين العقل، تمد الحكمة رباطين أولهما وأولاهما بينها وبين القلب، وثانيهما بينها وبين العقل
ومن أجل هذا عني القرآن بمظاهر الاختلاف بين القوانين الطبيعية أكثر مما عني بتقرير القوانين الطبيعية الجزئية، فهو يلفت النظر إلى الإنسان، كان نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم كان من المضغة عظام، ثم كسا العظام لحما، ثم كان ذلك إنسان
ولفت النظر إلى اختلاف الليل والنهار، وتعاقب الشمس والقمر، واسترعى النظر إلى السحاب يسير بإذن الله، ثم يمطر ماء فتكون منه زروع وجنات يأكل منها الإنسان والأنعام، وإلى الإنسان واختلاف ألوانه واختلاف ألسنته، وإلى حركة الماء في البحار والأنهار وتلاقيهما. وهكذا عُني القرآن بهذه المناظر المتغيرة، وبهذه الحركة الدائمة لأنها أمس بالشعور وأقرب إلى الحكمة وأدل على المحرك والخالق والمدبر، فكانت بذلك مبعث إيمان صادق حار لا يفتر
وقد غفل علماء الكلام من المسلمين عن الفرق بين العلم والحكمة، وبين الفلسفة والدين. وبين منهج القرآن ومنهج اليونان، فحولوا - وعلى رأسهم المعتزلة - الدين من القلب إلى العقل البحت، وألفوا العقائد في شكل قضايا منطقية، فتحجر الدين، وانقلب جسما جامدا لا روح فيه، فخمدت حرارته، وضعفت شعلته، وقل نوره وضياؤه
بهذه العقيدة التي ألممنا بها نقل الإسلام العرب من أفق خرافي ضيق كسم الخياط ينحصر في تقديس الحجر والرجوع إليه في أهم الأحداث، إلى أفق فسيح لا حد لسعته، يطالع فيه جميع المخلوقات في الأرض والسماء، ويسبح بعقله وشعوره فيها، ويمتزج بها، بل هو لا يقف عند ذلك، ويتعداه إلى إله مجرد عن المادة، ومنزه عن شبه المادة، يحكم العالم ويسيطر عليه، وينظمه ويسيره، وهو وحده لا شريك له رب العالمين
وضع الإسلام في يد العرب الذين كانوا يدينون بالأصنام معاول يكسرون بها الأصنام، وهم إذ كانوا يكسرونها حسياً كانوا يعلنون بعلمهم أنهم تحرروا من رق الخرافة، وسموا عن تقديس حجر، وارتفعوا بتفكيرهم وشعورهم إلى ما فوق المادة، واتصلوا بإله الكون يستمدون منه القوة، ونظروا من طيارة إلى من حولهم من الناس يرثون لحالهم، إذ رأوهم بائسين، كما كانوا هم بالأمس، من فرس مجوس يعبدون ناراً، وما النار إلا مخلوق ضعيف
تشبه في ضعتها الأحجار التي كانوا يعبدونها أيام جاهليتهم، ومن رومان تركوا وراءهم دينهم الصحيح وأخذوا يعبدون شهواتهم فعبدوا الخمر وعبدوا النساء وعبدوا المال وعبدوا الجاه، وما كل ذلك إلا أصنام كأصنامهم التي حطموها بالأمس، وما هي إلا ضرب آخر من ضروب النار التي يعبدها المجوس تشب بين جوانحهم. هؤلاء الفرس وهؤلاء الرومان الذين كانوا بالأمس القريب، المثل الأعلى للعرب، والذين كانوا يرون في أعماق نفوسهم أنهم أنفسهم عبيد، وأن الفرس والروم سادتهم، وأنهم سوقة والفرس والروم ملوكهم، وأنهم أذلة والفرس والروم أعزة، وأنهم فقراء وأمل الآمل منهم أن ينال من متاجرته مع الفرس والروم شيئاً من فتاتهم ومما تناثر من أيديهم؛ هؤلاء الفرس والروم أصبحوا في نظر العربي المسلم أسرى عقائد فاسدة، وأسرى شهوات وضيعة، وأن مالهم وجاههم وعدتهم وزينتهم لا تساوي شيئاً بجانب صحة عقيدتهم هم، لقد كانوا ينظرون إليهم من غواصة فيحسدونهم على استنشاق الهواء على ظهر الأرض، فأصبحوا ينظرون إليهم من طيارة عالية جداً فيرونهم حشرات حقيرة تتقاتل على متع دنيئة، ويرونهم المثل الأدنى للإنسانية. وقد كانوا المثل الأعلى، وأنهم أحق بالعطف عليهم والأخذ بيدهم، وقد كانوا من قبل يستجدونهم ويستذلون لهم ويخطبون ودهم. لم يقلب هذا الوضع عند العرب إلا العقيدة، وكفى بها ثورة: ثورة في العقل وفي القلب وفي الخلق جعلتهم كأنهم خلق آخر
هذه العقيدة بما أضاءت وبما بعثت من حكمة جعلتهم فوق العلم. أن شئت فانظر إلى عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة، وسعد ابن أبي وقاص وأمثالهم - ماذا كانت ثقافتهم العلمية بالمعنى الذي نفهمه الآن؟ كانت لا شيء، أو كانت ضعيفة كل الضعف، فليسوا على علم واسع بقوانين الحساب والهندسة، ولا بالجغرافية، ولا بشيء من فروع العلم، ولكن أضاءت الحكمة أذهانهم وقلوبهم ففاقت العلم؛ وإلا فكيف استطاع عمر بن الخطاب - مثلاً - أن يدير هو وأعوانه مملكة الفرس والروم، وقد بلغتا في الحضارة شأواً بعيداً، يعرف أهلهما الجغرافية معرفة واسعة، ويؤسسون المملكة على نظم إدارية وحربية دقيقة، وعندهم علم وأدب وفن. لو عهد بإقليم من أقاليم الفرس والروم إلى عمر في الجاهلية لحار في إدارته وارتبك، ولساسه كما يرعى الشاه والإبل، ولكنه الإسلام وما بعث من حكمة غير نظره إلى الأشياء وجعله ينفذ ببصيرته إلى نظم الفرس والروم فيدرك منها الصالح وغير الصالح،
ويعدل في إدارتها وشؤونها الاجتماعية تعديلاً لا يستطيعه العالم الماهر الذي تنتجه، حتى حضارة اليوم. فهو يغير من نظام الضرائب، وتوزيع الأراضي، وتدوين الدواوين، ويستطيع وهو في مكة أن يرسم خطة السير لحكومة تسوس العراق ومدن الفرس، كما تسوس الشام ومدن الروم! إنها إحدى العجائب الكبرى أن يصل بدوي إلى ذلك، وعهدنا بالبدوي الهمجي يخرب ولا يعمر، وإذا غزا وانتصر فكل مطمعه في الغنيمة. فما بال عمر وأمثال عمر يدخل التحسينات على الحضارة، ويقترح فيما يزيد العمران، ويبث في الحضارة القديمة روح العدل والإحسان؟ لا شيء غير العقيدة الإسلامية محصت نفسه، وطهرت قلبه، وجعلت نظره ينفذ إلى بواطن الأمور، يعدل على الذين لا يرون إلا الظواهر، ولا يهمهم إلا بهرجة الدنيا، والزخرف الظاهري
فإن نحن عددنا العقيدة الإسلامية - بالشرح القليل الذي شرحنا - أثمن ما قدمه الإسلام إلى المدينة لم نكن مبالغين
هذه العقيدة لا تقر بعظمة إلا عظمة الله، ولا تقر بتقديس ملك ولا بامتياز لرجال دين، ولا تعترف بوساطة أحد بين الإنسان وربه، ولا بأي نوع من أنواع الأرستقراطية: لا أرستقراطية المال ولا أرستقراطية العلم ولا أرستقراطية رجال الدين. كل الناس سواء. الناس من تراب وإلى التراب يعودون. ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. وخير الناس أنفعهم للناس
(البقية في العدد القادم)
أحمد أمين
منذ ألف عام
للأستاذ علي عبد الرازق
يوجد بين حياة الشرق في العصر الحاضر، وبين حياته منذ ألف عام مضت، نوع من التشابه يستوقف النظر. وقد يكون في دراسة هذا التشابه واستقصاء البحث فيه لذة ومتاع للنفس؛ وقد يكون فيه مع ذلك فائدة للعلم
وما ندعي أننا نستطيع الآن أن نستوفي جوانب هذا البحث أو نلم به إلمامة واسعة، وإنما نريد أن نفتح هذا الباب للباحثين لعلهم يجدون فيه خيرا كثيرا من أنواع المتاع وفنون العلم
وفي الحق أنه يوجد دائماً نوع من التشابه بين صور هذه الحياة الدنيا ماضيها وحاضرها وقديمها وحديثها؛ ومادام الناس هم الناس في جميع العصور، ومادامت كواكب السماء تروح وتغدو في دورة منتظمة لا تبديل فيها منذ وجدت كواكب السماء، ومادامت الأرض هي بعينها الأرض في الماضي والحاضر، فمن الطبيعي أن تتشابه إلى حدِ ما صور الحياة وأن يحاكي بعض الحوادث بعضا
والذي يقارن بين أي جزء من أجزاء التاريخ وبين أي جزء آخر منه لا يعجز عن أن يتبين بينهما مظاهر من التشابه والتماثل؛ ولكن التشابه الذي يجده الناظر بين حياتنا الحاضرة وبين الحياة من ألف عام ليس هو من هذا النوع الذي يلحظ بين جميع أجزاء الحياة وجميع مظاهرها. وليس هو من القلة بحيث لا يستلفت النظر ولا يثير رغبة البحث. فالتشابه هنا ظاهر وقوي يكاد يجعلهما صورة واحدة لعصر واحد
على أنه مع ظهوره وقوته لا يبلغ أن يكون دليلا على تماثل العصرين من جميع الوجوه، ولا على اتفاق العصرين في جميع الصفات والخصائص؛ وهو لذلك لا يبلغ أن يكون دليلاً قاطعاً على صحة ما يذهب إليه بعض الباحثين من أن التاريخ يعود بنفسه
منذ عام توفي المرحوم أحمد شوقي أمير الشعراء؛ ومنذ ألف عام توفي أبو الطيب المتنبي؛ وبين الرجلين من التماثل ما يشبه أن يكون مثلاً صادقاً لرجعة التاريخ، فقد يمكن القول بأن متنبي القرن الرابع كان شوقي القرن الرابع عشر، وبأن شوقي القرن الرابع عشر كان هو متنبي القرن الرابع
دع عنك ديباجة الشعر وما بين الشاعرين في ذلك من توافق جد قريب؛ وانظر إلى ما
أحاط بالرجلين من ظروف وملابسات؛ فقد كان عصر المتنبي عصراً داوياً بالشعر زاهياً بالكثير من الشعراء، ولكن شعر المتنبي قد غطى على أكثر تلك الأصوات الداوية؛ وقد غمر اسم المتنبي أكثر تلك الأسماء فكان كما قال عن نفسه:
أنا الصائح المحكي والآخر الصدى
وكذلك كان شوقي في عصر يهوى بالشعر ويزخر بالشعراء ففلج عليهم شوقي باسمه وبشعره، وجاءه الشعراء من كل صوب يبايعونه بأمارة الشعر
وقد كان المتنبي شاعراً مداحاً وكذلك كان شوقي؛ والمتنبي كان ينتقل بمدائحه من جناب إلى جناب، ومن بلد إلى بلد، وكذلك فعل شوقي
ولقد أخلص المتنبي في مديح سيف الدولة فأفاض عليه من مدائحه الخالدة خلوداً لا يبلى؛ وما كان سيف الدولة لولا المتنبي إلا ملكا كسائر الملوك
وكذلك أخلص شوقي في مديح سمو الخديو عباس الثاني، فأفاض عليه من مدائحه الخالدة خلوداً لا يبلى، وسجل اسمه مشرقاً وضاء في سماء المجد حيث لا يلمع كثير من الأسماء الطنانة
أننا لنأسف إذ لا نجد بين أيدينا صورة مفصلة لجوانب الحياة الاجتماعية في مصر منذ ألف عام لنستطيع أن نقارن بينها وبين جوانب حياتنا الاجتماعية الحاضرة لنستخلص ما يكون بين الحياتين من تماثل قريب أو بعيد
على أن ذلك لا يمنعنا من أن ندرك ما بين الحياتين إجمالاً من تشابه قوي إلى حد بعيد يثير العجب؛ فلقد ترك المتنبي وصفا واضحا وأن كان مجملاً للحياة في مصر أيام عرفها المتنبي واتصل فيها بمعية كافور الأخشيدي. ولعمري لا يزال أكثر ما قاله المتنبي في ذلك أو كله ينطبق على حياتنا الحاضرة ويصفها وصفا صادقاً:
نامت نواظير مصر عن ثعالبها
…
فقد يشمن وما تفنى العناقيد
وكم ذا بمصر من المضحكات
…
ولكنه ضحك كالبكا
أنا لفي زمن ترك القبيح به
…
من أكثر الناس إحسان وإجمال
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه
…
أني بما أنا شاك منه محسود
ولما صار ود الناس خبا
…
جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه
…
لعلمي أنه بعض الأنام
الخ الخ
منذ ألف عام كانت الخلافة الإسلامية في بني العباس تشارف النهاية وتلفظ الأنفاس الأخيرة من حياتها
وكان العالم الإسلامي في جملته يضطرم ثورة، ويتأجج بالمنازعات السياسية ناراً
على أن ذلك الاضطراب السياسي لم يمنع من سير الحياة الاجتماعية والعلمية في بلاد العالم الإسلامي سيراً مطرداً إلى الأمام
وعصرنا الحاضر يشهد تلك المشاهد نفسها أو قريبا منها، كما شهدها أجدادنا منذ ألف عام
ألا ليت شعري هل صحيح أن للتاريخ رجعة؟ وإذا كان ذلك حقاً فهل يرجع التاريخ كل ألف عام؟
علي عبد الرازق
مصرع الحسين
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان لنا، قبل الحرب، صديق معمر، من بني الفرس - أو من أجدادهم الأولين على الأصح - فقد كان عمره فوق المائة، وكنا نحاسبه فيكون تارة مائة وعشرين، وأخرى مائة وبضع سنوات، فأضحك وأقول:(يجب أن نقيد هذه الأرقام الرواغة). وأتناول القلم، وأقيم سنه على الورقة، وأنظر إليه. وأقول:(تفضل! قبل أن يغرق الطوفان الأرض كنت سعادتك سفيرا لدولتك عند بروسيا، ولما صعق موسى عند دك الجبل، كنت. . . .) فيتكلف الغضب، وينهرنا عن هذا العبث ويقول:(اختش يا ولد!)
وكان على عظم ارتفاع سنه قوي البنية، متين الأسر، وكنا نسأله عن سر ذلك، فيقول إنه لم يتزوج قط، فأضحك وأقول:(هات سبباً آخر، فإن هذا معلوم، مفهوم بالبداهة!) فيرفع عصاه الغليظة، ويلوح بها كأنما يهم بضربي، فينقلب ضحكنا قهقهة عالية مجلجلة، ويسره سرورنا فيفيء إلى الرضى
ويقول لنا أحياناً: (تعالوا نتمشى)، فنسأله:(أين؟ وإلى أين؟)، فيقول:(في طريق الجيزة)، وكان بيته في (باب الخلق)، فنخرج معه، إلى الزمالك ويقف بنا على جسره هنيهة، يحدثنا ويروي لنا أخبار القرون الأولى، أو يرتجل شعراً فكاهياً نجيزه، أو نشطر قصيدة لواحد من شعارير ذلك الزمان تشيطراً يخرج بها إلى الهزل الصريح والمجانة الشديدة، وأذكر من مطالع قصائده المرتجلة:
(قفي حدثيني عند كوبري الزمالك
…
وروي غليل القلب يا أم مالك)
ثم نستأنف السير بعد أن نميل إلى طريق الجيزة، حتى نفتر ونكل، وتخذلنا أرجلنا، وهو لا يزال كما بدأ، فيسخر منا، ويوسعنا تقريعاً وتعييراً، فلا نبالي، ونقعد على الأرض من شدة التعب. ويتفق أن تمر بنا سيارة، تخطف، فيشير إليها ويقول مازحا:(خذونا، أخذكم الله!)
ولم يكن هزالا، وإنما كان يوسع لنا صدره، ويتقبلنا على علاتنا، ويأنس بنا كأنسنا به، وكانت الدنيا كلها أصدقاء له، ولكنا نحن كنا نلازمه بعد أن نفرغ من أعمالنا، وكان بيته نادينا، وفيه تعقد حلقتنا الأدبية الخاصة، وما أكثر ما كنا نقول له:(نريد أن نأكل أرزاً فارسياً) فيمضي بنا إلى المطبخ لنساعده، فهذا يقشر بصلا، وذاك يغسل آنية، وثالث يضرم
النار وهكذا، حتى يطبخ الأرز ويغرف في الصحون، ثم نحف به - أعني الأرز - ونقبل عليه فنلتهمه
وكان لنا خيراً من الأب، وأخلص من الصديق وأوفى، وكان ربما رأى أحدنا ساهما أو واجماً، فيسأله عن سبب ما يبدو عليه، فيفتح له صدره، ويبثه ما فيه، ويقول له بشجوه، حباً كان ذلك أو هما، أو غير ذلك؛ فيشير عليه بالرأي الناضج، ويخلص له النصح، ويقوي ضعفه ويشجعه، ولا يزال به حتى تعود إليه البشاشة
وقال لنا يوماً: (خذوا) وناولنا بطاقات فيها دعوة إلى ما كان يسمى (زفة الحسين)، وما هي بزفة، وإنما هي مأتم، ولكنها هكذا كانت تدعى على ألسنة العامة، فذهبنا في الموعد المضروب إلى بيت رحيب في زقاق ضيقن فوجدنا هناك كثيرين من رجال مصر المعروفين، أجلسنا معهم، ثم دعينا إلى مائدة مثقلة بألوان الآكال الشهية، وكان الأستاذ البرقوقي إلى جانبي، فظمئ على الطعام، وأسر إلي بذلك - لا أدري لماذا - فأومأت إلى الخادم، فناوله كوباً رفعه إلى فمه، وما كاد يفعل حتى رده عنه، وقال:(بفففف!)، ذلك أنه كان سكراً مذاباً لا ماء، فعجبنا واتقينا أن نشرب
وانحدرنا إلى صحن الدار، وكان فيها منبر، ارتقى إليه شيخ فارسي، وانطلق يقول كلاماً لم نفهمه، ولكن صوته كان يتهدج وكانت الدموع تتسايل على خديه، وتبل لحيته الكثة، وقيل لنا إنه يرثي الحسين ويندب مصرعه، وكان الذين يفهمون كلامه من بني جنسه يبكون، بل ويعولون، ومنهم من كانت تهيج حرقاته فيلطم، أو يضرب صدره أو ظهره العاري بسلسلة غليظة من الحديد، أو يضرب جبينه ببطن سيف مسلول، أو بكله - أي قفاه الذي ليس بحاد - ولكن أحدهم اضطرب وهو يفعل ذلك فأصاب حد السيف جبينه فانفجر الدم كأنه من نافورة، وقد خفوا إليه، وضمدوا جرحه، وعصبوا له رأسه؛ وهال أحدنا منظر الدم، وظن أن الرجل لا محالة هالك، فأغمي عليه، وسقط على الأرض كما تسقط الخشبة، فأنشقوه شيئاً في زجاجة أنعشه ورد إليه روحه
ولا أحتاج أن أقول شيئاً في وصف الموكب الذي يخرجون به ويطوفون بالشوارع وهم يدقون صدورهم العارية أو يضربونها بالسلاسل، أو يخبطون وجوههم أو عواتقهم ببطون السيوف، فإن ذلك كله معروف مألوف، وإن كان قد انقطع، والأكثر من الناس قد رآه في
زمانه، ولكني أقول إني بعد بضعة أيام من شهود هذه (الزفة) وقعت على مقال في مجلة إنجليزية لكاتب إنجليزي أو ألماني - لا أذكر، فإن العهد بها بعيد، وقد فقدتها على الرغم من حرصي علبيها وتحفظي بها - وفي هذا المقال يذهب الكاتب - والأرجح أنه ألماني - إلى أن الحسين بن علي رضي الله عنهما، تعمد أن يضحي بنفسه؛ وأذكر أنه قال إن الحسين لم يكن أبله، فقد حاول أمراً عرف مبلغ استحالته، ومع ذلك أصر على الزحف، وليس معه إلا النساء والأطفال وحفنة صغيرة من الرجال، مضى بهم وبنفسه معهم إلى بوار محقق
وقد دارت في نفسي هذه المقالة، فذهبت بها إلى صديقنا الفارسي، فقد كان عالما واسع الاطلاع، غزيرة المعرفة، وترجمتها له، وسألته عن رأيه فيها، فلم يتردد في الموافقة عليها. وقد فكرت بعد ذلك في أمر الحسين وفي مغامرته العجيبة، فلم يزدني ذلك إلا اقتناعاً برأي هذا المستشرق الألماني، وبغير ذلك لا أدري كيف يستطيع المرء أن يفسر إقدامه على طلب الخلافة وسعيه لانتزاعها من بني أمية، فقد عرض نفسه على كثير من القبائل فما وجد منها إلا إعراضاً وانصرافاً. أو على الأقل فتور شديدا عن نصرته، ومن حقه أن يثبط، وليس من شأنه أن يشجع؛ ولم يكن حوله من الرجال من يطمع أن يديل بهم من بني أمية، وحمل معه النساء حتى لكن أكثر من الرجال، ولم تصده عن السير خيبة مساعيه عند القبائل، ووضوح خذلانها له؛ والتقى برجال بني أمية فعرضوا عليه ما لا يمكن أن يحلم بالفوز به بمجهوده، فأباه وأصر على المغامرة، فوقعت الواقعة، وكانت هذه المجزرة الخالدة التي لا يزال أثرها باقياً إلى اليوم
ولم يكن الحسين مجنوناً، ولا طياشاً، ولا عرف عنه ما يحمل على سوء الظن بعقله ونظره، فكيف هم بأمر كان من استحالته على يقين جازم؟؟ وهبه كان مخدوعا في أول الأمر فقد رأىّ من الإعراض عنه والخذلان له، والزهد في الانتفاض على بني أمية، والخوف من بطشهم وانتقامهم، ما يدفع إلى اليأس ويغري بالقعود؛ ولا يمكن أن يقال إنه كان يرجو فلاحا، فما كان معه في زحفه إلا النساء وإلا عشرات لا تغني، ولا يعقل أن تصبر على قتال دولة ذات بأس وصولة، وما رأى أحدا استجاب لدعوته، أو أبدى استعدادا للحاق به، حتى يقال إنه كان ينتظر نجدة ومددا، وهؤلاء النسوة من آل بيته لم أصر على
حملهن معه وزحفه بهن، وقد كان خليقاً بعد أن رأى كيف خذلته القبائل أن يشفق عليهن ويردهن ليقيهن أن يصرن إلى ما هو صائر إليه لا محالة، ألا يعذر من يذهب إلى أن استصحابه لهن إلى المذبحة، إنما كان مقصودا به أن يحف المصرع الذي مضى إليه عامدا بكل عوامل الاستفزاز وعناصر الإيلام المثير؟؟ لقد ألقى بهن معه على القتل أو الإذلال والتحقير والهوان، وهن آل بيت الرسول صاحب هذا الدين، فلولا أنه تعمد أن يضحي بهن معه ليقيم القيامة على بني أمية، لكان أيسر التفكير كافياً لحمله على إقصائهن عما سعى إليه ووطن نفسه عليه، ولكنه نظر فرأى أن استرداد الدولة من بني أمية مطلب لا سبيل إليه ولا مطمع فيه، فيئس من إمكان ذلك بالوسائل المألوفة، فقال أنسف الدولة الأموية من قواعدها، وأكون أنا اللغم الذي ينفجر تحتها، فيزلزلها ويدك بنيانها، ويطير أنقاضها، ويجعل عاليها سافلها؛ ولابد لذلك من أن تكون التضحية تامة، وعلى أبشع صورة من الصور، وأرغم بني أمية على أن يقتلوني أقبح القتل، وأن يمثلوا وينكلوا بي وبأهلي أشنع التمثيل والتنكيل؛ فيستفظع المسلمون منهم ذلك - على قرب العهد بالرسول - وتضطرم نفوسهم بالموجدة والنقمة عليهم، وينقلب العالم الإسلامي بركاناً يظل يفور ويغلي في جوفه الحقد والبغض، ثم ينفجر، فلا يبق ولا يذر؛ وإني لميت ميت، طال الأجل أم قصر، ولخير من أن أموت حتف أنفي، أن أجعل ميتتي تكلف بني أمية ملكهم كله ودولتهم أجمعها؛ ولقد خرج الأمر من أيدينا وصرنا رعية لبني أمية، فإذا رضينا وقنعنا من الحياة بالطعام والشراب، وقعدنا ننتظر الأجل في أوانه، ثبتت الدولة ورسخت قواعدها. وإني لأعلم أنه ليس لي حول ولا قوة، ولكن في وسعي أن أملأ نفوس المسلمين قيحاً وصديدا من كره بني أمية، إذا بذلت دمي، وما دمي؟ وهو سيجمد في عروقي يوما ما، فأولى أن يخضب الأرض فلا تلبث أن تنقلب جحيما عليهم؛ وما خير أن أكون سبط الرسول إذا أنا لم أرج الدنيا بذلك؟ وإن الأمر لراجع إلينا لا محالة إذا أنا جعلت من نفسي ومن أهلي ضحايا لبني أمية، ويجب أن يكون قتلنا استشهادا مروعا لتكون الدية هذه الدولة كلها
لهذا أصر على المغامرة، وهو على يقين من نهايتها، وأعرض عن ذكر العواقب التي كان يعرفها معرفتها، ولم يكترث بخذلان من دعاهم إلى نصرته، بل اغتبط بذلك، وحمل أهل بيته معه. ليحيق بهن كل مكروه من الأذى والهوان، وليكون ما يصيبهن أبلغ في إشعار
العرب هول الفجيعة، وأبى أن يجعل أذنه إلى الذين أشفقوا عليه أو سعوا عنده ليترضوه ويحملوه على العدول، أو وعدوه ما شاء غير الخلافة؛ ولم يكن يخفى عليه أنه يعاند ويكابر ويتحدى الأقدار، ولكنه كان يدرك أن هول المصرع الذي يسير إليه مصمما عليه سيطوي كل ذكر لما عداه، فلا يبقي إلا أن بني أمية قتلوا سبط الرسول وآله، ومثلوا بهم أقبح التمثيل. وكان يعرف أن بني أمية لابد أن يعدلوا عن محاسنته إلى المخاشنة لشدة ما يرون من عناده وصلابته، إذ كان لا يسعهم أن يتركوه يحرض الناس على الخروج عليهم، بلا كابح، وقد عرضوا عليه كل ما دون الخلافة فازدراه، فلم يبق مفر من رده بالقوة، كما شاء هو؛ وكان هو يعول في سياسته هذه على إحراجهم وإكراههم على البطش به، ويعتمد على ما تدفعهم إليه لجاجته في استفزازه لهم، فتطيش حلومهم، فتكون الطامة عليهم بعد أن تدور الدائرة عليه. وقد جرى كل شيء على ما قدر ورسم، وحدث ما كان ينشد، فأسرف الأمويون في القتل والتمثيل والتنكيل، كما كان يتوقع، وصدقت فراسته القوية في رجال الدولة على عهده، ولم يخب له ظن أو رأي فيهم، فريعت الدنيا، وهالها الأمر على ما كان قدر، وصارت كل قطرة من دمه، وحرف من اسمه، وهاتف من ذكراه، لغما في أساس الدولة الأموية
وقد ذهبت الدولة الأموية في سبيل من غبر، وجاءت بعدها دول أخرى لحقت بها، ومضى أربع وخمسون وثلثمائة وألف سنة، ولا تزال لذكرى مصرع الحسين هزتها الأولى في كثير من البلاد الإسلامية؛ ومأتمه يقام كل عام في كربلاء كأنما هو لم يقتل إلا الساعة؛ ويموت الشيعي في بغداد أو سواها فيحمل منها إلى النجف ليدفن هناك. وأحب آل البيت إلى النفوس وأعزهم عليها هو الحسين، ولا تزال العيون تغرورق بالدمع، والقلوب تخفق، والصدور تعلو وتهبط لحكاية هذا المصرع. فمن كان يصدق أن الحسين فعلها عن طيش أو سوء تقدير، أو تورط، فإني لا أصدق إلا أنه أقدم عليها متعمدا لها. ولو أن ميتاً استطاع أن يضحك ساخراً لضحك الحسين ورأسه بين أيدي قتلته البلهاء
ولست أعرف ميتة أخرى أبلغ أثراً في حياة الناس، ومستقبل الدول والأمم، ولا أطول منها - مع عمق الأثر - عمر ذكرى
إبراهيم عبد القادر المازني
صور من التاريخ الإسلامي
أم المؤمنين خديجة بنت خويلد
للأستاذ عبد الحميد العبادي
كم يود صاحب هذا المقال لو كان شاعرا وثاب الخيال، مطلق العاطفة، جزل الألفاظ، سري المعاني! إذاً لاستطاع أن يصوغ للقراء من سيرة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد قصيدة عصماء يضمنها مناقب تلك السيدة الجليلة، وما مناقبها إلا مناقب المرأة الكاملة من جمال، وطهر، وعفاف، وزوجية بارة، وأمومة صحيحة، ومواساة في أشرف معانيها
ولكن صاحب هذا المقال، وا أسفاه! ليس شيئاً من ذلك الشاعر الذي يتمنى أن يكونه. إن هو إلا مؤرخ يعرض لوقائع الحياة العامة من ناحيتها الوضيعة جهد طاقته، ويشد خياله الراكد إلى تلك الواقع، فلا يأذن له ولا بمحاولة التطاير والتحليق، ويكتم عاطفته حتى لا يطغي عليه سلطانها فيتنكب سبيل المؤرخ الذي همه البحث والتحقيق، ثم العرض البسيط للأشياء؛ فليقنع القارئ الكريم بالصورة المجملة التي أرسمها في هذا المقال، حتى يتأذن الله بظهور شاعر عظيم ينظم الإلياذة العربية، فيطالع فيها إذ ذاك فصلا عن تلك السيدة يكون من أبلغ ما خطه يراع شاعر وأروعه
كانت جزيرة العرب في القرن السادس الميلادي قد أخذت تتهيأ للأحداث الجسام التي تمخض عنها القرن السابع، وقد بدا ذلك التهيؤ في جميع مناحي الحياة العربية العامة، سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية. ونحن إنما تهمنا في هذا المقام الناحية الاجتماعية، ويهمنا منها بصفة خاصة نظام الأسرة. كان نظام الأسرة قد أخذ يتحول في حواضر الحجاز عامة ومكة خاصة إلى النحو الذي أقره في جملته الإسلام فيما بعد، فأخذت تتلاشى ضروب الازدواج القديمة التي اعتبرها الإسلام سفاحا، ويحل محلها نظام الزواج القائم على التراضي والتعاقد. وصاحب هذا التطور الخطير في بناء الأسرة تطور خطير مثله في مكانة المرأة الاجتماعية؛ فبعد أن كانت المرأة العربية ليس لها حق التمسك ولا حق الإرث، بل بعد أن كانت هي نفسها تملك وتورث في بعض الحالات، أصبحت تستمتع بحق الملكية وحق الميراث وحق التصرف في مالها، وحق مفارقة الزوج عند اللزوم، هذه الحرية المستحدثة جعلت المرأة العربية عاملا فعالا في الحياة المكية العامة قبيل الإسلام
وفي عصر النبوة
ولدت خديجة بمكة حوالي منتصف القرن السادس المذكور، وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وكان خويلد ممن قاد قريشا في حرب الفجار، ثم هي ابنة فاطمة بنت زائدة بن الأصم من بني عامر بن لؤي، ولا نعرف عن فاطمة شيئا، غير أن الذهبي يقول في جدها عمرو بن خنثر المزني أنه كان من أبطال الجاهلية. فنسب خديجة خديجة لأبيها وأمها يدل على أنها تنتمي إلى بيت من أعز بيوت قريش هو بيت عبد العزى ابن قصي، وإلى قبيلة من أعز قبائل مضر هي عامر بن لؤي؛ واكتنف عمود هذا النسب الجليل فروع وحواش زاهية زاهرة، نعد منها عم خديجة عمرو بن أسد وكان سيدا من سادات قريش، وأبناء عمومتها حكيم بن حزام، وورقة بن نوفل وأخته قتيلة بنت نوفل، فأما حكيم فكان صاحب مروءة وعاطفة طيبة تتجلى في صنيعه لبني هاشم والمطلب عندما حصرتهم قريش في الشعب، وأما ورقة بن نوفل فكان معدودا في تلك العصبة المستنيرة التي يعرف آحادها باسم (المتحنفين) قد ترك الوثنية، وتنصر وقرأ التوراة والإنجيل، وكتب العبرانية، وشاركته أخته قتيلة في ميوله الأدبية والدينية، فكانت (ممن ينظر في الكتب) على حد تعبير القدماء؛ ومن هذه الفروع أخو خديجة العوام بن خويلد، وكان من رجالات قريش، وهو والد الزبير بن العوام حواري رسول الله
فخديجة من أوسط قريش نسباً، كما يقول مؤرخو العرب، وإذا جاز للمؤرخ أن يلحظ عمل الوراثة في هذا المقام، فإنا نقول أنها ورثت عن أبويها مزايا السؤدد العربي، من نبل وكرم خلق ووفاء وشجاعة؛ كما لقفت من عمومتها تلك الاستنارة العقلية، وذلك السمو الروحاني الذي أعدها لتقدير الدعوة الإسلامية وقبولها عن طيب نفس وطواعية خاطر
تزوجت خديجة مرتين في مقتبل حياتها وقبل تزوجها من محمد بن عبد الله. تزوجت للمرة الأولى من عتيق بن عائذ بن عبد الله بن مخزوم، ثم مات عنها عتيق فتزوجت بعده أبا هالة هند بن زرارة التميمي. ثم توفى أبو هالة فغدت أيما. وقد ورثت على ما يظهر عن أبويها وزوجيها ميراثاً قيما رأت أن تقوم على استغلاله في التجارة التي كانت مرتزق قريش في ذلك الزمان. فكانت كما يحدثنا الرواة تستأجر الرجال في الاتجار بمالها لقاء نصيب تسهمه لهم من الربح
لكن خديجة الحسيبة النسيبة، الثرية الوسيمة، لم تزل بعد نصفاً في النساء، عوانا بين الشباب والكهولة، قد شارفت الأربعين ولما تعدها، وهي سن لها عند بعض النساء جمال وروعة، وملاحة وأخذة، وكان غير واحد من كبار قريش حريصاً على خطبتها، ولكن خديجة كانت تتأبى على الخطاب، لا رغبة منها في العزوبة، فهي أعمر قلباً وأنظر شباباً من أن ترغب فيها، ولكن لأن الأيدي التي كانت تمتد لخطبتها ليست من الطراز الذي يعجبها. لقد نضج عقلها، وكبر قلبها، وأصبح كل منهما ينشد الكفء والمثيل، ومن لها بالعقل الراجح، والقلب الكبير في مجتمع خشن، كثيف، غليظ؟ أصبحت لا يروقها ذلك السؤدد العربي الجاهلي بما ينطوي عليه في واقع الأمر من بداوة وأعرابية، لا يمكن أن تفيء منهما إلى ظل ظليل
وبينا خديجة تروض النفس على احتمال الحياة الجديدة إذا بقلبها قد أخذت تنطبع عليه شيئاً فشيئاً صورة نجم شارق في أفق المجتمع المكي، ويوشك أن يتكشف عن كوكب وقاد يملأ الكون نوراً هادياً. وحرارة تبعث فيه الحياة قوية بعد أن لم يبق منها إلا الذماء ولقد كانت تلك الصورة منتزعة من الحقيقة لا من الوهم ولا الخيال. أنها كانت صورة فتى لا يزال مغمورا، ولكن كل مخايله كانت تؤذن في نظر خديجة بأنه سوف يأخذ بزمام العالم ويوجهه وجهة جديدة. ذلك الفتى محمد بن عبد الله
كان محمد إذ ذاك شاباً قد ناهز الخامسة والعشرين من عمره، سوي الخلقة، مشرق الطلعة، نبيل المظهر، كريم المخبر، وكان يحيا حياة لعله لم يكن يحياها بمكة أحد غيره. كان زاهداً في الناس، عزوفاً عنهم، إلا ما اقتضته ضرورة المعايشة والمساكنة، نزوعاً إلى التفكير، محباً للعزلة، قادعاً للشهوة رداعاً للنفس، فأوشك بذلك أن يستغني بنفسه عن غيره. وغدا أنسه في وحشته وانبساطه في انقباضه، وغناه في إقلاله. قد حد ما بينه وبين الناس بحد واضح المعالم. ثم لم يأذن لعلاقته بهم أن تتجاوز هذا الحد فتنغص عليه نعمة بالهن وتفسد عليه هدوء سر به
لقد كان قلب خديجة يخفق خفقاناً شديداً ما كانت تلمح هذا الفتى العجيب، يروح لطيته ويغدو في طرق مكة وأسواقها وأنديتها، وأدركت من فورها أنه حاجة قلبها ومهوى فؤادها. ولكن كيف تفضي إليه بدخيلة نفسها، وتبثه لاعج حبها؟ إن الحسب، والنسب، والخفر
والحياء، كل ذلك كان يمنعها أن تكون هي التي تخطو في الأمر الخطوة الأولى وتقول فيه الكلمة الأولى. لقد كان الموقف دقيقا كل الدقة، حرجا كل الحرج. فلتسر في الأمر بحذر واحتياط محافظة على نسبها وحسبها، وتوفيرا لخفرها وقنية لحيائها
إنها كانت تستأجر الرجال في الاتجار لها بمالها وتساهمهم بنصيب مسمى من الربح، فلم لا تستأجر محمداً وتضاعف له الجعل الذي كانت تجعله لغيره؟ وأنشأت من فورها تجيب عن هذا السؤال؛ فوسطت إلى محمد من عرض عليه رغباتها. فقبل محمد ما عرض عليه، وسافر إلى الشام في صيف عام 594 متجراً في مال السيدة، وسافر معه ميسرة غلام خديجة ليرقبه عن كثب وينهي إلى السيدة عند عودته جملة حاله في السفر، فتلم بجملة حاله في السفر والحضر. وباع محمد، واشترى، ولقي الرهبان ببادية الشام، وتحدث إليهم، وتحدثوا إليه، ثم عاد وقد ربحت التجارة ربحاً وفيراً، وقص ميسرة على السيدة ما رأى من محمد في السفر من رقة الشمائل، وسهولة الخلق، وصدق المعاملة؛ فعلمت السيدة عند ذلك أن قلبها لم يكذبها؛ فقطعت تردد؛ وأجمعت أن تخطو هي الخطوة الأولى وتقول هي الكلمة الأولى. وكانت لها صديقة تثق بها اسمها نفيسة بنت منبه، فدستها إلى محمد لتلوح له بالأمر وتعلم رأيه فيه:
نفيسة - يا محمد! ما يمنعك أن تزوج؟
محمد - ما بيدي ما أتزوج به!
نفيسة - فإن كفيت ودعيت إلى الجمال، والمال، والشرف، والكفاءة، ألا تجيب؟
محمد - فمن هي؟
نفيسة - خديجة!
محمد - وكيف لي بذلك؟
نفيسة - علي!
محمد - فأنا أفعل!
لاشك أن محمداً لم يقل مقالته الأخيرة إلا بعد أن أصبح يشعر نحو السيدة خديجة بمثل شعورها نحوه، وبعد أن أصبح يبادلها عطفا بعطف، وتقديراً بتقدير. نعم أنها أسن منه، ولكن ذلك ليس شيئاً بالقياس إلى محاسنها وفضائلها الكثيرة التي جعلته يرى فيها رغيبة
نفسه وطلبة قلبه، وعرض محمد الأمر على عمومته كما عرضته خديجة عمها، فكل وافق، وبنى محمد بها بعد أن أصدقها عشرين بكرة كما يروون
كان هذا الزواج لمحمد وخديجة فاتحة حياة زوجية هادئة وادعة هنيئة، كأهدأ ما تكون حياة زوجية وأروعها وأهنئها ولم لا تكون كذلك؟ وكانت تقوم على الكثير المتبادل من الحب والإخلاص والتقدير. كانت خديجة تقدر في محمد كرم الخلق ورقة القلب، وروحانية النفس، وكان هو يقدر فيها رجاحة العقل وكثرة العطف عليه، والإعجاب به، والتوفير لأسباب راحته في منزله، ومطابقته فيما يحب وما لا يحب، ولا تنس أن محمداً لم يكن كسائر الرجال يعيش كيفما اتفق، فهو رجل كثير العناية بأمر نفسه، ليس كل الطعام يطعم، ولا كل الشراب يشرب، ولا كل الملبس يلبس، ولا بكل الزينة يزدان، ثم هو ميال بطبعه إلى العزلة، مؤثر للصمت، مطيل للفكر، فعلى جليسه وعشيره أن يعرف فيه كل ذلك ويرعاه له، وقد عرفت خديجة ذلك ورعته له أتم رعاية؛ فلاشك أنها كانت تعد له ما يستطيبه من الدباء والعسل، والتمر المنقوع في اللبن أو المخلوط بالقثاء أحياناً، ولاشك أنها كانت تقل في طعامه من البصل والثوم اللذين كانت تعاف كثرتهما نفسه، كما كانت تعنى بنظافة ثيابه وأدوات طيبه وأدهانه، فقد كان محمد يحب أن يبرز للناس عطر الجسم، نظيف الملبس، ولاشك أنها كانت توفر له الهدوء في المنزل، وإذا جنح إلى الخلوة أو التحنث في الغار لم تقطع عليه سكونه؛ بل أعانته على ذلك بإعداد الزاد الذي يحتاج إليه، فإذا طالت غيبته افتقدته في غير إزعاج له، ولا تكدير لصفو نفسه
وكما كانت خديجة مثال الزوجة الحفية بزوجها، فإنها كانت مثال الأم المعنية بأولادها. لقد رزق محمد منها كل أولاده غير إبراهيم. رزق منها القاسم وبه كان يكنى، ثم ولدت له زينب ورقية، وفاطمة وأم كلثوم، وكل هؤلاء ولدوا قبل النبوة، ثم ولد له في الإسلام عبد الله الذي عرف بالطيب والطاهر، وقد مات الغلامان صغيرين، أما البنات فكلهن أدركن الأسلم وتزوجن وهاجرن، وقد انضم إلى هؤلاء علي بن أبي طالب، ضمه النبي إلى أولاده تخفيفاً عن عمه أبي طالب الذي كان فقيراً كثير العيال، وليس بأيدينا مع الأسف نصوص نعرف منها كيف كانت خديجة تعول أولادها وتنشئهم؛ غير أن ما ورد من الأخبار على قلته لا يخلو من الفائدة فيما نحن بصدده. روى ابن سعد عن الواقدي قال: (وكانت سلمى
مولاة صفية بنت عبد المطلب تقبل خديجة في ولادها، وكانت تعق عن كل غلام بشاتين، وعن الجارية بشاة، وكان بين كل ولدين لها سنة، وكانت تسترضع لهم، وتعد ذلك قبل ولادها)، وكما كانت خديجة تعنى بولادة أولادها، ورضاعتهم، وتنشئتهم، فقد كانت تتخير الأزواج لبناتها، فهي التي أشارت على النبي بأن يزوج أبو العاص بن الربيع من بنتها زينب؛ فلما زفت إليه أهدتها خديجة قلادة كان لها شأن بعد سيرد ذكره. ثم إن كل من أصهر إلى محمد سعد بزواجه، فأبو العاص بن الربيع أبى أن يفارق زينب عندما أرادت قريش حمله على طلاقها نكاية في محمد مع أن سعداً لم يكن قد أسلم بعد، وقد تزوج عثمان بن عفان رقية، فلما توفيت ورآه النبي حزيناً مهموماً لهفان زوجه أختها أم كلثوم، وكانت فاطمة عند زوجها علي بن أبي طالب بالمحل الرفيع، والمكان الممتاز
لكن فضل خديجة الأكبر، وفخرها الخالد خلود الزمن؛ إنما هو في موقفها من زوجها عندما نبئ، ومن الدعوة الإسلامية التي أخذ يدعو إليها، بعد خمس عشرة سنة من زواجه منها
لقد أصبح محمد بعد تزوجه من خديجة هادئ السرب، ناعم البال، وأصبح له منزل وأهل يسكن إليهما فانصرف إلى ما كانت تصبو إليه نفسه من الخلوة وإطالة الفكر، فكانت خديجة تعينه على ذلك دون أن ترى في مسلكه بأساً. فلما فجئ الوحي محمداً، وأصابه أول الأمر من الذهول والحيرة، ورجع إلى منزله رعباً حائراً وقال لها:(لقد خشيت أن يكون بي جنن!) لم يكن منها إلا أن تثبت فؤاده، وسكنت خاطره بمقالتها المشهورة (والله لا يخزيك الله أبداً، أنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. الخ) ثم إنها انطلقت من فورها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وقصت عليه خبر زوجها، فبشرها ورقة بأن الذي رآه محمد إنما هو الناموس الأكبر الذي نزل على عيسى وموسى، وقد أثلجت تلك المقالة فؤادها وغدت من ذلك الوقت مؤمنة بدعوة زوجها، فكان بذلك أول من صدقه وآمن به، روى الطبري بإسناده إلى عفيف الكندي أنه قال: (كنت امرأ تاجراً، فقدمت أيام الحج، فأتيت العباس، فبينا نحن عنده إذ خرج رجل يصلي؛ فقام تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت معه تصلي، وخرج غلام فقام يصلي معه. فقلت: يا عباس ما هذا الدين؟ قال: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله به، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن
عمه علي بن أبي طالب آمن به. قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذ، فكنت أكون ثالثاً.)
ولم يزداد إيمان خديجة مع الزمن إلا رسوخاً، ولا يقينها إلا قوة، ولا تعلقها بزوجها إلا شدة، فكانت في السنوات العشر الأولى للبعثة، وهي السنوات التي توالت فيها الأرزاء والمحن على محمد وأصحابه، واضطهدت فيها الدعوة أيما اضطهاد، كانت خديجة في تلك السنوات إلى جانب زوجها تريش بتأييدها جناحه، وتأسو بعطفها جراحه، روى ابن الأثير بإسناده فقال:(وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء به، فخفف الله بذلك عن رسوله، لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه إلا فرج الله عنه بها، إذا رجع إليها تثبته، وتخفف عنه وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس)
ولم تتردد خديجة عندما جد الجد، أن تشرك زوجها في محنته، وتقاسمه مر العيش كما قاسمته حلوه، وتعمل لنصرة دعوته، صابرة محتسبة. فعندما اشتدت قريش على بني هاشم والمطلب وحصرتهم في الشعب ومنعتهم حتى الماء والزاد، كانت خديجة في الشعب تقاسي ما يقاسيه زوجها وأقرباؤه على كبر سنها واضمحلال بنيتها. فلما فاءت قريش إلى صوابها وخلت سبيل أولئك المجاهدين المجهودين، كان طول الحصار قد أضر بخديجة واخترم المرض جثمانها فلم تعش إلا قليلاً، وقضت لعشر خلون من رمضان من العام العاشر للبعثة، بالغة من العمر خمسة وستين عاماً، وقد دفنها الرسول بالحجون، وسوى عليها التراب بعد أن نزل قبرها وألقى عليها النظرة الأخيرة
وقضى الله أن يفقد الرسول بعد خديجة وفي نفس العام عمه أبا طالب، وهو الذي كان ينافح دونه ويتولى حمايته من عدوان أعدائه. فاجتمع على محمد في وقت واحد خطبان فادحان، ورزآن بالغان، ولكن لاشك في أن داخل رزئيه كان الأفدح، وباطن جرحيه كان الأدمى؛ لقد تهدم صرح سعادته المنزلية، وغدت الحياة مشغلة له في الداخل والخارج، على كثرة ما أعطاه الله في الداخل والخارج
كان محمد أكبر من أن ينسى لمحسن إحسانه، وأكرم من ألا يفي لحبيب صدقه الحب، وأصفاه الود ولو باعدت بينه وبينه أطباق الثرى، وكذلك كان شأنه مع خديجة بنت خويلد، لقد وفى لها في حالي الحياة والموت، أحبها ولم يتزوج عليها في حياتها، فلما لحقت بربها لم تبرح صورتها خاطره، ولا فارق تذكرها لسانه، وهم يروون في ثنائه عليها ودوام تذكره
لها أخباراً كثيرة. يرون أنه فضلها هي ومريم بنت عمران على نساء العالمين، وأنه بشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، وأنه عندما أرسلت إليه أبنته زينب بقلادة قلدته إياها خديجة، لتفتدي بها زوجها أبو العاص بن الربيع وكان قد أسر ببدر، رق النبي لذلك رقة شديدة، وطلب إلى أصحابه أن يطلقوا لزينب أسيرها ومالها ففعلوا، وأنه كان إذا ذبح شاة تتبع صديقات خديجة يهدي إليهن منها، وأنه كان لا يكاد يخرج من منزله حتى يذكر خديجة ويثني عليها، والحق أن دوام تذكره لها هاج غيرة عائشة وهي بعد آثر نساءه لديه، وأجملهن، وأصغرهن سناً. روى ابن الأثير بإسناده إلى عائشة أنها قالت:(كان رسول الله (ص) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها. فذكرها يوماً من الأيام، فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك الله خيراً منها. فغضب حتى أهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني وكذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء، قالت عائشة: فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبداً)
تلك بالاختصار سيرة أول امرأة مسلمة، وخير امرأة مسلمة يعرف فيها القارئ المثل الأعلى للمرأة زوجة، وأما، وعونا على جلائل الأمور في غير خروج على طبيعة الجنس ومواضعات الناس منذ صار الإنسان إنسانا.
عبد الحميد العبادي
عقبة على شاطئ المحيط
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
من القوم أوغلوا في البيداء، يجوبون سيناء، قد أغذوا السير، وأقلوا المير؟
من القوم تسبح بهم الجمال، في لجج الرمال وتغوص منهم الأشباح والظلال، في غمرات الآل. تسيل بهم الهضاب إلى الوهاد وتفيض بهم الوهاد إلى الهضاب، لا يألون تأويباً وإدلاجا، ولا يشكون نصباً ولا كلالا؟
من القوم ترمي عزائمهم الغايات، وتطوي هممهم السبل، سيان عندهم البعيد والقريب، والعسير واليسير؟
من القوم تضيء بالإيمان قلوبهم، وتقر على اليقين نفوسهم، حداهم القرآن، وغناؤهم الأذان، رحالهم معابد، ومنازلهم مساجد، قد شروا الله أنفسهم، وأرخصوا في مرضاته أرواحهم، ورضوا بما قسم لهم. وقد سايروا الشمس مغربين، لا تصدهم الأهوال، ولا تستردهم الأوطان، كأنهم نجوم في حبك الأرض تسير بقدر إلى قدر؟
العرب المسلمون يقودهم عمرو، يتوجهون تلقاء مصر. رموا الباطل في جانب وسددوا إلى جانب، وصرعوه في ميدان وهرعوا إلى ميدان؛ وهدموا سلطان الروم والشام وصمدوا لسلطان الروم في مصر وأفريقية
بالأمس زحموا الصرح فانهار، ونفخوا زخرف قيصر فطار، وأشاروا إلى الصنم فسجد، وخلى جبروته إلى الأبد. وضعوا سلطان هرقل ورفعوا سلطان الله، وأقاموا الحرية في مصارع العبودية، وشادوا العدل على مقاتل الجور
واليوم يتبعون الباطل المهزوم، ويشرون الزور المذود. إنهم يؤمون مصر. ومصر أكرم على الله من أن تكون مباءة الباطل ومثوى الجبروت. إنهم يسرعون إلى مصر. فعفاء على الروم وسلطانهم، وويل للباطل يدمغه الحق، والظلم يصمد له العدل، والاستعباد تثور به الحرية، ويل للروم يسير إليهم العرب
- 2 -
أترى المائج، واللج الهائج؟ أترى السفن على الثبج راجفة، والجموع فوقها واجفة؟ أترى الموج يتلاطم، والسفين يتصادم، والجيوش ملتحمة، والخناجر والسيف مختصمة؟ أترى جنداً يلوذون من حر الضراب إلى برد الماء، ومن ذل الإسار إلى عار الفرار، وجنداً ثبته اليقين فثبت، وآثر الموت على العار فظفر؟
واعجبا! قد أصبح فرسان الصحراء أبطال الدأماء، وصار حداة الإبل أمراء السفن، جاوزوا الكثبان البيض إلى اللجج الخضر، فاتخذوا السفين جياداً والبحر مراداً. وهل الإبل إلا سفن الصحراء، وهل السفن إلا أفراس الماء؟ فما استبدل هؤلاء إلا سفينة بسفينة وفرساً بفرس
وإنها، على ذلك، لإحدى العبر: أبناء البادية ينازلون الروم في الأساطيل. معاوية وابن أبي سرح يقاتلان قسطنطين ابن هرقل، وقد جاءهم في ستمائة سفينة تحمل جند الروم وتاريخ الروم، وثارات الروم. وأعجب العجب أن يغلب الأسطول الرضيع الأسطول المكتهل، أن يغلب ابن أبي سفيان ابن هرقل، أن يغلب العرب الروم في بحر الروم
- 3 -
ما جزيرة العرب، وفارس، والشام ومصر، وما الهند والصين، والمشرق والمغرب في همة هذه الشمس الوهاجة، وعزيمة تلك الكواكب السيارة. قد استقر سلطان القوم في مصر فلم يقنعوا، وهاهم قد غزوا برقة ورجعوا. أتحسب الأمد تطاول عليهم، والشقة بعدت بهم فملوا أو خاروا؟ تلبث قليلاً ثم انظر جيش العبادلة يزحف إلى إفريقية فيظفر ثم يصالح. وما وراء الحرب والسلم إلا المسير لإعلاء كلمة الله، وبلوغ الغاية مما أرادوا في سبيل الله
ويقف القوم سنين. وما هو إلا الجمام للسير، والتحفز للوثوب، والإعداد للجهاد، والتريث للتثبت. وعما قليل يطوون المغرب لا تعوقهم الفيافي المترامية، ولا تصدهم الجيوش الجرارة. تنظر الغد. فما بلغ القوم الأمل الموعود، ولا قاربوا الغاية المقدورة
- 4 -
عشرة آلاف تطوي الأوطان والقطان في سبيلها، وتطأ الأهوال والأبطال إلى غايتها! عشرة آلاف وفي الناس واحد كألف
تجمعت في فؤاد همم
…
ملء فؤاد الزمان إحداها
عشرة آلاف قائدهم عقبة بن نافع قد عزموا ألا ينثنوا، وصمموا ألا يهزموا، وآلوا ألا يرجعوا ما اتسع الفتح لعزائمهم، وامتدت الأرض لأقدامهم
هاهو ذا عقبة يبني مدينة القيروان، فعل الغازي المعمر والفاتح المقيم. وسيجعلها مبدأ السير وأول الفتح، كأنهم ما قطعوا المهامة إليها، ولا ساروا عن ديارهم قبلها
في كل فج عزمهم سيار
إلى الوغى تهافتوا وطاروا
جماعة ليس لهم ديار
إلا ظهور الخيل والغبار
أرض الله، وعباد الله: أينما توجهوا فهي أرضهم، وحيثما حلوا فهي ديارهم. لا بعد عندهم ولا قرب، ولا شرق ولا غرب. (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمَّ وجه الله)
ولكن عشرات آلاف من الروم والأفريق قد ساروا إليهم. لقد أعد الروم لهم، وأزمعوا أن يحطموهم. فوا رحمتاه للأنجاد القليلين، والغرباء النازحين!
كلا لا خوف ولا حزن، ولا قلة ولا كثرة. انظرهم يديرونها على عدوهم حرباً طاحنة، ويلجئون الروم وأعوانهم من لظى النار إلى سلاسل الإسار - ألوف من الروم مصفدون
أترى الكثرة أغنت، أم ترى القلة قلت؟ ذلك آخر عهد الروم بإفريقية
- 5 -
أين الجنود البواسل، والعبَّاد الغزاة، والبداة الذين خرجوا ينشدون الحق ويردون الجبارين إلى العدل؟ أنهم ليسوا في برقة ولا إفريقية. . . . هاهم في أقصى المغرب! هم اليوم في طنجة! بل هم في إيسوس. لقد انتهوا إلى الساحل، لقد انتهت الأرض وا أسفاه للجواد المتمطر لا يجد مجالاً، والعزم المحضِر لا يجد مضطرباً. قد بلغوا البحر فكيف المسير؟ وفتحوا ما بين المدينة المنورة، وبحر الظلمات فأنى الفتح؟
انظر عقبة تضيق بعزمه الأرض، وتصغر في عينه الأقطار، فيدفع جواده في البحر ويصيح:
(والله لو علمت وراءه أرضاً لسرت غازياً في سبيل الله)
(بغداد)
عبد الوهاب عزام
صداقة تدين التاريخ
(ألا إن لنا قلوبا)
للأستاذ أمين الخولي
- 1 -
في واد مشرق السماء، جهم الأديم، تضطجع بين الجبال، على سيف الصحراء، تلك العذراء الممنعة (مكة)؛ تكاد تنال بإحدى يديها مياه (القلزم)؛ حين تنسم عن بعد نسيم الشرق بعراقه وفرسه، تلتفت يمنة إلى بلاد العرب السعيدة، بدفء شتائها وأسباب حياتها؛ وترنو يسرة إلى مشارف الشام بوارف ظلالها، وفتون حضارتها
في واد غير ذي زرع حول البيت المحرم، منذ بضعة عشر قرناً كانت تخفق القلوب وجلة، وتختلج النفوس متطلعة، ويشيع في أولي الألباب تشوق وتلهف، استحال اضطراباً اجتماعياً، وثوراناً روحياً، على قديم لا يرضي العقل، ولا يسعد القلب، حتى هب نشاط أناسي منهم إلى انتجاع ذلك الجديد بالرحلة إليه، والنقلة في سبيله، مثلما تلتمس أسباب الرفاهة الحيوية، من أعراض التجارة وحطام الدنيا
- 2 -
في ذلك العهد الحائر، كان سيدان من سادات قريش، قد اكتملت لهما بسطة من الجسم والحلم، وظفرا بوفر من الحسب والكرم، حين سعدا بأخلاق تشابهت في السمو، حتى تلاقت فيهما نعوت الواصفين: لا يعيشان لأنفسهما، ولا يفكرن في ذواتهما. إنما هم أحدهم ظلم يرفع، وحاجة تدفع، ومعونة على الدهر، أو اضطلاع بإصلاح إذا كشر الشر
كانا في سن متقاربة، لا تقول هما لدان، ولكنهما متقاربان، سبق أكبرهما صاحبه إلى هذه الدنيا بعامين وشيء من الأيام
كانا يضربان في حياة تشابهت وديانها، وإن تخالفت ألوانها، الكبير تاجر يصرف الدراهم والدنانير، حين كان الأكبر يرعى الشاء ويدبر البعير، على هينة في ذلك وقلة عناية
توثقت بينهما صداقة عريقة، حين كان الأكبر يشارف الأربعين، قد بقى له من عدها عام، والكبير يبعد عنها بخطوات ثلاث وعدة أيام؛ فلهما الشباب المكتمل، والعقل المتزن. وما
كانت بينهما هذه الصداقة إلا عن تآلف نفس، وتمازج روح؛ وإلا ففيم يتقاربان، والكبير يعرف من سبل الكسب وطرق الثراء، ما وراء أفق البادية الجديب، ويختلف إلى اليمن والشام يثرى ويربح، على حين ينصرف الأكبر عن المال والنشب؛ قليل الكد في سبيلهما، زاهدا في أسبابهما؛ يعتزل الناس فريدا ويتحنث وحيداً، يسائل الشمس والقمر، ويستنطق الريح والصخر، أي شيء هذا؟ وفيم العناء؟ وإلام المسير؟ وأين الثواء؟ هذه حالهما حين ربطت بينهما تلك الصداقة؛ فما إن نشك في أن هذا الصديق كان يشاطر صديقه هذا التساؤل، ويبادله ذلك التفهم؛ وإن وقف في ذلك دونه، لا يتكشف له من الآفاق ما يستشرف له الأكبر، ويطالعه في قوة روح آلف لهذا وأقدر
- 3 -
تعارفا وتآلفا؛ وما هو إلا عام حتى ظهر النور الأنضر، وجاء الفتح الأكبر. . واسر الصديق إلى صديقه أنه قد همس في أذنه، وألقي في روعه، وتفتحت له جنبات السماء، وأنه لمحدثه عنها حديث الرائي المشاهد. فإذا الكبير على آلفه؛ يرى بعين الأكبر، يستشف ما في روحه، ويجد في قلبه صورة ما تنطوي عليه جوانحه، فيؤمن معه أو يؤمن به؛ وإذا حياتهما قد صارت إيماناً، جار الأنفاس، ملتهب الإحساس، متصل الأسباب بالحق الأعظم، فزاد ما بينهما قرباً أو اتحادا. وصارت صداقتهما على ما اشتهى الواثقون بطهر الإنسانية ومعنوية الحياة؛ إذا ما قال الأكبر أنت أحب الرجال إلي، قال الكبير أنت إلي أحب الناس
- 4 -
اضطلع الأكبر بعبئه أمام الدهر؛ وخرج يدفع الإنسانية دفعاً، ويدير الحياة في غير مدارها، ويخط مستقبل التاريخ، وما أشق وأهول!
إذا ما أقبل النهار، وارتفعت الشمس، خرج يرى لنفسه، ويتلطف لأمره، بين بدو همل هائمين، وعتاة مأفونين، يناديهم أنه قد حل اللغز الأعقد، وظفر بالمجد الأوحد، اتصل من الله بسبب، ووقف من السماء بمنال، ويهجو إلهتهم، ويسفه أحلامهم. . فأي سخرية يلقى، وأي عناء يواجه، وبأي نقيصة يعترف. . . هو كاهن، وساحر، وشاعر، ومجنون، وممسوس، وكذاب وو. . .
فإذا ما كاد يبخع نفسه أن لم يؤمنوا؛ وإذا ما ذهبت نفسه حسرات عليهم، تلفت فإذا صورة نفسه قائم إلى جانبه، يواسيه ويرفه عنه، يمسح عن قلبه أوضار الألم، وقذائف التهم، حين يطب لجروح قد أسالتها أحجار المغترين وقذائف السفهاء المحمولين عليه، وما يزال كذلك حتى يسلمه في الليل إلى تلك الزوجة الأمينة الرزينة، التي فهمت عنه حين جهله الناس. واطمأنت إليه حين أنكره الناس. . فهو منهما في ألفة وطمأنينة. والنفس بالصديق، آنس منها بالعشيق. .
وكانت احن ومحن طالت بضعة عشر عاماً، فقد فيها الأكبر تلك الزوج، فكان نهاره وليله لصديقه الصدوق، وعنده انتهت مؤانسته، حين كان الهم يزداد والعناء يشتد
وخشي القوم خطر تلك الدعوة الدائبة، وهاتيك المهاجمة المصابرة، فزادوها قسوة وتنكيلا، وأشبعوا من نصرها ألماً وتعذيبا، فإذا الصديق يفي لأنصار صديقه وفاءه له: يجد في إنقاذهم، ويسعى في تحريرهم، باذلاً في ذلك ما ادخر وأثل؛ فإذا عتقاءه منهم سبعة نفر. . . ولقد أدركت ولا مراء، أنه لن يكون إلا الأعز. . . أبا بكر
- 5 -
هذان هما، قد نبا بهما المقر، وأجمع الناس كيدهم، فهو الموت والدم بدد، والثأر ضائع؛ ولكن الصديق أبداً مخلص، هو ظله حيث سار وردؤه فيما يرى لنفسه؛ وعفاء على الأهل والمال والولد والوطن، يخليها جميعاً ويخرج من الدنيا بصديقه. . . إلى التيه إلى الشرود، إلى المغامرات، إلى الكهوف والغيران، إلى الجوع والعذاب، إلى الدرك واللحاق، إلى الموت، إلى كل كريهة، ما هي إلا المحببة حين يريدها الصديق. وما أجله وأنبله حين أنزله الغار فلم يخفف، وحسبك أنه إنما يقول له:(لا تحزن أن الله معنا)؛ وما ظنك باثنين الله ثالثهما. . أجل لقد كانا كذلك انفراداً في الغار، كما كاناه انفراداً في صداقة وولاء ووفاء
- 6 -
رافقه إلى مأمنه؛ ولازمه في مهاجره، وتنفست الدنيا، وانبلج صبح الفوز، فظل له كما كان يوم عرفه قبل مبعثه، يبذل له قواه وروحه، كما يبذل له إخلاصه وبره؛ يحمل إليه فلذة كبده، يضعها في حجره، فتكون رسالة من قلب إلى قلب. وتمسي في النساء قرة عينه كما
كان في الرجال أبوها له؛ يبذل له ماله، وما المال في ذلك كله؟ وأي شيء أربعون ألف درهم خرج من دنياه لا يعرف منها مكان درهم؟ يلازمه في حربه وسلمه، وصحته ومرضه، حتى تأذن الله له بالنصر، وأتم الرسول عليه السلام ما ندب له من حادث في مسير الدنيا، ومستقبل الكون، فإذا ذلك كله في التاريخ يعرف يد تلك الصداقة
- 7 -
وخرج الرسول عليه السلام من دنياه، فتصدع الأساس، وانشعب الأمر؛ ارتدت الجزيرة، واضطرب الباقون في قمع الخارجين. . . لكن الصديق النبيل الجليل قائم، يصل من وراء القبر روح صديقه، ويحسه قائماً إلى جانبه، فإذا هو جيش وحده، وإذا هو أمة وحده، وإذا هو الإسلام كله حين يقول لهم جميعاً: أيها الناس! لو أفردت من جمعكم لجاهدتهم في الله حق جهاده، حتى أبلغ من نفسي عذرا أو مقتلاً. . . فسارع الكل وظفر الإسلام
قرت الدولة، وانبسط السلطان، وأينعت الحضارة، وسعدت الإنسانية، وشهد التاريخ، فإذا ذلك كله يعرف ولا غرو دين تلك الصداقة
- 8 -
بني الشرق! إن السيوف قد استحالت في أيدينا خشبا، والمدافع قد أمست مواقيت للطعام وتلاهي للأعياد، والجو من فوقنا، والأرض من تحتنا، والبحر من حولنا، ليس من ذلك شيء لنا، لكنا ولا غرو نحتاز نفوسا، ونملك قلوباً موصولة السبب بتلك القلوب، فلو عرفت الإيمان لعشقت المجد، ولو أحست الوفاء لنالت أسباب السماء، ولو وجدت مس تلك الصداقة لنصرت دينا، وبنت دولة، ودانت التاريخ. . .
فهل تذكرون؟
أمين الخولي
درس من النبوة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قالوا: إنه لما نصر الله تعالى رسوله وردَّ عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنضير ظن أزواجه صلى الله عليه وسلم أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم وكن تسع نسوة: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسَوْدة، وأم سلمة، وصفية، وميمونة، وزينب وجُوَيْرية، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق. وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال وأن يعاملهن بما تعامل به الملوك وأبناء الدنيا أزواجهم؛ فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن من تخيرهن في فراقه، وذلك قوله تعالى:(يا أيها النبيُّ قل لأزواجك إن كنتن تُردن الحياةَ الدنيا وزينتَها فتعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسرَّحْكن سَراحاً جميلا. وإن كنتن تردن اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرةَ فإن الله أعدَّ للمحسِنات منكن أجراً عظيما)
قالوا: وبدأ صلى الله عليه وسلم بعائشة (وهي أحبهن إليه) فقال لها: إني ذاكر لك أمراً ما أُحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك. قالت: ما هو؟ فتلا عليها الآية. قالت: أفيك أستأمر أبويَّ؟ بل أختار الله تعالى ورسوله
ثم تتابعن كلهن على ذلك، فسماهن الله (أمَّهات المؤمنين) تعظيما لحقهن وتأكيداً لحرمتهن وتفضيلاً لهن على سائر النساء
هذه هي القصة كما تقرأ في التاريخ وكما ظهرت في الزمان والمكان، فلنقرأها نحن كما هي في معاني الحكمة، وكما ظهرت في الإنسانية العالية، فسنجد لها غورا بعيداً ونعرف فيها دلالة سامية، ونتبين تحقيقاً فلسفياً دقيقاً للأوهام والحقائق. وهي قبل كل هذا ومع كل هذا تنطوي على حكمة رائعة لم ينتبه لها أحد، ومن أجلها ذكرت في القرآن الكريم، لتكون نصا تاريخياً قاطعاً يدافع به التاريخ عن هذا النبي العظيم في أمر من أمر العقل والغريزة؛ فإن جهلة المبشرين في زمننا هذا وكثيراً من أهل الزيغ والإلحاد وطائفةً من قصار النظر في التحقيق يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما استكثر من النساء لأهواء نفسية محضة وشهوات كالشهوات؛ ويتطرقون من هذا الزعم إلى الشبهة، ومن الشبهة إلى سواء الظن، ومن سوء الظن إلى قبح الرأي، وكلهم غبي جاهل؛ فلو كان الأمر على ذلك أو على
قريب منه أو نحو من قريبه، لما كانت هذه القصة التي أساسها نفي الزينة وتجريد نسائه جميعاً منها، وتصحيحُ النية بينه وبينهن على حياة لا تحيا فيها معاني المرأة، وتحت جو لا يكون أبداً جو الزهر. . . وأمره من قبل ربه أن يخيرهن جميعاً بين سراحهن فيكنَّ كالنساء ويجدن ما شئن من دنيا المرأة، وبين إمساكهن فلا يكنَّ معه إلا في طبيعة أخرى تبدأ من حيث تنتهي الدنيا وزينتها
فالقصة نفسها ردٌّ على زعم الشهوات، إذ ليست هذه لغة الشهوة ولا سياسة معانيها ولا أسلوب غضبها أو رضاها. وما ههنا تمليق ولا إطراء ولا نعومة ولا حرص على لذة ولا تعبير بلغة الحاسة؛ والقصة بعد مكشوفة صريحة ليس فيها معنى ولا شبه معنى من حرارة القلب، ولا أثر ولا بقية أثر من ميل النفس، ولا حرف أو صوت حرف من لغة الدم. وهي على منطق آخر غير المنطق الذي تُستمال به المرأة؛ فلم تقتصر على نفي الدنيا وزينة الدنيا عنهن، بل نفت الأمل في ذلك أيضاً إلى آخر الدهر وأماتت معناه في نفوسهن بقصر الإرادة منهن على هذه الثلاثة: الله في أمره ونهيه، والرسول في شدائده ومكابدته، والدار الآخرة في تكاليفها ومكارهها. فليس هنا ظرف ولا رقة ولا عاطفة ولا سياسة لطبيعة المرأة، ولا اعتبار لمزاجها ولا زُلفى لأنوثتها؛ ثم تخيير صريح بين ضدين لا تتلوَّن بينهما حالة تكون منهما معاً، ثم هو عام لجميع زوجاته لا يستثني منهن واحدة ولا أكثر
والحريص على المرأة والاستمتاع بها لا يأتي بشيء من هذا، بل يخاطب في المرأة خيالها أول ما يخاطب، ويشبعه مبالغةً وتأكيداً ويوسعه رجاءً وأملا، ويقرب له الزمن البعيد حتى لو كان في أول الليل، وكان الخلاف على الوقت لحقق له أن الظهر بعد ساعة.
وبرهان آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج نساءه لمتاع مما يمتع الخيالُ به، فلو كان وضع الأمر على ذلك لما استقام ذلك إلا بالزينة وبالفن الناعم في الثوب والحلية والتشكل كما نرى في الطبيعة الفنية، فإن الممثلة لا تمثل الرواية إلا في المسرح المهيأ بمناظره وجوه. . . وقد كان نساؤه صلى الله عليه وسلم أعرف به؛ وهاهو ذا ينفي الزينة عنهن ويخيرهن الطلاق إذا أصررن عليها. فهل ترى في هذا صورة فكر من أفكار الشهوة؟ وهل ترى إلا الكمال المحض؟ وهل كانت متابعة الزوجات التسع إلا تسعة برهانات على هذا الكمال؟
وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يلقي بهذه القصة درساً مستفيضاً في فلسفة الخيال وسوء أثره على المرأة في أنوثتها، وعلى الرجل في رجولته، وأن ذلك تعقيد في الشهوات يقابله تعقيد في الطبع، وكذب في الحقيقة ينشأ عنه كذب الخلق، وأنه صرف للمرأة إلى حياة الأحلام والأماني والطيش والبطر والفراغ، وتعويدها عادات تفسد عاطفتها وتضيف إليها التصنع فتضعف قوتها النفسية القائمة على إبداع الجمال من حقيقتها لا من مظهرها، وتحقيق الفائدة من عملها لا من شكلها
وكل محاسن المرأة هي خيال متخيل ولا حقيقة لشيء منها في الطبيعة، وإنما حقيقتها في العين الناظرة إليها فلا تكون امرأة فاتنةً إلا للمفتون بها ليس غير. ولو رد َّت الطبيعة على من يشبب بامرأة جميلة فيقول لها: هذه محاسنك وهذه فتنتك وهذا سحرك وهذا وهذا؛ لقالت له الطبيعة: بل هذه كلها شهواتك أنت. . . .
وبهذا يختلف الجمال عند فقد النظر فلا يفتنه جمال الصورة ولا سحر الشكل ولا فراهة المنظر، وإنما يفتنه صوت المرأة ومجستها ورائحتها. فلا حقيقة في المرأة إلا المرأة نفسها؛ ولو أخذت كل امرأة على حقيقتها هذه لما فسد رجل ولا شقيت امرأة، ولانتظمت حياة كل زوجين بأسبابها التي فيها. وذلك هو المثل المضروب في القصة
يريد النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم أمته أن حيف الغريزة على العقل إفساد لهذا العقل، وأنه متى أخذت المرأة لحظ الغريزة واختيارها كانت حياتها استجابة لجنون الرجل، وملأتها معاني التزيد والتصنع، فيوشك أن ينقلها هذا عن طبيعتها السامية التي أكثرها في الحرمان والإيثار والصبر والاحتمال، ويردها إلى أضداد هذه الصفات فيقوم أمرها بعد على الأثرة والمصلحة والتفادي والضجر والتبرم والإلحاح والإزعاج، ويضعف معنى السلب الراسخ في نفسها من أصل الفطرة فيتبدل حياؤها وفي الحياء ردها عن أشياء، ويقل إخلاصها وفي الإخلاص رد لها عن أشياء أخرى، ويكثر طعمها وفي قناعتها محاجزة بينها وبين الشر
وبهذا ونحوه يفسد ما بين الرجل والمرأة المتصنعة؛ فإذا كثر المتصنعات لا يكون من النساء مشاكل فقط، بل تكون من حلول المشاكل معهن مشاكل أخرى. . . .
ولبُابُ هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم يجعل نفسه في الزواج المثل الشعبي
الأكمل كما هو دأبه في كل صفاته الشريفة، فهو يريد أن تكون زوجاته جميعاً كنساء فقراء المسلمين ليكون منهن المثل الأعلى للمرأة المؤمنة العاملة الشريفة التي تبرع البراعة كلها في الصبر والمجاهدة والإخلاص والعفة والصراحة والقناعة، فلا تكون المرأة زينةً تطلب زينة لتتم بها في الخيال، ولكن إنسانية تطلب كمالها الإنساني لتتم به في الواقع
وهذه الزينة التي تتصنع بها المرأة تكاد تكون صورة المكر والخداع والتعقد، وكلما أسرفت في هذه أسرفت في تلك، بل الزينة لوجه المرأة وجسمها سلاح من أسلحة المعاني كالأظافر والمخلب والأنياب، غير أن هذه لوحشية الطبيعة الحية المفترسة، وتلك لوحشية الغريزة الحية التي تريد أن تفترس. ولا تنكر المرأة نفسها أن الزينة على جسمها ثرثرة طويلة تقول وتقول وتقول.
وإنما يكون أساس الكمال الإنساني في الإنسان العامل المجاهد لا يحصر نفسه في شيء يسمى متاعاً أو زينة، ولا يقدر نفسه بما يجمع لها أو بما يجمع حولها، ولا يعتد ما يكون من ذلك إلا كالتعبير من عمل الشهوات عن الشهوات. ونبينا صلى الله عليه وسلم هو الغاية في هذا، دخل عليه مرة عمر بن الخطاب فإذا هو على حصير وعليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه. قال عمر: وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وإذا إهابٌ معلق، فابتدرت عيناي، فقال ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قال عمر: يا نبي الله ومالي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزائنك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزائنك؟
وجاء مرة من سفر فدخل على ابنته فاطمة رضى الله عنها فرأى على بابها سترا وفي يديها قُلْبين من فضة فرجع، فدخل عليها أبو رافع وهي تبكي فأخبرته برجوع أبيها، فسأله في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: من أجل الستر والسِّوارين
فلما أخبرها أبو رافع هتكت الستر ونزعت السوارين فأرسلت بهما بلالاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت قد تصدقتُ به فضعه حيث ترى. فقال لبلال: اذهب فبعه وادفعه إلى أهل الصُّفة. فباع القُلبين بدرهمين ونصف (نحو ثلاثة عشر قرشاً) وتصدق به عليهم
يا بنت النبي العظيم! وأنت أيضاً لا يرضى لك أبوك حلية بدرهمين ونصف وإنَّ في المسلمين فقراء
أي رجل شعبي على الأرض كمحمد صلى الله عليه وسلم فيه الأمة كلها غريزةُ الأب، وفيه على كل أحواله اليقينُ الذي لا يتحول، وفيه الطبيعةُ التامة التي يكون بها الحقيقيُّ هو الحقيقي
يا بنت النبي العظيم! إن زينةً بدرهمين ونصف لا تكون زينة في رأي الحق إذا أمكن أن تكون صدقةً بدرهمين ونصف. إن فيها حينئذ معنى غير معناها؛ فيها حقُّ النفس غالباً على حق الجماعة؛ وفيها الإيمان بالمنفعة حاكماً على الإيمان بالخير؛ وفيها ما ليس بضروري قد جار على ما هو الضروري؛ وفيها خطأ من الكمال إن صح في حساب الحلال والحرام لم يصح في حساب الثواب والرحمة
تعالوا أيها الاشتراكيون فاعرفوا نبيكم الأعظم. إن مذهبكم ما لم تُحيه فضائل الإسلام وشرائعه، إن مذهبكم لكالشجرة الذابلة تعلقون عليها الأثمار تشدونها بالخيط. . . كل يوم تحلون وكل يوم تربطون ولا ثمرة في الطبيعة
ليست قصة التخيير هذه مسئلةً من مسائل الغنى والفقر في معاني المادة، ولكنها مسئلة من مسائل الكمال والنقص في معاني الروح؛ فهي صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم أستاذ الإنسانية كلها، واجبه أن يكون فضيلة حية في كل حياة، وأن يكون عزاء في كل فقر، وأن يكون تهذيباً في كل غنى، ومن ثم فهو في شخصه وسيرته القانون الأدبي للجميع
وكأنه صلى الله عليه وسلم يريد ليعلّم الأمة بهذه القصة أن الجماعات لا تصلح بالقوانين والشرائع والأمر والنهي، ولكن بعمل عظمائها في الأمر والنهي، وأن الحاكم على الناس لا ينبغي أن يحكم إلا إذا كان في نفسه وطبيعته يحس فتنة الدنيا إحساس المتسلط لا الخاضع، ليكون أول استقلاله استقلال داخله
فليس ذلك فقراً ولا زهداً كما ترى في ظاهر القصة، ولكنها جرأةُ النفس العظمى في تقرير حقائقها العملية
وتنتهي القصة في عبارة القرآن الكريم بتسمية زوجاته صلى الله عليه وسلم (أمهات المؤمنين) بعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة. وعلماء التفسير يقولون إن الله تعالى كافأهن بهذه التسمية؛ وليس ذلك بشيء ولا فيه كبير معنى، وإنما تُشعر هذه التسمية بمعنى دقيق هو آية من آيات الإعجاز، فإِن الزوجة الكاملة لا تكمل في الحياة ولا تكمل الحياة بها
إلا إذا كان وصفها مع رجلها كوصف الأم ترى ابنها بالقلب ومعانيه لا بالغريزة وحظوظها. فكل حياة حينئذ ممكنةُ السعادة لهذه الزوجة، وكل شقاء محتملٌ بصبر، وكل جهاد فيه لذته الطبيعية، إذ يقوم البيت على الحب الذي هو الحب الخالص لا المنفعة، وتكون زينة الحياة وجود الحي نفسه لا وجود المادة، وتبنى النفس على الوفاء الطبيعي كوفاء الأم، وذلك خُلق لا يعسر عليه في سبيل حقيقته أن يتغلب على الدنيا وزينتها
وآخر ما نستخرج من القصة في درس النبوة هذه الحكمة:
بِحَسبِ المؤمن إذا دخل داره أن يجد حقيقة نفسه الطيبة وإن لم يجد حقيقةَ كسرى ولا قيصر.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
عظمة الهجرة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
يتخذ الناس من عبر الحوادث مثلاً للكمال في الخلق وشعاراً يذكر بما ينبغي أن يسلكوه وما يجب التنزه عنه من عمل أو قول، ويكون لهم كاللواء يجمعون أمرهم حوله، وكالحكمة يسترشدون بهداها ورشدها، وكالحداء للركب يعينهم في قافلة الحياة، وكالرمز يرجعون إلى مدلوله في كل أمر حازب، وكالعماد يعتمدون على قوته وعونه، وكالإمام يأتمون به
وقد لا يستطيع المرء في كل حال من أحوال الحياة ألا يزايل شعاره، فقد تخونه نفسه أو تخونه الحوادث فيسلك مسلكاً لا يشاكل شعاره، ولكن المرء بخير إذا لم يمزق شعاره يأساً من أجل عجز عارض لا يلبث أن يزول؛ والمرء بخير أيضاً مهما تعددت سقطاته عن شعاره ومثله مادام له مثل يأتم به في فعله وقوله؛ وإذا كان اتباعه له في القول أكثر من أتباعه له في الفعل، فهذا أيضاً خير من ألا يكون له مثل يقدسه، وله نفسه أثر قل أو كثر
وفي الهجرة النبوية لنا مثل وشعار ورمز إذا اعتبرنا بأسبابها وحوادثها؛ وهو رمز ذو معنيين: معنى فيما ينبغي أن نتجنبه من مشابهة المشركين في اضطهاد الحق والعقيدة النفسية والفكرة التي تنبعث منها، ومعنى فيما ينبغي أن نتخلق به من الإتمام بالنبي صلى الله عليه وسلم في إبائه مزايلة الحق وصونه، وفي نصرته بالرغم من اضطهاد وضيق، وفي الاعتماد على الله في الشدة
ولكل من المعنيين في الحياة شواهد وأمثلة وأمور تستدعي ذكرى الهجرة النبوية وذكرى حوادثها الجليلة
ولو استطعنا أن نذكرها في كل أمر من أمور الحياة كان ذكرها خيراً من ذكرها في تاريخ واحد معين، على ما في ذكرها في هذا التاريخ الواحد المعين من خير وفضل وحمد
أي الناس لا يضطهد الحق في أمور كثيرة من الأمور اليومية إذا كان في اضطهاده إياه كسباً ورزقاً، أو ثناء وحمداً، أو راحة ودعة، أو إرضاء عزيز، أو زلفى لدى كبير مسيطر محكم عليه؛ وحتى عند تخيل نيل الكسب غير المحقق نيله، وعند الأمل في الزلفى التي قد تخيب، يضطهد الناس الحق في أمور الحياة وروحهم روح المشركين ولفظهم لفظ المؤمنين. ثم هم قد يعدمون حتى لفظ المؤمنين فلا يكاد يكون لهم من الإيمان إلا اسمه.
هؤلاء لم يتعظوا بعظة الهجرة، ولم يتنزهوا عن الروح التي اضطهد المشركون بها النبي صلى الله عليه وسلم. وأمثال هؤلاء لا ينتفعون بإحياء ذكرى الهجرة النبوية مهما اشتغلت أبدانهم بإحياء من غير أن تشتغل قلوبهم بعظتها، ومن غير أن تتنزه نفوسهم عن مشابهة المشركين في اضطهاد الحق
يقول المسيحيون: إن كل من يضطهد الحق في أمر من أمور الحياة يضطهد عيسى عليه السلام، ويعين أعداءه عليه، ويعادي روح الحق الذي جاء به؛ ونحن نقول مثل هذا القول عند ذكرى الهجرة النبوية وهي ذكرى اضطهاد المشركين للحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من يضطهد الحق في أمر من أمور الحياة يضطهد روح الحق الذي جاء به النبي الكريم سواء أكان اضطهاد الحق في أمر من أمور الحياة طمعاً في مغنم أو في دعة أو صداقة أو زلفى
وخير شعائر الدين ومواسمه وأعياده وذكره وتواريخه الجليلة مثل تاريخ الهجرة هو أن تحول بين المرء وبين عادته في قلب الفروض الخلقية إلى مسميات يحسب ترددها على لسانه عقيدة وإيماناً، وما هو بإيمان إذا كان لا يحتذيها، وإذا كان يشارك المشركين ويشابههم في اضطهاد الحق طمعاً في مغنم أو دعة أو صداقة أو زلفى، فيعادي الصدق في القول والعمل والعدل فيهما أيضاً، ويعادي الوفاء ومكارم الأخلاق، وهو إذا عاداها كان معادياً للحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المعنى الأول الذي نعتبر به في إحياء ذكرى الهجرة النبوية؛ والمعنى الثاني متصل به وهو قوة وعماد نصر، وهو الاعتماد على الله كما في الآية الكريمة التي وردت في حديث الهجرة:(إن الله معنا)
كنت في بعض الأحايين أزور صديقاً لي من عادته إذا اتخذ شعاراً أن يكتبه في لوح كبير ويضعه أمامه ويذكر نفسه به، وكنت أرى على جدران منزله هذه الآية الكريمة مكتوبة بخط جميل في لوح كبير، وكان كلما دهمه أمر وكرثه خطب وأحس أنه لا يكاد يقوى على احتماله ينظر إلى هذه الآية الكريمة فيقوى بها على المصائب، وكانت له عوناً كبيراً في الحياة؛ وهذا من فضل إحياء ذكرى الهجرة النبوية، ومن فضل الائتمام بالنبي صلى الله عليه وسلم، وطوبى لمن يستطيع مهما نالت منه المصائب أن يقول:(إن الله معنا)، وطوبى لمن روض نفسه على الحق والعدل والصدق في القول والعمل، وتنزه عن روح الإشراك
ومعناه كما يتنزه عن لفظه واسمه، وجعل عظات الهجرة شعاراً له في كل أمر من أمور الحياة؛ بل طوبى للإنسانية لو أن كل إنسان أخذ بروح من تلك العظات ولم يجعل الغيرة على الحق والعدل حبائل كسب لا حقيقة لها في نفسه، ولم يجعل الفروض الخلقية مسميات يتباهى بترديدها. لقد حدثت نفسي فقلت ماذا كان يكون لو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رجع إلى هذه الحياة الدنيا كي يرى روح الحق الذي جاء به، ولكي يقيم الحجة على الناس. هب أنه لم يذكر لهم اسمه وشاء أن يعرف كيف يلقون الحق في شخصه من غير أن يعرفهم بنفسه. إنهم كانوا يرون رجلاً دأبه الحق والصدق والقصد والعدل في القول والعمل، وأنهم كانوا يرون رجلاً يطلب منهم كل هذه الصفات في أمور حياتهم وهو مطلب يثقل على نفوس الناس، وهم دنيويون يريدون من الصفات ما شابهها في المظهر وخالفها في الحقيقة، ويريدون المكسب والجاه من أي وجه وبأية وسيلة، فماذا كانوا يصنعون لو أنهم لم يعرفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يريد منهم روح الحق. أكبر الظن أن مأساة اضطهاد الأولين له كانت تتجدد، وأكبر الظن أننا كنا نرى هجرة ثانية مثل الهجرة الأولى، ولكنها ليست هجرة على التخصيص من مكة إلى يثرب
عبد الرحمن شكري
مصر تحمي الإسلام والمدنية في عين جالوت
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
استهل القرن السابع الهجري (وذلك في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي) وقد ترامى إلى القاهرة نبأ النضال الدموي الذي ثار في الشرق فيما بين نهري سيحون وجيحون بين جنود التتار وبين جنود الملك محمد خوارزم شاه؛ وكان المسلمون إلى ذلك العهد لا يعرفون للتتار دولة ذات خطر، فإنهم إنما كانوا يعرفون قوماً من البدو يعيشون في فيافي الشرق التي تمتد إلى اكناف الصين طالما حاربتهم جيوش المسلمين فلم يجدوا في بلادهم مطمعاً، إذ كان هؤلاء الحفاة كلما أوقع بهم جند الإسلام وقعة لاذوا بكبد الصحراء يضربون فيها ويبعدون فلا يجد قواد المسلمين لهم مدنا ولا ريفاً، ولا يستطيعون أن يقبضوا منهم على ناصية. فإذا القرن السابع الهجري يحمل معه اجتماعا عجيباً لهؤلاء التتار لم يسبق له مثيل إلا في أحوال نادرة، إذ قد نبغ من بينهم الزعيم الداهية (ثيموجين) الذي يعرفه التاريخ باسم (جنكيز خان)، فوحد لهم دولة وأقام لهم ملكا بعد أحداث يطول بنا وصفها لو تعرضنا لذكرها. وما كان لهذا الحدث أن يكون له ذلك الأثر البالغ في تاريخ الإسلام والمدينة لولا ما لابسه من ظروف العصر وما كانت عليه حال الدولة الإسلامية المتاخمة للتتار. فلو كانت الدولة الإسلامية في عصمة هارون أو المأمون، أو لو كانت في قيادة المعتصم أو المتوكل، لما زاد الأمر على قيام دولة تترية تلمع حيناً كما يلمع الشهاب ثم يندثر، فكانت تجتمع لهم كلمة وينبسط لهم سلطان على من في فيافي التركستان وما يليها من الكرج والديلم، ثم تمضي تلك الدولة الناشئة بعد حين كأن لم تكن، ويسدل عليها التاريخ ستاراً كثيفاً، وتحجب ذكراها وراء الكثبان المترامية البعيدة
غير أن مجرى التاريخ في هذه المرة قد اتجه اتجاهاً لا يزال ماثلا في أذهان الإنسانية؛ ومازالت أصداء اجتماع التتار على زعامة جنكيز خان تتردد إلى اليوم في الأقطار جميعها شرقيها وغربيها؛ ومازالت آثار ذلك العهد تنعب فوق أطلال بخارى وسمرقند ومرو، بل مازالت جاثمة فوق بغداد العظيمة يشهد العالم منها إلى اليوم كيف يقوض التخريب أسس المدينة التليدة، وكيف تذهب كنوز القرون ومخلفات الأجيال على يد الهمجية بين عشية وضحاها. وما اتخذ التاريخ ذلك المجرى إلا لسبب واحد، قد يبدو صغيرا ضئيلا لا خطر
له. غير أن أجل حوادث التاريخ طالما نبعت من أمثال هذا السبب الصغير
كان الجزء الشرقي من العالم الإسلامي يئن من حكم طائفة من الأمراء قد وثبوا إلى الحكم وهم أشبه شيء بقطاع الطرق يثبون على غنيمة آمنة في قافلة عزلاء غريرة. وإنك إذا تدبرت الأمر كله في تاريخ الإسلام لم تجد نكبة أصابت المسلمين إلا كانت آتية من مثل هؤلاء الأمراء المفسدين. تراهم وقد حكموا البلاد لكي يبتزوا ثرواتها لا لكي يقوموا بواجب الحكم فيها، وتراهم يبطشون بالناس بطش الأسد بالصيد لا يعاقبون أحداً لأنه أساء، بل لأنه تنفس بكلمة حق، أو فرج عن نفسه بأنة مصدور. وتراهم قد أحاطوا أنفسهم بشراذم من جنود مرتزقة، لا هم لها إلا أن تشترك في الغنيمة، فهي تساعد الطغيان على أن يطغى، وتشترك معه بأن تستعلي في الأرض وتطغى، وهؤلاء الملوك وأولئك الجنود لا حد لاستعلائهم مادامت مسألة الحكم مقصورة على ضبط الرعية العزلاء؛ فإذا ما جد الجد، واحتاج الأمر إلى الحماة كانوا أحرص الناس على الحياة، وأخوفهم من التعرض لبلاء الجهاد ومحنة الجلاد
ولقد كان محمد شاه خوارزم أحد هؤلاء الطغاة المستكبرين الضعفاء. كان أشد الناس بطشاً وأحدهم شوكة في سيرته مع الأفراد والضعفاء، وكان من أحرص الأمراء على الثروة والسلطان مادام لا يعالج إلا شعبه المسكين، فقد سلط عليه طوائف أعوانه فكسروا أنوفه، وخضدوا شوكته، وأذلوا نفوسه؛ وقد أراد القضاء أن يتعدى أذاه إلى طائفة من تجار التتار كانوا قد جاءوا إلى بلاده مسالمين في تجارة فأوقع بهم ونهب متاعهم، فاستجار هؤلاء بصاحبهم، وكان عند ذلك (جنكيز)، فرأى من واجبه أن ينصرهم، فبدأ من ذلك الاصطدام الذي أعقب الدمار والبلاء ببلاد المسلمين
لم يشهد التاريخ مثل ذلك الصراع الذي بدأ عند ذلك بين التتار والمسلمين. فتيار أتىّ من جموع الهمج يصدم هيكل الدولة القديمة المبجلة، فإذا بذلك الهيكل يصدع عند اللمس وينهار بعد قليل. حتى أن التتار أنفسهم ترددوا حيناً ووقفوا مبهوتين لا يكادون يصدقون أنهم قد هدموا ذلك الهيكل الهائل، ولكن الهيكل لم يكن سوى جدار أجوف قد نخره الظلم واستل منه الحياة
لم يثبت الأمراء الطغاة إلا مقدار لطمة قصيرة المدة ثم عرفوا أنهم لا يستطيعون أن
يرعبوا عدوهم كما كانوا يرعبون رعيتهم، ولن يقدروا على تحطيمه كما كانوا يحطمون أهل بلادهم، ومنذ تحققوا ذلك طارت نفوسهم خوفاً، وغلب الحرص كل غرائزهم فقلبوا الفكر في مصيرهم، وعرضوا ما كان منهم وما يكون. أتذهب عنهم أموالهم، ويضيع سلطانهم، ويضطرون إلى مقاساة الأهوال في الدفاع والنضال؟ أيقاسمون اليوم رعيتهم ضيق الحياة وضنك العيش في القتال؟ أينزلون عن السعة والعزة والمنعة في سبيل دفاع المستميت؟ أيمدون أيديهم إلى الرعية أن هلمي إلى صف واحد نبذل فيه الحياة معا فنحيا حياة كراما أو نموت وقد أعذرنا؟ ثم جالت بخيالهم ذكريات ما سبق لهم أن أجرموا، وما كان لهم في الحكم من السيئات، وعادوا إلى أنفسهم يسائلونها: أيستطيعون اليوم أن يقفوا مع الرعية كتفا إلى كتف؟ وهل يجدون من أنفسهم الجرأة على أن يخاطبوها خطاب الأنداد الأكفاء؟ أيستطيعون أن يستنهضوها لبذل المال والنفس في سبيل الخلاص من العدو المخيف؟ وهل يستطيعون أن يخيفوا الناس من عدوهم المقبل وقد كانوا بالأمس لا يجندون الجنود إلا لكي يحكموهم بالقسر والعسف؟ جالت هذه الأفكار في رؤوسهم وهم مترددون بين الثبات والانهزام، وبين النضال والهرب فخذلتهم قلوبهم إذ رأوا أن الرعية التي آذوها بالأمس لن تجيب نداءهم لو نادوا. ولن تخلص لهم اليوم بعدما نالها من شرهم وطغيانهم؛ ولئن أجابت الرعية وتناست كل ما كان، أبقيت فيها بقية للنضال؟ إن ظلم القرون إذا أفلح في إزالة القلوب الحرة الأدبية التي تنفر من الظلم، وتأبى الاستعباد، فقد أفلح كذلك في إماتة الرجولة والنخوة، وأحال الناس إلى لأشباح مرتعدة خوارة لا تستطيع شيئا في الدفاع ولا تغني غناء في النضال. فلن يستطيع شعب أذهب الطغيان إباءه وعصف بنخوته أن يصمد في نضال البقاء في الحياة
ولم يستطع محمد شاه خوارزم عند ذلك إلا أن يعمد للهروب بما استطاع استخلاصه من أمواله وذخائره التي استلبها من دماء رعاياه وابتزها من عرق كدهم، ودموع أعينهم، ورجفة العراة منهم والجائعين، وبقى الناس بعد أن هرب ذلك الطاغي وهم كالغنم المبعثرة إذا دهمتها الذئاب، وقد هرب عنها الرعاة الجبناء. فلنسدل الستار عن نضال غير متعادل بين الشاة والذئب، ولنغمض العين عن منظر شعب من شيوخ أهل علم، وشبان أهل تجارة، وكهول أهل صناعة، ومن عمال فقراء لا يملكون ما يسدون به الرمق وزراع لا
دراية لهم بشيء بعد المحراث والفأس، وهم يخرجون ألوفا إلى خارج المدن والقرى، لا يدرون كيف يفعلون، ولا أنى يتجهون، فلا تكون إلا ساعات حتى يحصدهم العدو حصداً، أو يحصد بعضهم بعضا في فزع حرب لا عهد لهم بها. لا بل إنهم كانوا يستسلمون كما يستسلم الدجاج ليذبح واحدة بعد واحدة، وهي تستسلم للهلاك خوفا من رهبة الدفاع عن أنفسها
لقد سلبهم الطغاة ما كان فيهم من رجولة بالعسف المتواصل جيلاً بعد جيل، وبالخنوع والإذلال يتوارثونه ابنا عن أب عن جد. ألا فليحمل الطغاة وزر هذه المخازي، ولتلطخ ذكراهم بإثم هذه المجازر لا براءة لأحد منهم منذ بدأ الحجاج جريمته في تذليل الأمة الإسلامية لحكم الطغيان. وترامت أنباء هذه المجازر إلى مصر فلم تجد من نفسها فراغاً إلى أن تملأ آذانها بها إذ كانت تناضل نضال الأبطال في دفاع الصليبين عن أرضها. إذ بينا كانت مذابح التتار تفتك بالمسلمين فيما بين نهري سيحون وجيجون، كان الصليبيون يفدون ألوفاً مؤلفة إلى شواطئ مصر يريدون أن يرموا بفتحها قلب دولة الإسلام. وكان بمصر بقية الدولة الأيوبية، فكان ملوكها يردون من ذلك الفتح موجة بعد موجة، فالملك الكامل يدفع حملة دمياط الأولى، والملك الصالح يقف لجيش فرنسا وحلفائها ويموت وهو في ميدان الحرب فيخلفه ابنه الملك طوران شاه فيقضي على جيش لويس التاسع، ويتم الفتح بأسر الملك الصليبي المتحمس. وهكذا علمت مصر دول أوربا أنها لن تكون هينة في النضال إذا شاءوا نضالاً
ولما تنفست مصر من حملات الصليبين راعها ما سمعت من دوي التخريب في مدن الشرق، وكان قد علا وصار مرعباً فظيعا. وكان أعلى ذك الدوي ما جاء من بغداد إذ فتح هولاكو عاصمة الخلافة وألحقها بالخراب الذي خلفه جده بين سيحون وجيجون، وسمع من بمصر أن خزائن العلم وآثار المدنية في دار السلام قد صارت كلها أثراً بعد عين، وأن دولة الإسلام العظيمة قد تحطمت وانهارت كأنها لم تكن من قبل ملاذ الحضارة والفن والعز منذ قرون. فاختلط في نفسها الحزن على مجد الإسلام الضائع والخوف من أن ينالها من ذلك التيار المدمر ما نال سائر معاقل الإسلام
واندفع التيار المدمر بعد اجتياح بغداد فسار في سبيله إلى الغرب حتى بلغ الشام، وكانت
قلاعها عند ذلك عواصم الحدود للدولة المصرية الكبرى التي ورثت دولة بني أيوب وهي دولة الأتراك المماليك
وكان صدى أنباء تلك الغارة في مصر غير صداها في سائر الأقطار، فإن صوت التتار الذي أفزع العالم الإسلامي فأخرجه عن رشده وأفقده إرادته وجعل أهله يستسلمون للموت لا يكادون يحركون يداً، لم يزد على أنه أثار حفيظة أهل مصر، وحملهم على الاستعداد للنضال. وذلك أن مصر لم تكن كسائر البلاد الإسلامية فإنها لم تفقد كرامتها ولا رجولتها. ولم تنس معنى العزة والإباء. حقا لقد كان يحكمها أمراء من الترك، وكان قبل ذلك يحكمها بنو أيوب والفاطميون وغيرهم، ولكن هؤلاء لم يكونوا في يوم من الأيام إلا حكاما يقومون بخدمة الجماعة. ولم تزل مصر على توالي المحن عليها سيدة أمرها والمسيطرة على قانونها وحقوقها. ولو كان الأمر عند ذلك أمر جيش وسلطان لانتهى النضال على ما انتهى إليه نضال ملوك الشرق وجيوشهم؛ فنضال مصر مع التتار كان نضال أمة بأسرها محسة بوجودها، شاعرة بما يجب عليها أن تبذله وأن تدبره؛ وإن شئت مصداق ذلك فهاهو ذا وصف مجلس حربي اجتمع عند ذلك لينظر في أمر التتار والاستعداد لملاقاتهم
كان في ذلك المجلس ممثلوا الشعب المصري وأهل الرأي فيه من مشايخ العلماء وأئمة القانون. كما كان فيه كبار الأمراء والحكام والأعيان. وكان سلطان الوقت شابا غرا جاهلا وهو علي بن معز الدين أيبك. فتذاكر المجلس غارة العدو وما تحتاج إليه البلاد من وسائل الدفاع من مال وجند، وما لابد من بذله من مجهود جامع شامل، فكان أول ما نظروا فيه أن تساءلوا: هل السلطان للبلاد أم هي البلاد التي للسلطان؟ وهل يليق بنا في مثل هذا الوقت أن نفيم شابا غراً جاهلاً يتصرف في شؤون الدولة لا لشيء إلا لأنه ابن السلطان الذي حكم من قبل؟ ولم تطل بهم المناقشة في ذلك فاختاروا رجلاً من أكبر قواد العصر فأقاموه سلطانا بدل ذلك الصبي الصغير ودلوا بذلك على أن نظر مصر إنما هو لمصالح الدولة، وإنها إنما تختار حكامها ليقوموا بواجبهم لها لا ليكونوا سادة متحكمين فيها. ثم نظروا بعد ذلك فيما يجب جمعه من المال للاستعداد للحرب، فلنسمع الآن قول أحد مشايخ مصر وهو الشيخ عز الدين ابن عبد السلام لنعلم منه كيف كان يخاطب نواب المصريين قادة الحرب في بلادهم، وهل كانوا يرونهم سادة أم خداما: قام ذلك الشيخ الجليل عند ذلك فقال شيئا مثل
هذا: (لقد جئتم أيها القواد والأمراء من بلادكم جنوداً صغاراً لا تملكون شيئاً، بل كنتم مملوكين أرقاء. ولقد صارت لكم أموال وعقارات، وأصبحت في أيديكم النعم الجزيلة والخيول المطهمة، والجواهر والحلي التي لا يستطاع تقدير قيمتها. فهلموا فابذلوا كل ما عندكم من تلك الأموال حتى إذا ما صرتم كالناس لا تملكون إلا ما يملكه أوساطهم، كان الواجب على الأمة أن تبذل كل ما تملك في سبيل الجهاد من ورائكم. وليست العامة بمعزل عن الحرب ولا هي مترددة في خوض غماره. فهلموا! اسألوا سهول فارسكور عن الألوف من أهل الريف الذين حاربوا الفرنج، وأبلوا في حربهم أحسن البلاء. وهلموا فنادوا أن النفير عام تجدوا الناس جميعا عند ندائكم مسارعين إلى الجهاد والنضال)
ولقد انفض ذلك المجلس على اتفاق وثيق، فخلع السلطان علي ونودي بالسلطان الجديد: الملك المظفر قطز، ونودي على الناس جميعا أن النفير عام إلى الغزو في سبيل الله
وهكذا كانت الحركة حركة مصر، والجهاد جهادها لا جهاد أمرائها
وخرج السلطان بموكبه في أواخر شعبان سنة ثمان وخمسين وستمائة، وبلغ الشام في رمضان ونزل على جانب الأردن في أواخر شهر الصيام
وكان إلى جانب وهدة الأردن واد من الوديان الكثيرة التي تهبط من جبال فلسطين أو تلالها، تخرج فيه عين من مرتفع لا يزيد علوه على مائتي متر وتسمى عين جالوت، وذلك الوادي على مقربة من بيسان التي اشتهرت بابنها النجيب القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني. وقد اجتمع جند مصر عند ذلك الوادي، آتيا من علايات فلسطين. وكان جند التتار قد توافوا في وهدته آتين من دمشق بعد أن جروا عليها ذيل تخريبهم وتدميرهم
وجال التتار في السهل وهم يتضاحكون ويمرحون، ينظرون إلى جنود مصر بلباسهم الزاهي، وسلاحهم الثمين، وحليتهم الرائعة، ولعلهم كانوا إذ ذاك يقول بعضهم لبعض: هاهي ذي غنيمة لم يسبق لنا عهد بمثلها، ولا عجب فهي كنوز مصر
واجتمع جند مصر من أتراك وعرب، وبرزوا على عادتهم صفوفا من الفرسان لا تكاد ترى فيها ميلا ولا عوجا، كل فارس منهم على فرسه كالجبل الراسي إذا تحرك، فكأنما إرادة واحدة تتحرك، فالفرسان إذا تحركت فهي خيل مقبلة، والخيل إذا أقبلت فهي فرسان مهاجمة، وانتظم السلك فإذا الجيش سلسلة تطوق جوانب الوادي، أعلاها نحاس براق
وحديد صقيل، وأسفلها حوافر الخيل المتوثبة تضرب الأرض وهي قلقة إلى النضال؛ ثم دقت الكؤوس، وأمر القائد بالهجوم، فإذا بهذه السلسلة المستوية تنحدر إلى الوادي صاخبة داوية راعدة، ولكنها مع ذلك متماسكة مستوية حتى بلغت الجانب الآخر من الوادي، وكانت جموع التتار عنده تنتظر الهجوم لتجد عنده النصر الذي اعتادته في مصافها؛ واهتزت صفوف السلسلة المستوية عند الاصطدام كما تهتز الأسطوانة الطاحنة إذا صدمها حجر صلد؛ غير أنها لم تقف وأبطأ سيرها وخفت جريتها؛ ولكنها لم تنشعب ولم ترتد
وعلت قعقعة الحديد، واختلطت ضجة الأصوات، وارتمى البعض عن البعض، وتدحرجت الأجزاء عن الأجزاء
وكانت ساعة تشيب لهولها الولدان؛ ثم ازدادت سرعة السلسلة كأنها قد اجتاحت العقبة التي عاقت سبيلها؛ واندفع جيش مصر مرة أخرى وراء فلول منهزمة من التتار تجري فزعة في غير نظام نحو بيسان في أسفل الوادي
فلقد حطمت الجيوش المصرية جموع التتار المخيفة لأول مرة في تاريخها منذ خرجت على العالم تذيقه العذاب والويل؛ وكانت وقفة مصر في عين جالوت حماية للإسلام والمدنية والإنسانية
محمد فريد أبو حديد
تحية العام الجديد:
آمال وآلام
للأستاذ محمود غنيم
شُقَّ الفضاَء بنورك المُتَجدِّدِ
…
يا ليت شِعري ما تُخَبِّئُ في غدِ
ولقد مضى عامٌ عرفتُ صروفَه
…
وعَييتُ بالغيب الذي لم يُوجَد
وَصَدُوا النجومَ ورحتُ أرصُد شيخها
…
شيْخَ النجوم الزهرِ علَّكم مُرْشِدي
يا ابن الظلام أما تعبتَ من السُّرى
…
أبداً تروحُ على الأنام وتغتدي
شيبتَ ناصيةَ القرونِ ولم تزل
…
طفلاً تُطالعُنا بوجهٍ أمردِ
تمضي الحياةُ فلا تعودُ إذا مضت
…
وأراك تختتم الحياة وتبتدي
حتَّامَ تضربُ في الدياجي هائماً
…
تهدي الأنامَ ولا إخالُكَ تهتدي
رَقَدَ الأنامُ خليُّهم وشجيُّهم
…
وظلِلْت وحدك ساهراً لم ترقد
ولقد حسبتُكَ بالسلام مبشِّراً
…
فبرزتَ مثل الخنجر المتجرِّد
الشرق مُضطَرمُ الجوانح ثائرٌ
…
والغربُ يهدِر كالخضمِّ المزبد
إني أرى ناراً أُعِدَّ هشيمُها
…
وثقابُها لكنها لم تُوقد
عامٌ وآخرُ مقبلٌ ومودعٌ
…
شيَّعتُ نعشاً واحتلفتُ بمولِد
ولىَّ القديمُ فما ظفرتُ بطائلٍ
…
وأتى الجديدُ فهل تُرى هو مُسعدي
ولقد تشابهت السنونَ كأنني
…
ما عشتُ عمري غيرَ عامٍ مفرد
قالوا عجبنا ما لشعرك نائحاً
…
في العيد ما هذا بشَدْو معيَّد
ما حيلةُ العصفور قصُّوا ريشه
…
ورَمَوْهُ في قفصٍ وقالوا غرِّد
يا ليت شعري يا هلالُ أعائدٌ
…
للمسلمين بنصر دين محمد
أتعيدُ للجُمُعات سابق عهدها
…
أتعيد للإسلام مجد المسجد
أدركتَ عهدَ الراشدين (بيثرب)
…
وحسدتها بين النجوم الحسَّد
وشهدتَ دولة (عبد شمس) حينما
…
بلغ (الوليدُ) بها عنان الفرقد
ولقد طلعتَ على بني العبَّاس إذْ
…
جلس (الرشيدُ) مع السُّها في مقعد
لهفي عليها دولةً قد أوشكت
…
تمتدُّ حتى سِاحل المتجمِّد
للشرق ماضٍ كلّما عرضت له
…
ذكراهُ يزفر زفرَة المتنهِّد
الشرق يأمُل أن تحلَّ وثاقه
…
جرت الشعوب وسار سير المقعد
لهفي عليه منسَّبًا لم يُجْدِهِ
…
طيبُ النجار ولا كريمُ المحتد
بتنا نعيش على حساب جدودنا
…
هيهات ليس الحرُّ كالمستعْبَد
أين الجبالُ من التلال أو الربى
…
أين القويُّ من الضعيفِ القُعْدَد
لا القوم منِّي لا ولا أنا منهمُوُ
…
إن لم أفْقهُمْ في العلا والسؤدد
كان الجدودُ لهم شَرًى يأوُونَهُ
…
ولنا وكورٌ من يَردْها يَصْطَد
كانوا مغاوِرَ يعتدون على الورى
…
فإذا بنوهم عرضةٌ للمعتدي
صالوا برمحٍ ذابلٍ ومهنَّدٍ
…
عَضْبٍ ونعجز أن نصولَ بمِبرْد
أين الذي نظم الجيوش؟ من الذي
…
نظمَ الكلامَ قلائدً من عسجد
قد كان همهم الفتوحُ وهمنا
…
أن نغتذِى أو نرتوِى أو نرتدي
إرثٌ على يدنا تبدَّد شملُه
…
يا ليت هذا الإرثَ لم يتبدَّد
يا من رأى أرضاً أُبيحَ حرامُها
…
بالأمس كانت في قداسَةِ مَعْبَدَ
أُممٌ تباعُ وتُشترى في السوق مِنْ
…
يَدِ سيَدٍ تمضي إلى يد سيد
الحرب حولَ الشرق شَبَّ أُوارُها
…
والشرق يرقبُ من يَقُدْهُ ينقد
ما لي أرى الشرقَ المهيضَ جناحُه
…
رغم اتحاد الهم غيرَ موحَّد
وإذا تفرقت الشعوب مواقعاً
…
وتقاربت غاياتها لم تبعد
ولقد تهان أمامنا جاراتُنا
…
وشكاتهنَّ تُذيب قلبَ الجَلْمَد
فنرى ونسمعُ صامتين كأننا
…
لم نستمعْ وكأننا لم نشهد
فإذا تحمسنا مَددْنا نحوَهُمْ
…
كفَّ الدعاء وغيرها لم نَمْدُد
عذرا بني أعمامنا! أغلالنا
…
قعدتْ بنا عن نجدة المستنجد
أعْزِزْ علينا أن نرى جيرانَناَ
…
يتَخَطَّفون ونحن مكتوفو اليد
من لي بجيل مستجَدٍّ لم يرثْ
…
إلا عنٍ الجدِّ القديم الأبعد
يرثُ (ابنَ هندٍ) في أصالة رأيه
…
أو (خالداً) في عزمه المتوقِّد
لم يعتد الضيمَ الذي نعتادُهُ
…
أَهْوِنْ بكلِّ أذًى على المتعوِّد
إن قام يثبتُ حقَّه فدليلُه
…
قصفُ المدافع أو صليلُ مهنَّد
لا خير في حقٍّ يقالُ ومنطقٍ
…
عذبٍ بحدِّ السيف غيرِ مؤيِّد
جيلٌ إذا سِيمَ الهوانَ أبى وإن
…
يطلبْ إليه البذلُ لم يتردَّد
يهوى الحياة طليقةً ويعافُها
…
ذلاًّ ويُدعى للفداءِ فيفتدي
كوم حماده
محمود غنيم
هجرة الرسل
للأستاذ عبد الوهاب النجار
لقد قتل الناس مسألة الهجرة النبوية بحثاً وغاصوا في أعماقها، ولم يتركوا زاوية من زواياها إلا أخرجوا خباياها؛ فأنا لا أريد أن أكتب على غرار ما كتب من قبل فأعيد ما بدائه غيري وأنا مولع بمعادة المعادات
والذي أريد أن أكتب هو هجرة الأنبياء الذين غبروا قبل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه ليس بدعا من الرسل عليهم الصلاة والسلام
أول الرسل الكرام هجرة هو نوح عليه السلام فكانت هجرته حياة له وهلاكا لأعدائه
دعا نوح قومه إلى عبادة الله تعالى وترك عبادة غيره من الأصنام والأوثان وصار يغاديهم بالنصح ويراوحهم بالعظات ألف سنة إلا خمسين، وهم لا يزدادون منه إلا بعداً ونفوراً إلى أن ضاق صدره بما يلاقي منهم، ولم يجد باباً لهدايتهم إلا طرقه، ولا منفذاً لنصحهم إلا قصده، ولم يجد قومه باباً للنكاية به إلا ولجوه، ولا منفذاً لأغاظته إلا سلكوه. فتراهم يقولون له:(ما نرك إلا بشراً مثلنا؛ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي؛ وما نرى لكم علينا من فضل؛ بل نظنكم كاذبين) فهم يرون أن الرسالة لا تكون للبشر بل للملائكة، والهداية لا يمكن أن ينالها الفقراء وذوو الأعواز، ولكنها وقف على ذوي الوجاهة والقوة، وأن الذي يريد الله أن يصطفيه إنما يكون من أهل الثراء والغنى، ولقد رد عليهم نوح بقوله: إنه لا يسألهم على الهداية التي يزفها إليهم أجراً. فهو لا يجر بذلك لنفسه نفعاً ولا يحوز مالاً، وإنما يريد أجره من الله، ولم يقل لهم إن عنده خزائن الله وليس عنده شيء من علم الغيب، ولم يقل لهم إنه ملك، ولا يقول للذين تزدري أعينهم من أتباعه لن يؤتيهم الله خيراً وهو الهدى والاستقامة على الجادة، وأن علم ما في أنفسهم عند الله لا عنده إلى أن ضاق بالقوم وضاقوا به. فقالوا له ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، ودعا نوح عليهم فقال:(رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً) فأنبأه الله أن العذاب سيحل بهم، وأمره ألا يخاطبه فيهم وأنهم مغرقون. وأوحى إليه أن يصنع الفلك لينجو بها من العذاب النازل بهم وليهاجروا بها عنهم
صنع نوح الفلك وكان قومه يسخرون منه وهو يسخر منهم لغفلتهم عن أنفسهم وتفريطهم
في حياتهم وعيرهم بعدم اتباعه إلى أن جاء أمر الله وفار التنور، وتفجرت ينابيع الأرض، وحلت عزاليها السماء، وجاء الطوفان وأبادهم بعد أن نزل نوح والذين آمنوا معه في السفينة، وسلك فيها زوجين اثنين من كل ذي حياة، وانتهت هجرته من الأرض بعد سنة وعشرة أيام بعد أن استقرت السفينة على الجودي. فكانت هجرته ميمونة عليه وعلى من معه في السفينة وهلاكا لأعدائه
لوط عليه السلام
آمن بعمه إبراهيم واستجاب إلى عبادة الله تعالى وهاجر مع عمه إبراهيم كما قال تعالى: (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي) وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن عثمان حين هاجر إلى الحبشة ومعه زوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول مهاجر إلى الله بأهله بعد لوط عثمان بن عفان
يعقوب عليه السلام
كان بيته وبين أخيه عيسو شيء من الخلاف، فهاجر إلى بلاد ما بين النهرين عند خاله لابان، ومكث عند خاله يرعى عليه غنمه، وتزوج من ابنتيه ليئة وراحيل، ومن جاريتيهما زلفى ويلها، ورزق منهن أولاده جميعا، وكانت هجرته خيراً وبركة عليه، فقد صار رب أسرة عظيمة كثيرة العدد، وأموال وماشية كثيرة وعاد إلى فلسطين بعد ذلك، وولد له في هجرته جميع أولاده إلا بنامين
يوسف عليه السلام
هاجر مرغما حين ألقاه أخوته في غيابة الجب، ثم التقطه بعض السيارة وأسروه بضاعة وباعوه في مصر بثمن بخس، واشتراه عزيز مصر أو رئيس الشرطة بعاصمة الديار المصرية، وهي مدينة صان في الشرقية، ثم امتحن بامرأة العزيز التي راودته عن نفسه فاستعصم، ثم بهتته في وجهه واتهمته بأنه راودها عن نفسه (وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قُبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قدّ من دبر قال) العزيز لها: (أنه من كيدكن؛ إن كيدكن عظيم)، والتفت إلى يوسف وقال له:(يوسف اعرض عن هذا)، والتفت إلى زوجه وقال:
(استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين - إلى أن بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين)، وفي السجن ظهرت آيات فضله، وفسر لساقي الملك وخبازه مناميهما، وأوصى الذي ظن أنه ناج منهما أن يذكره عند ربه الملك فأنساه الشيطان ذكر ربه، فلبث في السجن بضع سنين إلى أن رأى الملك سبع بقرات سمان حسان يأكلهن سبع بقرات عجاف مهزولة، وسبع سنبلات خضر غلبتهن سبع سنابل يابسات، وحار العلماء والسحرة والعرافون في تفسير ذلك المنام فذكر الذي نجا من الفتيين شأن يوسف وتفسيره للمنام؛ فاستأذن الملك وأتى إلى يوسف واستفتاه فيما رآه الملك. ففسر له الرؤيا على وجهها، وجاء الساقي وقص القصص على الملك، وكان ما كان، إلى أن اصطفاه الملك لنفسه، وجعله على خزائن الأرض، ودبر أمر مصر إلى أن جاء سبع سنوات مخصبة خزن فيها ما زاد على الحاجة؛ ثم جاء السنين المجدبة ففتح مخازن الادخار، وأطعم الناس، وجاء أخوته فداعبهم ودبر عليهم تدبيراً حتى جاءوه بأخيه بنيامين، ثم عرفهم بنفسه وقال:(ائتوني بأهلكم أجمعين) فكانت هجرته القسرية وتغربه خيراً عليه وعلى أهله وعلى الناس أجمعين؛ ولولا تدبير الله وتدبيره لأمر الأغذية لهلك الناس
موسى عليه السلام وهجرته
لا نريد أن نتكلم عن أولية موسى عليه السلام. وإنما نقول إنه نشأ في بيت فرعون عزيز الجانب؛ ولما بلغ مبلغ الرجال لم يخف عليه أنه دخيل في ذلك البيت وأنه من العنصر العبراني؛ وعرف العبرانيون ذلك فاستعزوا به وانتفعوا بجاهه
وسار في المدينة يوماً على حين غفلة من أهلها فوجد رجلين يقتتلان أحدهما عبراني من شيعة موسى والثاني قبطي من عدوه، فاستغاثة العبراني على القبطي، فأغاثه موسى وعمد إلى القبطي فوكزه فقضى عليه، وهو لم يرد قتله، وإنما أراد كف عاديته عن العبراني، ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها
لم يشاهد أحد هذه الحادثة سوى العبراني. وعاد موسى بالأئمة على نفسه وقطع على نفسه عهداً ألا يكون ظهيراً للمجرمين
ظهر أمر القبطي ولم يعلم قاتله. فلما كان اليوم الثاني خرج موسى في مثل ذلك الوقت فوجد ذلك العبراني بنفسه في معركة مع قبطي آخر يريد أن يسخره وهو يأبى، فاستغاثه
كما استغاثه بالأمس فقال له موسى أنك لغوي مبين. وأراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما ويكف عاديته عنه. فظن العبراني أنه إياه أراد. فقال له: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين، وصالح القبطي واتخذ موسى خصما
حينئذ ظهر قاتل القبطي وهو موسى وانتهى الخبر إلى فرعون فاجتمع ملأ فرعون وقومه على قتل موسى. فجاء إليه رجل من آل فرعون من أقصى المدينة يسعى وقال له إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، ونصح له بالخروج لينجو بنفسه فخرج من المدينة خائفاً يترقب قائلاً رب نجني من القوم الظالمين
ولى وجهه شطر مَدْين على خليج العقبة. ولعلها كانت أقرب بلاد يجد فيها مأمنه لخروجها عن قبضة الحكومة المصرية - ولما كان خروجه على عجل لم يترو في الأمر ولم يأخذ معه زاداً ولا ما يساعده على قطع المسافة من مطية ولا رفقة له في هذا السفر الشاق ولا دليل لأنه إنما يريد أن ينجو بخيط رقبته. فلما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل. فحقق الله تعالى أمنيته وبلغ ماء مدين بعد الجهد الشديد والجوع المضي فوجد على الماء أمة من الناس يسقون ووجد امرأتين تذودان غنمهما عن الحوض، فلم يعجبه أن يتقدم أولو القوة ويتأخر المرأتان فسألهما عن شأنهما. فقالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء لأننا ليس بنا قوة على التقدم والمزاحمة، وأبونا شيخ كبير لا يقدر على رعي ماشيته ولا سقياها. فنحى الرعاء بما بقى له من فضل قوة وسقى لهما ثم تولى إلى الظل يشكو إلى الله حاجته إلى القوت وما به من مخمصة قائلاً:(رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير)
أراد الله أن يكافئ موسى جزاء توكله عليه وفعله الخير ابتغاء وجه ربه فلم يلبث أن جاءته إحدى المرأتين تمشي على استحياء حتى وقفت عليه وقالت له في خفر: (إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا)
لبى موسى الدعوة؛ وجاء إلى أبيها الشيخ وقص عليه قصصه. فقال له الشيخ لا تخف نجوت من القوم الظالمين
أرادت إحدى بنات الشيخ أن يقوم موسى عنهما برعي الماشية لأنه أقدر على ذلك لما رأته
من قوته في النزع بالدلو وأمانته إذ أخرها وقال لها اسعي ورائي وانعتي لي الطريق؛ فقالت لأبيها (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين)
نشط الشيخ لما أشارت به ابنته، وطلب إلى موسى أن يستأجره ثماني حجج على أن يزوجه من إحدى ابنتيه؛ فإذا رضى أن يتم الثماني عشرا كان ذلك على أن يكون بالخيار في قضاء أحد الأجلين
تقول التوراة إنه بقى عنده إلى أن كانت سنه ثمانين سنة؛ والقرآن الكريم ليس فيه تحديد قاطع في المدة التي أقامها
والمهم في الأمر أنه لما قضى الأجل وصار حرا صادفه أن أبعد في الرعي وضل الطريق في ليلة مظلمة باردة؛ وحاول أن يقدح نارا فصلد زنده ولم يور نارا؛ وبعد لأي (آنس من جانب الطور نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو أجد على النار هدى). فلما جاء إلى النار نودي (يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك انك بالوادي المقدس طوى؛ وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى أنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) وبعد حوار أرسله الله نذيرا إلى فرعون وملئه لإخراج بني إسرائيل؛ فكان ما كان مما قصه القرآن من شأنه مع فرعون وشأنه مع بني إسرائيل؛ فكانت هجرته خيرا وبركة عليه وعلى بني إسرائيل؛ كما أجاب فرعون بقوله (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين)
هجرة داود عليه السلام
هو داود بني يسي من سبط يهوذا. كان له اخوة يحاربون الفلسطينيين مع طالوت الذي هو شاول أول ملك من ملوك بني إسرائيل. وكان في الفلسطينيين جندي جبار اسمه جالوت قد هابته الأبطال وتحامت الشجعان لقاءه خوف الهلاك
وكان لداود اخوة في الحرب؛ فأرسله أبوه بطعام لاخوته ولينظر حالهم ويعود إلى أبيه بما يطمئنه عليهم. فبينا هو سائر إلى اخوته نظر في البرية إلى أحجار ملس راقته فوضعها في كنفه (الكنف كيس الراعي) ولما ذهب إلى اخوته والحرب على قدم وساق نظر إلى الفلسطيني وهو يعير بني إسرائيل إحجامهم عنه، فاستشاط الفتى داود غضبا وسأل ما الذي يناله من قتل هذا الأغلف الفلسطيني. فأجيب بأن الملك يغنيه ويغدق عليه ويزوجه ابنته
ويجعل بيته أكبر بيت في إسرائيل. فذهب إلى الملك واستأذنه في لقاء جالوت فضن به الملك أن يقتل في غير فائدة وهو صغير السن لا يقوى عليه. فقال له داود: إن عبدك (يعني نفسه) قتل أسدا تعرض لغنم أبي وقتل دبا أيضا. فأذن له وأعطاه لأمة حربه فلم يحسن داود المشي فيها فخلعها وذهب إلى جالوت بمقلاعه وأحجاره. وقد هزأ منه جالوت ونصحه أن يعود من حيث أتى فلم يفعل، ووقف قبالته ووضع حجرا من تلك الأحجار في المقلاع رماه به فارتز الحجر في جبهة جالوت وخر لليدين وللفم، فأخذ داود سيف جالوت وفصل رأسه به وجاء به إلى الملك وانهزم الفلسطينيون شر هزيمة
ولكن طالوت ضن على داود بابنته التي وعد أن يزوجها من قاتل جالوت وزوجه من ابنة له أخرى وقدمه على رؤساء جنده
تغير بعد ذلك طالوت لداود وعمل على إهلاكه بيد الأعداء خوفا من أن يوليه بنو إسرائيل الملك، فكان يكلفه بالقدوم إلى الحرب وكان داود يظفر دائما. فعمد إلى إهلاكه بنفسه، ونجا داود منه مرات وهو يتبعه في كل مكان، وتمكن داود من قتل الملك مرات ولكنه لم يفعل ويخبره بتمكنه من قتله وأنه أبقى عليه، فيندم الملك ثم يعادوه خوفه على الملك فيطارده إلى أن خرج داود من ملك إسرائيل وأقام مع الفلسطينيين برضاء ملكهم إلى أن قتل طالوت وابنه. فجاء إلى قرية أربع وهي مدينة الخليل وبويع فيها بالملك. وكان لطالوت ولد بويع بالملك أيضاً إلى أن قتل ابن طالوت الملك وانفرد داود بالملك واشترى قلعة صهيون التي عند باب الخليل وسماها مدينة داود، ثم اشترى جبل الموريا الذي عليه الحرم القدسي ومدينة أورشليم القديمة المعلومة اليوم بأسوارها وحدودها
وفي أواخر أيام داود نزا على الملك ولده ابشالوم وبايعه العدد العظيم من بني إسرائيل. ورحل داود إلى شرق الأردن وجلس ابشالوم على كرسي الملك وحارب أباه فقتل أبشالوم وعاد داود إلى مقر ملكه. فهاتان هجرتان لداود وكانت العاقبة له على خصومه فيهما
هجرة المسيح عليه السلام
أما المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام فله هجرة ليست كهجرة سائر الأنبياء الذين هاجروا من بلادهم
ذلك أنه لما ولد كان هناك مملك من قبل الرومان أخبر أن ملك اليهود ولد في بيت لحم،
فجد في قتل الأولاد الذين ولدوا في بيت لحم في تلك الأيام. فأمرت مريم بأن تهاجر بابنها ومعها خطيبها يوسف النجار فذهبت إلى مصر وأقامت فيها مدة قيل إنها كانت سبع سنين أو أقل، إلى أن أمرت بالرجوع إلى فلسطين، لأن الذي كان يطلب نفس ولدها قد هلك، فعادت
وهذه الهجرة نص عليها في إنجيل متي وإنجيل برنابا ولا وجود لها في سائر الأناجيل الثلاثة الأخرى المعروفة؛ فهجرة المسيح كانت تابعة لهجرة أمه خوفاً عليه ولم تكن بإرادته
محمد عليه السلام
من ذلك كله نرى أن محمداً لم يكن بدعا من الرسل الذين هاجروا من قبل، فقد جاهد جهاد الأبطال في إذاعة دعوته بين الناس، وقد أوذي في الله تعالى هو وأتباعه. حتى إذا لم يبق في قوس تصبرهم منزع سهل الله تعالى إسلام أهل المدينة فأقبلوا على الدين بمحض اختيارهم، حتى إذا كثروا جاءوا إليه وبايعوه على النصرة، فأذن لأصحابه في الهجرة وبقى هو وأبو بكر وعلي والمستضعفون. فلما مكر به كفار مكة ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه وصحت منهم العزيمة على ما بيتوا، أمره الله تعالى بالهجرة (وكان أبو بكر يعد لها العدة) فامتثل الرسول أمر ربه وآذن أبا بكر بذلك ففرح وحاول أن يدعوا صهيب بن سنان للسير معهما فلم يقدر له ذلك، وخرجا إلى غار ثور فأقاما به ثلاثا. وقد جهد كفار قريش في العثور عليهما فصرفهم الله عن ذلك، وقد كانا منهم قاب قوسين أو أدنى؛ ثم ذهبا إلى المدينة بعد أن هدأ الطلب يدل بهما عبد الله بن اريقط وهو على شركه إلى أن وردا قباء ثم المدينة هاربين بدينهما. فبدل الله خوف رسول الله والمؤمنين أمنا، ومكن لهم في الأرض، وأرى كفار قريش منهم ما كانوا يحذرون، وأتم الله نعمته على أهل الإسلام، مكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم إلى أن مضى رسول الله لسبيله، وقام خلفائه من بعده يحملون عبء تبليغ الرسالة والتمكين للدين؛ وانتشر الإسلام شرقا وغربا؛ وكانت الهجرة على رسول الله وأمته خيرا وبركة كما كانت هجرة الأنبياء خيرا وبركة عليهم من قبل؛ ولله عاقبة الأمور؛ لا مبدل لكلماته، ولا معقب لحكمه؛ وهو العزيز الحكيم
عبد الوهاب النجار
الأزهر والحياة الفكرية في العصر الفاطمي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
عرضت لنا من قبل فرصة للتعريف بنشأة الأزهر الجامعية، وكيف أنه أنشئ في البداية ليكون مسجداً رسمياً للدولة الفاطمية، ثم نشأت صفته الجامعية في ظروف عرضية، ولم تلبث أن استقرت بعد ذلك وتأثلت؛ وذكرنا ما كان للوزير ابن كلس من كبير أثر في إسباغ هذه الصفة العلمية الجليلة على الأزهر، وكيف أنه يعتبر منشئ الجامعة الأزهرية في معنى من المعاني
والآن نذكر طرفا من الآثار الفكرية التي ترتبت على قيام هذه الجامعة الإسلامية الكبرى في عصرها الأول، أعني في العصر الفاطمي، ونذكر أيضاً بعض أعلام التفكير في هذا العصر ممن تولوا التدريس في هذا المعهد الجليل أو تخرجوا فيه أو اتصلوا به وبحلقاته اتصالاً كان له أثر في تكوينهم الفكري والعلمي
لم تبلغ العلوم والآداب في ظل الدولة الفاطمية من التقدم والازدهار ما كان خليقا أن تبلغه في ظل هذه الدولة القوية الباذخة؛ ذلك أن الدولة الفاطمية كانت لظروفها الدينية والسياسية ترمي إلى الإنشاء في كل شيء، ولم ترد أن تقوم على تراث الماضي أو أن تستأنف السير به؛ ولم يمد لها في عهد الإنشاء الفتي، فلم يأت منتصف القرن الخامس حتى سرت إليها عوامل الانحلال والوهن
وقد كان هذا شأن الحركة الفكرية، فإنها لم تلبث طويلاً في قوتها وازدهارها. وكان الأزهر، وهو يومئذ إلى جانب دار الحكمة والمسجد الجامع، من صروح الحركة الفكرية، يتبع مصاير هذه الحركة من قوة وضعف، فلم يبلغ في هذا العصر، - عصر الإنشاء والنمو - ما بلغه في العصور التالية من التقدم والأخذ بزمام الحركة الفكرية؛ ومن ثم فإنا لا نستطيع أن نحصي في هذه المرحلة من تاريخ الجامع الأزهر كثيراً من الأعلام الذين تخرجوا في حلقاته أو درسوا فيها. والواقع أنه من الصعب أن نعين بالتحقيق من تخرج في الأزهر من أعلام التفكير والأدب في هذا العصر، وإن كنا نستطيع أن نعين بعض الأساتذة الذين تولوا التدريس في حلقاته؛ ذلك أن الأزهر لم يكن ينفرد يومئذ بتنظيم الدراسة العالية، بل كان إلى جانبه دار الحكمة تنافسه وتتفوق عليه أحياناً، والمسجد الجامع
يحتفظ دائماً بحلقاته القديمة؛ ومن المرجح أن معظم العلماء والأدباء الذين ظهروا في هذا العصر كانوا ينتفعون بالدرس في المعاهد الثلاثة، ومن المرجح أيضاً أن الأزهر كان له في تخريج أولئك العلماء والأدباء أوفر نصيب، لأن دار الحكمة لم تتمتع دائماً بكثير من الثبات والاستقرار، وقد أغلقت فيما بعد؛ ولم يكن المسجد الجامع معهداً منتظماً للدرس، وكان الأزهر أكثر المعاهد الثلاثة انتظاماً واستقرارا
كان في مقدمة الأساتذة الذين تولوا التدريس والإقراء بالأزهر منذ إنشائه بنو النعمان قضاة مصر؛ فكان القاضي أبو الحسن علي بن النعمان أول من درس بالأزهر، فعقد أول حلقاته في صفر سنة 365هـ وقرأ فيها مختصر أبيه في فقه آل البيت، وكان فوق تضلعه في فقه آل البيت أديباً شاعراً، وتوفي سنة 374هـ؛ ودرس بالأزهر أيضاً أخوه القاضي محمد بن النعمان المتوفى سنة 389هـ، ثم ولده الحسين بن النعمان قاضي الحاكم بأمر الله؛ ومن المرجح أن فقيه مصر ومؤرخها الكبير الحسن بن زولاق (المتوفى سنة 387هـ) كان بين الذين تولوا الدرس بالأزهر يومئذ، فقد كان صديق المعز لدين الله ومؤرخ سيرته، ثم صديق والده العزيز، ومن المعقول أن يقع الاختيار عليه للتدريس بالمعهد الفاطمي الجديد
ويجب ألا ننسى أن الوزير ابن كلس نفسه كان في مقدمة العلماء الذين تولوا التدريس في الأزهر. وقد رأينا في بحثنا السابق كيف كان هذا الوزير العلامة أيام العزيز بالله يعقد حلقاته الدراسية أحياناً بالأزهر وأحياناً بداره، ويقرأ فيها محاضراته في الفقه الشيعي ولاسيما رسالته الشهيرة المعروف (بالرسالة الوزيرية) وقد كانت من أقدم كتب الدراسة التي درست بالأزهر
ونستطيع أن نذكر من أعلام التفكير والأدب في هذا العصر عدة، وهم بلا ريب ممن كان للأزهر في تكوينهم العلمي أثر كبير؛ فمنهم المسبحي الكاتب والمؤرخ الأشهر، وهو الأمير المختار عز الملك محمد بن عبد الله بن أحمد الحراني، ولد بمصر سنة 366هـ وتوفي سنة 420؛ وكان من أقطاب الأمراء ورجال الدولة الفاطمية؛ وتولى الوزارة للحاكم بأمر الله ونال حظوة لديه؛ وأخذ بقسط وافر في مختلف علوم عصره، وشغف بتدوين التاريخ، وألف فيه عدة كتب منها تاريخه الكبير المسمى (أخبار مصر) وهو تاريخ مصر ومن حلها من الولاة والأمراء والأئمة والخلفاء وما بها من العجائب والأبنية، وذكر نيلها وخواصها
ومجتمعاتها حتى فاتحة القرن الخامس الهجري. ولم يصلنا هذا الأثر الضخم الذي يلقي بلا ريب أعظم الضياء على تاريخ الدولة الفاطمية في عصرها الأول، ولكن الشذور التي وصلتنا منه على يد المقريزي وغيره من المؤرخين المتأخرين، تنوه بقيمة هذا الأثر ونفاسته؛ وكتب المسبحي كتباً أخرى في التاريخ والأدب والفلك ولكنا لم نتلق شيئاً منها
ومنهم، القضاعي الفقيه والمحدث والمؤرخ؛ وهو أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي؛ ولد بمصر في أواخر القرن الرابع، وتوفي بها سنة 454هـ: كان من أقطاب الحديث والفقه الشافعي؛ وتولى القضاء وغيره من مهام الدولة في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، وأوفده المستنصر سفيراً إلى تيودورا إمبراطورة قسطنطينية سنة 447هـ (1055م) ليحاول عقد الصلح بينها وبين مصر، وكتب عدة مصنفات في الحديث والفقه والتاريخ منها (الشهاب) و (مسند الصحاب) وهما في الحديث وكتاب (مناقب الإمام الشافعي)، و (أنباء الأنبياء وتواريخ الخلفاء)، و (عيون المعارف) وهما مختصران في التاريخ، وكتاب (المختار في ذكر الخطط والآثار) وهو تاريخ مصر والقاهرة حتى عصره
ومنهم الحوفي النحوي اللغوي، وهو أبو الحسن علي بن إبراهيم ابن سعيد كان من أئمة اللغة في عصره، واشتغل أعواماً طويلة بالتدريس في مصر والقاهرة، وألف كتباً كثيرة في النحو والأدب منها كتاب (إعراب القرآن) وكانت وفاته سنة 430هـ
ومنهم أبو العباس أحمد بن علي بن هاشم المصري، وقد كان من كبار المحدثين والمقرئين، واشتهر حيناً بتدريس علم القراءات وتوفي سنة 445هـ
ومنهم ابن بايشاذ النحوي الشهير، وهو أبو الحسن طاهر ابن أحمد المصري المعروف بابن بايشاذ، كان إمام عصره في اللغة والنحو، وألف فيهما عدة تصانيف ضخمة، واشتغل حيناً بديوان الإنشاء في عهد المستنصر بالله، وتوفي سنة 469هـ
ومنهم أبو عبد الله محمد بن بركات النحوي، تلميذ القضاعي، كان أيضاً من أئمة اللغة والنحو، وتوفي سنة 520هـ
ومنهم الفقيه العلامة الحسن بن الخطير الفارسي، كان من أقطاب الفقه الحنفي والتفسير، وكان أيضاً عارفاً بالرياضة والطب وعلوم اللغة والتاريخ، وله عدة مصنفات في التفسير والفقه، واشتغل زمناً طويلاً بالتدريس بالأزهر، وتوفي سنة 598هـ
هذا وأما أعلام الوافدين على القاهرة وأزهرها في ذلك العصر فنستطيع أن نذكر منهم عدة أيضاً. منهم العلامة الأندلسي أمية ابن عبد العزيز بن أبي الصلت، وفد على مصر في أوائل القرن السادس أيام الأفضل شاهنشاه، وأقام حيناً بالقاهرة يتصل بمعاهدها وعلمائها وأدبائها؛ وكان ماهراً في الرياضة والفلك والموسيقى والعلوم الطبيعية، وكان أيضاً أديباً شاعراً بديع النثر والنظم؛ ألف كثيراً من الكتب في مختلف العلوم، ووضع رسالة عن علماء مصر وأدبائها في هذا العصر، وتوفي سنة 528هـ
ومنهم العلامة المقرئ الشهير أبو القاسم الرعيني الشاطي الضرير، ولد بشاطبة من أعمال الأندلس في سنة 538هـ، وبرز في علوم القرآن، واشتهر بالأخص بالتضلع في علم القراءات، وقدم إلى مصر عقب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية (سنة 572هـ) يسبقه صيته، وتصدر للأقراء والدرس بالقاهرة يدرس القرآن وعلوم اللغة، فهرع إليه الطلاب من كل صوب، وكان إمام القراءات في عصره. ووضع في علم القراءات قصيدته الشهيرة المسماة (حرز الأماني ووجه التهاني)، وأنشأ بمصر مدرسة حقة للقراءات؛ وتوفي سنة 590هـ
ومن الشعراء الذين وفدوا على مصر أيام الدولة الفاطمية، واتصلوا بمعاهدها وأدبائها، أبو حامد بن محمد الانطاكي، المعروف بأبي الرقعمق الشاعر المتفنن الماجن، وفد على مصر في أوائل الدولة ومدح المعز لدين الله وولده العزيز والوزير ابن كلس وتوفي سنة 399هـ؛ وأبو الحسن علي بن عبد الواحد البغدادي المعروف بصريع الدلا، قدم إلى مصر أيام الحاكم بأمر الله ومدحه، وتوفي سنة 412هـ وهو صاحب المقصورة الهزلية الشهيرة التي يعارض فيها مقصورة ابن دريد؛ ومنهم الشاعر الأشهر عمارة اليمني، وهو أبو محمد عمارة بن أبي الحسن، قدم إلى مصر سنة 550هـ في خلافة الفائز بن الظافر، وكان فقهياً أديباً شاعراً فائق النثر والنظم، شهد سقوط الدولة الفاطمية ورثاها، واتهم بالتآمر مع آخرين على السلطان صلاح الدين، وأعدم سنة 569هـ، ومن آثاره كتاب أخبار اليمن، وكتاب النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية
ومن الرحل الذين وفدوا على مصر في ذلك العصر، الرحالة الفارسي ناصري خسرو، قدم إليها سنة 439هـ في خلافة المستنصر بالله، وشهد أزهرها، وأشار إليه خلال وصفه
لمدينة القاهرة
كان للأزهر بلا ريب أثره في توجيه الحركة الفكرية المصرية في هذا العصر، فقد كان مذ بدأت مهمته الجامعية موضع الرعاية الرسمية. كان يشترك في عقد حلقاته الدراسية أقطاب العلماء من رجال الدولة، كبني النعمان قضاة مصر، والوزير ابن كلس، وداعي الدعاة؛ وكانت هذه العناية تسبغ على حلقاته ودروسه أهمية خاصة؛ بيد أن هذا الأثر كان محدوداً، خصوصا منذ قيام دار الحكمة، جامعة الدولة الرسمية، وتبوئها مقام الزعامة في توجيه الحركة الفكرية؛ وقد كان أثر الأزهر أقوى وأشد ظهوراً في نشر العلوم الدينية، وتخريج علماء الدين، لأنه كما قلنا كان موئل الثقافة الدينية، بينما كانت دار الحكمة موئل الثقافة المدنية؛ وعلى أي حال فإن مؤرخ الآداب العربية لا يسعه إلا أن ينوه بما كان للأزهر من أثر في سير الحركة العلمية والأدبية أيام الدولة الفاطمية، وان كان هذا الأثر لم يبلغ يومئذ ما بلغه فيما بعد من الأهمية والخطورة
ونلاحظ من جهة أخرى أن أثر الأزهر في توجيه الحياة العامة في تلك المرحلة الأولى من حياته لم يكن عظيما. ذلك أن الدولة الفاطمية كانت تحرص على سلطانها السياسي أشد الحرص وتمعن في التمسك بعصبيتها، ولا تفسح كبير مجال لنفوذ العلماء ورجال الدين، ولم تكن عنايتها بنشر دعوتها الدينية إلا توطيداً لدعوتها السياسية، ولم يكن للدعاة من العلماء ورجال الدين من النفوذ المستقل إلا ما يتجه نحو هذه الغاية ويخضع لسياسة الدولة العامة. كذلك لم يكن للفقهاء والمتشرعين المستقلين كبير أثر في سير التشريع في ذلك العصر، لأن الدولة الفاطمية كانت تهتدي في صوغ شرائعها بمبادئها المذهبية الخاصة، ومن ثم فإنا لا نستطيع أن نلمس أثراً يذكر لرجال العلم والدين في توجيه الشؤون العامة في العصر الفاطمي
محمد عبد الله عنان
الفتوح الإسلامية وأثرها في تقدم المدنية
للدكتور حسن إبراهيم حسن
إذا حاولنا أن نذكر في هذه الكلمة ما كان للحكومات الإسلامية من أثر في تقدم المدنية، ولم يكن ذلك إلا تكراراً لأمر قد فرغ منه منصفو المؤرخين شرقيين وغربيين
اتسعت رقعة الإسلام حتى زادت في السعة على الإمبراطورية الرومانية. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام أول من وضع أساس السياسة الخارجية للعرب، فأرسل الكتب والبعوث إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى توحيد الله والإيمان برسالته، وغزا بلاد الروم وحارب الغساسنة على حدود الشام لما سخروا من دعوته واعتدوا على رسله وقتلوا أصحابه. وقد جهز قبل وفاته حملة لغزو أطراف الشام. غير أن وفاته قد حالت دون إنفاذها. ولما ولي أبو بكر الخلافة شرع في إتمام هذا الفتح؛ وجاء بعده عمر فعمل على توسيع رقعة الدولة الإسلامية. وإذا ما تتبعنا ما قام به الرسول من الغزوات والسرايا، وما قام به الخلفاء من بعده من الفتوح، وجدنا أنه كان لهذه الغزوات والفتوح أثر كبير في نهضة بلاد العرب من النواحي الاجتماعية والسياسية والأدبية وغيرها، كما كان لها الفضل الأكبر في نشر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية، ووضع الأسس والمبادئ العامة في تنظيم المعاملات بين أفراد الجماعة الإسلامية. ذلك أن الإسلام قد حرص على أواصر القرابة من أن تعبث بها الغيرة، كما سوى بين المرأة والرجل في جميع الحقوق تقريباً، وأحل الوحدة الدينية محل الوحدة القومية، وحث على التمسك بالفضائل، وعني بأسرى الحروب أيما عناية، وحاطهم بسياج من عدله ورحمته. ولم يذكر لنا التاريخ أن إماما من أئمة المسلمين أمر بقتل الأسرى، اللهم إلا من كان يخشى خطره على المسلمين. ولا غرو فإن الإسلام قد سوى بين الناس على اختلاف أجناسهم؛ فسوى بين الأبيض والأسود، والبدوي والمتحضر، والحاكم والمحكوم، وبين الرجال والنساء. انظر إلى المسلمين وهم في مسجد يؤدون فريضة الصلاة، أو في مكة يحجون البيت الحرام، أو في المحاكم الشرعية في صدر الإسلام، أفتجد فيهم من فاضل ومفضول؟ وقد ساعد الرسول على توحيد كلمة العرب تلك الديمقراطية التي جاء بها الإسلام، والتي تلاشت أمامها هذه الفوارق الجنسية التي طالما مزقت شمل العرب، وليس أدل على تلك الديمقراطية من قوله تعالى:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. أن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقوله عليه الصلاة والسلام:(ليس للعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى)
ولقد وضع الإسلام من الأصول والنواميس ما هو كفيل بالقضاء على الاسترقاق، لولا أن الأمم العربية وغيرها كانت إذ ذاك - على ما نعلم - من شدة التمسك بهذا النظام. وبدهي أنه لا يستطيع الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزيل أمرا ألفته النفوس واستولى عليها ذلك الاستيلاء، على أن هذا الاستيلاء لم يغفل تعبيد الطريق لإلغاء الاسترقاق، فما فتئ الرسول يرغب الناس في العتق. وقد أبقى عليه الصلاة والسلام الرق لسببين:
أولهما: حفظ التوازن بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول كالفرس والروم، حتى يستفيد العرب من أسرى الأمم، كما استفادت هذه الأمم من أسرى العرب
وثانيهما: لحماية الضعفاء من نساء أكلت الحرب رجالهم، ولو تركن وشأنهن لكن عالة على المجتمع ومصدرا للشرور
على أن الإسلام، وإن لم يجد بداً من إباحة الرق، فأنه لم يترك الأرقاء هملا، فقد نظم شؤونهم، وأخذ بأيديهم في طريق الحرية. وقد وصف أحد الفرنجة معاملة الإسلام للرقيق بقوله:(لقد وضع للرقيق في الإسلام قواعد كثيرة تدل على ما كان ينطوي عليه محمد وأتباعه نحوهم من الشعور الإنساني النبيل، ففيها تجد من محامد الإسلام ما يناقض كل المناقضة الأساليب التي كانت تتخذها إلى عهد قريب شعوب تدعي أنها تمشي في طليعة الحضارة. نعم! أن الإسلام لم يلغ الرق الذي كان شائعاً في العالم، ولكنه عمل كثيرا على تحسين حال الرقيق، وأبقى الأسر، ولكنه أمر بالرفق بالأسير. ومما يدل على صحة هذا القول أنه لما جيء بالأسرى بعد غزوة بدر الكبرى فرقهم الرسول على أصحابه وقال لهم استوصوا بهم خيرا)
وعندما بسط الإسلام ظلاله خارج الجزيرة وجدنا أهل هذه البلاد المفتوحة يرحبون به بل ويحثون على اعتناقه لما فيه من الحرية والمساواة؛ فكان العرب أثناء حكمهم بلاد فارس والشام ومصر وغيرها من البلاد يقومون بحماية أهلها مقابل مبلغ معين، يدفع عن كل فرد قادر على القتال يسمى الجزية، وهي ضريبة شخصية يدفعها أهل الذمة مقابل إعفائهم من خدمة الجيش؛ وكانوا يعفون من تلك الجزية إذا اعتنقوا الإسلام؛ وكانت الأرض ملكا
للفاتحين، غير أن العرب كانوا يتركونها للأهالي يزروعنها على أن يؤدوا جزءا من غلتها ضريبة عقارية تسمى خراجا
ولما استولى العرب على بلاد فارس والشام ومصر اتخذوا لأنفسهم طرازا للعمارة خاصاً بهم، يتناسب وطبيعتهم وحالة معيشتهم؛ وقد فاق هذا الطراز طراز الفن البيزنطي والفارسي من حيث الرقي وجمال التنسيق والإتقان. والعرب - كما لا يخفي - مولعون بالتقليد، كما أنهم معروفون بالابتكار المبني على هذا التقليد؛ وهم في ذلك أشبه بالأمة الإنجليزية. كذلك عني العرب بتخطيط المدن وشق المجاري لتوصيل الماء الصالح للشرب إليها. فشرعوا على أثر انتصارهم في موقعة القادسية (15هـ) في تخطيط مدينتي البصرة والكوفة، كما أسسوا على أثر فتحهم مصر مدينة الفسطاط
وكان لاختلاط العرب بالأمم التي تغلبوا عليها أثر كبير في تقدم المدنية. فقد بلغت النهضة العلمية أوجها في صدر الدولة العباسية بفضل تشجيع المنصور والرشيد والمأمون. فكانوا يبعثون البعوث للتنقيب عن الكتب القديمة في الكنائس والأديرة، وأرسل المأمون بعثات علمية إلى الهند والقسطنطينية لنقل الكتب النفيسة، ونشطت حركة الترجمة في ذلك العصر نشاطاً عظيما. فنقلت الكتب الفارسية والهندية والإغريقية إلى العربية، من بينها فلسفة أرسطو وهندسة أقليدس وجغرافية بطليموس، وغير ذلك من الكتب في الطب والفلك، وكان من أشهر المترجمين حنين بن اسحق، ويعقوب بن اسحق الكندي. وقد نهج الفاطميون والأيوبيون في مصر، وأمراء بلاد الأندلس في الغرب نهج العباسيين. كذلك اهتم العرب اهتماماً كبيراً بدور الكتب العامة حتى بلغ عدد المجلدات في مكتبة القاهرة في عهد الفاطميين خمسمائة ألف مجلد، وفي مكتبة قرطبة أكثر من أربعمائة ألف مجلد
ولم تقتصر علوم العرب على ما نقلوه من غيرهم. فقد فاقوا أساتذتهم من الفرس والإغريق، ولا غرو فقد شجع اتساع رقعة الدولة الإسلامية وانتشار التجارة فيها على رقي علم الجغرافية. ولا عجب فالعرب بدو رحل بطبيعتهم. ومن أشهر الرحالة من العرب المسعودي وابن جيير وابن بطوطة الذين طافوا الأقطار ووصفوا الجهات المختلفة وصفاً دقيقاً مبنياً على المشاهدات ومهدوا بذلك سبيل الكشف الجغرافي. كذلك اهتم العرب بعلم التاريخ فوضعوا فيه المؤلفات القيمة، كما نبغوا في الشعر والأدب. ولا غرو فقد أثرت فيهم
بلاغة القرآن، وساعدت مظاهر الحضارة المادية وجمال المناظر الطبيعية، وبخاصة في بلاد الأندلس على رقي الخيال ورقة الشعر، كما برع العرب في فن الغناء والعزف على الآلات الموسيقية، وممن نبغ منهم في الموسيقى والغناء اسحق الموصلي ببغداد، وتلميذه زرياب بقرطبة، حيث أسس مدرسة للموسيقى تخرج فيها كثير من مشاهير الموسيقيين
كانت الدول الإسلامية في المشرق ومصر وبلاد الأندلس مركز الفنون والصناعات، ومنار العلوم والآداب، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا غارقة في بحار الجهل. وقد اتصل الأوربيون بالعرب واقتبسوا من علومهم واستفادوا من حضارتهم عن طريق مصر والشام أثناء الحروب الصليبية التي قامت في القرن الحادي عشر الميلادي
فقد نزح إلى بلاد الأندلس طلاب العلم من أنحاء أوربا، فالتحقوا بمدارسها وجامعاتها، وانتفعوا بدور الكتب الكثيرة بها. فلما عادوا إلى بلادهم نشروا فيها علوم العرب. وبلغ من اهتمام الغربيين بالعلوم العربية أن أنشئوا في باريس في القرن الثاني عشر الميلادي مدرسة لتعليم اللغات الشرقية، وقد ظهر من الأوربيين علماء تشبعوا بعلوم العرب وطرق أبحاثهم. نخص بالذكر منهم العالم الإنجليزي رودجر بيكون الذي دعا الناس إلى دراسة العلوم الرياضة والطبيعية والاعتماد على التجارب للوصول إلى الحقائق العلمية، فبدأ الأوربيون يبحثون العلوم بحثاً علمياً كان له أثر عظيم في قيام النهضة العلمية. في أوربا ورقي الحضارة العربية. وقد نقل الأوربيون العلوم الطبية عن ابن زهر وابن البيطار، وعرفوا بصفة خاصة طرق معالجة الجدري والحصبة. وطالما كان يستدعي ملوك أوربا وأمراؤها الأطباء من العرب لمعالجتهم. وأسس الفرنسيون مدرسة للطب في مدينة مونبلييه قام بالتدريس فيها أساتذة من بلاد الأندلس؛ وكذلك استفاد الأوربيون من نبوغ العرب في الكيمياء. ولا تزال بعض المركبات الكيميائية، كالكحول والكافور والقلويات والأشربة تدل على أصلها العربي
وقد أخذ الأوربيون عن المسلمين كثيراً من أنواع النبات، كالأرز، وقصب السكر، والخرشوف، والمشمش، والبرتقال والزعفران، وأنواع الورد والياسمين؛ كما أخذوا عنهم الطواحين الهوائية لطحن الغلال، ورفع الماء، وأقاموا أول طاحونة منها في مقاطعة نرمندية سنة 1105م، كما أقاموا غيرها في هولنده. ولا تزال سهول بلنسية في أسبانيا
تروى إلى الآن بطرق الري الفنية التي ابتكرها العرب. وقد نقل الأوربيون عن العرب كثيراً من الصناعات كصناعة السكر والحرير والورق كما عرفوا عنهم البوصلة التي كان لاستعمالها فضل كبير في توسيع نطاق الملاحة وتشجيع الكشف الجغرافي. وقد نبغ العرب في الفنون الحربية وصناعة السفن حتى أصبحوا أساتذة أوربا في ذلك المضمار. فكانت أساطيل الدول الإسلامية في حوض البحر الأبيض المتوسط نماذج تحتذيها البلاد المسيحية في صنع أساطيلها. ولا يزال كثير من الاصطلاحات العربية البحرية شائعاً على ألسنة البحارة في جنوه حتى اليوم. من ذلك كلمة المحرفة عن لفظ حبل، وكلمة الإيطالية المحرفة عن لفظ دار الصناعة
ولم تقتصر استفادة الأوربيين من العرب على العلوم والصناعات، فقد تأثر طلاب العلم من الأوربيين بالأدب في أسبانيا، وبخاصة الشعر والموسيقى، فنقلوا إلى بلادهم أشعار العرب وأناشيدهم وأغانيهم مما كان له أثر كبير في الآداب الأوربية. ولا عجب فقد كان للعرب حلقة اتصال بين المدنية القديمة والمدنية الأوربية الحديثة
حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب بالجامعة المصرية وكلية
اللغة العربية بالجامعة الأزهرية
من مناظر الهجرة
أم سلَمة
بقلم ناجي الطنطاوي
- 1 -
(في البادية، قبل الفجر، أم سلمة ممتطية بعيراً وابنها في حضنها وأبو سلمة آخذ بخطام البعير يسوقه، في طريقهم إلى المدينة مهاجرين)
أم سلمة
(أبا سلم) حث المطي فأنني
…
أخاف من القوم المكيدة والغدرا
إذا أدركونا اليوم كان نصيبنا الرّ
…
دى وغدت هذي الرمال لنا قبرا
وإنيَ لا أخشى على نفسيَ الردى
…
ولا أرهب الموت الزؤام ولا الأسرا
ولكن طفلي سوف يصبح إن أمت
…
يتيماً، ويمسي طعم عيشته مرا
إذا صاح (أمي) لم يجد من يجيبه
…
فتذري أحر الدمع مقلته الشكرى
لنسرعْ فإني قد شعرت بوحشة
…
وذعر
أبو سلمة -
…
دعي يا أم سلمة ذا الذعرا
ألم تعلمي أن المقدر كائن
…
إذا عاندته النفس أعقبها خسرا
سننجو معاً إن يكتب الله نجوة
…
ويلحقنا ضر إذا كتب الضرا
ألا في سبيل الله كل مصيبة
…
إذا نزلت فينا ادَّرعنا لها الصبرا
ثقي أن ما نلقى من البؤس والضنى
…
سيجعل رب العرش فيه لنا أجرا
دعانا إلى الدين القويم محمد
…
فقلنا له لبيك رمت بنا خيرا
أطعنا وآمنا بك العمر كله
…
فمرنا فإنا قد بذلنا لك العمرا
وقفنا على نصر النبي نفوسنا
…
وأرواحنا لا نبتغي الحمد والشكرا
سلام على عهد بمكة سالف
…
لهونا به لم نعرف الحزن والضيرا
نهاجر من أرض غذانا نميرها
…
لو أنا استطعنا ما نوينا لها هجرا
فهل يكتب الله المؤمّل عودة
…
لنا أم ستبقى في خيالتنا ذكرى
أم سلمة: أرى الطفل قد أغفى
أبو سلمة: لينعم بنومه=ولا توقيظه ريثما نقطع القفرا
أما ذاق طعم النوم بالأمس؟
لا
أذن دعيه ينم ما شاء ولنرقب الفجرا
(يتطلعان إلى السماء لرؤية الفجر، وبعد لحظة يسمعان جلبة وصوت حوافر خيل، وتعلو أصوات من حولهما قائلة:)
قفا
استسلما
إياكما أن تقدما سيقتل حالاً من عصى الأمر أوفرا
أبو سلمة -
وقفنا فمن أنتم؟
مطاعين من بني ال
…
مغيرة قد سقنا لكم عسكراً مَجْرَا
(أبا سلم) دع حفظ نفسك أننا
…
غلبنا عليها ما استطعنا لها قهرا
وضم إلينا أم سلمة مرغماً
…
وإلا فإنا سوف نستصرخ السمرا
(يقف أبو سلمة حائراً، واثقاً أنه إذا أراد المقاومة، قتل هو وزوجته وابنه جميعاً بينما يتقدم القوم فينتزعون خطام البعير من يده ويأخذون أم سلمة)
أم سلمة -
إلى أين؟ يا رباه! ماذا يراد بي؟
…
أيتركنا زوجي بأيدي العدا أسرى؟
أأفصل عنه وهو دوني ماثل
…
يراني ولا يبدي حراكاً ولا أمرا؟
(يسحبونها ويسيرون بها)
دعوني يا رهط اللصوص فليس لي
…
من العزم ما أرجو به لكم دحرا
شجاعتكم جبن إذا هي أعلنت
…
على امرأة مثلي مولهة حرى
أبادتكم بالشر أول مرة؟
…
أأضمرت طول العمر يوما لكم شرا؟
سألتكم بالله إلا عطفتم
…
عليّ لعل الله يجزيكم خيرا
(يسخرون منها ويضحكون)
أقالت لعل اللات؟
إني سمعتها تقول لعل الله
أبلغ بذا كفرا!
لقد صبأت
لابد من قتلها إذن
أوافق
لا، فالسجن قبل بها أحرى
ستسجن حينا ثم تردى قتيلة
أم سلمة -
…
حنانيكم يا قوم. . .!
لا تطلبي غفرا
(يمرون في طريقهم على بني عبد الأسد رهط أبي سلمة، فلا يكاد هؤلاء يعرفون الخبر حتى يهجموا عليهم قائلين:)
على رسلكم يا عصبة الشر
ما لكم؟
ألم تأخذوا بالأمس صاحبنا قسرا؟
كذبتم لقد أمسى طليقاً
ولم ينل بسوء
إذن خلوا لنا طفله حرا
وما شأنكم بالطفل؟
ما شأننا به؟ وهل ينتمي إلا إلى أمه الكبرى؟
(يهجمون عليهم، ويتجذابون سلمة حتى يأخذوه بعد أن تخلع يده ويذهبون به)
أم سلمه (تصيح) -
أغثني يا ربي وهب لي مخرجا
…
من البؤس وارفع عني السوء والضرا
(يغمى عليها)
- 2 -
(بعد عام كامل، أم سلمة جالسة وحدها بالأبطح في حي بني المغيرة تبكي وتقول)
أم سلمة -
- سقى الله عهداً غاله الدهر لم يكن
…
سوى حلم عذب شهي بنا مرا
شربنا به كاس المسرة والصفا
…
ورفرف طير الحب من فوقنا دهرا
ولم نك ندري فيه ما لوعة النوى
…
وما حرقة الحزن التي تقصم الظهرا
أحن إلى أهلي حنين موله
…
وقد ينقضي يوم فأحسبه عشرا
ألا هل أرى زوجي وطفلي قبلما
…
أموت وألقى في الثرى جسداً قرا
لقد نفد الدمع الذي كان سلوتي
…
فمن لي بدمع يذهب الشجن المرا
أقول لقلبي والأسى يتبع الأسى
…
هداديك قد أفنيت شطراً فدع شطرا
(أبا سلم) اذكرني فإني مقيمة
…
على العهد لا أنساك صبحا ولا عصرا
أعندك أني منذ عام سجينة
…
أقاسي من الآلام ما يصدع الصخرا
وأني لا أدري إلام يطول بي
…
عذابي، أيوما بعد عامي أم شهرا
إلى الله أشكو ما ألاقي من الأسى
…
ومنه أرجى العون والغوث والنصرا
(يدخل عليها رجل من بني عمها، وهو أحد بني المغيرة، كان قد عرف حالها، وكلم قومه في أمرها، فرضوا بإطلاق سراحها، ويكون قد سمع شكواها)
- أقلي من الشكوى، ولا تكثري البكا
- ومن أنت؟
- واستبقي الجلادة والأزرا
- ومن أنت؟
- لا تخشي فديتك زائرا
…
أتاك على وهن به يحمل البشرى
- وأية بشرى؟
- أبشرى بالخلاص من إسارك
- دع عنك الته التهزؤ والسخرا
- لقد قلت حقاً، ما التهزؤ شيمتي
…
ولا أعرف المين المعيب ولا الهذرا
- أأصبحت أسطيع الخروج إلى. . .
(يدخل نفر من القوم، ويصيحون بها قائلين)
- أخرجي، فأنا عفونا عنك
- شكراً لكم شكرا!
(تخرج من الأسر وهي تقول في نفسها)
- أيا رب حمدا لا انتهاء لحده
…
ويا رب شكرا لا أطيق له حصرا
(تذهب في طريقها سائرة وحدها إلى المدينة)
- 3 -
(تمر في طريقها على بني عبد الأسد، فيراها القوم فيسألونها عن خبرها فتخبرهم بما وقع لها من الخلاص من الأسر، وأنها ذاهبة إلى زوجها فيواسونها ويرددون عليها سلمة، فتأخذه وتذهب في طريقها مسرورة تضمه وتقبله وتقول له:)
- حبيبي أحقا عدت لي اليوم بعدما
…
فقدتك عاما ما عرفت به البشرا
أسائل عنك الريح عند هبوبها
…
وأستنطق الأفلاك والسحب والبدرا
وكم كنت أخشى أن تمد يد الردى
…
إليك شباكا تقنص الليث والنسرا
فسل مقلتي هل داعب النوم جفنها
…
وسل قلبي الولهان هل نسى الذكرا
أحقا تراك العين يا من سلبتها
…
لذيذ الكرى، أم ذاك وهم بها قرا
لحا الله من أقصاك عني، أنه
…
- ولم يدر - أقصى عني الأمل النضرا
لقد خلعوا يمناك شلت يمينهم
…
فيا ليتها اليمنى بجسمي واليسرى
ويا ليت ما قاسيت من ألم سرى
…
إلي وحملت الأسى عنك والبهرا
قضى الله أن نشقي فكان الذي قضى
…
فهل كتب الله السعادة واليسرا؟
(تتابع سيرها دون أن ترى أحداً في طرقها، ثم تصل إلى التنعيم، فتلمح عن بعد رجلا قادماً نحوها، لا تكاد تقرب منه حتى تنظر إليه فتعرفه وإذا هو عثمان بن طلحة أخو بني عبد الدار)
عثمان - إلى أين؟
- قصدي أرض يثرب
- منذ كم تسيرين؟
- لي يومان أضرب في الصحرا
- تسيرين في الصحرا وحدك؟
- ما معي
…
سوى الله وابني ذا، وأنعم به ذخرا
- فما لك يا أختاه والله مترك
…
ولابد لي من أن أبلغك الوكرا
(يعود معها إلى المدينة، فتذكر له ما جرى لها، ويتابعان السير حتى يصلا إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء (قرب المدينة) فيدخلانها، ويعلمان من أهلها أن أبا سلمة فيها، فيذهبان إليه)
- 4 -
(أمام داره، تطرق أم سلمة الباب)
أم سلمة - أأدخل؟
- من ذا يطرق الباب؟
عثمان - زائرا
- على الرحب يا من جاءنا يبتغي زَورا
- تفضل إذا شئت
(يدخل عثمان ووراءه أم سلمة متلثمة، وولدها معه لا يظهر إلا وجهه)
عثمان - السلام عليكمُ
…
عليكم سلام الله منهملاً ثراً
فقدناك دهراً يا ابن طلح فما الذي
…
عناك؟
- نضالي العيش والجوع والفقرا
- عذرت، وقاك الله كل مصيبة
…
وأذهب عنك السوء والضيق والعسرا
(يلتفت إلى أم سلمة ويقول له:)
- ومن هذه؟
- أختي
(ينظر إلى الطفل طويلا، ولا يدري أهو ابنه أم لا)
- ألست ترى ابنها؟
- بلى
- إن لي ابنا مثله كما بي مغرى
- ومازال؟
- لا أدري فإني فقدته
…
وأما له من خيرة الناس
- هل فرا؟
- يفران؟ كلا، بل أحاط بنا بنو المغيرة واستاقو هما معهم قهراً
- متى كان هذا؟
- منذ عام تفتت
…
به كبدي، والدمع سال به نهرا
أبيت فلا يعتاد مقلتي الكرى
…
وأصبح لا أسطيع نطقا ولا سيرا
أم سلمة - (بصوت متكلف)
- ولم لم تدافع عنهما حين أقبلوا
أيسطيع غرقى البحر أن يدفعوا البحرا
أم سلمة - أتعرفني يا عم؟
- (بدهشة) انك أخته
- (ترفع اللثام) أتعرفني؟
- ماذا؟ أأنت التي أقرى؟
(يقوم إليها ويعانقها طويلا ويضم ابنه ويقبله)
أبو سلمة - لك الحمد يا من ليس يحمد غيره
…
جمعت شتيت الشمل في الأنفس الحيرى
بلوت فكان الصبر أكبر همنا
…
فشكرا على عفو غمرنا به غمرا
(دمشق)
ناجي الطنطاوي
الإسلام والمدنية والعلم
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
- 1 -
هذا العدد الممتاز ينظر في أثر الإسلام في المدنية، وقد يسبق إلى النفس من هذا أن المدنية غاية عليا ونظام كامل نشأ من عدة عوامل أحدها الدين، وأننا إذا أردنا أن نحتفل في (الرسالة) بالحادث الأكبر، حادث الهجرة، الذي ثبت الله به الدين الكامل، أحببنا أن نثني على الإسلام بالإشادة بنصيبه في تشيد صرح المدنية التي هي أعم واشمل، وقد يقال أكمل، من الإسلام؛ ولو كان هذا هو المراد، أو كان هذا ينتج من الاحتفال بالهجرة على هذا النحو، لكان احتفالنا احتفالاً معكوسا، ولكانت إشادتنا بما نريد أن نشيد به ذما له وانتقاصا. لكن ليس الغرض من الاحتفال بالهجرة على هذا النحو هو الإشادة بالمدنية ثم بالإسلام بالتبع، إنما الغرض هو شبه دراسة اجتماعية مرماها إن أمكن تحديد الصلة بين هذه المدنية القائمة وبين الإسلام، أو بالأحرى تحديد ما هنالك من توافق وتفاوت بين المدنية الواقعة كما نراها اليوم والمدنية الغائية كما جاء بها الإسلام
وفي الحق إن هذه المدنية بعيدة جداً عن أن تكون مثلا أعلى للمدنيات قد جاد بتحقيقه الزمان، فإن المدنية الكاملة يجب أن يكون بينها وبين الفطرة من الاتفاق ما يجعلها في الواقع جزءا من الفطرة التي فطر الله عليها الكون، وآية ذلك أن يكون فيها ما في سائر النظم الكونية من الاتساق والانسجام والتوافق والتماسك والاتزان والهدوء، وهذا لا يتحقق لأية مدنية من المدنيات إلا إذا قامت على الحق في جميع نواحيها، وكانت نظمها النافذة منطبقة على قوانين الفطرة التي فطر الله عليها الناس أفرادا وجماعات
وشيوع الخلل والاضطراب في النواحي الاجتماعية من هذه المدنية هو دليل شيوع الباطل في هذه النواحي، ودليل بعد هذه النواحي عن الفطرة. لكن إذا كان الباطل قد شاع في أكثر نواحي هذه المدنية فإن هناك ناحية واحدة قد عزت على الباطل أن يكون له فيها مقام، ودانت للحق فهو فيها الحاكم المطاع. تلك هي الناحية العلمية التي أثمرت للمدنية هذه القوة المادية التي فتن بها الناس فظنوا هذه المدنية أفضل المدنيات حين قدرت على ما لم تقدر عليه المدنيات قبلها من طيران في الهواء وغوص في الماء، وتسخير للبحار والكهرباء؛
وغفلوا عن أن تفاضل المدنيات ليس أساسه القوة، ولكن إحسان استعمال القوة في سبيل الحق: سبيل الله، وإلا انقلبت تلك القوة على المدنية المغترة فزلزلتها وصيرتها إلى ما يصير إليه الباطل من الزوال
هذه الناحية العلمية هي فخر هذه المدنية الحديثة، بها ستذكر في المدنيات إذا ذكرت المدنيات بأنبل ما فيها وأفضله وأصدقه، بعد أن تصبح كما أصبحت المدنيات قبلها أحاديث. ثم هي الناحية الواحدة التي اتحدت فيها هذه المدنية بالفطرة، وإذ كان الإسلام دين الفطرة فهي الناحية الواحدة التي تم فيها الاتصال بين المدنية الحديثة وبين الإسلام
هذه دعوى قد تحتاج عند بعض الناس إلى تفصيل وتحديد أو - أن شئت - إلى دليل أو برهان مادام الناس ليس كلهم قد درسوا العلم، ومادام من درسوا العلم ليسوا كلهم يعرفون شدة الصلة بينه وبين الإسلام
أما إن الإسلام يؤيد العلم عامة ويحض عليه ويكبر منه فأمر يعرفه كل من له إلمام ولو ببعض الآيات والأحاديث الواردة في العلم. فالذي يقرأ من الحديث الصحيح مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وقوله: (اطلبوا العلم ولو بالصين) وقوله: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)، والذي يعرف ما فعله الرسول صلوات الله عليه بعد بدر من جعله فداء بعض فقراء الأسرى تعليم عشرة من أولاد المسلمين الكتابة، يعرف من غير شك إن الإسلام هو دين العلم والتعلم. فإذا تلا من كتاب الله مع ذلك مثل قوله تعالى:(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(شهد الله إنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم، قائماً بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم)، والآيات الكثيرة التي جعل الله سبحانه العلم فيها حكما بين النبي ومجادليه مثل قوله تعالى على لسان نبيه:(آتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنم صادقين) - إذا تدبر الإنسان هذه الآيات الكريمة وأمثالها بعد تلك الأحاديث أدرك أن العلم على إطلاقه لم يُكبر في دين من الأديان كما اكبر في الإسلام، وأن ديناً لم يلزم أهله بالعلم والتعلم كما ألزم الإسلام المسلمين
هذا التأييد التام للعلم على إطلاقه يشمل طبعاً التأييد التام للعلم بمعناه الخاص: معناه الطبيعي المستعمل فيه اللفظ اليوم؛ لكن ليس هناك من حاجة إلى مثل هذه الحجة على
قوتها في إثبات أن العلم بمعناه الحديث مطلوب مأمور به في الإسلام، فإن الآيات القرآنية الكثيرة الواردة في الحض على تطلب آيات الله في الكون وتعرف أسرار الخلق هي في الواقع توجيه للعقل إلى مجالات العلم الذي يسميه الناس بالعلم الطبيعي، بل هي أوامر من الله بطلبه، لأن آيات الله في الكون التي ندبت تلك الآيات القرآنية الكريمة إلى طلبها ليست بأكثر ولا أقل من أسرار الفطرة التي هي مطمح العلم ومرماه فأنت إذا قرأت مثل قوله تعالى:(وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجيين أثنين، يُغشي الليلَ النهارَ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرعٌ ونخيل صنوانٌ وغير صنوان، يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون)(وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر، والنجومُ مسخرات بأمره، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون)(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلقَ)(قل انظروا ماذا في السموات والأرض) - إذا قرأت هذا وأمثاله في القرآن لم تشك في أن العلم الحديث قرآني في موضوعه، إذ هذه العلوم الطبيعية إنما تبحث عن أسرار هذه الظواهر الكونية التي نبه إليها وأمر بالبحث فيها القرآن
فإذا أنت استقريت الآيات القرآنية الكونية لترى هل ورد في بعضها مادة (علم) اللغوية، وجدت أن هناك أكثر من آية وردت فيها هذه المادة إن لم يكن في صيغة المصدر ففي صيغة مشتقاته، مثل قوله تعالى من سورة الأنعام (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، إن في ذلك لآيات لقوم يعلمون) وقوله سبحانه من سورة الروم: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين) وإذن فهذا العلم الطبيعي ليس فقط قرآنياً بموضوعه بل هو قرآني باسمه، وإذا كان الناس قد اصطلحوا اليوم على تلقيبه بالحديث فقد آن لهم أن يتذكروا أن فاطر الفطرة سبحانه قد أمر به الإنسان لما أنزل القرآن هدى للناس كافة منذ نيف وأربعة عشر قرنا من الزمان.
وفي الحق أن الإنسان ليأخذه العجب من كثرة ما لقيت هذه الناحية من التوكيد في القرآن، ثم من ترخي المسلمين برغم ذلك في طلب هذا للعلم، ولو للانتفاع به في تفسير ذلك الجزء من القرآن. إن الآيات الواردة لتلفت الإنسان إلى أسرار الفطرة وتحثه على تفقهها، لا تكاد
تقل إن قلت عن خُمس آيات القرآن، ولم تلق ناحية من نواحي المدنية مثل هذا التوكيد في الإسلام إلا ناحية الأخذ بالعدل والإحسان في المعاملة؛ فكأن المدنية في الإسلام شطران: شطر يقوم على العلم وشطر يقوم على العدل، ومن وراء ذلك كله مخافة الله ومحبته، لا غنى لأهل المدنية عن هذين إن أرادوا لها البقاء. وعلى كل حال فإن حث الإنسان في نحو خمس القرآن على دراسة الفطرة أريد به على الأخص حثه على عبادة الله عن طريق تلك الدراسة وعن طريق شكره سبحانه على ما ستثمر تلك الدراسة من ثمرات. وهذا لا يقلل شيئاً من شأن العلم في الإسلام بل يزيده، ثم هو أبلغ في الدلالة على أن العلم في الإسلام جزء من الدين.
على أن أمر التوافق بين العلم والإسلام قد جاوز الإجمال إلى التفاصيل: جاوز قرآنية الموضوع والاسم إلى قرآنية الروح والطريقة. فروح العلم وطريقته منطبقة تماما على ما جاء به القرآن
فأما روح العلم التي هي في صميمها التجرد للحق والصدق فيه والاستمساك به والتعاون عليه، فهي من روح الإسلام من غير شك، إذ الإسلام كله ليس إلا أمرا بالحق وتجرد له وجهادا فيه، وما لقيه الحق من الإكبار في العلم لا يزيد شيئا عما لقيه الحق من الإكبار في القرآن
وإذا كان هناك فرق بين الاثنين فهو لا يتعلق بذاتهما ولكن بامتداد سلطانهما؛ فروح العلم مقصورة طبعا على الميادين التجريبية التي قصر العلم عليها نفسه؛ لكن روح الإسلام تشمل بسلطانها كل ميادين حياة الإنسان العلمي منها والاجتماعي، ما يمكن إخضاعه للتجارب العلمية منها وما لا يمكن
وأما طريقة العلم في طلب الحق فإليها يرجع فضل العلم في هذا العصر على مثله في سابق العصور. لقد كان من بين علماء تلك العصور من يحبون الحق، ويعملون له، ويحرصون عليه، كما يحبه ويعمل له ويحرص عليه علماء اليوم، لكنهم لم يوفقوا إلى نظام علمي شامل يضمن الوصول إلى الحق ويضمن على الأخص عدم قبول الباطل على أنه حق. فهذا النظام الذي يحسن التمييز بين الحق والباطل، ويضمن من نفسه أن ينفي الباطل ويثبت الحق، هو الفارق المميز بين العلم الحاضر والعلم الماضي، وهو المفخرة الحقيقية
للعلم الحديث
هذا النظام لم يضعه شخص ولم تضعه هيئة، ولكن نشأ بالتدريج بنشأة العلم الحديث حين أخذ العلماء يجعلون وجهتهم ابتغاء الحقيقة لا ابتغاء المنفعة، وحين أرادوا في تلمسهم سنن الفطرة أن يتجنبوا مناشئ الخطأ في العلم القديم، ويصححوا الوجهة في العصر الذي ظهر تطور العلم فيه
وللمقارنة بين الأصول التي قام عليها هذا النظام والأصول التي تناظرها فيما جاء به الدين يحسن تقسيم أصول النظام العلمي إلى قسمين: قسم يتعلق بنفس الفطرة التي ستكون موضوع العلم، وقسم يتعلق بطريقة النظر والبحث عن أسرار تلك الفطرة
فأما ما تعلق بنفس الفطرة وجد العلماء أنفسهم مضطرين إلى القول بأصول ثلاثة: أصل استقلال الفطرة، وأصل اطراد الفطرة، وأصل انسجام الفطرة أو استحالة الخلاف بين جزئياتها. فأصل استقلال الفطرة يعلن استقلال الفطرة عن الإنسان، فلا يستطيع ساحر ولا كاهن أن يغير من مجراها أو يعدل من قوانينها، ولا تتغير هي تأثراً بما يجري لأي إنسان؛ وأصل اطراد الفطرة يعلن استقلال الفطرة عن الزمان، فما يثبت من سننها في وقت فلابد أن يكون موجوداً من قبل، وسيظل موجوداً في المستقبل، لا يلحقه تبديل ولا تغيير؛ وأصل انسجام الفطرة يعلن استحالة التناقض بين الحقائق، فلا يمكن أن ينقض حق حقاً أينما كان وكيفما ظهر، في الأرض أو في السماء، وما يناقض حقاً إذن فهو باطل يجب أن ينبذ ولا ينظر إليه
فأما الأصل الأول فكان ضرورياً لصيانة العلم وتحرير العقل من دجل الدجالين، وإعداده لطلب الحق وتلقيه، وهو أصل ليس هناك اليوم من يجادل فيه. وأما الأصلان الآخران فهما كما ترى ضروريان لوجود العلم واطراد نموه، لا يمكن بدونهما نظر ولا بحث ولا استقراء ولا استدلال. لكن من العجيب أن العلم عاجز عن إثباتهما. إذ أقصى ما يستطيع أن يقوله هو أنه اعتمد عليهما قروناً معدودة فبررت النتائج الباهرة التي وصل إليها ذلك الاعتماد، فهو لذلك سيستمر معتمداً عليهما إذ ليس هنالك ما يدعوا إلى الشك فيهما فيما يتعلق بالمستقبل أو الماضي. لكن الفلسفة لا تقنع من العلم بهذا الجواب، وتواجه بما فيه من ضعف، وتزعم له أن نجاح الاعتماد على ذينك الأصلين قروناً لا يثبت صحتهما إلا في
تلك القرون. وأما فيما قبل ذلك وما بعد ذلك فلا يستطيع العلم أن يجزم بصحتهما، وإذن فلا يحق له أن يطمئن كل الاطمئنان إليهما. لكن العلم يمضي على اطمئنانه لا يبالي بما توجهه الفلسفة إلى أصليه هذين من نقد وتشكيك، لأنه من ناحية لا يرى فائدة عملية في الإصغاء إلى هذا النقد، ولأنه من ناحية أخرى يرى وجوده ذاته منوطاً بصحة هذين الأصلين، لو شك فيهما لحكم على نفسه بالفناء
ومن البديهي أن الحكم بين العلم والفلسفة في هذه القضية لا يستطيعه إلا الذي بيده أمر الماضي والمستقبل، فاطر الفطرة وخالق الخلق سبحانه، وقد حكم سبحانه للعلم منذ أنزل القرآن
هذان الأصلان وما يتعلق بهما يقررهما القرآن في غير تردد ولا إبهام؛ ومبدأ هذين الأصلين أصل آخر لم يقرره العلم إلا ضمناً، ولو قرره لما سلمته له الفلسفة، لأنه أصعب إثباتاً حتى من ذينك الأصلين: ذلك هو أن هذا الكون قائم كله على الحق. فانه لابد من تقرير ذلك ولو لحظة حتى يمكن بعد هذا أن يقال إن كان الكون سيستمر على ذلك أو لا يستمر؛ وأنى للعلم أو الفلسفة تقرير ذلك بغير الافتراض والظن الذي لا يستند إلى برهان. لكن الله فاطر الكون قرر للإنسان الحق فيما لا يستطيع أن يثبته الإنسان، قرر في غير ما آية أن الكون قائم على الحق (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين. وما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون). (خلق السموات والأرض بالحق، يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل، وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى، ألا هو العزيز الغفار). وقرر سبحانه أنه لا تبديل لسننه في الخلق ولا تحويل (فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله)، (فهل ينظرون إلا سنة الأولين، فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا)، (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا). وهذا المبدأ، مبدأ ثبوت الفطرة من غير تبديل، الذي أعلنه الله سبحانه للناس في القرآن، مبدأ عام يشمل جميع ميادين الفطرة، ما تطاول العلم إلى بحثه في ميدان المادة، وما لم يتطاول إلى بحثه في ميدان الاجتماع، كما هو مقتضى سياق تلك الآيات في القرآن
أما أصل انسجام الفطرة فقد قرره الله سبحانه حين قال جل وعلا: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، فارجع البصر هل ترى من فطور. ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك
البصر خاسئاً وهو حسير). وارتفاع التفاوت يستلزم حتما ارتفاع التناقض الذي هو أكبر التفاوت؛ وقد تقرر نفس الأصل في صورته الأخرى: صورة انتفاء الباطل بالحق في قوله تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون). فالإسلام يؤيد العلم تأييداً تاماً حين تخون العلم قدرته، وتضعف حجته. ويستطيع العلم في يقين المسلم أن يمضي في سبيله مطمئناً على وجوده، غير مبال باعتراض الفلسفة، اعتمادا على ما أعلنه رب الفطرة للناس في القرآن
أما أصل استقلال الفطرة عن الإنسان فقد أعلنه الرسول صلى الله عليه وسلم للناس يوم مات ابنه إبراهيم وكسفت الشمس فتحدث الناس أنها كسفت لموت إبراهيم، فخطبهم صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري خطبة قال فيها:(إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا)؛ ثم زاد القرآن الكريم ذلك الأصل تقريرا وتوضيحاً في قوله تعالى: (أم يقولون به جِنة، بل جاءهم بالحق، وأكثرهم للحق كارهون، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن، بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون). فأنت فيما يتعلق بأصول الفطرة ترى تمام الاتحاد بين ما قام عليه العلم وما قرره الإسلام
(يتبع)
محمد أحمد الغمراوي
العقيدة
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
غذاء القلب وطمأنينة الروح، ملجأ الضعيف وسلاح القوي. هي حقيقة امتزجت بحلاوة الخيال، أو خيال لبس أحياناً ثوب الحقيقة. وما هذا الخيال وتلك الحقيقة إلا صرح كثيراً ما شدناه بأنفسنا لأنفسنا كي نكمل ما في عالم الواقع من نقص، ونحقق بعض ما نصبو إليه من ميول وآمال. فإن ما فينا من قلب خافق وعواطف متأججة، ينزع إلى أماني ورغبات لا حصر لها. ولذتنا في تصور هذه الأماني وسعادتنا في السير وراءها. فإن لم نجد السبيل إلى تحقيقها حيث نرى ونسمع رسمنا لها مملكة سامية فوق مملكة الحس والمشاهدات، وآمنا بها إيماناً لا يقل عن إيماننا بالمرئيات والملموسات. على أن ما فينا من عقل يحلل ويبرهن ويعلل يدفعنا إلى الاعتقاد والاستمساك بآراء نتعصب لها وندين بها. فالعقيدة حاجة إنسانية وأثر من آثار قوى النفس على اختلافها. وهي فوق هذا ضرورة اجتماعية وركن هام من أركان التعاون والارتباط. ولا يمكن أن تتصور جمعية بشرية لا يخضع أفرادها لمبدأ واحد وعقيدة مشتركة. واتحاد الدين والعقيدة من أول الخصائص التي يتميز بها الشعب والأمة. وليست العقيدة المتحدة مجرد رمز وشارة للأمة فحسب، بل هي مصدر تأثير كبير وقوة لا نهائية. هي مبعث حرارة تدفئ القلوب فتدفعها إلى الأمام وتملؤها بالأمل والرجاء. ومستودع كهربائية عظمى يرسل في الأفراد ما يرسل من موجات سالبة وموجبة فيتجاذبون ويأتلفون، ويلتقون عند غاية واحدة وغرض أسمى. وإنا لنسير في الحياة غالباً بدافع من عقائد مختلفة بين دينية ووطنية وعلمية وفلسفية. والعقيدة كالأمل الحلو إن لم تبلغك الغاية فقد آنستك ونعمت بها زمناً. على أنها في ساعة الفشل خير عزاء، وعند اشتداد الخطب أقوى ركن تطمئن إليه إن وهنت الأركان كلها. وإذن فالعقيدة للفرد عون ونصير، وللجمعية باعث ومثير وهاد ومرشد
ومن حسن حظ الإنسانية أن المرء ميال إلى الاعتقاد بفطرته، ومدفوع إليه بغريزته؛ فالتسليم أصلي والشك عرضي، ولا أدل على هذا من أن حياة الإنسان الأول كانت سلسلة من العقائد يرتبط بعضها ببعض، وقد توارثها الخلف عن السلف وأذعنوا لها دون بحث وتعليل. والطفل وهو صورة مصغرة للإنسانية في أول نشأتها يسلم بكل شيء يلقى إليه،
ويعتقد في السحرة والمشعوذين والجن والشياطين. ولا تبدأ حيرة الشك لديه إلا حين يصطدم عالم الفكر بعالم الواقع، ويتعارض أمامه أمران كان يؤمن من قبل بثبوتهما. فترتاب نفسه وتشعر بشيء من الخيبة لم تكن تتوقعه. ويظهر أن الشك كان في أول أمره ظاهرة عاطفية قبل أن يكون مناقشة عقلية وحساباً منطقياً. وليس الشك شراً كله، بل قدر منه مدعاة البحث ومفتاح الحقيقة، وقديما قالوا: الشك مبدأ الحكمة ومدرسة الحقيقة. وقد استطاع سقراط بين الإغريق بشيء من الشك التهكمي أن يستخرج المعارف من نفوس محدثيه ومناقشيه. ثم جاء ديكارت في التاريخ الحديث فاتخذ من الشك طريقة فلسفية ومبدأ علمياً. للشك حكمته ومنفعته، فهو ينبه الفلسفة إلى أخطائها ويقف العقل عند حده ويرشده إلى نقصه. غير أن قيمة الشك في طريقة استعماله ووضعه في موضعه. فالشك في كل شيء قضاء على المعرفة من أساسها وهدم للحقائق على اختلافها. وقبول المعلومات من غير بحث وتمحيص انقياد أعمى واستسلام مرذول وضعف في التفكير. وغني عن البيان أن الشك ضرب من الحرية واستقلال الرأي. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الشكاك القدامى والمحدثين لفتوا نظر الإنسانية إلى أخطائها الشائعة وكشفوا الغطاء عن كثير من أباطيلها المسلمة. وكل ما يؤخذ عليهم أنهم أرسلوا للشك العنان، وجالوا به في كل ميدان، فقضوا على ما كان فيهم من عبقرية، وأصبح شكهم داء بدل أن يكون دواء، وهدموا بالشمال ما بنوه باليمين. وليس في الشك المقبول امتهان للحقيقة أو اعتداء عليها، بل هو اعتداد بها وتقدير لها وجد في طلبها. حقاً إن الشك حيرة وحمى قد تخشى على النفس مغبتها؛ بيد أنه قل أن يقدر اليقين قدره من لم يغرق في بحار الشك قليلاً. والضال إذا وجد الطريق كان له بهذا فرحة تملأ العين والقلب
اليقين كلمة عذبة الجرس حلوة الرنين سامية المعنى رفيعة المداول؛ تطرب الأذان لسماعها، وتتوق النفس دائماً إلى أن تحظى بحقيقتها. ينشده العالم في بحثه، ويرمي إليه الفيلسوف في درسه، كلاهما يبغي أن يصل إلى الحقيقة الثابتة التي يذعن لها الجميع في مختلف الظروف والأمكنة. وإذا كان الشك اضطراباً وحيرة فاليقين هدوء وطمأنينة. هدوء لأنه راحة بعد عناء. ووصول بعد مجهود، وطمأنينة لأنه حصن حصين، وركن أمين؛ وكيف لا وهو قوة تستمد سلطانها من نور الحقيقة، وحال يشعر المرء فيها بأنه لا يسمع إلا
صوت الحق ولا يصغي إلا لندائه. ولو تأملنا لوجدنا أنا في مرحلة اليقين أقوياء ضعفاء؛ أقوياء لأنا نحس بأنا نفذنا إلى قلب الأشياء ووصلنا إلى قمة العالم وتجردنا من قيود المادة والزمن واتصلنا بكل ما هو باق أزلي، وضعفاء لأن جلال الحقيقة التي نعتنقها أسكت كل صوت فينا، فألغى هواجسنا وخواطرنا، وقضى على ميولنا وأهوائنا، وأضعف شخصيتنا أو محاها بحيث نصبح ولغة العالم والإنسانية جمعاء ديدننا وشعارنا
هذا هو اليقين في ظواهره وأثره وشدته وبأسه. فهو إذن العقيدة في أكمل صورها والإيمان في أسمى أشكاله. وكثيراً ما حاول بعض الباحثين فصل اليقين من العقيدة، والمباعدة بين العلم والدين، ووضع حاجز بين العقل والعاطفة؛ إلا أن اليقين لا يتحقق إلا بعد عقيدة سابقة، والعقيدة إن سمت وكملت أضحت يقيناً. والعلم برهن غير مرة على أن له نطاقاً لا يتعداه وحدوداً لا يستطيع أن يتجاوزها؛ فليدع الدين يتكلم فيما أعد له ويتصرف في دائرته. والإنسان عقل وقلب وتفكير وعاطفة؛ ومن العبث أن يهمل أحد هذين الجانبين أو يلغى، فإن ذلك خروج على الطبيعة وعكس لنظام الأشياء. وليس من عار أن يكون في الأديان قدر كبير يرضى العواطف الإنسانية، بل العار كله أن تخلو من ذلك.
إبراهيم بيومي مدكور
سمو الإنسانية في قلب الرسول الأعظم
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(قرآن كريم)
للأستاذ خليل هنداوي
(لا يحسبن قارئ المقال أننا أردنا أن نعطل حدود الشرائع
بدرسنا للعاطفة الإنسانية السامية في قلب الرسول، وإنما هو
بحث جرى على القلم جواباً لمن يزعم أن تعاليم الإسلام تعاليم
صارمة قاهرة لا تفيض - كالشريعة المسيحية - رحمة ومحبة
وحناناً)
(خ، هـ)
لا تزال علة الآثمين الخارجين على حدود الشرائع علة مستحكمة، لا يبت فريق حتى يهب إلى نقضها فريق. وكلا الفريقين له الحجة الساطعة. فمن الشرائع ما يرى في الأثيم العدو للإنسانية، والمريض الذي يخشى انتقال جراثيمه إلى غيره، لأن الأمراض النفسية حكم أكثرها كحكم الأمراض السارية تعصف بالأجساد عصفاً. وهذا المريض - في حكمها - لا يرجى شفاؤه، وإن فكرة الإجهاز عليه هي خير فكرة تتقي بها منه!
وقد تفننت الشرائع الحديثة في تعيين هؤلاء الآثمين والمجرمين وفي عزلهم عن طبقات الناس. ومن الشرائع ما تنظر إلى هؤلاء بعطف ورحمة. لا تنظر إلى الإثم - كالكل في الإثم - وإنما تنظر إلى الظروف التي صاحبته، والعوامل التي ساعدت على خلقه. وهي بعد هذا كله لا ترى في الآثم إلا إنساناً، جبل على طينة الإنسان، يخطئ ويصيب، ويفعل الشر ويصنع الخير. هذه الشرائع التي غلبت العاطفة الإنسانية على كل عاطفة، واستمسكت بالمبدأ الإنساني الذي يعلو على مصطلحات الخير والشر. وهذه فكرة تطير بجناحين من السمو والعلو. ولكن علماء القانون لا يعتقدون بهذه الفكرة المجنحة لأنها بغير حدود، وتنتشر على أبعاد دونها أبعاد الفضاء. وهم يريدون أن يحددوا لكل موقف شأنه، فإذا سرق السارق فما عسى يكون جزاؤه؟ وإذا زنى الزاني فما عسى يعامل به؟ مثل هذه
الفكرة الإنسانية قد تجلت في موقف السيد المسيح حين قدموا له زانية ليرى فيها حكم الشريعة - وما كان حكم الشريعة إلا الرجم - وما كان للمسيح أن يعطل هذا الحكم، وهو لم يجيء لنقض نواميس الأنبياء؛ ولكنه تسامى في هذه المرة ما شاء له التسامي، فأمر بأن يحفروا لها حفيرة ووقف قائلاً:
- ليرميها كل من لم ترتكب نفسه خطيئة بحجر!
فوقف الجمع ولم يرموا، وغادروا المرأة وشأنها. ولكن هذه الفكرة تظل جميلة ما ظلت منطلقة حرة من غير قيود، فإذا شئنا حصرها وإخضاعها للعمل ضاع رونقها وفشت الشرور بحجة أن كل نفس فيها من طينة الشر شيء. ولذلك لم يقدر المسيح نفسه على القول بالعفو عن كل زانية وزان وسارقة وسارق، ولم يقدر غيره على القول بذلك. ولكن المسيح أراد بضرب هذا المثل أن يحفظ للآثمين هذه الإنسانية التي تربطهم بغير الآثمين. ويقرر بعد ذلك أن هؤلاء الذين يحكمون على الآثمين هم ملوثون مثلهم، حتى تكون العاطفة الإنسانية عندهم هي العاطفة الغالبة على كل عاطفة
نظرت الشريعة الإسلامية إلى هؤلاء الآثمين كما نضر غيرها، وفرضت القصاص وفي القصاص حياة، وقام الشارع بأحكام ما تنزل، ورأى أن دفع القتل بالقتل أنفى للقتل. وهذه الشريعة هي شريعة من جاء قبله، وهي الشريعة التي يحض عليها العقل ويبعث إليها الإنصاف
ولكن الرسول - برغم لوثة هؤلاء الآثمين - قد ارتفع معهم في كثير من المواقف بعاطفة الإنسانية فوق حدود الشريعة، ونظر هؤلاء المرضى نظرة ملؤها الرأفة والإشفاق، وعطف على كل نفس ضالة - لأن الهدى والضلال على بعدهما متقاربان متلاصقان - وأن إهمال درس هذه العاطفة الإنسانية عند الرسول مما يترك ناحية العواطف الأخرى قاسية صارمة. وأن على أرباب الفقه أن يرتبوا العقود والحدود كما رتبوها أبواباً أبواباً، وأن على آخرين أن يحللوا هذه العاطفة التي تجعل من الرسول قلباً نقياً وعاطفة إنسانية متسامحة
ما عسى تبلغ إليه هذه العاطفة الإنسانية في صدر الرسول؟
أذكر عبارة تلوتها فيما كتب (رينان) عن المسيح (إن المسيح هو أول من سلك في تفهم الله مسلكا جديدا، إذ جعل علاقة الله مع الناس كعلاقة الأب مع أبنائه، علاقة كلها رأفةٍ ومحبة
وحنان) وبهذه الرحمة الشاملة تفهم الرسول معنى الألوهية فقال: (جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً. فمن ذلك الجزء تتزاحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه!)
وإني لأجد الرسول في الصلاة، ومن ورائه أعرابي يدعو في صلاته:(اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً). فقال له الرسول: (لقد حجرت واسعاً) وكأنه أراد أن يقول له: (قل اللهم ارحمني وارحم جميع الكائنات، لأن رحمة الله أوسع من جميع آثامهم وذنوبهم)
وإني لأراه وهو يفكر في هذه الرحمة التي يرجو أن تشمله، وهي الرحمة التي ملكت عليه مشاعره. أراه (وقد وجد امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فالتفت إلى أصحابه وقال:
- أترون هذه طارحة ولدها في النار؟
فقالوا: لا. وهي تقدر على ألا تطرحه؟
فقال: - وقد طغت على قلبه هذه الرحمة الشاملة:
- الله أرحم بعباده من هذه بولدها)
ولقد تتمثل هذه الرحمة في كل جزء فيه، حتى ليحسب أن الكائنات كلها قد اندمجت وأحاطت بها رحمة الله. . . (فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة) وهو لا يفسر الرحمة تفسيراً ضيقاً يمنحها أناساً ويحرمها على أناس لأن الرحمة الشاملة إذا دخلت في قلب غيرت فيه كل الأساليب الموروثة في تفهم الوجود، وجعلته ينظر إلى الوجود كشيء كلي ممتزج فقير إلى هذا البلسم! وجردته من كل الأهواء ليتحد مع الكائنات اتحاداً ثانياً بكل شيء فيه، لا يهدأ قلبه مادام يتعذب هنالك إنسان! وهو لا يفسر الرحمة تفسيراً رمزياً، وإنما يرمي بمختلف الأمثلة إلى تمثيل هذه الرحمة تمثيلاً واضحاً تكاد تتبينه العين وتتقراه اليد باللمس! وقد أثر هذا الفهم في نفسه تأثيراً واضحاً؛ فهو تنهمل عيناه إشفاقاً على قومه، وهو يتحمل بلاءهم بقلب صابر ولسان شاكر ويقول:(اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) وهو يستمهل الله فيهم عندما نودي: (إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا به عليك). فقال: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله
ولا يشرك به شيئاً)
وقد ملك عليه شعور الرحمة حتى كاد يغلب على كل عاطفة فيه. (يرى الرجل الإسرائيلي الذي قتل تسعة وتسعين رجلاً ثم خرج يسأل، فأتى راهباً فسأله فقال له: (هل من توبة؟) فقال: (لا) فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت، فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى إلى هذه أن تباعدي. وقال: قيسوا ما بينهما، فوجده إلى هذه أقرب بشبر فغفر له.) وهل غفرت لهذا الفاتك إثمه إلا عاطفة الرسول الإنسانية التي قدرت فيه قلبه النادم ونيته الساعية وراء التوبة؟ وقلب الرسول مفعم رحمة وشفقة على هؤلاء - مع قوله في معاقبتهم - ولا يستطيع الفكر أن يوفق بين الإثم الكبير البالغ تمحوه حسنة صغيرة! فمن ذلك (امرأة مومس مرت بكلب على رأس ركى يلهث قد كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك!) ذلك أن قلب الرسول يحاول أن ينقذ هذه الكائنة الشقية، ويلقي في النفس معنى الإحسان إلى الحيوان (وإن لفي كل كبد رطبة أجرا)
وقد تسمو نفس الرسول في النظر إلى هؤلاء الآثمين، فهو لا يفر منهم ولا يزور عنهم لأنه يطمع في صلاحهم
(قال رجل: لأتصدقن بصدقة؛ فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: (تصدق على سارق)! فقال: (اللهم لك الحمد!) لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون:(تصدق الليلة على زانية!). فقال: (اللهم لك الحمد!) على زانية! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها بيد غني، فأصبحوا يتحدثون:(تصدق على غني!) فقال (اللهم لك الحمد) على سارق وعلى زانية وعلى غني! ولقد يظن المرء لأول وهلة أن هذه الصدقات باطلة لأنها لم تقع في مواضعها، ولكن الرسول حلها من الناحية الإنسانية، فأتى فقيل له:(أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله) فلم يمنع الرسول الرفق بهؤلاء الآثمين ولم يجعل التصدق عليهم حراما. وإذا كان السيد المسيح أطلق الزانية لأنه لم يجد من يأخذ على نفسه معاقبتها فالرسول أطلقها وأطلق السارق
وأطلق الصدقة عليهما ليستعفا. . . وبهذا أشفق على المريض وحارب جراثيم مرضه! وهو خلال ذلك ينتظر أن يغمرهم نور التوبة ويصرفهم عما فيه وازعُ الضمير
وقد يعجب المرء من هذه العاطفة التي لو أخذنا بها لعطلت الحدود. إذ كيف نتصدق على سارق أوجب الشرع قطع يده، أو على زانية أوجب رجمها؟ ذلك أن الرسول يدرك أن الغاية من الشريعة الهدى والرحمة، وأن القصاص سبيل يسلكه الشارع إذا عز الوصول إلى الهدى إلا به
فهو بهذا دل على إنسانية سامية تفهم الوجود رحمة ومحبة، وإن روحه لتتصل بالمذنب اتصالها بالبريء، وأنه يحب الناس مهما فعلوا، وأنه يجد في نفسه ميلا إلى الرفق بالآثمين، وهذا الميل جعله يسلك السبل المتعددة ليدفع عنهم آثامهم ويطهرهم من أرجاسهم. ونرى بعد هذا كله - هذه الكتلة من الرحمة والمحبة تقف أمام الرحمة الشاملة تدعو ربها:
(اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب
اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس
اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد)
أليست هذه الإنسانية بأسرها تتمثل في شخص الرسول تطلب إلى الله أن يشملها برحمته؛ ويغسل خطاياها برأفته حيث تغسل الأوزار وتضيع حدود العقاب في عالم تعمره الرحمة وتسكنه المحبة، لا نهايات له ولا حدود؟
(دير الزور)
خليل هنداوي
ذكريات يجتليها محرم
لشاعر السودان الأستاذ عبد الله عبد الرحمن
هو الشوق في أحشائنا يتضرم
…
إلى ذكريات يجتليها محرم
إلى ذكريات هن بعث ويقظة
…
وهن لآلام الجراحات مرهم
بني الشرق، والإسلام في كل موطن،
…
يحييكمو مني على النأي مسلم
تعالوا نجدد من عهود تصرمت
…
وما الشأن في عهد الكرام التصرم
تعالوا نجمع من نفوس تفرقت
…
شعاعاً ولا نمضي كما نتوهم
ونطَّرِح الواشين تنفث بينا
…
سموماً - وفي الواشين أربد أرقم
ونفزعْ إلى التنزيل نبني نفوسنا
…
فليس لما يبني الكتاب مهدم
وفي الهجرة الزهراء قربى قريبة
…
نمت بأسباب الحنيف إليكُم
فإن نحيها نحيِ الزمان تقدمت
…
أوائلنا أهليه وهو لهم فم
وإن نحيها نحي النفوس كبيرة
…
وإن جعلت في أرضها اليوم نهضم
وإن نحيها نحي المروءة والندى
…
وبأساً من الفولاذ أمضى وأصرم
ألا ليت شعري ما دهى العرب إنني
…
أرى الجو في آفاقها يتسمم
أكل بناء غيرهم متساند
…
وكل قبيل غيرهم متقدم
أجل كل قوم فرطوا في لغاتهم
…
غدوا وصروف الدهر فيهم تحكم
أرى الغرب يعنى باللغات رجاله
…
ونمشي أعلامها نتعلم
هم يكبرون من رجال توفروا
…
عليها إلى أن أكبر الناس منهمُ
وفي كل يوم يخرجون مؤلفاً
…
نفيساً وبحثاً ينشر الفضل عنهمُ
ولا يهجرون للجديد قديمهم
…
وذلك خلق عن رقي يترجم
وما ذاك إلا أن حباً يهزهم
…
إلى وطن هاموا به وترنموا
أرى أمم الشرق استفاقت من الهوى
…
وعاودها سلطانها المتقدم
فجدت وهمت للحياة طموحة
…
وحطمت الأغلال فيما تحطم
رعى الله في أرض العراقين نهضة
…
أبت لهمُ أن يستذلوا ويهضموا
بنوا دولة أما حماها فمانع
…
لحوزتها والمستقلّ بها همُ
على العلم والخلق المتين توطدت
…
دعائمها والعلم بالخلق يدعم
وقامت فلسطين ترد حقوقها
…
وما في طلاب الحر للحق مأتم
وحرك من سورية العسف فانبرت
…
تغالبه والشر بالشر يصدم
فإن لم تنل ما قد أرادت نواله
…
فمن كَثَبِ منها النجاح المحتم
وهاجت بنا الذكرى لخضراء تونس
…
فأبصرت ثكلى نال منها التأيم
وفي مصر أخذ بالذي هو واقع
…
وروح وفاق للحقيقة تألم
وغيرة لاوانٍ ولا متخشع
…
ونشء إلى سود النوائب يبسم
هوت أنجم بالأمس كن ثواقبا
…
إلى ضوئها يعشو الجهول فيعلم
حسين بن والي قد أقض مماته
…
مضاجع في السودان فهي تألّمُ
هو المرء أدى للعروبة واجباً
…
وعاش لوجه الله يشقى وينعم
وأودى المطيعي حجة الله في الورى
…
فغاب به كنز من العلم قيم
قضى يملأ الدنيا علوماً وحكمة
…
فويلي على ركن الهدى يتهدم
وأودى رشيد ذو المنار مدفعاً
…
جريئاً على رد الضلالة يقدم
ومات الأديب الكاظمي وإنه
…
لرزء من الإبداع في الشعر يثلم
وبغداد من بعد الزهاوي أصبحت
…
خلاء وكانت من قوافيه تزحم
مضوا وقرنّا بالترحم ذكرهم
…
وليس بمجدينا عليهم ترحم
بني وطني إن قمت للضاد داعياً
…
فإنيَ ادعوا للتي هي أقوم
لقد وثق الله الروابط بينكم
…
فلا تنقضوا بالله ما الله مبرم
أرى الضاد في السودان أضحت غريبة
…
وأبناؤها أضحت لها تتهجم
تولت وما دمعٌ عليها بفائض
…
وما أحد منهم لها يتألم
وساءت مقاماً فهي ثكلى حزينة
…
وعيّت جواباً فهي لا تتكلم
وذلك يفضي لانقراض وذلة
…
ويفضي إلى أن في سوى العرب ندغم
عزيز علينا أن تلين قناتها
…
وأبناؤها في ضحوة العمر تهرم
عزيز علينا أن نراها هزيلة
…
وجاراتها فينا تزيد وتعظم
كفانا هوانا أن ريباً يحوطنا
…
وإنا إذا رمنا الحديث نجمجم
وإنا برغم العلم في كل بلدة
…
يحيط بنا هذا الظلام المخيم
تبدلت الأحوال حتى لقائل
…
يقول على قدر التدلي التقدم
ونبئت في السودان قوماً تآمروا
…
على اللغة الفصحى فساءوا وأجرموا
وبالأدب القومي قالوا سفاهة
…
وما لمحوا حقاً ولكن توهموا
إلا نحن عرب قبل أن لعبت بنا
…
صروف الليالي والجهول الغشمشم
أما والليالي العشر والفجر طالعاً
…
وما الفجر في الإسلام إلا محرم
إذا لم تحسوا داءها وهو فاتك
…
تهونوا وفي غير العروبة تدغموا
فعضوا عليها بالنواجد إنها
…
صلاحكم إن تخلعوه هزمتمُ
سلام عليكم إن عدمتم بيانها
…
سلام على الفصحى سلام عليكم
عليك يا رسول الله نلقي رجاءنا
…
فقد جعلت منا الحوادث تهدم
ونستنزل الإرشاد من روحك التي
…
على كل من يلقى السلام تحوّمِ
أصلي عليه ثم أذكركم بما
…
يقربكم منه فصلوا وسلموا
(لحب ابن عبد الله أولى فإنه
…
به يبدأ الذكر الجميل ويختم)
(الخرطوم)
عبد الله عبد الرحمن
نظر محمد إلى الأديان
للأستاذ مصطفى عبد الرازق
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب
كان ما تسرب إلى بلاد العرب من اليهودية والنصرانية قبل الإسلام قد نضحت عليه الوثنية الضاربة هناك يومئذ أطنابها، ولم يكن المجوس والصابئة أهل توحيد خالص وإن ألحقوا بأهل الكتاب
قال الشافعي: بعثه والناس صنفان:
أحدهما أهل كتاب بدلوا من أحكامه وكفروا بالله فافتعلوا كذباً صاغوه بألسنتهم فخلطوه بحق الله الذي أنزل إليهم، فذكر تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم من كفرهم فقال:
(وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) ثم قال عز ذكره:
(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، فويل لهم مما كتبت أيدهم وويل لهم مما يكسبون)
وقال تبارك وتعالى:
(وقالتْ اليهودُ عزيرٌ ابنُ اللهِ، وقالتْ النصارَى المسيحُ ابنُ اللهِ، ذلكَ قولهمْ بأفواههمْ يضاهئونَ قولَ الذينَ كفرُوا منْ قبلُ قاتلهمْ اللهُ أنَّى يؤفكونَ؛ اتخذُوا أحبارهمْ ورهبانهمْ أرباباً منْ دونِ اللهِ والمسيحَ ابنَ مريمَ وما أُمرُوا إِلاّ ليعبدوُا إِلهاً واحداً لا إلهَ إلاّ هوَ سبحانهُ عمَّا يشركونَ). وقال تبارك وتعالى:
(ألمْ ترَ إلى الذين أوتُوا نصيباً منَ الكتابِ يؤمنونَ بالجبتِ والطاغوتِ ويقولونَ للذينَ كفرُوا: هؤلاءِ أَهدَى من الذينَ آمنُوا سبيلاً، أولئكَ الذينَ لعنهمْ اللهُ ومنْ يلعنِ اللهُ فلن تجدَ له نصيراً)
وصنف كفروا بالله فابتدعوا ما لم يأذن به الله ونصبوا بأيديهم حجارة وخشباً وصوراً استحسنوها، ونبزوا أسماء افتعلوها ودعوها آلهة عبدوها، فإذا استحسنوا غير ما عبدوا منها ألقوه، ونصبوا بأيديهم غيره فعبدوه، فأولئك (العرب)
وسلكت طائفة من العجم سبيلهم في هذا وفي عبادة ما استحسنوا من حوت ودابة ونجم ونار وغيره، فذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم جواباً من جواب بعض من عبد غيره من هذا الصنف فحكى جل ثناؤه عنهم قولهم:(إنَّا وجدنَا آباءنا على أمةٍ وإنَّا على آثارهمْ مقتدونَ) وحكى تبارك وتعالى عنهم أنهم قالوا: (لا تذرُنَّ آلهتكمْ ولَا تذرنَّ ودًّا ولا سواعا، ولا يغوثَ ويعوقَ ونسراً وقد أضلُّوا كثيرَا)(كتاب الرسالة ص 2 - 3)
وبين من كلام الشافعي أن الأديان تظل بلاد العرب وما والاها عند ظهور الإسلام كانت ما بين دين وثني يقوم على الشرك من أساسه، وما بين أديان تقوم على الوحي الذي لا يأتي بغير التوحيد، لكنها انحرفت عن سبيل الوحي فأصابها شوب من الشرك
وكان محمد صلوات الله وسلامه عليه يدعو الناس كافة إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له، لا يميز في هذه الدعوة بين مشركين وأهل كتاب
وإذا كان القرآن ينادي:
(قل يا أهلَ الكتابِ تعالَوْا إِلَى كلمةٍ سواءِ بينناَ وبينكُمْ ألاَّ نعبدَ إِلاَّ اللهَ ولا نشركَ به شيئاً ولا يتخذَ بعضُناَ بعضاَ أرباباً مِنْ دونِ الله، فإن تولّوْا فقولُوا اشهدُوا بأنَّا مسلمونَ)
فإن القرآن يقول أيضاً:
(إنَّ الذينَ آمنوا والذين هادُوا والنصارَى والصابئينَ مَنْ آمنَ بالله واليوم الآخرِ وعملَ صالحاً فلهمْ أجرُهمْ عندَ ربِّهم ولا خوْفٌ عليهم ولا هُمْ يحزنونَ)
لا تختلف دعوة محمد حين توجه إلى أهل الشرك الصراح من وثنيِّي العرب، أو إلى أهل الكتاب بلا نزاع من اليهود والنصارى، أو إلى من يشتبه أمرهم ويختلط الرأي فيهم من الصابئة والمجوس
دعوة محمد إلى كل أولئك هي الدعوة إلى الدين الحق الواحد الذي لا يتغير بتغير الأنبياء والذي هو هدى أبداً
ولما كان دين الحق واحداً أوحاه الله إلى جميع أنبيائه وبينه في كل كتبه المنزلة فقد كان من الطبيعي أن يعتبر محمد أتباع الوحي ممن لهم كتاب أو شبهة كتاب أدنى إلى دعوته وإن حرفوا في دينهم، وأرجى أن يثوبوا إلى ما في أصول مللهم من إخلاص العقيدة لله وحده
من أجل هذا اختلف حكم الإسلام في بعض المعاملات بين المشركين وأهل الكتاب، فالمشركون لا تؤكل ذبائحهم ولا يتزوج المسلم منهم، وإذا غلبهم المسلمون في الجهاد لم يأخذوا منهم جزية ولم يكن لهم سبيل إلا أن يخرجوا من شركهم إلى حظيرة التوحيد
أما أهل الكتاب فتؤكل ذبائحهم ويزوج المسلمون منهم، وإذا هزموا في الحرب واستولى المسلمون على ديارهم فللمسلمين أن يأخذوا منهم الجزية ليحموهم مما يحمون منه أنفسهم وأموالهم ثم يتركوهم في دينهم أحرارا
ولا خلاف بين المسلمين في أن اليهود والنصارى أهل كتب، وأن وثنيِّ العرب في الجاهلية مشركون
واختلفت الروايات والأقاويل في حكم الصابئة والمجوس هل يلحقون بأهل الكتاب أم يلحقون بالمشركين
ولا شك أن ما عرف من أديان البشر بعد ذلك مما لم يكن معروفاً للعرب، فيه للرأي والاجتهاد مجال من جهة إلحاقه بالشرك أو بأديان أهل الكتاب
وجملة القول أن محمداً يرى التوحيد دين الله الحق، وفطرة الله التي فطر الناس عليها، فالمشركون عبدة الأوثان منحرفون عن فطرة الله، ضالون عن صراطه المستقيم، ومن عداهم قريبون من الإسلام الذي جمع الرسول صلوات الله عليه وسلامه عليه جوهره في قوله لمن سأله عنه:(قل آمنت بالله ثم استقم)
مصطفى عبد الرازق
زوجةٌ وفَت!.
.
للأستاذ محمد سعيد العريان
هم الفتى (أبو العاص ابن الربيع. . .! ابن عبد شمس) ينصرف من مجلس خالته (خديجة بنت خويلد) رائحاً إلى داره، وإن في نفسه لحديثاً ما إن يحاول بيانه ولا طاقة له بأن يكتمه. . ونظرت خديجةُ في وجه الفتى الذي اتخذته ولداً، وقد ثكلت الولد، فأنكرته وما نَكِرتْ حديث عينيه؛ ثم عادت تنظر إلى ابنتها (زينب) فتطيل النظر، فما لبثت أن ألهمت الرأي مما نظرت في وجه الفتى والفتاة. . . .
وسعت خديجة إلى زوجها تستعينه وتشير عليه: (يا محمد! أرأيت إلى ابن أختي (هالة) - أبي العاص بن الربيع - إنه لذو جاه ومال وأمانة، وهو منا ومنك حيث علمت، نعم الفتى القرشيّ. . . أفترى أن نتخذه ختَناً وولداً فتزوجه زينب. . .؟)
وافتر ثغر النبيّ الكريم عن ابتسامة الرضى، فما كان ليخالف خديجة في رأي تراه، ولها في نفسه ما لها من الحب والإعزاز، وهي في نفسها مَن هي في أصالة الرأي وحسن التقدير. . .
وزفت زينب بنت محمد إلى أبي العاص بن الربيع. . .
ومضت خديجة إلى الزوجين المتحابين تبارك لهما وتدعو، أطيب ما تكون نفساً وأهنأ فكراً. . . ومدت يمناها إلى طوقها لتخلع قلادتها لتجعلها في عنق زينب، هديةَ عروس. .
ونعم الزوجان بالسعادة حيناً في دنيا من الحب والفاء والإيثار. . .!
وأشرقت الأرض بنور ربها، وانبثق الفجر من غار حراء، يسعى محمدٌ في نوره داعياً إلى دين الله وإلى نبذ الشرك وعبادة الأوثان؛ فصدّق من صدّق واتبعه على هدى وبصيرة، ولجّ من لج في الطغيان والعناد، وآمنت زينب فيمن آمن، ولكن أبا العاص لم يَهُن عليه أن يخلع دينه. . . وضرب الزمن ضربته بين القلبين المتحابين فباعد بينهما إلى حين
أسفت زينب، ونال منها إصرار أبي العاص على الكفر أي منال، وأسف أبو العاص، ونال منه إسلامُ زوجته مثلَ ما نال منها كفره؛ وشعر كلا الزوجين أن قوة أكبر من الحب تحاول أن تفصم عروته وتحلّ وثاقه: أما أحدهما فأعلن التمرد والعصيان، وقال لصاحبته:(لن ينال مما بيننا يا زينب أن تكوني على دينك وأثبت على ديني، فلن أسلمك للفراق. . . .!)،
وأما هي فقالت: (قليلا يا صاحبي، لست حلاً لك وأنت على ذاك الدين، فأسلمني لربي أو أسلم معي. . لن تكون زينب لك بعد اليوم إلا أن تؤمن بما آمنت!)
واصطرعت في نفس الزوج المحب قوتان تتجاذبانه: حفاظه على ذلك الدين الذي أورثه آباؤه، وذلك الحب الطاغي المستبد الذي يحاول أن ينتزع امرأة مسلمة من دينها الذي آمنت به. . وأطرق الزوجان ساعة، ثم التقى النظران. . . وفرق الدين بينهما جسدين، وظل قلباهما مؤمنين بالحب؛ وعاشا يظلهما سقف واحد ولا يلتقيان إلا نظرات. . . وتصرمت سنون. . .
ودعت قريش إلى النفير العام: (يا أهل مكة، إلى بدر، إلى بدر؛ إن محمدا وأصحابه قد وقفوا لتجارتكم على الطريق بين الشام ومكة، فرُدوا عليهم كيدهم. . .!)
وخرج أبو العاص فيمن خرج من المشركين إلى لقاء محمد وأصحابه في بدر، ليُجازوهم بما اعتدوا؛ وظلت زينب في دارها تنتظر. . . إن هنالك قوتين تصطرعان، وموجتين تتدافعان، ما تدري لأيهما تتمنى الغلبة، بلى؛ إنها لتدري، فهنالك أبوها محمد، لو لم تحببه وتتمنّ له النصر لأنه أبوها، لأحبته وتمنت له النصر لأنه رسول الله، لأنه قائد جيش الإسلام، لأن إلى جانبه في الصف أخوتها في الله. . . ولكن. . . ولكن زوجها. . . وجلست تدعو الله: اللهم اجعل الدائرة على المشركين، ولكن نج أبا العاص. . .!
وعاد الركب المنهزمون ينبئونها: (يا زينب، لقد دارت علينا الدائرة، ونال منا المسلمون كلّ منال، يا زينب، ولكن أبا العاص في الأسرى، لا ندري ماذا سيفعل بهم أصحاب محمد. . .!)
فما توانت الزوجة الوفية هنيهة؛ لقد كان لديها من مال زوجها ما تفتديه به، لديها المال والنعم، ولكنها نظرت أمراً. . . ورفعت يدها إلى صدرها فخلعت قلادتها، ثم شيعت بها الرسول يفتدي بعقد خديجة ابن أخت خديجة وختَنَ محمد. . . وجعلت هدية عرسها من أمها مهر الحرية للزوج الذي فقدته مرتين. . .
وذهب رسول زينب يسعى عن أمرها حتى وقف على محمد: (يا محمد، هذا مال من مال أبي العاص، وهذه قلادة خديجة بنت خويلد، بعثتني بهما زينب في فداء أبي العاص. . .!)
ونظر رسول الله إلى القلادة نظرةً جمعت له الزمان كله في لحظة فكر، واحتشدت صور
الماضي أمام عينيه من خلل حبات العقد الغالي، ورفّت في ذهنه صورٌ حبيبة إليه، فكأنما نشرت خديجة من موت، وكأنما انطوت البيداءُ بزينب، فاجتمعتا إليه تسألان العفو عن هذا الأسير. . . ونظر محمد في أصحابه فقال:(إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها مالها فافعلوا. .!)
وعاد أبو العاص إلى مكة، وفي نفسه صورة أكثر إشراقاً لهذه الزوجة البرة الكريمة، ولكنه عاد لا ليشكر لها ما منّت عليه، بل ليقول:(عودي إلى أبيك يا زينب!) وفاء بما أخذ عليه رسول الله من عهد بأن يطلقها تسير إليه. . . وخنقته العبرة فما استطاع أن يتمالك ولا أن يشيعها إلى طرف البادية؛ ومن أين له أن يجد في نفسه القدرة على توديع من يحب، وإنه ليعلم أنه الوداع الأخير مادام سلطان هذا الدين قائماً بين القلبين. . .!
ومضى يقول لأخيه كنانة ابن الربيع: (يا أخي، إنك لتعلم موضعها من نفسي، فما أحب أن لي بها امرأة من قريش؛ وإنك لتعلم أن لا طاقة لي بأن أفارقها، فاصحبها عني إلى طرف البادية، حيث ينتظرها رسولا محمد (ببطن يأجج)، وارفق بها في السفر، وارعها رعاية الحرمات ولو نثرت دونها كنانتك، لا يدنو منها رجل حتى تبلغ. . .!)
وافترق الزوجان فلا سبيل إلى لقاء؛ وأقام أبو العاص بمكة لا يعيش في أيامه، وأقامت زينب عند رسول الله بالمدينة معتلّة البدن واهنة القلب، لولا الإيمان والتقى يشدان من عزمها ويربطان على قلبها لأعجلها الموت ولم تظفر بلقاء. . .
ومضت سنوات وسنوات؛ وخرج أبو العاص في تجارة إلى الشام، يحمل من أموال قريش وبضاعتها فوق ما يحمل من ماله وبضاعته، وبلغ حيث أراد، فباع واشترى وتعوض، ثم قفل راجعاً بمال كثير وربح جم؛ وفيما هو على الطريق إذ لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابوا ما معه وأعجزهم هارباً؛ وآب المسلمون إلى المدينة فرحين بما أفاء الله عليهم، ووقف أبو العاص على رأس شاهقة يتلفّت صِفر اليدين، فما وجد إلا الصحراء تبرق بالحصى، ومد النظر إلى البعيد، فما عرف له طريقاً يسلك، وخُيّل إليه أن وراء كل ثنية فارساً معلماً يتربص به لقد فقد ماله ومال الناس، ولا سبيل إلى أن يرد الأمانات إلى أصحابها، وإنه لموشك أن يفقد حياته بعدما فقد ماله وأمانته؛ واجتمع عليه الهم فما درى أين النجاة لنفسه ولعرضه مما عرض له، إن النحس ليلاحقه في كل مسير. . .
وعادت إليه الذكرى، ورجع الزمانُ القهقري أمام عينيه، كما يجتمع التاريخ بزمانه ودنياه في لحظة ومكان لعيني محتضر؛ وتذكر من قريب تلك الحبيبة التي أحيته مرتين: حين وهبت له الشعور بالحياة في الحب، ثم حين وهبت له الحياة نفسها وافتدته عند أبيها بقلادة خديجة. . . وخُيل إليه أنه يراها، وأنه يحدثها فتستمع إليه، فهمس:(أتهبين لي الحياة ثالثة يا زينب. . .!)
وأقبل أبو العاص إلى المدينة تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله؛ فاستجارها وطلب إليها أن تعينه على رد ماله، فأجارته. . .
وأصبح الناس يسعون إلى المسجد، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر معه؛ وإذا صوت يهتف من وراء جدار:(أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. . . فهو في حمايتي وأمني!) وكانت زينب هي التي تهتف. . .
وفرغ النبي من صلاته فأقبل على الناس فقال: (أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟. . . أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم. أنه يجير على المسلمين أدناهم. . .!) ثم دخل على ابنته فحدثها وحدثته. وأكبر محمد أن يرى في ابنته هذا الوفاء لزوجها الذي فارقته لأمر الله، وامتنعت عليه لأمر الله، وقطعت ما بينه وبينها من شهوات النفس لأمر الله؛ ثم ما برحت مع كل أولئك تمنحه البر والوفاء والمعونة؛ برّ المسلمة، ووفاء الصديقة، ومعونة الإنسان. . . ونال من نفس النبي ما سمع وما علم، فأضمر في نفسه رجاء إلى الله. . .
ثم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص، فقال:(إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالاً؛ فإن تحسنوا وترددوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك؛ وأن أبيتم، فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحق به. . .) قالوا: (بل نرده عليه. . .). وقال نفر منهم: (يا أبا العاص، هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال؟ فأنها أموال المشركين. . .) فقال الرجل: (بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي. . .!) واستعلنت كبرياؤه وأمانته وهو بين ذلة المستجير وأسر الفقر، وأطلت نفسه المؤمنة بفطرتها من وراء ظلمات الشرك الذي يجهر به، مستكبراً أن يبيع دينه بالمال. . .!
وردوا إليه ماله، كرامة لرسول الله وإكباراً لزينب، وعاد الرجل إلى مكة بماله ومال
الناس، ونفسه تفيض بمعان شتى، وبين عينيه صورة لا تفارقه، وفي قلبه وجيب لا يهدأ، وعلى طرف لسانه كلام. . . فلما بلغ أدى إلى كل ذي مال ماله، ثم قال:(يا معشر قريش، هل بقى لأحدكم منكم عندي مال؟) قالوا: (لا، فجزاك الله خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً.) قال: (فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن يظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت. . .)
وخرج أبو العاص بن الربيع إلى المدينة يهديه نوران في قلبه وأمام عينيه، وسار في مثل موكب العروس تتدافعه المنى على رمال الصحراء، إلى حيث يجد نور اليقين وأنس الحبيب، في حديث محمد وفي وجه زينب، وتلاقى الزوجان المتحابان مرة ثانية، بعد فراق طويل مر من دونه سنوات وسنوات، ولكن الزوجة الوفية كانت قد أدت واجبها وفرغت من دناياه حين هدتِ الرجل الذي أحبته ووفت له بمقدار ما أحبها ووفى؛ فما مضى زمان بعد هذا اللقاء استكمل فيه الرجل أسباب دينه، حتى كانت هي قد استوفت أنفاسها على الأرض؛ وماتت زينب ولكنها خلفت ذكرى أطيب الذكرى، وضربت المثل أبلغ المثل، في وفاء الزوجة، وإخلاص المحبة، وصدق الإيمان
محمد سعيد العريان
على أبواب المدينة
ثنّية الوداع
للأستاذ على الطنطاوي
مضت ساعة كاملة، ونحن نعالج السيارة لنخرجها من الرمل، نرفعها طوراً بالآلة الرافعة وطوراً بأيدينا، ونزيح الرمال من طريقها، ثم نمدّ لها ألواح الخشب لتمشي عليها، ونجرها بالحبال، وندفعها بالأيدي حتى إذا سال منا العرق، ونال منا التعب مشت على الألواح، حتى إذا وصلت إلى نهايتها، عادت فغاصت في الرمال إلى الأبواب. . . . . .
فأيسنا وبلغ منا الجهد، وهدّنا الجوع والتعب والحرّ والعطش، فألقينا بأنفاسنا على الرمل صامتين مطرقين، حيارى قانطين
وتلفتّ فلم أر إلا الرمال المحرقة، تمتد إلى حيث لا يدرك البصر، متشابهة المناظر، متماثلة المشاهد. . .
في مَهمهٍ تشابهت أرجاؤه، كأن لون أرضه سماؤه، فرحت أفكر في هذه السبعة عشر يوماً، وما قاسينا فيها من الجزع والتعب والجوع والعطش، وأتصور الغد الرهيب الذي ينفد فيه ماؤنا وزادنا، ويلفحنا فيه سموم الحجاز وشمسه المحرقة، فأرتجف من الرعب
وجعلت أحدّ النظر في هذا الأفق الرحيب، لعلي أرى قرية أو خياماً، فلا أرى إلا لمع السراب، ولا أبصر إلا هذه الجبال التي طلعت علينا أمس فاستبشرنا بها وابتهجنا وظنناها قريبة منا، فسرنا مائة وعشرين كيلاً وهي قيد أبصارنا، تلوح لنا من بعيد كأنها بحر معّلق حيال الأفق ضائع بين السماء والأرض. . . لم تضِح ولم تقترب
فشققت هذا السكون وصحت بالدليل (محمد العَطَوى)
- يا محمد! إيش تكون هذه الجبال؟
- فقال: هذه يا خوي جبال المدينة، وحّنّا (ونحن) إن شاء الله الظهر فيها
- قلت: ما تقول؟
ووثبت وثبة تطاير منها اليأس والخمول عن عاتقي، وأحسست كأن قد صبّ في أعصابي عزم أمة، وقوة جيش، وظننت أني لو أردت السحاب لنلته، ولو غالبت الأسد لغلبتها، ولو قبضت على الصخر لفتته، وجعلت أقفز وأصرخ، لا أعي ما أنا فاعل. فقد استخفني
الفرح، وسرني من هذه الكلمة أكثر ما يسرني أن يقال لي: أنت أمير المؤمنين
وصحت بأصحابي فقاموا كالأسود
عالجنا السيارات حتى أخرجناها من الرمل، وملنا بها عن هذه الكثبان حتى ألقيناها عن أيماننا، وانتهينا إلى أرض شديدة درجت عليها السيارات، فاستندت إلى النافذة، وأطلقت نفسي تطير في سماء الأماني، فلم ادع صورة للمدينة إلا تصورتها، وأقمتها أمام عيني، وأفضت عليها ما أستطيع من الجمال والجلال، فلا أطمئن إليها، ولا أجدها إلا دون ما في نفسي. . . ولم يكن يربطني بالأرض إلا صوت الدليل، وهو يهتف بالسائق:
- سر يميناً، مل شمالاً، لج بين هذين التلين، دع هذه القارة على اليمين، احترس من هذا الشعب، تنكب هذه الرملة. . ثم يعود السكون
سرنا أربعين كيلاً أخرى، ولا تزال هذه الجبال تلوح في الأفق كأنها خيال حلم بعيد، يشع منها نور غريب، يومض من وراء القفر، كما يومض الأمل المشرق في ظلمة اليأس، وكنا قد شارفنا سكة الحديد فتخطيناها مستعبرين، ودخلنا في أودية مالها آخر غابت عنا فيها الجبال التي كنا نراها، فنستأنس بمرآها وقاسينا فيها من الشدائد من التواء الأرض وكثرة الأحجار وتشابه المسالك، ولم يكن فينا من ينبس، إلا أن يعرض لنا جيل أو شعب فأسأل الدليل عن اسمه لأكتبه في دفتري الذي سرق مني في آخر الرحلة. . . ثم أرجع إلى صمتي الطويل
فلما زال النهار، صاح بي الدليل:
- هيه. أنت يال كاتب. أكتب: هذا أحد!
- فصحت: إذن قد وصلنا
- فقال: ما قلت لك الظهر، هذا أحد، بقي نصف ساعة.
لم يكن يدري الدليل الإعرابي أي ذكريات انبعثت في نفسي حين قال: هذا أحد! وأي عالم تجلى لعيني، فرأيت المعركة قائمة والمسلمين ظافرين، قد منحهم الله أكتاف العدو، ورأيت الرماة إذ يزلون عن أماكنهم، يبتدرون الغنائم، وخالداً حين يرتد بخيله على هؤلاء الذين عصوا أمر الرسول وغرتهم الدنيا، ورأيت النبي صلى الله عليه سلم ثابتاً مثل أحد، وحوله صحابته الغر الميامين، يذبون عن الدين، ويحمون حمى النبوة، ثم أبصرت هنداً قائمة على
جثة البطل السميذع، سيد الشهداء، وكان قد أكل من بدر كبدها، فأرادت أن تأكل كبده، فشقت عنها فاستخرجتها فلاكتها، فلما وجدت بفيها صلادة الصوان لفظتها
وأبصرت النبي صلى الله عليه وسلم وافقاً عليه يبكي، فلما رأى ما مثل به شهق، ولم يكن منظر أوجع لقلبه منه، ثم قال:
رحمك الله يا عم، فلقد كنت وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات، فوالله لئن أظفرني الله بالقوم لأمثلن بسبعين منهم، فما برح حتى هبط عليه الوحي، فقام يتلو قول الله جل وعزّ:
(وإن عاقَبتم فَعَاقِبُوا بمثل ما عُوقبتم بهِ) فانصرف وقد عفا
ورنّ في أذني صوت أبي سفيان: أعل هبل، فتلفت، فما رأيت هبل، ولا شيعة هبل، وإذا هو قد درج مع من درج، لم يبق إلا الله الأعلى الأجل، ثم سمعت صوت أبي سفيان يرنّ في أذني مرة ثانية، يخرج من هناك من أرض الشام، التي فتحها لهم سيد العالم، قوياً شديداً، ينادي في المعركة الحمراء، بصوت سمعه كل من في اليرموك:
يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات، يا معشر المسلمين. فثبتوا وجاءهم النصر وملكوا سورية من أقصاها إلى أقصاها فهي لهم ولأبنائهم إلى يوم القيامة، ورأيت مئات من مثل هذه الصور، فأحسست كأنما انتقلت إلى العهد الأول، أشهد هبوط الوحي، وأرى جلال النبوة وعز الإسلام. . .
ونظرت، فإذا أحد لا يزال بعيداً، يعترض هذا الوادي الذي نسير فيه مشرقاً بهياً، تومض عروقه المختلفة الألوان من الأخضر البهيّ، إلى الأحمر المشرق، إلى الأزرق اللامع، فتمتزج هذه الألوان وتختلط، فيكون لها في العين أبهى منظر، وفي القلب أسمى شعور، فازداد بي الشوق، فأقبلت أحتث السائق وأستعجله، أود لو تطوى له الأرض طياً ويطير بنا إلى المدينة طيراناً، فلا أرى السيارة تريم مكانها، أوجد أحداً لا يزال بعيداً، فأعود فأستحث السائق. . . وما لي لا أسرع إلى أحد وأحبه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحد جبل يحبنا ونحبه. وما لي لا أزداد شوقاً إلى المدينة، وليس بيني وبينها إلاّ ربع ساعة؟
وأعظم ما يكون الشوق يوماً
…
إذا دنت الخيام من الخيام
ولما خرجنا من الوادي، وانتهينا إلى الفضاء الرحب، رأينا وجه أحد وعلى سفحه النخيل والبساتين، ورأينا سلعاً وهو جبل أسود عال، يقوم حيال أحد فيحجب المدينة وراءه، فلا
يبدو منها إلاّ جانب الحرة، وطرف النخيل، فذكرت قول محمد بن عبد الملك وقد ورد بغداد فحنّ إلى المدينة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
…
بسلع ولم تغلق عليّ دروب
وهل أحد بادٍ لنا وكأنه
…
حصان أمام المقربات جنيب
يخب السراب الضحل بيني وبينه
…
فيبدو لعيني تارة ويغيب
فإن شفائي نظرة أن نظرتها
…
إلى أحُدٍ والحرتان قريب
وإني لأرعى النجم حتى كأنني
…
على كل نجم في السماء رقيب
وأشتاق للبرق اليماني إن بدا
…
وأزداد شوقاً أن تهب جنوب
وكان علينا أرطال من الغبار والأوساخ، فاستحينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندخل مدينته ونسلم عليه، ونحن على مثل هذه الحال؛ وكانت البساتين والحيطان قريبة منا، فسرنا إليها، نخب في الرمال، فلما دنونا من أحدها، سمعت غناء موقعاً على ناي، كأشجى ما سمعت من الغناء فتعجبت، ثم ذكرت أن أهل المدينة مذ كانوا أطرب الناس وأبصرهم بالغناء، وهممت بالدخول، ثم أحجمت وقلت:
لعل المغني امرأة، فلقد كان الذي سمعت صوتاً طرياً رقيقاً لا يكون إلاّ لامرأة أو غلام، ثم حانت مني التفاتة، من فرجة الباب، فإذا المغني عبد أسود كالليل، وإذا الذي حسبته ناياً ناعورة يديرها جمل، لها مثل صوت النواعير في حماه لكن صوتها أرق وأحلى، وإذا هذا السور الذي تلطمه الصحراء برمالها كما تضرب الأواذيّ صخرة الشاطئ، قد عرش على جانبه الآخر الياسمين، وأزهر عليه الفلّ، وظللته الأشجار وحنا عليه النخل، ورأينا الماء يهبط على الساقية، كأنه ذوب اللجين، ثم يجري فيها صافياً عذباً متكسراً، فجننا برؤية الماء الجاري، ولم نكن قد رأيناه منذ سبعة عشر يوماً، إلا مرة واحدة في العلا، واقتحمنا الباب، وأقبلنا على الماء نغمس فيه أيدينا، وأرجلنا، ونضرب به وجوهنا، ثم لا نشبع منه ولا ننصرف عنه، حتى أرحنا رائحة الحياة، فاستلقينا على الأرض ننظر إلى الصحراء الهائلة، التي أفلتنا منها وضرب بيننا وبينها بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب
اغتسلنا ولبسنا ثياباً بيضاء نظيفة، وتطيبنا، ثم ركبنا في السيارات إلى المدينة، فلم نقطع
سلعاً حتى بدت لنا المدينة كصفحة الكف، يحف بها النخيل، وتكتنفها الحرار، وتقوم في وسطها القبة الخضراء، تشق بنورها عنان السماء، وتكتشف لنا دنيا كلها خير وحقيقة وجمال، وعالم كله مجد وفضيلة وجلال
من هنا خرج جند الله الثلثمائة إلى بدر، فدكوا صرح الاستبداد والجهالة، ورفعوا منار الحرية والعلم، أقاموه على جماجم الشهداء، وسقوه هاتيك الدماء، فأضاء نوره الجزيرة كلها، ثم قطع الرمل، فأضاء الشام والعراق، ثم قطع البحر فأضاء الهند وإسبانية، فاهتدى به الناس إلى طريق الكمال الإنسانيّ
من هنا خرج الأبطال الذين هدموا وبنوا وعلموا: هدموا الدول المتفسخة الجاهلة التي وقفت في طريق الحضارة، فلا هي تتقدم بها ولا هي تدعها تمشي في طريقها. وبنوا الدولة التي ألفت بين فلسفة يونان وحضارة فارس وحكمة الهند، وجعلتها جميعاً سِفرا واحداً فاتحته القرآن، وروحه الإسلام، ثم جلسوا على منابر التدريس في جامعات بغداد ومصر وقرطبة ليعلموا العالم، فكان من تلاميذهم ملوك أوروبا وباباواتها. . .
من هنا خرج أبو بكر وعمر، وعبد الملك والمنصور والرشيد وعبد الرحمن الناصر وصلاح الدين وسليمان القانوني
من هنا خرج أبو حنيفة ومالك وسفيان والنووي والغزالي والفارابي وابن سينا وابن رشد
من هنا خرج خالد وسعد وقتيبة وطارق وسيف الدولة والغافقي
من هنا خرج حسان والفرزدق وجرير وأبو تمام والمتنبي والمعري
من هنا خرج الجاحظ وأبو حيان حزم
من هنا خرج ألف ألف عظيم وعظيم
تقدست أيتها المدينة. . . أم المدن، وظئر العظماء؟
وكنا قد بلغنا هذا المضيق الصخري، بين هضبتي سلع، فنظرت في خريطة للمدينة كانت معي، وقلت للدليل: أما هذا ذبِاب؛ قال: بلى والله فما يدريك أنت؟
قلت: أما هذا مسجد الراية؟ قال: بلى. قلت: هذه هي ثنية الوداع، وخفق قلبي خفقاناً شديدا، وخالطني شعور بالهيبة من دخول المدينة، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما في نفسي من الفرح والسرور، وجعلت أتأمل المدينة، وقد دنونا منها، حتى لقد كدنا
نصير بين البيوت، وأحدّق في القبة الخضراء التي يثوي تحتها أفضل من مشي على الأرض وقد شخص بصري وكدت لا أرى ما كان حولي لفرط ما أحس من جيشان العواطف في نفسي. . . حتى غامت المشاهد في عينيّ، وتداخلت كأنها صورة يضطرب بها الماء، وأحسست كأني قد خرجت من نفسي، وانفصلت من حاضري وذهبت أعيش في عالم طلق لا أثر فيه لقيود الزمان والمكان، فسمعت أصواتاً آتية من بعيد. . . من بعيد، وسمعتها تزداد وتقوى، حتى تبينت فيها قرع الطبل، ووعيت أصوات الولائد، يضربن بالدفوف وينشدن:
طلع البدر علينا
…
من (ثنيات الوداع)
وجب الشكر علينا
…
ما دعا لله داع
ورأيت المدينة قد سالت بأهلها، فملأ الناس الحرّة وسدّوا الطرق، وغطى النساء الأسطحة، ولم يبق في المدينة أحد إلا خرج لاستقبال سيد العالم، وهو قادم ليس معه صلى الله عليه وسلم إلا الصديق الأعظم، لا يلمع على جبينه التاج المرصع، ولا يحمل في يده صولجان الملك، ولا تسير وراءه العساكر والجنود، ولكن يضيء على جبينه نور النبوة، ويحمل في يده هدى القرآن، وتسير وراءه الأجيال، ويتبعه المستقبل، وتحف به الملائكة، ويؤيده الله!
ثم سار وسارت وراءه هذه الجموع إلى القرية التي لبثت قروناً ضائعة بين رمال الصحراء، لا يدري بها التاريخ، ولم تسمع بها القسطنطينية، ولم تعلم بوجودها روما، فجاء هذا الرجل ليهزها وينفخ فيها روح الحياة ويجعلها أم الدنيا وعاصمة الأرض
إلى المعشر اليمانين الدين جعلوا بأسهم بينهم، فلم تمتد عيونهم إلى أبعد من هذه الحرار، ولم يطعموا من المجد بأكثر من أن يسحق بعضهم بعضاً، لينشئهم بالقرآن خلقاً آخر، ويسلمهم مفاتيح الأرض، ويضع في أيديهم القلم الذين يكتبون به أعظم تاريخ للبطولة والعلم والعدالة، فأطاعوا ولبوا، ثم مشوا إلى القادسية واليرموك، ثم أصبحوا سادة العالم، ورأيت الأنصار يستبقون إلى إنزاله صلى الله عليه وسلم والتشرف به ويصيحون به:
هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة، فيقول: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، ويدعها تمشي وقد أرخى لها زمامها ما يحركها وهي تنظر يميناً وشمالاً، حتى أتت دار بني مالك النجار فبركت عند باب المسجد، ثم ثارت وبركت في مبركها الأول
فنزل عنها صلى الله عليه وسلم وقال: ههنا المنزل إن شاء الله، وكان المسجد مربداً لغلامين يتيمين في المدينة، فاشتراه صلى الله عليه وسلم وانطلق يحمل الأحجار بيده الكريمة ليضع أسس أكبر جامعة بثت الهدى في الأرض!
ونظرت فإذا السيارات أمام باب السلام، فاشرأبت الأعناق وبرقت الأبصار، ودمعت العيون، وخفقت القلوب، وتعالى الهتاف، وكانت حال لا سبيل إلى وصفها قط
فنزلنا ودخلنا المسجد نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . . .
علي الطنطاوي
علم الحيل عند العرب
للأستاذ قدري حافظ طوقان
لقد أصبح علم الطبيعة من العلوم التي لها اتصال وثيق بالحياة، وشأن عظيم في تقدم المدنية الحديثة القائمة على الاختراع والاكتشاف، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن علم الطبيعة هو الأسّ الذي شيد عليه صرح الحضارة الحالية. وهو لم يتقدم تقدماً محسوساً إلا حينما أشرف القرن التاسع عشر للميلاد على ختامه. وفي هذا القرن - القرن العشرين - دبت إليه عوامل التحول واعتنى به علماء عصرنا عناية فائقة، فأنشئوا المختبرات وأنفقوا عليها المبالغ الطائلة، وبلغوا في إتقانها درجة كبيرة استطاعوا بواسطتها أن يحلوا بعض المشاكل العلمية، وأن يجيبوا على مسائل كثيرة غامضة؛ وظهرت من ذلك عجائب الكون بصورة أوضح وأتم، واستخدم الإنسان ما اكتشفه من نواميس الطبيعة والحياة فيما يعود عليه بالتقدم والرقي، فلولا بعض هذه النواميس ولولا فهمه إياها فهماً مكنه من الاستفادة منها لما كانت السابحات في السماء والعائمات على الماء، ولما كان في الإمكان الغوص إلى أعماق البحار وجعل المولدات والمحركات الكهربائية في متناول الإنسان، ولما استطاع أن يطوق القارات بالأسلاك الكهربائية، وأن يملأ الجو بعجيج الأمواج اللاسلكية، وقد حملت على أجنحتها الأنباء والأخبار والحوادث. . . ولما نمت الصناعة هذا النمو الغريب. وازدهرت هذه الازدهار العجيب. وعلى كل حال يمكن القول إنه بفضل البحث العلمي وبفضل ما اكتشفه الإنسان من القوانين الطبيعية وعلاقاتها مع بعضها سيطر الإنسان على عناصر الطبيعة هذه السيطرة القوية، سيطرة جعلته يعمل من المستنبطات قوى يستخدمها في قضاء مآربه المتنوعة المتعددة، ويخضعها لتقوم بأعمال المدينة الحديثة المختلفة المعقدة، سيطرة أحدثت انقلاباً بعيد الأثر خطير الشأن في الحياة والحضارة. . . إن علم الطبيعة وهذا شأنه وتأثيره وهذه خطورته لجدير بنا أن نهتم وأن نتعرف عليه ونقف على تطوره وتاريخه وأثر الأمم في تقدمه، ويهمنا بصورة خاصة أن نعرف مآثر أسلافنا وما أحدثوا فيه النظريات والآراء. وسنتناول في هذا المقال المجهود العربي في علم الحيل - أي علم الميكانيكا - محاولين تبيان فضلهم عليه وما قدموه من جليل الخدمات في هذا الميدان
. . . إن علم الطبيعة من العلوم التي اعتني بها الأقدمون فقد كان معروفاً عند علماء
اليونان، وإليهم يرجع الفضل في اكتشاف كثير من مبادئه الأولية ولهم مؤلفات عديدة ترجم العرب أكثرها. ولم يكتف العرب بنقلها بل توسعوا فيها وأضافوا إليها إضافات هامة تعتبر أساساً لبعض المباحث الطبيعية. وهم الذين وضعوا أساس البحث العلمي الحديث وقد قويت عندهم الملاحظة وحب الاستطلاع، ورغبوا في التجربة والاختبار فأنشئوا (المعمل) ليحققوا نظرياتهم وليتأكدوا من صحتها. ومن الفروع التي أصابها شيء من اعتناء العرب واهتمامهم بحوث الميكانيكا أو علم الحيل، ومع أنهم لم يبدعوا فيه إبداعهم في البصريات إلا أنهم استنبطوا فيه بعضاً من المبادئ والقوانين الأساسية التي كانت من العوامل التي ساعدت على تقدمه ووصوله إلى درجته الحالية. لقد ترجم العرب كتب اليونان في الميكانيكا ككتاب الفيريكس لأرسطوطاليس، وكتاب الحيل الروحانية، وكتاب رفع الأثقال لايرن، وكتاب الآلات المصوتة على بعد ستين ميلاً لمورطس، وكتب هيرون الصغير في الآلات الحربية، وقطيزنيوس وهيرون الإسكندري في الآلات المفرغة للهواء والرافعة للمياه وغيرها. اطلع العرب على هذه المؤلفات ودرسوها ووقفوا على محتوياتها ثم أخذوها وأدخلوا تغييرات بسيطة على بعضها وتوسعوا في البعض الآخر، واستطاعوا بعد ذلك أن يزيدوا عليها زيادات تعتبر أساساً لبحوث علم الطبيعية المتنوعة. وليس في الإمكان أن نجول كثيراً في هذه العجالة حول مآثر العرب في الميكانيكا، ولكن سنأتي على ذكر شيء من مجهوداتهم فيه وما قدموه من الخدمات لهذا الفرع من المعرفة، وما كان لهذه المجهودات ولتلك الخدمات من أثر بيّن في تقدمه ورقيه.
لقد كتب العرب في الحيل، وأشهر من كتب في هذا البحث محمد وأحمد وحسن أبناء موسى بن شاكر (ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة، ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها وهو مجلد واحد. .)
وهي - أي الحيل - شريفة الأغراض، عظيمة الفائدة، مشهورة عند الناس ويحتوي هذا الكتاب على مائة تركيب ميكانيكي عشرون منها ذات قيمة عملية. وكان علماء العرب يقسمون علم الحيل إلى قسمين: الأول منهما يبحث في بحر الأثقال بالقوة اليسيرة وآلاته. والثاني في آلات الحركات وصنعة الأواني العجيبة. وألّف العرب في علم مراكز الأثقال، وهو (علم بتعرف منه ثقل الجسم المحمول، والمراد بمركز الثقل حد في الجسم يتعادل
بالنسبة إلى الحامل)، ومن الذين ألفوا فيه أبو سهل الكوهي، وابن هيثم، وبنو موسى
وكذلك للعرب فضل في علم السوائل، فلأبي الريحاني البيروني في كتابة الآثار الباقية شروح وتطبيقات لبعض الظواهر التي تتعلق بضغط السوائل وتوازنها، ووضعوا في هذا كله مؤلفات قيمة. وقد استنبطوا طرقاً واخترعوا آلات تمكنوا بواسطتها من حساب الوزن النوعي وكان لهم فيه ميل خاص، وقد يكون ذلك آتياً من رغبتهم الشديدة في معرفة الوزن النوعي للأحجار الكريمة وبعض المعادن، وهم أول من عمل فيه الجداول الدقيقة فقد حسبوا كثافة الرصاص مثلا فوجدوها 11 ، 33 بينما هي 11 ، 35 والفرق بين المقدرين ضئيل
وفي كتاب عيون المسائل من أعيان المسائل لعبد القادر الطبري جداول فيها الأثقال النوعية للذهب والزئبق والرصاص والفضة والنحاس، والصفر، والحديد، ولبن البقر، والجبن والزيت، والياقوت، والياقوت الأحمر، والزمرد واللازورد والعقيق، والماء والبلخش والزجاج؛ واستطاعوا أن يحسبوا أثقال هذه المواد النوعية بدقة أثارت إعجاب العلماء. وعمل البيروني تجربة لحساب الوزن النوعي، واستعمل لذلك وعاء مصبه متجه إلى أسفل، ومن وزن الجسم بالهواء وبالماء تمكن من معرفة المقدار المزاح، ومن هذا الأخير ووزن الجسم بالهواء حسب الوزن النوعي. وقد وجد الوزن النوعي لثمانية عشر عنصراً ومركباً من الأحجار الكريمة والمعادن، ويعترف سارطون بدقة تجارب البيروني في ذلك
واخترع الخازن آلة لمعرفة الوزن النوعي لأي سائل، واستعمل بعض علماء العرب قانون أرخميدس في معرفة مقدار الذهب والفضة في سبيكة ممزوجة منهما من غير حلها. وعلى كل حال فالذين كتبوا في الوزن النوعي كثيرون، منهم سند بن علي والرازي وابن سينا والخيام والخازن وغيرهم، وكانت كتاباتهم مبنية على التجربة والاختبار، واستعمل البعض موازين خاصة يستعينون بها في إيجاد الكثافة، فقد استعمل الرازي ميزاناً سماه الميزان الطبيعي وله في ذلك كتاب محنة الذهب والفضة والميزان الطبيعي. وللخازن كتاب ميزان الحكمة كتبه سنة 1137م وفيه وصف دقيق مفصل للموازين التي كان يستعملها العرب في تجاربهم، وفيه أيضا وصف لميزان غريب التركيب لوزن الأجسام بالهواء والماء، ونجد
فيه جداول الأوزان النوعية لكثير من المعادن والسوائل والأجسام الصلبة التي تذوب في الماء وهذه الجداول دقيقة جداً ومستخرجة بطرق متنوعة. ويقول سارطون إن ابن سينا والخيام أوجدا طرقا عديدة لإيجاد الوزن النوعي. وكتاب ميزان الحكمة المذكور من الكتب الرئيسية المعتبرة جدا في علم الطبيعة إذ هو أكثر الكتب استيفاء لبحوث الميكانيكا، وقد يكون الكتاب الوحيد الذي ظهر من نوعه في القرون الوسطى. واعترف بلتن في خطاب ألقاه في أكاديمية العلوم الأمريكية بأهمية هذا الكتاب. ومن هذا الكتاب يستدل على أنه كان لدى الخازن آلات مخصوصة لحساب الأوزان النوعية ولقياس حرارة السوائل. ووفي الكتاب نفسه بحث في الجاذبية وبأن هناك علاقة بين سرعة الجسم الساقط والبعد الذي يقطعه والزمن الذي يستغرقه، وبأن قوى التثاقل تتجه دائماً إلى مركز الأرض
ولم ينفرد الخازن ببحوثه في الجاذبية، فقد بحث غيره من قبله ومن بعده من علماء العرب فيها وفي الأجسام الساقطة، ووضعوا قوانين لذلك، وقد كنا وفّينا هذا الموضوع بعض حقه في مقال لنا في (الرسالة عدد 72 عنوانه (الممهدون للاكتشاف والاختراع)، ولا نرى الآن ضرورة لإعادة ما كتبناه في هذا الموضوع. ويحتوي الكتاب المذكور على بحث في الضغط الجوي وبذلك يكون العرب قد سبقوا اتورشيللي في هذا البحث. ويحتوي أيضاً على المبدأ القائل إن الهواء كالماء يحدث ضغطاً من أسفل إلى أعلى على أي جسم مغمور فيه، ومن هذا استنتج أن وزن الجسم في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي وكل هذه المبادئ والحقائق هي كما لا يخفى الأسس التي عليها بني (فيما بعد) بعض الاختراعات كالبارومتر ومفرغات الهواء
وللعرب بحوث في الروافع وقد أجادوا في ذلك كثيراً؛ وكان لديهم عدد غير قليل من آلات الرفع وكلها مبنية على قواعد ميكانيكية تمكنهم من جر الأثقال بقوى يسيرة، فمن هذه الآلات التي استعملوها المحيطة والمخل والبيرم وآلة الكثيرة الرفع والأسفين واللولب والأسقاطولي وغيرها، وقد يطول المطال إذا أردنا أن نبين ماهية كل منها، ويمكن لمن يريد الوقوف على ذلك أن يرجع إلى كتاب مفاتيح العلوم للخوارزمي ففيه بعض التفصيل. ومن الطريف أن العرب عند بحثهم في خواص النسبة أشاروا إلى أن عمل القبان هو من عجائب النسبة، فقد جاء أن: - (من عجائب خاصية النسبة ما يظهر في الأبعاد والأثقال
من المنافع. من ذلك ما يظهر في القرسطون أعني القبان، وذلك أن أحد رأسي عمود القرسطون طويل بعيد من المعلاق والآخر قصير قريب منه، فإذا علق على رأسه الطويل ثقل قليل، وعلى رأسه القصير ثقل كثير، تساويا وتوازنا متى كانت نسبة الثقل القليل إلى الكثير كنسبة بعد رأس القصير إلى بعد راس الطويل من المعلاق. . .) والمقصود من المعلاق هنا نقطة الارتكاز
واستعمل العرب موازين دقيقة للغاية وثبت أن فرق الخطأ في الوزن كان أقل من أربعة أجزاء من ألف جزء من الجرم. وكان لديهم موازين أدق من ذلك، فقد وزن الأستاذ فلندرس بتري ثلاثة نقود عربية قديمة، فوجد أن الفرق بين أوزانها جزء من ثلاثة آلاف جزء من الجرام، ويقول الأستاذ المذكور تعليقا على هذه الدقة:(إنه لا يمكن الوصول إلى هذه الدقة في الوزن إلا باستعمال أدق الموازين الكيميائية الموضوعة في صناديق من الزجاج (حتى لا تؤثر فيها تموجات الهواء) وبتكرار الوزن مراراً حتى لا يبقى فرق ظاهر في رجحان أحد الموازين على الآخر، ولذلك فالوصول إلى هذه الدقة لمما يفوق التصور، ولا يعلم أن أحداً وصل إلى دقة في الوزن مثل هذه الدقة. . .) ومن هنا يظهر أن العرب درسوا مسألة الميزان دراسة دقيقة؛ وقد ألفوا في ذلك مؤلفات قيمة جداً، فثابت بن قرة ألف كتابين في ذلك: أحدهما في صفة استواء الوزن واختلافه وشرائط ذلك؛ والثاني في القرسطون، ولا تزال في هذا الكتاب الأخير نسخة في برلين وأخرى في وكالة الهند بلندن. ومن الذين كتبوا في الموازين والأوزان نظرياً وعملياً الكوهي والفارابي وابن سينا وقسطا بن لوقا البعلبكي وابن الهيثم والخازن والجلدكي وغيرهم. . . وعلى ذكر الجلدكي نقول إن هذا النابغ حلق في الكيمياء ووصل فيها درجة لم يصلها أحد من معاصريه، وهو الذي يقول إن العناصر يفعل بعضها ببعض على نسب محدودة؛ فكأنه اتصل إلى المبدأ الجوهري قبل دلتون. واستعمل العرب لموازينهم أوزاناً متنوعة، وأحسن كتاب في هذا البحث الكتاب الذي وضعه عبد الرحمن بن نصر المصري للمراقب (المحتسب) العام لأحوال الأسواق التجارية في أيام صلاح الدين الأيوبي. وتوجد كتب أخرى تبحث في هذا الموضوع ككتاب ابن جامع وغيره
وفوق ذلك فقد كتب العرب في الأنابيب الشعرية ومبادئها وتعليل ارتفاع الموائع وانخفاضها
فيها، وهذا طبعاً قادهم إلى البحث في التوتر السطحي وأسبابه وبحث في هذا كله الخازن. . . وقد يجهل كثيرون أن ابن يونس هو الذي اخترع بندول الساعة (الرقاص) واعترف بذلك سيديو وشيدويك وبيكر وتايلر وغيرهم. وكان عندهم (أي العرب) أيضاً فكرة عن قانون الرقاص. يقول سمث:(ومع أن قانون الرقاص هو من وضع غاليلو إلا أن كمال الدين لاحظه وسبقه في معرفة شيء عنه. وكان الفلكيون يستعملون البندول لحساب الفترات الزمنية أثناء الرصد. . .) وسبق لنا أن كتبنا شيئاً من هذا في (الرسالة) عدد (57)
. . . هذا مجمل ما عمله العرب في علم الحيل أو الميكانيكا وهو يدل كما قلنا - في أول المقال - على أنهم أخذوا ما عرفه اليونان وغيرهم في هذا الفرع الجليل وتوسعوا فيه ثم زادوا عليه زيادات هامة يعد بعضها أساساً لبعض البحوث والمواضيع والنظريات في علم الطبيعة
(نابلس - فلسطين)
قدري حافظ طوقان
ذكرى الهجرة
بقلم عبد الحكيم عابدين
على هامة الدنيا وقد فُوقِتها قدرا
…
وفي ذمة التاريخ، أيتها الذكرى
أطلّي على رأس الليالي منارةً
…
وفي غسَق الأجداث شعّي لنا فجرا
وقومي على الإسلام تاجاً يزينه
…
وسيفاً يردّى من يُريد به الضرا
وأحيي عزاء القلب عما أصابه
…
لما دَهَم الإسلام من محن كبرى
أعيدي، ولو طيفاً، من الغابر الذي
…
تموت عليه النفس والهةً حسرى
وقصّي على سمعي ولو في رَؤى الدجى
…
أحاديثَ يُعيي الدهر ترديدُها بهرا
يُجشِّم داءً أخديعه مُعادُها
…
كأَن بأذنيه إذا تُليت وقرا
أحاديث عن طه وحسبيَ ذكره
…
بلا لقب إذ ضقت عن قدره ذكرا
وصحبٍ أباةٍ ما رأى المجد مثلهم
…
ولم يرضَ إلا بين أنفسهم وكرا
غطارفَ بُلج لا يجوز عديدُهم
…
لدي أرهبو الدنيا، أصابعك اليسرى
ومن قُلِّد الإيمان درعاً ومغفرا
…
فلا غرو أن أعْيا - وحيداً - به الدهرا
رُويدك يا ذكرى. لكم تُضرمين بي
…
مشاعرَ كاد الدهر يُغرى بها القهرا
وآمالَ نفس أوشكت حادثاته
…
إلى اليأس أن تُدْنِي نواهضها قسرا
طلعتِ على الدنيا فأذكرت آلها
…
مواقف للإِسلام ما برحت غُرّا
وما الهجرة البلجاء إلا صحيفةٌ
…
تُتّوج من دين الهدى ذلك السِّفرا
سُرًى في سبيل الله والخطب كالح
…
وللبيض لَمْعٌ في حواشي الدجى افترّا
بأيدٍ تلظّى للدماء تعطشا
…
وترقب أن تُسقى دم المصطفى هدرا
فما هاله أن الأسنة شُرّعٌ
…
تباري لكي يرجعن من دمه حُمْرا
سَرى بين صحب تسقط الشّيم سجّدا
…
لإيمانهم. لو أن منه لنا نزرا!
عقائدُ تدعوا المستحيل توهماً
…
ولا ترتضي إلا لخالقها أمرا
جوارف للأطواد إن رُمْن صدها
…
قوانع بالأشواك أن تكسوَ السيرا
تساوِمُ بالأرواح كل مهند
…
على عزَّة الإسلام تعلو بها الشعرى
ليثرب شدو الرحلَ يسعى يقينهم
…
سناً بين أيديهم إذا افتقدوا البدرا
لهم منه عزم الأسد في لمعة القنا
…
وحسب الفتى الساري بمثلهما ذخرا
يُذلل وعثاء الطريق كأَنما
…
يرون صياخيد الفلا بُسُطا خُضرا
إلى حيث شاء الله للحق رفعة
…
وآثر للإسلام في صبُحه. نشرا
فلا يحسبن مرضى القلوب رحيلهم
…
توفّىَ شرك كان يمطرهم شرا
ولا وهناً عن دعوة الله. إنما
…
مضاءٌ بأمر الله أن هاجروا سرا
مضوا ليعودوا فاتحين أعزة
…
كراماً كإِقعاء الهزبر إذا استشرى
وكان. فلم يبعد بمكة عهدهم
…
من العمر حتى عاودوا فتحها قهرا
وحطمت الأصنامُ دون هوادة
…
وصال الأذان العذب في الكعبة الزهرا
ونودي فيه (الله أكبر) بعدما
…
شكت جهل قوم كبّروا بينها الصخرا
وما فتئ الإسلام تعلو بنوده
…
ويأتيه طوعَ السيف من لم يجئ حرا
ودانت له أرض الجزيرة. لم يدع
…
بها معهداً إلا استقلّ به نضرا
ولم تلبث الأعوامُ أن بهرت به
…
عُلا قيصر واستنصرته على كسرى
فدالا ودالت عنهما دولتاهما
…
وعمّ الهدى فاستخلص البر والبحرا
فمالي أراه اليوم - وا حسرتا - هَوَى
…
وأشمتَ فيه ذلُّ أبنائه الكفرا
وأُطمِع فيه كل أحمقَ لم يكن
…
ليجلد يوماً أن يُطيق له ذكرا
وما بالُه - واخطبَ - ذلت شعوبه
…
وحكّم فيها ضعفها الأهوجَ الغرا
متى أشهد الإسلام يَرجع مجدَه
…
وتُرفع راياتٌ له طُويت قسرا
ألا ألمعيُ من سلالة (أحمدٍ)
…
يقلّده الفاروق من روُحه السُّمرا
فيبعث للإِسلام ماضيَ صولة
…
شَأَتْ في شباب الدهر أنجمه الزُهرا
ويا معشر الإسلام، والحق قوة،
…
ألا قومة للحق يحيا بها حُرّا
فما الحق إن لم تمنع البيض حوضه
…
بأخلق أن يُعطى الحياةَ ولا أحرى
وأكفلُ منه للسيادة باطلٌ
…
تقوم عليه السمهرية لا يُفرى
بني وطني، والشرق أجمعُ موطني
…
ومِثليَ - ممّن لا يدين بذا - يبرا
تعالوا افهموا الإسلام فالناس اخوة
…
متى آمنوا، لا الشام ندري ولا مصرا
وما أمم الإسلام إلا كتيبةٌ
…
وقائدها القرآنُ عزَّت به دَهرا
ولن تستعيد الأمر إلا بوحدة
…
تقرب نائيهم وتنسيهم إلاصرا
لعمريَ ما أزرى بنا غير جهلنا
…
حقيقة هذا الدين أو روحه الكبرى
وإكبارنا منه القشور وهجرنا
…
لبابا وروحا ما أساغا لنا هجرا
لعمريَ ما الإسلام إرسال لحيةٍ
…
ولا صلواتٍ تُنتضَى للريا سِترا
ولكنما الإسلام مجدٌ وعزةٌ
…
تباعُ الدماَء الفيِحَ والأنفسَ الغُرّا
فدونكمُ القرآنَ دستورَ مجدكم
…
تصولوا على الدنيا بعزته كِبرا
تربوا به واسقوا العقائد روحه
…
وربوا عليه النشء وابغوا به النصرا
صِلوا بين أرواح الشباب وبينه
…
ولا يكُ حظ القارئ الطيَّ والنشرا
إذن يعلموا أن الجهاد فريضةٌ
…
وأن سنام الأمر أن تفدِىَ الأمرا
وأن أخا الإسلام ليس بمسلم
…
إذا ملّكَ الأعداَء من أرضه شبرا
(الجامعة المصرية)
عبد الحكيم عابدين الفيومي
سفائن الصحراء
للدكتور أحمد زكي
هَلَا، هلا، هيّا
…
إطوي الفَلَا طيّا
هلا، هلا، سيري
…
وامضي بتيسيري
وقرّبي الحيّا
…
للنازح الصبّ
طيري بنا طيري
…
للماء والعشب
(شوقي)
الجمل سفينة الصحراء، إذا أنت ذكرت الصحراء ذكرته، وإذا ذكرته ذكرت الصحراء، وما وجوده في غير الصحراء إلا عبث ودعابة، يزيد حسك بهما كلما تأملت خَلقه، ودرست خُلقه، وقرنت ما تجد من ذلك بطبيعة السواد من الأرض الذي يخرج إليه الجمل أحياناً، أو بطبيعة المدن التي يضلّ إليها بحكم المصادفة الخاطئة والتوجيه الجائر؛ فكما قد ينبو في نظر الرجل العادي مرأى العمامة في متحف اللوفر، ومظهر القبعة في الأزهر، كذلك قد تضيق نفس عالم الأحياء بمنظر الخفّ على زلق المدينة، ورؤية السنام يسير بين الوفير الكثير من طعامها
في الصحراء معنى الجوع، ومعنى الحر، ومعنى المشقة والصبر، وفيها معنى الجدب والقحط والجفاف. وفي الجمل تركزت كل هذه المعاني
أول ما يصفه الحيوانيّ، يصفه بأن يضعه لك في قائمة الحيوانات، فتجده في خانة المجترات، وأميز ما تمتاز به هذه الحيوانات أن أمعدتها تنقسم إلى أربعة أقسام، أو أن شئت تتركب من أربعة أكياس
الكيس الأول وهو أكبرها ويسمى الكرش. وإليه ينزل الطعام من المريء (أ) بعد أن يكون قطّعه الحيوان بأسنانه تقطيعاً هيّناً هو دون المضغ بكثير؛ والكيس الثاني ويسمى بالقلنسوة (جـ) وبغشائه المخاطي تَثَنٍّ من خلايا ذات أضلاع عدة، وإلى هذه القلنسوة يخرج الطعام من الكرش تدرّجاً، وفيها يتكوّر إلى كرات ليست بصغيرة الحجم تندفع إلى أعلى في مريء الحيوان إلى فمه فيأخذ في مضغها حتى تصير عجينة لينة؛ وحركة اندفاع الطعام هكذا حركة طبيعية لا كحركة القيء. فإذا تم المضغ بلعه الحيوان فذهب الطعام هذه المرة
إلى الكيس الثالث ويسمى بذي اللفائف (د) ذلك لأن حائطه به ثنيات مستطيلة تشبه أوراق الكتاب وهو مفتوح، ومن ذي اللفائف يخرج الطعام إلى الكيس الرابع واسمه الانفحة (هـ) وفيها يحدث الهضم الحق على وجهه المألوف في الحيوانات الأخرى؛ ففي الانفحة تنفرز العصارات الهضمية، وهي التي تستخدم في تجبين اللبن على ما هو معروف
فإنك تجد في تركيب معدة المجترّات، ومنها الجمل، إن صانعها خلقها وفقاً لحاجاتها وملاءمة لطور معيشتها، فالكرش الكبير الذي يملأ جانباً عظيماً من البطن يقذف إليه الحيوان بالطعام الأخضر الذي يقتطفه من الشجر قذفاً، أما على عجل لأنه يخشى أن ينزل عليه عدو من أعدائه المفترسة، أو اختزاناً له كي يعود إليه عند حاجته للطعام. فإذا هو ذهب إلى أمنه، أو جاءته شهية الطعام عمد إلى هذا المخزون فأكله من جديد. والأكل أوله المضغ
أما الماء فإنك واجد في معدة الجمل خلايا عديدة كالجيوب، واقعة في جدرانه، بها الماء، وعليها أغطية من العضل تنسد وتنفتح عند الحاجة
وتنتهي قوائم الجمل: رجلاه ويداه، بإصبعين ككل المجترات، كالعنز والأبقار والوعل والغزلان. إلا أن هذه الأصابع تنتهي في هذه بأظلاف تساعدها الآن أو ساعدت آباءها بالأمس على تسلق الصخور والجبال. أما في الجمل فينتهي الإصبعان بوسادة بها رخاوة وبها طرواة هي خير الأحذية للسير السريع الهين فوق الرمال لاسيما الوعثاء منها. والفيل إذا مشى في الرمل فقد حيلته فيه، والحصان لا يلبث أن تُنهك قواه. كذلك الحال ربيب المدينة إذا هو خرج بحذاء ذي كعب عال (أو الأولى ربيبتها). والسيارات تغوص في الرمال، ثم تدور عجلاتها وتدور فلا تزيد فيها إلا غوصاً. إلا إذا هي شابهت الجمال فاحتذت أخفافاً، وتلك بالونات جديدة صنعت حديثاً قطرها تسع بوصات وضغط هوائها تسعة أهواء فهي عريضة رخوة. وقطر البالونات العادية نصف هذا القطر، وضغطها ضعف هذا الضغط أو ثلاثة أمثاله
والجمل يحمل غذاءه فوق ظهره، حملته الطبيعة إياه، واختزنته تحت جلده حيث لا يصل إليه سواه: هذا سنامه، وهو كتلة كبيرة من الدهن تجيء بمجيء المطر والعشب وتذهب بذهابهما، وهي تزيد ويمتلئ بها ظهره وتتخذ شكلاً أقرب ما يكون إلى الهرم الرباعي،
والجمل معشب مرتوٍ هانئ، فإذا خرج إلى الصحراء على سفر طويل ومجهد، فأعوزته الخضرة والماء، رجع إلى ما على ظهره، يحرق منه لغذائه؛ ويصمد به لغيلة الجوع حتى يذهب كله ويخلو منه جلده. ولكنه لا يلبث أن يعود من سفره حتى يأخذ في الادخار من يوم النعيم والوفرة ليومه العبوس الآخر، فيثقل بالدهن ظهره، ويشتد عليه جلده. والأعرابي قبل الترحل الطويل يمتحن سنام راحلته كما ينظر ذو السيارة في خزان بنزينه؛ والحيوانات الثديية الأخرى تدخر الدهن، ولكنه يتوزع على كل جسمها. كذلك تدخره الحيوانات التي تنام طوال شتائها، وتصحو في الربيع لتأخذ مع الأحياء نصيبها من العيش وطيب الحياة، وتدخر من الدهن لحين تنام مرة أخرى
والجمل له جسم ضخم ليس فيه جمال كثير، تحمله قوائم طويلة تتراءى كأنها تعجز عن حمله، ولكنها غاية في الصلابة. وعظام هذه القوائم فوق متانتها بيضاء ناصعة حتى ليستعيض بها الهنود في شمال الهند عن سن الفيل في تلقيم بعض مصنوعاتهم. وطال الجمل لينال الشجر فبعد عن الأرض، فكان لابد له من طي قوائمه لينالها. وهو حين يبرك على الأرض يبرك على كتل خمس متصلبة في جسمه يقال لها الثّفِنات، واحدة في صدره واسمها السّعدانة، واثنتان في ركبتيه، واثنتان في أصول فخذيه. والثفنات تولد مع الجسم ليستتم به خلقه كالأذن والعين
وللجمل رقبة حنواء طويلة تحمل في أعلاها رأساً صغيراً، لا يحمل القرون التي هي من خصائص المجترات، وله عينان نجلاوان ناعستان وله أنفان يغلقهما إذا شاء ويفتحهما إذا شاء، وفضل هذا ظاهر في الريح السافية؛ وفتحتا أنفه بعيدتان بعداً كبيراً عما بداخلهما من غشاء وغدد مخاطية، فهي لا تتحلّب مخاطا كالبقر وسائر المجترات. كذلك تطول شفته العليا وتتدلى على شفته السفلى فتحجبها أو تكاد. وشفته العليا مشقوقة شقين كالأرنب يحركهما أو يحرك أحدهما على هواه وهو يأكل حتى كأنهما يدان
وغذاء الجمل في مواطنه الأولى أفرع الشجر وأوراقها، وهو يأكل الشوك ولا يبالي، ويأكله دون أن تدمى شفتاه. وهو يأكل الحب والتمر، ولكنه لا يستغني عن الأخضر من الطعام. وله صبر على الجوع والظمأ، فهو يقضي أياماً قد تطول إلى العشرة دون طعام ولا شراب. وقد يقضيها حاملاً المعهود من أثقاله. وقد يحدث كثيراً أن يفرغ الماء من القافلة
فتعقر الجمال طلباً للماء الذي في أكراشها. وللإبل إحساس غريب بالماء تشمه من بعيد؛ كثيراً ما نجت القوافل بسببه، وقد يحدث أن يأبى على الناقة صاحبها فلا يفهم معنى تشبثها باتجاه خاص في الصحراء فتقطع الرسن وتركب رأسها، فإذا بلغت الماء كرعت منه لأمسها ويومها وغدها
والأعراب تشرب من الإبل لبنها، وهو بالغ في دسمه، وتأكل لحمها، وتلبس من وبرها. ولكن الخدمة الكبرى التي أداها الجمل للإنسانية من قديم هي وصلة الأقطار فصلت بينها قفار كالمحيطات ما كان لغير الجمل أن يجتازها. فأثره في تجارة الأمم العتيقة كبير. وقد كان وحده وصلة ما بين الشرق والغرب
والجمل إن كان في جسمه القدرة على الحمل، ففي خلقه الأناة والصبر. يكتسبهما ولادة وبالمران. وهو برغم نفعه من أغبى الحيوانات. أو لعله لغبائه كان نافعاً ذلولاً صبوراً. وإنك لتجد هذا في الناس. وهو لا يألف صاحبه ألفة الحصان والكلب. وهو كالبدو يكره البحر. وأكثر الثدييات إذا ألقاه الرجل في الماء وجد لديها من طبيعتها فهماً للعوم أو بعض فهم. أما الجمل فإذا غُصب على المسير في ماء غير ضحل كالنهر ففقدت رجلاه الأرض لم يحاول أن يعوم، وإنما يدور جسمه ويسلم نفسه للغرق
والجمل على صبره ذو غضبة منكرة، وهو حقود ذكور. حكوا أن جملاً كان يساق في إدارة عصارة للزيت فضربه سائقه ضرباً موجعاً. ومضت أشهر بعد ذلك، فظهر كأن الإساءة انتُسيت. وفي ليلة قمراء جاء الجمل يتلصص حيث يرقد السائق فوجد ما يشبهه وهو نائم فانقض عليه بكلكله وأخذ في الثياب تمزيقاً يحسب الرجل فيها، فلما فرغ تحدث إليه الرجل من بعيد، فاغتاظ الجمل اغتياظاً شديداً، وغضب لخيبته غضبة نكراء ضرب فيها الحائط برأسه ضربة أردته قتيلاً
أحمد زكي
الساعات العربية
بقلم السيد أحمد دهمان
لما شعر الأقدمون بحاجتهم الماسة إلى معرفة الأوقات، اهتدوا بعد التأمل والتفكير إلى اختراع الساعة الرملي، وهي ساعة بسيطة التركيب، تتركب من قارورتين قد ألصقت فوهة إحداهما بفوهة الأخرى بواسطة الشمع، وملئت العليا رملاً، فينزل الرمل بالتدريج إلى السفلى من ممر بينهما صنع بنسبة مقدرة، وتقلب الساعة عندما تفرغ العليا من الرمل، وهكذا دواليك
فإذا أرادوا معرفة الوقت نظروا إلى مقدار الرمل الباقي في العليا، أو إلى مقدار ما نزل منه إلى السفلى
ولبثت هذه الساعة شائعة الاستعمال عند بعض قرويي دمشق حتى قبيل الحرب العامة. وقد أدركنا أحد الشيوخ المسنين يصنعها ويبيعها في حانوت له خارج باب دمشق الغربي (في سوق المسكية)
أما الساعة المائية التي شاعت عن الكلدان والهنود فهي كالساعة الرملية، بإبدال الرمل بالماء، وكانت أقل دقة منها، لأن اختلاف الجو برداً وقيظاً كان ينقص مقدار الماء
وكان ألفرد الكبير عاهل الإنكليز يأمر باتخاذ شمع طول الواحدة منها اثنتا عشرة إصبعاً، مقسمة بعلامات خاصة إلى أربعة وعشرين قسما، عدد ساعات الليل والنهار، وكانت توقد ليلاً ونهاراً، ويجعل أمامها جسم شفاف وقاية لها من الريح
أما العرب فقد تفننوا في صنع الساعات مستندين إلى فن الهندسة، واخترعوا لها آلات عجيبة أصبحت فيما بعد أساساً للساعات التي نراها اليوم
وقد بدأ شيوع استعمال الساعات في البلاد العربية منذ القرن السادس للهجرة وبقي حتى الثامن، فكان في مراكش وتلمسان والأندلس ومصر وبغداد ودمشق عدة ساعات تنصب في الأماكن العامة لمعرفة الأوقات، وسنأتي على ذكرها مفصلاً
مهندسو الساعات
اشتهر في تلك العصور كثير من المهندسين العرب الذين تخصصوا في صنع الساعات، وكانوا يديرون آلاتها بواسطة الماء إلى أن جاء ابن الشاطر المهندس الدمشقي فسعى في
ترقيتها وتوصل لجعلها صغيرة الحجم بالنسبة لغيرها من الساعات، وأصبحت تعلق على الجدران ولا تحتاج آلاتها إلى الماء، فكانت أقرب ما تكون إلى الساعات المستعملة اليوم. واليك تراجم أشهر من اشتغل بصنع الساعات:
محمد رستم الساعاتي - أصله من خرسان قدم دمشق وأقام بها، وكان أوحد أهل زمانه في علم الفلك وصنع الساعات. قال ابن أبي أصيبعة: وهو الذي صنع الساعات التي عند باب الجامع بدمشق، صنعها في زمن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، وكان له الإنعام الكثير والجامكية والجراية لملازمته صنع الساعات إلى أن توفي - ولم يذكر سنة وفاته
أبو عبد الله بن القيراني - هو محمد بن نصر بن صُعيَر، ولد بعكا سنة 487 أديب شاعر، كان بينه وبين ابن منير الشاعر الطرابلسي المشهور مكاتبات وأجوبة ومهاجاة، ومع ذلك فقد كان بارعاً في العلوم الرياضية من حساب وفلك وهندسة، تولى إدارة الساعات بدمشق، ثم رحل إلى حلب، ثم رجع إلى دمشق وتوفي بها في 11 شعبان سنة 548
محمد بن عبد الكريم الحارثي - لقبه مؤيد الدين، وكنيته أبو الفضل، كان معروفاً بالمهندس، ولد ونشأ بدمشق، وكانت حياته نادرة من نوادر الدهر تجلى فيها النبوغ الشرقي، فقد كان في أول أمره نحاتاً ينحت الحجارة، ثم صار نجاراً فبرّز على النجارين في حسن الصنعة؛ وأبواب البيمارستان النوري بدمشق من صنعه؛ ثم تعلم الهندسة لتزداد براعته في النجارة، وقد وصف المدرسة التي تعلم فيها الهندسة بقوله:(كنت أشتغل في مسجد خاتون الذي تحت المنيبع غربي دمشق، وكنت لا أصل إلى المسجد إلا وقد حفظت شيئاً من كتاب أقليدس وحللت بعضاً من مسائله إلى أن أتممته حفظاً وفهماً)، ثم قرأ المجسطي وحلّ مسائله أيضاً، وانصرف إلى الهندسة انصرافاً تاماً، حتى اشتهر بعد ذلك بالمهندس
وقدم دمشق الشرف الطوسي وكان إماماً في العلوم الرياضية فقرأ عليه ما نقصه من الحساب والهندسة والفلك
وقرأ بعد ذلك علم الطبي على أبي المجد محمد بن أبي الحكم، إلى أن برع فيه، وتعين طبيباً في البيمارستان النوري، مهندساً لساعات المسجد الأموي وكان يتقاضى مخصصات منهما
وفي زمنه تخربت ساعات المسجد الأموي فأصلحها أحسن تصليح: من مؤلفاته. رسالة في معرفة رسم التقويم، مقالة في رؤية الهلال، اختصار كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، عشرة أجزاء وقفها في المسجد الأموي بدمشق وجعلها في مشهد عرِوة، كتاب الحروب السياسية، كتاب في الأدوية المفردة مرتبة على حروف الهجاء، توفي بدمشق سنة 599
ابن الشاطر - هو أبو الحسن علاء الدين، علي بن إبراهيم ابن حسان الأنصاري الدمشقي، نشأ يتيما فتعلم صنعة تطعيم العاج من زوج خالته، ثم تعلم العلوم الرياضية والفلكية، فلقب بالمطعم وبالفلكي
رحل إلى مصر والإسكندرية ليأخذ العلوم الرياضية عن أربابها وكان صاحب ثروة. ويقول ابن العماد أن داره من أحسن الدور وضعاً وعزابة. ويقول الصلاح الصفدي: (دخلت منزله في شهر رمضان سنة 743 لرؤية الإسطرلاب الذي أبدع وضعه فوجدته قد وضعه في قائم حائط في منزله داخل باب الفراديس بدرب الطيار، ورأيت هذا الإسطرلاب فأنشأ لي طرباً، وجدد لي في المعارف رأياً، وقلت أن من تقدمه من الأفاضل عند جبل علمه الراسخ هباء. . . (إلى أن قال: (وصورة هذا الإسطرلاب المذكور قنطرة نصف أو ثلث ذراع تقريباً يدور أبداً على الدوام في اليوم والليلية من غير ماء وعلى حركات الفلك، لكنه قد رتبها على أوضاع مخصوصة تعلم منها الساعات المستوية والساعات الرملية الزمانية.)
ومما ذكره الصفدي وسماه إسطرلاباً يعلم أن ابن الشاطر أول مخترع لساعات الجدران وأن ما سماه إسطرلاباً ليس بالإسطرلاب المشهور، لأن اختراع الإسطرلاب المعروف قديم جداً، وإنما هو اختراع جديد من وضع ابن الشاطر
ومن أعمال ابن الشاطر البسيط الذي وضعه في منارة العروس إحدى منارات المسجد الأموي؛ وقد زينت دمشق يوم وضعه وبقي فيها إلى سنة 1293 فاختل وضعه من مرور السنين عليه ومال أحد جوانبه، ولما أريد إصلاحه انكسر فصنع بدلا منه العلامة المرحوم الشيخ محمد الطنطاوي، جدّ بني الطنطاوي بدمشق، وجعل حسابه على الأفق الحقيقي، وزاد فيه قوس الباقي للفجر، فجاء في غاية الضبط والإتقان، جزاه الله خير الجزاء. وقد قال الشيخ عبد المجيد الخاني من قصيدة مؤرخاً له:
ما قال أهل الشام في تاريخه
…
تم البسيط بنفحة القدوس
ولابن الشاطر المذكور اختراعات عديدة من آلات فلكية وهندسية، وله آراء ونظريات في الحساب والجبر والهندسة والفلك، أضحت مصباحاً مشرقاً لمن جاء بعده. وتولى في المسجد الأموي وظيفة التوقيت ورياسة المؤذنين، وله مؤلفات عديدة ذكر أكثرها في كشف الظنون. توفي سنة 777
علي بن ثعلب الساعاتي: - هو نور الدين علي بن ثعلب الساعاتي، تولى تدبير ساعات المدرسة المستنصرية في بغداد؛ وكان مولده سنة 601 وتوفي سنة 863
وإليك بعد هذه التراجم بعض ما وفقت عليه من وصف تلك الساعات
1 -
ساعة هارون الرشيد
ذكر فولتير وغيره من المؤرخين الفرنسيين أن أول ساعة عرفت في أوروبا هي الساعة التي أهداها أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا سنة 807 وكانت بدعاً في ذلك العصر، حتى أنها أورثت رجال الديوان حيرة وذهولا؛ كان لها اثنا عشرة باباً صغيراً بعدد الساعات، فكلما مضت ساعة فتح باب وخرجت منه كرات من نحاس صغيرة تقع على جرس فيطن بعدد الساعات، وتبقى الأبواب مفتوحة، وحينئذ تخرج صور أثنى عشر فارساً على خيل تدور على صفحة الساعة. ولم تقف لهذه الساعة على ذكر فيما اطلعنا عليه من الكتب العربية
2 -
ساعة مسجد مراكش
ذكرها القلقشندي في صبح الأعشى فقال: وبمراكش جامع جليل يعرف بالكتبين، طوله مائة وعشر أذرع، وعلى بابه ساعات مرتفعة في الهواء خمسين ذراعا، كان يرمى فيها عند انقضاء كل ساعة صنجة زنتها مائة درهم تتحرك لنزولها أجراس تسمع على بعد
3 -
ساعة الملك الكامل
ذكرها القليوبي في نوادره فقال: إن السلطان الكامل كان عنده شمعدان فيه أبواب، فكلما مضت ساعة يخرج من باب منها شخص يقف في خدمته إلى مضي ساعة، وهكذا إلى تمام الأبواب اثنتي عشرة ساعة، فإذا تم الليل خرج شخص فوق الشمعدان ويقول: أصبح السلطان؛ فيعلم أن الفجر قد طلع فيتأهب للصلاة. وهذه الساعة مصرية لأن إقامة الملك
الكامل كانت في مصر
4 -
ساعة المدرسة المستنصرية ببغداد
جاء في مجلة - الزهراء - السنة الثالثة - ص 254 ما نصه (من مخطوطات الخزانة التيمورية بالقاهرة جزء قديم (في كتب التاريخ رقم 1383) من كتاب مجهول الاسم والمؤلف. رتبه مؤلفه على السنين. وما في هذا الجزء من سنة 626 إلى 700 وقد جاء في حوادث سنة 633 منه وصف للساعة التي وضعها أمير المؤمنين المستنصر في مدرسة الطب والمستشفى التابعين لمدرسته العظمى المعروفة باسم (المستنصرية) وقد أدخل العلامة أحمد تيمور باشا وصف هذه الساعة في كتابه (التصوير عند العرب) الذي لم يطبع بعد. فآثرنا التعجيل بنقل ذلك إلى قراء الزهراء:
(وفيها - أي في سنة 633هـ - تكامل بناء الإيوان الذي أنشئ مقابل (المدرسة المستنصرية) وعُمل تحته صّفة يجلس فيها الطبيب، وعنده جماعته الذين يشتغلون عليه بعلم الطب ويقصده المرضى فيداويهم
وبني في حائط هذه الصفة دائرة. وصورت فيها صورة الفَلك، وجعلت فيها طاقات لطاف لها أبواب لطيفة: وفي الدائرة بازان من ذهب، في طاسين من ذهب. ووراءهما بندقتان من شبَهٍ لا يدركهما الناظر
فعند مضي كل ساعة ينفتح فما البازين، وتقع منهما البندقيتان وكلما سقطت بندقة انفتح باب من أبواب تلك الطاقات، والباب مذهب فيصير حينئذ مفضضاً. وإذا وقعت البندقتان في الطاسين تذهبان إلى موضعهما. ثم تطلع أقمار من ذهب في سماء لازوردية في ذلك الفلك مع طلوع الشمس الحقيقة، وتدور مع دورانها وتغيب مع غيبوبتها، فإذا جاء الليل فهناك أقمار طالعة من ضوء خلفها، كلما تكاملت ساعة تكامل ذلك الضوء في دائرة القمر، ثم تبتدئ في الدائرة الأخرى إلى انقضاء الليل الشمس، فتعلم بذلك أوقات الصلوات)
ثم أورد صاحب هذا التاريخ المخطوط أبياتاً لشاعر من شعراء ذلك العصر الذهبي يذكر بها هذه الساعة:
(يا أيها المنصور يا ملكاً
…
برأيه صعب الليالي يهون
شيدت لله ورضوانه
…
أشرف بيان يروق العيون
إيوان حسن وضعه مدهش
…
يحار في منظره الناظرون
صور فيه فلك دائر
…
والشمس تجري ما لها من سكون
دائرة من لازورد حكت
…
نقطة تبر فيه سرّ مصون
فتلك في الشكل وهذي معاً
…
كمثل هاء ركبت وسط نون)
وجاء في حوادث سنة 603 من هذا المخطوط أن نور الدين علي بن ثعلب الساعاتي توفي في تلك السنة، وكان يتولى تدبير الساعات التي تجاه المستنصرية، وأن مولده كان سنة 601 هـ
5 -
ساعة المدرسة القمرية بدمشق
نسبة لمنشئها الأمير سيف الدين علي بن يوسف القمري، أنشأها في نصف القرن السابع الهجري، ثم نسبت المحلة التي فيها المدرسة للمدرسة، فقيل حي القمرية، والقمري نسبة لقيمر قلعة بين الموصل وخلاط. وكان سيف الدين القيمري أميرا كبيرا وشجاعاً باسلا، وهو الذي أسر (لويس التاسع) إمبراطور فرنسا سنة 648 بين المنصورة ودمياط. وله في دمشق أعمال خيرية، فقد بنى فيها مارستاناً ومسجدا ومدرسة تسمى القيمرية الكبرى، وتعرف الآن بمدرسة القطاط، وكان على باب هذه المدرسة ساعة مهمة بلغت مصاريفها كما يقول العلموي أكثر من أربعين ألف درهم. وهذه الساعة وإن لم نطلع على وصف لها، فإنا نستفيد من نص العلموي مقدار المصروف عليها
6 -
ساعة باب جامع دمشق الشرقي
يعرف هذا الباب بباب جيرون، وقد شاهدها ابن جبير الرحالة المشهور فوصفها بقوله:(وعن يمين الخارج من باب جيرون في جدار البلاط الذي أمامه غرفة ولها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صُفر قد فتحت أبواباً صغاراً على عدد ساعات النهار، ودبرت تدبيراً هندسياً، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صِفر من فمي بازين مصورين من صفر (نحاس) قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما. أحدهما تحت أول باب من تلك الأبوار، والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة وتبصر البازين يمدان أعناقهما بالبندقتين
إلى الطاستين ويقذفانها بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحراً، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دويّ وينغلق باب تلك الساعة لحين بلوح من الصفر، ولا يزال كذلك عند انقضاء ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات ثم تعود إلى حالها الأول
ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطبقات المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة مدبر ذلك كله خلف الطبقات المذكورة، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عم الزجاجة ضوء المصباح وفاض على الدائرة أمامها شعاعها فلاحت للأبصار دائرة محمرة، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها، وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها درب بشأنها وانتقالها بعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها)
وهناك ساعة ثانية على باب جامع دمشق القبلي ويعرف هذا الباب بباب الزيارة، ويقول النعيمي إن مكانها في العنبرانية - المشهورة في عصرنا بالعمرانية، ويقول ابن كنان إنها من عمل أبي الفضل الحارثي الدمشقي المهندس، وقد تقدمت ترجمته - وصفة هذه الساعة هي: بيكار (لعله بنكام) عليها عصافير من نحاس، وحية من نحاس، وغراب من نحاس.
فإذا تمت الساعة خرجت الحية، وصفرت العصافير، وصاح الغراب، وسقطت حصاة في الطست
7 -
ساعة ابن الشاطر
تقدم ذكرها في ترجمته، ويمكن القول بأن ساعة ابن الشاطر آخر طراز وصلت إليه الساعة العربية، وقد أخذ الغربيون هذا الطراز عنها في ساعات الجدران، وقد اطلعت على ساعة قديمة أوروبية ترجع في تاريخ صنعها إلى ما قبل ثمانين سنة، إذا مضت ساعة من الوقت يخرج عصفور من باب في أعلاها ويصيح
دمشق
أحمد دهمان
البريد الأدبي
عبرات جوار لا حرار
سألني السيد (محمد حصار) من فضلاء المغرب الأقصى في العدد (144) من (الرسالة) عن رأيي في قول الخنساء:
(من كان يوماً باكياً سيدا
…
فليبكه بالعَبرات الحِرار)
فقد وصفت الخنساء دموعها بالحرار مع أنه سبق مني القول في مقالتي (تعريب الأسالب) المنشورة في الجزء الأول من مجلة مجمعنا المصري أن العرب يصفون الدمع والعين بالسخونة، ولا يصفونهما بالحرارة كما يفعل الإفرنج
وأنا إنما أردت أن العرب ليس ذلك الوصف من شأنهم، أي غير شائع في أساليب بلاغتهم: أن يصفوا الدمع بالحرارة لا أنه لا يقع ذلك منهم أحياناً، والشاهد الصحيح على وقوعه في كلامهم قول الشاعر
بدمع ذي حرارات
…
على الخدين ذي هيدب
راجع ذلك في اللسان والتاج مادة (حرّ) وهيدب السحاب ما تراه كأنه خيوط عند انصباب مطره
أما ما ذكره المعترض الفاضل من شعر الخنساء فلا يصلح شاهد لسببين:
(الأول) أن (حرارا) لا تكون جمعاً لحارة حتى يصخ أن تقول في (عبرة حارة) عبرات حرار، ولم ينقل هذا الجمع أحد من أرباب المعاجم، ولم يذكروه في جملة ما شذ من الجموع، وإنما صرحوا أن (حرار) تكون
جمعاً للحّرّة: وهي الأرض ذات الحجارة السود
وجمعاً للحَرّان: وهو الشديد العطش
وجمعاً للحر: وهو ضد العبد (وهذا الجمع حكاه ابن جني) يعني يكون شاذاً
(ثانياً) لا يجوز أن يقال: أن أرباب المعاجم قد يهملون ذكر كلمات لغوية فصيحة وردت في أشعار العرب: من ذلك فعل (تبدى) في قول عمرو بن معدي كرب
(وبدت لميس كأنها
…
بدر السماء إذا تبدى)
فليكن جمع (حارة) على (حرار) من هذا القبيل ويكون الشاهد عليه قول الخنساء المذكور
وكفى به حجة
لا يقال ذلك لأنه يجب قبل كل شيء الاستيثاق والتثبت من صحة ألفاظ الشاهد، وأول طرق هذا الاستيثاق عدم احتمال تحريف كلماته
فكلمة (الحرار) تحتمل احتمالاً قريباً جداً أن تكون محرفة عن (الجوار) بفتح الجيم وبعدها واو أي (العبرات الجواري) جمع (جارية) اسم فاعل مؤنث من فعل (جَرى) الدمع إذا سال على الخدين
ووصف الدموع بالجواري صحيح من حيث قواعد العربية، فصيح من حيث شيوع استعماله في كلام البلغاء
أما كلمة (الحرار) فليست بهذه المثابة: لا من حيث القواعد ولا من حيث شيوع الاستعمال
ونسخة ديوان الخنساء التي بين أيدينا إنما هي من طبعة الأب لويس شيخو اليسوعي وهو رحمه الله لم يشتهر بالدقة في ضبط نصوص ما ينشره من الآثار الأدبية، ولا في تحقيق كلماتها اللغوية
فلعل الفاضل (محمد حصار) وقعت إليه مثل هذه المطبوعة أو مخطوطة قديمة أخرى يسرع إلى مثلها هذا التحريف
وفي مكتبتي نسخة شرح مخطوط على ديوان الخنساء كتبت سنة 1145هـ لمؤلف مجهول؛ وما لي لا أقول إن هذا الشرح لثعلب كما يمكن استنتاجه من خاتمة المخطوطة؟ وقد سقط منها بعض أوراق فلم أجد قصيدة (العبرات الحرار) فيها. فلعل القصيدة برمتها غير موجودة في رواية تلك النسخة أو هي في ضمن الأوراق الساقطة
وتوجد نسخة من هذا الشرح نفسه في دار الكتب المصرية كتبت سنة (620هـ) كما يفهم من الفهرس العام (جزء 3 نمرة 203)
فلعل أحداً من قراء (الرسالة) ممن تهمهم أمثال هذه البحوث وهم كثيرون - يزور دار الكتب المصرية ويراجع لنا بيت الخنساء ويتثبت من قافيته: أهي (الحرار) أو (الجوار)
أو يراجع ما هو أوثق من ذلك كله وهو نسخة ديوان الخنساء بخط اللغوي الكبير المحقق العلامة الشنقيطي التركزي رحمه الله، وإن له على نسخته تقييدات كالشرح لها. وهذه النسخة أيضاً من نفائس ما حوته دار الكتب المصرية. راجع فهرسها العام (جزء 3 ص
128)
(دمشق)
عبد القادر المغربي
المكتبة العربية في الاسكوريال
تشتمل المجموعة العربية بمكتبة الاسكوريال بمدريد على مجموعة نفيسة جدا من الكتب العربية والإسلامية في مختلف العلوم والفنون، يبلغ عددها 1952 مجلداً، ومعظمها كتب أندلسية هي التراث الأخير لآداب أسبانيا المسلمة؛ ولم ينشر إلى اليوم من هذه المجموعة سوى بضع عشرات من الكتب قام على إخراجها جماعة من المستشرقين، ومنها المكتبة الأندلسية التي تضم عدة مجلدات، وأخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر، والحلة السيراء لابن الآبار، وبضعة كتب أخرى؛ وكان آخر ما نشر من هذه المجموعة النفيسة مجلد من تاريخ الأندلس لابن حيان، أخرجه الدون انتونيو مدير مكتبة الاسكوريال وهو يتناول قسماً من عصر بني أمية بالأندلس
وقد لفتنا الأنظار غير مرة إلى هذه المجموعة النفيسة، وتمنينا على دار الكتب المصرية أن تبذل وسعها لتصوير أو نسخ أكبر عدد من هذه المجموعة، ولكنها لم توفق حتى اليوم إلى تحقيق هذه الغاية بصورة مرضية؛ وكل ما استطاعت أن تحصل عليه حتى اليوم هو صور لخمسة كتب فقط من مجموعة الاسكوريال، هي كتاب البديع لابن المعتز، ومختصر طبقات الشعراء له أيضاً، وطيف الخيال للشريف الرضي، وكتاب الفلاحة لابن العوام، ومجموعة فلسفية في شرح بعض كتب الفارابي؛ وتسعى دار الكتب منذ حين في الحصول على صور أو نسخ لعدة كتب أخرى من هذه المجموعة، ولكن الظاهر أنها تجد في ذلك السبيل عقبات مالية لا تستطيع تذليلها
وفي ذلك ما يبعث إلى أشد الأسف، ذلك أن مجموعة الاسكوريال هي بلا ريب من أنفس المجموعات العربية المعروفة، هذا فضلاً عن أن لها فوق نفاستها العلمية صفة خاصة، فهي في الواقع بقية التراث الإسلامي في الأندلس، وتكاد تحظى في نظر العالم الإسلامي بنوع من القدسية المؤثرة
ويوجد بين محتويات هذه المجموعة عدة كتب فريد في بابها، في السياسة والفلسفة والأخلاق والطب، مثل كتاب أدب الفلاسفة (رقم 760 من المجموعة) وكتاب عن سياسة الأمراء وولاة الجنود (رقم 719) وكتاب في السفارات النبوية عنوانه المصباح المضيء (رقم 1742)؛ هذا إلى عدة كتب من تأليف أكابر العلماء المصريين مثل كتاب الشهاب القضاعي (رقم 752) وكتاب القول التام في فضل الرمي بالسهام، للسخاوي (رقم 765) وكتاب في تاريخ المعز لدين الله (رقم 1761)، وكتب نفيسة أخرى يضيق المقام عن ذكرها
وقد حصلت الجامعة المصرية على صور عدة كتب أخرى من هذه المجموعة النفيسة، ولكن ما حصلت مصر عليه حتى الآن لا يعتبر شيئاً مذكوراً
ولهذا نعود فنتمنى على دار الكتب المصرية وعلى مكتبة الجامعة، وعلى ولاة الأمر جميعا أن يشملوا هذه المجموعة الفريدة بكثير من عنايتهم وألا يدخروا في سبيل الحصول على نفائسها جهداً أو مالا
الكتب
نفسية الرسول العربي محمد بن عبد الله
السوبرمان الأول العالمي
تأليف السيد لبيب الرياشي
بقلم الأستاذ عبد الفتاح السرنجاوي
هذا هو العنوان الذي جعله الأستاذ (لبيب الرياشي) لسلسلة من الرسائل في فلسفة الإسلام، أخرج منها الرسالة الأولى التي نقدمها الآن لقراء (الرسالة)، والأستاذ الرياشي كاتب مسيحي له مكانته بين أدباء سورية الشقيقة، ثم هو فوق ذلك فخور بعربيته متحرر من قيود التعصب؛ ولعل هذه الميزات هي التي تجعل من الرياشي وصحبه مدرسة جديدة هي (مدرسة المتجردين المتطهرين) التي تعلي للحق منبرا تدأب على حمايته ورعايته. وإنك لتلمس سمو هذه المدرسة ونبلها في مقالة الرياشي في كشافة الكتاب الأول، إذ يقول:
(لنتجرد. . . . ولنتطهر. . . . لنتجرد ولنتطهر أيها الإنسي من جذام التعصب وأثرة الجنسية)
والرجل بهذا ينسى كل شيء سوى أنه من طلاب اليقين، وليس من شك في أن هذه الدراسة البريئة للسيرة النبوية الشريفة هي التي حفزت الرياشي على تحليل نفسية الرسول الكريم، وجعلته يعترف فوق ذلك بفضائل هذه الدراسة إذ يقول:
(ما ندمت على شيء في حياتي ندماً عصبياً ساحقاً مثل ندمي على جهلي نفسية الرسول العربي والإمام الأعظم العالمي محمد ابن عبد الله). ذلك ما يقوله رجل يمثل الأقلية الدينية المندمجة في ذلك الشرق العربي، الذي ترفرف فوق ربوعه راية التسامح في الدين وتسوده روح الإخاء في القومية العربية العزيزة، والرياشي يصف محمداً بأنه (السوبرمان الأول العالمي) مستعيرا كلمة (السوبرمان) من الفيلسوف (نيتشه) وهذا الأخير أطلقها على الإنسان الأكمل الذي يجمع إلى مشاركة البشر في خصائص الجسم سمو العقل والروح إلى حد يجعله حلقة الاتصال بين الله والناس، ويعمد الكاتب الفاضل إلى الموازنة بين عظمة محمد وغيره من قادة الإنسانية، فهو يقرر في مستهل بحثه أن العظماء سرعان ما يفقدون
هيبتهم إذا هم خالطوا الناس طويلاً، أما محمد فلم تكن مخالطته للناس وتبسطه في معاملتهم إلا عاملاً على رفع مكانته وإعلاء شأنه بينهم. وينتقل المؤلف إلى ما كان من توسط أبي طالب بين قريش ومحمد في أن يسودوه عليهم ويزوجوه أحسن بناتهم على أن يترك تسفيه دياناتهم والدعوة إلى الله، ويحلل جرأة محمد في رده التاريخي الخالد، ويقارن بينها وبين جرأة ميرابو خطيب الثورة الفرنسية ولوثر زعيم الإصلاح الديني وأبي بكر وعمر، والرياشي في ذلك التحليل موفق أحسن التوفيق، فهو يوضح أن جرأة بعض الزعماء والمصلحين تستند إلى قوة الجماهير وصولة الجماعات، بينما ترتكز جرأة البعض الآخر على جلال الإمارة وهيبة السلطان، أما محمد ابن عبد الله فلم يتح له من ذلك شيء، فجرأته لا تقاس بها جرأة، وإقدامه لا يعدله في التاريخ إقدام
وبرغم ذلك التوفيق الجلي لاحظت أن الأستاذ وهو يعالج بعض النواحي يجتهد في ضرب من التحليل أرى أنه ليس من التاريخ ولا من فلسفة التاريخ في شيء، فهو يتساءل عن السر في خرس الجماهير مرات وسنوات إزاء الرسالة المحمدية، وعن السر في عدم إراقتهم دماء في هذا السبيل، ويقرر أن ذلك وقع برغم صياح أبي لهب وضجيجه، وأن ذلك كان لمعجزة، وأن هذه المعجزة هي أن شخصية النبي أحلت في نفوس القوم إيماناً جعلهم (يحترمون ويهابون ويؤمنون). ليس ذلك يا سيدي هو الواقع، وإنما الواقع الذي لا يقبل الجدل هو أن العرب حين جهر النبي بدعوته آذوه واستغربوا في إيذائه حتى أخرجوه من عشه مهاجراً إلى المدينة، وأنهم كانوا في ذلك معاندين مكابرين لا يحترمون ولا يهابون ولا يؤمنون، وأن شخصية النبي لم تغن من ذلك الإيذاء شيئاً. وليسمح لي الأستاذ الجليل أن أؤكده له أننا لو ذهبنا مذهبه من أن الرسول جهر بدعوته فاستجابت له الجماهير لأن تأثيره على محدثيه ومعاشريه تأثير المنوم المغنطيسي في المنوَّم كما يقول: لو صح يا سيدي أن ننسب ذلك لمحمد لهيأنا للمعترضين فرصة للطعن في دعوته فيقولون إن هذه القوة لا شك تبهر العرب بالباطل كما تبهرهم بالحق، والواقع يا سيدي أن العرب سخرت من محمد ومن دعوة محمد وليس يخفى خبر المستهزئين بالرسالة من قريش أمثال أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي وأبي لهب بن عبد المطلب وعقبة بن أبي معيط والوليد بن المغيرة عم أبي جهل والعاصي بن وائل القرشي والد عمرو بن
العاص والنضر بن الحارث العبدري وغيرهم ممن روى البخاري أخبارهم وحفلت بها بكون التواريخ
وفي موضع آخر من الرسالة يتناول المؤلف الكلام عن عدل الرسول الكريم فيسوق بعض الحوادث التاريخية التي تشهد بحبه للحق وانتصافه للناس حتى من نفسه. ثم يجاوز هذا إلى تحليل صفة العفو والغفران في نفس محمد، وهنا يمحو تلك المعجزة التي كان قد أثبتها للنبي، ويقر بما ناله من الأذى على يد قريش إذ يقول:
(أباحوا دمه ودمهم، وعلقوا في ذلك الحصار وتلك الإباحة صحيفة في جوف الكعبة طمأنة للمقتدرين على الأذية، وزادوا بأن أجازوا المعتدي بثروة)(ص 91)
ويجد الأستاذ في تحليل ما كان من شأن الرسول الكريم مع قريش بعد فتح مكة من تسامح وغفران عظيمين، ويوازن بقوة بين هذا التسامح وذلك الغفران وبين ما أتاه برتوس قائد الغال بعد دخول روما وما صنعه بونابرت بعد دخول بولونيا، فيبدع في تحليل نفسية الرسول ويثبت سموه على غيره من قادة البشر وعظماء الإنسانية، ولعل أجمل ما ساقه في ذلك الموضع تصويره الرسول غالباً ظافراً يقف من المغلوبين فيضرب للتاريخ أعظم أمثلة التسامح والديموقراطية إذ يردد قول الله سبحانه وتعالى:
(يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)
ثم يجاوز ذلك إلى مخاطبة الخائفين من المغلوبين بقوله:
(اذهبوا فأنتم الطلقاء)
هذه لمحة سريعة لذلك الكتيب الذي يقول مؤلفه الفاضل إنه الأول من الثلاثين التي يعتزم إخراجها في فلسفة الإسلام، ونحن نهنئ الكاتب بجهده الجميل الذي يعد نوعاً جديداً في أدب السيرة المحمدية الشريفة، ونرجو للمؤلف التوفيق في إخراج بقية الأجزاء
السرنجاوي
نظام الطلاق في الإسلام
تأليف الأستاذ الشيخ محمد شاكر
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
رأت وزارة الحقانية في هذه الأيام أن تسير في إصلاح أحكام الأصول الشخصية، فنشرت على رجال القضاء الشرعي وغيرهم كتابا في 13 نوفمبر سنة 1935م تدعو من شاء منهم أن يقترح ما يراه من أحكام المذاهب الأخرى سبباً للتخفيف عن الناس، ورفع الحرج عنهم
فكان الأستاذ الجليل، والعالم المجتهد، الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي، وأبو الأشبال أيضاً، حفظه الله لهم وحفظهم له، أول من بادر إلى إجابة هذه الدعوة، ولا غرو فالولد سر أبيه، ونشاطه من نشاطه، وإذا كان في الأزهر والمعاهد الدينية الآن شيء من النشاط، فهي مدينة فيه الوالد الأستاذ أبي الأشبال الأستاذ الكبير الشيخ محمد شاكر شيخ معهد الإسكندرية ووكيل الجامع الأزهر، والعضو الآن في هيئة كبار العلماء، فهو منشئ النظام الحاضر بالمعاهد، وهو باعث هذا النشاط الموجود الآن فيها
وإذا قلت عن الأستاذ أبي الأشبال (العالم المجتهد) فذلك هو ما يستحقه بطريقته في تأليف هذا الكتاب، إذ سار فيه على طريق السلف الصالح من الرجوع في استنباط الأحكام إلى كتاب الله تعالى وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعول في ذلك على أقوال أئمة المذاهب كما يعول عليها غيره، ولا يتعداها إلى النظر الصائب الخالي عن التعصب في كتاب أو سنة
وهو مرة يأخذ بأحد أقوال الأئمة الأربعة إذا وجده متفقاً مع كتاب الله وسنة رسوله، ومرة يأخذ بقول الشيعة أو غيرهم إذا كان متفقاً عنده مع ذلك، كما ذهب إلى الأخذ بقول الشيعة في وجوب الإشهاد على الطلاق لقوله تعالى:(فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله) فالظاهر من سياق الآية أن قوله (وأشهدوا) راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معاً، وهو قول ابن عباس، فقد روى عنه الطبري في التفسير: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين كما قال الله (وأشهدوا ذوي عدل منكم) عند الطلاق وعند المراجعة، وهو قول عطاء أيضاً: فقد روى عبد الرزاق وعبد بن حُمَيد قال: النكاح بالشهود والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود، نقله السيوطي في الدر المنثور
وقد اختار الأستاذ أبو الأشبال بطلان الرجعة إذا قصد بها الرجل المضارة، لقوله تعالى:(وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) وقوله (لا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) وإذا كان للمرأة أن تطلب الطلاق للمضارة، فأولى أن يكون لها الحق في طلب الحكم بإبطال الرجعة للمضارة أيضاً
ولكنه كما ترى ترك ذلك لنظر المحاكم، ولا يخفى أن هذا يجر إلى منازعات لا طائل تحتها، والأولى من هذا أن تكون الرجعة برضا المرأة، لأنها إذا لم تكن برضاها فالمضارة حاصلة قطعاً، وإذا كانت تستأمر في النكاح، فلتستأمر في الرجعة أيضاً
ومما ذهب إليه الأستاذ أبو الأشبال أن الطلاق الثلاث الذي اختلف في أنه يقع ثلاثاً أو طلقة واحدة إنما هو أن يطلق الرجل امرأته مرة، ثم يطلقها مرة ثانية في عدتها، ثم يطلقها مرة ثالثة فيها، سواء أكان ذلك في مجلس واحد أم في مجالس متعددة، أما الطلاق بلفظ الثلاث فليس هو محل ذلك الخلاف، وإنما يقع واحدة قطعاً، لأن قول القائل (أنت طالق) يوجد به حين القول حقيقة معنوية واقعية هي الطلاق، ووصفه بعد ذلك هذا الفعل بالعدد (مرتين أو ثلاثاً) وصف باطل غير صحيح، لأن الذي تحقق بقوله (أنت طالق) مرة واحدة لا مرتين ولاثلاث، ولا يتحقق ذلك إلا بنطق ثان أو ثالث كسابقهما
وهذا مذهب له خطورته لولا أن العمل الآن على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة، فلندع ذلك الماضي إلى رحمة الله، ولنفكر في حاضرنا وحده
هذا وكتاب الأستاذ أبي الأشبال جدير بإقبال المسلمين عامة، وطلاب العلوم الدينية خاصة، لينتفعوا بما فيه من فقه صحيح، واجتهاد نافع، واطلاع واسع
عبد المتعال الصعيدي