الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 147
- بتاريخ: 27 - 04 - 1936
ترجمة معاني القرآن
رأى صاحب السعادة الأستاذ محمد علي علوبه باشا وزير المعارف في رحلته إلى الشرق الأقصى قوماً من اليابان ينظرون في الأديان ليختاروا من بينها طريقهم إلى الله، وهم لذلك يتلمسون الوسائل لفهم القرآن فلا يجدون إلا ما كتب المستشرقون والمبشرون وأولو العِلاَّت من الجهل والغرض. وكل ما في أيديهم من ذلك ترجمتان: ترجمة أوربية لم تصدر عن معرفة، وترجمة (أحمدية) لم تصدر عن عقيدة؛ فالأولى تشويه من زور العلم، والأخرى تمويه من خداع السياسة. والدعوة الدينية اليوم فضلاً عن آثارها الروحية وسيلة من وسائل الاستعمار في الأمم الضعيفة، ونوع من أنواع التحالف في الأمم القوية
رأى الأستاذ ذلك وسمع أمثال ذلك فكان من أمانيه أن تصدر عن مصر كنانة الله وموطن الأزهر ومعقل العربية، ترجمة رسمية لمعاني القرآن تكون في الترجمات كما كان مصحف عثمان في المصاحف. فلما تولى وزارة المعارف كان من أول ما أمضى النية عليه أن طلب إلى مجلس الوزراء (ترجمة معاني القرآن ترجمة رسمية بحسب ترتيب سوره وآياته، وبأسلوب موجز واضح يمكّن المترجم من نقله إلى اللغة الأجنبية بالتدقيق الواجب توخيه في ترجمة رسمية؛ على أن يبدأ بترجمة القرآن إلى اللغة الإنجليزية بمعرفة لجنة أحد عنصريها جماعة من المستشرقين أو غيرهم من الأجانب، يراجع عليها كاتبان أحدهما مصري والآخر إنجليزي، يراجعان الترجمة مراجعة نهائية). وجعل الغرض لهذه الترجمة: (نشر هداية الإسلام بين الأمم التي لا تتكلم العربية، والقضاء على الأثر السيئ الذي أحدثته الترجمة الخاطئة). فعرض هذا الأمر صاحب الدولة رئيس الحكومة على صاحب الفضيلة رئيس الأزهر، فاستفتى فيه جماعة كبار العلماء فأفتوا بجوازه، وعلى ذلك أقره مجلس الوزراء وانقطع القول فيه
ما كان لنا إذن بعد أن أفتى كبار العلماء وأقر مجلس الوزراء أن نتكلم فيما فرغ الناس منه وتبين الحق فيه، ولكن (الرسالة) من واجبها أن تلاحظ ومن حقها أن تسجل. والجدل الذي قام على هذا المشروع المفهوم بالضرورة، بين من أيَّد وبين من فند، إنما دل على مغمزين في بعض رجال الدين لا يتجدد بهما حبل الإسلام ولا تبلغ عليهما رسالة الأزهر. دل على أن في العلماء من لا يزالون يعتقدون أن من سنة الدين إلغاء العقل بإلغاء الرأي. فهم فيما يوردون وفيما يصدرون عبيد للنقل، لا يفتون إلا بقول قيل، ولا يحكمون إلا بنص كتب،
وقد لا يكون من الفروق بينهم وبين صاحب هذا القول أو كاتب هذا النص إلا أنه سبقهم إلى الوجود بقرن أو أكثر!
صفحوا أوراق الأسفار الضخمة لعلهم يقعون على نص فقهي يحظر أو يبيح المعاني القرآنية إلى اللغة الإنكليزية، فلما أعياهم المحال بالطبع تقارعوا بالنصوص الحمالة، وتراشقوا بالنقول المبهمة، وفاتهم حين فاتوا الاجتهاد أن دعوة الإسلام عامة، ومن مقتضيات هذا العموم أن يترجم كتابها إلى كل لغة، وأن الداعي الأعظم (ص) الذي كان يجيب كل وفد بلحنه، ويخاطب كل إنسان على قدر عقله، ويهوّن على الفارسي فيكلمه ببعض لسانه، ويسهّل على قارئ القرآن بلهجته، ويوافق سلمان على ترجمته الفاتحة لقومه، لو نسأ الله في أجله حتى تُفتح الفرس وتُغلب الروم لأمر في أغلب الظن أن ينقل كلام الله إلى كلام الناس ليتصلوا به من غير حجاب، ويتفقهوا فيه من غير وساطة
إن في جعل بعضهم تعلم العربية شرطاً في فهم القرآن واعتناق الإسلام صداً عن سبيل الله وإبطالاً لدعوته. وإن إغفال الترجمة الإسلامية لآيات الله لم يحمل الفرس والترك والهنود على أن يتعربوا، وإنما ظلوا إلى اليوم يكابدون اختلاف الدعاة وتضليل الجهلة، وما تعرب منهم من تعرب إلا ابتغاء الرزق أو الجاه أو العلم في دولة العرب. وعدم الترجمة في مصر لم يحل دون وجودها في غير مصر؛ فإن الناس في الشرق والغرب يقرءون القرآن في أكثر اللغات بأسلوب مفكك وبيان قاصر، وواجب العلماء أن يغيروا هذا المنكر بالمحو وهو محال، أو بالتصحيح وهو ممكن. وليس في ترجمة معاني التنزيل استحالة ما أمكنت القدرة. والقول بأن المسلمين ما برحوا عاجزين عن فهم القرآن قول بأن الإسلام يقوم على أساس غير واضح. ولعل ترجمة المفهوم من لفظ القرآن أسلم من ترجمة المراد من معناه؛ فإن الأولى تفسير لغوي للنص، والثانية تقييد رسمي للرأي. وفي ذلك وشبهه مجال لعقل الفقيه إذا خلص من قيود التقليد لحظة
كذلك دل هذا الجدل على أن في العلماء من يلبسون الدين بالهوى ابتغاء لعرض الدنيا أو استشفاء من مرض القلب، فقد تحدث الناس عن رجلين معروفين بمرونة الرأي قاما يحاربان المشروع بنية مدخولة، حتى بلغ الأمر بأحدهما أن أهاب بدافعي الضرائب أن يحولوا بين الحكومة وبين الإنفاق على هذا العمل الباطل!!
يا ورثة الأنبياء فيم ورثتموهم ولم يتركوا ضياعا ولا قصورا ولا مراكب؟؟ إنكم ورثتموهم في الدعوة إلى الله فلا تبطلوها، وفي تنفيذ الشريعة فلا تعطلوها، وفي نشر الفضيلة فلا تطووها طي المتاع الكاسد
لقد شعر المصلحون بأن الدين جوهر كل إصلاح، فساعدوهم على كشف الطريق بنور الحق، وبلوغ الغاية بهدى الله، وإلا فليس على الدين مسيطر، ولا على الناس لله وكيل!
الربيع
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
خرجتُ أشهدُ الطبيعةَ كيف تُبح كالمعشوق الجميل، لا يقدّم لعاشقه إلا أسبابَ حبه!
وكيف تكون كالحبيب، يزيد في الجسم حاسةَ لمس المعاني الجميلة!
وكنت كالقلب المهجور الحزين، وجد السماء والأرض، ولم يجد فيهما سماءه وأرضه
ألا كم من آلاف السنين وآلافها قد مضت منذ أخرج آدم من الجنة!
ومع ذلك فالتاريخ يعيد نفسه في القلب؛ لا يحزن هذا القلب إلا شعر كأنه طرد من الجنة لساعته
يقف الشاعر بازاء جمال الطبيعة فلا يملك إلا أن يتدفّق ويهتزّ ويطرب
لأن السرّ الذي انبثق هنا في الأرض، يريد أن ينبثق هناك في النفس
والشاعرُ نبي هذه الديانة الرقيقة التي من شريعتها إصلاحُ الناس بالجمال والخير
وكلُ حُسن يلتمس النظرةَ الحيةَ التي تراه جميلاً لتعطيه معناه
وبهذا تقف الطبيعة محتفلة أمام الشاعر، كوقوف المرأة الحسناء أمام المصور
لاحت لي الأزهارُ كأنها ألفاظُ حب رقيقة مُغَشّاة باستعارات ومجازات
والنسيمُ حولها كثوب الحسناء على الحسناء، فيه تعبيرٌ من لابِسَتِه
وكل زهرة كابتسامة تحتها أسرارٌ وأسرارٌ من معاني القلب المعقّدة
أهي لغةُ الضوء الملوّن من الشمس ذاتِ الألوان السبعة؟
أم لغةُ الضوء الملوّن من الخد، والشفة، والصدر، والنحر والديباج والحلي؟
وماذا يفهم العشاقُ من رموز الطبيعة في هذه الأزاهر الجميلة؟
أتشير لهم بالزهر إلى أن عمر اللذة قصير، كأنها تقول: على مقدار هذا؟
أتعلمهم أن الفرق بين جميل وجميل كالفرق بين اللون واللون وبين الرائحة والرائحة؟
أتناجيهم بأن أيام الحب صُوَرُ أيام لا حقائق أيام؟
أم تقول الطبيعة: إن كل هذا لأنك أيتها الحشرات لا تنخدعين إلا بكل هذا. . . .؟
في الربيع تظهر ألوانُ الأرض على الأرض، وتظهر ألوان النفس على النفس
ويصنع الماءُ صُنَعه في الطبيعة فتُخرج تهاويلَ النبات، ويصنع الدم صنعه فيخرج تهاويلَ
الأحلام
ويكون الهواءُ كأنه من شفاهٍ متحابّة يتنفس بعضُها على بعض
ويعود كل شيء يلتمع لأن الحياة كلَّها ينبض فيها عرقُ النور
ويرجع كل حي يغني لأن الحب يريد أن يرفع صوته
وفي الربيع لا يضيءُ النورُ في الأعين وحدها، ولكن في القلوب أيضاً
ولا ينفذُ الهواءُ إلى الصدور فقط ولكن إلى عواطفها كذلك
ويكون للشمس حرارتان إحداهما في الدم
ويطغَي فيضان الجمال كأنما يراد من الربيع تجربةُ منظر من مناظر الجنة في الأرض
والحيوان الأعجم نفسُه تكون له لَفَتاتٌ عقلية فيها إدراكُ فلسفة السرور والمرح
وكانت الشمسُ في الشتاء كأنها صورةٌ معلقة في السحاب
وكان النهارُ كأنه يضيء بالقمر لا بالشمس
وكان الهواءُ مع المطر كأنه مطرٌ غير سائل
وكانت الحياة تضع في أشياءَ كثيرة معنى عبوس الجوّ
فلما جاء الربيع كان فرحُ جميع الأحياء بالشمس كفرح الأطفال رجعت أمهم من السفر
وينظر الشباب فتظهر له الأرض شابة
ويشعر أنه في معاني الذات أكثر مما هو في معاني العالم
وتمتلئ له الدنيا بالأزهار، ومعاني الأزهار، ووحي الأزهار
وتخرج له أشعةُ الشمس ربيعاً وأشعةُ قلبه ربيعاً آخر
ولا تنسى الحياةُ عجائزها، فربيعُهم ضوءُ الشمس. . .
ما أعجب سر الحياة! كل شجرة في الربيع جمال هندسي مستقل
ومهما قطعت منها وغيرت من شكلها أبرزتها الحياةُ في جمال هندسي جديد كأنك أصلحتها
ولو لم يبق منها إلا جذر حيّ أسرعت الحياة فجعلت له شكلا من غصون وأوراق
الحياة الحياة. إذا أنت لم تفسدها جاءتك دائماً هداياها
وإذا آمنت لم تعد بمقدار نفسك ولكن بمقدار القوة التي أنت بها مؤمن
(فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها)
وانظر كيف يخلق في الطبيعة هذه المعاني التي تبهج كل حي، بالطريقة التي يفهمها كل حي
وانظر كيف يجعل في الأرض معنى السرور، وفي الجو معنى السعادة
وانظر إلى الحشرة الصغيرة كيف تؤمن بالحياة التي تملها وتطمئن؟
أنظر أنظر! أليس كل ذلك رداً على اليأس بكلمة: لا
طنطا
مصطفى صادق الرافعي
الإسلام كعامل في المدنية
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
للأستاذ أحمد أمين
والمسألة الثانية هي (الثقافة الإسلامية) وأثرها في المدنية
وأريد أن أكرر هنا ما أشرت إليه من أن الثقافة الإسلامية كانت أثراً من آثار العقيدة الإسلامية التي ألممت بها. فالقرآن رفع مستوى العقل إلى درجة يستطيع فيها التفكير الصحيح بما حارب من خرافات وأوهام، وعبادة أصنام، وبما حث على النظر في الكون ومراقبة تغيراته، واختلاف مظاهره، ودوام حركاته، وبتوجيه العقل إلى أن وراء كل المظاهر المختلفة وحدة، فالناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم يرجعون إلى أصل واحد هو آدم وحواء، والبحار والأنهار المختلفة كلها ترجع إلى ما أنزل من السماء من ماء، والعالم كله يرجع إلى وحدة الخالق (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت). فهذه الوحدة في العالم تحمل على التفكير الصحيح والثقافة العميقة والنظر الفلسفي الروحي. فالقرآن من ناحية فك قيود العقل، وهذا هو العامل السلبي؛ ومن ناحية أخرى أخذ بيده ليشرف على العالم من مرقب عال، وهذا هو العامل الإيجابي
من أجل هذا كانت الثقافة الإسلامية نتيجة العقيدة الإسلامية لا نتيجة شيء آخر، فإن هي اتجهت إلى الاستعانة بالفلسفة اليونانية والثقافة الفارسية والهندية، فلأن الدين حملها على ذلك وطلب منها أن تتطلب العلم حيث كان ومن أي كائن كان
وقد بذر الإسلام في نفوس أصحابه بذوراً تأصلت فيهم فكانوا إذا اقتبسوا من الفلسفة اليونانية أو أية ثقافة أخرى لم يكونوا مقلدين تقليداً صرفاً، إنما كانوا دائماً يُعملون العقل فيما نقلوا، ويعملون العقيدة الدينية فيما قرءوا. فإذا نظرنا إلى ما كتب الفارابي وابن سينا وابن رشد رأيناهم لم يقفوا موقف التلميذ فحسب، بل نقدوا وزادوا ووفقوا بين الفلسفة والدين وأمدوا كل شيء وأخذوه بروح من عندهم، فكان لثقافتهم طابع خاص وشارة تعرف بها - حتى هذا المنطق اليوناني الذي دانت له كل الأمم زاد الغزالي في بعض كتبه فصولاً عن القرآن؛ وابن تيمية وابن حزم وغيرهما نقدوا منطق اليونان وعدوه منطق شكل لا منطق مادة. وكان شأنهم في كل فرعٍ هذا الشأن تقريباً. فدعوى أن المسلمين في ثقافتهم
كانوا حفظة للثقافة اليونانية أكثر منهم مبتكرين لثقافة خاصة دعوى أملاها عدم الدراسة للثقافة الإسلامية دراسة وافية
والحق أن فضلهم على المدنية الحديثة كان من الناحيتين جميعاً: من ناحية حفظهم لثقافة غيرهم من الأمم ولولاهم لضاع كثير منها، ومن ناحية ما أنشئوا وابتكروا وبثوا من روح في الثقافات القديمة. وقد بدأ علماء أوروبا يبحثون نواحي تأثير الثقافة الإسلامية في الثقافة الأوروبية؛ وكان من آخر ما أظهروا في هذا الباب كتاب ما خلفه الإسلام تناولوا فيه أثر الثقافة الإسلامية في الجغرافيا والتجارة، وفي القانون والاجتماع والفن والعمارة وفي الأدب، وفي التصوف وفي الفلسفة واللاهوت، وفي العلم والطب، وفي الهيئة والرياضيات. وهذا البحث وإن كان آخر ما ألفوا فهو أول ما كتشفوا من طريق يشرف على آثار قيمة ضخمة لا تزال تنتظر مكتشفين أبعد مدى، وأقوى على تحمل مشاق الطريق
ولعلنا لكي نقرب من موضوعنا نسأل هذا السؤال: هل كان العالم يستطيع أن يقف على درجة السلم التي يقف عليها الآن لو لم تكن مدنية الإسلام؟ هل لو لم يكن في الوجود مدنية بغداد ومدنية قرطبة والحروب الصليبية كانت المدنية الحديثة تبلغ ما بلغت الآن؟ هل كانت النهضة الأوربية الحديثة تحدث في الزمن الذي حدثت فيه لو لم ترتكز على المدنية الإسلامية؟
هذا سؤال واحد في أوضاع مختلفة والإجابة عنه يسيرة، وهي إجابة بالنفي القاطع. ولا يعلم إلا الله كم كانت تتأخر المدنية الحديثة لو لم ترتكز على المدنية الإسلامية وتطير من على عاتقها، فالمتتبع لتاريخ المدنيات يرى أنه حلقات يسلم بعضها إلى بعض، ويستفيد لاحقها بما وصل إليه سابقها. وقد كانت المدنية الإسلامية هي التي في الذروة قبيل المدنية الحديثة، ولم يكن يضارع بغداد وقرطبة مدينة أخرى في العالم في مدنيتهما وثقافتهما وصناعتهما، ونضمهما الإدارية والحربية. ولتوضيح ذلك ننظر في أسس المدنية الحديثة ونبين علاقة هذه الأسس بالمدنية الإسلامية
لقد بنيت النهضة الحديثة في الثقافة على أساسين وهما الشك والتجربة - كانت الثقافة في القرون الوسطى تعتمد كل الاعتماد على آراء اليونان وتقدس ما قال أفلاطون وأرسطو كل التقديس. فإذا قال أرسطو قولاً فلا يمكن إلاّ أن يكون صحيحاً، وإذا كان الحس يدل على
غير ما يقول وجب أن نعتبر الحس خدّاعاً، والحقيقة ما قال أرسطو. لقد قال أرسطو إن الجسم إذا كان أثقل كان إلى الأرض أسرع، ولكن صعد بعضهم من مكان عال ورمى في وقت واحد حديدتين وزن إحداهما ضعف الأخرى فوصلا إلى الأرض معاً، ومع هذا قالوا إن الحق ما قال أرسطو، ويجب أن يؤول الواقع وهكذا. وكانوا يعتمدون كل الاعتماد على القياس المنطقي وحده يؤيدون به المذاهب والآراء، والقياس المنطقي وحده وسيلة عقيمة لأنه يجعلك تسلم بالمقدمات تسليما أعمى وتعنى فيه بالشكل. فجاءت النهضة الحديثة تشك في هذه المقدمات العامة وتمنحها وتجري التجارب عليها ولا تؤمن بشيء حتى تدل التجارب على صحته، وكان هذا دعامة النهضة الحديثة. والحق أن هذه طريقة لم تكن بعيدة عن المسلمين ولا خفيت عليهم؛ فالتاريخ يحدثنا أن النّظّام ألف في نقد آراء أرسطو، وأن تلميذه الجاحظ في كتابه الحيوان يطلع اطلاعاً واسعاً على أقوال أرسطو ثم لا يمنحها هذا التقديس؛ بل ينقدها نقداً جريئاً ويقول قد جرّبنا قول أرسطو فلم نجده صحيحاً. ويقول:(إن قوله هذا غريب)، و (هو قول لا يجيزه العقل) إلى كثير من أمثال ذلك، وربما فضّل على قوله قولاً آخر قاله عربي جاهلي في بيت من الشعر، لأنه أقرب إلى العقل. فهو بهذا قد جعل عقله حكماً على أرسطو، على حين أن فلاسفة القرون الوسطى في أوروبا جعلوا أرسطو حكما على العقل، والبيروني يحكم عقله في الرياضيات، ويقارن بين نظريات اليونان ونظريات الهند، ويفضل هذه حيناً وهذه حيناً فكتابه الآثار الباقية، وحيناً لا يقبل هذه ولا تلك ويعتمد على عقله الصرف، ويقف الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال) الموقف الذي وقفه بعدُ ديكارت فيقول:(إنه رأى صبيان النصارى ينشئون على النصرانية، وصبيان اليهود على اليهودية، وصبيان المسلمين على الإسلام، وأنه لم يقنع بهذا الدين التقليدي التلقيني، وطلب أن يعلم حقائق الأمور وأن يبني دينه على يقين، وقال إنه بدأ بالشك في كل ذلك حتى يقوم البرهان على صحته، ولم يسمح لنفسه باعتقاد حتى يتأكد من صحته) وقال: (كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني)، وابن خلدون نظر إلى المجتمع الإنساني هذا النظر الحر الطليق فاستفاد مما قال أرسطو وغيره ولكنه لم يتقيد به، ونظر في مجتمعات لم يصل إليها علم أرسطو وهي القبائل العربية والدول
الإسلامية، واستنتج من ذلك كله نظرياته التي كانت ولا تزال محل تقدير علماء الاجتماع والتاريخ من الأوروبيين وإعجابهم
وعلى الجملة فهذه الأسس التي بنيت عليها النهضة الحديثة في أوروبا من تحرير العقل من قيود الأوهام، ومن عبادة العظماء أمثال أرسطو، ومن وضع القوانين بعد الملاحظة والتجربة، وبعد الشك فيما اتخذه الأقدمون قضايا مسلمة، كله كان منبثاً في الثقافة الإسلامية في عصورها الزاهية. وكل ما في الأمر أن الذين بنوا على هذه الأسس القيمة هم الأوروبيون لا المسلمون، وأن من سوء حظ المسلمين أن وضعت في سبيلهم عقبات ليس منشؤها دينهم حالت بينهم وبين أن يتموا ما بدءوا، وأن يشيدوا فوق ما أسسوا. ولكن من الحق أنا إذا أردنا أن نقوّم بناء لا نكون سطحيين فنقوم ظاهره، ولا نقوم باطنه؛ ونقوم أعلاه، ولا نقوم أساسه
ووجه آخر بجانب هذا، هو أن ثقافة المسلمين لم تكن جميعا متجهة اتجاه الفلسفة اليونانية والعلوم اليونانية؛ فقد كانت لهم مناح في الثقافة خاصة بهم لم يعتمدوا فيها على غيرهم إلا اعتماداً ضعيفاً غير مباشر؛ فما أنشئوا من علوم لغتهم كالنحو والصرف والبلاغة وأدبهم الذي رقوا به أدب جاهليتهم وساروا به على منهج خاص بهم، لا على المنهج اليوناني، ولا على المنهج الفارسي؛ والعلوم الغزيرة التي أنشئوها حول دينهم من تفسير للقرآن والحديث، ومن فقه قابلوا به قضاياهم ونظامهم وحياتهم الاجتماعية الخاصة، وما أسسوا له من (أصول الفقه) الذي لم يجروا فيه على منوال سبق - كل هذه وأمثالها كانت مظهراً من مظاهر الاختراع العقلي للمسلمين، وكل هذه كانت عوامل في بناء المدنية الإسلامية التي بنيت عليها المدنية الحديثة
وقد حفظ لنا التاريخ بعض الصلات التي ربطت بين المدنية الإسلامية والمدنية الأوروبية، وأبان لنا كيف استمدت الثانية من الأولى، وكشف لنا عن بعض الجداول التي كانت تتسرّب من المدن الإسلامية تصب في المدن الأوربية، وإن كان بعضها لم يزل مطموراً إلى اليوم ولم يستكشف بعد
فقد اتصل الأوربيون بالمسلمين في الأندلس اتصالاً وثيقاً، واتخذ علماؤهم فلاسفة المسلمين أساتذة يتعلمون منهم ويدرسون عليهم، ونشطت حركة واسعة النطاق لنقل أهم المؤلفات
العربية إلى اللغة اللاتينية، وهي لغة الأدباء والعلماء في القرون الوسطى، حتى أن كثيراً مما بقى من مؤلفات ابن رشد حفظت إلى الآن باللغة اللاتينية ولا نجد أصلها بالعربية، وكان من أشهر من قام بهذه الحركة (ريموند) الذي كان مطراناً لطليطلة من سنة 1130 - سنة 1150، فقد أسس جمعية لنقل أهم الكتب الفلسفية والعلمية العربية إلى اللغة اللاتينية، فنقلوا من العربية أهم كتب أرسطو وما علقه عليها العرب من شروح، كما نقلوا أهم كتب الفارابي وابن سينا، وكان من أثر هذه الجمعية أن رأينا منطق أرسطو المترجم من العربية إلى اللاتينية يقرأ في باريس بعد ثلاثين سنة من عمل هذه الجمعية. وقد مرت حركة استفادة الأوربيين من الثقافة اليونانية في ثلاثة أدوار، الدور الأول: نقل الفلسفة اليونانية والكتب العلمية من العربية إلى اللاتينية، والدور الثاني: النقل من اليونانية مباشرة بعد سقوط القسطنطينية. والثالث: نقل الشروح العربية إلى اللاتينية
وجاء فردريك الثاني سنة 1215، واتصل بالمسلمين اتصالاً وثيقاً في صقلية وفي الشام في حروبه الصليبية، واقتبس كثيراً من آرائهم وعاداتهم وعقائدهم، وقد وصفه المؤرخون بأنه كان يعجب بفلاسفة المسلمين، وكان يعرف اللغة العربية ويستطيع أن يقرأ بها الكتب الفلسفية في مصادرها الأصلية. وأنشأ سنة 1224 مجمعاً في نابلي لنقل العلوم العربية والفلسفة العربية إلى اللاتينية والعبرية لنشرها في أوربا. وبفضل فردريك ذهب (ميكائيل سكوت) إلى طليطلة وترجم شروح ابن رشد على أرسطو، وقبل ذلك كانت قد نقلت إلى اللاتينية جمهرة من كتب ابن سينا واستعملت في باريس حول سنة 1200م
وفي القرن الثالث عشر كانت كل كتب ابن رشد تقريباً قد ترجمت إلى اللاتينية ماعدا كتباً قليلة، منها كتاب تهافت التهافت الذي رد به على تهافت الفلاسفة للغزالي، فقد ترجمت في القرن الرابع عشر
وكان أهم مركز لتعاليم ابن رشد في جامعة بولونيا وجامعة بادوا في إيطاليا ومنهما انتشرت هذه الثقافة في إيطاليا الشمالية الشرقية إلى القرن السابع عشر، واستمرت كتب ابن سينا في الطب سائدة إلى ما بعد هذا العصر
ورجال النهضة الحديثة الذين قاموا بحركة الثورة الفكرية كانوا يدرسون على هذه الكتب، أو يتتلمذون لمن درسوا عليها، فروجر بيكون الذي سبق أهل زمنه في معارفه وطريقة
بحثه أخذ ثقافته العلمية من الأندلس، ودرس فلسفة ابن رشد، والقسم الخامس من كتابه في البصريات مستمد ومساير لكاتب ابن الهيثم في هذا الموضوع نفسه
وطالما ارتفعت شكوى رجال الدين في الأندلس من أن المسيحيين يدرسون علم العرب المسلمين، وعابوا مطران أشبيلية لأنه يدرس في جد فلسفة الكافرين، يعنون المسلمين
وعلى كل حال فجملة الأمر في مدنية المسلمين كما لخصها الأستاذ لكي خير تلخيص إذ قال:
(لم تبدأ النهضة الفكرية في أوربا إلا بعد أن انتقل التعليم من الأديرة إلى الجامعات، وإلا بعد أن حطمت العلوم الإسلامية، والأفكار اليونانية، والاستقلال الصناعي، سلطان الكنيسة)
هذا هو موقف المسلمين أمس من المدنية، ولابد أن نلقي نظرة على موقفهم اليوم من المدنية الحديثة. ومما يؤسف له حقاً أن نقول إن المسلمين لا يشتركون اليوم في بناء صرح المدنية اشتراكا كبيرا، لأن حديثهم هو تقليد للمدنية الحديثة، وقديمهم هو مدنية القرون الوسطى، فهم في الصناعات والمخترعات ونظم الحكومات والإدارات، وفي كتبهم التي تؤلف في العلوم الحديثة من جغرافيا وتاريخ وطبيعة وكيمياء وما إليهما، ونظام مدارسهم الحديثة ومحاكمهم وقوانينهم؛ كل هذا يقلدون فيه المدنية الغربية. وكلما زاد التقليد فيها عدت أقرب إلى الكمال؛ وقديمهم من مثل دراسات علومهم كالنحو والصرف والفلسفة الإسلامية، ومن مثل قضائهم في المحاكم الشرعية، ومن مثل مدارسهم الدينية، ونحو ذلك، كلها على نمط مدينة القرون الوسطى. فهم - في ظاهر الأمر - لا يضعون أحجاراً كبيرة في بناء المدنية الحديثة، ولا يلونونها بلون خاص. ولكن هل الذنب في ذلك ذنب الإسلام والمسلمين؟ إذا عرضت نفسك لتبني فمنعك صاحب البناء بالقوة فالذنب ذنب من مَنع لا من مُنع، وهكذا الشأن في موقف المسلمين. لقد سبقهم الغربيون باستخدام العلم في قوة تسلحهم إلى أقصى حد يمكن فيه استخدام العلم، فوجهوا هذه القوى الهائلة إلى الشرق، ولم يكن قد صحا بعد من سباته الذي سببه ما فسد من عقيدته، وما فسد من سياسته، وما فسد من شؤونه الاجتماعية، فسلط عليه الغرب كل قوته، فانتبه مذعورا؛ ونظر إليه الغرب نظرة استغلال، فساعده على كل ما يفيد الاستغلال، ومنعه عن عمل كل شيء يفيد الاستقلال، فهو إذا أراد أن يتثقف كما يشاء، أو يرقي شؤونه الاجتماعية كما يشاء، أو أن
يحكم نفسه كما يشاء، أو أن يرقي أخلاقه كما يشاء، منعه الغرب من ذلك حرصاً على فائدته في هذا الاستغلال، والشرق لا يستطيع أن يقاوم إلا بالقوة، والقوة محرمة عليه. فهل بعد ذلك هو الذي يتحمل تبعة عدم اشتراكه في البناء
إني لأرجو أن الزمن ورقي الأفكار السياسية التي تخطو في هذه الأيام خطوات سريعة تجعل الغربي ينظر إلى الشرقي نظرة تعاون، فيدرك أن طريقة الاستغلال ليست أصلح الطرق حتى من الناحية الاقتصادية، وأن رقي الشرقي والسماح له بالبناء يزيد في صرح المدنية ويرفع بناءها، ويسرع في علو شأنها. وكما تبين للناس أن نظام الإقطاع وتسخر الملك للعبيد لم يكن في مصلحة الملاّك ولا العبيد، فحطموا هذا النظام من أساسه، وأسسوه من جديد على تحرير العبيد وتعاون الملوك والمستأجرين، وأرباب الأموال والعمال، فكذلك سيكون الشأن مع الحاكمين والمحكومين يتعاونون ولا يتقاتلون، ويتفاهمون ولا يتنازعون، ويتحاكمون إلى الرأي والعقل لا إلى القوة والسلاح. وأرجو ألا يكون ذلك بعيداً
على أن من العدل أن نقول إن التبعة في ذلك كله لا تقع على الغربيين وحدهم، فإن هناك عوامل في المسلمين أنفسهم جعلتهم في هذا الموقف الحرج. فهناك علماء جامدون ضيقوا العقل، وقفوا موقفاً مزرياً في تاريخ المسلمين، وعاقوا رقيهم وتقدمهم، فكان كلما حاول الإصلاح محاول ثاروا عليه باسم الدين، إن أراد إصلاح المحاكم ثاروا عليه ورموه بالمروق، وإن أراد تنظيم الإدارة الحكومية قالوا لا عهدنا لنا بهذا، ويجب أن نتتبع آباءنا وإنا على آثارهم مقتدون. وإن أراد تعليم المرأة قالوا ما بهذا أتى الدين! وهكذا كانوا حجر عثرة في سبيل كل مصلح حتى عظم الخطب، واشتد الكرب، وأولو الأمر في المسلمين إذ ذاك لم يكن يهمهم إلا شهواتهم وفخفختهم الكاذبة، ومظاهرهم الخادعة. أما الاتجاه الصحيح إلى ترقية رعيتهم وتثقيفهم، وتنوير أذهانهم، ونشر العدل بينهم فكانوا قلما يأبهون له. فهؤلاء وأولئك كانوا السبب في أن يقف المسلمون هذا الموقف الذين شكونا منه من قبل
ومع هذا فتنبه المسلمين اليوم، وسير حركات الإصلاح بينهم سيراً حثيثاً، يدعونا أن نؤمل قرب اليوم الذي يتبوأون فيه مكانتهم اللائقة بهم. فإذا قارنت هذه النهضة الداخلية في رقي الفكر السياسي عند الغربيين، وتعديل نظرتهم نحو المسلمين كان من وراء ذلك كله نهضة جدية يبني فيها المسلمون في المدنية بناء صالحاً مصبوغاً بعقيدتهم وأفكارهم، فنرى إذ ذاك
فلسفة خاصة وثقافة خاصة، وروحانية خاصة، قد تلون المدنية الحديثة عامة بلون خاص غير لونها الحالي
أحمد أمين
النهضات القومية العامة في أوروبا وفي الشرق
للأستاذ عبد الرزاق أحمد السنهوري
عميد كلية الحقوق ببغداد
المحاضرة الثانية
الفاشية:
رأينا في المحاضرة السابقة كيف قامت الفاشية والنازية سداً منيعاً أمام تيار البلشفية الجارف. ونقول في هذه المحاضرة كلمة عن هاتين الحركتين؛ وقد كتب الشيء الكثير عنهما، ونحن لا نحاول الإحاطة بكل ما كتب، بل نتوخى الإيجاز الذي يقتضيه هذا المقام
يمكن أن نصف الفاشية بأنها رد فعل عنيف للحركة الاشتراكية التي قامت في إيطاليا عقب الحرب الكبرى، وهددت مرافق الحياة في هذه البلاد بالشلل والنضوب، حتى أصبحت إيطاليا في حالة لا تحسد عليها، وحتى كادت وحدتها الوطنية تتفكك. فقام مؤسس الفاشية، وكان اشتراكياً في مبدإ أمره، فوفق بين مبدئه الاشتراكي ونزعته الوطنية، وأسس الحكم الفاشي قائماً على فكرة الوطنية، معارضاً لفكرة الطبقات. وهكذا انتكصت الاشتراكية في إيطاليا، ورجع مبدأ الوطنية للانتصار
فالفاشية، كنظام من نظم الحكم، ليست إلا مقاومة عنيفة للبلشفية. وهي ليست مقصورة على إيطاليا، بل امتدت منها إلى غيرها من البلاد؛ فهي تسمى في إيطاليا بالفاشية أو الموسولينية، وتسمى في ألمانيا بالنازية أو الهتلرية، وتسمى في تركيا بالكمالية وهكذا. وهي، أين تسود، تقف سدناً منيعاً دون تفشي البلشفية.
ولما كانت الفاشية قد نشأت في أول أمرها وترعرعت في إيطاليا، فنحن نبدأ بالفاشية الإيطالية، لننظر كيف نشأت، ثم نستعرض المبادئ التي قامت عليها، والوسائل التي تذرعت بها في العمل، والطرق التي اتبعتها في التنظيم
نشأتها:
أما كيف نشأت الفاشية في إيطاليا، فلأجل أن نعرف ذلك يجب أن نرجع قليلاً إلى الوراء، لنستعرض إيطاليا في مبدإ الحرب الكبرى، وهي مترددة هل تدخل الحرب إلى جانب
ألمانيا أو إلى جانب الحلفاء. ثم تدخل إلى جانب الحلفاء، فتكاد تكتسحها الدول الوسطى، وتعاني من أهوال الحرب ورزاياها ما يكاد ينوء بها. ثم يبسم الحظ للحلفاء، فينتصرون وتنتصر معهم إيطاليا. ولكنها تخرج من الحرب في حالة من الفوضى الاقتصادية والاضطراب المادي، هي شر من الحرب. فالبلشفية قد تفشت فيها، والعمال أخذوا يثيرون القلاقل والفتن، والشعب ساخط غاضب على حكومته، يتهمهما بالضعف والعجز، فهي لم تنل في مؤتمر فرسايل من الأسلاب والغنائم ما يتفق مع الجهود والتضحيات التي اعتقدت إيطاليا أنها بذلتها أثناء الحرب، ولا ما يتفق بنوع خاص مع طموح إيطاليا الفتاة ومطامعها الاستعمارية. فإذا أضفنا إلى هذا كله أن النظم الدستورية والنيابية لم تكن قد تأصلت في الحكومة الإيطالية، وأن روح الديمقراطية لم تكن قد استقرت في الشعب الإيطالي في المدة القصيرة التي مرت عليه منذ استقلاله، وأن هذه البلاد لم تنس بعد عهد الجمعيات السرية ولا المؤامرات التي تدبر في الخفاء، وإذا عدنا للإشارة مرة أخرى إلى ما انتشر من الفوضى والاضطراب في البلاد بسبب تفشي البلشفية، نستطيع بعد كل ذلك أن نتصور لو أن رجلاً جريئاً مغامراً، ذا إرادة صلبة، وعزيمة قوية، وطموح بعيد، يقود طائفة من الفتيان تدفعهم حماسة الشباب، وحمية الوطنية، وأحلام المجد والعظمة، والإيمان العميق بمستقبل الوطن؛ نستطيع أن نتصور، لو أن رجلاً بهذا الوصف، ومن ورائه الشباب المتوقد عزيمة وقوة، برز إلى الميدان، وتقدم إلى شعب من الشعوب، لينقذه من حالة الفوضى والاضطراب، ويعيد إليه مجده القديم، ويسوقه إلى ساحات العظمة والمجد، فينال حظه من كل ذلك، بعد أن أنكره عليه حلفاؤه بالأمس، فإن هذا الرجل لابد أن يقابل بالترحيب، ثم بالإعجاب، ثم بالتحمس. وأنه لابد واجد من هذا الشعب جنوداً يبذلون نفوسهم في سبيل تحقيق هذه الغايات الوطنية الشريفة. وقد كان الشعب، وكان الرجل. أما الشعب فهذه الأمة الإيطالية الشابة الفتية، الحساسة المسرفة في الحساسية؛ وأما الرجل فهو موسوليني، بطل الفاشية وزعيمها الأكبر
وقد بدأت الفاشية، بعد زحف موسوليني على روما وقبضه على ناصية الحكم بالقوة، حكماً تجريبياً، ليست له خطة مرسومة ولا مذهب مقرر. وكان موسوليني في مبدإ أمره اشتراكياً متحمساً، ثم انقلب جندياً باسلاً، ورجع وطنياً غيوراً. وصار من اعتنق الاشتراكية وآمن
بمبادئها، نقمة الاشتراكية وخصمها الألد. وتقدم موسوليني إلى الحكم وليست له خطة مرسومة كما قدمنا، إلا إذا كانت الرغبة الملحة في الإصلاح وإعادة مجد الوطن يصح أن تسمى خطة. فالفاشية بدأت تجريبية شعارها العمل، والعمل الإيجابي العنيف في سبيل الإصلاح الوطني. لذلك اشتهرت الفاشية بصبغتها العملية، وبإقدام رجالها، واقتحامهم أشد الأخطار هولاً، دون تردد ولا هوادة. فالقضية عندهم هي بعث الأمة الإيطالية من جديد. أما المبادئ والنظريات فقد كان موسوليني يسخر منها، ويرى أنها سلاح خطر، قد يرتد إلى صاحبه فيرديه. فالبلشفية قد بدأت إذن عملاً لا مبدأ، وحركة لا فكرة. ولم يكن لديه منهج مرسوم يريد تحقيقه. ويوم ارتقى موسوليني منصة الحكم لم يكن لديه إلا إرادة وعزيمة، فأكب على العمل بهذه الإرادة وهذه العزيمة، واضعاً نصب عينيه مجد الأمة الإيطالية وعظمتها
ثم أخذت الفاشية تمر بمراحل متعاقبة من التجارب العملية زهاء عشر سنوات. تهذبها الأحداث، وتنضجها الأيام. وتطورها مقتضيات الضرورة، حتى استنار طريقها ووضحت معالمه. وارتسمت الفاشية مبادئ ينتظمها مذهب معروف مقرر. وصارت نظاماً عالمياً له نظرياته وقواعده. وسرت مبادئها من بلد إلى بلد. ودخلت في دور علمي فلسفي، تقرر نظرية للدولة، ونظرية لعلاقة الفرد بالمجموع، ونظرية لأثر العوامل الاقتصادية في الحالة السياسية، ونظرية لعلاقة المسائل الروحية بالمسائل المادية، ونظرية للتربية والتعليم. ولكن الفاشية بقيت محتفظة بصبغتها العملية الأولى، فهي تبدأ بالوقائع تبحثها وتحللها، ثم تصوغها بعد ذلك نظريات سياسية واقتصادية، بخلاف البلشفية فأنها تبدأ ببسط النظريات، ثم تطبقها بعد ذلك على الوقائع
ولننظر إلى الفاشية كمبدأ علمي فلسفي، وكنظام عملي من نظم الحكم القائمة. فالفاشية بهذا الوصف لها مبادئ تقوم عليها، ووسائل للعمل، وطرق للتنظيم
مبادئها:
أما المبادئ التي تقوم عليها فتتلخص في عبارة واحدة هي (مجد الوطن وعظمته). فالفاشية حركة تقوم على القومية، وتعادي كل نزعة من شأنها أن تكسر حدة الوطنية. أما الجامعات الدولية كالبلشفية فتحاول أن تحقق اتحاد العمال في جميع أنحاء العالم، وكعصبة الأمم
تحاول أن تدمج القوميات في جامعة واحدة، فالفاشية تعادي بعضها، وتنظر إلى البعض الآخر نظرة المرتاب، فالوطن، والوطن وحده، هو الذي تخصص له الفاشية جهودها
فهي حركة وطنية تقوم في وجه البلشفية؛ أي أن الرابطة التي تقوم على فكرة الوطن لا تزال تجاهد في أوروبا جهاد المستميت، وهي في كفاح عنيف مع الرابطة التي تقوم على فكرة الطبقات
وسائلها في العمل:
وللفاشية وسائل للعمل. وتتلخص هذه الوسائل في قيام أقلية صالحة بأعباء الحكم. فهناك هيئتان: الهيئة الحاكمة، والهيئة المحكومة. ويجب أن تتضامن هاتان الهيئتان تضامن أعضاء الجسم الواحد. أما المساواة الديمقراطية فلا تعترف بها الفاشية. إذ الناس في الواقع من الأمر غير متساوين، وهم يتفاوتون في القوة والكفاية والصلاحية، ولا عبرة بالمساواة النظرية مادامت المساواة الفعلية غير متحققة. وقد رفع الله الناس درجات بعضهم فوق بعض، فيجب الاعتراف بهذه الحقيقة والإذعان لها. وتستخلص الفاشية من ذلك أن في الأمة أقلية صالحة للحكم؛ ومعيار الصلاحية الكفاية وتغليب المصلحة العامة والقدرة على تحقيقها. وهذه الأقلية هي التي يجب أن تحكم. وهي لا تستمد سلطانها من انتخاب الهيئة المحكومة لها، ولا من ثقة هذه الهيئة بها، بل تستمده من كفايتها وقدرتها على القيام بأعباء الحكم. وترتب الفاشية نتيجة خطيرة على ما تقدم، فهي تبيح الثورة على الحكومة العاجزة، إذ المبرر لبقاء الحكومة في الحكم إنما هو كفايتها، فإذا انعدمت هذه الكفاية، انعدم حقها في البقاء؛ فإذا بقيت بالرغم من ذلك، وجب الانتفاض عليها، ونزعها من كراسيها. وقد طبقت الفاشية هذا المبدأ عملياً، قبل أن يتقرر مبدأ نظرياً، عندما زحفت على روما، وقبضت على ناصية الحكم بالقوة
على أن هذه الأقلية الحاكمة التي تتميز بالكفاية، تتدرج هي الأخرى في السلطان حسب درجة كفايتها. فالكفاية هي الكرسي الذي يتركز عليه الحكم. وتعلو طبقة فوق طبقة. وتخضع الطبقة الدنيا للطبقة العليا، حتى ينتهي الأمر كله إلى زعيم واحد، تلقى في يده أزمة الحكم، وترجع إليه كل الأمور، فيفرض إرادته على أفراد الهيئة الحاكمة، كما تفرض الهيئة الحاكمة إرادتها على أفراد الهيئة المحكومة. وبذلك يقوم ركن الدولة على أسس
متينة، وترجع الأمور كلها إلى رأي واحد ثابت لا يضطرب، ويتوطد سلطان يخضع له الجميع ويذعنون لإرادته. فالفاشية، كما قال الكتاب، تبدأ بتغليب الجماعة على الفرد، ولكن الجماعة تندمج في الأمة، والأمة تندمج في الدولة، والدولة تندمج في الحكومة، والحكومة تندمج في الزعيم
ومن هنا ندرك أن الفاشية هي من اشد ضروب الدكتاتوريات تركيزاً للسلطة، وأبعدها عن النظام الديمقراطي، فالديمقراطية تقوم على سلطان الأمة، وعلى الحرية والمساواة ما بين الأفراد. أما الفاشية فتنكر سلطان الأمة، وتقيد من الحرية، ولا تعترف بالمساواة ما بين الأفراد. ولا يعبأ موسوليني، وهو قابض على ناصية الحكم، أوثق به الشعب الإيطالي أم لم يثق، فهو لا يستند إلى هذه الثقة، ولا يستمد سلطانه من سلطان الأمة، وإنما يستمده من كفايته للحكم وقدرته على تحقيق المصلحة العامة. وسواء عليه لو أن الاثني عشر مليوناً من الناخبين أعطوه أصواتهم أم لم يعطوه شيئاً. وقد صرح السكرتير العام للحزب الفاشي بهذه الحقيقة في عبارة جارحة، إذ يقول:(لو أن الاثني عشر مليوناً الذين قالوا نعم تحولوا إلى أربعة وعشرين مليوناً قالوا لا، لما غير هذا من الأمر شيئاً، ولبقي موسوليني في قصر فينيسا، ولبقيت ثورة القمصان سائرة في طريقها. . . ولو قدر أن يصوت أربعة وعشرون مليوناً ضد الفاشية، لكان هذا معناه أن جمهور الناخبين قد أصيبوا بالجنون، وأن البلاد الإيطالية قد أصبحت مستشفى لهؤلاء المجانين، ولكان هذا سبباً أدعى لأن يبقى العقلاء في أماكنهم)
وتختلف الديمقراطية عن الفاشية أيضاً في أنها تركز السلطان في الأمة، وتقيم الدولة على سلطان الأمة؛ فالأمة هي التي تنشئ الدولة. أما الفاشية فتذهب إلى العكس من ذلك. وعندها أن الدولة هي التي تنشئ الأمة، وأن الأمة ليس لها أي سلطان، بل ليس لها وجود قانوني، والسلطان كله للدولة. وقد كتب موسوليني في هذا المعنى في دائرة المعارف الكبرى الإيطالية التي أمر بوضعها، يقول:(ليست الأمة هي التي تخلق الدولة، بل الدولة هي التي تخلق الأمة، وتعطي للشعب الذي يشعر بوحدته الأدبية، إرادة فوجوداً قانونياً). وتقضي المادة الأولى من دستور العمل الفاشي بأن الأمة، وهي وحدة أدبية وسياسية واقتصادية، تتحقق في الدولة
فالفاشية تقوم إذن على تقديس السلطة، وعبادة الدولة، أي الهيئة الحاكمة وشعارها في الحكم: العمل الإيجابي. فهي لا تقنع للدولة بموقف سلبي، يقر الأمور دون أن يسيرها، بل يجب على الهيئة الحاكمة أن تدفع الأمور دفعاً إيجابياً عنيفاً، في غير رفق ولا هوادة. وهنا تظهر نزعة الشباب والفتوة التي تميز الحركة الفاشية، فقد كان أكثر القائمين بها شباناً عندهم طموح وهمة، وفيهم اندفاع وتوثب
والفناء في الدولة والوطن هو الظاهرة البارزة في الفاشية. ولهذا الفناء مظهران: مظهر سياسي يتمثل وطنية، ومظهر اقتصادي يتمثل تعاوناً. أما الوطنية فترتكز في تربية الفرد تربية فاشية، أي تربية وطنية؛ وتغرس في الطفل حب الوطن، حتى ينشأ على ذلك، موفقاً ما بين الحرية والنظام، فهو حر ليستكمل شخصيته، وهو خاضع لنظام يكفل التضامن. أما التعاون فيقوم على تنظيم اقتصادي دقيق، أساسه النقابات، فالنقابات في إيطاليا الفاشية منتشرة انتشاراً واسع النطاق، وسنعود إلى ذلك بعد قليل
(البقية في العدد القادم)
عبد الرزاق أحمد السنهوري
صور من القرن الثامن عشر
3 -
جاكومو كازانوفا
جوَّاب مجتمع ومغامر مرح
للأستاذ محمد عبد الله عنان
هبط كازانوفا لندن يبحث وراء طالعه، ويلتمس الوسائل لخوض مغامرات ومشاريع جديدة، ولكنه ما لبث أن شعر بأن المجتمع الإنكليزي الرصين لا يغزى بسهولة، وأن الأفق لا يتسع لمزاعمه المريبة، وأن محاولاته الغرامية تلقى مهادا صلبة؛ وشعر بالأخص بأن تلك الخلال والمؤثرات السحرية التي اجتذبت إليه من قبل عشرات الحسان لم يبق لها قوة إلى التأثير والأغراء. وهو يشير في مذكراته إلى ذلك الفشل في حزن ومرارة:(لقد سجلت هذا التاريخ - سبتمبر سنة 1763 - باعتباره لعنة من لعنات حياتي، ولقد شعرت من بعده بأن تيار الكهولة يحملني مع أنني كنت في الثامنة والثلاثين). وهكذا اضطر كازانوفا بعد بضعة أشهر ارتكب خلالها كالعادة عدة محاولات وأعمال مريبة، أن يغادر لندن مثقلا بأعباء الخيبة والفشل
وأم كازانوفا برلين، واستطاع أن يقابل ملك بروسيا - فردريك الأكبر - ولكنه استقبله ببرود وتحفظ، ولم يظفر منه بطائل
عندئذ قصد إلى روسيا حيث تروج سوق المغامرة، وهنالك تعرف بالأمير كارل فون كورلاند، وهو أمير مرح فاسد السيرة ينغمس في مجالي اللهو والخلاعة، ويلتمس اكتساب المال بأي الوسائل، فتفاهما وتوثقت بينهما عرى الصداقة، واستطاع كازانوفا أن يجوز بواسطته إلى المجتمعات الرفيعة في ريغا وبطرسبرج وموسكو، وأن يستعيد فيها شطراً من حياة السرور والبهجة. ثم ذهب إلى بولونيا، وهنالك في وارسو خاض نفس الغمار المرحة المريبة معاً، ولفت إليه أنظار البلاط والسلطات بمشاريعه في عالم النساء والمقامرة، ومزاعمه في التأثير والشعوذة، واضطر غير بعيد إلى مغادرة وارسو؛ فتركها إلى فينا، ولكنه لم يستطع مكثاً بها، لأن عين الشرطة كانت ترقبه؛ فذهب إلى باريس كرة أخرى، ولكن العاصمة الفرنسية كانت تعرفه حق المعرفة، وترغب عن قبوله وإيوائه؛ فغادرها إلى
إسبانيا، فلقي فيها نفس الرفض والمطاردة؛ وكان صيته المشين قد غمر يومئذ جميع العواصم الأوربية، فلم يبق أمامه سوى الرجوع إلى إيطاليا
فعاد إليها يتجول فيها من مدينة إلى مدينة، والنحس يسايره أينما حل، والفاقة تفت في عزمه وفي آماله وأمانيه، وشبح الجوع يزعجه، ونذير الكهولة يروعه؛ لقد كان يومئذ فوق الأربعين، وقد خمدت جذوة اضطرامه، ولم يبق من ذلك الفتى المرح، والمغامر الجريء، سوى طلل متهدم؛ يقول لنا كازانوفا في مذكراته مشيرا إلى ذلك العهد:(لقد فكرت يومئذ، وربما لأول مرة في حياتي، في أيامي الخالية، ورثيت مسلكي، ولعنت الخمسين التي شارفت بلوغها، والتي قضت على جميع أحلامي، وحز في نفسي ألا أرى أمامي سوى بؤس الشيخوخة، والعطلة والفاقة، وألا تغذيني سوى شهرة مريبة، وحسرات عقيمة). أجل كان كازانوفا يومئذ كهلا، تغلق في وجهه جميع الأبواب وترغب عنه النساء! وكان أشد ما يحز في نفسه المكلومة أن يرى تلك المخلوقات الساحرة التي اعتاد أن يجذبها بروائه وسحره وذلاقته، تفر من كهولته إلى أحضان الشباب النضر!
ولما بلغ به اليأس مبلغه فكر في العودة إلى البندقية وطنه ومسقط رأسه؛ فسعى في استصدار العفو اللازم، ولم يدخر وسعاً في التقرب إلى السلطات والتضرع إليها، وعاونه على ذلك رسالة كتبها ردا على تاريخ للبندقية ظهر من قبل بالفرنسة بقلم (املو دي لاهوسي) وفيه مطاعن شديدة ضد الجمهورية ونظمها، وهي مطاعن يفندها كازانوفا في رسالته بحماسة؛ وكان لرسالته وقع حسن لدى السلطات، فاستعملت أخير لتضرعه ومنحته جوازا أمنياً بالعودة إلى وطنه في أوائل سبتمبر سنة 774
ولكنه عاد شيخاً يجرجر أذيال البؤس والخيبة، ويلفظه المجتمع الرفيع؛ وكان صديقه وحاميه القديم السيد براجادين قد توفي، ولم يبق له عون ولا عضد، فلبث مدى حين يعاني مضض الفاقة؛ وبعد جهد جهيد عطفت عليه محكمة التحقيق وعينته مخبرا سرياً بمكافآت تتناسب مع عمله وتقاريره، ثم منحته مرتباً شهرياً قدره خمس عشرة دوقة، فاطمأن نوعا إلى هذا المركز المتواضع، واستطاع أن يغشي بعض الحفلات والمسارح، وكان لا يزال يثير حوله بعض العطف بذكائه وظرفه، وتعرف عندئذ بامرأة تدعى فرنشيسكا بوشيني، وعاش معها في نوع من الهدوء والاستقرار
بيد أنه كان يلعن تلك الحرفة الوضيعة التي ألجئ إلى احترافها؛ أجل لقد كان كازانوفا جاسوسا زرياً لمحكمة التحقيق التي يمقتها من صميم قلبه، وكان بحكم عمله مكلفا بالتحري عن المسائل السياسية والجرائم الأخلاقية والدينية، التي طالما أمعن في ارتكابها؛ وكانت تغمر البندقية يومئذ موجة من الإلحاد والانحلال الخلقي، فكان من سخرية القدر أن يسهر كازانوفا على مراقبة الفساق والملحدين؛ وكان يمضي تقاريره بإمضاء مستعار وهو مع ذلك يضطرم سخطاً لذلك الدرك الأسفل الذي هبط إليه. وفي أواخر سنة 1781 رأت محكمة التحقيق أن تستغني عن خدماته وقطعت مرتبه، فتولاه يأس قاتل، ورأى شبح الجوع ماثل أمامه، ورفع يومئذ إلى محكمة التحقيق ذلك الالتماس المؤثر الذي يدل على ذلاقته وحسن بيانه:
(إلى حضرات العظماء الإجلاء سادتي القضاة المحققين:
(أتقدم إليكم، أنا جاكومو كازانوفا، وقد غمرتني الحيرة، وسحقني البؤس والندم، معترفاً بأنني لست أهلا على الإطلاق لأن أرفع إليكم التماسي المتواضع، أتقدم جاثياً بطلب الرأفة من الدولة، وأسألها أن تمنحني بطريق العطف والجود ما لا تستطيع بعد التأمل أن تأباه علي بطريق الإنصاف
وأني لأضرع إلى الجود العالي أن يقوم بعوني حتى أستطيع الحياة، وأستطيع في المستقبل أن أقوم بالخدمات التي درجت عليها
وأن حكمتكم لتأنس في هذا التضرع الجليل صادق اهبتي ونياتي)
ولكن محكمة التحقيق لم تصغ إلى تضرعه؛ فزاد يأساً وبؤساً، وعول على الرحيل معتصما بما بقي له من جلد وعزم، فسافر إلى فينا ووصلها في يناير سنة 1783 في حال مؤلمة من الإعياء والفاقة؛ ولبث يتجول حيناً في فينا وباريس وهولندة في ظروف نكدة مثيرة؛ ومع ذلك فإنا نراه أحياناً يحلم بمشاريع مدهشة فيفكر وهو في باريس في شق قنال أو إصدار جريدة؛ بيد أنها كانت أحلام يائس مخرف؛ وأخيراً استقر به المطاف في فينا. وهنالك تعرف بسفير السنيور فوسكاريني فعطف عليه وعينه سكرتيراً له؛ واستعاد الطريد البائس شيئاً من بهجة الحياة، واتصل مدى حين بالمجتمع الرفيع، وظهر في المآدب والمراقص؛ ولكن فوسكارني لم يلبث أن توفي، فتولاه اليأس القاتل مرة أخرى
وأقام مدى حين في تبلتز في شرحال حتى ساقته المقادير إلى التعرف بالكونت فون فالدشتاين، فتأثر لفقره ويأسه، وأعجب بذكائه وخلاله فعينه أميناً لمكتبة قصره في (دوكس) من أعمال بوهميا بمرتب حسن؛ وكانت الكونت فتى طروباً طيب القلب يعشق حياة اللهو والخلاعة ويجوب أنحاء أوربا في طلب المسرة والمتاع؛ وكانت خلاله مزيجاً من الشجاعة والضعف، والكبرياء والخجل، والبذخ والجود، فأغدق عطفه على المحب الشيخ الذي خاض غمار حياة باهرة مؤثرة وألفى نفسه بعد طول التجوال فريسة البؤس واليأس
وكان قصر دوكس مقاماً بديعاً فخماً ينبئ بما لآله من النبل التالد والغنى الباذخ، وكانت مكتبته الشاسعة المنيرة تضم أربعين ألف مجلد فخم في مختلف العلوم والفنون؛ فكان ذلك المقام النائي الذي يجد فيه المفكرة الفيلسوف ضالته، هو المستقر والمثوى الأخير لذلك الذي ضاق به وطنه، وضاقت به عواصم أوروبا
ولكم كازانوفا لم يلق الهدوء الذي ينشد؛ ذلك أنه أثار سخط الحشم والخدم بكبريائه وصلفه وجفائه، فكانوا يعكرون صفاءه بخبثهم ودسهم، وكانت نفسه تفيض مرارة من ذلك الصراع الوضيع الذي يحمله مع الخدم على قدم واحدة. وكان كلما شكا أمره إلى الكونت أجابه بابتسامة رقيقة، فإذا شكا إلى الكونتة والدته هدأت روعه بأطيب الوعود
وكان يخفف من وقع ذلك الجدل النكد على نفسه ما كان يغمره به الكونت من العطف؛ ذلك أنه كان حين مقامه بالقصر يدعوه دائماً إلى مائدته، وإلى مختلف الحفلات والمآدب. وعندئذ يستطيع كازانوفا أن يمتع نفسه بقسط من الترف الناعم، ويبدي ما كمن من خلاله ومواهبه الساحرة، ويشعر بشيء من السعادة والغبطة
وكان الدرس أشد ما يؤنسه ويملأ فراغه. ذلك أن كازانوفا كان مفكراً واسع الاطلاع، وكان يعشق القراءة والدرس، ولكن تجواله المتواصل كان يحول دون أمنيته؛ فلما استقر في المثوى الهادئ الحافل بصنوف الآثار الممتعة، ألفى فرصته، وانكب على القراءة يترع من مناهلها؛ ويدون ما عن له من زبدها. ومنذ سنة 1786 يتحفنا كازانوفا بطائفة من الكتب والرسائل الممتعة منها. (مناجاة مفكر) ، (سنة 1786)، و (قصة ادوار واليزابيث) ' (سنة 1788)، وهي مزيج غريب من الفلسفة والمغامرة والدين والتهكم. وفي سنة 1788، أخرج كازانوفا كتاباً ممتعاً عن سجنه وفراره الشهير عنوانه (قصة فراري من سجون
جمهورية البندقية المسماة بالرصاص) ' وفي سنة 1790 نشر رسالتين في مسائل رياضية؛ وفي سنة 1897 نشر رسالة فلسفية أخلاقية. عنوانها (خطاب إلى ليونار سنتلاج) هذا إلى رسائل أخرى مازالت مخطوطة محفوظة إلى يومنا في مكتبة (دوكس) الشهيرة
بيد أن أعظم أثر شغل فراغ كازانوفا، وخلد اسمه فيما بعد، هو مذكراته الشهيرة التي بدأ كتابتها منذ سنة 1791، والتي نرجئ الكلام عليها إلى الفصل القادم
وكان مما يعتز به أيضاص ويؤنس أعوامه الأخيرة اشتغاله بمكاتبة بعض العظماء الذين عرفهم مثل الكونت دي لانبرج، والأمير دي ليني، والأميرة كلاري، والأمير بيلوزولسكي سفير روسيا في درسدن، والكونت كينج، والأميرة لوبكوفتز، والأب ديلالينا، وغيرهم؛ وكذلك بعض صديقاته الذين عرفهم في أواخر حياته مثل فرنشيسكا بوشيني آخر صاحباته في البندقية، وسليا روجندورف، واليزافون در ريكي وغيرهن؛ وكان يزمور مكتبة (دوكس) كثير من العظماء والكبراء من كل فج، فيسر بلقائهم ومحادثتهم؛ وكان كازانوفا يثير بذكائه ووفرة عرفانه حوله كثيراً من الإعجاب والعطف؛ وقد أعجب به كثير من كبراء عصره، وقدروا مواهبه وتنوع معارفه وطرافة تفكيره، وبثوه إعجابهم وتقديرهم شفاها وكتابة؛ وكان ذلك يغمره سعادة وغبطة ورضى
بل لقد كان كازانوفا في تلك الأعوام الأخيرة الهادئة من حياته الحافلة، يتصور حول نفسه أفقاً من العظمة والشهرة؛ وكان أيام تجواله قد زار الفيلسوف الأكبر فولتير في قصره ومستقره المنعزل في فرني، وأعجب بحياته الهادئة وشيخوخته الجليلة، فكان يتصور نفسه في أيامه الأخيرة، في نفس الأفق والظروف التي شهج فيها فولتير، فتغريه تلك المقارنة الخلابة، وتثير في نفسه الهائمة طائفة من الأحلام اللذيذة الرائعة
وفي أوائل سنة 1798 مرض كازانوفا وتفاقم مرضه بسرعة وشعر باقتراب أجله؛ فتوالت عليه زيارات الأصدقاء والمحبين يغمرونه بعطفهم وعنايتهم ويرسلون إليه الأطباء والهدايا؛ وفي الرابع من يونية قضى نحبه واختتم حياته العجيبة في جو من العطف الذي طالما حرم منه أيام حياته؛ ودفن على الأغلب في مقبرة قصر (دوكس)؛ بيد أن قبره لبث مجهولاً لم يكشف عنه البحث
(الخاتمة تأتي)
النقل ممنوع
محمد عبد الله عنان
ليلة وداع
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قال لي صاحب: (أين نقضي سهرتنا الليلة؟)
قلت: (سهرتنا؟؟ فهل كتب علينا أن نسهر الليلة؟)
فقال برقة إبليسية الإغراء: (أنه آخر أيام المعرض، أفلا يحسن أن نودع مدينة الملاهي؟)
فقلت: (من ذا تودع فيها يا شيخ، وقد ودعت شبابك؟)
فلم ينهزم وقال: (نودع من خلقهن الله في أحسن تقويم)
فقلت: ولكن فيهنّ من خُلقن على صور الأبقار والجواميس، فهل ننحتفل بوداع هؤلاء أيضاً؟)
فلم يصده حتى هذا، فلم يبق إلا أن نتوكل على الله ونستودعه نفوسنا ونذهب إلى مدينة الملاهي كما أراد، وحسناً فعلنا، فما كان يمكن أن نرى حشدا أعظم من هذا في مكان أضيق من تلك التي سموها مدينة الملاهي؛ وكانت النساء أكثر من الرجال، وهن وحدهن معرض كامل، فما يخطر للمرأة صورة من صور الخلق في المرأة إلا وهي موجودة، وكانت الكثرة من العذارى الخود، والخرّد الحسان، اللواتي يترقرق الماء في وجوههن من نضرة النعيم، ويتثنين من اللين في غير استرخاء، أما القلة فكانت من الخدِلِّجات الممتلئات الأذرع والسيقان، العظيمات الأوراك والبطون، المترجرجات اللحم، المستديرات كأنهن البراميل، فلو أرقدتهن على جنوبهن ودفعتهن لتدحرجن بلا توقف
وكنت كلما رأيت واحدة من هؤلاء وقفت كالجندي، ورفعت يدي إلى جبيني بالتحية العسكرية! فيسألني صاحبي عما أفعل؟ فأقول:(هذه تحية العظمة يا سيدي!! إلى متى نظل نبخس الناس أشياءهم ونغمطهم في مصر؟؟ لقد آن جدا أن نقر لكل إنسان بحق ومزيته)
والتقينا بأصحاب لنا، فصرنا جماعة ومضينا نتنقل من مكان إلى مكان، وإذا بي أرى قريباً لي ومعه صديقة له، ما رآني قط مقبلا عليه وهي معه إلا نهض بها زاعماً أن عليه أن يفعل كيت وكيت، أو أن يقابل فلاناً أو علاناً من خلق الله الذين يتحرى أن ينتقي لهم أسماء لا أعرفها لأنها مخترعة لا وجود لها، فأكاد أتميز من الغيظ، ولكن ماذا أصنع؟ غير أني في هذه المرة أدركته قبل أن يقوم - أعني قبل أن يراني، وكان جاساً معها - كما لا أحتاج
أن أقول، فحملت كرسياً إلى حيث هما، ووضعته وقعدت عليه أمامهما، ثم حييتهما أحسن تحية وأرقها - تحية تلين الصخر، لا بل تذيبه - ولكن قريبي، وقاك الله، أصلب من الصخر والحديد، فما كاد يراني أصافحها حتى قال لها وهو يجذبها من ذراعها:(تفضلي فقد تأخرنا جدا)
فابتسمت - وهل كان يسعها إلا ذلك وهي ترى هذا منه في كل لقاء؟ - فتشجعت وقلت: (يا أخي حرام عليك!! ما هذا العنف - هذا ذراع غض بض يا سيدي، وليس بعصا شرطي. . .)
فابتسمت مرة أخرى، فقلت في سري هذه علامة الرضى، وإنها والله لراغبة في البقاء، وتذكرت قول زميلنا القديم:(وفاز بالطيبات الفاتك اللهج) فقلت لهما: (العجلة من الشيطان يا مولانا. . ومازلنا في أول الليل، وما يدريك ويدرني أنها ليست مشتاقة أن تركب معي واحداً من هذه القطر التي تشبه الترام وتجري بالكهرباء وتتدافع وتتصادم فتتعالى الصيحات والصرخات وتجلجل الضحكات، وتنشرح الصدور. . . قومي يا ستي معي أركبك واحداً منها)
فصاح بي وهو يدفع ذراعه أمامها ليمنعها أن تقوم: (معك؟ تقول معك؟. معك أنت؟. يا خبر اسود!. أنت مجنون؟)
فلم تفزعني هذه الثورة، لأني أعرف سببها وباعثها، وقلت له وأنا أبتسم:(صحتك. . صحتك. . لا تهج هكذا فإني أخاف على قلبك. . ألم ينصحك الطبيب بالابتعاد عن كل ما يهيج أعصابك؟. أقعد. . أقعد ساكناً واشرب ماء بارداً حتى نعود إليك. . لن يطول غيابنا عنك. . قومي يا سيدتي. . لا تقلقي عليه. . إنه بخير ما اجتنب ما يورثه اضطراب الأعصاب)
فنهض هو بدلاً منها وقال بلهجة المغيظ المحنق: (أعصاب؟. قلب؟. طبيب؟. عن أي شيء تتكلم؟. كيف تسمح لنفسك أن تقول إني مريض بقلبي؟.)
فضحكت وقلت: (لا مؤاخذة!. لقد نسيت أن عقلك لا قلبك هو المريض. . على كل حال. . عقلك. . قلبك. . سيان. . والخطأ مردود. . والآن وقد انتهى الخلاف وحسمنا النزاع فيحسن أن ندعك وحدك قليلاً حتى تثوب إليك نفسك الوديعة الرقيقة الكريمة الجمة المروءة
الـ. . . الـ. . ماذا أيضاً يا بارد أناني!؟)
فأرسلتها الفتاة ضحكة مجلجلة تجاوبت نفسي بأصدائها، فصار رنينها في قلبي لا في الفضاء. ولكنه قطع عليها الضحك بيمين أقسمها ألا تقوم معي، فوجمت وشعرت بقلبي يبكي لها، فقد كان من الواضح أنها تشتهي أن تركب هذا الترام، وقريبي يأباه عليها لأنه يؤثر الاحتشام والتلفع بالوقار، ثم قلت لها:(لا بأس. . لا بأس. . ما لا يدرك كله لا يترك كله. . انظري إلي وأنا أركب وسأترك مكانك إلى جانبي فيها خالياً، ففي وسعك أن تتصوري نفسك جالسة فيه كما سأفعل تماماً. . وإلى اللقاء القريب، وعسى أن تتمتعي بهذه اللعبة التي ألعبها إكراماً لسواد عينيك. . أن تراها زرقاوين؟؟ أرنيهما بالله قبل الركوب حتى لا يغلط خيالي. .)
فقال قريبي على سبيل التوديع: (اذهب، اذهب ولا تعد!)
فقلت: (يا شيخ حرام عليك! أنا شاب. .)
وركبت وحدي احتفاظاً لها بمكانها، وكان يكفي أن أصون لها مكانها في قلبي، ولكن الوفاء - صانك الله - داء مكتسب. وكان الميدان هادئاً، والراكبون يتحاورون، ويهرب بعضهم من بعض، ويتقون التصادم، وإن كان لا خوف منه، فجريت أنا على نقيض ذلك، وجعلت وكدي أن أصدم الذي يروقني، وكنت كلما أقبلت بسيارتي على أخرى لأصدمها أصيح براكبيها - وأنا أدفع بقبضة يدي في الهواء - بمُممم! فعلا الصخب - كما ينبغي أن يحدث - وكثر الضحك واللغط والصياح والصراخ، وانتهى الدور فنسيت صاحبتي التي تركتها مع قريبي، وشغلني ما أنا فيه عنها، وألهاني عن ذكراها كما هي عادتي، فإن اللحظة الحاضرة تذهلني عن كل ما مضى وكل ما عسى أن يجيء، ولعبت دوراً آخر، ثم غيره، وغيره، حتى أضناني الجهد المتواصل، وابتلت ثيابي من كثرة العرق المتصبب، فتذكرت قريبي وصديقته، وقلت أجلس معهما برهة أستريح فيها وعسى أن يهديه الله ويرقق قلبه القاسي، وعدت إلى حيث تركتهما فإذا بهما قد ذهبا. .
أي والله يا ناس!! خطفها قريبي - قريبي لا أحد الغرباء - وطار بها وخلفني أتلهف عليها واسخط عليه، وأذم الغدر والخيانة والأنانية والأثرة وألعن أمثاله من الأقرباء الذين يعمر قلوبهم الحسد والحقد لا الحب والإخلاص والتعاون على البر والتقوى
ولمحت صديقنا الدكتور م. فقلت أسلم عليه، وكان حوله سرب من الناعمات اللينات، المسترسلات الأعطاف، المستغنيات بالجمال عن الزينة، المُبَتّلاتِ الحسن على الأعضاء فلا ترى لشيء في أجسامهن الحلوة أوفر من حظه أو أقل. فدنوت من إحداهن - وكانت طويلة العنق مسمورة لا رخوة ولا مترهلة - وقلت لها:(ماذا يقول لكن دكتورنا الساحر؟. هل لك في رهاني؟.)
قالت: (على أي شيء؟)
قلت: (على أن عينه زائغة وأنه يريد أن يتزوجكن جملة وإن كنتن سبعاً؟)
فضحكت وقالت: (صدقت)
قلت: (هاتي إذاً، وليعوضك الله خيراً. . واحذري أن تراهنيني مرة أخرى)
قالت: (ولكني لم أفعل)
قلت: (بلى. . هاتي!. ما هذه المماطلة؟. إنه خلق لا يليق بمثل هذا الجمال المشرق)
قالت: (أما إن هذا لغريب. . والله ما راهنتك)
قلت: (لا فائدة. . تفضلي معي إلى هذا الترام واركبيه بجانبي، فإن ركوبه موصوف لإبراء الذمة)
فضحكت وسألتني: (ولكن من أنت. .)
قلت: (أنا صاحب الدكتور الذي يريد أن يتزوجك على كل هذه الضرائر. . . تعالي واكسبي صداقتي لتفوزي به وحدك)
ولمحني الدكتور وأنا أمضي بها فصاح: (اللص. . اللص. . أدركوه. خطف البنت. . الحقونا يا ناس)
وخفت أن يصدق بعض البلهاء فأقع في مأزق، فجعلت أصيح مثله:(اللص. . . . أدركوه. . . . خطف البنية. . . . اجروا وراءه)
وانحدرنا إلى الملعب ونحن نكاد نسقط على الأرض من كثرة الضحك. وقبل أن يبدأ اللعب وتدور السيارات تآمرت مع زميلتي على الدكتور واتفقنا أن نركبه سيارة وأن نوسعه بعد ذلك صدماً وخبطاً، فإنا نعرفه يخاف الرجات ويشفق من عواقبها - لا ندري لماذا - وقد كان. حاولنا إقناعه بالحسنى أولاً فلم يقتنع، فلم يبق إلا أن نحمله قسراً على الركوب،
فجرته أربع فتيات فظل يقاومهن حتى قلت له: (أظنك استحليت هذا الجرّ. . . تفضل يا. . .)
فكف عن المقاومة استحياء، وقال لي وهو يركب السيارة: (الله يلعنك يا شيخ. . . أخجلتني والله!
قلت: (لا عليك يا مولانا. . . تفضل وأرنا همتك)
وصدمته صدمتين، ثم تركته لمن هو أولى بذلك، فلما خرج نظر إلي وقال:(وصلتنا منك زقات يا سيدي. . نشكرك)
فقالت له إحدى الفتيات: (لو كنت ركبت معي يا دكتور؟؟. . .)
فقاطعها وقال: (إذن لكانت الزقات قد كثرت يا ستي. . كلا! الخيرة في الواقع)
وهكذا ودعنا مدينة الملاهي. . . . . فليتها تعود لنودعها مرة أخرى. . . .
إبراهيم عبد القادر المازني
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
الدفتريا
بين واجد سمها الفرنسي، وكاشف ترياقها الألماني
وصل الفائت
اكتشف لفلار مكروب الدفتريا، ووجده في حلوق الأطفال، ولم يجده في أي جزء آخر من أجسامهم. فتعجب كيف أن المكروب لا يفارق هذه الحلوق؛ ومع هذا يسري بالموت في الأجسام. فتراءى له أن المكروب لابد يفرز سماً هو الذي يدور في الجسم فيميت. فجاء أميل رو بعد ذلك فحقق رؤيا لفلار فكشف عن هذا السم، واستخلص وعرف خواصه، وأن الأوقية منه تقتل 75000 كلب
- 3 -
ولكن كان في مكان آخر بعيد عن باريس أميل آخر قائم في مثل هذا العمل ناصب فيه. هذا أميل أغسطس بارنج كان يشتغل في معمل كوخ ببرلين، في ذلك البناء المهدم الذي يسمى المثلث في شارع شومان. ففي هذا البناء أخذت الحوادث تتمخض عن أمور جليلة، وكان به كوخ، ولم يكن الآن دكتور القرية الصغير الخامل، بل كان السيد الأستاذ، ومستشاراً من مستشاري الدولة صاحب جاه ورب ذكر، ولكن برغم هذا لم تضق قبعته برأسه وكان ينظر على عادته من خلال نظارته المعهودة ولا يتكلم إلا قليلاً، وكان نصيبه من احترام الناس كبيراً هائلاً، وكان عندئذ مشغولاً بأمر علاج للسلّ خال أنه اكتشفه. فكان يحاول أن يقنع نفسه على الرغم منها بأنه علاج صادق، وكان هذا بسبب إلحاح السلطات عليه فيه، (والعلماء يلعنون السلطات بحق أحياناً على الرغم مما يكون من جودهم وسابغ
كرمهم)، أو على الأقل بهذا يتحدث اليوم شيوخ صيادي المكروب الذين حضروا ذلك العصر ولا يزالون يذكرون أحداثه المجيدة
(لقد أسبغنا عليك الشارات، وأعطيناك المكرسكوبات والخنازير الغينية وما إليها، فلا أقل من أن ترد الجميل فتكشف لنا عن علاج كبير يدوي خبره في الآفاق، فيبني للوطن الألماني مجداً كالذي بناه بستور لوطنه الفرنسي). هذا ما كان يسمعه بستور كل يوم. هذا صوت الغواية الذي يطرق أذنه كل حين، وإلى هذا الصوت استجاب كوخ أخيراً، ومن ذا الذي يلومه؟ وأي إنسان يقوى على الثبات على طريق العلم السوي، وإلزام نفسه أسلوب البحث الحق، والحكومات إلى يمينه تصيح به أن يجد لها مكانة في السماء، والأمهات إلى يساره تصرخ له عسى أن تجد لأولادهن الهالكين بين الأحياء. نعم إلى هذا الصوت استجاب كوخ، فكشف عن حتفه بظلفه، وأعلن للدنيا اكتشافه التوبركولين علاجاً للسل ورحمة للمسلولين، فكان من إخفاقه الذي كان، ولكن ما لبث كوخ أن قام يكفر عن هذا بإعانة الشبان من أعوانه في الكشوفات البارعة التي كانوا فيها، ومن هؤلاء الشبان أميل بارنج، وكان باحثاً شاعراً أعانه كوخ بقريحته النقادة الباردة، صوب ضوء مصباحها الهائل على أعماله، فاستعرف بارنج في نورها الساطع على ما يأخذ به، واستعرف فيه على ما يَدَع
أي بيت لصيادة المكروب كان بيت (المثلّث) هذا. كان قذراً معتما كالقبر، ولكن اجتمع فيه رجال كوخ الشباب فبثوا فيه الحياة بتجاربهم المتواصلة، وهزوا جدرانه هزاً بصراخهم وحجاجهم فيه، وكان من بينهم بول إرليش يُعقب السيجارةَ أختها، ويلوث يديه وثيابه حتى وجهه بكل صبغة من كل لون من ألوان الطيف، وكان قائماً بتجارب طموح، يحاول بها أن يعرف كيف ترث أطفال الفئران عن أمهاتها الحصانة من بعض سموم النبات. . وكان من بينهم كيتاساتو وكان يابانياً ذا وجه أقور كالدائرة، وكان قائماً يحقن بَشِلاّت كُزاز الفك في ذيول الفئران، ثم هو يصبر حتى تصبّ البشلات سمها في الفأر، ثم يقط ذيولها الوبيئة ليرى هل يقتلهما السم وحده وهي بتراء. . . . وكان من بين من كانوا في هذا البيت رجال آخرون، بعضهم ذهب الزمن باسمهم، وبعضهم اشتهروا وخلد ذكرهم، واختصاراً قامت هذه العصابة الألمانية تبغي هزيمة الفرنسيين تحت وابل من التجارب
هائل، وتريد أن تسبقهم إلى تخليص بني الإنسان من أرزاء دنياهم
والآن نريد أن نخض بالذكر من بين هؤلاء أميل بارنج. كان شاباً عدا الثلاثين من عمره، وكان طبيباً في الجيش، وكانت له لحية آنق من لحية كوخ، ولكنها كانت أقل دلالة على فتق الحيلة وابتكارها؛ مع هذا وبرغم أسلوب لحيته المُرسل، كانت له رأس الشاعر؛ وبرغم حبه للفصاحة وإغرامه بفنون البلاغة، لَزِم خوان معمله بقدر ما لزمه أي باحث آخر. وبينا هو يكشف في دم الفئران عن مادة تقتل بشلة الجمرة، كان يصف كشف أستاذه كوخ لبشلة السل بأنه في المجد مثل قمة جبله الحبيب بين جبال الألب، وهي في بياض الثلج ولون الورد، ولزمته فكرتان ما فتئتا تطوفان برأسه. فكرتان علميتان ومع ذلك تمتان إلى الشعر بنسب قريب. إحداهما أن الدم أبدع سائل يدور في جسم حيّ، والثانية أنه لابد من وجود مواد كيميائية تقتل فتمسح المكروبات من أجسام الإنسان والحيوان مسحاً دون أن تضر بها وهذه الفكرة الأخيرة سبقه آخرون إليها
قال (سأجد مادة كيميائية تُبرئ من الدفتريا!)، وحقن طوائف عديدة من الخنازير الغينية بزريعات قتالة من مكروب الدفتريا. فلما مرضت، وازدادت مرضاً، حقن فيها كثيراً من المركبات الكيميائية. فجرب فيها أملاح الذهب، وهي أملاح غالية، وجرب النفتيل أمين وحقنها بما يزيد على عشرين مادة بعضها عادي مألوف، وبعضها غريب نادر. عرف أن هذه المواد تقتل المكروب في أنبوبة الاختبار دون أن تضر بزجاجها، فآمن في سذاجة أنها لابد تقتل هذا المكروب تحت جلد الخنزير الغيني دون أن تضر به. ولكن خاب إيمانه وا أسفاه. وامتلأ معمله بالخنازير الميتة والتي هي في سبيل الموت فكان كبيت الجزارة، وكان في ذلك مما يكفي ليقنعه بأن الفرق بين عقاقيره والمكروب في الأذى غير كبير. وأن كليهما يفتك بالخنازير، وزادت أكوام الجثث حوله، ومع هذا لم ينقص إيمانه بأن هذا العُقّار العجيب الذي سيشفي من الدفتريا لا يزال مختبئاً بين صفوف المواد الكيمائية، وهي ألوف في الوجود، وأخيراً وقع من بحثه الذي أفرغ فيه كل عزمه وخبط فيه على غير هدى، وقع على مادة ثالث كلورور اليود
ضرب بمحقنه جرعات عدة من بشلة الدفتريا تحت جلود بضعة من الخنازير، وكانت جرعات تكفي لقتلها. ومضت ساعات قليلة فأخذ المكروب يفعل فعله، فتورم الجلد حيث
ضرب المحقن، وأخذت الحيوانات تميل برءوسها: فما مضت ست ساعات حقن بارنج فيها كلورور اليود. وانتظر ما يحدث لها فقل رجاؤه فيها وظن أن الإخفاق جاءه مرة أخرى. ومضى النهار ولم تتحسن الحال. وجاء الغد فبدأت الخنازير تخور. فأخذها وأرقدها على ظهرها ثم أخذ يخزها بإصبعه ليرى هل تعود فتقف على أرجلها. قال لأعوانه وهم في دهشة مما يسمعون: (إذا أنتم وخزتم الخنزير وهو على ظهره فاستطاع القيام، علمتم أن الرجاء لم ينقطع فيه بعد) هذا هو محك الأمل عنده! هذا هو مقياس الرجاء! مقياس تعوزه الدقة إعوازاً شديداً، وينقصه التهذيب نقصاً كبيراً. تخيل ما يكون الحال أن طبيباً اتخذه وسيلة يعلم بها أيطيب مريضه أم يموت. وقلّت حياة الخنازير المحقونة بالكلور فقلّت حركتها عند الوخز حتى انقطع منها الرجاء
وذات صباح جاء بارنج معمله فوجد الخنازير واقفة على أرجلها! كانت لا تكاد تستقر عليها، وكانت نحيفة غاية في النحف، ولكنها كانت آخذة في الشفاء! نعم آخذة فعلاً في الشفاء من الدفتريا بعد أن هلك قبلها من رفقائها ما هلك
وهمس بارنج لنفسه! (لقد شفيت من الدفتريا!)
وتملكته رغبة حادة أن يشفى بهذه المادة اليودية خنازير أخرى. فكانت هذه الحيوانات المسكينة تموت أحيانا من المكروب، وأحيانا كان يقتلها هذا الدواء. وفي القليل النادر كان يشفى خنزير أو اثنان فيقومان من المرض على حال كالموت. لم يكن في هذا العلاج الفظيع يقين، ولم يكن فيه منطق ولا توافق وانسجام. والخنازير التي اشتفت به لاشك ودت أنها ما اشتفت، ذلك لأن الكلورور بينما كان يبرئها مما بها، كان كذلك يحرق جلودها فتتخرق خروقا تظل متقرحة لا تلتئم، فلا تلبث أن تصطدم بشيء حتى تصيت هذه الحيوانات المسكينة من ألمها الشديد. تلك حال مفجعة لا ترضاها القلوب
ومع هذا فالحقيقة الواقعة أن بارنج كان بين يديه قليل من تلك الخنازير لولا هذا اليود لقتلتها الدفتريا، لولاه ما سعت بين يديه كما تسمى. إني أفكر كثيراً في أمره هذه القوة الخفية الدفاعة التي لا تفتأ تغري بارنج وأمثال بارنج بعلاج الأمراض. فبارنج وأمثاله لم يجروا فيما صنعوا وراء الحقيقة، ولم يدأبوا ما دأبوا لجنوا المعرفة، بل هم إنما مارسوا التجربة طلباً للعلاج، وتسلط عليهم طلب العلاج فطلبوه جنونا، فأجازوا قتل الحيوان حتى
الإنسان بداء ليخلصوه من داء آخر. . . . لم يقفوا عند حد، ولم تثنهم عما طلبوا مخافات. . . . من ذلك أن بارنج قام يجرب هذا الكلورور النفاط الكاوي في الأطفال المرضى بالدفتريا وليس لديه من دليل على صلاحه غير تلك الخنازير القليلة النحيلة الهشيمة
وعاد من تجربته يقول: (لقد جربت كلورور اليود في أطفال مرضى بالدفتريا، واتبعت في ذلك الحذر والحيطة ما استطعت، فخرجت على نتائج لا تشجع أبدا. . .)
ولكن تلك الفئران الضعيفة التي نجت من الدفتريا بفعل هذه المادة كانت لا تزال بين يديه، كانت لا تزال تقع عليها عيناه فتعلق بارنج من أجلها بوهمه القديم، أنه لابد خارج من هذه المجازر ببعض غايته. وتعطفت عليه المقادير، فأخذ يتفكر، وإذا به يخرج من الفكر فيتساءل: أتكون هذه الفئران قد تحصنت الآن من الدفتريا بعد الذي جرى لها. وما لبث أن جاء بها وحقن فيها جرعات هائلة من بشلة الدفتريا - فاحتملتها! نعم احتملتها فلم تستقم شعرة واحدة على جلودها برغم هذه الملايين من المكروبات وهي كفيلة بقتل عشرة منها. إنها حصينة كما خال!
وكانت عندئذ ثقته في المواد الكيميائية ضاعت، فلم يعد يطلب من بينها علاجاً للدفتريا. وكيف لا تضيع بعد هذا العدد الهائل من جثث الحيوانات الذي أرسله إلى أسفل البناء ليقوم الخدم بإحراقه. أضاع أمله في الكيميائيات، ولكنه تمسك برأيه القديم عن الدم، فكان لا يزال يرى أنه أبدع سائل يدور في جسم حي. أعجب به حتى عبده. واتقد خياله فارتأى له فضائل لا ترى وخصائص غريبة لم تسمع. فقام إلى فئرانه العاجزة الضعيفة التي برئت من الداء فمص شيئاً من دمها، مصه بمحقنه من شريان في رقبتها، ثم أودع هذا الدم أنابيب من الزجاج، ثم ترك هذه الأنابيب حتى انفصل من الدم مصله الرائق الأصفر، فصعد مخلفاً في أسفل الأنبوبة قطعه الحمراء؛ ثم مصّ هذا المصل في أنبوبة صغيرة، ثم خلطه ببشلات الدفتريا الفاتكة
وتفكّر بارنج: (لاشك أن دم الفئران به شيء يحصنها من الدفتريا. لاشك أن به شيئاً يقتل بشلات الدفتريأ. . .)
ثم نظر إليها في هذا المصل من خلل مجهره وهو يؤمل أن يراها تنضر ثم تموت، فلما حدق فيها وجدها ترقص وتزيد، إذن هي لا تموت بل تزيد وتربو، أو على حد قوله
الأسيف في بعض ما كتب (تتكاثر في وفرة عظيمة). ولكن مع هذا فالدم سائل عجيب بديع. ولابد إليه ترجع حصانة هذه الخنازير. وهتف في نفسه هاتف يقول: (وعلى كل حال ألم يثبت هذا الفرنسي رو أن البشلات لا تقتل بل الذي يقتل هو السم الذي تصنعه؟ ألم تلبث أن سم الدفتريا لا بشلاتها هو الذي يقتل الأطفال والحيوانات؟. . . إذن فلعل هذه الخنازير الغينية التي شفاها الكلورور قد تحصّنت من سم الدفتريا!)
وأخذ في التجربة. وبعد زمجرة وأفأفة، وبعد تبلل وتقذر قمينين بكل شاعر عالم، جهّز بارنج حساء احتوى سم الدفتريا وخلا من مكروبها. وأخذ من هذا الحساء فحقن جرعات هائلة تحت جلود خنازيره الحصينة وكان قد تناقص عددها. فإذا بها حصينة تجاه السم. وأخذت قروحها الماضية تلتئم، وأخذت تكبر سِمَنا. هذا أمر لاشك جديد في علم المكروب. أمر ربما كان ارتآه رو ولكنه لم يتحقق على يديه. حمى بستور الشياه من داء الجمرة، وحمى الأطفال وحصنّها من عضة الكلاب المسعورة، ولكن هذا الذي أتاه بارنج غير هذا وذاك. هذا أمر طريف يقف العقول حيرى. بارنج يصيب الخنازير بالدفتريا، ثم هو يشفيها منها بعلاج فظيع كاد يوردها الموت، ثم هو بذلك يحصّنها من سم الدفتريا الفتاك، من ذلك السم الذي تقتل الأوقية منه 75000 كلب
(صاح بارنج: (في هذا الدم لاشك يوجد الترياق الذي يحمي هذه الخلائق، وفيه لابد أنا واجده!)
وكان لابد له من الحصول على شيء من هذا الدم، ولكن لم يبق لديه من هذه الخنازير الحصينة شيء، أو لم يكد يبقي منها شيء، فعمد إلى خنزير قديم منها كان استنزف دمه مراراً، فشق رقبته يبحث عن الشريان الذي يمص منه الدم فوجده انعدم؛ أو كاد من كثرة ما عاوده. فأخذ ينكش حتى حصل على بقية قليلة من الدم جاء بها من شريان في رجل هذا الحيوان. له الله من حيوان جدير بنا أن نذكره بالحسنى. لقد قاسى بارنج في أيام هذه التجارب ألماً نفسياً كبيراً، كما قاست حيواناته ألماً جثمانياً كبيراً. فلو أن رحمتنا تُقّسم بينهما، بين بارنج وحيواناته، ما درينا أيهما أحق بأكثرها. كان يستيقظ كل يوم فيذهب تواً إلى معمله وهو متوتر الأعصاب ليطمئن على حياة هذه الخنازير الحصينة، هذه الخنازير القليلة المتناقصة التي لا تُشترى بمال. . . . وعلى كل حال حصل أخيراً على قطرات
قليلة من مصل حصين. فمزجها في أنبوبة من الزجاج بمقدار كبير من حساء كان ربّى فيه مكروب الدفتريا لكي يبث فيه من سمه. ورشح الحساء قبل مزجه بالمصل ليخلص من المكروب
وحقن من هذا الحساء الخليط في خنازير غينية جديدة غير محصّنة - فإذا بها لا تموت
صاح بارنج: (صدق جوتيه الشاعر العظيم حين قال: (إن الدم عصير غريب))
وأخذ يستعد بعد ذلك لتجربته الحاسمة الشهيرة، وعين كوخ الإمام الأكبر لا تبرح تنظر إليه، وتجمعت حوله تلك العصابة الصغيرة المجنونة من رفقائه في ذلك العمل، وازدحموا وقد انحبست أنفاسهم في انتظار ما قد تتمخض عنه هذه التجربة الكبرى، فخلط سم الدفتريا بمصل أتى به من دم خنزير سليم لم تصبه الدفتريا يوما، ولم يتحصن منها أبداً. ثم حقن هذا السم الخليط في خنازير جديدة، ففعل فعله المنتظر فيها. ولم يعقه عن ذلك المصل الذي خالطه، فساء حالها بعد ثلاثة أيام وسرى فيها برد الموت. ووضعها على أظهرها ووكزها ولكنها لم تبد حراكا، ولم تمض ساعات حتى لفظ آخر أنفاسها وذهبت إلى حيث يذهب الأموات
فصاح بارنج: (إن مصل الخنازير الحصينة - مصل الخنازير التي أصابتها الدفتريا ثم اشتفت منها - هذا المصل وحده هو الذي يقدر على محو سمها. وكأني بك تسمعه يتمتم لنفسه وهو المداوي الكبير: (والآن فلعلي قادر على تحصين حيوانات أكبر، فاستخرج مقادير أكبر من هذا المصل الذاهب بسم الدفتريا، وعندئذ آخذ في تجربته في الأطفال المصابين. . . . . إن الذي يشفي الخنازير الغينية لابد أن يشفي الأطفال)
في العدد القادم: بارنج يجرب مصل الدفتريا في الأطفال
أحمد زكي
حِيَلُ الضمير
للأستاذ عبد الرحمن شكري
الضمير عند بعض الناس ترس الخائف الذي يحتمي بمجنه، وهو عند غيرهم سلاح الصائل، وعند آخرين آلة نصب واحتيال، وعند غيرهم بمنزلة الثياب الجدد التي يلبسونها أيام الأعياد والمواسم والصلوات ويخزنونها في الأيام الأخرى وهو تارة كالمصباح المنير
وترى كثيراً من الناس يكثرون من ذكر ضمائرهم أو يفعلون ما هو أدهى من ذلك فيكثرون من ذكر العدل والحق، وهي لقيمات يطريها كل منهم ويود أن يضعها في فم غيره، وهي أحمال وأثقال يمدحون الاضطلاع بها وكل يود أن يضعها على كتف غيره أو على عنقه، وما ذلك إلا لأن الناس ينشدون السعادة، والسعادة لا تكون إلا إذا اصطلح شر الحياة وضمير الإنسان، وإذا اصطلح المثل الأعلى ومثل الحياة الدنيا، وقد يكون فكر المرء وقوله خيراً من خلقه وفعله، لأن أعمال المرء رهينة بإحساسه لا بفكره وقوله، وقد يكون فكره نبيلاً وقوله جليلاً ولكن إحساسه يدفعه إلى سبيل غير سبيل هذا النبل والجلال في القول والفكر
ولما كانت الرذيلة أحوج الأشياء إلى مظاهر الفضيلة عم الكذب والرياء بين الناس انتفاعاً بمظاهر الفضيلة وحقيقة الرذيلة من كسب أو متعة. وهذه المظاهر تجوز على الناس ويحسبونها فضيلة أو هم يدعون الانخداع لها رغبة في التقرب إلى صاحبها والانتفاع برضائه عن انخداعهم بظواهر نفسه، وهذا منشأ انقلاب أوضاع الحياة، وهم يطلبون منه أن يدعي الانخداع بظواهر نفوسهم كما ادعوا الانخداع بظواهر نفسه، والمسألة كلها مسألة كسب يتبادل فيتعاونون على الحياة بتزكية كل منهم الآخر
وللضمير وسائل أخرى لتزكية النفس كأن يخلع صاحبه عيوب نفسه على غيره، ويلج في معاداته كي يبرئ نفسه فتكون لجاجته في خلع عيوبه على غيره دليلاً على عيوبه كما تكون لجاجة الأجرب في الحك دليلاً على موضع الجرب منه في نظر الطبيب
وكثيراً ما يتحمل الضمير الأعذار من أجل رغبة صاحبه في الأذى ولذته في الإساءة إلى الناس، وعوامل الشر في نفس المسيء قد لا تكون في حاجة لمسوغ يثيرها ولكنها تكون في حاجة إلى فرصة تستخدمها حتى ولو لم يكن لها مسوغ، فإن مسوغ الإساءة في كثير
من الأحايين في نفس المسيء لا في عمل من أسيء إليه لأن كثيراً من النفوس بها شهوة إلى الأذى إذا أرضتها أحست راحة وسعادة في إرضائها، غير أن بعض شهوات الأذى لا يرضيها إلا ما أرضى نفوس قدماء الرومان عند رؤية الوحوش تفتك بالأجسام، وبعض شهوات الأذى تكتفي بالغيبة والنميمة والكذب، وعواقب هذه قد لا تقل عن عواقب تلك جرماً وجناية وإن كان صاحبها لا ينعت بالمجرم الجاني وإن كان ضميرها أهنأ الضمائر بالاً وأرواحها خاطراً
والضمير كثيراً ما يكون في الحياة كالسفينة الصغيرة في البحر المحيط الذي هاجته الأعاصير فقد لا تغرق السفينة كما لا يغرق الضمير ولكنها تضطر أن تسير في مهب الإعصار كما يسير الضمير في مهب أعاصير الميول النفسية وما تقتضيه من كذب ونفاق
والكسب والجاه والصداقة والغرور هي العقاقير التي تخدر الضمائر بها، وهي البلسم الذي تداوي به آثار وخزاتها، وهي المادة اللزجة التي تطلى بها الضمائر كي يصطاد بها أصحابها طيور السعادة واللذات والمكاسب كما تطلى الغصون بتلك المادة اللزجة التي تلتصق بها العصافير على غصون الأشجار ثم يأتي الصائد فيجمعها أو هي المادة اللزجة الأخرى التي يطرد بها الذباب اللاذع المسمى بخواطر التأنيب والوخزات
ومن أجل ذلك كثيراً ما ترى ضمير المرء عوناً للجاني الذي يرجى نفعه أو جاهه أو وده أو يرجى منه إرضاء غرور صاحب الضمير المناصر له. والناس في سرائرهم يعرفون أن ضمائرهم ليست دائماً مصباح الهداية الذي يدعونه، والإنسان يتجنب فحص نفسه والبحث عنها، وإذا كلف أو دفع إلى ذلك حاول التخلص من فحص نفسه فيقلب فحصها إلى حديث فيحدث نفسه أو تحدثه ويمنيها أو تمنيه، ثم يعود فيقول إنه فحص نفسه وهو قلما يفعل ذلك إلا إذا دهمته مصيبة تجعله يشك في نفسه فيفحصها فإذا لم تدهمه مصيبة تجنب فحص نفسه إلا إذا كان مريضاً بداء الخوض في النفس وفحصها وقد يكون مرضاً إذا استفحل وعم وتطلب منه كل وقته، ولكن مرض البحث في النفس هذا مرض نادر في الناس وأكثرهم لا يبلغ به البحث في نفسه منزلة صغيرة أو كبيرة ولو أن هذا البحث في النفس أصبح عادة لقل شرهم من غير أن يمنعهم بحثهم من الإقدام في الحياة إلا إذا استفحل وهو قلما يستفحل فيدعوهم استفحاله إلى الشك والتردد والإحجام واتهام النفس في كل أمر
ولولا أن الناس يعلمون عن عيوب ضمائرهم وضمائر الناس الشيء الذي يحاولون إخفاءه ما كثر سوء ظنهم بالنفس الإنسانية، ومن العجيب أنهم يحاولون جعل حسن الظن بالنفس الإنسانية مبدأ عاماً وهم في سريرتهم يسيئون الظن بكل نفس من نفوس الناس، وهذا الاختلاف بين المبادئ النظرية والمعتقدات العملية أمر تشوق دراسته، والقصد من تلك المبادئ النظرية حمل الناس عليها للانتفاع بها لأن كل إنسان يود أن يحسن غيره به الظن وأن يسيء هو الظن بغيره، ومن عجائب الضمائر أنها قد تغري أصحابها بأن يعتقدوا إذا حلت بأعدائهم مصيبة أن المصيبة حلت بهم لأنهم أعداؤهم
والخبرة بالضمائر ينبغي أن تحذر المرء إذا رأى متخاصمين فلا يقول إن أحدهما فاضل ذو حق والآخر ناقص ذو باطل، فقد يكون كل منهما على حق أو على شيء من الحق أو على باطل، وقد يكون الأكثر حقاً هو الأكثر حظاً من الفضيلة، أو بالعكس قد يكون الأكثر حقاً هو أقلهما حظاً من الفضيلة، وقد يكون المناصر للحق والفضيلة بشعوره وعواطفه وبيانه هو أقلهما حظاً من الفضيلة، ولكن النفوس قلما تتقصى كل هذه الأمور ولا أهون عندها من أن تحكم بغير علم وأن تورط ضمائرها فيما حكمت فيه بغير علم، ومع هذا التورط فإن الناس قد يعرفون أن جليسهم غدار مغتاب بذيء اللسان فلا يمنعهم يقينهم وعرفانهم من مؤاخاته، وتتغابى ضمائرهم وتتعامى عن عيوبه وعن شره وقبح نفسه مادام مرجو النفع، فضمائرهم تتورط في الحكم بغير علم وتمتنع عن الحكم على علم
وفي الخليقة صنف آخر من الضمائر تكون أسقاماً عند أصحابها وتعظم عيوبهم في أعينهم، وهذا مرض نادر مثل مرض إيغال المرء في فحص نفسه
وضمير صاحب الشعور النبيل له أن يطالب بألا يعاقب على نبل شعوره ولكن ليس له أن يطلب جزاء أو شكوراً، إذا كان جزاؤه في نبل شعوره وإذا كانت مسرته فيه وشقاؤه في غيره
عبد الرحمن شكري
النيل
أبرز (شخصية) في العالم
عن مجلة (اتال) الفرنسية
إن المشكلة الحبشية مهما يكن حلها هي في الحقيقة وليدة معضلة النيل وذيولها الخفية
سُئل مرة الكولونيل لورنس: (أية شخصية في العالم أكبر نفوذاً وأعظم شأناً؟) فأجاب هذا الرجل الغريب الذي يعد أكبر مخاطر في عصرنا بكلمة واحدة هي: النيل
إن في جواب لورنس ما يدعو لأول وهلة إلى الاستغراب لأنه أنزل النهر منزلة العاقلين وجعل منه (شخصية) بارزة، ولكنه لم يخرج بتحديده وتعريفه عن اعتقاد قدماء المصريين في النيل، فضلاً عن أن للكونيل لورنس ولكل إنكليزي سبباً يحمله على مجاراة الأقدمين في اعتقاده. وهذه الرواية التي تمثلها إيطاليا وإنكلترا ويخشى أن تنتهي بمأساة عالية، أليس بطلها هذا النيل، بل هذه الشخصية المقدسة التي عبدها الإنسان قديماً ولا يزال يعبدها إلى اليوم؟
ما فتئت بريطانيا العظمى منذ أنشأت إمبراطوريتها الاستعمارية تطمع في السيادة على البحار، وفي التسلط على أهمّ المعابر البحرية حتى تم لها ذلك؛ ففي قبضتها الآن كل المغاليق التي تؤمن مواصلاتها بتلك الإمبراطورية المترامية الأطراف، وأخصها الهند كبرى مستعمراتها وأغناها وأصعبها مراسا
أدركت إنكلترا منذ حملة بونابرت على مصر أن تأمين طريق الهند يقضي ببسط نفوذها على بلاد الفراعنة دون أن يشاركها فيه أحد. ثم جاء فتح قنال السويس باعثاً آخر على تشبثها بهذا النفوذ. ومن تدبر سياسة إنكلترا في خلال قرن كامل رآها تدور كلها على محور واحد، هو سلامة طريق الهند. فكل شبح تتخيل فيه ما يمس هذه السلامة عاجلاً أو آجلاً حاذرته وسعت إلى طمسه. هكذا فعلت وكذا تفعل الآن في موقفها السلبي تجاه الغزوة الإيطالية
إن الإنكليز الذين يقبضون في السويس وعدن على مغلاقي البحر الأحمر لم يزعجهم وجود إيطاليا في إريتيريا، ولكنهم وجفوا إذ رأوا موسوليني طامعاً في البلاد التي ينبثق منها النيل الأزرق، ولذلك نراهم يلجئون إلى كل الوسائل لإحباط مساعي الرجل الذي يحلم بإعادة
الإمبراطورية الرومانية
النيل واهب الخيرات
النيل إذن شخصية كبيرة كما عرفه الكولونيل لورنس، وقد يكون أكبر شخصية في تاريخ الشعوب التي عمرت شواطئ البحر المتوسط. قال هيرودوت قديماً:(مصر هبة من هبات النيل) وهذه حقيقة لأن مصر قيمتها بنيلها، ولولاه لكانت مفازة قاحلة لا شأن لها، فهي شقة من الأرض تمتد من النوبة إلى الدلتا ويجري فيها خط طويل دائم الاخضرار، ولولا هذا المجرى الحيوي الذي ينساب في أحشائها ويروي غليلها لما كان للإنسان والنبات والحيوان حياة فيها، لأنها لا تعرف المطر إلا نادراً
في شهر يونيه ترتفع مياه النيل فتفيض على الأراضي ناشرة عليها طبقة من الغرين الذي يعد من أحسن أنواع السماد. ويبلغ معظم فيضانه في أول أسبوع من شهر أغسطس، فترتفع مياهه إلى ستة أمتار، ثم تتناقص تدريجاً فيأتي الفلاح ويشق وجه الأرض بسكته التاريخية التي تشابه سكة سلفه منذ ألوف السنين ويستغل خيراتها في شهري أبريل ويونيه
جعل النيل من مصر بلداً خصباً غنياً، فلا غرو أن سبق المصريون الأقدمون شعوب الأرض في ميادين الحضارة والثقافة. كانت مصر موطئاً لثماني عشرة سلالة من الفراعنة قبل ظهور موسى، وكانت مسرحاً للحوادث التاريخية الكبيرة قبل أن تظهر للوجود أشور والفرس واليونان. ثم كانت مقصداً لطلاب العلم والفلسفة والثقافة من جميع الأنحاء، فهي إذن كانت مهذبة الإنسانية وحاملة نبراس المدنية في العصور القديمة
ولكن إلى أي شيء يعزى تفوقها في تلك العصور التي كانت شعوبها في حالة البربرية؟ كلمة واحدة تجيب على هذا السؤال، وهي: النيل
لقد تعلم المصري القديم كل شيء من نيله، ولأجل نيله استنبط علم الفلك لكي يحدد أوقات الفيضان، واخترع التقويم والحساب، وعلم الهندسة والمساحة، وإنشاء السدود وشق الترع، لكي يستثمر النيل وينتفع بخيراته. وإننا لنجد ذكر النيل ورسومه في أساطير مصر وفي كتب ديانتها، وفي كل شأن من شؤونها، فهو من مصر كالروح من الجسد
منبع النيل:
أين منبع هذا النهر العجيب واهب الخيرات؟
كان في اعتقاد الأقدمين أن مخرج النيل من جبال القمر، وهذا الاعتقاد الذي يظهر لأول وهلة أنه وليد الخرافات مبني على حقيقة عرفت يوم اكتشف منبعه الأصلي، وهي أن أصول النيل تخرج من أعالي (أوجاموازي)، وهذه اللفظة معناها (بلاد القمر). وقد ظلت هذه الأصول مجهولة حتى أواسط القرن الماضي؛ وحاول كثيرون من الرحالة أن يهتدوا إلى منبع النيل فلم يظفروا بطائل؛ فمحمد علي أوفد ثلاث بعثات بين سنتي 1840 و1842، فكان نصيبها الإخفاق؛ والفرنسي دارنو لم يصل إلى أبعد من الدرجة 42 من العرض الشمالي؛ والإيطاليان مياني ودبونو، والإنكليزي بتريك، والفرنسي لاجان، لم يجاوزا الدرجة الثلاثين. وظل منبع النيل سراً مجهولاً إلى أن اكتشف الرحالة الإنكليزي سبيك بحيرة تانجانيقا بين سنتي 1857 و1859 فإذا هي مصدر النيل. وفي سنة 1860 عاد يرافقه جرانت فحدد بتدقيق مخرجه. فمنبع النيل الأبيض إذن هو بحيرة تانجانيقا العظيمة التي تزيد مساحتها على 70 ألف كيلو متر مربع، وموقعها يعلو عن سطح البحر نحو 1300 متر
يتألف النيل الأبيض من شلالات ريبون، ويسير قاطعاً المستنقعات والقفار والبحيرات، وضاما إليه بعض الأنهر الصغيرة حتى يصل أرض الفراعنة، فينساب بين سهولها وحيدا لا يعترضه شيء إلى أن يصب في البحر المتوسط. وطوله من منبعه إلى مصبه 6280 كيلومترا، وهو أعرض من نهر الأمازون في البرازيل، وأطول من المسيسيبي في الولايات المتحدة
أما النيل الأزرق فمصدره بحيرة تانا في الحبشة، ويتصل بأخيه النيل الأبيض عند الخرطوم عاصمة السودان. وهو غزير المياه ولاسيما في فصل الأمطار في الحبشة. ومدته من يونيه إلى أواخر أغسطس. ولولا النيل الأزرق لما أروى النيل الأبيض وحده أراضي السودان ومصر، فهو إذن عامل كبير في حياة تلك البلاد الواسعة؛ ولا يمكننا أن نتصور مبلغ نكبة مصر بفقدانها هذا المجرى الحيوي
الحبشة والنيل الأزرق
إن بلداً كمصر يتوقف عمرانها بل حياتها على نهر، لا بدع أن يهتم أولو أمره قديماً وحديثاً بالموضع الذي يخرج منه هذا النهر ويراقبوه بعين يقظى. وكما يشغل اليوم بال الإنكليز خطر تحويل مجرى النيل الأزرق إذا ما استولت على الحبشة دولة قوية، كذلك كان يشغل أفكار الفراعنة منذ ألوف السنين مثل هذا الخطر، فكانوا يحاولون دائماً التسلط على الحبشة التي كانوا يدعونها بلاد كوش لكي يأمنوه. ولم يكن الأحباش أنفسهم غافلين عن هذه الفكرة ولكنهم لم يستطيعوا إخراجها إلى حيز العمل الكبير لافتقارهم إلى الأدوات اللازمة، وحتى اليوم لا يزال ضعف الإمبراطورية الحبشية وتأخرها في مجالي الحضارة ضمانة لسلامة مجرى النيل الأزرق. أما إذا استولت على الحبشة دولة أوربية صناعية مثل إيطالية، فما يمنعها غداً إذا أرادت أن تستثمر - كما تشاء - الثروات الطبيعية في بلاد مساحتها نحو ضعفي مساحة فرنسا أن تحول النيل إلى غير مجراه الحالي؟
إن هذه الفكرة وحدها كافية لأن ترعب إنكلترا التي ترى في تحقيقها خراب السودان ومصر، ولا عجب إذا رأيناها في موقف الجد والحزم إزاء المشكلة الحبشية التي هي في الحقيقة معضلة النيل وذيولها الخفية.
(ترجمة العصبة)
بعض ما يذكر
بعد الزهاوي!
بقلم عبد الوهاب الأمين
أصبح (الزهاوي) الآن في رحمة التاريخ الذي لا يرحم! ودخلت (كان) الخالدة عليه، فليس يشار إليه إلا بها. وذهب في عالم الشعر والخيال، بعد أن كان بشعره مرآة للحوادث المهمة في حياته وحياة عصره
ولقد كان في حياته - وما أشد وقع (كان) هذه! - يتمتع بعطف شديد من طبقة الأدباء، بقدر ما كان مغضوباً عليه من الطبقات المتعصبة، ولقد يكون من المناسب أن أذكر الآن أنني كنت ممن نقدوا شعر (الزهاوي) بشدة، وقد ساقني إلى ذلك وقتئذ اختلاف عصري عن عصره بطبيعة الحال وبعد شقة التفاهم بين عاطفة شيخ من أدباء القرن التاسع عشر وميول شاب في القرن العشرين لم يطمئنه ويرضه أدب لا يعبر عن ميوله؛ وكنت في ذلك الحين أترقب التشجيعين المعنوي والأدبي بنقدي ذاك، فما راعني إلا ذلك اللوم والعتاب الذي فجأني من جماعة كثيرين كانوا مجمعين على أحقية النقد، غير أن ذلك لم يمنعهم من أن يقابلوه بشيء غير قليل من التذمر! حتى لقد بلغني أن أحد من كان بيدهم الأمر حينئذ أشار إلى رئيس تحرير الجريدة التي كنت أشتغل بها أن يطلب مني الكف عن نقد (الزهاوي)!
وكنت في ذلك الوقت اشتغل بالصحافة، فلم يسعني إلا النزول على ذلك الطلب، وكففت عن الكتابة في تلك الجريدة، غير أني تابعت نقده في غيرها!
لقد أوخذ (الزهاوي) على بعض عقائد له جاهر بها في حياته، وعرف له فيها كثير من الإغراق والتطرف، كما أنه كان يجد على تطرفه هذا كثيراً من المشجعين. وفي رأيي أن المؤرخ الذي سيكتب تاريخ حياة (الزهاوي) جدير به أن ينظر في هذا الأمر بدقة عند كتابته حياة الفقيد، فعلى فهم هذه الناحية من حياة (الزهاوي) يتوقف تقدير أدبه ومدى تأثيره، وما له وما عليه، فلقد كان فقيدنا متطرفاً بالرغم منه. إذ أن ما اعتوره من الأمراض العصبية والأمراض الجسدية المزمنة، جعله كذلك؛ ومن هنا يدرك القارئ أن رأيه في (اللذة والألم) الذي ناقشه فيه الأستاذ العقاد قبل سنين، لم يكن مجرد إغراق منه كان يقصده
للظهور بمظهر المخالف، بل كان في الحقيقة يمثل حالته النفسية والعصبية، فقد كان يرى أن الألم في الحياة أمر قائم بذاته، وأن اللذة هي انعدام الألم، وذلك طبيعي بالنسبة له؛ فما كان يشعر باللذة في حياته إلا في الوقت الذي ينصرف فيه الألم الجسدي عنه!
وقد تنبه الأستاذ العقاد إلى هذه الناحية عند التعقيب على تلك المناقشة فأشار إلى أنه لا ينكر أن (الزهاوي) يكابد من حياته ما له دخل كبير في تمكين هذه العقيدة من نفسه
فالتطرف إذن هو الظاهرة التي تتركب عليها نفسية الزهاوي في حياته الشخصية وحياته الأدبية؛ وإذا أدرك الناقد أو المؤرخ علة ذلك في تكوينه وفي أعصابه، فسيدرك بطبيعة الحال أن الإغراق والتطرف في شعره قد يؤديان في بعض الأحيان إلى ظهوره بمظهر المنقلب على نفسه، وعلى ذلك فليس في شعر (الزهاوي) تناقض أو رجوع، بل هي حالات نفسية جارفة تقلبت عليه في وقتها فأنطقته بما خيل إليه أنه لا يتعارض وآراءه السابقة، أو للتخلص من الضيق الذي سببته له بعض آرائه الجريئة، كان يريد به تخفيف وطأة الطبقات المتعصية عليه؛ وفي هذه الناحية كان يبدو على شعره الشيء الكثير من التعمل الظاهر فيه حمله على نفسه، وهنا لا يصح اعتبار مثل هذه الحالات ميزاناً للحكم على آثاره الأدبية والشعرية
يخطئ أشد الخطأ من يفاضل بين الزهاوي ومعاصريه من شعراء العراق، فإنه فضلاً عن سخافة فكرة المفاضلة لن تتوفر فيها الشروط الأساسية المطلوبة، فإنهم ليسوا (معاصريه) حقاً ولا يمتون إليه بصلة العصر. بل كان عمره المديد المليء بخدمة الشعر والمساهمة فيه مثار الأشكال في فهم شعره وحياته. فهو من بقايا القرن التاسع عشر، وليس من رجال القرن العشرين، وما كان بوسعه أن يخرج على نفسه في هذا الأمر طيلة حياته
وإذا كانت خطوات البشرية في عصورها السابقة للقرن التاسع عشر قريبة المدى من بعضها، وإذا كان التشابه والتقارب بين تلك العصور موجودين فهما في هذا العصر قد بلغا آخر درجات التباعد. وقد مرت مئات السنين على البشرية في (عصور الظلام) فما كان لتلك السنين المديدة أن تؤثر تأثير بضع سنوات في نهاية القرن التاسع ومطلع القرن العشرين، فيكاد هذان العصران يمثلان (سن الرشد) للبشرية والدهر، ففيهما استيقظ الإنسان وأحس وأدرك، وظل كذلك يخطو بسرعة فائقة حتى لقد كاد أن يكون من المشكل التفاهم
بين الولد وأبيه. كأن بضعة السنين التي بينهما قد أقامت بين تفاههما حواجز العصور!
من هنا يدرك القارئ السبب في وجود هذا البعد الكبير بين نفسية (الزهاوي) وبين نفسية شباب اليوم وسبب نقمتهم على أدبه، ومع ذلك فقد أرضى (الزهاوي) كثيرا من نزعات الشباب وأفكاره، ودافع عن تلك الرغبات دفاعاً شغل حياته الطويلة ووسمها بسمات لا يستطيع مؤرخه إهمالها، فقد كان من مناصري المرأة والسفور والتجدد، وظل كذلك إلى آخر حياته، برغم ما جرته عليه هذه الأفكار من المتاعب له، ومن هنا أيضاً تتضح لنا أهمية الرجل في العصرين اللذين كان له نصيب الحياة فيهما، ومدى تأثيره في كليهما
وبعد فهل يحق لنا أن نتفاءل بهذه الحركة التي قام بها بعض المعجبين بأدب الزهاوي؟ وهل لنا أن ننتظر منهم غير ما تعودنا انتظاره في مثل هذه الحال من دراسة منتظمة لعصره وحياته وآثاره، أم لا تزيد هذه الهيجة على نصب تمثال له فقط؟
على كل حال، إننا ننتظر ونأمل أن تتشكل لجنة من المعجبين بشعره من الأدباء لتدوين تاريخ حياته، لأنه والحق يقال، قد كون في حياته فصلا كاملاً لحياة العراق في ملتقى عصرين مهمين من حياة البشرية
(بغداد)
عبد الوهاب الأمين
الحياة الأدبية في فلسطين
للسيد محمد تقي الدين النبهاني
مدارس الأدب في فلسطين مدرستان. مدرسة الشيوخ ومدرسة الشباب. ولا تستطيع وإن أجهدت نفسك أن تعثر بثالثة اللهم إلا أثفية سفعاء. وهذا التقسيم قد يكون طبيعياً بل قد يكون عاما لا يمتاز به قطر ولا تستأثر به بلد؛ غير أنه في فلسطين غيره في سواها؛ فأدب الشيوخ في أكثر الأقطار مطبوع بطابع المحافظة على القديم حتى لدى المجددين منهم، وأدب الشباب كلف بالجديد حتى لدى المعتدلين من هؤلاء. وإليك مصر زعيمة الأدب العربي تكاد تخضع لهذا المبدأ بالقوة إن لم يكن بالفعل؛ فالزيات وطه حسين وهما من دعاة التجديد لا تقرأ لهما لغة ولا تمر بفكرة حتى تقرأ ما بين السطور المحافظة على التراث القديم. أما فلسطين فأدباؤها الشيوخ مشتجرون وأدباؤها الشباب منشقون، ولا تستطيع أن تلمس فرجة تتاح لك منها فرصة التوفيق، وإنه ليهون عليك أن تجد بعض الجامع بين الشيوخ والشباب ويعتاص عليك التوفيق بين رأي الشيوخ أو رأي الشباب. ولعل ذلك ناجم عن جرثومة هذا الأدب وأن نهضته أسست على التقليد من غير أن تكون ملكة الاستقلال والنقد بارزة تميز صائب الرأي وتنفث خطله
ترى طائفة من الشيوخ أن الأدب في رفض هذا النحو المألوف لدى العرب في دراسة الأدب من إلمام بالقواعد ودراسة لجيد النثر ورصين الشعر، وتذهب إلى أن كتب النحو وأسفار البلاغة من أمثال كتب الجرجاني والقزويني حتى اليازجي وأسفار ابن هشام وابن مالك حتى الشرتوني والجارم يجب أن تحرق وينبغي أن تمحى، وأن هذا الشعر وتلك الخطب التي قرضها أمثال حبيب ودبجها زملاء زياد لا يجوز أن نجعلها ثقاف أدب لعقول الأدباء، وأن لغة الصحف والكلام العادي الذي يكتب بعيداً عن الفن نائياً عن مقياس الأدب القديم هو التأدب الحق فكفى المرء أدباً أن يقرأ حتى لو أخطأ رفع المبتدأ ونصب الحال مادام هو أو السامع قد فقه مغزى ما يريد. ويرضى من الكاتب أن يخط حروف الهجاء بكلمات تبين عن المعنى ولو مجملاً حتى يضحى بعد مدة كل عربي قادراً أن يفهم الأدب إذا ما قدر أن يتلو الكلمة بعد معرفته ربط الحروف. وهذا رأي ينادي على نفسه بالخطل ويجعل القارئ في شك من عقل صاحبه أو حسن نيته. ومن المؤسف أن نقول إن من
القائلين به مفتشين في المعارف وطائفة في أيديها أمر اللغة العربية في المدارس، ولا نود ذكر الأسماء لأنا نخشى أن يظن ذلك منا هجاء
وتزعم طائفة أخرى أن الأدب في التضلع من غرائب الكلم من مثل مبرنشق ومصمئل، وأن من لم يحط علماً بذلك ويستوي على شعر تأبط شراً وذي الرمة ويستظهر خطب المأمون الحارثي ومقامات الحريري لا يسمى أديبا
هذان رأيان من آراء الشيوخ وهما متناقضان، في أحدهما الهدم، وفي الآخر الجمود، لا تقوم بها نهضة، ولا يؤمل منهما إصلاح، لولا أن هناك طائفة ترى وجوب السير في نهج القديم والاستضاءة بضوء الحديث كرأي الأدباء الذين أخذوا على عاتقهم حمل مشعل الأدب. وهذه الطائفة لها أثرها ولها أنصارها، منها ذوو الطرابيش وأصحاب العمائم. غير أنه على غبطتنا بالطائفة الأخيرة ومقتنا للطائفة الأولى نقول: إن هذه الطائفة المعتدلة تقصر عملها وتحصر نهضتها في غرف الدرس وحلقات السمر، لم تخرج بعد ثمرة ولم تقم بمجهود، وأن الإكثار إنما هو لأولئك الهدامين، يكتبون ويتحدثون بما يرون بما لا يكاد يصح أن يسمى لغة عربية، ولا يكادون يقيمون لسانهم لحناً إذا ما تحدثوا دقيقة أو دقيقتين، ولكنهم على ذلك مكثرون وعاملون ما سمحت لهم المقادير
وطائفة الغريب منتجة غير أنه قليل، وعلى قلته لا يجد رواجا ولا ينفق إلا في سوق الراسخين
أما الشباب ففرقتان: فرقة كان موطن ثقافتها مصر، وفرقة رضعت لبان الأدب في فلسطين ولبنان، وبذلك تباينت عقليتهما وانشقت آراؤهما
فالذين تثقفوا في مصر يرون أن خير طريق لإنهاض الأدب هي الطريق التي تسير فيها جمهرة أدباء مصر، وهي أن تربية ملكة الأدب في دراسة نصوصه ونقد هذه النصوص وبحثها على المقياس الذي وضعه أولئك العلماء الذين أشفقوا على اللغة أن تضيع وخشوا فسادها على ضوء ما يجد من الآراء الصائبة وما يشرق من طرق البحث الأدبي القويمة. ولذلك تجد هؤلاء يتقلبون بين صفحات الأسفار ويأرقون لتحبير الرسائل والكلمات وينتقلون بين المدن والدساكر، يستملحون البيت من العشر، ويهشون للفقرة من النثر، ويهتزون طرباً لرؤية كتاب حديث يلتهمونه التهاماً، ثم يوسعونه نقداً، ويفتقون ما يصح من
رأي حصيف. وهؤلاء هم الذين يجاهدون في النهضة ويضعون أنفسهم حراس الأدب. يحيطون علماً بسيره في سائر الأقطار ويستلئمون لرد غارة دعي، وصد هجمة متطفل على الأدب يكيد له. ومهما لاقوا من عنت ووجدوا من قسوة، لا يأبهوا لما يكون حتى من أشد الشظف، ويؤيدهم في ذلك جمهرة من إخوانهم الذين تثقفوا في لبنان، وإن كان يكون بينهم نزر الخلاف
أما الفرقة الأخرى فهي تقصر الأدب على رقيق الغزل وبارع الخيال في الكلم، وما يبدع من مقالات الصحف السيارة. حتى ليعدون رئيس تحرير جريدة أديباً إذا ما أنشأ كلمة في علاج شؤون البلاد؛ وهؤلاء يريحون أنفسهم من عناء الدرس، اللهم إلا في كتاب حديث أو جريدة يومية، أو مجلة فكاهية، وجل مجهودهم قصيدة غزلية أو مقالة اجتماعية ينشرونها في نهر جريدة ما. وهؤلاء لا نشك في عقلهم ولا نرتاب في نيتهم، وإنما نفند رأيهم وندعي أن الميل إلى الراحة ومتابعة الأهواء والجري وراء غرائزهم هو الذي حدا بهم أن يسيروا في هذا النحو، وأن يعتنقوا هذا المبدأ، ولعلهم بعد يؤوبون إلى الحق أثناء سيرهم في قافلة النهضة السائرة، وأنه وأن كثر أنصارهم باتخاذهم أصحاب الصحف أصدقاء، وباهتبالهم فرصة هذه الصداقة لجعلها بوقاً لهم يرضون به غريزتهم وينشرون رأيهم؛ فهم أمام قوة الأدب الصحيح يضعفون ويضحل معين أدبهم فأنه سينضب، وحينذاك يعلمون حق العلم أنهم كانوا في وادي الضلال يعمهون، ومن ملح أجاج كانوا يشربون ويسقون
ولا يعجبن القارئ من عرض هذه الصورة ولا يدهش لهذا الاضطراب في الحياة الأدبية فإن المقادير تضافرت على خلق الاضطراب، وإن اختلاف السياسة خلق هذا التباين. ففلسطين كان أدبها معدوماً وكان أدباؤها غير مخلوقين قبل سنين، فالأتراك كانوا يتآمرون على الأدب العربي حتى في مصر، فما بالكم في فلسطين؟ والأزهر كان حرباً على الأدب ذاك الوقت وخاصة مع الأغراب، وجامعات مصر كانت تقفل أمام الفلسطينيين، والحرب العامة كان لها أكبر الأثر ففتحت البلاد عينها على بقية من القدماء وجمهرة من الدخلاء، ثم أضحت فلسطين منتدباً عليها أو مستعمرة، وقام على شؤون التأديب غرباء عن الأدب، فكان ذلك الركود ووجد ذاك السكون في أوائل العقد الرابع من القرن الرابع عشر الهجري إلى أن فتحت جامعات مصر على مصراعيها لأبناء فلسطين واتجه الأزهر يعنى بالأدب
ليتاح له تأدية رسالته، وحضنت لبنان أبناء هذا البلد فرجعت جمهرة من الشباب اصطدمت بالقدماء واصطدم بعضهم ببعض فكان هذا الاضطراب وكانت هذه الحياة الأدبية المضطربة التي أظهرنا لك صورة مصغرة دانية من الحقيقة وإن كانت المقادير لم تسمح بأن تكون هذه الصورة أقرب إلى الحقيقة وواضح مما قدمنا
. . . بيد أن هذا الاضطراب والاحتكاك يلمع ببرق أمل في النهضة الأدبية ويبشر بانتظام حياة أدبية يجهد الشباب لإيجادها ويستميلون معتدلي الشيوخ وأنضجهم آراء، وما هي إلا لمحة حتى تتغير الحياة غير الحياة وتزهر رياض الأدب في هذه البلاد العربية وتؤتي أكلها ثمراً شهياً
(حيفا)
محمد تقي الدين النبهاني
شكوى إلى الله
وداع. . .
هذه خطبة معلم فرقوا بينه وبين أولاده فودعهم بها ووصاهم وبكاهم، وإني لآسف أن يكون في صاحبنا المعلم الأديب هذا الضعف وهو يدعو إلى أدب القوة، ولكن ماذا يصنع؟ أليس له قلب؟ أليس بإنسان؟. . .
أولادي!
انتظروا! لا تخرجوا كتبكم، ولا تفتحوا دفاتركم، فما جئت لألقي عليكم درساً، وإنما جئت لأودعكم. إن الوداع صعب يا أولادي لأنه أول الفراق، وما آلام الدنيا كلها إلا ألوان من الفراق: فالموت فراق الحياة، والثكل فراق الولد، والغربة فراق الوطن، والفقر فراق المال، والمرض فراق الصحة. . .
إن الوداع صعب ولو إلى الغد، فكيف إن كان المودَّع صديقاً عزيزاً، فكيف إن كان ولداً، فكيف إن كانوا أولاداً؟
أنتم أولادي، أولادي حقيقة لا أقولها مجاملة ولا رياء، ولا أسوقها كأنها كلمة تقال، ولكن تنطق بها كل جارحة في، واحسها من أعماق قلبي!
ولم لا؟ ألستم تحبونني وأحبكم؟ ألم أفكر فيكم دائماً وأخاف عليكم؟ ألم تروني آلم إذا تألم أحدكم، وأثور إذا تعدى أحد عليكم؟ ألم أفتح لكم قلبي حتى اطمأننتم إلي وأنستم بي، وخرقتم حجاب الخوف الذي كان بيني وبينكم، كما يكون بين كل معلم وتلاميذه، وغدوتم تدعونني لأشارككم في ألعابكم، وتقصون علي أخباركم وتبثوني أحزانكم، وتنبئوني بأسراركم، وتشكون إلي ما يصيبكم من آبائكم وأهليكم؟ فأي صلة بين الآباء والأبناء أوثق من هذه الصلة، وأي سبب أقوى من هذا السبب؟
أنتم أولادي. فهل رأيتم أباً يودع أولاده الوداع الأخير ثم يملك نفسه أن تسيل من عينيه؟ لقد شغلتم نفسي زماناً، وأخذتم علي مسالكي في الحياة، فلا أرى غيركم ولا أفكر إلا فيكم، وأقنع بصداقتكم هذه الخالصة المتعبة المرهقة، عن الصداقة الكاذبة، والود المدخول
فكيف أقدر أن أملك نفسي وأنا أقوم بينكم لألقي عليكم كلماتي الأخيرة، ثم أمضي لطيتي لا أدري أأراكم بعد اليوم أم لا أراكم بعد أبداً؟. . .
أما أنتم فاملكوا أنفسكم - لا تحزنوا ولا تأسفوا ولا تبكوا لأني علمتكم كيف تكونون في طفولتكم أكثر منا في شبابنا رجولة وصبرا - ونشأتكم على القوة التي فقدناها، والبعد عن العاطفة التي ربينا عليها، وإنكار الألم الذي لا نزال نهرب منه، والمغامرة التي نكرهها ونجهلها لأرى صبركم في مثل هذا اليوم
أنكم الآن تجتمعون حولي، ولكنكم ستتفرقون في المستقبل، وستنثرون على درجات السلم الاجتماعي نثراً، وسيكون منكم الغني والفقير، والكبير والصغير، والتاجر والصانع، والموظف الكبير، والمدير والوزير. ولكن قلبي سيتبعكم، وحياتي ستمتد فيكم، ومبادئي ستبقى في قلوبكم، لا تستطيعون أن تتناسوها، وكلماتي سترن في آذانكم لا تقدرون أن تتغافلوا عنها، وستسمعونها تدعوكم باسم الواجب في ساعات الهوى، وباسم الحق في جولة الباطل، وباسم الفضيلة في غمار اللذة. فطوبى لمن لبى وسمع واستجاب، وويل لمن نسى وأنكر وأعرض واستكبر!
إنني لقنتكم مبادئ الحق والفضيلة ولكنكم ستجدون في تطبيقها عناء كبيراً؛ ستجدون أول خصومها معلميكم في المدرسة وأهلكم في البيت ورفاقكم في الطريق، فالسعيد السعيد من ثبت على الحق، وأوذي في سبيله؛ والبطل من درأ بصدره السهام عن أمته، وأطفأ بدمه النار التي تحرق وطنه. أن في أمتكم طاعوناً أخلاقياً مروعا أصيبت به منذ خمسمائة سنة فذلت واستكانت، وفقدت عزتها وصبرها وقوتها، وقد جاء الوقت الذي تبرأ فيه الأمة. أنها لن تبرأ إلا على أيديكم. . .
لقد دللتكم على الطريق، ووضعت في أيديكم مفتاح النجاح، فعلمتكم فضائلي كلها مع ما عرفت من فضائل، وجنبتكم نقائصي كلها مع ما عرفت من نقائض، فاحترمتكم لتحترموني، وأخطأت أمامكم لتردوني، ورجعت عن خطئي لتتعلموا مني، وأنصفتكم من نفسي لتنصفوا الناس من نفوسكم، وعلمتكم معارضتي إذا جرت لتتعلموا المعارضة لكل جائر، ولم آت في ذلك بدعا. فهذه مبادئ الإسلام الذي علمتكم اتباع سبيله، والوقوف عند أمره ونهيه والفخر به، والجهر باتباع شعائره، وربيتكم على الطاعة في غير ذل، والعزة في غير كبر، والتعاون على الخير، والثبات على الحق، والقوة في غير ظلم، والنظام الكامل من غير أن يفقدكم النظام شخصياتكم واستقلالكم
كنت أذكر ما كنت أستاء منه في المدرسة مما كان يصنع معنا معلمنا، فلا أصنع معكم منه شيئا: كنا نفر من المدرسة لأننا لا نجد فيها إلا جباراً عاتيا، عبوس الوجه، قوي الصوت، بذيء الكلمات، فجعلتكم تحبون المدرسة لأنكم تلقون فيها أباً باسماً شفيقاً يحبكم ويشفق عليكم، ويحرص على رضاكم كما يحرص على نفعكم
وكنا نكره الدرس لأننا نجده شيئاً غريبا، وطلاسم لا نفهمها ولا ندرك صلتها بالحياة، ونعاقب على إهماله، ونجازي على الخطأ فيه، فجعلتكم تحبون الدرس لأنكم ترونه سهلاً سائغا، تدركون صلته بحياتكم، وفائدته لكم، وتحفظونه لأنه لازم ومفيد لا خوفاً من العقاب ولا هرباً من الجزاء
وكنا ننتظر المساء لننجو من المدرسة، لأننا نسجن فيها سجنا، لا نستطيع أن نميل أو نتلفت أو نتكلم، ولا نسمع من الأستاذ إلا عبارة الدرس المبهمة وألفاظ الشتائم المؤلمة. فجعلتكم تكرهون المساء لأنه يفصلكم عن المدرسة التي تقولون فيها ما شئتم من طيب القول، وتفعلون ما أردتم من صالح العمل، وتقرءون مازلتم نشيطين للقراءة، فإذا مللتم من الدرس سمعتم قصة لطيفة، ونكتة حلوة، هي أيضاً درس من الدروس، ووجدتموني أحادثكم كما أحادث الرجال لا الأطفال. كنا نشعر بأننا أذلاء في المدرسة لأننا لا نقدر أن ندافع عن حقنا، أو نطالب بما لنا، وإذا قلنا كلمة فالعصا نازلة على رءوسنا، أو رددنا على المعلم لفظة، فالبلاء مستقر على عواتقنا، فجعلتكم أعزة أحرارا، تدافعون عن حقكم، وتطالبون بما لكم، ولكن بأدب واحترام، واتباع لقوانين المجتمع وأنظمة المدرسة. . .
أتذكرون يوم جئتكم كيف كان أكثركم يأتي إلى المدرسة بادية أفخاذه، مرجلاً شعره، في جيبه مشطه ومرآته، وكمّتُه (بيريه) على رأسه. تفخرون برقتكم، وتعتزون بجمالكم، وتتخلعون في مشيتكم، ولا تجدون من معلميكم إلا إقرار ما تفعلون، واستحسان ما تأتون، لا تربطكم بالإسلام إلا رابطة الاسم، ولا بالعروبة إلا صلة الجنسية، ولا تعرفون من تاريخكم ما تعرفون من تاريخ الحّثيين والآراميين الذي قرأتموه مفصلاً قبل أن تدرسوا سيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تعلموا من هو أبو بكر، وقبل أن تسمعوا باسم معاوية. فعلمتكم أن فخر الرجل بقوته وعلمه، واعتزازه بدينه ولغته. فاشتدت أعصابكم، وقويت نفوسكم، وتنبهت عزائمكم وصرتم تمشون كالأسود، وتلعبون كالعفاريت.
وتطالعون كالعلماء وتفكرون كالفلاسفة، وتراقبون الله كالصديقين، وصرتم وأنتم في هذه السن تهيئون محاضرة في عشرين صفحة عن عمرو بن العاص، أو عبد الملك، أو عبد الرحمن الناصر، وسمعتم أن في الدنيا علوماً إسلامية، واستقر في نفوسكم أن هذه العلوم وهذه الحضارة وهذا المجد، لابد لها من بعث كالبعث الأوربي (الرينسانس)
ولكنكم لا تستطيعون يا أولادي أن تفهموا التضحية التي قدمتها من أجلكم. لأنكم لم تعرفوا قبلي هذا الطراز من المعلمين، فحسبي أن أخبركم أنني اشتغل بالأدب. أعني أن لي نفساً تشعر وتحس، وتألم وتسرّ، وتغضب وترضى، وتثور وتهدأ، وتأمل وتقنط، وأن لي غاية في الحياة أكبر من هذه الوظيفة. وأنني أهم بأشياء غير صفارة المناوب، وعصا التأديب، وحفظ النكات الباردة لتقطيع الوقت بها، ولف رجل على رجل في عظمة جوفاء لانتظار الدرس. . .
ذلك أنني أغدو إلى المدرسة كل يوم وفي نفسي عشرات من الصور والأفكار، أبني منها هياكل فخمة لآثاري الأدبية القيمة التي لم أكتب منها شيئاً بعد فإذا بلغت المدرسة ونشقت هذا الهواء المليء بجراثيم البلادة والخمول، طار من رأسي كل شيء، وأحسست أني غدوت حقيقة معلماً أولياً
أجل. لقد ضحيت من أجلكم بفكري ونفسي. . فخسرتهما من أجلكم، وهأنذا أخسركم أنتم أيضاً
إنكم لا تعلمون أي فراغ سيدع في نفسي فراقكم، وتحسبون معلمكم واحداً من هؤلاء البشر الآليين الذين يذهبون ويجيئون ويعملون ويتركون، ولكن بلا قلوب، فسأقص عليكم قصة وقعت لي منذ أسبوع:
كان اليوم عطلة وكنت أرقبه من زمن بعيد لأستريح فيه من هذا العناء الذي هدني هداً وطمس بصيرتي، وبلغ بي إلى الحضيض الفكري، فلما أصبحت عمدت إلى المطالعة فلم أفهم شيئاً، ووجدت شيئاً يدفعني إلى الخروج، فارتديت ثيابي وأنا لا أدري أين أقصد، فإذا أنا أمشي في الطرقات التي أمشي فيها كل يوم. وإذا رجلاي تقودانني إلى المرجة حيث ركبت السيارة إلى حيّ السفح (المهاجرين) إلى باب المدرسة. هنالك انتبهت، وعدت إلى نفسي، فإذا أنا لم أقدر أن أعيش يوماً واحداً بعيداً عنكم، وإذا صوركم وبسماتكم الحلوة،
وشيطنتكم البريئة، وصداقتكم الخالصة، وأصابعكم الممدودة للسؤال قيد بصري حيثما ذهبت!
ولكن لا عليكم مني يا أبنائي، لا تفكروا فيّ ولا تحملوا همّي، بل فكروا دائماً في مبادئ علمتكم إياها، واذكروا في المستقبل أني كنت أستاذكم، وأنكم أحببتموني وأحببتكم، ولا تحقدوا عليّ أني كنت أحياناً أقسو عليكم أو أعاقبكم، فإنما كان ذلك لفائدتكم
وبعد. فقوموا يا أولادي، ودّعوا أباكم الذي لن تلقوه بعد اليوم. . . . . . . . .
وخرج صاحبي من المدرسة، مهدود الجسم، خائر القوى، فألقى عليها النظرة الأخيرة. فرآها من خلال دموعه، مشرقة بهية، كأنها ماسة تلمع في شعاع الشمس، ثم ولّى. . . يفكر تفكيراً مضطرباً
هذه هي حياة المعلم؛ يغرس غصون الحب في قلبه فتمزقه بجذورها، فإذا أزهرت جاءوا فنزعوها من قلبه، فمزقوه مرة ثانية بنزعها: يأخذ المعلم أولاداً لا يعرفهم ولا يعرفونه، فلا يزال يجهد فيهم، ليفهم طبائعهم، ويألفهم ويحبهم، ويقوّم اعوجاجهم ويصلح فاسدهم، حتى إذا أثمر الحب الفائدة وأتى العطف بالمنفعة وأتى العطف بالمنفعة، جاء ولاة الأمور فقطعوا بجرّة قلم واحدة هذه الأسباب كلها. وفرقوا بنقطة من حبر بين الأب وأولاده، لا لشيء. بل لوشاية سافلة أو مؤامرة دنيئة، أو لإخلاء مكانه ليبوّأه بعض الملتمسين من ذوي الوساطات
وانطلق صاحبنا يهمس في أذن نفسه:
إني أشعر بالانحطاط والضعف، وأحسّ كأنني شمعة قد أنطفأت، لم يكف أنهم أضاعوني والقوني في هذا الطرْق حتى جعلوني أسبح فيه، ثم أغوص إلى أعماقه، بينما يمرح الأدعياء واللصوص بالعيون الصافية ويقطفون وردها وزهرها!
لم يبق لي أمل. . . لقد سقطت في المعركة قبل أن أنال ظفراً، لقد بعت نفسي ومستقبلي وآمالي بتسعة جنيهات في الشهر ثمناً لخبز عيالي. . . أفكان حراماً أن أجدها من غير هذا الطريق، ألم يكن بد من أن أموت لأعيش؟. .
أستغفرك اللهم. فلا اعتراض ولا انتقاد، ولكنما هي شكوى. أفيخسر المرء ماله فيشكو، ويفقد حبيبه فيبكي، ويرى آماله تنهار أمام عينيه ونفسه تذوب وحياته تنضب ومواهبه تذوي ولا يقول شيئاً؟
إنني أشكو، ولكن إلى الله؛ فليس في الناس من يشكى إليه!
(دمشق)
(ع)
الألم.
. .
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
لست أسطيع أن أغير طبعي=يخلق الطبع مكرهاً يوم تخلق
أَنَا في عُزْلَتِي يُطِيفُ بَيَ الرُّعْ
…
بُ فَأَبْكِي مَنْ طُولِ شَجْوِي وَأَفْرَق
تَعْتَريني الهُمومُ فالطَّرْفُ حَيْرَا
…
نُ مُنَدَّى مِنَ الدُّمُوعِ مؤَرَّق
وَجَنَانيِ وَلْهانُ يُرْمِضُهُ الح
…
بُّ وَيَذْكُو بِهِ الجَوَى إِنْ تَشَوَّق
تَتَراَءى لِيَ الحيَاةُ قَتَاماً
…
ما بِهاَ مَسْربٌ يَبينُ فَيُطْرَق
وَيَلُوحُ الوُجُودُ قَفْرًا يَبَابًا
…
عَجَّ في سَاحِهِ الْعَفَاءُ وَأَطْبَقْ
صُوَرٌ مِنْ كآبتي لَيْسَ تُمْحَى
…
أَنا مِنْهَا مُشَتَّتُ النَّفْسِ مُصعَقْ
مِنْ شُجُوني أَنِّي أَرَى الْوَهْمَ يَحْيَا
…
وَلَقَدْ صاغَهُ خَيَالي وَنَمَّقْ
لِي عَذَابُ اثْنَتَيْنِ نَفْسِي التي تَشْ
…
قَى وَنَفْسِي التي أُحِبُّ وَأَعْشَقْ
عِشْتُ مِنْ طُولِ حَسْرتِي أَتَشَكَّى
…
مِثْلَمَا يَشْتَكِي الحمَامُ المُطَوَّق
ضَاَعَ عُمْرِي كما تَضِيعُ اليَنَابِي
…
عُ وَتَخْفَى أَمْواهُهَا وَتُغَلَّقْ
وَانْطَوَى مِثْلَمَا تَمُرُّ الضَّبابَا
…
تُ وَيَفْنَى خَيَالُها وَيُمَزَّق
أَيُّها الّلائمِي أَتَلْحُو المَقَادِي
…
رَ وَتَهْجُو الدَّهْرَ الذي لَيْسَ يَرَفَقْ
هُو جُرْحِي عَرَفْتُ كَيْفَ أُدَاري
…
هِ وَأَحْنُو عَلَيْهِ عُمْرِي وَأَشْفَقْ
لَسْتُ أَسْطِيعُ أَنْ أُغَيِّرَ طَبْعِي
…
يُخْلَقُ الطَّبْعُ مَكْرَهًا يَوْمَ تُخْلَقْ
أَنا قِيثَارةٌ تَنُوحُ عَلَى الدَّهْ
…
رِ وَدَمْعٌ عَلَى المَدَى يَتَرَقْرَق
أَنا لَحْنٌ مُضَرَّجٌ بالمآسِي
…
كادَتِ النَّفْسُ مِنْ تَشَكِّيهِ تزهقْ
هُوَ في الصدْرِ لَاعِجٌ يَتَنَزَّى
…
وَهْوَ في الْفِكرِ جَدْوَلٌ يَتَدَفَّقْ
يَا رَجَائِي يَا بَسْمَةَ الزَّهْرِ النَّض
…
رِ وَيَارَوْعَةَ النّشِيدِ المُرَقَّقْ
أَنْتَ دُنْيَايَ أَسْتَريحُ إِلَيْهْاَ
…
كُلَّمَا طافَ بِي الشَّقَاءُ وَأَحْدَق
طَيْفُكَ الحُلْوُ زَارَنِي في ذُهُولِي
…
فارْتَوَتْ مُهْجَتي وَعُمْرِيَ أَوْرَق
وَتَطَلَّعْتُ لِلْخُلُودِ أُنَاجِي
…
مَلَكاً في مَعَارِجِ الْغَيْب حَلَّقْ
الأَسَى دَمْعَةُ الحَنَانِ عَلَى الأَرْ
…
ضِ وَكَنْزٌ مِنَ المَرَاحِمِ مُطْلَقْ
تَتَسَامَى الأَرْوَاحُ فيهِ إِلى اللَّ
…
هِ وَتَنْدَى مِنَ الطُّيُوبِ وَتَعْبَقْ
البْلَاغَات سَطْعَةٌ مِنْ سَنَاهُ
…
وًالْفَصَاحَاتُ نَفْحَةٌ مِنْهُ تُنْشَقْ
وَالْغَمَامَاتُ رَجْفَةٌ مِنْ رُؤَاهُ
…
وَالخِضَمَّاتُ قَطْرَةٌ مِنْهُ تُهْرَق
نَهَرٌ لِلْبُكاءِ سَالَ عَلَى السُّحْ
…
بِ وَوَشَّى الأُفْقَ البَعيدَ وَزَوَّق
تَسْتَحِمُّ النُّفُوسُ فيهِ مِنَ الإِثْ
…
مِ وَتَنْقَى مِنَ العيوب وَتَأْلَقْ
يَدْرُجُ الحُبُّ في حِمَاهُ عَنِيفًا
…
نَاصِعًا كالضّيَاءِ إِنْ هُوَ أَشْرَق
كُلُّ عَهْدٍ لم يَنْتَظِمْهُ مُضَاعٌ
…
كُلُّ وُدٍّ لم يَعَتْمِدْهُ مُفَرَّق
أنور العطار
عبرة الموت
جميل صدقي الزهاوي
بقلم عبد السلام رستم
يأيها المسلوب من أنسه
…
مصفد الجسم إلى رمسه
وتارك الدنيا على حالها
…
لم تصدق العائف في حدسه
في الموت لو فكر مستعبر
…
فيما يصيب الحي من مسه
تشابه الناعم في لهوه
…
بالعابد الطوّاف في حبسه
وبات من يجمع أمواله
…
كالمعدم المحروم في بؤسه
تلاحق الآتي بمن قبله
…
وتابع اليوم خطى أمسه
فما ينال المرء من حظه
…
إلا بريق النور من شمسه
يشب مشغوفاً باغراسه
…
وليس يدري منتهى غرسه
ويخطب الدنيا، وقد شاقه
…
ما يفتن الناظر من عرسه
ويرشف الكأس على نهله
…
والموت - لو يعلم - في كأسه
يا شاعرا ظل مدى عمره
…
في حيرة المشدوه أو يأسه
يسائل المجهول عن أمره
…
وينظم الشعر صدى نفسه
ماذا أفاد الحس في عالم
…
لا يدرك المعنىّ من حسه
الكون ما انفك بأوزاره
…
يغترف الأحياء من رجسه
قد غلب الطبع على خلقهم
…
ومرجع الشيء إلى جنسه
وكلهم في عيشه ناسج
…
ثوباً يقيم الدهر في لبسه
والموت من خلفهم دائب
…
يسدد النبل إلى نكسه
كم عجز الباحث عن كنهه
…
وإن أطال الفكر في درسه
فدونك الحق الذي تبتغي
…
وخل عنك الروح في قدسه
(القاهرة)
عبد السلام رستم
سهرة أبريل
الشاعر والربيع
بقلم محمد رشاد راضي
الشاعر:
طير الربيع أعدت ذكرى بلبلي
…
أأراه في فرح الربيع المقبل
قذف الحسام فكان مقبضه على
…
شفتي وآخر حدّه في مقتلي
ومضى كما يمضي السحاب كأنه
…
ظِلُّ الغريب وهدأة المتأمل
أجتاز أنواء العواصف تائها
…
ويروح يرفل في الغلائل والحلي
الأرجوان العذب في وجناته
…
ظللته بخياليَ المتهلل
رقرقت في عينيه بارق أنجم
…
يهدي فكان لحيرتي كمظلل
حلو كما احلولت طفولة ناهد
…
طلق طلاقة بسمة لمقبل
شرب السماء جميعها بعيونه
…
ورمى بقيًّتها لماء الجدول
يمشي فيخضرُّ الثرى من خطوه
…
وتذوب أحجار الجديب الممحل
الربيع:
نهب الكون ابتسامي
…
إنه في كل ثغر
ونجومي البيض رفّت
…
في الثنايا مثل درِّ
وكراكيّ وطيري
…
رفرفت في كل صدر
الصبا الصارخ يسري
…
في الدم القاني ويجري
إن وردي يا أميري
…
صِبغةٌ من شفتيها
وغديري عبرات
…
هربت من مقلتيها
وحياة الحب والفتن
…
ة رسم من يديها
أوحت الدنيا إلى الل
…
هـ فأهداها إليها. . .!
هي حلم لا يراه ال
…
مرء حتى في الكرى
هي كأس دون خمر
…
هي خمر قد جرى
هي أحيتني فجئت ال
…
يوم كيْ أحيي الورى
إن نور الشمس من أع
…
ينها السود سرى
جمع الخالق حسن الأ
…
رض فيها يا هزارْ
فلك الدنيا تراه
…
كلما دارت يُدار
هي في النور ظلام
…
وهي في الليل نهار
هي ماء أيها الشا
…
عر كم يحرق نار!
أرسلتني اليوم يا صدَّ
…
اح كيْ آتي إليكا
أرسلتني بدَلا من
…
ها لأروي شفتيكا
كلما ترنو إلى مر
…
آتها أبدو لديكا. . .!!
إنّني لوحتها تع
…
رضها اليوم عليكا
إرسم اللوحة واحفر
…
ها على لوح الخلودْ
هأنا صورتها العذ
…
راء أنوار الوجود
خذ من الصورة أعلى ال
…
فن والحسن الفريد
وأتم الرسم منها
…
فهي يوماً ستعود. . .!
الشاعر:
كلما سرت يا ربيع النور
…
أتهادى من جدول لغدير
كخيال يطوف بين القبور
…
خلت أن الشذى ومرج الزهور
هو للكون ليس لي أنا وحدي
هو ظلٌّ منها يزيد شجوني
…
إن كأس السراب لا ترويني
ولهذا يلجُّ عصف جنوني
…
أنا أبغي الدنيا وإن تك دوني
لا بساطا يناله كل فرد. . . . .!
أنا أبغي عيناً ترى بعيوني
…
أنا أبغي قلباً يدين بديني
أنا أبغي بلهفة وجنون
…
أن تكون الحياة ملك يميني
ما انتفاعي بالطيف والطيف عندي. .؟!
القصص
درامتان من اسخيلوس
ليلة في الفردوس
(وإلى الأبد في جهنم!)
آخرة المتضرعات
للأستاذ دريني خشبة
خلاصة الدرامة الأولى
كان لأيجبتوس، أمير مصر السفلى، خمسون ابناً، وكان لأخيه دانوس خمسون ابنة، وكان الزواج من بنات العم في ذلك الزمن محرما بل كان يعد نوعاً من الزنى؛ وبالرغم من هذا أراد إيجبتوس أن يزوج أبناءه من بنات أخيه، وكان هذا الأخ، دانوس قد رأى في منامه أن أحد أزواج بناته يذبحه، فلما ذهب إلى الكهنة يستفتيهم في هذا أكدوا له صحة الرؤيا، ولذلك رفض تزويج بناته، وهرب بهن على فلك إلى آرجوس، وهناك، في حرم الآلهة، لقي بيلاسجوس ملك آرجوس، وتقدمت كبرى بناته إلى الملك فحدثته عن منشئها وما تمت به من وشائج القربى إلى آرجوس عن طريق يو حبيبة سيد الأولمب وصفيته، وتضرعت إلى الملك أن يحميها وأخواتها وأباها من ملك مصر، وألا يردهم عليه أبدا؛ ولم يستطع الملك أن يعدها حتى يستشير شعبه، فهددت بأن تشنق نفسها، هي وأخواتها في جذوع الآلهة إن لم يفعل - وذهب الملك يحتال ليكسب أصوات شعبه وتأييده لقضيتهن - ولكن ظهرت سفينة في البحر في هذه الآونة، فإذا هي مركب مصري، وإذا فيه جند وقائد أتوا يستردون البنات وأباهم قسراً. . . وانقض الجنود على البنات، وطفقوا يجرونهن من شعورهن لينزلونهن إلى السفينة، وكادوا يفعلون، لولا عودة ملك آرجوس في آخر لحظة، فحماهن من القائد المصري، واحتدم الجدال بين الملك والقائد، حتى عد القائد أن ملك آرجوس، بمخاشنته التي أبداها قد أعلن الحرب على مصر. . . فعاد أدراجه إلى السفينة ليبلغ مولاه. . . . . . أما البنات فنزلن في حصن آرجوس مكرمات آمنات
- 1 -
في فجر يوم من أيام الصيف، انشق الأبيض المتوسط عند ساحل آرجوس، عن أسطول لجب ما عتم أن انتشرت سفائنه فوق الماء كأنها الدّبى، وخَشْخَشت خلال أواذيّه كأنها الأساود، ثم نفثت سمومها فوق الشاطئ جنوداً من شياطين فرعون، مستلئمين في الدروع، مقنعين في الحديد، يلاعبون السمهريات، ويرهفون الرقاق البيض!
وكانت آرجوس الخالدة نائمة حالمة، غارة في غفوة الفجر؛ وكان الأرجيف الأشياء غارّين كذلك، تداعب أجفانهم الوسنى أطياف الآلهة، وتمرح في قلوبهم ومضات من السعادة يكاد الأولمب يمضي بها. . . حين ينبلج الصباح اللماح عن فوهة بركان. . . ما تلبث حتى تكون وهدة من وهاد جهنم!. . .
- 2 -
وأطل الحراس في شعاف الجبل، فبهتوا!! وزاغت أبصارهم!. . . وأوقدوا النيران!. . . واستيقظت آرجوس عجلى، تنظر إلى الموت المفاجئ يتربص بها، ويكاد ينقض عليها!. . . . . .
(المصريون! المصريون! المصريون!. . . .)
وذهبت الصيحة في أرجاء المدينة تهز قلوب الأبطال، وتداعب ألباب الصناديد، وتزلزل فرائص دانوس وبيلاسجوس! وهُرعت الجماهير إلى هيكل الآلهة تصلي وتبتهل؛ وجمع الملك مجلس شوراه ليروا في ذلك الحدَث المدلهم رأيهم، فأجمعوا على وجوب الدفاع عن المدينة، وعدم تسليم ضيفهم الشيخ وعذاراه اللاجئات مهما كلفهم الذود عنهم من جهد، ومهما طال حصار المصريين:
- (أفهذا رأيكم إذن؟)
- (أجل أيها الملك! ولا رأي لنا غيره! إن شرف آرجوس وكرامة الأرجيف معلقان بما نصنعه من أجل هؤلاء العذارى! لِنَفْنَ جميعاً دونهن، ولا يقولن أحد في هيلاس إننا منعناهن أولاً، ثم أسلمناهن أخيراً!)
- (إذن لتكن حرب! ولندفع عن شرف آرجوليس!)
- 3 -
وكانت الحرب الزبون التي شابت من هولها نواصي الأرجيف، والتي أوقفتهم هيجاؤها حيارى في أبراجهم كاظمين!
ثم. . . . . . سقطت آرجوس!
وجاست خلالها شياطين فرعون! وانطلق أبناء إيجبتوس في عرصاتها تحف بهم أعلام النصر، وترف فوق هاماتهم أكاليل المجد، حتى كانوا في هيكل المدينة الخالدة، حيث تماثيل السادة النجب من آلهة الأولمب. . . ف. . . صلوا لآلهة النيل، وشكروا لرع. . . وأثنوْا على أمون، وعقروا القرابين لآزوريس!!
ويمموا شطر الحصن المنيف فوق رُبى آرجوس فاقتحموه على دانوس وبنات دانوس؛ وكان أبوهن قد نصح لهن بالانصياع لما أراد القضاء: (. . . فلا راد لما قُدّر، ولا دافع لما وقع في صحيفة المرء. . . ولنبحر يا بناتي البائسات إلى مصر، وليكن لنا ثمة شأن غير هذا الشأن، ولتتم المأساة، ولتندلع النيران، وليكن أبناء أخي أول ما تأكل من حطب، وخير ما يلقى فيها من حصب، وتغتذى به من أشلاء!!)
وظهر القادة الخمسون، أبناء إيجبتوس، ومن حولهم الجند شاكي السلام، فأسقط في يد دانوس وأرتج عليه. واسودت الدنيا المشرقة في عيون بناته، وظلن متناثرات هنا وهناك في ردهة الحصن، ضافيةً عليهن جلاليبهن السود، وأرديتهن الحزينة السادرة تزيدهن جمالاً على جمالهن، وتجعل منهن ربرباً من المفاتن بدا في هذا المرمر المترقرق في أكفهن ووجوههن، وأجيادهن وثديهن، وفي هذه السيقان الناعمة التي كان بحسبها أن ترد عادية الجيش المغير. . . وإن كانت الجن من ورائه ظهيراً!!
- 4 -
ذهل أبناء إيجبتوس! وانقدح شرر الهوى في قلوبهم، وتدفق الدم العاشق في عروقهم حاراً. . . ثم انهمرت أرواحهم الوامقة من عيونهم دموعاً سخينة. . . فسجد كل منهم عند قدمي واحدة من بنات عمه. . . ولبثوا لحظة لا ينبسون!. . .
وحملق دانوس في بناته وفي أبناء أخيه قليلاً ثم قال: (قِفْن لأبناء عمكن يا فتيات! قفن
للأبطال المذاويد أبناء إيجبتوس! رباه! لم نجم هذا الشر بيننا؟! لقد كنت أحب أخي، وكان أخي يحبني، فأي شيطان أغرى هذه العداوة بيننا؟! قضاء!. . . أجل. . . قضاء. . . قضاء. . .)
وما كاد أبناء أخيه يسمعون هذه الكلمة المصنوعة من فم عمهم، حتى تقاطروا إليه يقبلونه ويتمسحون به ويترضّونه. . . وظل هو يتلطف بهم، ويهش لهم، ويربت فوق أكتافهم، وكأن شيئاً من الأحقاد التي أكلت الأفئدة، وأراقت الدماء لم يكن!. . .
- 5 -
وفُزّع عن قلوب العذارى، ونهضن فتلقين أبناء عمهن بالبشاشة والبشر، ثم تلطفت كبراهن فشفعت لبيلاسجوس الملك الكريم المأسور فأطلق سراحه ورد عليه عرشه وألبس تاجه، وعقد مع الأرجيف صلح نبيل دل على جود المصريين وسماحهم
وأقلع الأسطول، وهمت الفلك واحتواها الماء، وانتثر في أذيالها وشى رجراج من الثبج، وغابت آرجوس عن الأنظار قليلاً قليلا، حتى إذا طوى الأفق آخر شاهق من أبراجها، أوى الأبناء الخمسون إلى البنات الخمسين يباسطونهن ويسامرونهن ويسَرون عنهن آثار ما نزغ الشيطان بينهم وبينهن
وأقبل الليل وانجاب، وبزغت ذكاء وتوارت بالحجاب. . . وكرت أيام. . . ثم بدا الشاطئ المصري، وهبت نسمات الوطن وتبسمت الشمس فوق الأرض البنفسجية تحيي أبناءها الغزاة المنتصرين، وأطل من قرصها الكبير، رَعْ الكبير، يبارك أبطاله ويغدق عليهم نفحاته. وخرج الشعب العظيم يهتف للجيش الظافر، ويردد هذا النداء المحبب القديم:(المجد لمصر!)
- 6 -
وأقبل إيجبتوس على دانوس يلاومه، ثم غفر له:(هذه النزعة التي أشمتت بنا الأعداء، وأغضبت علينا أرباب السماء، وسممت ما بيننا من محبة وصفاء. . .) واتفقنا على العرس. . . وذهب كل يعد له عدته!
وخلا دانوس إلى شيطانه فقال إني معك!!
ثم جمع إليه بناته فخطبهن خطبة طويلة نضحها بالدمع، وصهرها بنا الفؤاد، وأودعها أحزانه وأشجانه. وذكرهن بشرائع السماء، ونواهي الآلهة، والزنى البغيض الذي يستتر في هذا الزواج القهري، لا عن نحلة، ولا عن رضى ولا سلطان مبين!. . .
وذكر لهن أمهن المتوفاة وما كان بينها وبين زوجة عمهن من إحن وبغضاء، فحرك فيهن هذا الماضي الأسود بجميع سخائمه، وأثار في قلوبهن الرطبة أشجانهن القدامى. . . حتى إذا آنس فيهن الطاعة له والائتمار بأمره. أخرج لكل منهن سكيناً مسنونة مرهفة الحدين، تقطر المنايا من أشفارها فيردها غمدها الذهبي المرصع بأغلى الجواهر واليواقيت
- (فإذا حان الحين يا فتيات، ونامت أعين الرقباء فاذكرن شقاءكن الذي لا شقاء مثله، واذكرن كيف قضت أمكن بغصة العداوة بينها وبين زوجة عمكن، ثم اذكرن أباكم هذا الشيخ الفاني المتهالك كيف ذل، وكيف وضع أنفه الأشم في الرغام. . . واذكرن أخيراً أنكن تحمين شرائع السماء من هذا الاعتداء. . . فالآلهة معكن، وستضرب بأيمانكن، وستغمد هذه الخناجر في أحشاء أعدائها بوساطتكن. . . بورك فيكن وكانت السماء في عونكن!)
- 7 -
وأخذت ممفيس زخرفها وازّينت، وتبرجت عمائرها الفرعونية في حلل من النور والنوار وأفواف الزهر، وضفائر الورد والرياحين؛ وانطلق كهنتها يرسلون في جميع الأرجاء ألسُن الند، وفَغمة العنبر، وشذى الكافور والصندل، من مجامرهم الفضية المقدسة، واجتمعت أسراب الحسان في ساحاتها وباحاتها بسيقانهن المصرية الفرعونية يتلاعبن ويتطربن، ويتغنين ويتناشدن، ويهزأن بعرائس الماء التي خالتها قريحة هيلاس؛ وسار ربربهن يخطر في كل حنية، ويميس في كل ميدان، وينساب في كل فردوس، حتى كُن عند قصر الملك، منزل العز ومناط المجد، وفخر مصر وقلبها الخفاق، فرقصن رقصات ما كان أشبهها بنبضاته، وتغنين الأغاني كأنها تخرج من فمه، وتنبعث من جوانحه وتجلجل موسيقاها عن حناياه. . . ثم شارك الشعب في الأفراح الملكية، فعج النيل المقدس المعبود بالطوّافات والحراقات، وهرعت عند حفافيه أمة بأسرها تفرح كما يفرح الملك، وتسعد كما يسعد التاج، وتنتشي بنشوة العرسين
وأقبل الليل، وأسقر خونسو
ورقصت ممفيس في لجة من خمر، ورفرف حوريس فوق المسلات الشاخصة في الميادين، ولم يعلم أحد أنه كان يرى غير ما ينظر الناس، وأن عينه كانت تذرع الوادي الوادع السعيد وتكاد تضج مما أجن هذا الليل الرهيب. . . لا. . . بل كان الناس ينهلون أفاويق الحبور في صحراء ممفيس. . . في ليبيا العجيبة. . . ليبيا التي تصفر فيها الرياح، وتتكلم فوق كثبانها ألسن الألغاز والأسرار!!. . .
- 8 -
وغرق القصر الملكي في أثير الموسيقى، وفي فيض من النور الذي يشبه الفجر الكاذب؛ ثم أخذت الركبان تنصرف والولدان تتفرق إلى مخادع اللهو، وأخذ الكرى يعقد أجفان ممفيس الصاخبة، التي كانت منذ هنيهة تعج بألالوف، وتضج بالجماهير
وعادت آية الليل. . . رهيبة كشأنها منذ الأزل. . .
وافتر خونسو مرة أخرى عن ابتسامة هي إلى العبوسة أدنى، وإلى السخرية أقرب!! يا لرهبة الأقضية! ويا لصرامة المقادير!
لقد أوى أبناء إيجبتوس كل إلى مخدعه، بعد إسراف طويل، ولذات لم يكن يخطر على بال أحد أنها تنتهي، وبعد قصف أيما قصف، وخلاعات ليست كمثلها خلاعات. . . فما كادت رؤوسهم تمس ديباج الطنافس حتى غطوا في سباب عميق، وحتى انطلقت أبالسة الشر من أغماد خناجر دانوس، التي بدت أظمأ ما تكون إلى الدماء الحارة الشابة، تجري في عروق أبناء إيجبتوس
- 9 -
ولقد كان أبوهن قد اتفق معهن على هذه الغدرة الصفراء، وجعل لكل منهن علامة حين تأفد ساعة النفاذ، أن تطفئ الُّسرُجَ
إلا واحداً تدعه مطلاً من إحدى الكوى التي تواجه قاعته، إذ كان في هذه الليلة الليلاء ضيفاً على أخيه، وشريكه في مخدعه، ومنتوياً هو الآخر إنفاذ الغدرة الوحشية في شقيقه، ليخلو له وجه مصر!. . .
واضحكي أيتها الأقدار!!. . .
- 10 -
وأخذت السُّرُج تومض ثم تنطفئ، وأخذ دانوس يلحظ الكوى ويعد:(واحد. . . اثنان. . . ثلاثة. . . أربعة. . . خمسة. . .) حتى عد تسعة وأربعين. . . ووقف العد. . . وأبطأ الحساب، وتلكأ الجلاد!. . .
- (ماذا؟ لقد ذبح الجميع أزواجهن إلا واحدة!. . . ما الذي منعها؟ لعله لم ينم الخبيث. . .! ويلاه! انطفئي أيتها السرج. . . ولتنطفئ حياته في إثركن!. . .)
وذكر هو أنه لم ينفذ غدرته، فهب إلى سرير أخيه، وأغمد خنجره في صدره!. . . وغادر إيجبتوس يتشحط في دمه. . . وراح يحلم بالتاج والعرش والصولجان!. .
حلم قصير جميل. . . ولكنه نظر إلى الكوة الخمسين فوجد أضواءها تتألق. . . ورأى إلى نورها يكاد يضيء ممفيس كلها. . . فكاد حنقه يقضي عليه. . .
- (هلمي يا غبية! البدار إلى دمه البدار!)
ولكن السرج تتألق وتتألق. . . ولا تنطفئ منها شعلة واحدة!
- 11 -
وقفت الفتاة الجميلة تلقاء الفتى الجميل تقبله، بعد أن كادت تقتله. . .!
أجل. . .! وقفت هيبر منسترا تلقاء ابن عمها لسيوس تعبده، وقد شغفها الشاب الجميل النائم حباً. . .
- (يا لأهدابه المراشة، ويا لجبينه المشرق، ويا لمنكبيه الجبارين، ويا لوجهه البريء! أأطيع أبي. . . هذا الشيخ القاسي المتحجر. . . الذي لا قلب له. . . الذي فرغت مآربه من الشباب ومن الحياة جميعاً. . . وأسطو بخنجري على هذا الشباب الذي أخلد إلي. . . ونام ملء عينيه بين يدي. . . وحملني أمانته كلها. . . لا وأرباب الأولمب! لا يكون هذا أبداً!. . . إن قبلة واحدة على جبينه المتبلج خير من جنة أبي، ومن الدنيا والآخرة جميعاً. . . نم يالنسيوس! نم يا حبيبي! إني سأقف عند سريرك طول الليل أحرسك، وسأغمد خنجري في صدر من تحدثه نفسه باغتيالك ولو كان أبي!. . .
- 12 -
ولبث دانوس يحرق الأرم ويلحظ السرج. . . ولكنها باقية كما هي. . . لا تنطفئ. . .
وانبلج الفجر. . . ثم تنفس الصبح. . . وأشرقت ذكاء. . . وهب لنسيوس من نومه فما راعه إلا فتاته الجميلة واقفة إلى جانبه ضعيفة واهية. . . تبكي. . . وبيدها السكين المشحوذ يتلمط. . . ويتلمظ. . .!
- (ماذا؟ هيبر منسترا؟! ما بك واقفة هكذا يا حبيبتي؟!)
- (لا شيء. . . أنا أحرسك. . . فقط أحرسك!. . .)
- (تحرسينني؟. . . يا للهول! ومم يا ابنة العم؟. . .)
- (من. . . لنسيوس!! من أبي يا أعز الناس عليّ!. . .)
- (ماذا؟ تحرسينني من أبيك؟ من عمي؟. . .)
- (أجل. . . أحرسك من الغادر الذي قتل اخوتك!. . . انهض يا لنْسيوس! خذ عليه طريقه. . . أحسبه قد قتل أباك أيضاً. . . البدار البدار!. . . . . . ويلاه. . . وي. . .)
وسقطت الفتاة لا تعي. . .
- 13 -
وانطلق لنسيوس كالمجنون في غرفات القصر المشيد. . . ونفذ إلى مخادع أخوته. . . فلم ترد عليه جثثهم. . . صرعى فوق ديباج العرس. . . مضرجة بدم الشباب الحار. . . البارد كزمهرير الموت!. . .
وصعد الدم إلى رأسه، فهرول إلى غرفة أبيه؛ فما راعه إلا أن رآه قد لقي حتفه كما لقي أخوته حتوفهم. . . وما راعه إلا أن رأى دانوس الجبار يحملق في الكوة. . . التي ما فتئت أضواؤها تنبعث منها، برغم الفيض الذي ترسله الشمس، مركب رع. . . في العالمين. . .
وانقض عليه وذبحه
وجلس فوق أريكة يبكي. . .
وهكذا قتل دانوس أحد أزواج بناته، وصدقت الرؤيا. . . لأن الآلهة لا تكذب!!
- 14 -
واضطرب الأولمب من هول الفاجعة، واجتمع الأرباب في ذروة جبل إيدا، وقر رأيهم على أن يذهب هرمز فيأتي ببنات دانوس، إلا زوج لنسيوس، ثم يذهب بهن إلى السفل. . . إلى هيدز. . . إلى أعماق الجحيم. . . حيث يكلَّفن بملء جرارٍ مُثقبة من نهر شيرون، لا تمسك المهل. . . إلا كما تمسك الماء الغرابيل. . . فإذا جد بهن السير، ونال منهن النصب، وجلسن على عدوة النهر يستجمعن. . . أمطرتهن السماء ناراً. . . فهرولن إلى النهر ليأخذن في ملء الجرار. . . ولن تمتلئ الجرار ولو صب فيها أشيرون كله. . .
دريني خشبة
البريد الأدبي
العبرات الحرار
رجا الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي عضو المجمع اللغوي الملكي بالقاهرة من قراء الرسالة الغراء في (العدد 146) الرجوع إلى نسخة شرح ديوان الخنساء المكتوبة سنة 620هـ المحفوظة في دار الكتب المصرية، لعلها تكون أوفى من نسخة مكتبته الخاصة المكتوبة سنة 1145هـ لأن نسخته لم تذكر قصيدة (العبرات الحرار) وربما تكون ساقطة من نسخته من الشرح المذكور. ثم رجا الرجوع إلى نسخة الديوان المكتوبة بقلم العلامة اللغوي الكبير الشنقيطي التركزي وذلك للاستثاق من صحة رواية البيت:
من كان يوماً باكياً سيداً
…
فليبكه بالعبرات الحرار
لأنه يحتمل احتمالاً قوياً أن يد التحريف عملت في البيت عملها فغيرت (الجوار) إلى (الحرار). وإجابة لرجاء شيخنا المغربي رجعت إلى نسخة الشرح التي في دار الكتب المصرية ((570) آداب اللغة العربية) فوجدتها لا تشتمل على قصيدة (يا عين جودي بالدموع الغزار) التي منها بيت (العبرات الحرار) والظاهر أن نسخة دار الكتب من هذا الشرح هي أصل نسخة الأستاذ المغربي وأن قصيدة (العبرات الحرار) ليست في رواية الشرح
ورجعت إلى نسخة الشنقيطي من الديوان ((40ش) آداب اللغة العربية) وهي - بحق - نسخة نفيسة مكتوبة بقلم العلامة التركزي بالخط المغربي الدقيق مع ضبط أكثر قوافيها والكلمات الغريبة منها بالقلم مع تقييدات على الحاشية لأكثر الأبيات فوجدت البيت هكذا:
من كان يوماً باكياً سيداً
…
فليبكه بالعَبَرَات الحِرار
بضبط الحاء من الحرار مكسورة مما يقطع بأن الرواية (الحرار) لا (الجوار) ونسخة الديوان هذه كتبها الشنقيطي في مكة سنة 1288 وفي دار الكتب المصرية نسخة ثانية من ديوان الخنساء ((536) آداب اللغة العربية) كتبت سنة 1289هـ بمكة أيضاً بقلم أحمد بن محمد الخضراوي بخط عادي واضح ورد فيها عجز البيت (العبرات الحِرار) بكسر الحاء أيضاً. ويغلب على الظن أن نسخة الخضراوي منقولة عن نسخة الشنقيطي السابقة وإن لم يصرح ناسخها بذلك فإنه اقتصر على القول بأنه كتب نسخته من الديوان عن نسخة بالخط
المغربي الرديء الذي يصعب على المشارقة قراءته
والذي يؤيد هذا الظن أن الشنقيطي كتب نسخته بمكة سنة 1288هـ والخضراوي كتب بعده بسنة بمكة أيضاً وأن نسخة الخضراوي تشتمل على جميع التقييدات التي على نسخة الشنقيطي بنصها كما يلاحظ الاتفاق التام بين النسختين في ضبط بعض الكلمات فما كان مضبوطاً من هذه فلابد وأن يكون مضبوطاً في تلك بنفس الشكل
وأظن أن ما تقدم كاف في الاستيثاق من صحة رواية (العبرات الحرار) وأستاذنا المغربي عليم بأن عدم ذكر الحرار جمعاً لحارة في المعاجم التي بين أيدينا لا يدل على عدم وروده
برهان الدين محمد الداغستاني
المعجم الوسيط
تأليف الهيئة الرسمية لوضعه
وقع حضرة صاحب السعادة محمد علي علوبه باشا وزير المعارف العمومية قراراً وزارياً بتأليف الهيئة التي يعهد إليها بوضع معجم في اللغة العربية، وهي تتألف من لجنتين تمثل إحداهما وزارة المعارف والثانية المجمع الملكي للغة العربية
وهذا نص القرار:
بعد الاطلاع على القرار الذي أصدره المجمع الملكي للغة العربية بتاريخ 27 فبراير سنة 1936 وبناء على الاتفاق الذي تم مع معالي رئيس المجمع على اختيار لجنتين تمثل إحداهما وزارة المعارف وتتكون الأخرى ممن ندبهم المجمع لتعمل اللجنتان معاً على وضع (المعجم الوسيط) في اللغة العربية
قرر: -
المادة الأولى: تؤلف الهيئة التي يعهد إليها بوضع معجم في اللغة العربية يسمى (المعجم الوسيط) على الوجه الآتي:
أولاً - أعضاء اختارتهم وزارة المعارف العمومية:
الدكتور طه حسين بك - الأستاذ بكلية الآداب
الأستاذ خليل مطران
الدكتور أحمد عيسى بك
الدكتور محمد والي - الأستاذ بكلية العلوم
ثانياً - أعضاء ندبهم المجمع الملكي للغة العربية
أحمد العوامري بك
الأستاذ أحمد علي الإسكندري
علي الجارم بك
المادة الثانية - يراعى في وضع هذا المعجم ما يأتي: -
1 -
أن يكون ترتيبه على خير نمط بحيث لا يقل نظامه عن أحدث المعجمات الأجنبية وبحيث تسهل فيه المراجعة على الطلاب الذين لم يعتادوا المراجعة في المعجمات القديمة. ويتبع في ترتيب مواده طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة
2 -
وأن يتبع في شرح ألفاظه أسلوب واضح جلي يلائم العقلية الحديثة ويؤدي إلى تصوير المعنى على أدق وضع وأسهله
3 -
وأن تحقق فيه أسماء النباتات والحيوانات وغيرها بقدر الإمكان مع الاستعانة بالخبراء في هذه العلوم عندما تدعو الحاجة
4 -
وأن تصور فيه الأشياء أو أجزاؤها مما يحتاج شرحه إلى تصوير ولا يكفي الوصف البياني في إيضاح حقيقته
5 -
وأن يؤتى فيه بأمثلة غريبة من أفصح الكلام وأبلغه من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة والتراكيب العربية البليغة والشعر العربي. وذلك عند كل مناسبة لتوضيح استعمال اللفظ مع الإشارة بقدر الإمكان إلى عصور ما استشهد به
6 -
وأن يفصل فيه بقدر الإمكان بين المعاني الحقيقية والمجازية في المادة مع تقديم الحقيقة على المجاز
7 -
وأن يشار فيه أحياناً إلى التقلبات التاريخية التي انتابت بعض الكلمات فغيرت من معانيها بتغيير العصور
8 -
وأن يختار من الكلمات التي أقرها المجمع في الشؤون العامة والعلمية ما يتفق أعضاء الهيئة على ملاءمته لما يتسع له هذا المعجم
9 -
وأن تكون مواد المعجم من الألفاظ العربية الصحيحة أو مما عربته العرب
10 -
وأن يشتمل على ملحق بالمشهور من أعلام الأشخاص والأماكن مع مراعاة ما أقره المجمع في هذا الشأن
11 -
وأن يشتمل على اصطلاحات العلوم والفنون والآداب عند العرب
12 -
وأن يترك فيه الغريب المهجور إذا أغنى عنه مرادفه الصحيح
13 -
وأن يضبط ضبطاً دقيقاً لا محل فيه للبس
المادة الثالثة - تبدأ هذه الهيئة عملها اعتباراً من أول مايو سنة 1936 على أن تتمه في ثلاث سنوات على الأكثر ويمنح أعضاؤها مكافأة نظير قيامهم بهذه المهمة
ترجمة معاني القرآن
قرر مجلس الوزراء بالموافقة على ترجمة معاني القرآن الكريم: ونص قراره:
بعد الاطلاع على كتاب فضيلة شيخ الأزهر وكتاب سعادة وزير المعارف العمومية بشأن ترجمة معاني القرآن الكريم
ومع تقدير مجلس الوزراء لمشقة هذا العمل وصعوبته ومنعاً لإضرار التراجم المنتشرة الآن رأى بجلسته المنعقدة في 16 إبريل سنة 1936 الموافقة على ترجمة معاني القرآن الكريم ترجمة رسمية تقوم بها مشيخة الجامع الأزهر بمساعدة وزارة المعارف العمومية وذلك وفقاً لفتوى جماعة كبار العلماء وأساتذة كلية الشريعة
الشعر القبطي القديم
ألقى الدكتور هرمن بونكر مدير معهد الآثار بالجامعة المصرية ومدير المعهد الألماني للآثار المصرية محاضرة في (الشعر القبطي القديم) هذه خلاصتها:
يرجع الشعر القبطي إلى القرن التاسع بعد الميلاد، وهو شعر شعبي وطني لا أثر له في الكتب الثمينة والدواوين الأدبية، بل يوجد في كراسات متفرقة من الورق، وهو يمثل روح الشعب وعقليته، وتظهر فيه جلياً الروابط التي تربطه بشعر العصور الفرعونية كما تظهر علاقته بألحان الشعب في العصر الحاضر
ويؤلف الشعر القبطي من قصص للعامة مثل أغاني الفلاحين وهم يؤدون أعمالهم، وأناشيد
تتلى في أيام الأعياد. وهو على مثال الشعر الفرعوني لم يتقيد بقاعدة القوافي؛ وأبياته لم تراع فيها قواعد الوزن المتبعة في الشعر العربي أو اللاتيني فهو غناء نسقي روعي في كل بيت منه انسجام خاص في الكلمات والتوقيع يوصل إلى نغمة موسيقية، وهذه الطريقة نفسها المتبعة في شعر مصر القديمة
وكانت الأشعار القبطية تلقى بطريقة موسيقية على ألحان متعددة لكل لحن اسم، وكان هذا الاسم مكوناً من الكلمات الافتتاحية لأغنية مشهورة (مثلا: الباب، الحديقة، سمعت السر المقدس. . . انظر إلى فوق. . .) كما تلقى اليوم أغاني العامة على وزن موال كذا وكذا
وكانت الأغاني في أغلب الأحوال مؤلفة من دورين في كل دور أربعة أبيات، وكانت بين الدورين رابطة معنوية، فكان الدور الثاني مثلاً يحوي ردا على سؤال ورد في الدور الأول، وتوجد أيضاً قصائد تمثيلية تشتمل على مقدمة ثم نشيد للمغني، وبعد ذلك دور غنائي غير موزون، يليه رد الجمهور، وكانت تكرر هذه السلسلة مرة أو أكثر على حسب موضوع القصيدة
وفي أحوال أخرى توجد قصائد تشبه كل الشبه الروايات التمثيلية الغنائية فيلقي كل ممثل في دوره دورا غنائياً كما يرى في رواية (اركليتيس ووالدته)
معاهدة ثقافية
عقدت أخيراً بين فرنسا والنمسا معاهدة ثقافية لتقوية الروابط والصلات الثقافية والفنية والاجتماعية بين الأمتين، خلاصتها أن تتبادل الحكومتان الآثار العلمية والفنية، وأن تتبادلا إقامة المعارض الفنية وتنظيم الحفلات الموسيقية والتمثيلية كل في بلد الآخر؛ وقد نص أيضاً على أن المعهد الفرنسي الفني الذي أنشئ منذ حين في مدينة فينا يجب توسعته وتنظيمه، بينما تنشئ النمسا معهداً نمسوياً مماثلاً في باريس؛ كذلك نص على أن تتبادل الحكومتان انتداب العلماء والأساتذة كل في النواحي التي تحتاج فيها إلى معاونة علمية من الطرف الآخر، وأن تنظم كلتاهما كل في بلد الآخر رحلات علمية ورياضية لطلبة المدارس الثانوية، هذا إلى تفاصيل أخرى ترمي كلها إلى تقوية الصلات العلمية والاجتماعية بين البلدين
هذا ومن المعروف أن النمسا قد عقدت مثل هذه المعاهدة الثقافية من قبل مع المجر
وإيطالية؛ وهي تبغي من وراء ذلك إلى كسب المعاونة الخارجية للاحتفاظ بمستوى ثقافتها؛ وهي تبذل في ذلك السبيل جهوداً عظيمة داخلية وخارجية
وفاة علامة كبير
من أنباء السويد أن الطبيب والعلامة المجري الشهير الدكتور روبرت بارني قد توفي في أوبسالا في الستين من عمره؛ وكان مولده في المجر سنة 1875؛ ودرس الطب في فينا، ثم زاول مهنته فيها أعواماً طويلة، واشتهر بالأخص بالتخصص في أمراض الأذن وجراحتها، وفي أثناء الحرب الكبرى انتظم في سلك الجيش، وحارب في الميدان الشرقي، ووقع في أسر الروس، وأمضى في الأسر حيناً في روسيا. ولكن حكومة السويد تدخلت في أمره تقديراً منها لكفاياته العلمية، وسعت لدى روسيا حتى أطلق سراحه، وانتدبته الحكومة السويدية للتدريس في جامعة أوبسالا، وفي أثناء الحرب أيضاً منح الدكتور بارني جائزة نوبل للطب، وأضحى علم الأعلام في طب الأذن؛ وله في هذا الميدان بحوث علمية شهيرة؛ وقد أنفق حياته منذ إطلاقه من الأسر كلها في السويد حتى توفي فيها
الكتب
نابليون: المائة يوم
للسنيور موسوليني والسنيور فورزانو
نقلها إلى العربية الأديب يوسف تادرس
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
مازال عظماء الرجال موضع تفكير الإنسانية وبحثها، ومهما كتب الكتاب في عظيم لم يستوعبوا أسراره بل تبقى في نواح منه مواضع فسيحة للأجيال المقبلة وبحثها، ولقد كان نابليون أعظم من ظهر في الإنسانية في تلك القرون الأخيرة من رجال الحرب والسياسة، ولئن نفِس عليه الأدباء عظمته وأبو عليه الزعامة فيهم، فلن يستطيعوا أن ينكروا أنه قد كان أديباً، وأنه كان شاعراً، لا بأنه كتب الكتب وألف القصائد، بل لأنه كان له فن الكاتب وخيال الشاعر. ولقد حاول أن يجول في ميادين الأدب الخالص كما حاول من قبله قيصر، فلم تترك له مشاغل المعمة ومشاكل السياسة فراغاً لذلك
وقلما نجد لغة من اللغات الحية ليس فيها ذكر لذلك الرجل العظيم، ولم تكن القصة مقصرة في ذلك عن التاريخ، فإن كتاب القصص وجدوا في حياته مواطن كثيرة يخرجون منها إلى خيال رائع أو تحليل بديع. فقد كان نابليون على شهرته وتطلع العيون إليه محاطاً بجو من الغموض يجعل في حياته مسارح لقناص الرواية وصيادي الحكاية
وقد اختلفت نظرات الناس في نابليون اختلافاً لا ينم عن شيء نميمته عن عظمته واتساع شخصيته. ولكن لم يكن في مقدور البشرية أن يدرك شخص كنه شخص آخر. فما زال تقدير الناس لنابليون تقديراً يقرب بهم إلى الحقيقة ولا يلمسها. فكل من كتب فيه قارب ولم يصب، ودنا ولم يصل. غير أن بعض الواصفين أقدر من بعض على قصد المرمى وبلوغ المدى، وذلك أن يكون الواصف فيه شيء من طباع الرجل وخلقه وآرائه. فإذا تحقق ذلك كان الواصف أدنى ما يكون من الحقيقة
وقد كتب هذه القصة التي بين يدينا الآن رجل عظيم تدنيه من نابليون علاقات كثيرة ومشابهات متعددة وذلك هو موسوليني، فكلاهما إيطالي، وكلاهما رجل حرب، وكلاهما
رجل سياسة، وكلاهما فيه هذه المغناطيسية العجيبة التي تخلق الأصدقاء المخلصين والأعداء المتحمسين، وكلاهما انحنت له هامات كبيرة وعقول حصيفة، فإذا كتب موسوليني قصة عن نابليون، كان أليق الناس أن يصف نبضات قلبه وخلجات صدره. وهاهي هذه القصة تدل على ذلك أكبر الدلالة
يظهر نابليون في هذه القصة عقب أسره الأول وإرساله إلى جزيرة (البا) ويظهر فيها في فترة المائة يوم إلى أسره الأخير وإرساله إلى (سنت هيلانة) ولعمري لهي أيام القصة من حياة نابليون. هي الأيام التي تتجلى فيها مأساة بشرية رائعة:
دسائس ثائرة حوله، ومجهودات جبارة تحاول صد تيار أتيّ فتصرع دونه، وأصدقاء يفر بعضهم ويثبت أقلهم، ثم أنانية لا تنظر إلا إلى النفس ونفعها أو خلاصها، والرجل العظيم في وسط ذلك كله تنعكس فيه كل تلك العيوب وتشع منه كل تلك البواعث
صور موسوليني نظام الحكم وأسسه، ونطق عن لسان نابليون في تصوير عيوب الديمقراطية واحتقارها فقال:
نابليون - (. . . . . عندما أبرح باريس إلى الميدان، لا أريد أن يهاجمني البروسيون والإنجليز في وجهي بينما يطعنني مجلس النواب الفرنسي من خلف)
فوشيه - (مولاي إن المجلس هو الأمة)
نابليون - ((ترتفع نبرات صوته) لا. . . ليس هو الأمة (يبحث في مكتبه كالمحموم) إن صانع البنادق في مارسيليا الذي وهب لنا مائة بندقية، وصانع السروج الفقير في بولون سيرمار الذي قدم ثمانين سرجاً للفرسان، وعمال فيسول وفلاحي أرجون الذين حفروا الخنادق وأبو أن يتناولوا أجرا، وجنود الفرقة التاسعة والسبعين الذين رفضوا الرشوة لأنهم عقدوا العزم على لأن يتبعوني. . . وكل امرأة كنت أنتظر منها رسالة استجداء فإذا بي أتسلم من ذلك رسالة تقدم فيها ما ادخرته من مال. (يريهم لفة مربوطة بشريط وسام جوقة الشرف) هذه هي الأمة يا مسيو فوشيه، وليس الخمسمائة من المحامين الذين يستطيع أربعة من رجال حرسي أن يفرقوهم بمؤخرة بنادقهم)
وصور موسوليني شخص نابليون فلم يترك دقيقة لم يصورها: رجل ينام في أي وقت شاء، ويدرك في دقيقة ما يفوت الافهام في ساعات. فإذا عزم فإنما عزيمة البرق، وذلك
حتى بعد أن فل حده وترهل جسده وضعفت عزيمته بعض الضعف. ثم صوره والداً تغلبه العاطفة وزوجاً يذكر حبه الأول ويحنق على زوجة خائنة حنقاً مكتوماً وإنساناً يحتمل العذاب والأحقاد احتمال الجبار
ثم صور موسوليني الموقعة الأخيرة، فكان في وصفه القائد الواقف على نشز من الأرض يرقب جنوده من منظاره، ويحرك الفيالق عن علم ودراية، حتى لكأننا ننظر من ثنايا وصفه ميدان (كاتربرا) و (واترلو). ونسمع أصوات القواد والساسة في مفاوضاتهم بعد النصر الأخير
فالقصة مثل رائع من أمثلة التأليف القصصي التاريخي، يكاد الإنسان لا يبصر فيها موضع القصص لصدقها التاريخي، ويكاد لا يلمح التاريخ لصدق تصويرها القصصي
وقد أحسن حضرة الأديب يوسف أفندي تادرس الناقد المسرحي لجريدة السياسة الغراء، في إخراج هذه القصة إلى اللغة العربية التي ما كان لها أن تفقد قصة موضوعها نابليون ومؤلفها موسوليني. وقد نقلها عن الترجمة الإنجليزية للشاعر الإنجليزي المعروف (جون درنكووتر)
وقد قرأت التعريب كما قرأت الترجمة الإنجليزية التي عربها المعرب، فإذا بي حيال قصة عربية سلسة حلوة الأسلوب سهلة اللفظ، قد أبرز المعرب روحها إبرازاً لم يدع فيها موضعا لغموض مع الصحة والدقة
فعلينا أن نشكر لحضرة المعرب الأديب مجهوده العظيم الذي أضاف به كنزاً كهذا إلى اللغة العربية المجيدة
محمد فريد أبو حديد
مكتبة القراءة والثقافة الأدبية
بقلم الدكتور أحمد فريد رفاعي
مدير إدارة المطبوعات
لا حاجة بنا أن نقدم إلى القراء الدكتور أحمد فريد رفاعي فهو ذو الشهرة الطائرة والصوت البعيد في عالم الأدب، وفي طليعة الجمهرة المستنيرة المثقفة في مصر، يجمع إلى نشاطه
الوثاب عزيمة لا تفتر وهمة لا تكل، وهو جد معني بأن يظهر أبناء العربية على طريف البحوث وشائق التآليف في مختلف مناحي الثقافة العربية، فقد أصدر منذ سنوات قليلة مؤلفه الكبير (عصر المأمون) ونال ما يستحقه من الرضا والإقبال، كما أصدر سلسلة (الشخصيات البارزة)؛ وهاهو ذا الآن لا يشغله منصبه الرسمي الكبير عن أن يتحف أبناء العربية بسلسلة جديدة في أربعة أجزاء تشمل دراسة موضوعات مختلفة في الثقافة العربية أصدرتها مطبعة المعارف في حجم لطيف وهي (المقدمة، والتعقيب، والتذييل، والتعليق) وهي تشمل بحوثاً مستفيضة في نواح مختلفة تلذ حقاً وتنفع حقاً، فمن حديث عن حاجة العربية إلى التجديد، إلى كلام عن فن القراءة، إلى درس البرامج الدراسية العربية والإفرنجية، إلى مطلب عن القراءة، إلى حديث عن موقف المؤلف بين العربية والإنكليزية، إلى فذلكات عن ابن الجوزي والبغدادي وياقوت الحموي والفارابي وابن سينا وقيس بن رقاعة والزجاج وابن مسكويه وعمر بن الخطاب وأبي موسى الأشعري وأبي عبيدة الجراح ومعاذ بن جبل وأبي حيان والأشتر النخعي والبصري والمهدي وطاهر بن الحسين وابن طيفور والصابي وابن زيدون والإسكافي وابن سعيد المغربي وابن صخر الهذلي، إلى غير ذلك من الأحاديث الشيقة والدراسات الممتعة
وقد صدره المؤلف الفاضل بمقدمة بليغة، شرح فيها غرضه من تأليفه وهو حرصه على توجيه الشباب توجيهاً نافعاً إلى الطريق الأقوم. فعسى أن يكون إقبال القراء عليه مكافئاً لجهده ومحققاً لقصده
(س)