المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 148 - بتاريخ: 04 - 05 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٤٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 148

- بتاريخ: 04 - 05 - 1936

ص: -1

‌الملك العالم فؤاد الأول

سبحانك اللهم مالك الملك! تدبر أمرك في سمو على مدارك العقل، وتنفذ حكمك في استقلال عن هوى الناس! فلا حرص الوالد على وحيده يلطف قضاءك فيه، ولا حاجة الشعب إلى مليكه ترد بأسك عنه. حكمة ضلت فيها الفطنة ضلال الأفن، وقوة ضاعت فيها القدرة ضياع العجز، وسلطان خضع له الملك خضوع السُّوقة!

كان الملك فؤاد رحمه الله مظهراً من مظاهر القدر في الأرض. يجلس على عرش من أعرق العروش نسباً في الملك؛ ثم يأمر فيطيع شعب، ويقول فيسمع عصر، ويعمل فيسجل تاريخ، ويضع حكمه في الأمور موضع الإدارة السماوية فيكون شريعة لا تخالف، وعقيدة لا تنكر. وتلك طريقة الملك بمعناه الشرقي الموروث، تصلح مادام لها من هدى الله دليل ومن رَوْح العدالة سند؛ وشبل إسماعيل كان ملكاً بنشأته ومصلحاً بطبعه: رُبي تربية ملكية، ونُشِّئ تنشئة عسكرية، وثُقِّف ثقافة حديثة؛ ثم تقلب بين ملكية رومة، وخلافة الآستانة، وخديوية القاهرة، فارتسم على صفحة ذهنه صور من كل. ولكن عبقريته الفنية وعقليته العلمية ورجولته العملية، جعلت منه ملكاً فيه خصائص المُلك، وليس فيه نقائض الملوك. وإذا قلت إن الشرق لم ير قبل فؤاد ملكاً واسع الإحاطة شامل الثقافة قوي الإدراك لا تبعد عن الصدق

كانت مواهب الأمير فؤاد تأبى عليه إلا أن يكون كخالد ابن يزيد رجل علم إن لم يكن رجل مُلك. لذلك لم يصبر طويلاً على أن يكون حاشية للسلطان في سراي عبد الحميد أو قصر عباس، فعاد فاتبع إحدى سبيلي المجد؛ وأقبل يذكي النهضة المصرية بالعلم النافع والعمل المنتج والقوة المحركة؛ فكان رئيساً لتسع عشرة جمعية أو مؤسسة ما بين علمية واقتصادية وخيرية، كلها من اقتراح رأيه أو من ثمرة سعيه. فلما بوَّأه الله عرش مصر في ساعة مضطربة وحالة مبهمة، كان يرى لطول ما خبر الشعب، وكثرة ما عالج الأمور، ووفرة ما عرف من الوسائل، وكفاية ما تزود للإصلاح، وقوة ما ضمن لتوزيع العدل، أنه أول الناس وأولى الناس بقيادة أمته في أشد مراحلها تعرضاً للضلال والخطر؛ وهذه القيادة نوع من أنواع الحكم المطلق، يعتمد على وحي العقيدة وإخلاص الرأي كالخلافة، أكثر مما يعتمد على استبداد الزعامة وقوة الجمهور كالدكتاتورية؛ ومن ذلك كان منشأ النزاع الثلاثي الذي قام بين العرش والاحتلال والدستور حيناً على حين؛ ومن طبيعة هذا النزاع أن يتجاذب

ص: 1

أطراف الأمة الثلاثة فتنبسط لتنقبض، وتتسع لتضيق، ولكن القوة التي كان الملك يستمدها من صبره وحكمته وجرأته وخبرته وذكائه كانت في الكثير الغالب تشد الطرف الراجح إلى يده، فيسير في الإصلاح بالقدر الذي يبقي على هذا التجاذب من الإمكان والقدرة. ومع ذلك كان التقدم في عهده على محافظته وأناته محسوس الأثر؛ فلقد تعهد منابت الثقافة فغذاها بعونه، وتفقد منابع الثروة فرفدها بعنايته، وبسط رعايته على كل أمر من أمور الدولة وكل شأن من شئون الأمة حتى لا تجد عملاً من الأعمال العامة إلا كان فيه بسطة من لسانه أو يده

ولعل أشرق وجوه الإصلاح في عهد المليك الراحل ما اتصل منها بالجمعيات الاقتصادية والمؤسسات العلمية والمؤتمرات الدولية والمتاحف الأثرية والمرافق العامة؛ أما الأعمال الفردية والجهود الأدبية فكان نصيبها من حكمه السعيد كنصيبها من حكم جده الأعلى محمد علي. على أن عناية المليك العظيم بها قد بدت بواكيرها المرجوة في مثل بنك التسليف ومجمع اللغة؛ فلو مد الله في عمره الحافل المبارك حتى تنضج لكان عصره أشبه بعصر لويس الرابع عشر

كان الملك فؤاد بالرغم من عوامل نشأته، وعلى النقيض من ميول أبيه، شديد التعلق بدينه، قوي الحرص على شرقيته؛ يكره أن يجعل من مصر قطعة من أوربا، ويجب أن تظل دولة إسلامية شرقية لها تقاليدها الخاصة، وأسانيدها المتصلة، وسماتها المميزة، فساعد الحجاب، وأيد الطربوش، وعضد الدين في كل خلاف بينه وبين التطرف؛ وكان من ذلك شيء من التصادم المكبوت بين الرغائب الوثابة الشابة، وبين هذه الأناة الملكية الحكيمة

إن من العسير على المنطق النزيه أن يحكم اليوم على أعمال مليكنا العالم العامل الكفء، فإنها إنما بدت للناس على ألسنة رجال البلاط، وعلى أيدي رجال الحكومة؛ والبلاط قد يتأثر بشهوات الناس، والحكومة قد تتأثر بنزوات الساسة. ومهما يقل التاريخ في العصر الفؤادي فسيسجل بالخط البارز أنه عصر الرخاء للنيل، وعهد الاستقلال للأمة، وفجر النهضة في مصر

عز الله مصر عن ملكها العظيم الفقيد، وبارك الله لمصر في ملكها العزيز الجديد

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌مقياس الشباب

للأستاذ أحمد أمين

أما الأطباء وعلماء الإحصاء فيقدرون الشباب بالسن، فمن بلغت سنه العشرين أو قبل ذلك قليلا أو بعد ذلك بسنتين فشاب وإلا فلا؛ فتحديد السن هو مقياس الشباب، كما هو مقياس الطفولة والهرم، فإن شئت أن تعرف المخلوق أطفل هو أم شاب أم شيخ فأغمض عينك وعدّ السنين، ولا تنظر إلى قوة أو ضعف، ولا إلى صحة أو مرض

وسار على هذا النمط علماء اللغة، فقالوا: مادام الإنسان في الرحم فهو جنين، فإذا ولد فهو وليد، ثم مادام يرضع فهو رضيع، ثم إذا قطع عن اللبن فهو فطيم، فإذا كاد يجاوز العشر سنين أو جاوزها فهو ناشئ، فإذا كاد يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع ومراهق، ثم مادام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب، ثم هو كهل إلى الستين

ولكن هناك شاعرا أراد أن يخرج على هذه التقاليد، وأراد أن يقيس الشباب والفتوة بالمعنى لا بالمبنى، وبالقوة لا بالسن، فقال:

يا عزُّ هل لكِ في شيخ فتىً أبدا

وقد يكون شبابٌ غيرُ فِتْياَنِ؟

فهو لا يريد أن يعترف بأقوال الإحصائيين، ولا أقوال اللغويين، فقد يسمى الشيخ شاباً متى حاز صفات الشباب، وقد يسمى الشاب شيخاً إذا حاز صفات الشيوخ، فالعبرة عنده في التسمية الصفة لا السن، وهي من غير شك نظرة جريئة ومذهب جديد ينظر فيه إلى الكيف لا إلى الكم، وإلى النتائج لا إلى المقدمات، وإلى الغاية لا إلى الوسيلة؛ فإذا عرضْتَ عليه رجلا قد ناهز الستين أو جاوزها، قد لبس في حياته العمائم الثلاث: السوداء ثم الشمطاء ثم البيضاء؛ وعرضت بجانبه من يسمونه شاباً، لم يلبس في حياته إلا العمامة الأولى. ثم سألت صاحب هذا المذهب: ما قولك دام فضلك في هذين؟ هذا أربى على الستين، وهذا في سن العشرين. فأيهما الشاب، وأيهما الشيخ؛ لم يستسخف سؤالك، ولم يعده بديهية من البديهيات، بل عده مجالاً للنظر الطويل والتفكير العميق، وقال: ليس الأمر بالسن أيها السائل، فمن رأيته منهما متهدماً قد نضب ماؤه، وذهب رواؤه، وذوى عوده، وخوى عموده، ورق جلده، وانخرع متنه، وحطمته اللذات، وأنهكت قوته الشهوات، حتى صار لا يحمل بعضه بعضاً، فهو الشيخ وإن كان ابن العشرين؛ ومن امتلأ قوة، وبلغ كمال البنية،

ص: 4

واستوت قامته، واعتدل غصنه، وحفظت جدته، وأحكمت مِرته، وتجلت رجولته، واكتمل نشاطه، فهو الشاب ولو جاوز الستين. إنما يلجأ إلى السن في تحديد الشباب والشيخوخة من قصر نظره، وضعفت قوة حكمه، وأراد أن يعالج الأمر من أسهل طرقه، وأقرب مسالكه، وذلك شأن الغر الأبله، لا الفيلسوف الحكيم، ولم كنا إذا قسنا العلم وقسنا الكفاية، وقسنا الخلق والصلاحية للأعمال لم نرجع في شيء من ذلك إلى السن، وإذا قسنا الشباب والشيخوخة رجعنا إلى السن؟ ليست السن مقياس الشباب، وإنما أحسن أحوالها أن تكون علامة الشباب، وقد تتخلف العلامة كحكمنا على الرجل بالعلم لأن لديه شهادة الليسانس في الآداب أو الليسانس في الحقوق، وقد يكون معه الليسانس أو الدكتوراه وليس بعالم، كما يكون في سن العشرين وليس بشاب. إن الشباب أو الشيخوخة معنى لا مادة، وقد علمتنا قوانين الحياة أن المادة تقاس بمادة، والمعنى يقاس بمعنى. فنحن نقيس الحجرة المادية بالمتر المادي، ونكيل القمح المادي بكلية مادية، ونزن التفاح المادي برطل مادي، ولكن من السخف بمكان أن تقيس الفضيلة أو الجمال أو القبح بمتر أو رطل أو قدح، فلم نقيس الشباب وهو معني بالسن وهي مادة؟

بل لو تعمقنا أكثر من ذلك لوجدنا أن حسن الرواء وجمال المنظر ومرح النشاط ليست هي المقياس الصحيح للشباب، إنما الشباب مزاج، هو محصل لمجموع قوى نفسية، هو حاصل جمع لصفات خلقية، إن شئت فقل هو الإرادة قوية تعزم العزم لا رجوع فيه، وتزمع الأمر لا محيد عنه، وترمي إلى الغرض لا سبيل إلا إليه، تعترض الصعاب فلا تأبه لها، وتخر السماء على الأرض فلا تتحول عنه؛ قد تعترف بأن هناك عقبة، ولكن لا تعترف بعقبة كؤود؛ وقد تقر بصعوبة الأمر، ولكن لا تقر باستحالته - والشباب هو العاطفة القوية المتحمسة الصحيحة، ومظاهر صحتها أنها ثابتة فليست (قشاً) تشتعل سريعاً وتخمد سريعاً، ليست مضطربة تذهب مرة يمينا ومرة يسارا من غير غرض يحدد اتجاها، وليست مائعة تحب فتذوب في الحب، وتغضب فتجن في الغضب، إنما ألجمها بعض الإلجام العقل والمصلحة والغرض - والشباب هو الخيال الخصب الواسع الأفق والمترامي الأطراف الذي يرسم الأمل ويبعث على الطموح، ويحمل المرء على أن يتطلب لنفسه ولأمته حياة خيرا من حياتها الواقعية - هذا المزاج الذي يتجمع من إرادة قوية وعاطفة حية وخيال

ص: 5

خصب هو الشباب، وبمقدار قوتها وتلاؤمها تكون قوة الشباب، وبمقدار نقصها تكون الشيخوخة، فالشباب موجب والشيخوخة سالبة، والشباب إقدام والشيخوخة إحجام، والشباب نصرة والشيخوخة هزيمة

وإذا كان الناس قد اعتادوا أن يصطلحوا على علامات للشيب والشباب حسب تفسيرهم الباطل فإن لنا علامات أخرى على تفسيرنا الصحيح

لقد جعلوا الرأس موضع أهم الإمارات، فسواد الشباب وبياض المشيب أكثر ما دار عليه القول في الشيخوخة والشباب، وهو مركز القول في ذلك عند الأدباء والشعراء، حتى ألفوا في ذلك الكتب الخاصة من أشهرها كتاب (الشهاب في الشيب والشباب) جمع فيه الشريف المرتضى تسعة وثلاثين بيتاً في الشيب لأبي تمام، ومائة وأربعين للبحتري، وثلثمائة وأربعة عشر للشريف الرضي، وأربعمائة وثلاثة وستين للمرتضى، وستة وأربعين لابن الرومي. وقد التفت مؤلف هذا الكتاب في مقدمته إلى فكرة جليلة، ولكنه لم يحسن تعليلها، قال:(إن الإغراق في وصف الشيب والإكثار في معانيه، واستيفاء القول فيه، لا يكاد يوجد في الشعر القديم، وربما ورد لهم فيه الفقرة بعد الفقرة، فكانت مما لا نظير له، وإنما أطنب في أوصافه واستخرج دفائنه والولوج إلى شعابه الشعراء المحدثون)

وعلة ذلك في نظري أن الحياة في الجاهلية وصدر الإسلام لم تكن غالية، كانت تتطلب المجد وتسترخص الموت، غير أن المجد في الجاهلية كان مجد الذكر وحسن الأحدوثة والخوف من العار وإتباع التقاليد، وكان في الإسلام ذلك، وعند بعضهم الاستشهاد في سبيل الدعوة وبيع النفوس لله برضاه وجنته، فليست الحياة تستحق البكاء الطويل عليها. أما في العصر العباسي فكانت أشبه بحياة الرومانيين؛ من أهم أغراضها اللهو واللعب، ومن أهم أغراضها القرب إلى النساء والتحبب إليهن، وذلك يستدعي حب الحياة؛ فنذير الموت وهو الشيب بغيض إلى النفس، والنساء يكرهن الشيب فيجب أن يكره، ويعيرن به فيجب أن يبكى، ويمدحن الشباب ويحببنه فيجب أن يرثى. لهذا كثر القول في الشيب في العصر العباسي وما بعده، وقل فيما قبله

أما علامات الشباب والشيخوخة في نظريتنا: فليس موضعها الرأس، إنما موضعها القلب، فاليائس شيخ لأن اليأس ضعف في الإرادة وضيق في الخيال، وبرودة في العاطفة، والشيب

ص: 6

شيب القلب لا شيب الرأس، فمن لم ينفعل لمواضع الانفعال، ولم يعجب لمواضع الإعجاب، ولم يستكره في مواضع الاستكراه، ولم ينازل في مواضع الكفاح، ولم يطرب للموسيقى الجميلة والمنظر الجميل، ولم يهتج للأحداث، ولم يأمل ولم يطمح، فهو شيخ أي شيخ، شاب قلبه، وإن كان أسود الرأس حالكه

إن أردت أن تعرف أشيخ أنت أم شاب فسائل قلبك لا رأسك، هل ينبض بالحب: حب الجمال، وحب الطبيعة، وحب الفضيلة، وحب الإنسانية، وهل ينفعل لذلك انفعالاً قوياً فيهيم ويغار ويدافع ويضحي؟ هل يتصل قلبه بالعالم فيتلقى أمواجه الأثيرية من الناس، ومن الأرض، ومن البحر، ومن الجبل، ومن السماء. ثم يلقي بأشعته - كما تلقى - على كل من حوله، فينفعل ويفعل، ويتأثر ويؤثر؛ فهو كالقمر يتلقى من الشمس ضياء وهاجا ويعكسه على الأرض نوراً وضّاء؟ هل يبادل من حوله حباً بحب، وعاطفة بعاطفة، وخيراً بخير، وأحياناً شراً بشر؟ وهل يترك العالم خيراً مما تسلمه؟ أو أن قلبه بارد كالثلج، جامد كالصخر، لا طعم له كالماء، ميت كالجماد، مغلف كالخرشوف؟

إن كان الثاني فشيخ، وإن كان الأول فشاب

قالت كبِرْتَ وشِبْتَ قُلْتُ لها

هَذَا غُبَارُ وقَائِع الدَّهر

أحمد أمين

ص: 7

‌النهضات القومية العامة في أوروبا وفي الشرق

للأستاذ عبد الرزاق أحمد السنهوري

عميد كلية الحقوق ببغداد

بقية المحاضرة الثانية

طرقها في التنظيم:

وللفاشية طرق للتنظيم. والحكومة الفاشية تتألف من الملك والمجلس الأعلى والوزراء ومجلس الشيوخ ومجلس النواب والمجلس الوطني للنقابات. ومن وراء هذا الحزب الفاشي على درجة عليا من التنظيم، وهو القيم على الحكومة الفاشية كما أن الحزب الشيوعي هو القيم على الحكومة البلشفية. ومن وراء هذا وذاك الزعيم. وهو رئيس الحزب الفاشي، ورئيس المجلس الأعلى، ورئيس الوزراء، ورئيس المجلس الوطني للنقابات. وفي يده تتركز كل السلطات

والجديد في هذا التنظيم أمران:

الأمر الأول هو أن أعضاء مجلس الشيوخ والنواب لا يأتون بطريق الانتخاب كما في الدول الديمقراطية، بل يأتون بطريق التعيين. فأعضاء مجلس الشيوخ يعنيهم الملك بناء على ترشيح الحكومة. وأعضاء مجلس النواب يعينهم المجلس الأعلى، ويصدق على التعيين الناخبون بطريق القائمة. والناخب يصوت لا كفرد سياسي، بل كشخص اقتصادي، فيفرق بين أصحاب الأعمال والعمال والقائمين بالأعمال الفكرية

والأمر الثاني هو أن هذه الهيئات المختلفة التي تتألف منها الحكومة الفاشية فيها هيئتان جديدتان لا نظير لهما في الدول الديمقراطية: المجلس الأعلى والمجلس الوطني للنقابات. أما المجلس الأعلى فهو اللجنة التنفيذية للحزب الفاشي نجح موسوليني في إدماجها في الحكومة الإيطالية. ويتألف هذا المجلس من نحو عشرين عضواً يرأسهم الزعيم. وفيهم أعضاء معينون لمدة غير محدودة، وأعضاء لمدة محدودة، وأعضاء بحكم وظائفهم. ويختص هذا المجلس بالنظر في المسائل التشريعية الكبرى، كسن القوانين الدستورية. وهو الذي تتركز فيه السلطة التنفيذية بعد الزعيم ويعين أعضاء الهيئات التي تتألف منها

ص: 8

الحكومة الفاشية والحزب الفاشي. أما المجلس الوطني للنقابات فيتألف من ممثلين لأصحاب رؤوس الأموال وممثلين للعمال ويرأسه الزعيم. وهو ينقسم إلى فروع تتمشى مع النواحي المختلفة للنشاط الاقتصادي. فتمثل فيه الصناعة الكبرى. والصناعة الصغرى، والزراعة، والتجارة، والنقل، والمصارف وغيرها. ذلك أن أصحاب رؤوس الأموال والعمال في كل ناحية من هذه النواحي منتظمون في نقابات متدرجة من محلية إلى إقليمية إلى مركزية إلى هذا المجلس الوطني للنقابات ويتناول اختصاصه بنوع خاص توجيه النشاط الاقتصادي في البلاد

ومن هذا نرى أن الفاشية، بحكم المبادئ التي تقوم عليها، والوسائل التي تتذرع بها في العمل، والطرق التي تتبعها في التنظيم، خصم للاشتراكية من جهة، وللفردية من جهة أخرى؛ فموقفها بالنسبة للفرد موقف وسط، لا تدمجه في الدولة كما تفعل الاشتراكية، ولا تطلق له الحرية كما تفعل الفردية

النازية:

وإذ فرغنا من التحدث عن الفاشية في إيطاليا نقول كلمة موجزة عن النازية في ألمانيا. وحتى نختصر الطريق نكتفي في الكلام على النازية بأن نقارن بينها وبين الفاشية، فالحركتان تتفقان في المبادئ ووسائل العمل. ذلك لأن النازية تقدس القومية، ولكن القومية عندها لا تقوم على رابطة الوطن كما في الفاشية، بل تقوم على رابطة الجنس. فالجنس الجرماني كله، لا الأمة الألمانية وحدها، هو الذي يجب أن يتحد. والنازية كالفاشية توفق ما بين المبادئ الاشتراكية والنزعة الوطنية، فهي وطنية اشتراكية ذات صبغة عملية. والنازية كالفاشية لا تؤمن بالجامعات الدولية، فهي ترى عصبة الأمم جامعة خيالية، وتقيم حربا عواناً على البلشفية. وقد انتظم هتلر الشيئين في خطبته التي ألقاها منذ شهر عقب الحوادث السياسية الأخيرة، فهو يقول: (إن الأمم كانت فريسة للخيالات والأوهام عندما آمنت بعصبة الأمم، وإن السلام الذي كان يجب أن يكون حجراً يقفل به ضريح الحرب إلى الأبد أصبح مباءة تنمو فيها بذور ارتباكات جديدة، وإن الثورة الشيوعية لم تقتصر على وضع طابعها على إمبراطورية من أعظم الإمبراطوريات في العالم، بل اتجهت أيضاً إلى الشعوب المجاورة. فهناك جيوش مؤلفة من ملايين الرجال تذهب إلى الحرب لإشعال

ص: 9

ثورات عالمية من أجل الشيوعية، وتجند هذه الملايين بدعوى السعي إلى إبطال الحروب. .)

والنازية كالفاشية تجعل الحكم للأقلية الصالحة، ويقول هتلر في هذا المعنى:(نريد رجالاً قليلين من الطبقة الحاكمة الجديدة، هم الذين يؤمنون بأن لهم الحق في أن يحكموا لتفوقهم، ويبسطون سلطانهم دون تردد على السواد من الجماهير). على أن هذه الأقلية الحاكمة تدين كلها بالخضوع والولاء للزعيم الأكبر

والنازية كالفاشية في نزعتها الاستعمارية العسكرية. فهي تذهب إلى أن العلم الحديث يولد إيماناً لا يتزعزع في القيمة الخلقية العليا للحرب. ويقول الدكتور جوبلز: (إذا حاولت أن تقمع الحرب، فأنك تكون كمن يحاول أن يقمع حركات الطبيعة)

والنازية كالفاشية في الظروف التي نشأت فيها. فقد قامت النازية عقب خروج ألمانيا من الحرب مهزومة. وكان للاضطرابات التي أحدثها الاشتراكيون الألمان، والإضرابات التي نظموها، أثر حاسم في هذه الهزيمة. وقد سام الحلفاء المنتصرون ألمانيا المهزومة في شروط الصلح خسفا جرح كبرياءها، وفي وسط هذه الغيوم المتلبدة سطع نجم مؤسس النازية، بعد أن أقام حركته لمقاومة البلشفية، ولإنقاذ الوطن الجرماني، وبعثه من جديد

والنازية كالفاشية أخيرا في شخص الزعيم. ففي إيطاليا موسوليني القائد المحرك وفي ألمانيا هتلر القائد المرشد هذا وراءه النازي فرقاً منظمة وهم ذوو القمصان السمراء، وذاك وراءه الفاشستي أي فرق الكفاح، ذوو القمصان السوداء. وقد لجأ الرجلان إلى أساليب واحدة في تنظيم معسكريهما: خضوع مطلق لسلطان الزعيم، ونظام عسكري دقيق، وروح وطنية حربية، وشبان يحتشدون بالألوف، ويدخلون أفواجاً في هذا الدين الجديد. وكل من الفاشية والنازية دين ينطوي على إيمان عميق. ولهذا الدين فرائضه ومناسكه، تتمثل أوضاعاً ورسوما، فمن حركات عسكرية، إلى أعلام خفاقة، إلى إشارات رمزية، إلى شارات موضوعة، إلى أناشيد محفوظة، إلى لباس خاص

والرجلان قد رزقا موهبة الخطابة وقوة البيان، والقدرة على اجتذاب شعور الجماهير. وهما إنما يبشران بدين وأيمان، وقوة الإيمان يغذيها سحر البيان. والرجلان من رجال العمل لا من رجال الفكر، فهما لا يترددان، ولا يتمهلان، بل يسيران قدماً إلى الأمام

ص: 10

والرجلان يتشابهان نشأة وتربية وقوة وسطوع نجم. نشأ في المتربة والمسغبة، موسوليني أبوه حداد، وهتلر أبوه مستخدم صغير في الجمارك النمساوية. وعاش الاثنان عيشة الكفاف ثم هجرا بلديهما، فذهب موسوليني إلى جنيف، حيث اشتغل عاملاً فبناء؛ وذهب هتلر إلى فينا، حيث اشتغل عاملاً فرساما. وقد تربى كل منهما في مدرسة واحدة، هي مدرسة البؤس والشقاء، تلك المدرسة التي كثيراً ما تبنت عظماء الرجال. فتعلما فيها صلابة العود، وقوة العزيمة، ومجالدة الفاقة، ومنازلة الأخطار، وتخرج كل منهما قوي الشكيمة شديد المراس. وأتما تربيتهما معاً في مدرسة أخرى، هي مدرسة الحرب الكبرى، إذ تقدم كل منهما إلى هذه الحرب، فخاض غمارها، واصطلى بنارها، وعانى أهوالها، وجرح في معاركها، وأبلى فيها بلاء حسنا، وخرج منها وقد استكمل النضوج، واستوفى الرجولة، وسار إلى ما هيأته له الأقدار

وأسس موسوليني أول فرقة للكفاح في ميلان سنة 1919 من مائة وأربعين رجلاً، وتزايدت فرق الكفاح، ونظمت تنظيماً عسكرياً دقيقاً، فأمكنه أن يحشد بعد ثلاث سنوات مائتي ألف من الرجال، استولوا على إيطاليا الوسطى وسبعين ألفاً زحفوا على روما، وقبضوا على ناصية الحكم بالقوة. وهو الآن في قصر فينسيا يصرف أقدار أمة كبيرة ويحكمها حكماً دكتاتورياً. وذهب هتلر بعد الحرب إلى مونيخ، وهناك انضم إلى حزب صغير غير معروف، فأخذ يقويه، وينفخ فيه من روحه حتى حشد فيه الآلاف من الرجال. وسجن عقب إخفاقه في ثورة أراد بها قلب الحكم في بافاريا، وكتب في السجن كتابه الذي أسماه: (جهادي ولما أطلق سراحه، جمع شتات حزبه وكان قد تفرق. وعاد إلى الجهاد؛ ثم أخذ يستولي على مشاعر الأمة الألمانية شيئاً فشيئاً، حتى ضمها تحت لوائه، وأصبح الآن هو المسيطر على سبعين مليوناً من البشر من أعظم الشعوب وأرقاها، يخضعون لإشارته، ويدينون له بالولاء

بقي أن نقول إن الفاشية والنازية تنازلان البلشفية بنفس سلاحها. فهما كالبلشفية تحكمان حكما دكتاتورياً، وهما كالبلشفية أيضاً تخضعان النظام السياسي للنظام الاقتصادي. والمعركة قائمة بينهما وبين البلشفية، فأي المعسكرين يكتب له الانتصار؟ هذا هو السر المخبوء في عالم القدر. على أن الحوادث السياسية الأخيرة وبنوع خاص تلك المحالفة التي

ص: 11

عقدتها فرنسا مع روسيا البلشفية والتي أثارت سخط خصوم البلشفية حتى بين الفرنسيين أنفسهم، قد تعجل بالمعركة الفاصلة، وقد تغرق أوروبا من جديد في بحار من الدماء

على أنه سواء تغلبت البلشفية في المعركة القادمة، أو انتصرت الفاشية والنازية، فالواقع من الأمر أن كلا الخصمين مشبع بروح الدكتاتورية البالغة في التطرف، وأن الصريع بينهما هي الديمقراطية على كل حال. وقد صار واجبا على الديمقراطيين أن يراجعوا أصول الديمقراطية من جديد، حتى تتمشى مع ما يقتضيه هذا التطور السريع

والآن وقد انتهينا من استعراض الحركتين الفاشية والنازية وانتهينا بذلك من استعراض النهضات القومية في أوروبا منذ العصور الوسطى إلى الآن، نختتم هذه المحاضرة بإيراد بعض النتائج العامة التي نستخلصها من تطور هذه النهضات، ونكتفي منها بثلاث:

النتيجة الأولى: هي أن رابطة الدين التي كانت تسود في العصور الوسطى قد زال سلطانها في العصور الحديثة. وقد انفصلت الكنيسة عن الدولة. ولا نعني بذلك أن سلطان الدين قد زال من القلوب، فإن الإنسانية لا غناء لها عن الدين مهما بلغ حظها من التقدم. ولكن عرش الدين مكانه القلوب والضمائر. أما الروابط الاجتماعية فتتصل بالدين من جانبه الاجتماعي، لا من جانبه الاعتقادي

والنتيجة الثانية هي أن الفرد في أوروبا لم يتحرر إلا بعد أن تحرر المجموع. والديمقراطية التي حررت الفرد لم تقم إلا بعد أن تدعمت الوطنية التي حررت الأمم. وليس في هذه النتيجة العملية خروج على المنطق، ولا انحراف عن طبيعة الأشياء، فالفرد جزء من المجموع، فكيف يكون الجزء حراً إذا كان المجموع مقيداً في ربقة الأسر؟

والنتيجة الثالثة والأخيرة هي أن القوميات في أوروبا عندما تكونت أسرفت في التعصب، وتطرفت في الاستئثار. وتقهقر الجانب الإيجابي من الوطنية، وهو حب الإنسان لوطنه أمام الجانب السلبي وهو بغضه للأوطان الأخرى، وحل التعصب للدين، فكان من ذلك أن هزت الحروب أركان أوروبا، واندلعت نيران التعصب للوطن بعد أن نشأت الوطنية وترعرعت ضيقة هوجاء، وأصبحت لا تتسع للاندماج في روابط الجنس والدم. وتعاني أوروبا الآن من تقطع وشائج القرابة ما بين الأمم الأوروبية ما تقف أمامه عصبة الأمم عاجزة دون حول. فما كان أولى برابطة الوطن أن تتوثق في ظل رابطة الجنس! وما كان

ص: 12

أولى برابطة الجنس أن تتوثق في ظل رابطة أوسع! وهكذا تدعم كل رابطة أختها، فتحقن الدماء ويسود السلام.

عبد الرزاق أحمد السنهوري

ص: 13

‌صور من القرن الثامن عشر

4 -

جاكومو كازانوفا

جوَّاب مجتمع ومغامر مرح

خاتمة البحث

للأستاذ محمد عبد الله عنان

والآن وقد استعرضنا سيرة ذلك الجّواب المرح والمغامر الجريء، نحاول أن نستعرض جوانب شخصيته ومناحي نفسه، وأن نقرأ في حوادث حياته لمحة من خلال العصر الذي عاش فيه:

كان القرن الثامن عشر عصر تطور فكري واجتماعي عميق، وكان أيضاً عصر انحلال فكري واجتماعي، وكان المجتمع الأوروبي القديم ينحدر يومئذ إلى نوع من الخمول والدعة، ويجنح إلى تذوق متاع الحياة المادي بكل ما وسع من رغبة وهوى؛ وكان كازانوفا يمثل روح عصره وخواص عصره، بل كان يمثل رذائل عصره أتم تمثيل وأصدقه؛ وكان يمثل بالأخص الجانب المادي من هذه الخواص والرذائل، فكانت خلاله مزيجاً من الاستهتار والمرح، والجرأة والطموح، والعزم والخمول؛ وكانت غاية الحياة عنده هي الحياة ذاتها بما فيها من متاع ولذائذ وترف. كان كازانوفا يحب الحياة حباً جما، وهو يصفها في مذكراته (بأنها هي الشيء الوحيد الذي يملكه الإنسان حقا)، ويشبهها (بغانية حسناء يعشقها الإنسان، ويهبها ما شاءت مادامت باقية عليه)؛ وهذه الفلسفة المادية المحضة هي التي تغمر حياة كازانوفا وتوجهها

وهذه النظرة المادية إلى الحياة، وهذه الفلسفة المستهترة المرحة، وهذه الخواص السقيمة المنحلة، تقدمها إلينا مذكرات كازانوفا بصورة بارزة؛ والواقع أن هذه المذكرات الشهيرة التي تشغل عدة مجلدات كبيرة، إنما هي صورة قوية جامعة لمجتمع القرن الثامن عشر وخواصه وفضائله ورذائله؛ وهي ليست قصة كازانوفا فقط، ولكنها قصة جوانب عديدة من الحياة الاجتماعية في هذا العصر؛ ففيها نرى حياة المغامر الجريء، والمشعوذ الأفاق، والعاشق المضطرم، والسيد المنعم، والشريد البائس؛ وقد كان كازانوفا كل أولئك، وكان له

ص: 14

كل خلالهم، ورذائلهم، وهؤلاء جميعاً يملئون فراغ حياته

وهذه المذكرات الشهيرة هي أسطع ما في حياة كازانوفا، وهي التي خلدت ذكره. ذلك أن كازانوفا لم يكن في ذاته شخصية هامة ولم يكن من رجال التاريخ، ولكن حياته العجيبة تقدم إلينا مزيجاً مدهشاً من الفلسفة المادية والاجتماعية يستحق الدرس لذاته؛ وقد عني في أواخر أيام حياته أن يدون سيرته بكل ما فيها من حوادث مدهشة، وفلسفة مرحة، وفضائح مزرية، وكل ما فيها من شذوذ وخبائث. وقد رأيناه في أواخر حياته يستقر في قصر دوكس، في ذلك المقام النائي المنعزل، ويقطع أوقاته بالقراءة والكتابة؛ وكان كازانوفا أديباً مفكراً، حسن البيان والأسلوب؛ وكان تدوين سيرة حياته أعظم عزاء له في شيخوخته؛ فقد كانت هذه الصحف الممتعة تحمله من ذلك القصر النائي، ومن غمار الشيخوخة والعزلة والبؤس، إلى الماضي الباهر؛ إلى الأيام الخالية بكل ما فيها من متاع وترف، إلى أمسية الحبور والمرح، إلى المدن والمجتمعات التي جابها، وإلى مختلف النساء اللائى ظفر بهن. وكان أثناء حياته الحافلة قد جمع كثيراً من المذكرات والمواد لكتابه، ومنها رسائل من أصدقائه وصاحباته، ومذكرات كان يدونها على الأثر، هذا إلى ما تعيه ذاكرته القوية من الحوادث والتفاصيل

وقد بدأ كازانوفا كتابة مذكراته في سنة 1791، واستمر في كتابتها عدة أعوام، ولبث يستعيدها ويهذبها حتى سنة 1798، قبيل وفاته بأشهر قليلة؛ وكان يكتبها بشغف وتأثر، إذ كان يرى تلك الحياة الساطعة الذاهبة تمر أمام عينيه وتبعث إليه ذكريات المجد والصبا؛ وكان يعتزم إصدار الجزء الأول منها منذ سنة 1797، ولكن الموت عاجله، ولم يتح له تنفيذ أمنيته

ولم تظهر مذكرات كازانوفا إلا بعد وفاته بحين؛ وكان ظهورها حادثا أدبياً كبيراً. ذلك أنها لم تكن فياضة بالسير العجيبة فقط، ولكنها كانت أيضاً قطعة فنية بديعة تنعكس عليها جميع أحوال العصر الذي عاش فيه صاحبها، أعني القرن الثامن عشر، وجميع صوره وأحوال مجتمعه. وتشغل هذه المذكرات الممتعة عدة مجلدات كبيرة، وهي عمدتنا الأولى في سيرة كازانوفا وفي تفهم نفسيته وخلاله، وفيها يقص حياته منذ مولده بإفاضة، ويستعرض جميع وقائعه ومغامراته الغرامية مع نساء العصر من كل الطبقات، ويصف رحلاته العديدة إلى

ص: 15

مختلف البلاد، ويصف لنا مجتمعات العصر وأحواله وأخلاقه وعاداته؛ كل ذلك بقوة وإفاضة وبيان شائق؛ وقد كان كازانوفا في الواقع رحالة عظيما، وكان يتمتع بمواهب بديعة في الملاحظة والدرس والوصف وفي تفهم عقلية الأفراد والطبقات؛ هذا إلى خيال خصب يسبغ على قصته كلها طابعاً من السحر؛ وقد يطبع بعض أقواله ومزاعمه أحيانا طابع من المبالغة، ولكن ذلك لا ينتقص من متاع قصته وسحرها

ولقد لفتت مذكرات كازانوفا منذ ظهورها في أوائل القرن التاسع عشر أنظار النقد الأدبي، فنوه بعض النقدة بقيمتها الأدبية، وحمل عليها البعض الآخر؛ وأبدى سانت بيف أستاذ النقد نفسه عطفه عليها وعلى مؤلفها ذلك المحب الأمثل الذي لم يسمح قط للمرأة بأن تسوده؛ ولكن جول جانان وهو ناقد آخر يحمل عليها ولا يرى في مؤلفها سوى دعي أفاق تحدوه شهوات مضطرمة؛ وكذلك يرى فرانسوا ماسون في كتابه عن (الأب برني) أنه هذه المذكرات ليست سوى مزيج من الأكاذيب المزرية؛ بيد أن النقد المعاصر يرى في مذكرات كازانوفا أثراُ جديرا بالتقدير، ويرى في صاحبها شخصية جديرة بالعطف رغم عيوبها ومثالبها؛ ومن ذلك ما يعلق به مسيو أوكتاف أوزان على المذكرات في فصل نقدي كتبه في هذا الموضوع:(لماذا ننحى باللوم على ذلك المحب المعاصر للويس الخامس عشر، لأنه أرانا وعرض علينا خلال عصره المنحل، وهي خلال كانت تعتنقها أعظم الشخصيات التي كتب عنها؟ وهل يحق لنا أن نمعن في الانتقاص من ذلك السرور الذي يتحفنا به عند قراءة (المذكرات)، وأن نحمل على تلك الأخلاق الفردية المثيرة؟. . . إن كازانوفا لم يكن أفضل ولم يكن أسوأ من أعظم الشخصيات التي ظهرت على مسرح العالم في القرن الثامن عشر)

وتقدم إلينا هذه المذكرات الحافلة الممتعة كازانوفا في جميع صوره ومناحيه؛ في صورة المحب المضطرم الذي يطارد المرأة بكل ما وسع من شغف وجوى، ويأسرها بظرفه وسحره، ويظفر بها في كل المواطن؛ وصورةالمغامر الجريء الذي يتسلح بذكائه وخبثه ومزاعمه ليغزو المجتمع ويعيش على هامشه بأي الوسائل؛ وصورة السائح المتجول الذي يجوب أوربا من أقصاها إلى أقصاها باحثاً عن المال والمتاع أنى استطاع؛ وصورة السيد الذي ينعم بالمال والثراء، أو صورة الشريد الذي لا يملك قوت يومه؛ وأخيرا صورة المفكر الأديب الذي يلتمس النسيان في القراءة وتسطير الماضي

ص: 16

وتبذ صورة المحب المضطرم في شخصية كازانوفا كل صوره الأخرى، وهي بلا ريب أبرز صور حياته كما هي أبرز الصور في مذكراته. أجل كان كازانوفا محباً شغوفا ملتهب الجوانح، وكانت المرأة عنده غاية الغايات، وقد حبته الطبيعة كما أسلفنا بكل ما ينبغي أن يتسلح به المحب الظافر من خلال وصفات خلابة، ويندر أن نجد بين غزاة المرأة من غص بالظفر في هذا الميدان كما غص به كازانوفا، ومازال اسم كازانوفا إلى يومنا لقب المحب الظافر؛ ولقد كان كازانوفا مادياً في حبه كما كان في سائر وجهات حياته، ولم تكن العاطفة عنده شيئاً مذكورا، وكان قلباً في الحب لا يكاد يظفر بغزو حتى يسعى إلى غزو آخر، وكان يرتفع في طموحه إلى أرفع البيئات والشخصيات، وينحط إلى أسفل البيئات والمواطن، فنراه يظفر بطائفة من أكابر السيدات في جميع المجتمعات التي تقلب فيها من نبيلات ونسوة متزوجات وممثلات ومغنيات وغيرهن، ونراه يهبط أحياناً إلى مجتمع الشعب المتواضع فيغزو عاملة أو خادمة؛ وإليك مثلاً مما يقصه علينا في مذكراته مما يوضح فلسفته في الحب، ففي ذات يوم كان ينتظر جياداً لمركبته في طريق رومه، فمرت به عربة تحمل مغنية حسناء ذائعة الصيت يومئذ، وكان كازانوفا يعشق المغنيات والممثلات بنوع خاص، ولكنه يقول لنا:(ومع أنها كانت فتية وكانت حسناء، فإنها لم تثر في نفسي رغبة ما، ذلك أنها كانت حسناء جداً، بادنة جداً. ولكن خادمتها كانت بالعكس فتاة سمراء ساحرة ذات قد ممشوق وعينين وضاءتين، فوقعت في حبها على الأثر)

ويذكر لنا كازانوفا في مذكراته عشرات وعشرات من النساء اللائى ظفر بهن خلال حياته الغرامية الحافلة. وهو تعداد لا يتسع له المقام هنا، وقد ذكرنا فيما تقدم طائفة من الأسماء التي غزاها إبان ازدهار مغامرته؛ والظاهر أن كازانوفا لم يتأثر في حياته بحب امرأة وسحرها قدر ما تأثر بحب راهبة حسناء من (ميران) يرمز لها في مذكراته بحرفي (م. م)؛ وهو يصف لنا روعة قوامها وروعة جمالها بحماسة مؤثرة؛ وقد كانت م. م في الواقع امرأة ساحرة الخلال تضطرم شغفاً وجوى، وكانت تختفي تحت ثيابها الكهنوتية نفساً ناعمة تواقة ملتهبة، وكانت تقتحم أروع الأخطار لتحيا تلك الحياة المزدوجة؛ حياة التقشف في الدير، وحياة اللهو والقصف خارج الدير؛ وبينما ترى بالنهار في ثياب راهبة محتشمة، إذا بها تسطع بالليل كالحلية في مرقص أو منتدى وتبذ بفائق حسنها وأناقتها كل حسناء أخرى؛

ص: 17

وقد كانت تطلق العنان لشهواتها المضطرمة ما شاءت، ولكنها كانت قوية النفس تضبط هواها متى وجب؛ ويصورها كازانوفا بأنها المحبوبة المثلى في حسنها وفي خلالها وسحرها؛ وقد ترك هواها في نفسه بلا ريب أعمق الآثار وأبقاها

ثم يأتي بعد صورة المحب، صورة السائح؛ وقد كان كازانوفا سائحاً عظيماً يجوب أرجاء القارة بلا انقطاع؛ وكان يعشق التجوال في عصر كان السفر فيه مشقة حقيقة؛ وقد رأيناه يجوب أرجاء القارة مراراً؛ وكان كازانوفا يجد في السفر لذة عظيمة، ويتخذ أثناء تجواله مظاهر السيد العظيم فيستأجر أفخر المركبات والجياد، وينزل في أفخم الفنادق، وينثر المال والعطاء من حوله، ولكنه كان في رحلاته مغامراً، لا تغريه سوى رغباته وأمانيه، ولا تغريه مشاهد الطبيعة الرائعة؛ ولهذا نراه في مذكراته يعنى بسرد مغامراته أثناء الطريق، وسرد ملاحظاته عن الأشخاص والحياة والنساء بنوع خاص؛ وقلما نراه يعنى بوصف البلاد أو مشاهد الطبيعة؛ بيد أنه يبدي فيما يصف من أحوال المجتمعات والأشخاص دقة تدلي بقوة ملاحظته وحسن أدائه

ويقدم كازانوفا إلينا خلال حياته صورتين قويتين متباينتين؛ فنراه إما سيداً كبيراً ينعم بالجاه والثراء، وإما شريداً بائساً يتخبط بين براثين الفاقة؛ وفي الحالة الأولى نراه يقتحم المجتمع الرفيع، وينعم بكل ما في الحياة من متاع وبذخ، ويصل إلى مجالسة الملوك والأمراء والعظماء من كل ضرب؛ ألم يجالس لويس الخامس عشر وفردريك الأكبر، والإمبراطورة كاترين، والبابا، وفولتير، وغيرهم من أكابر العصر؟ ثم نراه في كهولته شريداً بائساً يتقبل في سبيل القوت مضض المهانة والمذلة؛ بيد أنه في الحالين يحتفظ بقوة نفسه، وأثرته، وأمانيه؛ ذلك أن كازانوفا كان فيلسوفاً يقصد إلى الحياة بأي الوسائل، ولا يروعه أن يحقق متاعها بأي السبل، ولم يكن المال في نظره إلا وسيلة من وسائلها

وقد كان كازانوفا منذ نشأته رجلاً مثقفاً واسع المعرفة بالنسبة لمجتمع عصره؛ وكان في أواخر حياته يعتز بمواهبه العلمية والأدبية ويأنس سعادة عظيمة في إطلاق العنان لقلمه؛ ولم تكن المذكرات كل ما يكتب، فقد كان يتصل بالمكاتبة بجماعة من أعلام عصره، وكانت له آراؤه الخاصة في أحوال العصر وأحداثه؛ وكان يسخط على الثورة الفرنسية ويعتبرها حركة جنونية وقد كتب برأيه إلى روبسبيير في رسالة مستفيضة

ص: 18

والخلاصة أن كازانوفا، كان رغم رذائله، شخصية عجيبة؛ وكانت حياته صورة صادقة للعصر الذي عاش فيه، وهي من هذه الناحية تستحق التحليل والدرس؛ ولقد كان لهذا المغامر المرح أصدق سلف وشبيه في مواطنه بنفونوتو تشلليني؛ فقد خاض كلاهما حياة مماثلة، واشتركا في كثير من الخلال والخواص النفسية، وسطر كل منهما حياته بقلمه؛ ولكن تشلليني كان علماً من أعلام الأحياء وبطلاً من أبطال الفن؛ أما كازانوفا فلم يعش إلا لنفسه، ولم يتبوأ في مجتمع عصره سوى مكان ثانوي وكانت حياته مزيجاً من الأهواء الجامحة، والأثرة العميقة، والشهوات المادية، والمرح العقيم.

(تم البحث - النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان

ص: 19

‌قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

الدفتريا

بين واجد سمها الفرنسي، وكاشف ترياقها الألماني

وصل الفائت: وجد لفلار مكروب الدفتريا، ووجد رو أن هذا

المكروب يحتل زور الطفل، ولا يخرج عنه، وإنما يفرز سما

يدور في الجسم فيقتل، وحقن بارنج مادة كيميائية هي كلورور

اليود في خنازير غينية. ثم حقن مكروب الداء فيها فصمدت

له. فأخذ من مصل دم هذه الخنازير المحصنة وحقن به

خنازير أخرى حقنها بعد ذلك بالمكروب فصمدت له. فعرف

أن هذا المصل الحصين يحتوي ترياقاً. فاتجه إلى الشياه يفعل

بها ما فعل في الأرانب ليحضر مقادير كبيرة من المصل

الواقي بترياقه

بهذا بلغ بارنج من بحثه حداً لا ينفع فيه التثبيط. فقد كان كأمير الجند غزا الأعداء فسفك وهزم، فملأته فتوحاته الأولى ثقة بنفسه. فلم يعد يثنيه عن بغيته شيء. فأخذ يضرب بمحاقنه في الأرانب والشياه والكلاب، وهي مليئة بمكروب الدفتريا تارة، وبسمها تارة، وبكلورور اليود تارة أخرى، وحاول أن يتخذ من أجسام هذه الحيوانات وهي حيّة مصانع تصنع له هذا المصل الواقي، هذا المصل الذي يقتل سم الدفتريا، وأسماه الأنْتيتُكْسين - ولْنسمّه نحن الترياق، ونجح في الذي حاوله، ولكن بعد أن قتّل من هذه الحيوانات ما شاء،

ص: 20

وقطّع من أوصالها ما أراد، وبعد أخطاء أتاها كثيرة هي دائماً مقدّمات النجاح، ولم يمض طويل من الزمن حتى نجح في تحصين الشياه تحصيناً قوياً، واستدرّ منها دماً كثيراً واستخلص منه مصله، ثم قال:(لا شك أن الترياق الذي بهذا المصل يقي من الدفتريا)، ولم يكن يعلم عن حقيقة هذا الترياق، ولا عن كيميائيه شيئاً

وحقن مقادير صغيرة من هذا المصل في عدد من الخنازير الغينية، وفي اليوم الثاني حقن فيها بشلة الدفتريا، وهي حية قاتلة، فما كان أجمل مرأى هذه الخنازير بعد ذلك وهي تنط وتلعب ولا أثر للداء فيها، كذلك كان مرأى صويحباتها الأخريات التي حُقنت بالبشلة دون المصل، وهي تموت بعد الحقنة بيومين أو ثلاثة، فموت هذه الأخيرة هو الذي أقنع بأن المصل فيه الوقاية وفيه الحصانة، وأجرى بارنج مئات من هذه التجارب الجميلة، وكان الآن يحذق التجريب فلم يكن في يده تذبذب واضطراب كالذي كان بها قديماً. وتساءل أعوانه في قنوط متى يفرغ سيدهم من هذه المجزرة المتكررة، متى يفرغ من تحصين طائفة من الخنازير ثم إعطائها الداء، ثم من قتل طائفة أخرى ليثبت بها حقاً أنه خلّص بمصله الطائفة الأولى، ولكن بارنج لم تعوزه العلة يفسر لنا بها كثرة ما قتل من هذه الخنازير. قال في أحد تقاريره الأولى:(لقد جربنا من هذه التجارب عدداً كبيراً لنثبت لكوخ، وهو المحقق المدقق القليل التصديق، إلى أي حدّ بلغ بنا الإيمان بحصانة هذه الحيوانات)

نجح بارنج فيما أراد إلا أمراً واحداً أفسد عليه طعم الثمرة التي اجتناها. ذلك أن حصانة الخنازير لم تدم طويلاً، فالخنازير لم تكن تصمد للحقنة الكبيرة من سم الدفتريا من بعد تحصينها إلا أياماً معدودات، فإذا مضى على التحصين أسبوع أو أسبوعان لم تعد تصمد لها، ولكما استطال الزمن أخذت حصانتها تقل تدريجا، وأخذ مقدار السم الذي يكفي لقتلها يصغر تدريجا. وعمد بارنج إلى لحيته يشد شعراتها وهو يتمتم لنفسه:(ليس هذا من العمليّ الممكن في شيء، فليس بالمستطاع الطواف بكل أطفال ألمانيا لحقنهم بمصل الشياه كل أسبوعين أو ثلاثة). ومما يؤسف له أنه نفض يده بعد ذلك من البحث الجميل الذي هو فيه، وترك المطلب الأسمى الذي كان يطلب به طريقة لمنع داء الدفتريا أن يحدث واستئصاله فلا يكون، واستعاض عنه يطلب دواء له إذا هو كان، فنزل بنفسه منزلة دنيا

ص: 21

رجاء أن يأتي بأمر جليل تفتح له السلطات من الدهش أعينها واسعة

قال: (إن هذا الكلورور اليوديّ له أثر سيئ في الخنازير الغينية لا ينقص كثيراً عن أثر المكروب ذاته. ولكن هذا المصل الواقي ليس له أثر سيئ فيه، فهو لا يلهب جلدها ولا يحدث خُرّاجات فيه. . . وأنا على يقين أنه لا يؤذيها. . . وأعلم غير هذا أنه يحصنها فيقتل فيها سم الدفتريا إذا هو جاءها بعد التحصين. . . فليت شعري أيقتلها كذلك إذا هو جاءها قبله؟. . . واختصاراً أيكون في هذا المصل شفاء من الداء بعد كينونته؟)

وجاء بارنج بطائفة كبيرة من الخنازير الغينية وحقن بشلات الدفتريا فيها. فلما كان الغد وجد المرض قد دبّ فيها، واصبح الصباح التالي فإذا بها ملقاة على أظهرها في همود منذر وهي تتنفس جاهدة. عندئذ قام بارنج فحقن في بطونها مقادير وافية من مصل الشياه الحصينة. فوقعت المعجزة الكبرى، فأخذت الخنازير، إلا قليل الأقل منها، تسترجع أنفاسها بعد برهة قصيرة. ولما جاء الغد أرقدها بارنج على ظهرها، فإذا بها تنط فتقوم على أرجلها، وعلى أرجلها ثبتت. وفي اليوم الرابع تمت سلامتها فكأن الداء لم يصبها أبدا. أما الأخريات التي حقنت بالمكروب دون المصل فحملها الخادم هامدة باردة إلى حيث تحمل الميتات.

إذن لقد شَفىَ المصل من الدفتريا!

وزاط المعمل العتيق من أجل هذا الفتح الجديد التي أتاه بارنج العالم الشاعر، الخاطئ الصائب، العاثر الناهض. وملأ الأمل القلوب بأنه لابد سيشفي الأطفال من بعد هذا. وأخذ يعدّ أول مصل يحقنه في طفل على وشك الموت بالداء. وبينا هو يتجهز لهذه التجربة الخطيرة جلس يكتب تقريره الشهير ويصف فيه كيف تأتى له أن يخلص حيواناته من الموت بحقنها بمادة جديدة عجيبة غريبة اصطنعها لها في أجسام أخوات لها جازفت بحياتها في سبيل ذلك من أجلها. كتب بارنج:(ليس لدينا طريقة مؤكدة لتحصين الحيوانات). وكتب (وهذه التجارب التي قيدتها لا تتضمن مجهوداتي الناجحة وحدها). وصدق في هذا، فهو قد أثبت فيها مجهوداته الفاشلة وأظانينه الخاطئة إلى جانب ما حباه به الحظ من توفيقات صائبة نال بها هذا النصر الدمويّ العظيم

لشد ما أعجب كيف استطاع هذا الشاعر أن يسبق إلى كشف ترياق الدفتريا، وأن يفوز بهذا

ص: 22

المجد الخالد! ولكني أفكر فأجده إنما تحسس فاهتدى كما تحسس من قبله واهتدى رجال قدماء، لا نعرف لهم اليوم أسماء، اخترعوا الأشرعة التي تحمل السفائن عبر البحر في سرعة البرق الخاطف. هؤلاء الرجال الأبطال المجهولون، كم منهم من انقلب به السفين، وكم من جثثهم ما أشبع البحار! أليست هذه دائما هي سبيل الكشوفات جميعها؟

وفي أواخر عام 1891 كان في شارع إبريك ببرلين دار للتمريض تُدعى دار برجمان وكان بها أطفال فعلت الدفتريا بهم فعلها فهم ينتظرون الموت القريب. وكانت الليلة ليلة عيد الميلاد. ففي هذه الليلة دخلت إبرة صغيرة لمحقن مليء بنصل لأول مرة في جلد طفل لم يعد له في الشفاء رجاء. فصرخ الطفل ورفس برجله قليلا

ما أبهر النتائج التي جاءت من هذه الحقنة الأولى ومن أخوات تَبِعْتها! نعم بعض الأطفال مات. ونعم كذلك مات طفل كان ابن طبيب شهير في برلين ميتة غريبة غير منتظرة عقب الحقنة مباشرة فحصل من جراء ذلك أخذ ورد وجلبة كبيرة. ولكن لم تمض الأيام حتى قامت مصانع كيميائية كبيرة بألمانيا تصنع هذا المصل في قطعان كثيرة من الشياه. ولم تمض ثلاث سنوات حتى بلغ الأطفال الذين حقنوا بهذا الترياق عشرين ألفا. وسار الخبر سريعاً كالشاعة في الناس. وكان بِجْز مدير الصحة الأمريكية الشهير في أوروبا، فلما اطلع على أمر الترياق، هزّه ما وجد منه فبعث البرقية الآتية وهو متأثر ثائر إلى الدكتور بَرْك بنيويورك:

(ترياق الدفتريا ناجح. ابدأ بصنعه)

وكان كوخ أساء إلى ناس كثيرين بسبب علاجه الفاشل القاتل للسل، وبسبب الأرواح الكثيرة التي ضاعت من جرائه. وكانت أقوام كثيرة لا تزال في حزن قريب بسبب من فقدوا. ولكن كشف بارنج أنساهم ما هم فيه، فغفروا لكوخ الشيخ زلته لأنه أنجب هذا الصبيّ البارع

(يتبع)

أحمد زكي

ص: 23

‌الإسلام والمدنية والعلم

طريقة النظر في العلم وفي الإسلام

بقية ما نشر في العدد الممتاز

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

بقي أن نقارن بين طريقة العلم في دراسة الفطرة والطريقة التي شرعها الإسلام للإنسان في النظر لنرى إن كان بينهما من التطابق مثل الذي تبين في المقال السابق أنه موجود بين العلم والإسلام

والأصل الأول عند العلم في النظر هو العقل، وكذلك هو في الإسلام. إن القرآن الكريم كله ينطق بأن الإسلام قام على العقل، وحاكم إلى العقل، وأمر باتباع العقل، بمختلف أساليب البيان؛ فتارة يتلطف ويرغب في استعمال العقل والفكر:(كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون)، (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون). وتارة يظهر التعجب الشديد والتأفف من تعطيل العقل:(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)، (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكم عُمُرا من قبله، أفلا تعقلون). وتارة يمدح أهل العقل ويخصهم بالخطاب: (وما يذّكر إلا أولو الألباب)، (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون)، (كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون)؛ ثم تارة يسلك سبيل الذم البالغ لمن يهملون عقولهم ويعطلونها:(إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)، (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) وفي هذا ما فيه من توكيد ناحية العقل وتنبيه الإنسان إلى أن من أخص خصائصه التفكير والتدبر والفهم والتعقل، فلا ينبغي له التنزل عن أخص خصائصه بتعطيل عقله وإلا فقد تنزل عن إنسانيته وصار في الأنعام أو شرا من الأنعام

ولقد بلغ من إكبار الإسلام العقل وتوكيده واتخاذه أصلاً ومرجعاً أن أباح للمسلم إذا تعارض العقل والنص أن يؤول النص إلى ما يقضي به العقل. والعقل هنا طبعاً ليس هو عقل الفرد، ولكن عقل المجموع؛ ليس هو العقل الخاص الذي يجوز عليه الخطأ، وكثيراً ما يخطئ، ولكن هو العقل العام الذي يستحيل عليه الخطأ، والذي لا يقتنع بشيء إنه الحق إلا

ص: 24

إذا قام عليه الدليل القاطع. فتشريع الدين تأويل النص إلى ما يوجبه العقل أو بالأحرى إلى ما يطابق ما ثبت عند العقل بالدليل القاطع، هو التنفيذ العملي في الإسلام لمبدأ استحالة التناقض بين الحقائق ولمبدأ وجوب الأخذ بالحق كيفما ظهر وأينما كان. فالحق في العلم وفي الإسلام أحق أن يتبع لذاته لا لغيره، وفي سبيل الحق يجب أن يجاهد الناس، وعلى الوصول إليه يجب أن يتعاونوا، وبه إذا وصلوا إليه يجب أن يستمسكوا. هذا هو أخص خصائص الروح العلمية في ميدانها، وهو في الوقت نفسه أخص خصائص المؤمن حتى في المعاملة. فإن الصفات التي ضمن الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلم بها الجنة إذا هو ضمنها من نفسه في الحديث الكريم:(اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة؛ إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا ائتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف: غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم) هذه الصفات ليست في صميمها إلا أخذاً بالحق في أعم صوره، واحتراماً له ووقوفاً عنده

لكن فخر العلم الحديث ليس هو جعله العقل أصل الأصول في النظر، ولكن هو ضبطه طريق النظر العقلي، حتى صار العقل به في مأمن من الضلال. إن قدماء العلماء والفلاسفة كانوا أيضاً يكبرون العقل ويتحاكمون إليه، وهذا المنطق القياسي الذي يعين الطريق الذي يجب أن يسلكه العقل في الاستنتاج ليكون بمأمن من الخطأ، هو من وضع أولئك القدماء. فليس للعلم الحديث على العلم القديم في هذا فضل، بل الفضل في توضيح طريق الإصابة في الاستنتاج، هو للعلم القديم أو الفلسفة القديمة كما تشاء أن تقول. لكن الذي غفل عنه القدماء، وانتبه إليه المحدثون، هو وجوب الاستيثاق من صحة المقدمات قبل القول بصحة النتائج، ولو صحت طريقة الاستنتاج. كان القدماء يعنون كل العناية بالاحتياط من الخطأ في الاستنتاج، ولو أنهم عنوا بصحة المقدمات عشر معشار تلك العناية لتغير تاريخ العلم، ولتغير تاريخ العالم بالتبع، ولما تأخر الرقي العلمي كل تلك القرون، لكن أكثر القدماء كانوا فيما يظهر يتغالون في الاعتماد على العقل وحده حتى جعلوه كل شيء، وجعلوه مستغنياً عن كل شيء. فالعالم أو الفيلسوف كان يرى كافياً في طلب الحقيقة أن يجلس ويفكر، ثم يفكر، كأن الحقائق كلها موجودة كامنة في النفس أو الروح، وكأن ليس على الإنسان إلا أن يستثيرها بالتفكير. من أجل ذلك لم تعش الفلسفة القديمة أو العلم القديم إلا بصحة التفكير

ص: 25

على الأخص، وهي العناية التي أدت به إلى اكتشاف قوانين التفكير ووضع علم المنطق القياسي. أما المقدمات فكان العالم أو الفيلسوف يكتفي من الاستيثاق منها بالاقتناع النفسي والرجوع بها إلى ما يبدو له أنه بديهي لا يحتاج إلى برهان. ومن هنا دخل في العلم أو الفلسفة القديمة الشيء الكثير من الباطل، أو على الأقل مما هو غير ثابت؛ دخل فيها على أنه حق لا شك فيه، فكان عبئاً ثقيلاً على العقل عاقه عن التقدم الحقيقي طوال تلك القرون

ولقد جعلت تلك الطريقة أمر تمييز الحق من الباطل في العلم القديم من الوجهة العملية بيد المصادفة لا بيد العقل، فكان الإنسان إذا صادف الصحة في مقدماته الأولى أو بديهياته التي يُرجع إليها مقدماته نجا من الخطأ بعد ذلك لاجتماع ركني الإصابة لديه: صحة المقدمات وصحة التفكير. ومن هنا كانت علومه الرياضية أصح تراث منه وصل إلينا. أما إذا أخطأه التوفيق في المقدمات فلا تسل عن العجائب والغرائب التي كان يؤدي به إليها قياسه الصحيح من مقدماته العليلة. أنظر إليه وهو يحكم على شكل العالم أنه كرى لأن شكل الكرة أكمل الأشكال، أو يحكم على العالم أنه حي عاقل لأن ما هو حي وعاقل خير مما ليس بحي ولا عاقل. وتأمل ما جر إليه القول بحياة العالم وعقله من القول بأفلاك ذات نفوس وعقول كل فلك منها نشأت نفسه وعقله عن نفس الفلك الذي فوقه وعقله، وأشباه هذا مما يعجب له العلم اليوم كيف أمكن أن يتورط فيه العلم بالأمس، إذا العلم والفلسفة كانا شيئاً واحداً في العصر القديم

هذا النوع من التفكير الوهمي قد سد العلم الحديث بابه، وقطع أسبابه بايجابه أولا عدم قبول شيء على أنه حق حتى يقوم عليه البرهان القاطع، وبرجوعه ثانيا إلى التجربة والمشاهدة في تمحيص المقدمات. هذان هما المبدآن اللذان قامت عليهما الطريقة العلمية الحديثة، واللذان يرجع إلى التزامهما والتشدد في تطبيقهما كل ما وصل إليه الإنسان من تقدم في ميادين العلم الحديث

فأما المبدأ الأول مبدأ اشتراط قيام الدليل القاطع على صحة القضية قبل إدخالها في دائرة الحق فهو مبدأ سلبي، ولكنه في غاية الخطورة لأنه حال دون الخلط بين الحق والباطل، وميز دائرة الشك من دائرة اليقين، وجعل العلم على بينة من أمره فصار يعرف تماما أين هو من الحق ومن الباطل: صار يعرف أي القضايا هو فوق الشك وأيها في حاجة إلى

ص: 26

التمحيص

لكن هذه المعرفة لم تكن لتغني عنه كثيرا لو لم يجد العلم وسيلة صادقة لتمحيص ما هو منه في شك، فيزيد باطراد في دائرة الحق المعلوم، وينقص باطراد من دائرة المجهول. لكنه وجد هذه الوسيلة في مبدئه الثاني مبدأ التجربة والمشاهدة. وهو كما ترى مبدأ إيجابي يقوم بجوار مبدئه السلبي الأول: يحرس الأول منطقة الحق أن يدخلها باطل، ويوسع الثاني حدود المنطقة باستمرار. ولقد اقتضى هذا أن يقصر العلم نفسه من ميادين البحث على ما يمكن الاحتكام فيه إلى التجربة والمشاهدة، أو كما عبر بعض العلماء فأحسن التعبير على الميادين التي يستطيع أن يسأل فيها الإنسان الفطرة فتجيب. والفطرة على حد تعبير عالم آخر دائماً تجيب إذا أحسن الإنسان سؤالها. وأكبر الفرق من الناحية العملية بين العلم القديم والعلم الحديث أن هذا عرف كيف يحسن استجواب الفطرة، وأن ذاك في الأوقات القليلة التي خطر له أن يسترشد بالفطرة لم يعرف كيف يحسن سؤالها بإجراء التجارب المنظمة، وإن عرف أحياناً كيف يسمع لها بمشاهدة بعض ما يجري حوله. وبالجملة فإن أكبر ما يميز العلم في عصره الحديث عن مثله في العصر القديم هو إجماع أهله على اتباع ذينك الأصلين: أصل التفرقة التامة بين اليقيني وغير اليقيني، وأصل تمحيص غير اليقيني بعرضه على التجربة والاختبار

هذان الأصلان اللذان هما قوام الطريقة العلمية، واللذان إليهما يرجع كل ما أدرك العلم في ميدانه من تقدم، ما شأنهما في الإسلام كما يتجلى في القرآن؟

إن الذي أنزل القرآن روحاً من أمره وهدى يهدي به الإنسانية سبل الحياة شاءت رحمته بعد أن جعل العقل أصل الأصول في النظر ألا يكل الإنسان إلى عقله من غير أن يبين له معالم الطريق ويحذره مهاوي الخطأ والضلال. فهو أولاً يوجب على الإنسان في القرآن ألا يُدخل في الحق إلا ما قام عليه البرهان والدليل أنه من الحق (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) وفي هذه الآية الكريمة نرى كيف ينبه الله الإنسان إلى أن الظن والتخمين ليسا من العلم والبرهان في شيء، وهو معنى لقي توكيداً عظيما في القرآن بوروده صريحاً في أكثر من آية. (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى، وما لهم به من

ص: 27

علم، إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً). (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً. إن الله عليم بما يفعلون)، وهذا بالضبط هو ما اهتدى إليه العلم الحديث وشدد من أجله في وجوب التفرقة بين الثابت الذي لا شك فيه، وغير الثابت الذي هو في حاجة إلى التمحيص، ومن هنا ترى أن التطابق تام في هذه الناحية أيضاً بين العلم وبين الإسلام

على أن هذا ليس هو كل ما وضح به القرآن سبيل الحق أمام الإنسان، فأنه كما حذره من الخلط بين الحق والباطل، ومن إنزال الظن والتخمين منزلة البرهان واليقين، دله على الطريق العملي الذي يتبين به وجه الحق فيما هو منه في شك: طريق استعمال العقل لا السمع والبصر. ومن العجيب أنك لا تكاد تجد في القرآن ذكراً للسمع والبصر إلا والعقل مقرون بهما مذكور معهما كأنما يريد الله أن ينبه الإنسان إلى ما بينهما وبين العقل من ترابط، فالعقل لا يتم إلا بأثرهما وهما لا ينفعان نفعهما إلا إذا كان العقل من ورائهما يوجههما وينظم عملهما، أو كأنما يريد الله سبحانه أن ينبه الإنسان إلى أن ما يكسب من علم أو معرفة راجع في صميمه إلى هذه الثلاثة، وأن عليه إذن أن يحسن استعمالها ويحذر إهمالها. على أن الإنسان لم يترك في هذا إلى مجرد الاستنتاج. فقد أنبأه الله صراحة في القرآن في معرض المن عليه أن علم الإنسان مصدره السمع والبصر والعقل كما ترى في آية النحل:(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)، وأوجب عليه آيات كثيرة أن يحسن استعمال سمعه وبصره وعقله، نذكر منها آية واحدة هي فصل الخطاب في هذا الباب ألا وهي قوله تعالى من سورة الأعراف:(ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون) فأنه ليس هناك أكثر حضاً على إحسان استعمال العقل وأدواته من هذه الآية الكريمة التي لم تكتف بتسوية الإنسان بالبهيمة أو جعله شراً منها إذا هو أهمل عقله وسمعه وبصره، بل أنذرته أبلغ إنذار أنه إن فعل ذلك فقد هلك إلى الأبد وحشر نفسه في زمرة أهل النار

فهذا أصل التجربة والمشاهدة قد لقي في صميمه من التوكيد في الإسلام ما يصغر بجانبه ما

ص: 28

لقي من التوكيد في العلم وإن كان هو قوام العلم الحديث. والسر في هذا أن العلم لا يزال في الدور الذي يدرس فيه الفطرة ابتغاء الوقوف على أسرارها فحسب، أما الدين فيأمر باستكناه أسرار الفطرة ليزداد الإنسان بها هدى إلى رب الفطرة الذي فطرها وفطره، والإنسان إن لم يهتد إلى ربه فأنه لا محالة من الهالكين. ومهما يكن من اختلاف الغاية بين الدين والعلم فإن كل غاية العلم هي بعض غاية الدين، والطريق الذي يسلكه العلم إلى غايته هو جزء من الطريق الذي يأمر بسلوكه الإسلام

على أننا نحب أن نزيد هذا التطابق بين الطريقين توكيداً بالتنبيه إلى آية واحدة في القرآن جمعت للإنسان أصول النظر العلمي وأثبتتها من الدين مجتمعة بعد أن أثبتتها من الدين متفرقة، تلك هي قوله تعالى من سورة الإسراء:(ولا تَقْف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) فأنها من ناحية تأمر الإنسان بالوقوف عند حد ما يعلم (ولا تقف ما ليس لك به علم) ومن ناحية أخرى تدله على طريق استبانة الحق فيما لا يعلم، والاستمساك بما يتبين له من الحق عن ذلك الطريق، طريق إحسان استعمال السمع والبصر والعقل (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) وفي قوله سبحانه (كل أولئك كان عنه مسئولاً) في موقعها من الآية تقرير مسئولية الإنسان عند ربه عن حواسه وعقله كيف لم يستعملهن عند الشك حتى يتبين وجه اليقين، وكيف حين استعملهن لم يحسن استعمالهن، أم كيف وقد أحسن استعمالهن لم يستمسك بما وصل إليه من الحق عن طريقهن حتى صار هو ومن أهملهن سواء. ولو حاول العلم أن يزيد في توكيد أصوله على هذا ما استطاع، ثم هو ليس ببالغ شأو الدين في هذا التوكيد لأنه لا يملك المهمل أصوله حساباً ولا عقاباً

وبعد، فلعلنا نكون قد وفينا هذا الموضوع الخطير بعض حقه من البحث، وبلغنا الغرض الذي بدأنا هذا البحث من أجله، وأثبتنا أن العلم الحديث بينه وبين الإسلام كل ما بين الجزء والكل من تطابق مادام قد ثبت أنه قرآني الموضوع والاسم والروح والطريقة؛ فهو بجملته وتفصيله قطعة من الإسلام، حتى فروضه العلمية ونظرياته التي يلتمس بها سنن الفطرة لها في الإسلام متسع، لأنها ليست إلا ضربا من الاجتهاد الذي يثبت الله عليه المجتهد، أخطأ أم أصاب. وهذا التطابق العجيب بين العلم والإسلام هو الذي كان متوقعا

ص: 29

مادام الإسلام هو دين الفطرة، ومادام العلم قد أصاب الفطرة وإن في بعض نواحيها. وليس يمنع العلم أن يصيب الفطرة في بعضها الآخر المتعلق بحياة الإنسان الاجتماعية. إلا أن هذه الحياة خارج نطاقه، وستظل كذلك لامتناع إخضاع الفرد بله الجماعة للتجربة العلمية والاختبار. فليس هناك للإنسانية إذن أي أمل في أن تصيب سنن الفطرة في الاجتماع عن طريق العلم، فهي لن تزال في مدنيتها بعيدة عن سنن الفطرة وعن سبل السلام حتى تقيم وجهها للدين حنيفاً (فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله)

محمد أحمد الغمراوي

ص: 30

‌أعلام الإسلام

محمد بن شهاب الزهري

بقلم السيد ناجي الطنطاوي

محمد بن شهاب الزهري، علم من أعلام التابعين، وإمام جليل من أئمة المسلمين، روى الحديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبناء أصحابه. وكان نادرة في الذكاء وقوة الحافظة والصبر على طلب العلم. ثقة، أميناً في الإسناد شهد له الخلفاء والعلماء بالتفوق والفضل حتى قال ابن تيمية: حفظ الزهري الإسلام نحواً من سبعين سنة، وكان مع ذلك سخياً كريماً يبذل ماله في سبيل العلم

اسمه ونسبه ومولده

هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله ابن الحارث بن زهُرة بن كلاب بن مرة، أبو بكر القرشي الزهري. سمي بالزهري نسبة إلى زهرة بن كلاب، كان أبو جده عبد الله بن شهاب شهد مع المشركين بدرا، وكان أحد النفر الذين تعاقدوا يوم أحُد لئن رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلنه أو ليقتلنّ دونه. وقد سئل الزهري مرة: هل شهد جدك بدرا؟ قال نعم، ولكن من ذلك الجانب! أي من جانب قريش

وانتسب الزهري مرة أمام هشام بن عبد الملك، فقال له هشام: أن كان أبوك لنفّار في الفتن. فقال: يا أمير المؤمنين عفا الله عما سلف

وقال: نشأت وأنا غلام، ولا مال لي، منقطع الديوان، فكنت أتعلم نسب قومي من عبد الله بن ثعلبة، وكان عالماً بنسبهم وهو ابن أختهم وحليفهم

وقال ابن حيويل: لم يكن له كتاب إلا كتاب فيه نسب قومه، أما سنه وولادته فلم تعلم على وجه الصحة لاختلاف المؤرخين فيها فهي إما سنة 50 أو سنة 51 أو سنة 52، وقيل بل سنة 58

صفته:

قال سفيان: رأيت الزهري أحمر الرأس واللحية، وفي حمرتها انكفاء قليل، كأنه يجعل فيها كَتَّما، وكان أعَيمِشاً وعليه جُمَيحة وكان رجلا قصيرا، قليل اللحية، له شعرات طوال،

ص: 31

خفيف العارضين

طلبه العلم

دخل مرة على عبد الملك بن مروان، فذاكره عبد الملك، فرأى فيه نباهة فوصله، وأمر له بشراء دار قطيعة بالمدينة، وبرزق يجري عليه، وأعطاه خادماً وقال له: اذهب فاطلب العلم، فإني أرى لك عينا حافظة، وقلبا ذكياً، وائت الأنصار في منازلهم. قال: فأتيت المدينة، فإذا عند الأنصار علم جمّ، فأخذته عنهم

وقال إبراهيم بن سعد: ما سبقنا الزهري بشيء من العلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل عما يريد، وكنا تمنعنا الحداثة

وقال أبو الزناد: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس بعد أن كنا نطوف نحن وإياه معنا الألواح والصحف ونحن نضحك به، وكان يكتب الحديث فيحفظه ثم يمحوه

وقال صالح بن كيسان: كنت أطلب العلم أنا والزهري فقال: تعال نكتب السنن فكتبناها ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة فكتب ولم أكتب فأنجح وضيعت

قوة حافظته:

كان يقول: ما استودعت قلبي شيئاً قط فنسيته، وكان يكره أكل التفاح وسؤر الفأر ويقول إنه ينسي، وكان يشرب العسل ويقول إنه يذكر. وقال: كتب عبد الملك إلى أهل المدينة كتاباً في طومارين يعاتبهم به، فقرئ على الناس عند المنبر، ولم يكن سعيد بن المسيب حاضرا، فلما انفض الجمع قال سعيد لجلسائه: ما كان في ذلك الكتاب؟ ليت أنا وجدنا من يعرف لنا ما فيه، فلم يتكلم أحد. فقلت له: أتحب أن تسمع كل ما فيه؟ قال نعم قال: فقرأته له من أوله إلى آخره لم أنس منه كلمة

وقال: ما استفهمت عالماً قط، ولا رددت شيئاً على عالم قط يعني أنه كان يحفظ ويفهم من أول مرة

وقال الإمام مالك: حدثني الزهري بحديث طويل فلم أحفظه فسألته عنه مرة ثانية فقال لي:

ص: 32

أليس قد حدثناكم به؟ فقلت: بلى، فأردت أن أستخرجه، فقلت له: أما كنت تكتب ما تسمع؟ فقال: لا فقلت: أما كنت تستعيد؟ فقال: لا

وقال مالك حدثنا الزهري بمائة حديث، ثم التفت إلي وقال: كم حفظت يا مالك؟ فقلت: أربعين حديثا، فوضع يده على جبهته ثم قال: إنا لله، كيف نقص الحفظ؟

وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل هشام بن عبد الملك الزهري أن يملي على بعض ولده، فدعا بكاتب فأملى عليه أربعمائة حديث

ثم إن هشاماً قال له: إن ذلك الكتاب قد ضاع، فدعا الكاتب فأملاها عليه، ثم قابله هشام بالكتاب الأول فما غادر حرفاً

منزلته عند الخلفاء

كان عمر بن عبد العزيز يقول: عليكم بابن شهاب، فأنكم لا تلقون أحداً أعلم بالسنة الماضية منه. قال معمر وإن الحسن وضرباءه لأحياء يومئذ. وقال عمر بن عبد العزيز أيضاً: ما ساق الحديث مثل الزهري، وما أتاك به الزهري بسنده فاشدد يدك عليه

وقد تقدم قول عبد الملك بن مروان له: إني أرى لك عيناً حافظة وقلباً ذكياً

وقال: لما توفي عبد الملك لزمت الوليد، ثم لزمت هشاماً بعده وحججت معه سنة 106 فكنت مع ولده أعلمهم وأفقههم وأحدثهم ولم أفارقهم حتى مات هشام بالمدينة

منزلته عند العلماء

قالوا: كان الزهري ثقة كبير الحديث والعلم والرواية فقيهاً جامعاً وقال الليث عن جعفر بن ربيعة: قلت لعراك بن مالك من أفقه أهل المدينة، فذكر سعيد بن المسيب، وعروة وعبد الله بن عبد الله، قال عراك: وأعلمهم عندي جميعاً ابن شهاب لأنه جمع علمهم إلى علمه

وقال مكحول: ما بقي على ظهرها أعلم بسنة باقية من الزهري وقال أيوب: ما رأيت أحداً أعلم من الزهري. فقال له صخر بن جويريه: ولا الحسن؟ قال: ما رأيت أعلم من الزهري وقال عمرو بن دينار: مثل هذا القرشي ما رأيت قط، وقال سعيد ابن عبد الرحمن بن جنبل: لولا ابن شهاب لضاعت أشياء من السنن، وقال سفيان بن عيينة: جالست الحسن وغيره، فما رأيت مثل الزهري وقال الإمام مالك: بقي ابن شهاب، وماله في الناس نظير،

ص: 33

وكان إذا دخل المدينة، لم يحدث بها أحد حتى يخرج منها. وقد اتفق الأئمة على أن الزهري مات يوم مات وهو أعلم الناس بالسنة، واتفقوا على أنه كان أفقه من الحكم وحماد وقتاده وقال السمعاني: كان من أحفظ أهل زمانه، وأحسنهم سياقاً لمتون الأخبار، وكان فقيهاً فاضلاً

قال ابن عينية: ما رأيت أنص للحديث من الزهري

سعة علمه

قال علي بن المديني: له نحو ألفى حديث. وقال أبو داود: جميع حديث الزهري ألفا حديث ومائتا حديث نصفها مسند

وقال مالك: لقد أدركنا في مسجد المدينة سبعين ممن يروي الحديث وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أميناً، فما أخذت منهم شيئاً، لم يكونوا من أهل هذا الشأن، وقدم علينا الزهري وهو شاب فازدحمنا على بابه

وقدم أحمد بن صالح العراق من مصر ليرى أحمد ابن حنبل، فاستأذن إليه فأذن له، وقام إليه ورحب به وقرّ به وقال له: بلغني أنك جمعت حديث الزهري، فتعال حتى نذكر ما روى الزهري عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلا يتذاكرن ولا يغرب أحدهما على الآخر حتى فرغا، قال الراوي: وما رأيت أحسن من مذاكرتهما. ثم قال أحمد بن حنبل لأحمد ابن صالح: تعال حتى نذكر ما روى الزهري عن أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلا يتذاكرن ولا يغرب أحدهما على الآخر، إلى أن قال أحمد بن حنبل: عن الزهري عن محمد بن جبير ابن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يسرني أن لي حمر النعم، وأن لي حلف المطيبين. فقال أحمد بن صالح سألتك بالله إلاّ أمليته عليّ. وقال: لو لم أستفد بالعراق إلا هذا الحديث كان كثيراً

وقال الليث بن سعد: ما رأيت عالماً قط أجمع للعلم من ابن شهاب. لو سمعته يحدث في الترغيب، لقلت ما يحسن إلا هذا؛ وإن حدث عن الأنبياء وأهل الكتب، لقلت ذلك؛ وإن حدث عن الأعراب والأنساب لقلت إلا هذا. قال ابن إسحاق: سألت الزهري عن شيء، فقال ما بقي أحد فيما بين المشرق والمغرب أعلم بهذا مني

ص: 34

وكان يقول: مكثت خمسا وأربعين سنة أنقل أحاديث أهل الشام إلى الحجاز، وأحاديث أهل الحجاز إلى الشام، فما أجد أحدا يطرفني بحديث لم أسمعه

سخاؤه

قال الليث: وكان من أسخى الناس، كان يعطي كل من جاءه وسأله، حتى كان يقترض من عبيده ولا يرى بذلك بأساً، فقيض الله له على قدر صبره واحتماله: إما رجلاً يهدي له ما يسع السائلين، وإما رجلاً يبيعه بنظرة، وكان يطعم الناس الثريد في الخصب وغيره ويسقيهم العسل، وكان يسمر مع أصحابه على العسل

ونزل بماء من المياه مرة، فقال له أهل الماء: إن لنا ثماني عشرة امرأة مسنة ليس لهن خادم، فاستسلف ثمانية عشر ألفاً فأخدم كل واحدة منهن خادماً بألف، وقضى عنه هشام سبعة آلاف دينار وقال له لا تعد لمثلها تدان، فقال الزهري يا أمير المؤمنين حدثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين

وأخدم الزهري في ليلة واحدة خمس عشرة امرأة من بني زهرة خمس عشرة وليدة، اشترى كل وليدة بثلاثين ديناراً

وقيل له إن الناس لا يعيبون عليك إلا كثرة الدين، فقال: وكم ديني؟ إنما ديني عشرون ألف دينار، وليس يرثني إلا ابن أخي هذا، وما أبالي ألا يرث عني شيئاً

وكان يقول: وجدنا السخاء لا تنفعه التجارب

وقال الإمام مالك: كان الزهري من أسخى الناس، فلما أصاب تلك الأموال قال له مولى له وهو يعظه: قد رأيت ما مر عليك من الضيق والشدة، فانظر كيف تكون وأمسك عليك مالك. فقال له: ويحك، إني لم أر الكريم تحنكه التجارب فقال الحسين بن عبد الله الكاتب في هذا المعنى:

له سحائب جود في أنامله

أمطارها الفضة البيضاء والذهب

يقول في العسر إن أيسرت ثانية

أقصرت عن بعض ما أعطي وما أهب

حتى إذا عاد أيام اليسار له

رأيت أمواله في الناس تنتهب

ومرّ به رجال من التجار وهو في قريته، والرجل يريد الحج، فابتاع منه بزاً بأربعمائة

ص: 35

دينار إلى أن يرجع من حجه، فلم يبرح عنه الرجل حتى فرقه. . . فعرف الزهري في وجه الرجل ما كره. فلما رجع من حجه قضاه ذلك وأمر له بثلاثين ديناراً ينفقها في سفره. فقال له الزهري كأني رأيتك يومئذ ساء ظنك فقال: أجل. فقال: والله لم أفعل ذلك إلا للتجارة: أعطي القليل فأعطي الكثير!

وكان يخرج إلى الأعراب يفقههم ويعطيهم فجاءه رجل وقد نفد ما في يده، فمد الزهري يده إلى عمامة عقيل فنزعها وأعطاها الرجل، وقال لعقيل: أعطيك خيراً منها.

وقال له زياد بن أسعد: إن حديثك ليعجبني، ولكن ليست معي نفقة فأتبعك. فقال له: اتبعني أحدثك وأنفق عليك!

وفاته

كان له ضيعة في شَغَب: وهي أول عمل في فلسطين، وآخر عمل الحجاز، توفي فيها في رمضان سنة 124 على أصح الروايات ودفن في نشز من الأرض، وقبره قائم على الطريق ليدعو له كل من مرّ عليه. قال الأوزاعي: رأيت قبره هناك مسنماً مجصصاً مبيضاً فقلت: يا قبر كم فيك من حلم وعلم.

ص: 36

‌رسالة الأزهر في القرن العشرين

للأستاذ المسيحي لبيب الرياشي

مؤلف كتاب (نفسية الرسول العربي)

رسالة الأزهر في هذا القرن، القرن العشرين المسيحي!. . أم القرن الرابع عشر المحمدي؟ - هي تصير رسالة الرسول العربي العالمي المقدسة في القرن الأول المحمدي منذ ألف عام وثلثمائة عام وستين عاما وثمانية أعوام (1368)

أجل هي تصير رسالته مذ تحنث وتعبد فتجرد إلى أن غطه الوحي فعلم، إلى أن حمى التنزيل وتتابع - فجاهد وعلم وأنذر وبشر - فبلغ

بشر بالحكمة والموعظة الحسنة الناس جميعاً (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)

أنذر وبشر وعلم - بفؤاد وادع وقلب سليم وسريرة طاهرة - فبلغ: (ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك) إلى أن أكمل جهوده وأتم رسالته واستودعها الفرقان الحكيم. وجعل قيمين على تنفيذها سرائر صحابته وتضحية المؤمنين بنبوءته ليعملوا بما أوحى إليه وأنزل عليه ويجاهدوا وينيروا

يجاهدوا وينيروا - البشر جميعاً بدين الفطرة، والإخاء، والشورى، والمساواة، والعدل، والعلم، والحكمة، والحجة، والضمير، والحرية، والجرأة، والصراحة، والاستقلال، وقرة أعين في الدنيا (ورضوان من الله أكبر) في الآخرة

إذن على أسس هذا الواجب العادل، وهذا التمثل الحق، يُرفع هيكل مجيد لرسالة الأزهر في القرن الرابع عشر المحمدي أو القرن العشرين كما أسمته وزارة المعارف المصرية الجليلة

إذن يرفع هيكل رسالة الأزهر في القرن كما رفع هيكل الإنسانية الإلهي في القرن الأول المحمدي - فيقابل الدور الأول دور التحنث والتعبد والتجرد والعلم، بتحنث وتعبد ودراسة من ينتخبهم الأزهر أم يتجندون للعلم في الأزهر على أن ينتخب الأزهر طلابا من أولي الشعور الخصب وأولي العزم والذكاء العميق، والتحسس الضميري، عشاق التضحية وعشاق الحق ويثقفهم ثقافة كاملة شاملة

ينتخب الأزهر طلابه من الشبان ممن اكتملت صفاتهم تلك ليتعلموا مع علم الدين وشرعة

ص: 37

الرسول وسنته وسيرته واللغة العربية اللغات الحية العالمية، ويدرسوا الأديان العالمية وتاريخها وفلسفتها وأساطيرها

كل فريق يتخصص للغة حية، ويتخصص لفرع من فروع العلوم ليعلموا عن كل علم جوهره الحق فيكون علمهم علما حقا (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا)

قلت ينتخب الأزهر طلابه من الذكور والإناث فلا يحتكر العلم والتبشير الذكور عملاً بالآية الكريمة (والمؤمنون المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة. . .) ولأن واجبهم في التبشير العالمي واجب الذكور والإناث على سواء

وقلت ينتخب الأزهر طلابه من ذوي الشعور الخصب والذكاء العميق والتحسس الضميري وعشاق التضحية والحق لكي لا يقولوا الله ما لم يقل في كتابتهم سيرة الرسول، ويعملوا الرسول ما لم يعمل في تبيان حياته، ويضعوا في فمه ألفاظا تطهر منها فمه

فيقولون مثلاً (غزوة) لكل واقعة انتصافية، أو تهذيبية، أو تبشيرية

إن الغزوة كتبت بعقلية من كتب بعد مائتي سنة من وفاة الرسول مع ما في من ظاهرة السلب وحب القتال غير المعقول وغير الحق

إن المفهوم والمعقول من الآيات المنزلة عند ما أذن الرسول بالقتال كانت للانتصاف والتهذيب والتبشير لا الغزو (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)

(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) فهل يحب الغزاة الناهبين؟

(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً)

(الذين إن مكناهم في الأرض، أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور)

(وقاتلوا حتى لا تكون فتنة)

تلك هي الآيات الحكيمة المنصفة التي نزلت على الرسول، فمن أين جاء كتاب السيرة ومن

ص: 38

تابعهم بالغزو. . . وبالغزوات

ولكي لا يقول الرسول هكذا: تذهب الكثرة من المؤرخين إلى أنهم - أي الصحابة - فكروا وفكر محمد (ص) على رأيهم في الانتقام من قريش لأنفسهم ومبادأتهم بالعداوة والحرب

ولكي لا يقولوه الطعن والشتم والسباب، بقولهم: طعن آلهة قريش، شتمها، سبها، ولكي، ولكي

إن الرسول لم يكن منتقما، وقد حذر الانتقام، ولم يكن سباباً، والحديث الصحيح والقرآن الحكيم ينفيان عنه حب الانتقام والشتم والسباب؛ فمن أي مصدر قرآني، أو حديث صحيح وضعوا في صدر الرسول الانتقام وفي فمه السباب؟؟. . .

إن الرسول فكر في الانتصاف من أعداء الله وأعدائه. فكر في حرية التبشير، فكر في تعليمهم الحق، وعلم بما فكر. فلما لم يذعنوا بالحسنى بعد ثلاثة عشر عاما أذن له في القتال الانتصافي، ولم يسب آلهة قريش، بل عابها. لم يسبها لأن حديثه مشهور: لا تكن سبابا

(ليس المسلم بالسباب ولا بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء)

(إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً)

للأسباب المتقدمة التي صهرناها صهراً ننادي الأزهر بيت العلم المحمدي الأول، ونقول: إن واجب رسالته الواجب. الواجب كتابة سيرة للرسول تتفق والقرآن الحكيم؛ وعقلية الرسول البريئة وأعماله الحقة. وقلنا على طلاب الأزهر أن يثقفوا ثقافة جامعة شاملة، لكي لا يرموا قلب الحق بما رماه به كاتب مشهور تعلم في الأزهر، واتصل بالشيخ محمد عبده اتصالاً وثيقاً، وكان من المؤمنين برسالة الرسول ونبوة الرسول!

لكي لا يرموا قلب الحق وإن تعريباً وإن نقلا بقولهم في تأبين من اشتهر بالبخل وحب المال اشتهاره بالذكاء والدهاء

لكي لا يرموا قلب الحق بقولهم

(في مثل هذا اليوم منذ مائة سنة مات الرجل العظيم. مات الرجل الخالد. مات فولتر. ما مات فولتر حتى احدودب ظهره تحت أثقال السنين الطوال وأثقال جلائل الأعمال وأثقال الأمانة العظيمة التي عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها فحملها وحده، ألا وهي تهذيب السريرة الإنسانية فهذبها فاستنارت فاستقام أمرها. .)

ص: 39

وفولتر هذا الذي هذب السريرة الإنسانية فاستقام أمرها، فولتر هذا الذي عظمه مسلم مؤمن وسكب عظمته في صدر كل عربي مسلم. فولتر هذا هو كاتب القصة التمثيلية بعنوان (محمد) ولقد أهداها إلى البابا بنوا الرابع عشر بهذه العبارات (فلتستغفر قداستك لعبد خاضع من أشد الناس إعجاباً بالفضيلة إذا تجرأ فقدم إلى رئيس الديانة الحقيقية ما كتبه ضد مؤسس ديانة كاذبة بربرية. وإلى مَنْ غير وكيل رب السلام، والحقيقة أستطيع أن توجه بنقدي فسق نبي كاذب وأغلاطه؟ فلتأذن لي قداستك في أن أضع قدميك الكتاب ومؤلفه وأن أجرؤ على سؤالك الحماية والبركة وإني مع الإجلال العميق أجثو وأقبل قدميك القديستين

في 17 أغسطس سنة 1745

(فولتر)

ترى لو كان المعرب الذي استعار بلاغة القرآن تثقف الثقافة الحقة الجامعة الشاملة وفهم نفسية من كتب عنه وأعماله وأقواله

ترى لو كان مثقفاً ثقافة صحيحة أكان يقول عن فولتر قوله سواء أكان يقول إن فولتر هذب السريرة البشرية فاستنارات فاستقام أمرها، وإن أمانة هذا التهذيب عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وحده؟ ويكون تهذيبه للبشر بهذا الشكل الفاسق غفر الله لمن عرب ولمن ثقف هذه الثقافة

إذن لتكن رسالة الأزهر تعليم اللغات الحية ولتكن رسالته الثقافة الجامعة الشاملة ليطلع طلابه على أهم المسائل فيظهروا الحق حقاً والباطل باطلاً

لتكن رسالة الثقافة الشاملة، فلا يصاب طلاب الحق بأمثال من ذكرت، وبأمثال عالم كتب حياة محمد (ص) وعندما شاء أن يصور كيف خشيت قريش البعث ورعبت من جهنم قال:(أما الجنة التي أعدت للمتقين، وجهنم التي أعدت للظالمين. أما ذلك كله فلم يكن يدور بخاطرها، وذلك كله قد سمعوا به في دين اليهود، وفي دين النصارى). وقال في صفحة ثانية: (والموسوية والعيسوية تصفان حياة الخلد ورضا الله)

لا أعلم أين قرأ المؤلف وصف الخلد، ووصف الجنة وجهنم في الدين الموسوي!

لا جنة ولا جهنم أيها المؤلف الفاضل في الدين الموسوي ولم يرد وصفهما لموسى. إن

ص: 40

التوراة اكتفت بقولها: (إن الله له منتقم يفتقد ذنوب الآباء في البنين إلى الجيل الرابع، ومن ثمة يفتقد خطايا الخاطئ وذنوبه بجسمه ونسله وأنعامه ومواشيه فحسب)

مثل هذا القصور في الثقافة لا يليق بمن يكتب حياة أعظم من سار على قدمين من بني البشر - حياة الرسول - لذا ترى أن أول واجبات رسالة الأزهر توسيع دائرة المعارف وتثقيف الطلاب ثقافة جامعة شاملة قبل أن يكتبوا عن الرسول وقبل أن يحللوا الحكمة السامية التي تجسدت في شخص محمد، والأدب الرفيع الذي جلل أقواله وأعماله

جهلت قومه عليه فاغضى

وأخو الحلم دأبه الأغضاء

وقلنا بالتخصص ليخرج من طلابه نوابغ في أي فرع من فروع العلوم، فإذا تخصصوا ونبغوا حق لهم أن يفسروا القرآن الحكيم لأنهم يومئذ، ويومئذ فقط، يفهمون الآيات الطبية والتشريعية العالمية الدولية والنفسية البشرية، وعلوم الفلك والطبيعيات وو. . . . إن في القرآن مجموعة العلوم البشرية فأنى لغير مجمع كبير علمي أخصائي في أي العلوم يفهمه ويفسره؟ فإذا تخصصت كل فئة لفرع أجادت فهم القرآن وأجادت تفسيره

(ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر)

هذه الأطوار الستة وردت في القرآن الحكيم منذ أربعة عشر قرناً أثبتتها الاكتشافات الحديثة أمس (واتخذها الفلاسفة الطبيعيون حجة على أطوار خلق الجنين توافق الأطوار التي نشأت فيها أصول الحيوانات في الأزمنة العريقة في القدم قبل خلق الإنسان بادهار طويلة، وذلك لأن الإنسان يكون في الطور الأول من إنشائه نطفة أشبه بالحيوانات السافلة المساماة بذوات الجوف، ثم يستحيل إلى علقة فيصير أشبه بالسمك، ثم ينسلخ مضغة فيكون شبيهاً بالحيوانات المائية البرية ذوات العمرين، وبعد ذلك يتحول إلى مشابهة أدنى مراتب الحيوانات اللبون وهو حينئذ في بدء الطور الذي ينمو فيه خلقاً سوياً متميزا بخصائصه النوعية)

أنى لغير الطبيب الحكيم أن يفهم عظمة القرآن وعلوم القرآن إذا مرت أمامه الآية الطبية تلك وأمثالها وأنى له أن يفسرها؟

وأنى لغير المشترع أن يعلن بسرعة أن أعظم لجنة ألفتها جمعية الأمم في القرن العشرين

ص: 41

مؤلفة من أكبر مشترعي العالم منذ أشهر معدودة لتحكم بين دولتين هما من أعضاء جامعة الأمم

لقد قالت اللجنة التشريعية: مادام أن مجلس الثلاثة عشر قال إن إيطاليا هي المعتدية على الحبشة، ولما كان كلاهما عضو في جامعة الأمم فعلى جامعة الأمم أن تناصر المعتدى عليها

ذلك حكمها. فلنسمع حكم القرآن في مثل هذا الموقف ولنعتبر ولنحترم

لنسمع للحكم السامي الرفيع الذي جاء به الفرقان منذ أربعة عشر قرناً، الحكم الجامع الشامل، الحكم الذي عجز عن الإتيان بمثله أعظم علماء الشرع في القرن العشرين:

(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهم. فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله. فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين)

فإذا اكتملت الثقافة واكتمل التخصص وتعلم اللغات فقد ابتدأ دور الجهاد فأصبحت رسالة الأزهر الثانية والثالثة. أما الدور الرابع فالترجمة وإرسال الوفود تحت كل كوكب للتعليم والإنذار والتبشير بالحكمة والموعظة الحسنة بفؤاد وادع وقلب سليم

وأن يكون من جهاد الأزهر طبع المؤلفات النفيسة عن الرسول وعن القرآن وعمن نصروا الرسول متشرفين بحكمة إمامته العظمى، وليكن من جهاده نشرها

حسب الأزهر أن يقوم بما تقدم لينقل للإنسانية رسالة سامية تطمئن الأصغرين وتسعد في الدارين

الخلاصة عن رسالة الأزهر

1 -

أن ينتخب طلابه من ذوي الشعور الخصب وعشاق الحق ليتعلموا مع العلوم الشرعية الأزهرية كلها تاريخ الأديان وفلسفة تلك الأديان وأساطيرها

2 -

ليتعلموا اللغات الحية

3 -

وأن يكونوا فئات في التخصص كل فريق يتخصص لعلم حتى يجيدوا فهم القرآن الحكيم الجامع لكل العلوم ويجيدوا تفسيره

4 -

أن يترجم الأزهر خيرة المؤلفات العربية ذات العلاقة بالدين الإسلامي والرسول

ص: 42

العربي إلى اللغات الحية

5 -

أن يبعث إرساليات تبشيرية تحت كل كوكب تبشر بالحكمة والموعظة الحسنة للناس جميعا

6 -

أن يكتب سيرة الرسول العظيم كتابة تتفق مع ما ورد في الفرقان الحكيم والأحاديث الصحيحة، ورأي المؤرخين السياسيين المنصفين

7 -

أن يترجم تلك السيرة، أم الحياة، إلى اللغات الحية جميعها وأن يطبع ما صُنف من المؤلفات النفسية عن الرسول وعن الدين

(دمشق)

لبيب الرياشي

ص: 43

‌الحياة الأدبية بالمغرب

بقلم محمد عبد المجيد بن جلون

لقد حان أن نتكلم نحن أيضاً عن الحياة الأدبية في بلادنا، فـ (الرسالة) سائرة تتحدث عن الأدب في الأقطار العربية، التي - وإن بددتها الأطماع السياسية - ستظل تجمعها لغة الضاد إلى ما شاء الله. ونعني بالمغرب المغرب الأقصى، وبالأدب الأدب الحديث؛ أما الأدب القديم فنود أن نرجع إليه في مناسبة أخرى لما شاع في المشرق من أن المغرب قطر لم يساهم في الأدب العربي، وتلك حقيقة اكتشفها مؤلفا كتاب:(المطرب في تاريخ الأندلس والمغرب) محمد عجاج، وعلي سعد؛ ومصدر ذلك هو الجهل بالمغرب وتاريخه. والمؤلفان معذوران - إلى حد ما - لأن تاريخ المغرب - الأدبي منه بنوع خاص - لا يزال في ظلمات المكاتب، إلا قليلاً؛ على أن هذا القليل نفسه لا يسمح لنا أن نحكم بأن المغرب ليس له أدب قديم؛ وما نريد أن نزيدهما على ما كتب في هذا الموضوع أستاذنا محمد علال الفاسي (المغرب الجديد - عدد 3 - السنة الأولى)

وبعد، فما هي حالة الأدب العربي بالمغرب اليوم؟ لقد أجهدت نفسي في أن أصل إلى جواب أطمئن إليه عن هذا السؤال، فما وجدت الحقيقة إلا في أنها حالة ضعيفة؛ فما هي الكتب الأدبية - بالمعنى الصحيح - التي يصدرها المغرب؟. . . . . أعفني بربك أيها القارئ، فالحقيقة مرة، وقلبي يضطرب عند ذكرها اضطراباً

وإذ عدمنا الكتب فلنتساءل عن الصحف. إن كل ما يصدره المغرب مجلتان أدبيتان: الأولى (مجلة المغرب) للأستاذ محمد الصالح ميسة برباط الفتح، والثانية (المغرب الجديد) للأستاذ محمد المكي الناصري بتطوان، اجتازت الأولى مرحلة أربع سنوات، والثانية أتمت سنتها الأولى منذ قريب. فما قيمة ما تنشر هاتان المجلتان؟ ذلك ما نريد أن نتحدث عنه الآن باختصار

فأولاً يجب أن تعلم أن المجلات المصرية - يا للمجلات المصرية! - طغت عليهما إلى درجة أن إحداهما لا تباع في فاس، لأنها فقدت المشتري بالمرة وهما معاً تصدران شهرياً، فلننظر الآن ما في هاته المجموعات

أما ما يسمى بالبحث الأدبي ففيها الكثير، خصوصاً حول الأدب العربي في المغرب قديماً،

ص: 44

فهذا البحث الذي يتابع نشره الأستاذ محمد علال الفاسي على الطريقة الحديثة، عن أبي علي اليوسي، وبحثه القيم يبهر القارئ؛ وهو يكتب الآن بحثاً عن أثر شعر المتنبي في المغرب بمناسبة ذكراه الألفية، وموضوع كهذا، في وقت بالمغرب كهذا، يصدر بهذا العنوان الخطير، يكاد لا يصدقه العقل، وأحكم على البحث بالبراعة والإلمام بالموضوع لأنني اطلعت على جزء منه

وأما إذا بحثت عما يسمى بالإنتاج الأدبي، فذلك ما لا تعثر عليه، فليس يدور بخلد المغربي أن يعالج القصة، بل القصة عنده لهو وعبث يجب أن يضن عليه بوقته الثمين. . . وهناك شعر قليل ولكنه نظم ليس إلا، ذلك أن المغاربة يجهلون الشعر تماماً، اللهم إلا قواعد جافة لا تسمن ولا تغني من جوع. والذين يزعمون أنهم شعراء يزعمون كذلك أنهم أعلى من أن يحدثهم طه حسين مثلاً عن فن الشعر. يقلدون القدماء ويقفون ويستوقفون، مما كان سائغاً في العصور الغابرة أيام الناقة والجمل، أما اليوم فكل هذا محاكاة لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وليست من الشعر في شيء. كذلك يفقدون المثل الأعلى، وإنما هو هذيان يجري إلى غير غاية، ومعان مفككة، وهم ضعفاء الخيال، والحقيقة أن حالة المغرب الاجتماعية لها الأثر الفعال في هاته الناحية، وهنا أستثني شاعر شبابنا الأستاذ محمد علال العباسي فاسمع هاته النغمات الحلوة يرسلها قلب عليم قد امتلأ حباً لهذا الوطن العزيز:

وإذا متُّ عليه فأنا

مطمئن لرضاه المثمن

فاغسلوا بالماء منه بدني

واجعلوا نسج بنيه كفني

وادفنوني في ثراه وضعوا

فوق قبري منه زهر السوسن

واكتبوا فوق ضريحي بدمي

هاهنا قبر شهيد الوطن

وإذا تصورت الشاعر منفياً عن مهد صباه، بعيداً عن الأهل والوطن، في باريس، طلبت منه أن تعيد النظر في هاته الأبيات؛ وهو لا زال لم ينشر ديوانه (روض الملك) بعد؛ وله قصائد رائعة - عند ما كان في باريس تجدها في مجلة السلام، يوم كانت مجلة السلام

وأكثر ما ينشر ويذاع من قصائد للمغاربة رديء سقيم، أشفق على قارئه وسامعه أكثر مما أشفق على قائله. . .

والآفة التي تستولي على المغاربة هي الكسل، وماذا يتطلب قول الشعر. . . هل يحتاج إلى

ص: 45

إطلاع في التاريخ أو تحصيل شيء من الفنون. . . هكذا يظنون، فينشأ الكسل

والنهضة المغربية تقوم على أكتاف الشباب الناشئ، فهناك شباب يكتبون لأنفسهم، ويقولون الشعر لها أيضاً، وربما أطلعوا بعض أصدقائهم على ذلك، وبعد هذا فإلى ظلمات الدرج، حيث يعلم الله وحده ماذا يكون بها، وكاتب السطور يعرف جماعة من هؤلاء في فاس اطلع لهم على قصص لا بأس به، وشعر له حظه من الجودة يبشران بمستقبل حافل. إذن فالأمل في الشباب الناشئ الذي يقرأ بنهم ما يكتبه أفذاذ الشرق، فاعتدلت بذلك أفكاره نوعاً من الاعتدال، ويوشك إن هو استمر على اجتهاده أن يكون منه أدباء، يبذرون في الأرض المغربية الخصبة بذور الأدب الصحيح، بل إني أؤكد أن هؤلاء الناشئين لابد أن يكون لهم شأن، فما كانت هاته الجهود لتضيع هباء

بهذه اللمحة الموجزة تستطيع أن تتبين ما في المغرب من أدب، وأن نستنتج أنه في الحالة الحاضرة ضعيف الأدب، وأنه وإن لم يكن ميتاً فهو قريب من ذلك، وأن حالة الناشئة تبشر بمستقبل زاهر قريب، لما لهذا الشباب الطموح من عزيمة

والعقلية المغربية أقرب إلى العلم منها إلى أي شيء آخر، ولو كنا نتحدث عن الحالة العلمية لطال بنا الحديث، خصوصاً ما يلقى في جامعة القرويين من دروس جامعة مع اعترافنا بما فيها من نقص وما تحتاج إليه من تهذيب

ولعله استرعى نظرك أننا ما ذكرنا غير الأستاذ محمد علال العباسي فليس معنى ذلك أنه ليس في المغرب غيره، ولكن معناه، أنه - في نظري - أعدل إخوانه الأدباء رأياً، وأقربهم إلى الصواب، فهو أديب حقاً، وله نفسية الأديب، ويحيا حياته. وكل من يعرف وداعته وأخلاقه يطمئن إلى ما نقول، بيد أنه لا يصرف كل أوقاته - ولا جلها - في الأدب، بل اشتغاله به محدود ضيق الدائرة، ولو كان يفعل لكان أديباً جباراً فما خُلق إلا ليكون أديباً

بقي أن نقول إن القرويين والمدارس القومية والحكومية كلها تحمد وتعاب، غير أن أفضل معهد للدرس هو القرويين. ولو كان أبناء (الكولج ومولاي إدريس) يشتغلون بالعربية. لكانوا أنجب من أبناء القرويين، ولكن كل همهم في الأدب الفرنسي والتفرنج، وهم زيادة على ذلك يعيشون في ظلام لا يستطيعون السير فيه وحدهم

وهنا ننوه بما (للرسالة) الغراء على أبناء المغرب من فضل. فإليها يرجع طموح الناشئة،

ص: 46

على هداها يسيرون، وبنورها يهتدون؛ فشكراً لك (يا رسالة) الحياة، ولك أنت يا مصر الشقيقة، فلن تجدي في المغرب نكراناً للجميل

فاس

محمد عبد المجيد بن جلون

ص: 47

‌نهاية المجد الإنساني

لدانيل ديفوا

(1661 - 1731)

رسالة كتبها لإحدى الصحف بمناسبة موت الدوق مارلبرو

سيدي:

لقد أكببت أخيراً على درس التاريخ، وطالعت حياة عظماء القرون الماضية كالاسكندر الأكبر ويوليوس قيصر وأوغسطس العظيم، وكثيرين غير هؤلاء وهؤلاء ممن تواردوا بعدهم حتى لويس الرابع عشر الكبير، بل وحتى أعظمهم وأكبرهم (جون دوق مارلبرو)!! ولقد مررت في طريقي بتيمورلنك حصاد الرؤوس، وبتمور نبيجوس المصري، وبسليمان الكبير، ثم بغير هؤلاء من سلاطين آل عثمان، فإذا قد كتب عنهم جميعاً الواحد تلو الآخر بعد الآثار العظيمة التي خلفوها:(ثم مات)!!!؛ جميعاً أموات!؛ أموات!؛ أموات!؛؛ و (الموت) هو نهاية كل منهم!! فالبعض يرقد في مهد الشرف! والبعض على سرير الخضوع الذليل! هذا قد مات شجاعاً في ساحة الشرف! وذاك قد تردى في هوة المجد أثناء عاصفة الهجوم! البعض هنا والبعض هناك! تختلط عظام الشجاع الصنديد منهم بعظام الجبان الرعديد! وبقايا البطل الجريء ببقايا النكرة الدنيء! يرقدون هناك في أكفان النسيان تحت أنقاض الثرى؛ لا يتميز واحد من الآخر ولا يباينون التراب في شيء!)

(ترقد هذه الساعة الدقاقة المفاخرة مختلطة بالأقذار؛ وهي التي كانت (عظيمة) فظنت نفسها عارفة مقتدرة!) كم آلاف من الأبطال يرقدون في هذا العالم أكواماً متناثرة؟ كم يجرف الريفيون عظامهم بمحاريثهم وكم يسحقها العمال بفؤوسهم؟ بل لكم تحول الأرض أنبل وأسمى أعضائهم إلى ما يستعمل في أحط المنافع! لكم مزجنا رماد الأبطال بطلاء منازلنا؟؛ ولكم خلطنا رماد قائد روماني بملاط حظيرة للخنازير! أين رفات (قيصر)؟ أين بقايا (بومبي) وانقاض (سيبيو) و (هنيبال)؟؟ كلهم قد تلاشوا!! اندثر رمادهم ولم يعد مكانهم يعرفهم! لست تراهم إلا في الكتب الباقية لشعرائهم ومؤرخيهم؛ والرسائل الكثيرة لمداهنيهم ومتملقيهم الذين صوروا لنا الأشخاص لا كما كانوا حقاً! بل كما كان يحلو لهم أن

ص: 48

يصوروهم!!!. . .

وما يقع لأعظم الناس يقع لأطولهم عمراً! فقوم نوح انتهوا جميعاً بشيء واحد؛ عاش منهم (متوشالح) تسعمائة سنة وتسعا وستين! وأعقب أبناء كثيرين وبنات كثيرات! ثم ماذا كان؟ كان أن مات. .! (الحياة حلم، والموت نهر طام يجرفنا)

نحتفل الآن بجناز مارلبرو (العظيم)!! فكل انتصاراته، وكل مفاخره، وكل خططه الحربية التي دبرها، وكل فتوحاته المتسلسلة المطردة، كل ذلك الذي يخصونه به كما لو كان وحده قد حارب وانتصر، وفاز وكسب، دون أن يمده الكثيرون بأرواحهم ودمائهم! كله قد انتهى حيث ينتهي آخرون! بل حيث ينتهي الناس جميعاً! أنه مات!! فلا ثروته الضخمة، ولا أسلابه من أعدائه، ولا سخاء حبيبته البارة وكرمها، ولا الكنوز المتراكمة في الحرب وفي السلم، ولا كل هاته الكتلة العظيمة من الذهب التي لا أعنى بتعيين ضخامتها كما قد يعنى البعض!! شيء من ذلك لم يستطع أن يهبه الحياة؛ ولا أن يطيل له أمدها لحظة؛ لقد انتهى وكفى. . .!

لا، بل يقول البعض إن الكنز العظيم الذي امتلكه في هذا العالم ذو خاصية غريبة عالقة به كانت تكون جد منغصة لصاحبه لو اعتنى بالتفكير فيها قليلاً! وهي أنه لا يستطيع أن يأخذ شيئاً منه إلى قبره. . .!!!

لم يبق لنا شيء من ذلك (العظيم) نتحدث عنه غير تاريخه وتمثاله؛ لقد عُدَّ الآن في الماضيات، وأصبحت صور جنازته ومعاركه جديرة بأن تتزين بها منازلنا كسائر القطع الفنية التي تعادلها زهواً وبهاء، وتساويها في النظر إليها بسرور وارتياح!!!

هكذا نهاية المجد الإنساني! وقليلاً ما تستطيع الدنيا القيام به لأعظم من يلجونها! بل ولأعظم قدر يصل إليه هؤلاء الرجال. .!!

فما وظيفة الحياة إذاً؟ وما أثر العظماء الذين يمرون على مسرح للدنيا في حلل النصر كهؤلاء الذين ندعوهم (أبطالاً)؟؟ أهو أن يكبروا وينفخوا في بوق الشهرة ويشغلوا صفحات كثيرة من التاريخ؟؟ وا أسفاه!! ليس هذا بأكثر من وضع قصة يقرأها الخلف فيما بعد ويصورها خرافة ورواية!! أم هو أن يقدموا للشعراء موضوعا يعيشون به في أشعارهم الخالدة كما يدعون؟؟ وذاك أيضاً سيؤول بهم إلى قصة شعرية يتلوها العجائز لإسكات

ص: 49

الأطفال، أو لجمع مساعدة للفقراء والمساكين على قارعة الطريق. .!

أم أن أثرهم هو أن يضيفوا الفضيلة والتقوى لمجدهم؛ وهما العنصران اللذان يأخذان بهم إلى النعيم ويجعلانهم حقاً خالدين؟؟ وما المجد من غير فضيلة؟؟

ليس العظيم من غير تقوى بأكثر من دابة ضخمة من غير نفس!

ثم ما الشرف بغير قدر واستحقاق؟؟

وماذا يمكن أن يدعى قدراً حقيقياً غير ما يجعل الشخص تقياً كما هو عظيم؟؟

إنا إذا كنا نؤمن بحالة مستقبلة للحياة، بمكان يكافأ فيه الفضلاء، ويعاقب بين جدرانه السفلة، فكم من الرؤوس المتوجة سيلبس تاج السعادة والخلد؟؟

لا يحسدن أحد (العظماء وذوى المجد) كما نسميهم!!

فإنا إذا استطعنا الآن أن نراهم وجدنا أكثرهم يستحق الرثاء لا التهنئة!!؟

هذه الخطرات القليلة أبعثها إليك يا سيدي لتهيئ عقول قرائك قبل أن يذهبوا لمشاهدة الجناز الفخم للطيب الذكر (دوق مارلبرو). . . . .

ترجمة محمد حسن ظاظا

ص: 50

‌الأدب بين الخاصة والعامة

لامرتين ورينه جارد

للسيد اسكندر كرباج

في عام 1846 قصد الشاعر الفرنسي لامرتين إلى مرسيليا لقضاء بضعة أسابيع في أحد أحيائها الهادئة، بعيداً عن متاعب السياسة وضوضائها، وكان لامرتين وقتئذ في أوج مجده الأدبي وعظمته السياسية؛ فاحتفت به أندية العلم والاجتماع في تلك المدينة البحرية، وأكرمه الأدباء والشعراء، ونظموا فيه القصائد البليغة

وفي ذات يوم ذهب لامرتين وزوجه للنزهة على ساحل البحر، فلما عاد مساء قيل له إن في الرواق المطل على الحديقة امرأة وضيعة الهيئة بسيطة الهندام تنتظر رجوعه منذ الصباح. فتوجه لامرتين إلى الرواق المذكور ليرى تلك المرأة الغريبة ويقف على حقيقة أمرها؛ وبعد أن يشاهدها ويحدثها ويصف ملامحها ونظراتها وإشاراتها بتلك الرقة الساحرة وذاك البيان الخلاب الذي اشتهر به مؤلف رواية غرازيلا ورفائيل يسألها عن الغرض من قدومها لزيارته، فتجيبه أنها خياطة في اكس، وقد قرأت رواياته ومنظوماته، وأعجبت بجمال تعابيره ورقة شعوره وسمو خياله، فلما اطلعت في الصحف على خبر قدومه إلى مرسيليا واحتفاء دوائرها الأدبية به تولدت في نفسها رغبة التعرف به والتحدث إليه، وإنها على الرغم من فقرها وخمولها تجرأت على ترك عملها والقدوم سرا إلى مرسيليا تحقيقا لرغبتها

فيتودد إليها لامرتين ويلاطفها ويقول لها أنه يشك في أنها تركت عملها وتحملت مشاق السفر يومين كاملين، وقضت معظم النهار في انتظار رجوعه من نزهته لكي تراه وتحدثه وتتعرف إليه فقط؛ بل يجب أن يكون هنالك سبب آخر لقدومها لا تريد ذكره، أو أنها لا تجرؤ على التصريح به، ولذلك فهو يسألها أن تخاطبه بحرية وتبوح له بما في قلبها من غير تكلف

فتفقد هي إذ ذاك شيئاً من خجلها واضطرابها، وتخبره أن في إكس أسرة كريمة تعرف شدة ميلها إلى المطالعة وعجزها عن شراء الكتب فتعيرها ما تقتنيه منها، فاستطاعت بذلك أن تطالع عددا كبيراً من الروايات النفسية والمنظومات الرقيعة ولاسيما رواياته ومنظوماته

ص: 51

التي تطرب المسامع، وتحرك القلوب، وتستذرف الدموع

فيقاطعها لامرتين مبتسما: عرفت الآن! إنك شاعرة كالنسمات التي تهب بين أشجار الزيتون، أو كالندى الذي يبلل أثمار التين!

فتجيبه: لست شيئاً من ذلك يا سيدي؛ إني خياطة وضيعة لا أبرح غرفة عملي إلا نادرا، وسلوتي الوحيدة الدرس والمطالعة، وليس يؤنسني في وحشتي وانفرادي إلا عصفور غرِّيد، ولكن هذا كله لا يهمك أمره، لقد سألتني عن سبب قدومي إلى مرسيليا وكيف عرفت بقدومك إليها، فأجيبك أني قرأت منذ أيام في صحف هذه المدينة أبياتاً من الشعر الرقيق ليوسف أوتران في مدح لامرتين والترحيب به، فشوقتني هذه الأبيات إلى رؤية الشخص الذي أوحى إلى شاعر مقاطعتنا نظم تلك الأبيات الجميلة، وبتُّ لا أستطيع صبراً على ذلك. وبعد وثوقي من وجودك هنا قدمت لزيارتك دون أن أهتم بملبسي أو بغيره مما يجعلني أهلا للمثول في حضرة رجل مثلك؛ وهأنا أمامك الآن لا أدري ماذا أقول ولا ماذا أفعل، وربما حملتك حالتي هذه على الاعتقاد بأني امرأة جسور مغامرة أتت تخدعك وتدعي ما ليس فيها، مع أن الحقيقة هي ما أوردته لك بالتمام، وبعد أن شاهدتك وعرفتك وحدثتك وحظوت منك بهذا الاستقبال اللطيف سأعود إلى قريتي حاملة أجمل ذكرى لهذه الزيارة

فيقول لها لامرتين: خففي عنك أيتها الآنسة! لم يمر في خاطري قط أنكِ لست كما تذكرين، فملامحك أنصع دليل على صدقكِ وسلامة طويتك، وإذا كانت الألسنة تخدع أحياناً فالعيون لا تضلل أبداً؛ ففي عينيك بريق يشفُّ عن براءة ونقاوة لا يمكن أن تكونا برقعاً لامرأة كاذبة نمامة. إن الطبيعة لم تخلق الملامح كذوبة، فأنا أثق بكِ كما لو كنت أعرفك منذ الصغر، ولذلك لا أسمح لكِ بالانصراف ما لم تحدثيني طويلاً وتشاركينا في العشاء؛ لقد ذهبت زوجتي لتغيير ثوبها ولا تلبث أن تأتي لاستقبالك والقيام بواجب الضيافة نحوك. وقبل أن يحين وقت العشاء أخبريني كيف تولد فيكِ هذا الميل إلى المطالعة، وهذا الهيام الشديد بالشعر والشعراء، والتعرف إلى الأدباء الذين طالعتِ رواياتهم

فتروي له قصتها قائلة: اسمي رينه جارد، وقد وُلدت في قرية قريبة من إكس، ودخلت صغيرة في خدمة السيدة. . . ورافقت نشوء الأولاد، ونعمت بعطف الأبوين وصداقة الصبايا، وكنت أصغي إلى ما يتعلمنه على الأساتذة وأطالع كتبهن في أوقات الفراغ،

ص: 52

فتوصلت بهذه الواسطة إلى تحصيل بعض العلوم ومعرفة القراءة والكتابة والخياطة والغسل والكيّ وغيرها مما تحتاج إليه الفتاة ويكلفها تعلمه نفقات كبيرة. وكنت أتولى خياطة ثيابهن، وأعدهن لحضور الحفلات في إكس، وأنتظر رجوعهن من المراقص حتى الساعة الثانية والثالثة بعد نصف الليل، ومكافأة لي على ذلك كن يدفعن إلي كتاباً أو رواية لكي أطالعها في غيابهن؛ فكنت أجلس بها إلى جانب الموقد وآخذ في مطالعتها مرتين وثلاثاً ولا أتركها من يدي إلا بعد أن أكون قد استوعبت معانيها جيداً؛ وهكذا طالعت قصة المسكينة لورانس في روايتك الشعرية جوسلين، وقد قلت لنفسي وقتئذٍ: هل يسعدني الحظ برؤية كاتبها ومحادثته؟ لا ريب أنك تعرف أنشودة البحري التي مطلعها: من هو ناظم النشيد؟

فيجيبها لامرتين: نعم أعرف تلك الأنشودة التي يضع ناظمها اسمه تحت آخر بيت منها كما كان فيندياس يضع اسمه على قاعدة تماثيله، وفانديك في ذيل رسومه لكي يخلد بخلودها. ولكن أخبريني كيف انفصلت عن تلك الأسرة الكريمة، وأي عمل تمارسين الآن؟

فتقول له رينه: بعد أن تزوج البنات وتوفيت الأم لم يعد من حاجة إلى بقائي في البيت، فغادرته على ألا أدخل في خدمة غيره؛ وقد ساعدني الأب بمبلغ من المال على تدبير أموري، وقال لي البنات: اطمئني فلن نحوجك إلى الاستجداء

وكنت محبوبة معتبرة في بيئتي، فاستأجرت حانوتاً تعلوه غرفة صغيرة للنوم، وانصرفت إلى احتراف الخياطة، ولكثرة الإقبال عليّ كدت لا أستطيع تلبية الجميع؛ وأنا أعيش اليوم من إبرتي، وما يفيض عن نفقاتي أختزنه ليوم الضيق أو لأيام شيخوختي. وكانت لي عصفورة تسليني في وحدتي ففقدتها وحزنت عليها كثيرا، وأنا أخصص أيام الآحاد والأعياد للمطالعة. وفي المدينة أشخاص من الطبقة العالية مثلك، وعلماء وأدباء حتى وبعض أعضاء المجمع العلمي يعرفون ميلي إلى المطالعة والنظم في بعض الحفلات، فلا يخجلون من دخول مصنعي ومحادثتي وإعارتي بعض الكتب

فيقول لها لامرتين مبتسما: أتنظمين الشعر أيضاً يا رينه؟ كدت استشف ذلك من عينيك الحالمتين، إذ لا سماء بدون غيوم، والأحلام والنظم هي غيوم تينك العينين الجميلتين؛ ولكن هلمي بنا، لقد هجرت أنا النظم، ولكني لم أزل أحن إلى سماع رناته والاستمتاع

ص: 53

بروائع صوره ومعانيه. فما أجمل زمن النظم! وما أشد شوقنا إليه! هل تتذكرين يا رينه شيئاً من نظمك فتسمعيني إياه؟ انظري ما أبدع هذا المكان وألطفه لإنشاد الشعر! فالشمس على وشك المغيب، والبحر يحمل إلى مسمعنا هدير أمواجه وخشخشة أصدافه التي هي أشبه بغناء صغيرة تضرب على الصنج، والنسيم يداعب أشجار الليمون وينثر أزهارها العذرية على شعرك الأسود، وأنا، هذا الغريب الذي كان شاعرا فيما غبر من الأيام ويجلس وحيداً أمامك ليسمعكِ وقد أعجب بنبرات صوتك، ألا يساوي كل هذا في نظرك جمهوراً من السامعين حتى ولو كانوا من أعضاء المجمع العلمي؟

فتجيبه رينه: لا جرأة لي على ذلك يا سيدي، ولكني أحتفظ بمقاطيع من الشعر كنت قد نظمتها في إحدى ساعات كآبتي، فأفضل أن تقرأها أنت من أن ألقيها أنا على مسامعك. ثم تخرج من جيبها بضع أوراق وتدفعها إليه

فيأخذها لامرتين ويقرأها لنفسه، وكانت هي في أثناء ذلك تمسح وجهها بمحزمها وتحول نظرها عن وجه لامرتين مخافة أن تقرأ فيه ما يدل على استهجانه

ثم يصف لامرتين تأثير تلك القراءة في نفسه فيقول له:

لقد أعجبت وتأثرت جداً بما قرأت، أنه التعبير الساذج اللطيف المؤثر بكل قوته ومعانيه، بل خلجات قلب هادئة تصل إلى المسامع بصورة شجية متناسقة، بل صورة ملامحها المتواضعة اللطيفة بكل خطوطها وعلاماتها؛ وبكلمة واحدة، أنه شعر حقيقي لامرأة تحاول التعبير عن عواطفها بالضرب على أوتار آلة تجهلها

لم تكن الأبيات التي طالعتها شديدة أو رنانة كشعر رابول، ولا حماسية وهاجة، أو ندية فضفاضة كالياسمين، بل كانت هي نفسها: نغمة مملة كئيبة تنشدها عاملة فقيرة لنفسها وهي تحرك أناملها أمام نافذة غرفتها لكي تخفف تعبها من عمل الإبرة

كان في الأبيات نغمات حادة تجرح القلب، وأخرى لا تحتوي إلا نبرات غامضة لا تلفظ كأن التنفس وقف في منتصف الاستنشاق، غير أن هذا كان قوياً وتاماً وتغلغلاً حتى القلب وحتى السماء؛ وكان التأثر فيها يفوق الإعجاب. وعلى الجملة أنها الشعر في حالة التكوين، الشعر الذهبي كما هو في كل مكان حيث يبتدئ في الشعب ولو خلا من صوت الفن، أن نغمة واحدة مملة كئيبة، وقصة تتألف من حادث أو حادثين، وسبع أو ثماني صور كافية

ص: 54

للتعبير عن اللانهاية!

ثم يرجع لها الأوراق قائلاً: إن في منظوماتها أشياء خلابة وأن الله منحها موهبتين ساميتين: الشعور بدقة، والتعبير بظرف؛ وهما موهبتا المواهب، أو موهبة الدموع في الصوت، ولكنه أبعد من أن يشير عليها بنشر تلك المنظومات التي هي مثل المياه لا تستعذب إلا إذا نهلت من ينبوعها

فتجيبه رينه: ماذا تقول يا سيدي؟ إني لم أفكر قط في أمر كهذا، إن إقدامي على نشر الكتب يحمل حتى ملاكي الحارس على السخرية بي. لقد نظمت ما قرأته الآن يوم الأحد الأخير على سبيل التسلية فقط، ولا أحد يعلم به في إكس. ومتى كان الإنسان يعيش وحيداً مثلي يضطر إلى التكلم عالياً كي يستوثق من وجوده، فالمنظومات التي قرأتها هي مناجاتي لنفسي

(العصبة)

اسكندر كرباج

من العصبة الأندلسية

ص: 55

‌نحن والزمن

للأستاذ عبد الرحمن شكري

مقدمة:

الزمن كما يفهم الإنسان فكرة من أفكاره، ونسبة ومقياس من صنعه، فهو يقيسه بإحساسه بأمور نفسه بالمرئيات والمحسوسات وما يعتريها من تحول؛ وفكرة الزمن هذه أمر نسبي شأنها شأن الإحساس بالحرارة والبرودة، أو بالأبعاد والحجوم والألوان والأشكال، ومن المستطاع أن يتصور العقل مخلوقاً آخر غير الإنسان يختلف في حواسه، فتختلف كل هذه الأمور في نظره عنها في نظر الإنسان، وهي أيضاً قد تختلف في نظر الإنسان في حالاته المختلفة من شقاء أو سعادة أو مرض أو صحة. والعجيب أن الإنسان في خياله ينسب إلى الدهر مثل هرمه لقدمه، فيصوره كأنه شيخ مفن في يده منجل يحصد به الناس والخليقة جيلا بعد جيل، والدهر خليق أن يمثل بفتى في ريعان الشباب. فالإنسان يهرم والدول تشيخ وتفنى، والأجيال تنقرض، والدهر هو الدهر، ومن أجل ذلك تصور بعض المفكرين الدهر كأنه زمن حاضر لا ماضي فيه ولا مستقبل، وأما الماضي والمستقبل ففي الناس، والحقيقة أن هذه الفكرة في كنه الزمن لا تختلف عن الأولى مادام الزمن نسبة يقيسها الإنسان بإحساسه، وإذا كان الزمن كذلك فمعاداة الناس للزمن معاداة لأنفسهم، ونسبتهم الحيف والظلم إليه هي نسبة الظلم إلى أنفسهم

(الناظم)

القصيدة: -

يُنْشِدُ البَحْرُ خَرِيرَ الحِقَب

أم خفوقُ القلب نبضُ الزمنِ

أم ترى الأفلاك في دوراتهاَ

رَتَّلَتْ منه خَفِيَّ اللَّحَنِ

فَرَش الناسُ له منهم وُجُوهاً

خَدَّدَ الدهر بها ما خَدَّدَا

أثَرٌ في سيره مِنْ قَدَم

جَعَّدَتْ ما كان بَضَّا أمردا

زعم الناس إذا أمضاهمُ ال

دهر أَنْ امضوا من الدهر سنينْ

يستطيع البذل من يقوى على

خَزْنِهِ هيهات ذا من هالِكين

ص: 56

كم ملوك ودهم لو تُشْتَرَي

منه عند الموت بالذخر التليدْ

سَنَةٌ أو ساعة أو طرفة

فإذا الدهر قضاء لا يحيدْ

إيه يا دهر لقد شاطرك ال

حُكْمَ في الناس قضاء لا يحول

أَرْدَهِ يا دهر واعقد غيره

إنما القِرْنُ على القِرْنِ يصول

كم شقيٍّ أبطأ الموت له

ودهُ أن لو يكون الأسرعا

سَلَّمَ الدهر عليه مثقلاً

ثم ما أبطأ حتى هرعا

وسعيد يجتني من عيشه

زَهَرًا يرجو لو الدهر تَأَنَّى

فسواءٌ مُتْعَسٌ أو مُسْعَدٌ

أين مَنْ يحمد خَطْوَ الدهر أَيْنا

نحن نبغي من زمان فسحة

هل ربحنا من زمان قد قضى

لو يعود الدهر مردود الخُطَى

لفعلنا فعلنا فيما مَضَى

وصفوا الدهر بشيخ حاصد

أشيب في يده كالمنجل

وهموا في شيب دهر يافع

ذي فَتَاءِ خالدٍ لم يَنْصُل

يسرق الدهر بهاءً رائعاً

ويعير النُّؤْىَ حُسْناً أروعا

فهو كالرسام يمحو صورة

ثم يستنبط رسماً أبدعا

وتَرَى الدَّهْرَ مُغِراً آسيا

يده تأسو وأخرى تجرح

والذي في القوم بالرزء يصول

يمنح السلوان فيما يمنح

ولعل المُضْمَرَ المخبوء من

مصرع الدهر يُرَى بالأعين

مصرع الدهر ممات للدُّنى

كيف يبغيه الورى بالإحَنِ

موته موت لمن قد قاسه

باتصال الفكر أو خفق القلوب

عجباً نحن خلقناه فما

نسبة الظلم إليه والعيوب

عبد الرحمن شكري

(الرسالة) ربما كان للعروضيين في بعض أبيات القصيدة رأي

لا يتفق مع حرية الناظم

ص: 57

‌مَواجِعُ شَاعر

(مهداة إلى رفيقي الأستاذ أنور العطار)

للأستاذ زكي المحاسني

إن أشعارك المآتم فيها=كل بيت بصيب الدمع يشرق

إن حياة صفت فأنتَ مُوَفَّقْ

تترك الحزن والبكاء وَتَعْشَق

والشكاة التي تدوم ملالٌ

رُبَّ قَلْبٍ لا يَشْتَكي يَتَمَزَّقْ

هل حلفتَ اليمين أنك في النَّوْ

حِ ستغدو مثل الحمام المُطَوَّقَ

إِنَّ أشعارك المآتمُ فيها

كل بيتٍ بِصَيِّبِ الدَّمْعِ يَشْرَق

أنا أدري بسرِّ نفسك في الهَ

مِّ وعندي لك الدوَاءٌ المُفَوَّقْ

أُقْتُلِ الهَمَّ بالسلوِّ لتحيا

خالص النفس كالذي اليوم يُخلَق

واهدم البيت واتَّرِكْهُ يباباً

في يَدِ الرِّيحِ عنده البوم يَنْعق

وَابْنِ في نَفْسِكَ الجديدة بَيْتاً

بالأمانيِّ والسرور تَزَوَّقْ

كيف تَحْنُو على الذي ليس يَحْنو

وَيَناَمُ الدُّجى وأنت مُؤرَّقْ

الهَوَى بالبَدِيلِ. وهو شقاءٌ

إِنْ عَلِقْناَ الذي بنا ما تَعَلَّقْ

يا حبيبي يا من فديتك أَبْصِرْ

ني مَلِيًّا وفي فؤادي تَعَمَّقْ

رُبما قد شَمَمْتُ زهرك في عُنْ

فٍ ويا ليتني بهِ أتَرَفَّقْ

أنتَ نَغَّصْتَ بالفتون حياتي

فإذا لَاحَ لِي جَماَلُكَ أشْهَقْ

كم تَأَمَّلْتُ في بَهاَئِكَ

حتى ضِعْتَ عني وكادتِ العينُ تَزْهَق

يا رفيقي الذي ألومك إنيِّ

في شجوني بلوم نفسيَ أَخْلَق

فيمَ لا أستطيعُ أَكْتبُ شعراً

عن دماءٍ في مطلب الحقِّ تُهْرَق

أنا طَيْرٌ خلقتُ في القَفَصِ الحُلْ

وِ وموتي يجيئني حين أُطْلَق

لِي عذابٌ متى تفكرت فيه

صار دمعي في مقلتي يَتَرَقْرَقْ

إنْ أتاحَ الزمانُ تَغْييرَ حالي

سِرْتُ مِنْ هِمّةِ الزمان بفَيْلَقْ

وتعاليتُ في عظيم المعالي

مثل نسرٍ في قُبَّةِ الجوِّ حَلق

ص: 58

دُونَكَ الوَجْد فابكِ ما اسطعتَ شعراً

فَصِفاتُ الأزهارِ أن تَتَفَتقْ

يُشْبهُ الشَّاعِرُ البَخُورَ فلا يّنْ

شُرُ طِيباً حتى على النارٍ يُحْرَقْ

ص: 59

‌إلى النسيم.

. .

بقلم العوضي الوكيل

هُبّ وافتح مغالق النفس فتحا

واسر في مهجتي مساء وصبحا. .

وتهامس إليّ؛ ياما أحيلى

لغةً منك في المسامع فصحى!

وتحمل من البحار قطاراً

وتحملْ من الأزاهرِ نَفْحا

واشمل الكون يا نسيمُ وجئْ قل

بي، فحدُّ المَطافِ قلبٌ بَصيرُ

مُقلتايَ اللتان لا تريان ال

كَوْنَ إلاّ كما يَرَاهُ كثيرُ

لا تمُدّان خاطري بمعانٍ

لذَّ فيها الأسى، ورَقَ السرورُ

ليس بالكونِ ما تراه عيوني

إنما الكونُ ما يراه الشُعورُ!

مُرّ بي عابساً، ومُرّ ضَحُوكاً

وأتِني بائساً، وجئني سعيدَا

رُب شاكٍ نقلت شكواه عندي

فتهادَتْ بين الضلوع نشيدا. .

وأخي صبوةٍ يبثّ حنيناً

بتّ أشدو بما يحنّ قصِيدا!

إن قلبي كمرصد ترسمَ الأن

سامُ فيه على الشغافِ الوُجودا

أيهذا النسيم، وانقل سلاماً

من حبيبٍ إلى حبيبٍ ناءِ. .

إن أسَرّا إليك يوماً بأمْرٍ

فإلى الكتم. . لا إلى إلافْشاءِ. .

ونِعِمّا النسيم في الصيف يهفو

لفؤادي الحزين كلّ مَساءِ. .

العوضي الوكيل

ص: 60

‌غيرة

بقلم السيد الياس قنصل

أيّ معنى فيك من سرّ الهوى

بث في نفسيَ أطياف الألم

فغدا حبيبي منها ظمئاً

لافحا ليسَ يروّيه قَسَمْ؟

إنني أعرفُ ما تورثه

فيكِ نجوايَ من الدل الثمينْ

فإذا كان حديث الحبِّ من

فم غيري، فبماذا تشعرينْ؟

كلما افترَّ محيّاك انجلى

كلُّ ما في الحسن من شكل وفنِّ

أفتبقى هذه الفتنة في

هذه البسمةِ إن أبعدتِ عني؟

ويظلّ السحرُ في عينيك إن

كان غيري في مرامي نظراتك

وإذا حدّثتِ، مثلي يجتني

متعاً رائعة من كلماتك؟

إنّ للغيرةِ في صدري يداً

جعلته مذبحاً للشُعلِ

خبريني كيف أدري أن بدا

لكِ فكر أو خيال ليس لي. .

(عاصمة الأرجنتين)

الياس قنصل

ص: 61

‌القصص

قصة عراقية واقعية

الشفاء. .

بقلم سعيد عبد الإله الشهابي

جلست على أريكة في سهوم أخاذ تطالع عيناها كتاباً بقي مفتوحاً على مائدة صغيرة أمامها زهاء الساعة دون أن تتلو حرفاً أو تقلب صفحة. كانت عيناها السوداوان الساجيتان العميقتا المعنى تنظران وتطيلان النظر في لاشيء كمن يريد أن يستشف ما وراء حجب المادة. وتناولت سيكارة صغيرة مذهبة من علبة جميلة من العاج حمراء، وتنهدت عميقاً كمن انزاح عن صدره ثقل، وراحت تنفث الدخان ذاهلة، وربما ظنت أن الغرفة لا تضم سواها

تلك كانت حالها منذ حلت هذا البيت. . بيت كبرى إختيها، وكانت هذه متزوجة برجل من ذوي القربى الأبعدين، وهو من موظفي الدرجات المتوسطة في الحكومة

تقدمت منها خادم تحمل في صينية قدحاً من البلور الصافي صغيراً فيه شاي كانت تفضل الشرب منه، ووضعته أمامها على المائدة الصغيرة وانسحبت بهدوء

بقيت زهاء ربع ساعة ساهمة كالحالمة ثابت بعده إلى نفسها والتفت إلى جليساتها، وهن من صديقات أختها الحميمات وبعض قريباتها، وكن يتحدثن بصوت خفيض حرصاً على تركها في تفكيرها إذ كانت إلى نفوسهن أقرب وإلى قلوبهن أحب. . فلقد وجدن فيها شابة مكلومة الفؤاد خائبة الأمل. . والمرأة بطبيعتها تعطف على المرأة

أحبت فتى من ذوي قرباها لم تعرف سواه. يوم لم تكن سنها تتجاوز السادسة عشرة. بادلها الحب فأخلصت له وأحبته بأقصى ما تستطيع المرأة أن تحب. . حتى إذا أوشكا على الزواج عافها وولاها ظهره. . واختص نفسه بواحدة سواها. . كانت صديقة لها. ربما كان له بعض الحق فيما فعل لو لم يبادلها الحب في أول الأمر، لكنه انغمر وإياها في لج بحره الطامي جنباً إلى جنب، حتى إذا بعدا عن شاطئه فأضناهما التعب وأضحت مكدودة تخشى الغرق في قاعه عاد وتركها لينجو بنفسه. . وقد مرت على ذلك سنتان؛ فيا للقسوة ويا

ص: 62

للظلم!

لم تعد تستطيع العيش حيث نكبت في قلبها، فما لبثت أن حزمت متاعها وزمت حقائبها واستقلت القطار السريع من البصرة مسقط رأسها. . إلى بغداد حيث أختها. فلقيت حنواً وعطفاً لا مزيد عليهما

شربت قدح الشاي بأسلوب خاص ورشاقة فذة. . ثم شرعت في محادثة جليساتها بصوت موسيقي رخيم تخللته ضحكات صافية الرنين لكنها قصيرة يختفي تحتها ألم مكبوت وهم دفين

وجذبت نفساً طويلاً من سيكارتها، وألقت على متكأ الأريكة برأسها الجميل فبدت تقاطيع وجهها الرائع الفتان وجيدها الأتلع، وتناثرت خصل شعرها الكستنائي السبط فبان جبينها الأسمر العاجي الوسيع. . ونفثت الدخان ناظرة إلى السقف، كان صدرها يعلو ويهبط باتزان، وكانت عيناها الجميلتان تشعان شعاعاً ينم عن ذكاء متقد وحس دقيق وعاطفة فياضة متوثبة وروح حزين وثقة بالنفس نادرة عند النساء. لم يكن شأن من شؤون الحياة، غير ذكرى حبها، ليشغل بالها. فليس سبب قلة كلامها وطول تفكيرها وإيجازها أن تحدثت إلا تلك الذكرى، فموارد عيشها كانت وفيرة برغم كثرة مصاريفها، فهي في حرز ومأمن من هذه الوجهة. فلقد كان ما تدره عليها أملاكها الموروثة عن الجدود ما يفيض عليها النعمة

ودار بخاطرها طائف من الشك: لماذا هجرها حبيبها؟ أهي غير جميلة؟ وبدا لها أن تخرج من الغرفة، فاستأذنت عجلى ودخلت غرفتها وأغلقت الباب بالمفتاح وأقبلت على المرآة الكبيرة في خزانة الملابس وراحت تحدق فيها. فاطمأنت وزال شكها وأخذها شبه غرور. لكنها سرعان ما أحست بألم يرمض فؤادها وبنار تحرق وجهها ورأسها، وتخاذلت تخاذل المرأة المطعونة في كرامتها، وألقت نفسها على السرير قبالة المرآة، وراحت تناجي نفسها: إيه أيتها الطبيعة! هل أوجدت هذا الجمال الفتان ليقاسي هذا العذاب؟ فهل مثل هذا الشباب الغض يستحق هذا العقاب؟ وهل مثل هذه الروح الفتية تستحق خيبة الأمل، وتابعت محادثة نفسها، وهي تنظر إلى صورة لأفروديت كان الحبيب الغادر أهداها لها، وأنت يا آلهة الحب. ربطت بروابطك قلبي بقلبه فأخلصت وخان. . ولبيت نداءك وصم هو أذنيه.

ص: 63

فما بالك أيتها القاسية تعاقبين المخلص وتتركين الخائن. أفما كنت ترحمين المخلصة بأن تحليها من العقود التي ربطتها بها. أنظري إلى هذا القد الأهيف المياس ما أشد نحوله. أنظري إلى هذه الصفرة التي ليست من ظاهرات الشباب الحي. . أفيكفي أن يكون الوجه ساحراً والعينان فتاكتين لتكون دليل الحيوية والنشاط. إن هذا السحر العظيم في تقاطيع هذا الوجه، وهذا المعنى البليغ العميق في هاتين العينين، ليسا إلا ظواهر الحب الدفين، فجرديها منه تجدي شبحاً من الأشباح

دق باب غرفتها فأذنت ودخلت (فيروز) وهي مربيتها وخادمتها الخاصة. . . تدعوها فعادت معها إلى حيث كانت أختها والرفيقات. . لقد خشين عليها الوحدة فدعونها. . لكن نفسها كانت تزخر بشتى العوامل. . الحب، البغض، الغيرة. . ولكن كرامتها أخذت تتيقظ فتعمل على إخماد هذه العوامل. . ودعت (فيروز) وطلبت منها أن تغني الأغنية التي تحبها. فاتخذت هذه وضع من يريد الغناء وشرعت في الأغنية الشعبية العراقية المعروفة:

جَلْبكْ صَخَرْ جلمود

ما حَنْ عَلَيَّهْ

وأنت بِطْرب وبكيف

والْبِيَّهْ بِيَّهْ

وما أتت فيروز على الأغنية حتى شرعت تبكي. . وشاركتها الجليسات. وفيما هن في ذلك دق الباب الخارجي. . فهرعت إليه فيروز وعادت تحمل رسالة حمراء اللون عرفت من لونها أنها رسالة برقية وكانت باسمها. كانت البصرة مصدرها. . من البصرة. . . يا لله. . فضتها بيد مرتجفة وقرأت:

(ماتت زوجتي بالتيفوئيد منذ أسبوع. أسفت كثيراً على ما فعلت. . إني قادم إليكم بعد يومين. .).

تغيرت سحنتها تماماً بعد تلاوة (البرقية) وتألقت عيناها بعزم ثابت ونظرت باحتقار إلى البرقية التي كانت لا تزال مفتوحة ومزقتها قطعاً صغيرة وألقتها في الموقد الذي كان بالقرب منها. وقالت تتمتم:

ماتت زوجته!. إنه قادم بعد يومين!. ما أسخفه وما أقل عقله! ماذا حسبني؟ هل يظن أني سأبقى محبة له بعد الآن؟. . إن هذه البرقية خاتمة آلامي. . فلأسعد ولتعد إلي الحياة. . ألا تباً له من رجل جبان. . يريد أن يسلو بي زوجته. فيا للذلة! ويا لسخرية القدر! ليذهب

ص: 64

وليلحق بها. . فما عدت أراه إلا خنزيراً في عيني

واشتدت ثورة نفسها وعظم سخطها فجاءت برزمة من الخطابات وبعض الصور مربوطة بأنشوطة حريرية حمراء وألقتها كما هي في نار الموقد. وناولت البرقية لأختها ورفيقاتها مجيبة بها على نظراتهن المتسائلة

(بغداد - ضاحية الأعظمية)

سعيد عبد الإله الشهابي

ص: 65

‌اعتذار!

للأديب حسين شوقي

عزيزتي:

أبادر بتقديم اعتذاري الحار من مشهد الغيرة السخيف الذي مثّلته أمامك أمس!. . ومازلت أشعر بخجل شديد كلما فكرت فيه. . في الواقع لم يكن الذنب ذنبي، بل هو ذنب قلبي الضعيف؛ ولقد عاقبته على فعلته إذ عنفته تعنيفاً شديداً، ولكن هذا القلب قد يستحق أيضاً عطفك وحنانك، إذ هو آلة ليس غير في يد تلك القوة الجبارة القاهرة، قوة الحب! مسكين قلبي! إنه مطارد دائماً بنار حامية تدفعه إلى خلق مثل هذه الريب والظنون، ولكنها في الوقت نفسه نار طاهرة مثل نار المجوس، لأنها نار الحب المقدس! كم كنت غبياً في غيرتي تلك! فما الضرر في أنك تحدثت إلى س.! ألا تتحدثين إلى مئات من أمثاله كل يوم أثناء عملك؟ كذلك كان يجب عليّ أن أراجع نفسي فأقول إنه لا يهمك لأنك تبغضين مثل هذا النوع من الرجال المغرورين بجمالهم. فكم كانت ثقيلة متكلفة تلك الابتسامة التي علت شفتيه أثناء تحدثه إليك!

عزيزتي إذا كان قد أزعجك قليلاً ما بدر مني بالأمس، فإن ما حدث لي أنا فيه العقاب الكافي على فعلتي، إذ رأيت الهول ليلة أمس في حلم فظيع. .

شاهدتك في غابة عظيمة، لعلها من غابات الهند، لضخامة أشجارها وكثافة أدغالها. كنت تتنزهين فيها مع شاب لم أتبيّن شخصيته، لأنه لم يلتفت وراءه قط أثناء السير؛ أما أنت! فقد عرفتك من فوري يا عزيزتي، من شعرك الذهبي الرائع، من مشيتك الأنيقة التي تفردت بها دون نساء العالم أجمع!. . ولكن الغابة كانت أثناء هذا تحترق، والدخان الكثيف يتصاعد من كل مكان. . بادرتُ إلى مناداتك لتخرجي من الغابة، ولكنك التفت إلي دون أن تجيبني، كأنك لا تأبهين بالخطر المحدق، بل تؤثرين التنزّه مع ذلك الشاب وتفضلينه على كل شيء!. .

أردتُ أن أعدو نحوك لإنقاذك بالقوة، ولكن ساقيّ الملعونتين أبتا عليّ ذلك كأنهما تحجّرتا. . .

أما النار فقد أخذت تزداد عنفاً حتى اضطرت الوحوش إلى الهرب من الغابة، والمدهش في

ص: 66

هذا الحريق أن ألسنة النار المنبعثة من الأدغال اتخذت أشكالاً مروعة، بعضها كان على صورة الثعبان والبعض اتخذ شكل التنين. . على رغم هذا كله، كنت تتابعين نزهتك في اطمئنان مع ذلك الشاب الذي تأبط ذراعك اليسرى في حرارة واشتياق. . . أخذت أناديك مراراً ولكن بلا جدوى! إذ كنتِ تلتفتين إليّ ثم تستأنفين حديثك الشائق مع صديقك! ولكن هذا الحال المؤلمة لم تدم طويلاً ولله الحمد! إذ سقطت إحدى لوحات سريري الخشبية من تحتي فأيقظتني من النوم، وخلصتني من هذا الكابوس!

هنا. . أشعلت سيجارة وخرجت إلى النافذة لأستنشق الهواء لأني كنت متعباً من هذا الحلم كأن ما حدث لي وقع فعلاً. . . وكنت في الوقت نفسه شديد الرغبة في استئناف النوم للعودة إلى هذا الحلم برغم بشاعته لمعرفة شخصية ذلك الشاب السخيف المستهتر الذي كان يدعوك إلى النزهة في وسط النار!

عزيزتي! هذا هو حلمي المروع، ألا ترين أنني عوقبت به عقاباً كافياً؟ ألا تصفحين الآن؟

الرد

عزيزي:

وصلتني رسالتك، ولقد توّلتني الدهشة لكل هذه الضجة التي أثرتها لتتبين شخصية رفيقي في نزهة الغابة. لقد كان في إمكانك الاتصال بي وقتها بالتليفون لأخبرك باسمه، فأوفر عليك مجهودك. . أتريد أن تعرف من هو؟ أعلم أن هذا الشاب هو (س) بعينه الذي تمت خطوبتي إليه ليلة أمس على أثر المشادة التي وقعت بيننا، لأني آسفة أيها العزيز على أني لا أستطيع التزوج من مجنون مثلك!

(كرمة ابن هانئ)

حسين شوقي

ص: 67

‌البريد الأدبي

المعجم الوسيط

أصدر صاحب السعادة وزير المعارف العمومية قراراً بتعيين الأستاذ أحمد أمين عضواً في لجنة تأليف المعجم الوسيط وقد قرأت في العدد الماضي ممن تتألف؛ ولكن الأستاذ رفع إلى معالي الوزير استقالة منها، والسبب المباشر لهذه الاستقالة أنه جعل ساعات فراغه من عمله الرسمي على ما بقي من سلسلة كتابيه (فجر الإسلام) و (ضحى الإسلام) وهو يخشى إذا أرهق نفسه بالعمل أن يعيا عن إخراجه، ولكن معالي الوزير مازال بالأستاذ يحاوره ويداوره حتى أقنعه بسحب الاستقالة

بشرى لعشاق الأدب - ديوان بشار موجود

أحس بشار بحسن اختراعه، وجميل ابتداعه وغزارة بحره، ففتن ببنات فكره، وأعجب بثمرات لبه وذهب يخايل ويفاخر حتى قال: إن لي اثني عشر ألف قصيدة لعنها الله ولعن قائلها إن لم يكن في كل واحدة منها بيت فرد

ولو فرضنا أن الاثني عشر ألف قصيدة هي كل ما لبشار من شعر، وفرضنا أن كل قصيدة عدتها سبعة أبيات فقط - وهو حد القصيدة الأدنى عند العروضيين - وحسبنا ذلك لكان مجموع شعره أربعة وثمانين ألف بيت! وهذا مقدار لم يك لشاعر في القديم ولا في الحديث. ولكن أين هذه الثروة الضخمة؟ لقد ذهب بها الزمان فيما ذهب به من روائع الآثار وجميل الأشعار، ولم يبق منها إلا نتف مبعثرة في الكتب جهد الأدباء في جمعها وزفها إلى جمهور القراء المتعطشين لشعر بشار. وأول مجموعة ظهرت هي مجموعة الأستاذ (أحمد حسنين القرني) التي سماها (بشار ابن برد - شعره وأخباره، طبعت عام 1925م، وقفاه الأستاذ (حسين منصور) بكتابه: (بشار بين الجد والمجون) الذي طبعه عام 1930، وفي العام الماضي 1935 طبعت لجنة التأليف والترجمة والنشر مجموعة هامة من شعره باسم (المختار من شعر بشار اختارها من مختار الخالديين شارحها الأستاذ (إسماعيل القيرواني) أحد علماء القرن الخامس، وكان القائم بنشر هذا الكتاب الأستاذ (بدر الدين العلوي) المدرس في كلية عليكرة بالهند، وقد أثار طبع هذا الكتاب الصغير كوامن الأشواق إلى شعر بشار، وتساءل الناس بحسرة ولهفة عن ديوانه وكثرت حوله الأقاويل

ص: 68

وأجمع الناس أو كادوا على أنه انسلك في سلك الفناء

وقد أخبرني فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين عضو مجمع اللغة الملكي أن جزءاً كبيراً من ديوان بشار موجود في تونس عند صديقه الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور شيخ الإسلام المالكي، وأطلعني على الخطاب الذي ورد إليه حديثاً من صديقه يخبره فيه بوجود الديوان عنده، وأنه ورثه عن جده المرحوم الشيخ محمد عبد العزيز أبو عتّور. وهو يشتمل على سبعة آلاف وثلثمائة بيت مرتبة على حروف المعجم مكتوبة بخط مصري جميل. وذكر الأستاذ ابن عاشور أنه عني بشرح غريب ألفاظه، وتبيان دقائق معانيه، وذيله بمجموعة من شعر بشار لم ترد فيه وعددها ثمانمائة بيت معزوة إلى مواضعها من كتب العلم والأدب وأنبأ أنه عازم على طبعه في مصر طبعة أنيقة تليق بما لبشار من المكانة السامية في الأدب العربي. وقد استخبر الأستاذ من صديقه عن شؤون تتعلق بالطبع فأخبره مستنجزا. . .

ويا حبذا لو عنيت لجنة التأليف وعلى رأسها الأستاذ أحمد أمين بأمر هذا الديوان، وتولت هي طبعه بمعونة الأستاذ أو وحدها. إنها لو فعلت لأسدت إلى الأدب العربي خدمة جليلة تكون قلادة فخار لها

ولا ريب في أن نشر هذا الجزء الكبير سيلقي كثيراً من الضوء على تاريخ بشار وشعره وشاعريته. ولا ريب في أنه سيغير من أحكام التاريخ عنه، ويقلب تلك الآراء الظنية الشائعة رأساً على عقب. وسيكون ظهوره - وأرجو أن يكون قريباً - فتحاً جديداً في تاريخ الأدب العربي

السيد أحمد صقر

(عودة الروح) في اللغة الروسية

من الأنباء التي تقع من مصر الأدبية موقع الرضا والغبطة أن الكاتب الروسي النابه (ميشيل سالير) نقل إلى الروسية قصة (عودة الروح) للقصصي المصري النابغ توفيق الحكيم، ثم نشرها في ليننجراد عاصمة روسيا، وجعل ثمن النسخة منها خمسة روبلات وخمسين كوبك، وذلك يساوي ستين قرشاً مصرياً

ص: 69

ولاشك أن اختيار الكاتب لهذه القصة من غير تعرف لمؤلفها ولا استئذان منه، إنما يدل على تقديره المفن فيها لذاته، وقياسه إياها بمقياس عالمي يرفعها إلى مستوى الأعمال الأدبية العظيمة. وستكون عودة الروح وأمثالها الوحدات الأولى التي يساهم بها الأدب العربي في الجهاد العالمي المشترك لنشر الوئام والسلام والخير من طريق الثقافة القصصية

تطور نظم التربية الألمانية

تتطور نظم الحياة والحضارة كما تتطور أساليب التفكير والتعليم والتربية في ألمانيا في ظل النظام الهتلري بسرعة مدهشة؛ والمحور الأساسي الذي يقوم عليه هذا التطور في جميع مناحي الحياة الألمانية هو صبغ هذه الحياة بالصبغة الجرمانية المحضة وتحريرها من جميع المؤثرات الأجنبية؛ ويجري في ميدان التعليم والتربية تطور حاسم أيضاً يقوم على تكوين الجسم الألماني تكويناً صحيحاً وتنمية القوى الجسمية إلى جانب القوى العقلية. والإنجيل الذي تطبق تعاليمه اليوم على الشعب الألماني هو كتاب هتلر المعروف (كفاحي)؛ ففي هذا الكتاب يتحدث هتلر عن التربية ويحمل بشدة على تفضيل تنمية الذكاء في الفرد، ويقول إن النظام القديم يرمي إلى خلق عقول وأفراد فقط؛ ولكنا نريد أن نخلق قبل كل شيء أجساماً قوية وإرادات ثابتة. ويكفي أن نخصص في الأسبوع ساعتين فقط للرياضة البدنية. ومذ تولى هتلر الحكم وهو يعمل لإنشاء هذا النظام الرياضي؛ ففي سنة 1933 صدر قانون (تحسين النشء)، ومبناه اتخاذ جميع الإجراءات التي يحسن اتخاذها لتقويم صحة الشباب وعقله وتفكيره؛ ثم صدر بعد ذلك قانون (السنة الخلوية) وهو يحتم على التلاميذ تمضية عام في الريف والحقول عقب إنهاء الدراسة الابتدائية؛ وهنالك أيضاً نظام (الخدمة العامة) الذي يحتم على كل رجل أعزب وامرأة عزباء الإقامة ستة أشهر مع أبناء أو بنات الشعب في معسكر ريفي في العراء؛ ثم تنتقل مدارس المعلمين في القرى أو المدن الصغيرة؛ وكذلك انتقال أساتذة المدارس الابتدائية بين حين وآخر إلى الريف للاشتغال ببعض الأعمال القروية. والقصد من ذلك كله هو أن يمد الشباب والنشء بروح العزم، وضبط النفس، واحتمال المشاق. وللفتاة الألمانية أيضاً نصيبها الوافر من التعليم الرياضي الذي يهيئ لها الجسم الصحيح ويعدها أماً صالحة للشعب الألماني

وكذلك يتجه النظام الجديد إلى تجنب الثقافة الجنسية التي يعدها عاملاً في إفساد الفتى

ص: 70

والفتاة؛ فليس بين برامج التعليم الحاضر شيء من مسائل الثقافة الجنسية التي كانت تلقى بكثرة في ظل النظام القديم؛ وعلى الآباء والأمهات أن يلقنوا أبناءهم وبناتهم ما يحسن تلقينه من المسائل الجنسية المحتشمة، كذلك يرغب النظام الجديد عن نظام اختلاط الفتى والفتاة في ميدان التعليم ويعتبره تقليداً ضارا بمستقبل النشء

ولم تبق الجامعة في نظر النظام الجديد مكانا تحشد فيه المعلومات في الرءوس، ولا موطناً يعد الشباب للكسب الفردي؛ فالفرد إنما يجب أن يعمل للمجموع، وأن يستخدم في ذلك السبيل أي موهبة أو كفاية؛ ولا يريد النظام الجديد بعد شباباً ذابلاً تملأ رأسه المعلومات المختلفة، فذلك الضرب من الشباب يجب أن يختفي

وقد أدخلت تعديلات كثيرة على نظم القبول في المدارس والجامعات، وأضحى العامل العقلي والتعليمي أقل شأناً مما كان من قبل، وأضحى العامل الجسمي والخلقي في مقدمة العوامل التي تؤهل الطالب للقبول

وقد اتخذ تعليم التاريخ وسيلة لتكوين العقلية الألمانية الجديدة؛ فلم يعد يلقن الشباب تلك التفاصيل التاريخية المسهبة، وإنما يلقن التاريخ موجزاً من الناحية العامة، وتخص الناحية الجرمانية بكل عناية؛ وتتخذ نظرية السلالة الألمانية أهمية خاصة: سلالة الجنس الشمالي وتطورها ونقاؤها والأخطار التي تتعرض لها. هذا أهم ما يلقن الشباب الألماني، وهذا ما يشير إليه هتلر في كتابه بقوله إن غاية التربية الأخيرة هو أنه يجب أن يغرس في عقل النشء أن الجنس الجرماني هو أرفع أجناس الخليقة

وهكذا تفيض جميع نظريات التربية الألمانية القديمة التي عمل العلماء الألمان لاستخدامها على ضوء التجارب والأصول العلمية المقررة، وتحل مكانها نظريات جديدة جل غايتها أن تقوي الفكرة العسكرية في الشباب الألماني تحت ستار التربية الرياضية وأن تخلق من الشعب الألماني قبل كل شيء شعباً عسكرياً يعتز بقواه وكفاياته المادية

ميشيل آنجلو

ميشيل آنجلو بطل من أعظم أبطال الفن، وعلم من أعظم أعلام عصر الأحياء؛ وقد كتب عنه مدى العصور عشرات من أكابر الكتاب في كل أمة وكل عصر؛ ولكن العبقرية الساطعة تبقى أبداً مثاراً للبحث والتقدير. وقد صدر أخيراً كتاب جديد بالإنكليزية عن

ص: 71

ميشيل آنجلو عنوانه (ميشيل آنجلو الراحل) بقلم الدكتور دونالد فنليسون وهو علامة أمريكي يحاول أن يبحث هذا العبقري من نواح جديدة وعلى ضوء جديد؛ وهو يمهد لبحثه بتصوير إيطاليا في عصر الأحياء، ذلك العصر الذي كانت تموج فيه العبقريات من كل ضرب، ولاسيما في التفكير والفنون. ذلك أن ميشيل آنجلو قد عاش في نفس العصر الذي عاش فيه أعلام مثل ليوناردو دافنشي، وبوتشللي، وسافونارولا، وميكافيللي، ورافائيل سانزيو، ولي تسيان، وبنفونو توتشلليني، وجورجو فساري وغيرهم، وكان عصراً ذهبياً من أروع ما عرف التاريخ

ولقد كانت إيطاليا تضطرم يومئذ بثلاث قوى سياسية متجاذبة. قوة آل مديتشي في فلورنس، وهم يحاولون حكم المدينة الجمهورية بنظام طغيان مستنير، وقوة البابوات، وهم يحاولون تقوية نفوذهم المدني والديني، ودفع أطماع ملوك فرنسا؛ وقوة الدولة الرومانية المقدسة، وكانت قوة البابوات أبرز هذه القوى؛ وكان البابوات يومئذ مزيجاً مدهشاً، فمن اسكندر السادس الحبر الفاجر، ولكن الطاغية القوي، إلى جوليوس الثاني البطل المحارب، إلى بولس الثالث نصير الفنون والآداب. وفي هذا الأفق المضطرم بمختلف القوى والاتجاهات ولد ميشيل آنجلو في كابريزا سنة 1475 وتوفي في رومه في التاسعة والثمانين من عمره، ولكنه عاش طوال حياته نقياً منزهاً عن مثالب عصره، بعيداً عن ضروب الملق والزلفى التي ألفها البابوات وأمراء العصر، بعيداً عن صنوف الفساد والخلاعة التي كانت خاصة المجتمع في هذا العصر؛ ولم يكن للمرأة أثر في حياته إلا حينما بلغ الكهولة، وعندئذ عرف الحب الرفيع وتعلق بأجمل وأنجب سيدة في هذا العصر، وهي فتوريا كولونا مركيزة بسكارا، ونظم لها مقطوعات من الشعر البديع، وكتب لها رسائل ممتعة؛ وفيما عدا هذه العاطفة الرقيقة كان ميشيل آنجلو مثل الرجل الأعلى، بارا بأهله، مترفعاً عن الدنايا، معتدلاً في أهوائه ورغباته

وكانت عبقرية ميشيل آنجلو تتفتح في نواح عدة، فقد كان مثالاً من أروع ما عرف التاريخ، وكان مصوراً، وكان مهندساً، وكان شاعراً؛ وفي هذه الميادين كلها يترك لنا ميشيل آنجلو آثاراً خالدة؛ وقد قام بعد أن أربى على الثمانين بأعظم أعماله الهندسية، فوضع تصميم قبة كنيسة القديس بطرس أعظم آثار النصرانية وأشرف على صنعها

ص: 72

بنفسه، وأنفق أعواماً في نقش جدران المصلى السكستوني، وهو أروع ما في الفاتيكان من آيات الفن، وتوفي بعد أن ترك للفن ما لم يتركه بشر، سواء في الروعة والمقدار

ولميشيل آنجلو ناحية لم يلق عليها كبير ضوء هي ناحيته الشعرية، ذلك أنه كان شاعراً رقيقاً، ينظم مقطوعات بديعة تحمل كلها طابع العظمة؛ ولكن ينقصها التنوع وبروز الغاية

وقد أنفق الدكتور فنليسون أعواما طويلة في البحث والدرس واستطاع أن يجد لمؤلفه مادة بديعة، وأن يضع أمام القارئ صورة واضحة من شخصية ميشيل آنجلو في جميع نواحيها؛ وقد زين الكتاب بطائفة من الصور البديعة

وفاة مؤلف موسيقي شهير

توفي أخيراً في باريس المؤلف الموسيقي الروسي الذائع الصيت اسكندر جلازونوف؛ وكان مولده في بطرسبرج سنة 1865؛ وفي سن الثامنة عشرة وضع أول قطعة موسيقية من تأليفه فأحرزت نجاحاً عظيماً وذاعت على أثرها شهرته. ثم رحل إلى ألمانيا حيث التقى هناك بالموسيقى النمسوي الأشهر لزت وتلقى عليه وتخصص بإرشاده في التأليف الموسيقي. وفي سنة 1889 ظهرت مقطوعته الشهيرة (ستنكا رازين)، ووضع من بعدها تباعاً طائفة كبيرة من المقطوعات والأناشيد والأغاني والقطع الراقصة، وأحرز بتآليفه العديدة مكانة عظيمة في دوائر الموسيقى الرفيعة. ومن بين قطعه الراقصة الشهيرة (ريموند)(الفصول)(حيلة غرامية). ولما نشبت الثورة البلشفية آثر الهجرة إلى فرنسا، وعاش في باريس أعواماً طويلة، وتوفي هنالك في دار الغربة بين جماعة المهاجرين البيض في سن الحادية والسبعين

ص: 73

‌العالم المسرحي والسينمائي

على مسرح الأوبرا

السيد

تأليف كورني وتعريب مطران

ملاحظات لفنانين ارلنديين على الإخراج والتمثيل

لناقد (الرسالة) الفني

هي مأساة رائعة خلدت على الدهر، ألفها زعيم المسرح الفرنسي وخالقة المأساة الحديثة الشاعر كورنيي، وقد كان لظهورها ضجة كبيرة، ذلك أنها وإن خالفت قاعدة الوحدات الثلاث فقد نجحت نجاحا باهراً وظفرت من النظارة بإعجاب عجيب

وقد كان لنجاح هذه المأساة أثر سيئ في نفس الوزير الفرنسي الخطير الكاردينال ريشليو. وكان هذا الوزير من هواة التأليف المسرحي، وقد مثلت له قصتان فلم تنجح منهما واحدة، في حين أن (السيد) كانت تلقى النجاح بعد النجاح والفوز تلو الفوز. ولقد كظم الوزير غيظه - رغم أن القصة كانت تشيد بالمبارزة التي حرمها هو - ولكنه حرك رجاله في الخفاء ينقدون القصة نقداً عنيفاً، وكان يريد بذلك أن يحط من قدر كورنيي، فقامت من أجل ذلك خصومة أدبية شديدة انتهى أمرها إلى تحكيم المجمع الفرنسي في القصة. ولم يصدر الحكم في جانب المؤلف لأن الوزير تدخل بنفوذه، ولكن القصة رغم ذلك خلدت، وهاهي ذي تنقل إلى العربية للمرة الثانية بقلم شاعر القطرين الأستاذ خليل مطران في ترجمة عربية بديعة ارتفع أسلوبها إلى الأصل الشعري الذي كتبت به، وهاهي ذي الفرقة القومية تختارها بين ما اختارت من روائع الأدب الغربي لتقدمها إلى الشعب المصري

ملخص القصة

ليست القصة جديدة على قراء الأدب العربي، فقد سبق أن ترجمها المرحوم الشيخ نجيب الحداد ومثلت باسم (السيد، غرام وانتقام)، وسبق للأستاذ الزيات أن لخصها في (الرسالة) ونشر هذا الملخص في كتابه (في أصول الأدب)، فمن أراد الاطلاع عليه فليرجع إليه

ص: 74

الإخراج

كنا نظن أن الفرق التمثيلية الأوربية التي تزور مصر وتمثل على المسرح الأوبرا تترك بعض الأثر في نفوس الفنانين المصريين، ولكن يبدو أن الأمر على العكس، فهذه الفرق تأتي وتعود دون أن نحاول أن نأخذ عنها شيئا

زارت مصر في الشهر الماضي فرقة (دبلن جيت) الأيرلندية وأخرجت عدة قصص لشكسبير وغيره. فكان الإخراج أهم ظاهرة لهذه الفرقة، وقد أبدى جميع المخرجين المصريين إعجابهم بعظمة هذا الإخراج، فالمستر هيلتن ادواردز مخرجها يعمد إلى الطريقة الإيحائية ويستخدم منظراً واحدا لجميع فصول القصة، ويستعين بالإضاءة وستار صغير في تبديل المناظر مع تباينها

وأخرج الأستاذ زكي طليمات قصة السيد وكنا نظنه سيقتبس طريقة تلك الفرقة، ولكنه لم يحاول بذل أي جهد، وعمد إلى الطريقة التي ألفناها منذ سنوات طويلة، واستخدم المناظر المتعددة والستائر الكثيرة. والحق أن هذا الإخراج إذا قيس إلى إخراج الفرقة الأيرلندية بدا هزيلاً ضئيلاً

يرى النقاد أن الوحدة إذا توفرت في العمل الفني ذلك من دواعي الكمال والنجاح، ولكن رجاله لا يرون هذا الرأي، وإلا لما كانت طريقة الإلقاء متباينة. فحسين رياض وزينب صدقي وعزيزة أمير وزكي رستم يلقون إلقاء شعرياً ومنسي فهمي وفردوس حسن وغيرهما يلقون إلقاء عادياً، وهذا التباين مما ينفر النظارة، والمخرج في رأيي مسؤول عن هذا الخلط

والإضاءة عادية، ولكننا في منظر قاعة العرش كنا نرى الضوء يسقط على جدار للقصر من يمين النظارة إلى اليسار في حين نرى الضوء يسقط على وجوه الممثلين من يسار النظارة إلى اليمين، وهذا مما لا يرضي الفن ولا الأستاذ المخرج

وفي المنظر الثاني من الفصل الثالث نرى والد ردريج حائراً يبحث عن ولده ويقول: (في هذا الظلام الدامس) بينما ضوء القمر يغمر وجه الممثل وينير الأرض حواليه. ولا يفوتني أن أبدي إعجابي بالإضاءة في الموقف بين شيمين وردريج في النصف الأول من الفصل الثاني، فقد كان الضوء ملائماً للحوار، وكان له أثر ووقع كبيرين في نفوس النظارة

ص: 75

والملابس فاخرة تنطبق على روح العصر، ولكن الذي حيرني أن شيمين عندما يلغها خبر موت والدها سارت إلى قصر الملك في ثياب الحداد بينما وصيفاتها تتبعها في ملابس زاهية؟! كما أن ملابس الملكين الأسيرين لا تصلح لرجال أسروا في موقعة

التمثيل

قبل أن أتحدث عن التمثيل أبدي أسفي الشديد لإهمال الممثلين استظهار أدوارهم مما جعل صوت الملقن يرتفع فيفسد على النظارة خيالهم

مثلت السيدة زينب صدقي دور شيمين، وقد نجحت كثيراً في أداء هذه الشخصية، وأذكر لها مع الإعجاب موقفها مع ردريج في الفصل الثالث ثم مع وصيفاتها وهي تبدي الجزع خيفة أن يقتل حبيبها، ولكني آخذ عليها الإلقاء الخافت في بعض المواقف مما جعل الألفاظ غامضة على السامع

ومثل حسين رياض دور ردريج، فكان إلقاؤه شعرياً ونجح في دوره إلى حد غير قليل، وموقفه مع شيمين بديع. أما موقفه مع الملك وهو يصف المعركة فيحتاج إلى عناية أكثر؛ وأرجو أن يعنى (بالمكياج)، وان يختار لوجهه لوناً خمرياً يكون قريباً إلى البشرة الأندلسية

ومثل زكي رستم دور والد شيمين فأخرجه على خير ما يكون، كان الرجل المتكبر في إشاراته وإلقائه مما طابق الشخصية

ومثل منسي فهمي دور الملك فكان ناجحاً؛ ولكنه لم يحاول أن يسمو بهذا الدور كعهدي به في أدواره السابقة

أما السيدة عزيزة أمير فلم تنجح كثيراً في أداء شخصية ابنة الملك؛ وكان إلقاؤها على نسق واحد دون تلوين أو تعبير عما في نفسها من احساسات؛ ويبدو لي أن اللغة الرصينة مما يصعب عليها أداؤها

ومثلت نجمة إبراهيم دور وصيفة شيمين فوفقت، وفي رأيي أنها أصلح لدور ابنة الملك من غيرها من فتيات الفرقة

ومثل سراج منير دون سانش، فكان حديثه مع الملك هو نفسه حديثه مع شيمين التي يهواها

ملاحظات لفنانين ايرلنديين

ص: 76

شهد هذه الرواية في الليلة الأولى لتمثيلها بعض أعضاء فرقة (دبلن جيت) الأيرلندية؛ وقد أبدى مخرج الفرقة المستر هيلتن ادواردز وممثلها الأول المستر ميكائيل ماك ليمور إعجابهم بتمثيل السيدة زينب صدقي وحسين رياض وزكي رستم، كما أبديا بعض الملاحظات على الإخراج. وسننشر حديثهما كاملاً في العدد القادم

يوسف

في السينما

العصر الحديث

فيلم شارلي شابلن الجديد

أما إن شارلي شابلن عبقري وفيلسوف فهذا ما لاشك فيه، وأما إن فلمه الجديد (العصر الحديث) عظيم فمسألة فيها نظر

فنحن إذا نظرنا إليه على أنه عمل رجل عبقري لا تنطبق عليه القواعد المألوفة والمقاييس المعروفة وجدنا عملاً عظيما حقا يحس الإنسان أثناء عرضه بسرور ولذة، ويستمتع بأفكار شارلي وطريقته الفكهة في عرض هذه الأفكار، ولكننا إذا حاولنا تطبيق المقاييس الفنية الدقيقة نجده لا يسمو على غيره من الأفلام التي تعرض بين حين وآخر، بل ربما تنقصه بعض العوامل الفنية التي تتوفر في تلك الأفلام

والفكرة الرئيسية التي يقوم عليها الفلم جليلة، فهو ينقد العصر الحديث، ويسخر من سيطرة الآلات على الإنسان ويبين أنها لا تسعد الإنسانية، بل تستعبد البشرية؛ وقد أفلح شارلي في مزج الفلسفة بالقصة. ولكن الفلم طويل في غير حاجة إلى الطول، وإن الناقد ليحس أن هناك فصولاً جيء بها لتسد فراغ الوقت حتى لا ينتهي العرض في زمن قصير

بدأ شارلي فلمه بمنظر قطيع من الغنم يسير إلى الحقول، وأعقبه بمنظر العمال يتدافعون إلى المصنع، وكأنه يرمي بهذا إلى أن العمال قطيع من الغنم يقودهم الرأسماليون

ويظهر لنا شارلي تلك الشخصية الإنسانية، أو قل الرمزية التي تعيش بأسلوبها الخاص في مشيتها وملابسها وقبعتها وعصاها، هذه الأشياء التي أصبحت جزءاً متماً للشخصية -

ص: 77

تعمل في مصنع كبير - تؤدي عملا، وكأنها جزء من تلك الآلة، يرهقها العمل المضني المتشابه الذي يبعث السأم، ويؤدي بها إلى نوع من الهستيريا. وترسل إلى مستشفى الأمراض العقلية حيث يعاودها الهدوء والسكنية. وعندما يسمح الطبيب لها بمغادرة المستشفى نراه ينصح بالابتعاد عن كل ما يثير الأعصاب؛ ولكن لا تكاد تتصل بالحياة حتى ترى تيارها الزاخر الصاخب، وحركات المرور، وكل ما هو وليد المدنية والعصر الآلي

ثم يصور شارلي بؤس العامل العاطل، وكيف تقسو الحياة على أطفاله، فيغدون لصوصا وما هم بلصوص، وإنما هم طلاب قوت. ونرى المظاهرات ومقاومة رجال الشرطة للعمال واقتيادهم إلى السجن، وحيث يقدم إليهم الطعام والشراب. وهنا تبدو سخرية شارلي من النظم الاجتماعية، فإن العامل يأسف على مغادرة السجن ويود لو بقي فيه، فالطعام والشراب خير لديه من الحرية التي يتغنى بها الناس!!

وتتصل أسباب الصداقة بين شارلي وابنة أحد العمال الذين قتلوا في مصادمة مع رجال الشرطة، ونرى شارلي جالساً يحدثها ويعرض على الشاشة حلم اليقظة. فنراهما يعيشان معاً في كوخ جميل، وشارلي على مقعد يمد يده دون جهد فيتناول حبات العنب من عناقيدها المدلاة، ويمد يداً ثانية فيتناول فاكهة أخرى، ثم يسير إلى بقرة ويضع تحت ثديها آنية فتدر اللبن وحدها دون أن يبذل هو أي جهد في حلبها، وإنما يرمي شارلي بهذه الصور جميعاً إلى أن العامل لا يحلم إلا بالراحة؛ فهو في حلمه لا يريد حتى أن يبذل أي جهد، وينقضي الحلم ونراهما في اليقظة بعد أسابيع قليلة في كوخ متداع حقير، لا يصلح مأوى لأحقر الحيوانات، ومع ذلك فهما سعيدان معا. فالعاطفة التي بينهما كافية لأن تبعث السعادة في نفسيهما وتعوضهما عن كل شيء آخر

هذه الآراء التي صورها شارلي والتي جئنا على ذكرها خير ما في الفيلم، ولو أنه اقتصر عليها وأحكم الرابط بين أجزائها لجاء الفلم قوياً. فالبقية ليست إلا حشواً وتكراراً

فهو في عمله كحارس ليلي يلبس النعل ذا العجلات ويتزلج معصوب العينين يلهو ويمرح، لم يفلح في بعث السرور إلى النفس، وهؤلاء العمال الذين تسللوا في الظلام إلى حيث يجدون الطعام ترديد لفكرة سبق أن صورها، وكذلك هو مع رئيسه في المصنع الجيد

ص: 78

يصلح الآلة، ثم هو في مصنع السفن إنما يعرض حالة لا ترتبط بسياق القصة الرئيسية كبير ارتباط

والفلسفة كانت أكثر مما يحتمل الفلم، ففي النهاية نجد شارلي يعمل خادماً في مطعم كبير ونراه يحمل الطعام مخترقاً الراقصين، وعندما يصل إلى المكان المقصود يجرفه تيار الراقصين ويسير به إلى حيث بدأ، وأخيراً وبعد الجهد يصل ولكن يجد الطعام قد سقط منه!! وكذلك بعد أن ألقى قطعته الغنائية وتقبل تهانئ مدير المطعم ووعدا بالعمل المستمر وأحس بأن السعادة مقبلة، نرى القدر يعاكسه إذ يرسل إليه رجال الشرطة يطلبون فتاته فيهرب معها تاركا السعادة بعد أن كانت بين يديه. فهذا الإمعان في الفلسفة فيه بعض الإرهاق لرواد السينما، وهؤلاء قد يضحكون من الحركات ولكنهم لا يفهمون ما يرمي إليه المؤلف والمخرج. وفي رأيي أن واجب رجل السينما تبسيط الآراء ما استطاع

والناحية الفكهة في الفلم لا بأس بها، ولكنها ليست قوية إلى الدرجة التي كنا نتوقعها ونرجوها؛ وخير ما أذكر له جلسته أمام الآلة التي تناول الطعام، لاسيما وهو يحاول أكل الذرة ثم وهو يقفز إلى الماء ليغوص، فإذا بالمكان الذي يسقط فيه ضحل فيتألم ويعود أدراجه دون أن يتم الاستحمام

يبدو لي أن جهود شارلي الموزعة هي السبب الأول في ضعف الفلم. وقد تحدثنا عن ضعف الرابطة بين كل جزء وآخر، وعن الحشو والتكرار، وهذا ما جعلني أنظر إلى هذا الفلم كأنه نوع من الاستعراض، فليس هو بفكرة واحدة متسقة تعالج علاجا فنيا

والتصوير بدائي وليس هذا الذي شاهدناه بالمستوى الذي يليق بفلم كبير كهذا، فلم تكن هناك مهارة في اختيار زوايا التصوير، كما أن شارلي قد عمد في جميع الصور المتتابعة إلى التقاط الصور المتوسطة وكأنه ليس في التصوير السينمائي غيرها

وحاول أن يرسم صورا متباينة لحالة العمال والرأسماليين فجعل فتاته الجائعة المحرومة تقف ذاهلة ثم تنقض على الفطائر ثم تنتقل إلى قسم الأزياء وتختار معطفاً ثمينا من الفرو الأبيض فترتديه وترقد على فراش وثير، ولكن الصورة ضعيفة وأثرها في النفس غير عميق

والتمثيل عادي، ولقد مثلت بوليت جودار دور الفتاة فلم تبد تلك المهارة والمقدرة التي

ص: 79

تحدثت صحف السينما عنها وهي لا تزال ممثلة مبتدئة

والصورة الأخيرة التي يظهر فيها شارلي وفتاته يسيران في طريق مجهول يتهيئان لكفاح جديد من أحسن الصور وأوقعها أثراً، ولقد فكرت كثيراً ثم قلت لنفسي، ألم يكن من الخير أن يسمى هذا الفلم. . . (الأمل)؟!

والفيلم في مجموعه مقبول وفيه جمال، ولكنه يقل كثيراً عن فيلم شارلي السابق (أنوار المدينة) وإن اختلف موضوع كل منهما، إلا أن (أنوار المدينة) كعمل فني ترجح كفته على كفة الفلم الجيد.

يوسف تادرس

ص: 80