الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 149
- بتاريخ: 11 - 05 - 1936
صاحب الجلالة فاروق الأول
لم تر مصر في أرجح الظن قبل احتفالها بمقدم فاروق، قلبها يخفق
بالحب عن إخلاص، ونفسها تفيض بالإجلال عن حقيقة، ولسانها يجأر
بالدعاء عن عقيدة، وسوادها يتسابق إلى الاحتفال عن طواعية؛ فقد
كان ملكها الشاب منذ عودته من دار علمه إلى دار حُكمه مهوى أفئدتها
ونجوى ضمائرها ومجمع أمانيها وموضع إعجابها، لا تصدر في ذلك
عن رياء، ولا تنقل عن تقيد، ولا تعمل عن تكلف؛ إنما الطرقات
والشرفات والنوافذ كانت مسايل روحية تزخر بعواطفها الكريمة لملك
نَشَّأَته على طبعها وحسها، وأعدته لعرشها بنفسها، وعقدت على تاجه
المصري الخالص أملها في السلطان الحر والحياة العزيزة
أرأيت إلى الشعب الشكور كيف وقف صفين من رأس التين إلى قصر عابدين، ومن سراي القبة إلى مسجد الحسين، يلقي على ملكه المحبوب الولاء مبثوثاً في النظر، والرجاء مكنوناً في الهتاف، والإعجاب معلناً في التصفيق، فيلتقي شعوره بشعوره، ويمتزج هواه بهواه، فيصبح الشعب جسما رأسه فاروق، ويصبح فاروق رمزاً مدلوله الشعب؟
أرأيت إلى الشعب الفخور كيف احتشد مساء الجمعة حول آلات الراديو في الدور والأندية والمقاهي يستمع إلى مليكه الجديد وهو يقرأ فاتحة مُلكه السعيد بلغة عربية مبينة، ولهجة مصرية فصيحة، فانفعل بحزن الملك البار، وبكى من هذا الانفعال، وتأثر بشعبية الملك الحر، وابتهج من هذا التأثر، وأحس وهو يحييه أن روحاً قدسية تبعث في هيكله الواهن القوة والفتوة والأمل
والحق أن تحية فاروق للوطن على هذا النحو الجميل، وصلاته لله في هذا المظهر المتواضع، ورسالته إلى الشعب على هذه الصورة الصريحة، ونزوله عن ثلث مخصصاته للأمة الشاكرة، كانت أبرع استهلال لعهده المومق الخصيب
إذا كان من الحق أن بعض الأسماء ينزل من السماء، فإن اسم فاروق وضعه القدر وضعاً
لهذه الساعة المشهودة من تاريخ مصر. ولعلها أشبه بالساعة التي لقّب فيها الرسول (ص) عمر بالفاروق: فقد كان الإسلام قبل عمر ذليلاً فعزّ، وقليلاً فكثر، ومستخفياً فاستعلن. وهذه مصر تُرَنِّقُ على ثراها الأحداث من كل جانب: فالاحتلال الغاصب ينقص ببغيه سيادتها في التملك، وعدتها للدفاع، وحريتها في التصرف؛ والاستعمار الجشع يرصد الأُهَب على حدودها بالعين الخؤون والمنطق المسلح؛ والناس من إلحاح الذل وإفراط الظلم وامتياز الدخيل وقصور القانون في حال من الخمود لا ينفع فيها تذكير ولا تبلغ عليها دعوة؛ وسياسة البلاد تسير في تيه من الأرض فتضطرب لتنقلب وتعود لتبدأ. فلما أراد الله لطريقها أن تتضح، ولقافلتها أن تسير، ألقى بأزمتها في أيدي الشباب؛ والشباب يسيرون بهداية الله، ويجاهدون بقوة الإيمان، ويبلغون بكرم التضحية؛ فأعادوا للأمة حياتها الدستورية خالصة من الخداع والكذب؛ ثم جعل الله على الأمة ملكاً من الشباب تتساير أهواؤهم إلى هواه، وتتلاقى آراؤهم عند رأيه، فيقول لهم في منطق فصيح صريح:(إنني أستقبل حياتي الجديدة بعزم وثاب وإرادة قوية، وأعاهدكم عهداً وثيقاً على أنني سأقف حياتي على العمل لنفعكم، وموالاة السعي في سبيل إسعادكم. لقد رأيت عن كثب حبكم لي، وتعلقكم بي؛ لذلك أرى لزاماً عليّ أن أعلن ما اعتزمته من التضامن معكم في سبيل مصر العزيزة، فإني أومن بأن مجد الملك من مجد شعبه)
ذلك هو ملكنا العظيم بعقيدته السليمة ونفسيته الكريمة وخطته الواضحة، وهذا هو دستورنا القديم أعادته إرادة رشيدة، وأعدته وزارة نزيهة، وجمعته انتخابات حرة؛ وأولئك هم شبابنا الخلص تمردوا على حياة الجمود وعقدوا نيتهم على أن يعيشوا كراماً أو يموتوا أعزّة. فمن أين إذن تُؤتَى النهضة المصرية؟ لا تؤتَى النهضة المصرية إلا من جهتين كانتا في كل زمان ومكان مصدر الشرور للأمة: جهة الفساد في الحاشية، وجهة الخلاف في الزعامة. فأما الفساد في الحاشية - ومعاذ الله أن يكون - فوباله أن يزيف في البلاط حقيقة الأمة بميوله، أو يشوّه في الأمة صورة الحكومة بفضوله. وفي ذلك ما فيه من انفراج الحال بين الشعب وملاذه الأعلى. وأما الخلاف في الزعامة فبلاؤه تمزيق الوحدة وتفريق الكلمة وتوزيع الجهد وتغليب الشهوة وتمليك الخصم. وما فتَّ في أعضائنا وهدّ من قوانا إلا هذا الخلاف الباغي لا يراد به إلا اقتناص المال أو الجاه أو الحكم. على أن في الحب الأصيل
المتبادل بين الملك الديمقراطي البر وبين شعبه الوفي المخلص، ضمانا يرفع الحجب المسدولة، ويمنع الوساطة المدخولة، ويديم جُمعةَ ما بين النفوس الزعيمة.
ثبت الله عرشه بالسلام ونضر عهده بالوئام وجمل حكمه بالاستقلال والمشورة
أحمد حسَن الزيات
الملك فؤاد
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
مات الملكُ العظيم، فرأى الناسُ من ذهولهم كأنما زيدت في الموت زيادة
وكأن يوماً ليس من الدنيا وقع في الدنيا فترك الحياة في غير معناها
وكأن العيونَ انفتحت فجأةً على شكل محزن من هذا الوجود.
وكأن حادثاً عظيما انتهى من التاريخ المصريّ إلى نقطة انقلاب؛
ورأى الناسُ كأن غيمةً فوق مصر تجتمع من حزن ستة عشر مليون قلب!
مات فؤاد العظيم، فعرفت مصرُ أن معجزةً فارقتها
وأنه لم ينقض رجل؛ ولكن ذهب قَدَرٌ كان في خدمة حوادثها المضطربة
ولم ينته عمر؛ ولكن انتهت سعادةٌ كانت من حظ أيامها؛
ولم ينطو تاريخ؛ ولكن انطوت قوة كانت تعمل في حل مشاكلها
فارقت معجزة، وذهب قدَر، وانتهت سعادة، وانطوت قوة. ما أفدح خطبك يا مصر!
وكيف لا يكون معجزةً من خُلقت مواهبُه على قدر أمة تنال به التاجَ بعد أن فقدته ألفي سنة؟
وكيف لا يكون قَدَرا من بُعثت عزيمتُه لحل الزمن السياسي المعقَّدِ منذ دهور ودهور؟
وكيف لا يكون سعادةً هذا الذي مرَّت آثاره على فقر التاريخ مرورَ الغنى؟
وكيف لا يكون قوةً وإرادتُه الجبارةُ كانت مظهر السر الذي يعمل وينتصر؟
أيتها الحقيقة العظيمة! هل كانت النبوَّة في شكل سياسي؟
مرض الملك رحمه الله، فكانت أخبارُ مرضه روايةَ أحزان الشعب
وعرف كل مصري أن هذا الملك هو الوطن في صورة رجل،
واتجهت العاطفة الوطنية في البلاد كلها إلى رمزها الحي،
واثبت الشعبُ في سمو أخلاقه أن ملكه العظيم هو الذي ارتقى به إلى هذا السمو
وأُصلحت غلطةٌ كانت السياسة الأجنبية تسميها التفرق. .
ومات الملك رحمه الله، فأتم موتُه عمَل حياته العظيمة
جمع الأمة كلها على أسمى أخلاقها من الحب والوفاء والاتحاد؛
وأظهرها حوله كأنها في صلاة تتدفق منها الروحانية العظمى؛
وراع بها العالم السياسي كأنه يقول للدنيا: هذه مصر كما أنشأتُها
وترك لأمته الدرسَ الأخير في هذه الصورة كأنه يقول: هكذا عيشوا
وبكاه الشعبُ من كل عين، حتى لو كان يبكي من نهر ليبس؛
وأصبحت القلوبُ من الحزن كأن كل قلب اجتمعت فيه أمواتُه ذلك اليوم
وبرزت فجأة من النسيان همومٌ وهمومٌ وهموم
ودنت الآخرة حتى لا يذكر الناسُ غيرها، كأن الخلد يتسلم الراحلَ من أيدي الشعب
وحكم الملكُ يومَ موته حكما آخر كما تحكم على الناس جميعاً طبيعةُ الخير
(في ذمة الله يا فؤاد). هذا هو صوتُ الشعب يوم وفاة الملك
صوتُ الفطرة على سجيَّتها مع نفسها؛ لا من سياسةٍ ولا رياء ولا مجاملة
صوت الإيمان على طبيعته مع القلب، لا من غرضٍ ولا تصنّع ولا خديعة
صوت الوطنية على عقيدتها مع الحب، لا من خوفٍ ولا كذب ولا اضطرار
وما عسى أن يقول من فقد أباه العزيز، إلا أن يقول: في ذمة الله يا أبي؟
في ذمة الله ذلك الملكُ الذي كان كالأنبياء محصوراً في واجبه ورسالته
ولم يكن بين فكره وعمله أحلامٌ تفسد الفكر أو تضعف العمل
وكان يقول: (ليس شيئاً يذكر أن يكون المرء أميراً؛ ولكن الشيء الجدير بالذكر أن يكون نافعاً)
ومن أجل ذلك استمر يعمل كأنه مؤتمر ملوك لا ملك واحد؛
وتألفت مدةَ حكمه اثنتان وعشرون وزارة، فكانت له على مصر بركةُ اثنين وعشرون ملكا
وكان بنشأته واختباره وعلمه ودينه تصحيحاً لأغلاط من سبقوه في الملك
وبذكائه وبصيرته كان يسوس رعيتين في مصر: إحداهما الحقائق
وكان موفقاً بقدر ما هو قوي، فخدم الشعبَ عقله وحظُّه
تراه دائماً بحكمته وحزمه في عمله للحاضر، ودائماً بصبره وإيمانه في عمله للمستقبل
هو ملك الصبر والإيمان؛ وبهاتين القوتين كم من مرةٍ جعل ما لا يمكن يمكن
وكان من أكبر همه أن يألف العالم اسمَ مصر وأن تعرف ممالكُ الدنيا جَدَّتها
فحرَّك اسم مصر في كل أمة لأنه وحده الاسم الذي يخاطب كل تمدن بلغة خياله
إن المجد المصري إذا انبعث كان قوة من قوى الجلال في الدنيا!
إن السحر المصري إذا عرف كان قوة من قوى الحب في العالم!
إن فن الإعجاب بمصر ليخرجُ من درس آثارها كما يخرج علم الفلك من درس النجوم
في ذمة الله يا فؤاد، وعزاءً يا مصر!
لقد أعطاك من الفاروق المحبوب أكبر حسناته:
أعطاك فيه أسرار عظمته تتجلى بادئة بنشاطها
غابت الشمس ليبدأ الفجر الجديد
مات الملك؛ يحيا الملك
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
في ليلة مقرورة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(انفخي النار أو أذكيها فإني بردان، ولست أجد حرّها)
وكان الوقت شتاء، والبرد قارساً، والرياح متداركة الهبوب تقشر الحصى عن وجه الأرض، وتهيج بالغبار نحو السماء كالعمود. ولكن الغرفة كانت دافئة، والنار في مواقدها تتسعر، فعجبت الزوجة، ونظرت من زوجها إلى الموقد، وقالت:(بردان؟ بردان والغرفة كجهنم؟ لقد ألقيت عليها منذ دقائق خشباً كثيراً لا يزال يفرقع من شدة التلهّب، فكيف لا تحسها ولا تسمعها؟ مالك؟ أبك شيء؟)
فهز الرجل رأسه هزة خفيفة، وقال وهو يمد يديه:(لا. .،!! خذي أشعلي لي هذه)
وناولها سيجارة كان يقلبها بين أصابعه، فوضعت طرفها على النار ونفخت فيه حتى صار كالجمرة المتلظية، ووضعتها بين أصابعه وهي تقول:(سأعود إليك قبل أن تفرغ منها)
وخرجت وردت الباب وراءها، فتنهّد الرجل وأطرق. وفرغت السيجارة، وشعر بحرّها على أصابعه، فأراد أن يطفئها أو يرمي بها، فمد يده الفارغة يتحسس حتى لمست أصابعه حرف منضدة صغيرة، فأجرى راحته عليها، حتى التقت أنامله المرتعشة بشيء فرفعها إليه يريد أن يتبينه، فانقلب وتحطم، فرد يده بسرعة، وقد تجهم وجهه؛ ثم تنهد، ورفع قدمه وانحنى على الأرض، ووضع السيجارة تحت حذائه
وكان الذي يراه وهو جالس على الكرسي، ورأسه مثنيٌّ على صدره، خليقاً أن يتوهمه نائماً من فرط السكون. ولكنه لم يكن نائماً ولا ذاهلا؛ وإنما كان مُرهفاً أذنه لحركة الأقدام في غرفة ابنته، ولما عسى أن يتأدى إليه من الأصوات غير ذلك على الرغم من الباب الموصد عليه. وكانت زوجته لا تزال تعود إليه كل بضع دقائق لتطمئن عليه على زعمها، فقد أقلقها عليه قوله إنه بردان في هذه الغرفة التي يُشتكى حرُّها؛ ولا يُعقل أن يشتكي بردها فكان يتبسم ويقول لها:(لا تخافي علي فإني بخير، ولكن طمئنيني على فردوس، كيف هي الآن؟ ألا أصعد معك إليها؟)
وكان يعلم أنها أبت ذلك عليه من قبل مرات، فهو على يأس كبير، ولم تكن لجاجته في الطلب كلما دخلت عليه إلا ليرى كيف يكون جوابها في كل مرة؛ وكان يؤكد أنه سيدخل
على أطراف أصابعه، ثم لا يتكلم ولا يتحرك ولا يمد يده ليلمس الفتاة، فضاق صدرها بهذا الإلحاح، وقالت له:(إذن لماذا تريد أن تصعد إليها؟؟ أكل مرادك أن تزعجها والسلام؟)
وأسفت لأنها احتدت فانقلبت تعتذر إليه بما تكابده من العناء، وتوزع القلب والجهد بينه وبين ابنتهما، فقبل اعتذارها، أو لعل الأصح أنه لم يجعل باله إلى ما بدر منها. وما ظنت أنه ساءه من حدة اللهجة وقال:
(لا تشغلي نفسك بي، وإذا احتجت إلى شيء فإن في وسع الخادمة أن تقضيه لي. أليست الممرضة مع فردوس؟ إذن دعي لي الخادمة فهي حسبي إلى أوان النوم)
فأبت عليه حتى الخادمة، وقالت: إن فردوس لا تستغني عنها، وأن في وسعه أن يصفق إذا أراد شيئاً فتجيء هي - زوجته - إليه. فترك الإلحاح، وعاد إلى جلسته وإطراقه وسهومه وكفّ حتى عن أن يرفع رأسه - على عادته - حين تدخل زوجته عليه، كأنما لم تعد به حاجة إلى سؤال، أو كأنما لم يعد يعنيه من الأمر كله شيء، وكانت زوجته تقف حياله هنيهة، ثم لا تأنس منه استعداد لكلام، أو تتوهمه أغفى فتسلل راجعة من حيث جاءت. وكأنما اطمأنت أو خشيت أن تزعجه أو توقظه، فصارت تترك الباب موارباً، ولا تكلف نفسها عناء إيصاده - كما كانت تفعل - من قبل اتقاء لما يحدثه ذلك من الصوت
ومضت ساعة وبعض ساعة، والدنيا أتم ما يكون سكوناً، لولا الرياح العواصف؛ وإذا بالباب يدق دقاً مزعجا، وإذا بالخادمة تنحدر على السلم، كأنما هي في سباق، أو كأنما وراءها الذي تهرب منه وتمضي إلى الباب فتفتحه ثم تغلقه، وإذا بالبيت يملأه بكاء وليد يصيح:(واء واء واء) ولا تمضي دقائق حتى يكون كل من في البيت قد أحاط به ما خلا فردوس المريضة التي لا تستطيع أن تبرح سريرها أو تنهض عنه، ويدخل هذا الجمع الحافل - سيدة البيت والممرضة والخادمة ورجل غريب يحمل بين يديه طفلاً ملفوفاً في أشياء كثيرة وعلى وجهه شف أرجواني رقيق جدا -
وتتقدم الزوجة من بعلها وتقول: (ماذا تظن؟ لقد وجد هذا الرجل طفلاً ملقى على مقربة من عتبة البيت! مسكين إنه وليد! ابن ساعة أو ساعتين على الأكثر! ماذا ينبغي يا ترى أن نصنع به؟ لا نستطيع أن نرده إلى حيث كان. . . ولا أحسبنا نستطيع أن نستبقيه. . . كلا! هذا أيضاً عسير علينا. ما ريأك؟ أشر كيف نصنع؟)
فيرفع وجهه إلى الناحية التي يجيء منها صوتها ويقول: (المهم الآن إرضاع الطفل - والوقت بعد ذلك فيه متسع للتفكير في مصيره، فانظري من ترضعه، ابعثي في طلب واحدة. . . اصنعي شيئاً. . . لا تقفي هكذا)
ولم يكن ثم ما يدعوه أن ينهرها على هذا الوجه، فما كانت قصّرت أو تلكأت، ولا كان مضى على دخولها عليه بالطفل إلا مسافة ما ألقت عليه خبر العثور عليه، ولكنه كان ضيق الصدر بما أجن لا بما حدث من التباطؤ، وكان يثقل عليه وجود الرجل ولا يرتاح إلى الحديث على مسمع منه في أمر هذا الوليد. ورأت زوجته منه هذا النفور، وأحست له سبباً باطناً غير ظاهره. فقالت صحيح. أين نجد مرضعة يا فاطمة؟ (الخادمة) أتعرفين واحدة قريبة من هنا أو جارة نستعين بها الليلة حتى نهتدي إلى مرضعة صالحة؟ (ونظرت إلى زوجها الذي لا يراها وقالت بسرعة كالمستدركة) أو نرى لنا في الطفل رأيا آخر
فقال الرجل بلهجة السأمان (أرضعيه أولا. . اذهبي، فما ندري كم ساعة له وهو ملقى، وإن كان الذي يبدو لي من سكوته أنه لا يشكو شيئاً وأنه على الأرجح - كما قلتِ أنتِ - حديث عهد بالولادة. . على كل حال يحسن أن تعني به الليلة كعناية الأم)
فانصرفوا عنه، ومضت الليلة بسلام، وجاءوا في الصباح بمرضعة للطفل، فقد أصر الرجل على اتخاذه وتبنّيه، وكانت زوجته حين رأت منه هذا الإصرار قد راحت تنكر عليه هذا العزم، وتخوّفه ما لا بد أن يعاني من جرّاء وجوده في البيت، وتنذره الضجات والضوضاء وغير ذلك، فإن الأطفال في سن الرضاع لا يوقّرون كبيراً، ولا يعنون براحة أحد، ولا يبالون ما يكون منهم، ولكن هذا لم يثنه عما صحّ عليه عزمه
ومضى عام ثم آخر، وحبا الطفل ومشى، ولم يفتر حنوّ الرجل عليه، بل صار هو سلوته، فكان يخرج به كل يوم ساعة في الصباح وأخرى في المساء. ولم يكن يبعد عن البيت لأنه مكفوف، فكان يتمشى في الحديقة الواسعة والطفل أمامه في مركبته الصغيرة، فإذا غادر البيت اكتفى بالطواف حول السور، وكان كلما التقى بفردوس والطفل معه، يتركه لها وينصرف عنها، ولا يبقى معهما في مكان، وكان ذلك يسر فردوس في أول الأمر لأنه يسمح لها بأن ترسل نفسها على سجيتها مع الغلام، ولكنه لما تكرر من أبيها، أزعجتها منه دلالة العمد فيه، ولكن ماذا تقول أو تفعل
وكانت زوجته كثيرا ما تشير في حديثها معه إلى فردوس وأنه لا يبدو لها خاطب بين الأقرباء والأصدقاء العديدين، فلا يقول الرجل شيئا، ولكنها أضجرته مرة فقال لها (دعيها، ولا تقلقي عليها، فإني أحسب الطفل سلوة كافية لها) فسألته زوجته بلهفة (ماذا تعني؟ كيف يمكن؟)
فابتسم الرجل وقال (أعني أن في وسعها أن تفيض عليه من أمومتها الكامنة؛ وكفى بهذا الطفل عزاء وسلوة مادام لا بعل لها)
وطال الأمر، وشق على الزوجة أن الحبائل الكثيرة التي ألقتها لم تقنص أحداً، ونفد صبرها وعجزت عن الكتمان فقالت بشجوها لزوجها، وكان هو أيضا قد مل هذه الأحاديث التي لا تنتهي فسألها (هل يسمعنا أحد. . انهضي وانظري)
ففعلت وعادت فطمأنته فقال (إذن اسمعي - لقد كنت أوثر أن أظل ساكتاً لا أتكلم، ولكنك أكرهتني على الكلام. وإني لضرير ولكن رأسي لم يعطّله شيء، فهل تذكرين كيف سافرت ابنتنا وقضت شهورا عند خالها في ضيعته؟ إني مازلت أذكر ذلك لأني أعلم أنها لم تكن عنده ولا عند أحد غيره من أقرباء أبيها أو أمها، وإن كنت أجهل أين أقامت كل هذا الزمن. . انتظري. فلست ألومك، بل أنا على العكس أثني على حكمتك، وحسناً صنعتِ، وقد عادت بعد ذلك فجأة وأوت إلى فراشها ساعة وصولها، وظلت مريضة حتى كانت الليلة التي دق علينا فيها الباب، وجاءنا الرجل بهذا الطفل. ومن حسن الحظ أن الرجل لا يعرف شيئا - ولست أدري كيف دبرت الأمر، ولكنك على كل حال أحسنت التدبير، ولولا هذه القابلة التي زعمتها ممرضة لاطمأن قلبي، وأمنت الافتضاح، ولكنها على ما يظهر استطاعت أن تكتم السر فالحمد لله. والآن وقد أحوجتني إلى الكلام أفلا يحسن بعد ذلك أن تعفيني من حديث الزواج التي لا تملينه؟)
فلم تقل شيئا حتى سمعته يحدث نفسه ويقول (مسكينة. مسكينة)
فنهظت وسألته (أتعطف عليها)
فأشار بيده إشارة من يريد أن تذهب عنه وهو يقول (بلهاء) ولم يدر بينهما بعد ذلك كلام في الموضوع
إبراهيم عبد القادر المازني
المسألة الحبشية
بين إيطاليا وإنكلترا
بقلم باحث دبلوماسي كبير
يجزع الكثيرون من خصوم الاستعمار وأبناء الأمم المغلوبة لما أصابت إيطاليا بوسائل العنف الشائن من ظفر وتقدم في غزو الحبشة، وما أصاب الحبشة من خذلان وتضعضع في مقاومتها للمعتدين على حرياتها؛ ويجزع الكثيرون من أنصار السلام لما ينذر به ظفر إيطاليا على هذا النحو، وما تنذر به المشكلة الحبشية كلها من خطر داهم على السلام
وقد يلوح لأول وهلة أن الفريقين على حق في هذا الجزع؛ ذلك أن ما أبدته إيطاليا الفاشستية من إقدام وجرأة في انتهاك العهود والمواثيق، وما ارتكبته في سبيل مشروعها الاستعماري من ضروب السفك والعنف، وما لجأت إليه لسحق الأحباش من وسائل مجرمة مثيرة كاستعمال الغازات وغيرها، ينذر بالويل كل أمة ضعيفة لا تقوى على مقاومة الاعتداء بمثله، ويبعث اليأس في نفوس الأمم المغلوبة، لأنها ترى الاستعمار يثبت أقدامه، ويزيد جرأة وعدواناً وعنفاً؛ ولأن ما تثيره المشكلة الحبشية من خلاف بين بريطانيا العظمى وإيطاليا، وما يثيره فوز إيطاليا في شرق أفريقية من مخاوف على مصالح الإمبراطورية البريطانية ومستقبلها، ينذر بانفجار قد لا تقف عواقبه عند الخصومة الإنكليزية الإيطالية، بل قد يؤدي إلى حرب أوربية عامة ينكب العالم كله بويلاتها وعواقبها
بيد أنه يجب ألا نبالغ في تقدير الموقف بهذا المعيار القاتم، فهنالك ظروف واعتبارات كثيرة يجب تقديرها إلى جانب هذه الظواهر المزعجة. ولنبدأ ببحث الموقف في الحبشة؛ فقد تقدم الإيطاليون داخل الحبشة في الأسابيع الأخيرة، واستولوا على ولاية تجري كلها، وهي التي تقع فيها بحيرة تانا والنيل الأزرق، وتقدموا أيضاً في الجنوب، وأصابوا الجيوش الحبشية بعدة هزائم شديدة، وهم يزحفون بسرعة نحو العاصمة الحبشية، وقد تسقط في أيديهم قبل أن يظهر هذا العدد من (الرسالة)؛ وفي الأخبار الأخيرة أن النجاشي قد غادرا الحبشة مع أسرته إلى فلسطين على بارجة إنكليزية بعد أن فقد كل أمل في الدفاع والمقاومة، ولكن هل يعني ذلك كله أن قوى الحبشة الدفاعية قد أبيدت نهائياً كما يزعم الإيطاليون، وأن إيطاليا قد حققت ظفرها كاملاً شاملاً. وأنه لم يبق عليها إلا أن تملي
شروطها على الحبشة وعلى عصبة الأمم؟ إن نظرة إلى خريطة الحبشة تنقض هذا الزعم، فإن التقدم الإيطالي لم يجاوز حتى الآن المناطق الأمهرية، ولم يتوغل الإيطاليون في الحبشة الأصلية بعد، ولازالت أمامهم دون الاستيلاء عليها مناطق وعرة؛ والجيوش الحبشية لم تسحق كلها ولم تبد، ولكنها اضطرت أن تتراجع أمام الغازات الخانقة وغيرها من الوسائل الفتاكة التي لم يحجم الإيطاليون عن الالتجاء إليها خلافاً لكل قانون وميثاق حينما رأوا عجزهم عن التقدم بوسائل الحرب المشروعة، وهي مازالت تصمد للإيطاليين في الجنوب وحيثما استطاعت إلى ذلك سبيلاً؛ وإذا قارنا ما استولت عليه إيطاليا حتى الآن من أراضي الحبشة بما كان مقترحا أن يعطي لها في مشروع (لافال - هور) ألفينا أنها رغم انتصاراتها المتوالية لم تحقق بعد كل ما كان يراد أن يعطى لها بمقتضى هذا المشروع غنيمة باردة؛ والفرق بين الحالتين أنها تدفع اليوم لتقدمها ثمناً فادحا من المال والرجال
هذا ومن الخطأ أن نعتقد أن مجرد استيلاء الإيطاليين على الأراضي الحبشية يكفل تحقيق الأماني الإيطالية، ويعتبر حلاً نهائياً للمسألة الحبشية؛ ذلك أنه يجب على إيطاليا إذا أرادت أن تستغل ثمار ظفرها، أن تحتفظ بما استولت عليه من الأراضي، وأن تسحق كل مقاومة من جانب الأحباش؛ ولكن المعروف أن دون هذه الغاية صعاباً جمة، وأن إيطاليا ستلقى مدى حين مقاومة من الأحباش، وستضطر إلى أن تتكبد في هذا السبيل جهوداً ونفقات قد تعجز عن الاستمرار فيها إذا طالت مقاومة الأحباش؛ بل يرى بعض الثقات اليوم أن إيطاليا قد استنفذت بالفعل في هذه الحروب الاستعمارية العنيفة كل مواردها القائمة، وأنه إذا بدأ فصل الأمطار في الحبشة قبل أن تسحق مقاومة الأحباش بصورة حاسمة، فإن مركزها وخططها في الحبشة تعرض لأشد الأخطار
ويجب أن نذكر إلى جانب ذلك عاملاً حاسماً آخر، وهو موقف إنكلترا من المسألة الحبشية ومن إيطاليا، وهو موقف ستكشف الأيام القريبة عن حقيقته
وعصبة الأمم ماذا كان موقفها إزاء هذا الاعتداء الشائن؟ لقد بدأت العصبة بداية حسنة، فأسندت تبعة الاعتداء إلى إيطاليا، وقررت تطبيق العقوبات الاقتصادية ضدها؛ وكان للسياسة البريطانية أكبر نصيب في تنظيم هذه الحركة الدولية الخطيرة؛ ولكن فرنسا التي
تربطها بإيطاليا معاهدة صداقة خاصة واتفاقات سرية ذاع أمرها فيما بعد، قاومت سياسة العقوبات رغم موافقتها نظريا على تقريرها، ووقفت إلى جانب إيطاليا موقفاً كان له أكبر الأثر في شل سياسة العقوبات، وعجز عصبة الأمم عن تقرير عقوبات أخرى كانت تزمع فرضها كتحريم إصدار الزيت والحديد إلى إيطاليا؛ هذا ولم يبق سرا أن فرنسا تشد أزر إيطاليا في هذه الحرب الاستعمارية بصفة إيجابية، وأنها تعاونها بالقروض السرية؛ وهي من جهة أخرى تعرقل تصدير السلاح إلى الحبشة من طريق جيبوتي، خلافا للاتفاقات المعقودة فتزيد بذلك في إضعاف المقاومة الحبشية وتمهيد السبيل لتفوق الجيوش المعتدية
ولقد كان موقف العصبة إزاء هاتين السياستين المتناقضتين يدعوا إلى الرثاء، فلا هي استطاعت رغم تأييد السياسة البريطانية أن تسير في تطبيق العقوبات الاقتصادية على إيطاليا بالحزم الواجب تأييداً لمبدأ السلامة الإجماعية الذي تعمل باسمه، ولا هي استطاعت بأية وسيلة أن تحمل إيطاليا على وقف اعتدائها الصارخ، أو قبول الصلح في الحدود التي رسمتها منذ بداية الاعتداء؛ بل ولا استطاعت أن تحمل إيطاليا على احترام أبسط قواعد الحرب الشرعية، والعدول عن الالتجاء إلى الوسائل الهمجية الفتاكة من غازات قاتلة ومحرقة وغيرها ضد شعب يكاد يكون أعزل إزاء وسائل التسليح الحديثة؛ ومازالت عصبة الأمم منذ أشهر تجتمع وتسوف على غير طائل، وإيطاليا تمضي في اعتداء هو أشبه بالقرصنة المجرمة منه بالحرب المشروعة، فتمزق الأحباش محاربين ومسالمين بغازاتها وطياراتها، وعصبة الأمم لا تكاد تجد ما تقوله إزاء هذه النذالة التي تثير استنكار العالم المتمدن بأسره، إذا استثنينا بعض الجهات الاستعمارية الجشعة التي ترى فوز إيطاليا عاملاً في تثبيت أقدام الاستعمار في أفريقية
على أن ظفر إيطاليا الحربي في الحبشة لا يكفي لتسوية المسألة الحبشية مهما كان مدى هذا الظفر؛ ففي وسع إيطاليا أن تستولي عسكريا على الحبشة كلها، ولكن الاحتلال العسكري لا يمكن أن يعتبر مستقرا أو نهائيا، ولا يمكن بأي حال أن يعتبر خاتمة المشكل، ولابد أن تحسب إيطاليا أعظم حساب لموقف السياسة البريطانية؛ ذلك أن بريطانيا العظمى ترى في استيلاء إيطاليا على الحبشة وتوسع الاستعمار الإيطالي في شمال أفريقية خطرا عظيما على سيادتها ونفوذها في وادي النيل وشرق أفريقية، وترى في نهوض إيطاليا
الاستعمارية وفي اضطرام الروح الفاشستية بالأطماع والمشاريع الاستعمارية خطرا أعظم على سيادتها في البحر الأبيض والبحر الأحمر وعلى مواصلاتها الاستعمارية التي تسهر على حمايتها بيقظة متناهية، فالمسألة الحبشية في ذاتها تحتل في نظر بريطانيا مكانا ثانوياً، ولكن المسألة الجوهرية هي ما يترتب على فوز إيطاليا واعتزاز الروح العسكرية الفاشستية بهذا الفوز، وهر روح اعتدائية أخذ يبدو خطرها في البحر الأبيض ظاهرا ملموسا؛ والسياسة البريطانية تعمل منذ بدء المشكلة الحبشية وراء عصبة الأمم ووراء مبدأ السلامة الإجماعية؛ وقد كانت تتوقع عند فوزها بتقرير سياسة العقوبات الاقتصادية أن هذه العقوبات ستحدث أثرها في أهبة إيطاليا وفي مواردها بسرعة، فتقبل الصلح على الأسس التي وضعتها عصبة الأمم؛ ولكن السياسة الفرنسية المماذقة التي تعمل من وراء الستار لشد أزر إيطاليا حالت كما رأينا دون تحقيق هذه الغاية، واستطاعت إيطاليا أن تحرز بوسائلها العسكرية المجرمة في الحبشة انتصارات خطيرة؛ فالسياسة البريطانية تجد الآن نفسها بعد فشل سياسة العقوبات، وانهيار المقاومة الحبشية، في موقف حرج؛ وإذا كانت خطتها التالية لم تتضح بعد، فأنه مما لا ريب فيه أن وجهة نظرها إلى الموقف لم تتغير بل ربما كان اهتمامها اليوم بقمع الخطر الإيطالي على مصالحها ومواصلاتها أشد منه في أي وقت آخر
ومن المحقق أن السياسة البريطانية تؤثر العمل بوسائل لا تدفعها إلى الحرب؛ والظاهر من تصريحات مستر إيدن وزير الخارجية البريطانية في جنيف، وتصريحات مستر بلدوين رئيس الوزارة، وأقوال الصحف البريطانية ذات الرأي، أن إنكلترا مازالت ترى المضي في سياسة العقوبات الدولية، مستظلة بعصبة الأمم ومبدأ السلامة المشتركة، وأنها ستقوم بمحاولة أخرى في هذا السبيل قبل أن تفكر في الالتجاء إلى وسيلة أخرى؛ والظاهر أيضاً أن أنصار هذه السياسة يرون أن الانتصارات الإيطالية الأخيرة في الحبشة لا تقوم على أسس مستقرة؛ وأن إيطاليا لا تستطيع المضي طويلاً في الاضطلاع بهذه الأعباء والتضحيات الفادحة التي تضطلع بها، وأن أحوالها الاقتصادية الداخلية بلغت مأزقاً خطراً، فإذا استطاع الأحباش أن يصمدوا في الجنوب وأن يحتفظوا بنوع من المقاومة بضعة أسابيع أخرى حتى يبدأ فصل الأمطار، وإذا ظفرت إنكلترا أثناء ذلك بحمل عصبة الأمم
على تقرير عقوبات جديدة أخصها حظر الزيت، فإن الخبراء يرون أن خطط إيطاليا العسكرية تعرض في هذه الفترة إلى أشد الأخطار، فقد يستطيع الأحباش في فترة الأمطار أن ينظموا قواهم مرة أخرى، وتكون موارد إيطاليا قد نفدت أو أوشكت على النفاد فتضطر إلى وقف الحرب وقبول الصلح؛ وتؤمل السياسة البريطانية أن تسنح الفرصة لتقرير العقوبات الجديدة عقب الانتخابات الفرنسية الجديدة، فقد ظهر منها أن فرنسا تميل هذه المرة إلى أحزاب اليسار، وأحزاب اليسار تؤثر تأييد عصبة الأمم ومبدأ السلامة المشتركة، وترى أن هذه السياسة أقرب إلى تحقيق السلام من سياسة التلون والمماذقة التي جرت عليها فرنسا إزاء المشكلة الحبشية، وهي سياسة دفعت ثمنها غالياً في مسألة الرين ونقض ألمانيا لمعاهدة لوكارنو، حيث خذلتها إنكلترا في هذا المأزق، وألقت عليها درسا عميق الأثر
ويرى بعض أقطاب السياسة البريطانية فوق ذلك أنه يجب على إنكلترا إذا اقتضى الأمر أن تلجأ إلى إجراءات الحصار العسكرية، فتغلق قناة السويس بموافقة عصبة الأمم، وتقطع بذلك مواصلات إيطاليا مع شرق إفريقية، وهذا إجراء قد يؤدي إلى نشوب الحرب بين إيطاليا وإنكلترا، لأن موسوليني ما فتئ يهدد بأنه يعتبر إغلاق قناة السويس إجراء عدائياً عسكريا يجيب عنه بالمثل، ولكن أصحاب هذا الرأي يرون أنه خير أن تضطلع إنكلترا بعبء حرب محلية في البحر الأبيض من أن تترك الفاشستية تمضي في تهديدها للسلام حتى تنشب حرب أوربية أو عالمية؛ ويقولون إنه ليس لإيطاليا أن تحتج بخرق المعاهدات الدولية في مسألة إغلاق القناة بعد أن خرقت هي كل العهود والمواثيق الدولية، وهذه النظرية تلقى اليوم كثيرا من التأييد في إنكلترا، بيد أنه يلوح لنا أن السياسة الإنكليزية الرسمية مازالت بعيدة عن الأخذ بها
إن السياسة الإنكليزية تعتمد كثيراً على الزمن وعلى تطور الحوادث والظروف؛ وإذا كانت الظروف لم تحقق إلى اليوم تقديراتها وأمانيها، فليس من ريب في أن استطالة الحرب الحبشية تستنفد قوى إيطاليا ومواردها، وتضعف مركزها في أوربا؛ وقد حققت الحرب الاستعمارية الطاحنة التي تدور في الحبشة منذ سبعة أشهر كثيرا من دواعي هذا الإنهاك؛ ولا عبرة بمظاهر النصر الخلابة التي تهول إيطاليا بها، فأنها تدفع في سبيلها أفدح
الأثمان؛ ومازال الزمن عاملاً حاسما في إخماد الجذوة الاستعمارية الفاشستية وردها إلى الصواب
(* * *)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
الدفتريا
بين واجد سمها الفرنسي، وكاشف ترياقها الألماني
وصل الفائت:
بعد أن أثبت بارنج أن المصل المأخوذ من دم الشياه الناقهة من الدفتريا يقي الحيوانات من هذا الداء إذا هو حقن فيها، حقنه في الحيوانات المريضة فعلا لعله يشفيها فشفاها. ففعل مثل ذلك في الأطفال المرضى فكان النجاح باهراً. وبدأت المصانع تصنع هذا المصل والأطباء يستخدمونه وذاع أمره واهتز الناس له
- 4 -
ومع هذا النجاح فقد صدرت من الناس شَكيّات، وقد صدرت منهم انتقادات. وهذا أمر طبيعي، فالعلاج الجديد لم تكن مؤكدة نتائجه كل التأكيد. فهو لم يَشْفِ من الأطفال المائة مائةً عدَّا. وكيف يُرجَى منه ذلك وهو لم يكن شفى من مائة الخنازير الغينية مائة كاملة. وكان كذلك لبعض علماء الأطباء رأي نقّاد فيه، فقد ذكروا أن الذي يحدث من الداء تحت جلد الخنزير ليس بحكم الضرورة واللزوم هو عينه الذي يحدث منه في حلوق الأطفال. وشاع أمر الحقنة، وجرى المصل في دماء الألوف من الأطفال، ولكن برغم ذلك مات بعض الأطفال من الداء شر ميتة. (ولو أن عددهم ربما كان دون الذي كان يموت قبلا). وأخذ الأطباء يتساءلون عن السبب. وفقدت آباء وأمهات آمالاً كبيرة تفتّتت بفقدها أكبادهم
وهنا عاد أميل رو إلى العمل، عاد إلى ساحة القتال يحتل مكانه في صدرها. فاكتشف اكتشافاً مجيداً: طريقة سهلة هينة يحصّن بها الخيل من سمّ الدفتريا؛ طريقةً لا يموت فيها حصان ولا يطفح على جلده منها خُرّاجات أليمة ذميمة؛ وخير من هذا أنها طريقة تأتي بالكثير الوفير من ذلك المصل الحصين وبه ذلك الترياق الغالي الثمين. وكان مصلاً قويّ
المفعول يذهب القليل منه بالسم الكثير الذي يقتل عدّة من كلاب كبيرة
وآمن رو بأن هذا الترياق سيشفي الأطفال لا محالة. وآمن به قبل أن يجهزه إيماناً كإيمان بارنج أو أشد منه تأكداً. تركز فكره على علاج الداء، واجتمع مقصده على شفائه، فلم يفكر قط في منعه. ونسي ما كان وصف من غرغرات. وظل يتردد على عجل بين معمله ومربط خيله، تارة ضارباً محاقنه في أعناقها وهي صابرة، وتارة حاملاً قوارير عظيمة البطون ملأى من دمائها وفي هذه الفترة كان نوع من الدفتريا شديد الخبث (هكذا ظن رو) يكتسح بيوت باريس. وفي (مستشفى الأطفال) كان يُحمل خمسون في المائة من مرضاه إلى بهو الأموات زُرْق الوجوه (أو هكذا أثبت الإحصاء). وفي مستشفى تروسو كان يموت ستون في المائة (ولو أن السجلات لم تذكر في جلاء أن الأطباء استيقنوا أن الذين ماتوا إنما ماتوا من الدفتريا لا من غيرها). وفي الأول من فبراير عام 1894 جاء رو إلى (مستشفى الأطفال) بوجهه المستوف وأنفه الأقنى وصدره الضيّق وقلنسوته السوداء، فدخل إلى رواق الأطفال المرضى بالدفتريا وهو يحمل قوارير ملأى بهذا السائل الأصفر المعجز من المصل
وفي هذه الساعة، في المعهد الشهير بشارع ديتو، في حجرة المكتب هنالك كان يجلس رجل شيخ مشلول ينتظر خبراً ساراً يأتيه من رو. . . . وكان هذا الشيخ تبرق في عينيه بوارق الأمل فينسى أحبابه وأعزاؤه أن الموت انتقاه وأعلمه ثم تركه وعن قريب يعود في طلب المتروك تاركه. . . . . هذا بستور جلس في غرفة مكتبه من ذلك البيت العتيق لا يود أن يبرحها ويُسْلِم للفناء زمامه حتى يأتيه الخبر اليقين بأن تلميذاً من تلاميذه تمكن من محو داء آخر من الأدواء الخبيثة بهذه الحياة الدنيا
وغير بستور كان حول رو أمهات باريس وآباؤها يرجونه الإسراع في تجهيز علاجه رحمة بأولادهم من مرضى ومريضات - فقد كانوا سمعوا بذلك العلاج العجيب الذي ابتدعه الدكتور بارنج. وقالت طائفة منهم أنه يكاد يحي الموتى ويستخلص الأطفال من براثن هذا الداء بعد أن تنقطع فيهم الآمال. وكان رو يتلفت حوله فيستطيع أن يرى الناس رافعة أيديها إليه تطلب الرحمة والغياث
جهز رو محاقنه وقواريره بذلك الهدوء وذلك البرود اللذان أثارا إعجاب الفلاحين في تلك
الأيام الخوالي حين قام رو في حقولهم يضرب لقاح الجمرة في بهائمهم في قرية بويي لوفرت. وقام عوناه مرتان وكايو فأشعلا مصباح الكحول وأسرعا إليه في لهفٍ وتأهب لإجابة الأمر تنفتح عنه شفتاه، ونظر كوخ إلى الأطباء وهم في حَيْصَ بيص لا يدرون ماذا يصنعون. ونظر إلى الوجوه الصغيرة وهي في زرقة الرصاص، وإلى الأيدي الرقيقة وهي تُهبّش في ألحفة الصوف، وإلى الأجسام وهي تتلوّى في الفراش تطلب أنفاساً قليلة من ذلك الهواء الغالي فلا تكاد تجدها. ثم نظر إلى محاقنه ممعناً وسأل نفسه: أحقاً في هذا المصل خلاص هذه الأرواح؟ فما أسرع ما انشطرت نفسه شطرين عند هذا السؤال، فكان منها نفسان: النفس الأولى نفس الإنسان الحنّان، والنفس الأخرى نفس العالم البحاث
قالت الأولى تجيبه بقوة: (نعم، نعم فيه خلاصها)
وقالت الثانية في همس وخفوت: (لا أدري، والحكم للتجربة، فهيّا بنا إليها)
قالت النفس الحنون، وقال معها الآباء القانطون وكلهم يتوسلون ويرجون:(لا تفعل! لا تفعل! فإن التجربة تقضي بإعطاء المصل لبعض الأطفال وحبسه عن بعضهم، وهذا في شِرعة القلب حرام)
قالت النفس الباحثة: (نعم إنه عمل غير هين وقساوة تتلذع منها القلوب، ولكن ما الذي أنا صانعته؟! إن هذا المصل شفى الأرانب فما الذي يدريني أنه يشفي الأطفال والإنسان؟ لا بد إذن من العلم، لا بد من كشف الحقيقة، والحقيقة لا تكشف إلا إذا نحن حقنا به نصف الأطفال المرضى وأعفينا النصف الآخر، ثم قارنا عدد من يموت في النصف الأول بعدد من يموت في النصف الثاني؛ بهذا، وبهذا وحده، نستطيع أن نعلم الأثر الحق الذي للمصل في شفاء هذا الداء)
قالت النفس الحنون: (ولكن هبْ أنك وجدت المصل يشفي، فانظر ما تكون مسؤوليتك عن مئات الأطفال الذين يموتون لأنك حبست عنهم هذا المصل، هذا الترياق)
إنه تخيير مؤلم لاشك بين خُطّتين صعبتين. على أن رو ذا العقل الصرف فاتته حجة ما كان أولاه بإيرادها في هذه المناظرة بينه وبين رو ذو العاطفة الصرف؛ لقد كان في استطاعته أن يقول: (إننا إذا لم نتبع طريقة العلم، طريقة التجربة، إذاً لأنخدع الناس فظنوا أنهم وقعوا من هذا المصل على علاج كامل للدفتريا، وإذن لكفّ البُحّاث عن طلب علاج
جديد لها، ثم تتوالى السنون بموت ألوف من الأطفال بسبب هذا العلاج المزعوم، ألوف كان في الإمكان إعفاؤها من الموت لو أننا اتبعنا طريقة البحث الصحيح على ما بها من قساوة. . .)
إن في هذا الحجة جواب العلم الدامغ لكل ذي رأي يقوده قلب. ولكن رو لم يصخ إليها، ومن ذا الذي يلوم هذا القلب أن يتنكّب الطريق القاسية التي تؤدي وحدها إلى علم الحقيقة. وتجهزت المحاقن، وجرى مصلها اندفاعا تحت جلود الأطفال فانتفخت به، بدأ رو في أداء رسالة الرحمة، ولعلها رسالة الخلاص كذلك، فحقن في المستشفى في الخمسة الأشهر التالية من الأطفال المهدّدين بالموت زيادة على 300 طفل. ثم ظهرت النتائج! ألا حمداً لله فقد كانت نصراً لرو ذي القلب الإنساني الرحيم، فما انتهت تجاربه في هذا الصيف حتى قام في مؤتمر جمع نوابه الأطباء وخيرة العلماء من أصقاع الدنيا فقال لهم:(إن حالة الأطفال إذا حُقِنوا بالمصل تتحسن سريعاً. . . فلا يكاد يقع الناظر في عنابر المستشفى على وجه فاقد اللون أزرق كالرصاص. . . بل على النقيض يجد الأطفال في نشاط وابتهاج)
واستمر يصف في بودابست للمؤتمرين كيف يذهب المصل بهذا الغشاء المخاطي الرمادي الذي يتكون في حلوق الأطفال وعليه تتكاثر بشلة الداء ومن فوق بساطه ترمي بسمها القاتل، ووصف لهم كيف يذهب هذا المصل بحُمّاهم كذلك: كان كنسمة باردة هبت من بحيرة شمالية على مدينة جنوبية فمرت على أفاريزها وهي تتقد ناراً. فهتف له هذا المؤتمر الوقور، وقام له أطباؤه الأشهرون على أرجلهم إكباراً له وإعجاباً بالذي أتاه
ومع هذا - ومع كل هذا - وبرغم هذا المصل العجيب، فقد مات من مرضى رو ستة وعشرون في كل مائة!!
ولكن اعلمْ أن ذلك العصر كان عصراً تغلب فيه العاطفة، واذكرْ أن هذا المؤتمر لم يجتمع، ورو لم يذهب إليه، لخدمة الحقيقة وإنما ليحتفلوا بخلاص الأرواح وليناقشوه ويختطوا له الخطط، وكان الناس عندئذ قليلي الاهتمام بالأرقام، وكانوا أقل اهتماماً بالنُّقّاد الثقلاء الذين يُلحون في طلب مقارنتها، وكانوا في تأثر شديد عندما استمعوا لرو وهو يصف لهم ما كان من تبريد المصل لجباه الأطفال بعد اشتعالها. على أن رو كان في مقدوره الرد على نقّاده بين تصفيق العظماء النابهين من سُماعه بأن يقول لهم: (وما ستة وعشرون يموتون في
المائة! يجب أن تذكروا أنه قبل هذا العلاج كان يموت خمسون في المائة)
ومع هذا أيضاً فأنا أقول - أنا الذي أودّ أن أومن بهذا الترياق وبحسن أثره في علاج الدفتريا - أقول بعد أن مضى على ذلك الزمان بضعة عقود: إن الدفتريا داء غريب، يزيد خبثه أحياناً، ويقل أحياناً. ففي بعض الأحقاب يبلغ الموت في مرضاه ستين في المائة، ثم هو يحل به أمر خفيّ غريب يُضعف من مكروبه فإذا بالستين تنزل إلى عشرة، وهكذا كان الحال في عصر البطولة الفائتة، عصر رو وبارنج. ففي هذا العصر في بعض مستشفيات إنجلترا نزل معدَّل الموت من أربعين إلى اثنين وعشرين في المائة - وهذا بالتحقيق قبل أن يُستخدم المصل!
ولكن الأطباء الكبراء لم يأذنوا للأرقام أن تدخل في تفكيرهم، وحملوا خبر الترياق إلى أركان الأرض الأربعة، فلم تمض إلا سنوات قليلة حتى استقر المصل في الأدوية علاجاً للدفتريا. واليوم لن تجد طبيباً في الألف لا يحلف لك بأنه علاج بديع. والدفتريا اليوم ليست على خبثها الذي كان لها في العقد التاسع من القرن الماضي، والأطباء لا يفتأون يعطون المصل لكل طفل تناله تلك البشلات الفاترة الجارية الآن حاسبين أنه به الشفاء. . . والطبيب الذي يمتنع عن إعطاء المصل يُعَدّ بحق مذنباً اعتماداً على القدر الذي نعلم من أمر هذا العلاج اليوم. وأنا نفسي لو أن طفلاً لي أصابه هذا الداء لكنت أول مسرع إلى الطبيب ليحقنه بهذه الحقنة نفسها. ولم لا؟ فلعل الصبي يشفى حقاً. أنا لا أدري أنه لا يشفى، ولا يدري غيري أنه لا يشفى، وقد فات الأوان لإثبات أنه يشفي أو لا يشفي، فالدنيا الآن تؤمن به، فلا يوجد في الرجال رجل تبلغ به قسوة القلب، أو جرأة النفس أن يقوم بالتجربة التي يتطلبها العلم لإثبات اليقين
واليوم يؤمن البحاث بالذي آمن به رو من أمر هذا المصل، فهم في شغل شاغل بمباحث أخرى. وكل الذي أرجوه أن يكون رو صادقاً في الذي آمن به، حتى إذا هبّت على العالم هبّة من وافدة خبيثة من الدفتريا، وافدة في خبث تلك التي كانت في العقد التاسع من القرن الماضي، يكون للناس من هذا المصل وقاء صادق يدفعون به شرها غير مخدوعين فيه
على أنه حتى إذا لم يكن في هذا المصل شفاء الدفتريا - ولو أن الأرجح فيه الشفاء - فالتجارب التي قام بها رو وبارنج لم تضع سدى على ما نعلم اليوم. بالطبع قصة ذلك لا
تزال حديثة، لا تزال تلوكها الجرائد كثيراً، فلم تتهيأ بعد لتبوئ مكانها في التاريخ، ولكن مع هذا ففي نيويورك، وفي كل أمريكا، وفي ألمانيا مئات الألوف من الأطفال وتلاميذ المدارس تتخذ أجسامهم مصانع يُصنع فيها هذا الترياق في حذق كبير وأمْن بالغ كي لا تأتيهم الدفتريا أبداً. وذلك بحقن هؤلاء الصغار تحت جلودهم بمقادير قليلة من سمها يكفي المقدار منها لقتل عدة كلاب كبيرة - ولكن بعد تدويره وتحويره وتغييره تغيير عجيبا حتى لا يتأذى منه الطفل يُحقن به بعد أسبوع من ولادته
والأمل اليوم كبير في مغالبة الدفتريا حتى لا يكون منها ذلك الداء الفتّاك الذي دوخّ الأجيال، وذلك بأن تقتنع الأمهات والآباء فيرضون بأن تُرشاق بناتهم وأبناؤهم ثلاث رشقات من إبرة محقن. إذن لحمدنا العاقبة وشكرنا للفلار ورو وبارنج أبحاثهم الأولى وإن فاتها التهذيب والتمام
(تمت الدفتريا)
أحمد زكي
التربية الوطنية الاستقلالية وأثرها في بناء الأمة
للأستاذ محمد عبد الباري
عماد الأمة
عماد الأمة أفرادها. ومتى كانت مواد البناء متينة التكوين سليمة الوضع كان البناء قوياً على احتمال تصاريف الأيام، والتغلب على صدمات الحادثات. وما مادة البناء في الجماعة سوى الفرد. فكيف يكون قوياً لتقوى به الأمة؟
شاهدات الحاضر
يلوح لي أن استعراض الوقائع لاستخراج الحقائق أقرب سبيلاً إلى صحة الحكم، وآمن عاقبة من التحليل النظري المجرد. وأخذا بهذا فأني أضرب بالإنجليز مثلاً للأمة القوية. وأحاول باستعراض بعض الظواهر للوصول إلى سر هذه القوة. وإني إذ أفعل هذا لست مأخوذاً بقوة المسيطر، ولكني إنما أتعرف سر قوة الغير لنحتذي مثاله، ومن قبل احتكت اليابان من نحو خمسة وثمانين عاماً بالغرب، وآنست منه قوة لا قبل لها بها فداورته، ثم حرصت على تعرف سر قوته واتخذت سبيله. فلما أحست من نفسها القوة تحررت مما فرض عليها الغرب من قيود، ثم صارت موضع خشيته ورهبته. والقوي يتقي دائماً التصادم بالقوي.
من أشهر حوادث التاريخ الدستوري ما يسميه الإنجليز بالعهد الأعظم؛ وهو مجموعة قواعد غير منمقة؛ هي في الواقع شروط يتقيد بها الحاكم، وهي تنبئ عن روح استقلالية أصيلة، ودرجة حرص القوم على المحافظة على ذلك العهد تؤكد أنه وضع عن عقيدة، وأنه يعبر عن شعور الأمة بحقها وكرامتها وقوتها. فلما هوجم دافعت عنه الأمة عن عقيدة راسخة فانتصرت. حدث أن أحد ملوك إنجلترا، وكان متشبعاً بتعاليم الفيلسوف الإنجليزي (هوبز) نقض ذلك العهد بإصدار أوامر تخالفه. غير أن أحد الكافة أبى أن يعترف بحق الملك في المخالفة، فامتنع عن تنفيذ الأمر. فلما أوذي المعترض ثارت الأمة، وتخلصت من ناقضي عهدها استمساكا بدستورها ومحافظة على كرامتها
والمعترض لم يصدر إلا عن عقيدة. وكان مستقل الرأي أبيّ النفس شجاعا بدليل أنه لم
يرهب جسامة ما أقدم علي، ولم يك بالشاذ في بلده بدليل أن سواد الشعب جاراه وانتصر للحق إلى النهاية. وهذا العمل الخطير لا يمكن أن تأتيه جماعة إلا إذا كانت الروح الاستقلالية قوية فيها، وكان الشعور بكرامة الإنسان غالباً في أفرادها والاعتداد بالنفس صفة غالبة في بنيها. كان الفيلسوف (هوبز) ينادي بحق الملك المقدس في الحكم طبقاً لمشيئته لا استنادا إلى إرادة الأمة. وكان مربياً للملك المشار إليه، ولكن النفسية الإنجليزية لم تهضم هذه التعاليم؛ وكان يعجبها ما قرره الفيلسوف (لوك)؛ وهو أن الأمة مصدر السلطات، وأن الملك يستمد سلطته منها، وليس صاحب حق مقدس يحكمها طبقاً لهذا الحق المقدس فلا يتقيد بإرادتها. فلما تعارضت الفكرتان عملا كانت الغلبة لما يدين به سواد الإنجليز، لأن تربيتهم الاستقلالية أبت عليهم الخضوع لما لا يتفق مع الكرامة الإنسانية، فثاروا دفاعاً عنها وانتصروا لأنهم عملوا عن إيمان راسخ
التربية الاستقلالية مصدر الشجاعة الأدبية والإقدام والشجاعة توحي للمرء بأن يقول (لا) كلما وجب أن يقولها، و (نعم) كلما وجب أن يقولها، سواء أكان مخاطباً نفسه أم غيره. والإقدام يدفع المرء إلى العمل بما يعتقد مهما كانت النتيجة وقد دلت التجارب على أن العامل عن عقيدة قلما يخفق لأن الإيمان الراسخ في ذاته قوة يعز التغلب عليها
لو لم تكن روح الاستقلال متغلغلة في نفوس الإنجليز لرسخت فيها تعاليم (هوبز) دون تعاليم (لوك)، ولمر نقض العهد وهو الدستور كأنه حادث عادي، ولاعتاد الحكام التصرف طبقاً لمشيئتهم، ولكانت الجماعة عرضة من حين لآخر، للاحتكاك بين أنصار الطغيان وأعوان الحرية، ولبطؤ سيرها إلى الأمام
لكن النفوس كانت مشبعة بالحرية والاستقلال فدافعت عما وضعته من شروط لتولي حكمها. وأظهرت وجودها المستقل بعملها التاريخي. وعرف الحكام منها ذلك فلم يحاولوا نقض العهد وعاشت وعاشوا في هدوء. فاستطاعت الأمة التمتع ببركة الهدوء في ظل الحرية، وانصرفت بكل قواها إلى ترقية شؤونها ورفع مستوى الفرد فبلغت قمة المجد، وكانت عزيزة الجانب بوجه عام حتى اليوم. تلك حادثة من أبلغ حوادث التاريخ الإنجليزي في الدلالة على أن قوة الأمة في تغلغل روح الاستقلال بين الأفراد وفيما ينشأ عن التربية الاستقلالية من شجاعة وإقدام
وأنا أورد مثلا آخر أدلل به على ما تربح الأمة من تشبع الفرد بروح الاستقلال. ففي الحادث المتقدم كان العمل شعبياً، وفي الحادث التالي كان العمل فردياً
في سنة 1839 نجحت إنجلترا في تأليب قوى أوروبا على مصر لتأمن الخطر الذي توهمته من قيام جماعة قوية على ساحلي البحرين الأحمر والأبيض المتوسط. انتهزت الفرصة السانحة بتهديد الجيوش المصرية الآستانة نفسها فأقنعت طائفة من أقوى دول أوربا بالاشتراك معها في حمل (محمد علي) على قبول شروط فرضتها عليه، وهو الغالب تحد من قوته، ونجحت بهذا وببث الثورة في سوريا ضد المصريين في الاستيلاء على عكا وفي ضرب الجيوش المصرية بسوريا ضربة حاسمة
فلما تم ذلك بعث القائد العام وهو إنجليزي ضابطاً بحرياً إنجليزياً لاستطلاع قوة المصريين بالإسكندرية، وأبحر الضابط فاقتنع عندما وصل المياه المصرية أن من السهل ضرب الإسكندرية، ولكنه في نفس الوقت علم من ثقة أن البر يموج بقوة مسلحة تسلحاً عظيما، وفكر أن الاشتباك مع محمد علي بمصر قد يجر إلى مثل موقعة رشيد سنة 1807 ورأى أنه من الممكن التفاهم مع محمد علي على الشروط التي فرضها المتألبون ورفضها محمد علي، إذا ضمن له الضابط جعل حكومة مصر وراثية، لما أستوثق من ذلك دخل رأساً في مفاوضات مع محمد علي واتفق الطرفان. ولما أنبأ القائد العام بذلك احتج عليه وأرسل إلى حكومته يحتج، ولكن الضابط استمسك بوجهة نظره لأنه أيقن بأنه خدم بلاده ودافع عن هذا الرأي لدى الحكومة الإنجليزية رأساً وانتصر له وزير الخارجية الإنجليزية وأبرم الاتفاق الذي وضع أساسه هو فكان معاهدة لندن سنة 1840
والحادث يدل على أن الضابط البحري لم يفهم أنه مجرد أداة بل فهم أنه عنصر فعال في بناء مجد أمته. فلما رأى الفرصة سانحة انتهزها بالرغم من مخالفة هذا التصرف للواجبات العسكرية؛ فلما لم يرض رئيسه عن هذا لم يرهبه سخط الرئيس ولم ينس غرضه ولم يتقهقر وتغلب رأيه أخيراً
نظر الضابط الصغير كما نظرت حكومته إلى جوهر الموضوع لا إلى شكله، والحادث بالنسبة للحكومة الإنجليزية وبالنسبة للضابط البحري دليل على تأصل الروح الاستقلالية وعلى عظم أثر هذا التأصل في صحة الحكم على الأشياء
تلك الروح الإنجليزية التي استعرضنا بعض مظاهر عظمتها هي التي أبت عليهم الخضوع لتهديد إسبانيا، فلم يخرجهم هول قوة الأرماد (اسم الأسطول الإسباني) عن رباطة جأشهم وكانت الغلبة لهم، وهي نفسها التي أبت عليهم الخضوع لنابليون، وهي التي تلهمهم قبول حكومة المحافظين تارة وقبول حكومة العمال تارة أخرى مع ما بين مبادئ الحزبين من تفاوت، وهي التي جعلت القاضي الإنجليزي مضرب المثل للقاضي الصالح؛ وهي بالاختصار التي وضعت الإنجليز الآن هذا الوضع الممتاز في التاريخ العصري
عبر التاريخ
ضربت المثل بالإنجليز عامدا لأنا نخاطب القوم اليوم في تحديد علاقتنا بهم. وأضرب المثل بالعرب لأني أكتب هذه الكلمة يوم الاحتفال بمستهل العام الهجري
نشأ العرب على الحرية والاستقلال لا يشوبهما إلا خضوعهم لأوهام باطلة وعادات مرذولة؛ فلما تطهرت نفوسهم باعتناق الدين الحنيف تحرروا من قيود العادات والأوهام التي لا تتفق والكرامة الإنسانية
إن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أروع أمثلة التاريخ في استقلال الرأي والصلابة في الحق؛ ولكنه نبي يعمل في حدود رسالته بما يوحي به الله، بيد أنه بث في أصحابه تعاليمه المطهرة للنفس، والملهمة لروح الاستقلال، فكان هذا مع نشأة العرب الحرة السبب في سرعة تقدمهم بعد اعتناق السلام
في أولى غزوات النبي ارتأى وهو في مركز القائد الحربي أن ينزل بقوته في نقطة معينة، ولكن أحد أتباعه اعترض على هذا في أدب وكياسة، فلما تبين للرسول صواب رأي نصيره أخذ به
إن الروح التي أملت على التابع المتفاني في حب نبيه اعتراض رأي هذا النبي، والتي دعت النبي إلى قبول رأي أحد أتباعه، هي روح استقلالية، فلا خشية في الحق من جانب الصحابي ولا تعصب للذات من جانب النبي
لما قبض النبي لم يتحيز أتباعه لأهل بيته ويختاروا أحدهم خليفة، بل اختاروا أبا بكر لأنهم رأوا صلاح الجماعة في ذلك الاختيار، والروح التي أملت هذا إنما هي روح الاستقلال والحرية
خطب أعظم خلفاء محمد في الناس فدعاهم جهرة إلى تقويم اعوجاجه إذا رأوه أعوج، فرد أحد الحاضرين بقوله:(والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيوف)
رأى عمرو بن العاص أن تفتح مصر، ولم يكن الخليفة عمر ابن الخطاب يرى رأيه. ولكن القائد أقنع الخليفة بصواب الفتح فزوده بالرجال ليمضي في تنفيذ مشروعه، ولكنه تخوف ثانية، وبعث له يسترجعه، وقدر عمرو ما في الرسالة، فلم يفضها، ومضى في سبيله حتى نزل أرض مصر. وأصبح مضيه أمراً لا بد منه
والحادث يدل على عدم الاستبداد من جهة الخليفة، وعلى الاستقلال والاعتماد على النفس والثقة من جانب القائد
ويطول بنا القول إذا ما حاولنا تقصي الحوادث التي من هذا النوع. فلنكتف بهذه الأمثلة للدلالة على أن نشأة العرب المستقلة، وتعاليم الدين الحاضة على الحرية والمساواة والاعتماد على النفس، جمعت في العرب الاستعداد الفطري بحكم النشأة الأولى والتعليم الرشيد، والإيمان القوي بالعقيدة الإسلامية، وحسن تفهمها؛ فسادوا العالم في سرعة أدهشت المؤرخين، ونشأت أمة عربية، قوية الأركان، شامخة البناء
وفي كل عصر، وفي كل بيئة تنجح الجماعة إذا سادت الحرية في تصرفاتنا مع الغير وفي تناول ذواتنا، أعني حرية الجهر بالرأي والانطلاق من قيود التعصب للذات. بهاتين الصفتين نجح العرب وتقدموا وسادوا، وبهما تقدم الإنكليز وقويت شوكتهم وسادوا، وبالاستمساك بهما نقوى ونسود؛ فالتاريخ القديم والحديث مزدحمان بالأدلة على أن التربية الاستقلالية هي أقوى دعائم الأمم، وإذا كان هذا أمرها فما سبيلها؟
(يتبع)
محمد عبد الباري
الملك أحمد فؤاد الأول
كمسلمٍ وعالمٍ
للأستاذ عبد الله مخلص
عضو المجمع العلمي العربي
لما نعى الناعي المغفور له الملك أحمد فؤاد الأول عاهل مصر العظيم ملك الحزن على مشاعري وأخذ اليأس من نفسي كل مأخذ، لا لأني من الذين تربطهم به أو بملكته رابطة شخصية فيريد أن يفي بعض حقهما عليه، ولا لأني أبتغي من وراء اصطناع الأسى أجراً أو شكوراً، بل لأني من أولئك المسلمين الذين يقدرون مصر الإسلامية حق قدرها ويعتبرونها اليوم أم البلاد وقبة الإسلام ومنبثق النور وبلد العلم في العالم العربي، وأن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مدينون لها ولمسجدها الأزهر منذ ألف عام فهم يستنيرون بنورهما ويستهدون بهديهما، ولذلك يرون لزاماً عليهم أن يعنوا بشؤون مصر ومصيرها وأن يشاركوها في سرائها وضرائها، ولأني بدافع من هذه الدوافع الكثيرة من الذين سمعوا وعرفوا من خلال الملك الراحل وخصاله الغر الميامين ما يستحق الإجلال والإكبار من الناحيتين الإسلامية والعلمية فلم أتمالك عن كَتْب هذه السطور التي هي نفثة مصدور فأقول:
الملك أحمد فؤاد كمسلم
منذ نصف قرون ونيف والإسلام تتجاذبه عوامل الأخذ والرد بسبب هذه الثقافة الجديدة التي يظن حملتها أن لا بأس من إدخال التطور في جميع مناحي الحياة حتى فيما يتعلق بالعقائد والأديان والعرف والعادة حتى رأينا من بعض الأمم الإسلامية بعض الشذوذ تحت ستار التمدين فصار الإلحاد مدنية ونبذ العقيدة رقياً، وأخذنا نسمع بما لم نألفه من نظريات علمية هدامة تنكر الله والرسل وسارت بعض الأمم شوطاً في هذا المضمار الشائك الذي سينتهي بها حتما إلى الهاوية وبئس المصير
في مثل هذا الحوائق اعتلى عرش مصر الملك المرحوم فلم تبطره بهرجة الملك، ولم تؤثر على عقيدته تلك النزعات والنزغات بل ظلّ على إسلامه الصحيح وعقله الرجيح
وإذا اعتبرنا أنه رحمه الله تعالى قضى أيام شبابه في بيئةٍ أجنبية أيام دراسته في معاهد الغرب الكبرى التي لا تمت إلى الإسلام بصلة فإن بقاءه مستمسكاً بعروة دينه محتفظاً بيقينه كان من نعم الله عليه وحجته على قوة إرادته
وإن ننس فلن ننسى له المحافظة على زيه الشرقي في عواصم الغرب بينا نرى بعض ملوك المسلمين وأقيالهم يقلدون الغربيين تقليداً أعمى حتى بلغ من بعض ملكاتهم النسج على منوال الملكات الغربيات والظهور بمظهر المدنيات الراقيات، وليس في ذلك من رقيٍّ ولا مدنية، بل فيه خروج على التقاليد واللياقة وطعن في صميم الكرامة وتبذّل غير محمود
فالملك فؤاد اقتعد الذروة في هذا الخلق الإسلامي الكريم وضرب مثلاً أعلى للمسلمين ملوكهم وسوقتهم
الملك أحمد فؤاد كعالم
لو أننا تركنا جميع مآثر الملك المرحوم العلمية جانباً واقتصرنا فقط على أثره الخالد وهو لا يزال في الإمارة نعني به الجامعة المصرية التي كان أول العاملين لها والحادبين عليها لكفاه شرفاً ونبلاً
فهذه الجامعة التي ترأسها وتعهدها وصرف من قوى نفسه ونفيسه على نموها وازدهارها هي مفخرة المفاخر بما قدمته لمصر من الخدم العلمية الجلىّ. وهانحن أولاء نرى ثمارها دانية القطوف على أيدي أساتذة جهابذة يخرجون لنا في كل عام مئات من الناشئين يملئون أرض الكنانة وبلاد العرب علماً وحكمة
والحق أن الجيل المصري الذي عاصر أيام حياة الملك المرحوم كان سعيد الحظ بما وجد أمامه من المسهلات والمشوقات والمرغبات العلمية الكثيرة
وأنا كرجلٍ يُعنى بالتاريخ الإسلامي أذكر للمليك الراحل عمله المشكور في تدوين تاريخ رسمي للدولة المصرية، فقد أمر رحمه الله تعالى بتأليف لجنة لهذا الغرض ووضع تاريخ يستخرج من الدفاتر والوثائق الرسمية، وكان صديقي المرحوم أحمد تيمور باشا من أعضاء هذه اللجنة، وهو الذي أعلمني بذلك في حينه
وكان من دواعي الغبطة للمؤرخين الإسلاميين ظهور مجموعة عزيزة المنال، تتضمن الأوامر الصادرة من حكام مصر إلى عامل الواحات من زمن الفاطميين إلى زمن الخديو
إسماعيل رحمه الله تعالى، وهي الأوامر نفسها لا صورها
يقول المرحوم أحمد تيمور باشا في كتابه لي: (ولا أظنّ نظيراً لهذه المجموعة في الدنيا، وقد بحثت عن سبب حفظ هذه الأوامر جميعها كل هذه المدة في تلك الجهة النائية، فأخبرت أن العادة فيها من القديم أن يُحفظ كل ما يصدر من الحكام إلى عاملها في مكان خاص بالمحكمة الشرعية، وبها تيسر حفظها. وقد رأيت بها من توقيعات الملوك كالغوري وغيره الشيء الكثير، وكذلك توقيعات حكام الفرنسيس مدة احتلالهم لمصر وهي بالإفرنجية، ولكن الأوامر بالعربية. ولا أخفي عليكم أني متلهف إلى الآن إلى صورة شمسية من هذه المجموعة، ولكن (فيا دارها بالخيف). أهـ
إن من حسن توفيق الله ظهور هذه الوثائق الإسلامية على يدي المرحوم الملك، فلولا تفكيره في تدوين تاريخ رسمي للدولة المصرية لما استطعنا الوصول إليها، ولا الوقوف على تفكير أول قاض شرعي وضع الأساس في جمع هذه الوثائق والمستندات القيمة في تلك البلاد النائية البعيدة عن العمران المزورّة عن مدنية هذه الأيام
وأظن أن المساعي المتواصلة التي بذلت في شأن هذا التاريخ قد أنتجت نشر أجزائه الأولى باللغة الفرنسية وستتبعها النسخ التركية والإنكليزية والعربية طبعاً
إن مثل هذا الملك القوي العقيدة، الراسخ الإيمان، العالم العامل البعيد مدى التفكير، مما يُبكى عليه، ويُحزن لفقده. ولكن في خليفته وخلفه جلالة فاروق الأول خير عوض، وأحسن عزاء لنا، ورحم الله الشاعر العربي الذي قال في حالة تشبه حالتنا هذه:
هَناءٌ محا ذاك العزاء المقدما
…
فما لبث المحزون حتى تبسما
ثغور ابتسامٍ في ثغور مدامعٍ
…
شبيهان لا ينفكّ ذا الشبه منهما
عبد الله مخلص
عضو المجمع العلمي العربي
ملخص محاضرة
أسبانيا العربية
ألقى الدكتور استانسلاو كيروخا اي دي اباركا أستاذ الآداب الإسبانية في جامعة صوفيا محاضرة قيمة باللغة الأسبانية في مدرج الجامعة السورية بدمشق عنوانها (أسبانيا العربية) وقد لخصها الأستاذ لبيب الرياشي فيما يلي:
قسم المحاضر الكريم المنصف بحثه هكذا:
1 -
نظرة عامة في الفتوح العربية العالمية
2 -
افتتاح أسبانيا وتكوين مملكة عربية أسبانية
3 -
العلوم العربية والعمران ونوابغ العرب في العلوم
4 -
سقوط الدولة العربية وأسبابه
5 -
الآثار الثمينة التي تركها العرب في أسبانيا
المدنية العربية
إن أسبانيا بعد مرور خمسة قرون لا تزال عربية بدم سكانها وآدابهم وموسيقاهم ورقصهم وميولهم وحضارتهم
والمدنية العربية في أسبانيا لا تزال إلى اليوم أسمى مدنية بريئة عرفها العالم
والكوكب الذي استنارت منه هذه المدنية أشعتها السامية هو (القرآن) وسيرة الرسول العربي
الفتوحات في الإسلام
الخليفة في الإسلام هو بمثابة قائد الجيوش العام، والملك، والبابا؛ ورسالة الإسلام للعالم هي التبشير بآله واحد؛ ولما كان المسلمون يعتقدون أن من مات مجاهدا في سبيل الله وهدى العالم يكون جزاؤه الخلد، كانت الجنود الإسلامية تضحي دون ما خوف ولا رهبة، فتقاتل قتال البطل الباسل، وبهذا افتتحوا سورية سنة 638، ومصر سنة 640، وتغلبوا على إمبراطور القسطنطينية وافتتحوا الدولة الفارسية سنة 642
كما افتتحوا قسما كبيراً من الهند سنة 707، واكتسحوا الغرب وتونس والأرخبيل
ومراكش، ومن ثمة دخلوا أسبانيا منتصرين سنة 711
ولم يذكر التاريخ أن إمبراطورية بلغت من السعة في الملك والكبر والمجد ما بلغته هذه الدولة الفتية
فتوح أسبانيا
لنبحث عن أسبانيا الآن: بعد أن افتتح العرب أسبانيا سنة 711 على يد موسى بن نصير وطارق بن زياد (92هـ) بقيت مقاطعة أو إمارة تأتمر بأمر الخليفة، ولكن في عام 756 استقلت المملكة العربية الأسبانية عن الخليفة الكبير
واتخذت هذه المملكة المستقلة (قرطبة) عاصمة لها فأصبحت أغنى عاصمة في العالم وأوفر مكانة بعناية مؤسس هذه المملكة (عبد الرحمن الأول)، وبرغم الثورات الكثيرة والاضطرابات العديدة ظلت هذه المملكة وطيدة الأركان من القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر
وفي أسبانيا هذه كان يعيش قسم كبير من المسيحيين ترك لهم الإسلام حرية معتقداتهم وعاداتهم وحافظ على كنائسهم
ملوك أسبانيا
ويعد أفضل من حكم أسبانيا العربية الملوك الثلاثة:
(عبد الرحمن الأول، وقد أسس قرطبة الجميلة المجيدة
عبد الرحمن الثاني، وقد مهد الطرقات وشاد الأبنية العمومية الفخمة وأسال الأمواه في المجاري الهندسية حيث لم يكن في أوربا شيء من هذا
عبد الرحمن الثالث 912 - 916 عرف أنه كان أفضل ملك مثقف يحب العلم ويعمل على نشره، وأقوى من جميع الملوك الذين عاصروه، فقد نال انتصارات باهرة على الملوك المسيحيين الذين تحرشوا به حتى كان عدد كبير من الملوك الذين عاصروه يلتجئون إليه ويحتمون به
والحكم الثاني امتاز بحب العلم ونشر الثقافة، ولقد أنشأ في قرطبة مكتبة تحتوي أكثر من أربعمائة ألف مصنف
وفي عهد الخليفة هشام الثاني الضعيف الإرادة تمكن المنصور وزيره الأول من محاربة الإمارات المسيحية الثائرة
وسنة 1002 اجتمع ملوك كابتجاليون وفقارا وباجتماعهم وتضامنهم تغلبوا على هذا القائد الجبار في واقعة (كلا ثانياسير) عاصمة شوريا وهكذا لم يبق للعرب سنة 1031 سوى إمارات صغيرة أشهرها سافيجا وتولوزا
العلم والعمران
لم يشتهر العرب بالبطولة الحربية فحسب، ولكنهم اشتهروا بالعلم والشعر والاقتصاد، وعرفوا بتنشيط العلوم ونشر الثقافة
اقتبس العرب جذوة من علوم اليونان والفرس - فأشعلوا من تلك الجذوة منارة مضيئة
أسسوا مدارس علمية في بغداد ودمشق، أما في أسبانيا فقد أنشأوا كلية (سالرنو) في قرطبة، وهي الكلية التي كانت لغتها عربية، وعلومها عربية، وأخلاقها عربية، وكل ما فيها عربي، وهي أقدم مدرسة طبية في أوربة كلها
وهكذا ابتدأ العرب يشتغلون في الكيمياء فاستكشفوا الكحول، وأسسوا قصورا ومساجد وجنائن، وجعلوا الأرياف بساتين زاهرة زاهية، وجروا إليها المياه في أقنية هندسية؛ لذا نقول بحق إن العرب كانوا أكثر مدنية في القرون الوسطى من أوربا كلها
وإني لأقول بحق إن المدنية العربية الأسبانية، نعم المدنية العربية، كانت جوهرة ثمينة في ثقافتها وعلومها الاجتماعية وعمران مدنها وازدهارها في جميع نواحي الحياة، حتى إن مدنية باريس ولندن في هذا العصر لم تمتازا عن حضارة العرب في تلك العصور
إن قرطبة كانت تحتوي على مائتي ألف منزل ذي بناء شاهق وفن متقن، وعلى 600 مسجد ومستشفى وقصور فخمة، وعلى 900 حمام وجنائن هندسية زاهرة، وأكثر من نصف مليون من السكان، ولقد أسس ملوكها مدارس في كل مزرعة وقرية ومدينة، وعلموا الذكور والإناث القراءة والكتابة حتى لم يبق في أسبانيا العربية أمي واحد
ولقد كان في قرطبة جامعة رئيسية؛ وإلى هذه الجامعة كان يقصد عشاق العلم وطلابه، ومن مفاخر هذه الرسالة العربية أن النساء كن يثقفن ثقافة كاملة شاملة
نعم النساء المخدرات كن يجدن القراءة ويعرفن التاريخ والفلك و. . .
وهكذا كان العرب الأسبانيون يشتغلون في كل العلوم، وعن العرب الأسبانيين صدرت شعلة الكيمياء والرياضيات
وأكثر الفنون التي أجادها العرب الأسبانيون: الهندسة والموسيقى والشعر. ومن الأبنية الكبرى التاريخية مسجد قرطبة وقصر غرناطة، وتميز كل منهما بأقواسه وأعمدته وزخرفه
من النسل العربي هذا نحن أبنا أسبانيا، نحن الذين لا نزال نستعمل حتى اليوم الطبل والغناء والموسيقى العربية والرقص العربي
الزراعة والصناعة:
وعناية العرب في الزراعة كانت بالغة الحد الأقصى والعناية التامة، فهم الذين زرعوا النخل، والرز، وقصب السكر، والقطن، الخ. . .
أما الصناعة فقد تفوقوا فيها، وأسسوا معامل للجلد في قرطبة، والورق في البندقية، وهذه المعامل كانت أول معامل من نوعها في العالم
وفي عهد المنصور شعت المدنية العربية فأنارت أشعتها العالم. أما الأسس التي ارتكزت عليها هذه المدنية، أما القطب الذي كونها وأدارها وعززها فهو (القرآن) وسيرة الرسول العربي ليصلوا إلى أمنيتهم السامية في تكوين حضارة صحيحة
وهنا عدد المحاضر أسماء عشرات من نوابغ العرب في أسبانيا ونابغات العرب في العلوم والفنون
ثم تطرق بعد ذكرهم إلى تغلب النصرانية عليهم بسبب تفرقهم وتخاذلهم وتضامن الأمراء المسيحيين واتحادهم سنة 1492
ولقد عرض مشاهد القصور والمساجد والجنائن بالفانوس السحري، فإذا هي من الروائع التي تخلب الألباب، وقال:
نور الدين الإسلامي
المادة الأصلية في المدنية الإسلامية العربية الأسبانية هي نور الدين الإسلامي، الدين الذي يجاري المدنية والحضارة في أرقى وأسمى معانيها
وأستطيع أن أصارحكم مؤكداً أن المدنية العربية هي في الجوهر مدنية شعب يستوحي من
الله
(قل هو الله أحد، الله الصمد)
على أسس هذه العقيدة رفعت أمجاد الجامعة العربية الإسلامية؛ إنها عقيدة دينية، نعم، ولكنها في نفس الوقت أسمى قوة اجتماعية
وختم المحاضرة قائلاً:
انتهى الحكم العربي في أسبانيا منذ خمسة قرون، أجل: ولكن أسبانيا لا تزال عربية، حتى في القرن العشرين لا تزال شرقية، لا في جوامعها وأبنيتها وجنائنها فحسب، بل وفي أخلاقها وعاداتها وموسيقاها، ورقصها وشعرها، وفي تهذيبها ومزروعاتها
ولهذا السبب تعلمون الآن أني عندما شاهدت دمشق شعرت أنني أشاهد أسبانيا، وإذا ذهبتم لمشاهدة أسبانيا شعرتم أنكم في دمشق
من هذا تعلمون أيها العرب أننا اخوة: العرب والأسبان اخوة، نعم اخوة لأن سلالتهم سلالة واحدة، ودمهم دم واحد، وهم من نفس واحدة تكونوا، وثقافتهم ثقافة واحدة وتاريخهم تاريخ واحد، وحضارتهم حضارة واحدة
الأدب بين الخاصة والعامة
لامرتين ورينه جارد
للسيد إسكندر كرباج
تابع لما نشر في العدد الماضي
فيسأل لامرتين ضيفته: هل أصابكِ في حياتكِ ما أحزنكِ وصدع قلبك؟ فتجيبه: مراراً قليلة يا سيدي لأني خالية البال من حمد الله. غير أن لكل أتراحه على هذه الأرض، ولاسيما إذا كان فتاة مثلي لا أسرة لها ولا أقارب ولا زوج ولا بنين، تنام وحيدة وتستيقظ وحيدة لا تسمع في داخل غرفتها إلا سقسقة عصفورتها في القفص. ولكن شاء القدر أن يحرمني هذه الرفيقة اللطيفة بعد أن ألفتها فلقيتها صباح يوم ميتة وقد ضمت قائمتيها وفتحت منقارها وأطبقت أجفانها، وبموتها حلَّت الكآبة في الغرفة فلا سقسقة ولا فرح ولا صداقة، فما أحزن هذه الحالة يا سيدي. ثم تجفف دمعتين كانتا تترقرقان في محاجرها وتزيد على قولها:
إذا لم يكن للإنسان من يحبه ويعطف عليه من أبناء جنسه فأنه يميل إلى الحيوانات وعشرتها. كانت عصفورتي تحبني، وكثيرا ما داعبتها وتحدثت إليها كأنها تنطق وتعقل. يقولون ليس للحيوانات أرواح، ولكن لو لم يكن لعصفورتي روح فبماذا كانت تحبني؟ أبريشها وقوائمها؟ وسمعت أيضاً أن في الفردوس أشجاراً تتفيؤها الأطيار. فأنا لا أرى أقل بدعة في هذا القول، أيمكن أن يكون الله مع صلاحه وعدله مخاتلاً؟
فيسألها لامرتين: هل كتبتِ شيئاً في موضوع حزنك؟
فتجيبه: نعم كتبت لما نظرت القفص فارغاً والنبتة جافة على شباك النافذة؛ طفر الدمع من عيني، فجلست إلى المنضدة ونظمت قصيدة ناجيت بها تلك العصفورة الرقيقة كأنها لا تزال حية تسمعني، ولكنني لم أستطع تكملتها لفرط حزني
فيقول لها لامرتين: أسمعيني هذه القصيدة أو ما تتذكرينه من أبياتها، ولا بأس إذا جاءت متقطعة فبغيتي أن أقف على مبلغ ما فيها من الشعور لا على تناسق قوافيها
فتعمل فكرتها قليلاً، ثم تنشد بصوت رقيق ولهجة مؤثرة أبياتاً من الشعر في وصف عصفورتها وما كان بينهما من الصداقة والألفة
فيشكرها لامرتين على ثقتها به وإظهارها له مكنونات قلبها. ثم تأتي زوجته، وبعد أن تستقبل رينه بشيء من تلك الدالة، وذاك العطف الذي يفقد الغريب بعض حيائه وارتباكه تدعوها إلى العشاء تحت شجرة تداعب أغصانها نسمات البحر محدثة فيها حفيفاً لطيفاً، كان يذكر رينه بحفيف جناحي عصفورتها
ثم يقصدون إلى شاطئ البحر القريب، ويجلسون على مقاعد زورق، ويعودون إلى التحدث، فتقول زوجة لامرتين لرينه: يظهر لي أنك ولوع بالمطالعة، وهي التي جعلتك تتكلمين اللغة الوطنية بهذه البراعة، والتعبير عن عواطفك بمثل هذا الشعر الشجي
فتجيب رينه: نعم يا سيدتي، إن المطالعة من أكبر أسباب غبطتي؛ فبعد اشتغالي النهار كله، وقيامي بواجب الصلاة لله، لا أجد لذة إلا فيها، فمن ينهض باكراً ويخيط حتى المساء يضطر إلى راحة أنامله وتسلية نفسه. إن علاقاتنا مع الجيران لا تتعدى تبادل التحية، لأن النساء ينصرفن إلى إعداد الطعام، أو إرضاع الأطفال؛ والرجال بعضهم يرقد سريعاً لينهض باكراً إلى مواصلة عمله، وبعضهم يصرف وقته وماله وصداقته في الملاهي والمقاهي؛ فماذا تفعل الفتاة المحتشمة مثلي لتمضية الليالي، ولاسيما ليالي الشتاء الطويلة؟ فأما أن تطالع، أو أن تقف جامدة كالصنم تنظر إلى جدران الغرفة، أو إلى ارتفاع دخان الموقد
فتقول لها زوجة لامرتين: ولكن ما هي الكتب التي يمكن مطالعتها؟
فتجيبها رينه: هنا البلية يا سيدتي، نريد المطالعة ولكن لا ندري ماذا نطالع. لقد وضعت الكتب للذين من غير طبقتنا فإذا استثنينا الإنجيلين وكاتب تقليد المسيح لا نجد بين المؤلفين والمنشئين من فكر فينا وجعل قسما من أدبه لنفعنا. من الطبيعي أن يفتكر الإنسان في الذين من طبقته، فواضعو الروايات والمآسي والمهازل، وناظمو القصائد والملحمات، هم من طبقة أعلى من طبقتنا، أو بالحري خرجوا من بيئتنا الخاملة العاملة ودخلوا في بيئات الملوك والأمراء والأشراف والأغنياء والسعداء وغيرهم من الذين يصرفون أوقاتهم عبثاً وأموالهم على الأباطيل
فياقطعها لامرتين: لا لوم عليهم إذا هم نسوا الطبقة التي خرجوا منها، أو تركوها جانباً. وانصرفوا إلى إرضاء أهل البيئة التي دخلوها، فمثلوا أفكارهم، وتكلموا لغتهم، وصوروا
عاداتهم وأذواقهم، فهذا الذكاء وهذه المعرفة وهذا الذوق المكتمل الدقيق الأنيق في الطبقات العالية، وهذه اللغة والعادات لا يمكن أن تكون كلغة وعادات الطبقات الفقيرة قبل أن تسمو بالتربية إلى إدراك كنه هذه الأشياء الجميلة. كان للقدماء كتَّاب وفلاسفة وشعراء عبيد كابيكاتاتو واسابو وتارنسيو، ولكنهم لم يخصصوا أدبهم بالعبيد؛ وكان لهم سقراط، ولكن أفلاطون اضطر إلى شرحه لهم كما اضطر تلاميذ هذا، وهم أكثر منه معرفة إلى تفسيره. وكان لهم شيشرون ولكنه خصص معظم أدبه بأفراد أسرة السيبيون؛ ثم فرجيلوس الذي كان ينشد قصائده الرعائية في حضرة أميرات بلاط أوغسطس قيصر، ولكن الرعاة الحقيقين لم يتفهموه؛ ثم هوراسيو وقد كان ينشد الخمرة والحب المباح بقصائد من الشعر الحافل بالمعاني الملتبسة والصور المأخوذة عن اليونان والتاريخ، غير أن شعوب عصره لم تكن تنشدها وتدركها
فتقول له رينه: هذا حق يا سيدي إذا استثنينا روبنصن وحياة القدسيين فما هي الكتب التي وضعت لنا؟؟ نعم إن لدينا كتابين آخرين هم (تلماك) و (بول وفرجيني)، ولكن الأول كتب لتهذيب حفيد الملك، وهو مما لا يهمنا أمره لأننا لسنا من أحفاد الملوك، والثاني يحرك قلوب الجميع، لأنه يصف لنا جمال الحب وروعته في قلبي حبيبين رقيقين لا يستطيعان الحياة منفردين، وكيف أن مطامع أهليهما حالت دون اتحادهما واكتمال سعادتهما. إن فرجيني ابنة جنرال، وكان لها عمة نبيلة أرادت أن تجعلها سيدة راقية ممتازة فأدخلتها الدير. إنها حوادث عجيبة ومشاهدات رائعة، ولكنها حوادث لم تجر في منازلنا وبين إفرادنا، ومشاهد لم تقع عليها أبصارنا. فمن يكتب لنا الروايات والقصائد؟ لا أحد! أنا لا أدخل في عداد الكتاب والشعراء والمؤلفين، أولئك الذين يجمعون تقاويم تحمل بين ثناياها سخافات الأعوام الغابرة ونكاتها، ويضعون روايات لا تستطيع العذراء مطالعتها إلا خلسة عن أمها، وينظمون أناشيد تترفع الشفاه النقية عن التلفظ بها، ولا أستثني من هؤلاء إلا بيرانجر الذي أظهر آخرا جمال روحه في رباعياته البديعة. فمتى يكون للفقراء مكتبة؟ من يشفق علينا ويؤلف لنا كتاباً؟
أبدت رينه نظريتها تلك برزانة تفوق معارفها، وبلهجة تشفّ عن اعتقادها بفقر طبقتها الأدبي مما حمل لامرتين على الافتكار قليلا في حقيقة ملحوظاتها وأهميتها. وبعد قليل قال
له لامرتين: لقد افتكرت في كل ذلك يا رينه، أما الآن فقد تغيرت أفكاري بعد أن سمعت أقوالك. حقاً إن الشعب الذي يريد التعلّم بالدرس والتسلية بالمطالعة والانتفاع بالخيال والتأثر بالشعور والارتفاع بالفكر، إما أن يموت جوعا وإما أن يثمل بالفساد إذا لم ينتبه لنفسه. لذلك وجب أن تهتم الهيئة، أو أن يخلق الله للشعب هوميروس عاملاً وميلتون مزارعا وطاسين جندياً ودانتي صناعياً وفنلون كوخياً وكورنيل وراسين وبوفون من رجال المعامل لكي يضعوا له ما لا تريد الهيئة الأثرة الكسول وضعه: أي أدبا يمثل عاداته ويعبر عن شعوره. أني أعرض بالفكر ما في المكاتب من المؤلفات النفيسة لأشهر الكتاب وأختار مجموعة صغيرة منها يمكن لأسرة نزيهة من المزارعين والعمال والخدم رجالاً ونساء كهولاً وشباناً أن تغذي بها حياتها الروحية، وأن تتركها على الخوان بغير خوف، وأن تطالع ليلاً وفي أيام الآحاد دون أن يعوزها مترجم أو مفسر، فماذا وجدت؟ وجدت التوراة كتاباً بديعاً حافلاً بالحكايات الشعبية كطفولة النوع البشري ولكنها ملتحفة بالأسرار والعادات الشائنة والغيرة والشرور وغيرها مما يفسد الروح والقلب والعادات فيما لو وضعت في يدي ولد أو تحت نظر الشعب الجاهل دون أن يوجد من يفسر معانيها ويهذب ألفاظها. ثم وجدتُ هوميروس وأفلاطون وسوفلكس وأسكليوس، ولكنهم عاشوا في عصر غير عصرنا، وكتبوا بلغة غير لغتنا، ووصفوا عادات غير عاداتنا؛ ثم وجدتُ فرجيلوس وهوراسيو وشيشرون وجوفنال وتاسيت، ولكنهم كتبوا باللاتينية والشعب لا يعرفها؛ ثم وجدتُ ميلتون وشكسبير وبوبي ودرايدن وبيرون وكرابله، غير أنهم من الإنكليز؛ ثم تاسو ودانتي وبتراركا، وهم ثالوث الشعر الإيطالي؛ ثم شيلر وجيته وفيلند وجزنر، ففي كتبهم صفحات بديعة للشعب لأن الشعر الألماني ينزل إلى درجة الشعب والشعب يرتفع إليه ولكنها بالألمانية؛ ثم سرفنتس وكالديرون ولوبس فيفا، غير أن كتاباتهم هي من النوع الحماسي الذي لا يمكن تجديده الآن؛ ثم الشعر الشرقي السامي بحكمه ومعانيه من هندي وفارسي وعربي، إنها كنوز مستورة من الخيال البشري، ولكن هذه الكنوز الثمينة هي باللغات السنسكريتية والفارسية والعربية، ولا يوجد من يكتشفها وينقلها إلينا
ثم وجدت شعراءنا الفرنسيين القدماء وجل منتوجهم من النوع الروائي الحماسي، وفي المغامرات الغرامية الوقحة والقوافي الأنيقة، وكلها في وصف حوادث البلاط والطبقات
العالية. هذا بسكال، فكتاباته إما مناظرات اكليريكية حول جوهر العقيدة لا يفهمها البسطاء، وإما أفكار عميقة لا يسبر غورها إلا القليلون. وهذا بوسويه؛ فقد اشتهر ببلاغة تعابيره وقوة عارضته في الخطابة، وكان يسرّه أن يرعد ويبرق فوق الرؤوس المتوَّجة وفي قاعات البلاط، ولكن بروقه لم تكن تصعق إلا الشعب الذي كان يستسلم روحا وجسدا إلى سيروس العصر، فهو مجموعة رواميز في اللغة والخطابة لا أكثر. وهذا أيضاً فنيلون، ففي كتابه (تلماك) وفي المراسلات كثير من الأفكار السامية والمبادئ القويمة كالنفس المتدينة والفلسفة الإنسانية والظرف والعطف وروح الفضيلة، ولكنها صفحات بسيطة لا كتاب للشعب. ثم كورني فهو سياسي مختصر، وقد وقف في مستوى لا يبلغه القلب البشري، وأدبه كناية عن عدة مشاهد وأمثال واندفاعات شعرية لا ترضي الشعب الذي يريد الحياة بالإسهاب في شرح العواطف لا باختصارها، والنفس في نظره هي العبقرية، ونفس كورني كانت في الكلام كنفس تاسيت. ثم راسين، فهذا ولد ليكون شاعر الشعب؛ غير أن شعب عصره لم يكن خليقاً به لسوء الحظ، لأن البلاط الذي اجتذبه إليه احتفظ به ضد الشعب، ولا يوافق هذا من أدبه إلا مأساته:(أستير) و (ثعاليا) بالنظر إلى صبغتهما الدينية، وماعداهما يخص الأبهاء. ثم فولتير وهو روح جبارة استوعبت كل المعارف والعلوم، ولكن لم يخرج عن كونه مزيجاً من روح وعقل ونور ونقد ونعومة وخشونة وهزء وجذل وأحياناً وقاحة. إنه لم يكن قط نفساً وحناناً وحباً وعطفاً وشفقة على البائسين؛ كان فيلسوف السعداء ونبيل الأذكياء وشاعراً ضئيل النور لا يتبينه جداً بسطاء القلوب، يضيء في المكاتب ليخبو في الحقل أو في مسكن الفقير
وإذا نظرنا إلى مؤرخينا لا نجد بينهم من كتب للشعب، فمونتيسكيو كثير العلو، ورولين صالح ولكنه شديد الأمانة في ترجمة الماضي فلا يستطيع مطالعته من كانت ساعاته محدودة
وكذلك روائيونا فإنهم اتخذوا أشخاص رواياتهم من الطبقات العالية وعبروا عن العواطف بلغة الأبهاء المنمقة لا بلغة الطبيعة الساذجة. فلا يصلح منها شيء للشعب
ثم فلاسفتنا كديكارت وملبرنش وكونديلك وكل الحديثين، فمهما أعيد طبع مؤلفاتهم فلا أعتقد أن الشعب يقبل على مطالعتها، لأن فلسفة الشعب هي في الشعور لا في الإدراك، فمنطقه
غريزته، وبرهانه تأثره، واستنتاجه دموعه. ومن مؤلفات جان جاك روسو لا يصلح للشعب إلا الصفحات المائة الأولى من كتابه (خوري سابويا) وبعض فصول من (الاعتراف)؛ وكذلك شاتوبريان لا يقرأ من مؤلفاته إلا (رينيه) و (اتالا) حيث امتزجت الفلسفة بالدموع، والحنان بالحب
أما مسارحنا فلا يمثّل عليها إلا ما كتب للملوك أو الطبقات المتأدبة بدليل انصراف الشعب عنها إلى تمثيل الروايات الغنائية التي اخترعها لنفسه. وكذلك علماؤنا فقد كتبوا في الجبر بلغة واصطلاحات تجعل العلوم الطبيعية في حالة الغموض لمن يتمرَّن عليها، فالذي يجب أن يعبر عن العلوم بلغة الشعب البسيطة لم يخلق بعد. إنه خلق ولكن في إنكلترا؛ هو ابن هرسكل
فمن كل ما كتب بالفرنسية لا توجد إلا خمسة أو ستة كتب تصلح للطبقات الجاهلة في المدن والقرى
يعلّمون الشعب القراءة، ولكنهم لا يضعون له الكتب اللائقة به، فهم إما أنهم يقدمّون له مؤلفات كتبت لغيره أو أوراقاً محشوة بالنقائص والوقاحة كمن يقدّم سلاحا لطفل ليجرح به نفسه
(العصبة)
يتبع
إسكندر كرباج
من العصبة الأندلسية
لعبرة في وفاة الملك
ديمقراطية الموت
للأستاذ محمود غنيم
الموت آية، ولكن موت الملوك آية كبرى؛ والموت عظة، ولكن موت الملوك عظة بالغة
بالأمس تهجم الموت على ذلك الحرم المقدس، واقتحم أسوار هذا الحصن المنيع الذي تغضى العيون حياء من مهابته، ولا تلجه الشمس إلا بعد استئذان؛ اقتحم الموت بلاط ابن إسماعيل، وحفيد إبراهيم، والجالس على عرش فرعون، فلم يحدِّد للزيارة ميعاداً، أو لم يحدَّد له ميعاد، ولم يلزم الباب حتى يُسمح له بالدخول كما تقضي المراسيم عند زيارة الملوك، ثم مد يده في أناة ورفق، بل في عنف وقسوة، فسل روح الملك من جسمه، كما تُسل كل روح من كل جسم، ثم انصرف هادئاً مطمئناً، كأن لم يفعل شيئاً، فإذا الحرس واجم، والسلاح كليل، والطب يطرق حياء، وجبين العلم يتصبب عرقاً، وإذا الشرارة تنطلق في القصر، فيندلع لهيبها في مصر، ويسمع دويها في الخافقين!
يا لله! أيمرض فؤاد كما يمرض أي فرد ممن يظلمهم عرش فؤاد؟ كنا نظن عرشه حمى تتحاماه الأسد، وتتقيه عوادي الدهر، فما بال جراثيم المرض تنفذ إلى ذلك الحمى، وما بال ميكروباته تتسرب إليه، وما بال أهون خلق الله شأناً يفتك بأعظم خلقه شأناً؟ حقاً إنه الموت! ديموقراطي، لا يميز بين الملوك والسوقة، ولا يدين بالفروق بين الطبقات
يمرض الفقير، فيرمى أهله بالتقصير؛ يقولون: تهاونوا فاستفحل الداء، أو أساءوا اختيار الأطباء، فما بال الملوك يتقلبون على فراش المرض، ويقاسون ألم النزع، ويتجرعون كأس الحمام؟
أيها البرق، توعك مزاج الملك فطير الأنباء. أيتها الطيارات، احملي من مختلف الأصقاع نطس الأطباء. أيها العلم هات أحدث ما تمخضت عنه معامل الكيمياء. وأنت أيها الموت ما لك جامداً في مكانك لا تريم، هازا كتفيك استخفافاً، مفتر الثغر عن ابتسامة مروعة، تسرح طرفك بين هؤلاء وهؤلاء، في سخرية واستهزاء؟
أهكذا يُفعل بالملوك؟ لك العزاء والسلوة أيها الفقير! ليس المرض وقفاً عليك، وليس الموت وقفاً عليك. إنك لا تتعذب وحدك أيها المسكين، ولكن الملوك أيضاً يتعذبون! الملوك الذين
تنظر إليهم نظرة التقديس، وتخلع عليهم ثوب الألوهية، وتغبطهم في يقظتك، وتحلم بنعيمهم في منامك، والذين تعتبرهم مثلك الأعلى، وتعتقد أن الخطوب لا ترقى إليهم، وأن لهم عيشاً أنعم من الحرير وألين من الماء: هؤلاء يمرضون أيضاً ويموتون، ولعلهم في عيشهم محسودون بما هم منه يبكون!
هذا هو ابن إسماعيل، وحفيد إبراهيم، تُستأصل نواجذه بلا مخدر، فيحتمل راضياً أو كارهاً تعلقا بالحياة؛ وتُشق لثته ثم تخاط بلا مخدر، فيحتمل راضاً أو كارها تعلقا بالحياة؛ وتُحرّم عليه الأسرة، فينطرح على كرسيه ثم ينام أو لا ينام، فيحتمل راضياً أو كارها تعلقا بالحياة؛ وأخيرا هاهي ذي الحياة، تتدلل تدلل الهيفاء، وتجفو فتسرف في الجفاء. وهاهو ذا شبح الموت يقتحم البلاط، رغم كل احتياط!
ماذا تقول النشرات الطبية؟ - القيح! التعفن! التسمم! أسماء تتداولها ألسنة العامة، وكأننا كنا نخالها وقفاً على أبدانهم، وما كنا نظن أنها تعرف الطريق إلى ذوات الملوك، ذوات الملوك المصونين عن العبث، الموضوعين فوق القوانين، الذين لا تنالهم الألسن إلا بالهتاف، ولا الأفواه إلا باللثم، ولا تطأ الشفاهَ أسماؤهم إلا همسا، ولا تنالهم الأيدي إلا بالسلام إيماءً من بعيد؛ في هذه الذوات المقدسة تسري سموم الموت، وينشب أظفاره الموت، والموت ديمقراطي لا يميز بين الملوك والسوقة، ولا يدين بالفروق بين الطبقات
(لا أريد أن أموت) هكذا يقول الملك؛ والملك إذا قال فكلمته مرسوم نافذ، وإذا أشار فإشارته قانون محترم، وإذا أومأ فإيماءته أمر واجب الطاعة، ولكن الموت - قاتل الله الموت - لا يحسن الخضوع للمراسيم، ولا يعرف كيف ينفذ القانون، ولا ينحني أمام أوامر الملوك
مات الملك في الشرق وكان ابنه في الغرب، وقد فصل القضاء بين الاثنين ببحر وبرين، أليس من حق الراحل أن تكتحل برؤية ابنه عيناه قبل أن يفارق الحياة؟ أمنية يظفر بها المغمور الصعلوك، بله الأمراء والملوك؛ أمنية يظفر بها المحكوم عليه وهو من حبل المشنقة قاب قوسين، ولكن الملوك يتمنونها فلا يجدون إليها سبيلاً. إيه أيها الموت! هلا تريثت قليلا حتى يؤوب الغائب؟ إيه يا جنود سليمان! هلا حملت النازح البعيد على أجنحتك التي حملت عرش بلقيس؟ لا هذا ولا ذاك، إذن فليعتز الراحل العظيم، بكتاب ابنه الكريم، ولكن كتاب الولد البار لا يكاد يصل إلى الوالد الواقف على حافة الأبدية حتى يضن
الموت أخيرا كما ضن أولا، وحتى ترتعش اليد رعشة الموت، فيتدحرج الخطاب، وينسدل بين البصر وبينه حجاب، ويلفظ القارئ نفسه الأخير، ويكون آخر ما قبضت عليه يمينه كتاب ابنه المحبوب، وآخر ما فاه به اسم ابنه المحبوب، وآخر ما انطبع في مخيلته صورة ابنه المحبوب
هاهو ذا الملك مسجى على سرير من ذهب لا يرد إليه الحياة، مغطى بأكفان من الحرير لا تخفف من خشونة الموت شيئاً؛ أمامه مباخر من عنبر لا تنفس من سكرة الردى! النعش هو النعش، حملته الأعناق، أم جرته الخيول العتاق؛ والقبر هو القبر من طين وماء، أو من مرمر ورخام، في صحراء جرداء، أو في جوف هرم من الأهرام. أطلقوا المدافع، ونظموا المواكب، وأعلنوا الحداد، ونكسوا الأعلام، فلن تغيروا من حقيقة الموت شيئا. الموت هو هو، ديموقراطي لا يميز بين الملوك والسوقة، ولا يدين بالفروق بين الطبقات
مات الملك فورث ولي عهده تاجا وصولجانا، ونهراً عذبا، ومملكة فيحاء، وأمة مطيعة مخلصة، ولكنه بجانب ذلك فقد عطف الأب البار، وحنان الوالد الرحيم؛ فليت شعري أخاسرة تلك الصفقة أم رابحة؟ وأية الكفتين هي الراجحة؟، لست أدري، ولكن الذي لاشك فيه أن كل شيء يمضي ويعود، حتى العروش والتيجان، ولكن الميت لا يعود، وأن الملك الجديد لو بذل عرشه في سبيل نظرة من أبيه أو كلمة يسمعها من فيه ما سمح الموت، لأن الموت ديموقراطي لا يميز بين الملوك والسوقة ولا يدين بالفروق بين الطبقات
هكذا تتساوى الرؤوس عند الموت بالرؤوس، أو تتساوى الرؤوس بالأذناب، كما تساوت الرؤوس بالرؤوس، أو الرؤوس بالأذناب عند انحدارها من الأصلاب، الكل من التراب، والكل إلى التراب. وما لي لا أذهب إلى أبعد من ذلك، فأزعم لك أن الناس كما يستوون في طرفي الحياة، يستوون في الحياة؛ وأزعم أن في الحياة نصيباً مشتركا من السعادة، وآخر من الشقاء، كل الناس فيهما سواء. وما دام كل إنسان لا يقنع بما هو فيه، بل يمتد نظره إلى أبعد منه، ويتمنى على دهره الأماني، فيبسط له الدهر إحدى يديه، ويقبض الأخرى، فلا يقنع الإنسان عند البسط، ولا ييأس عند القبض، فهو أبدا آمل، كادح، مخفق، ناجح؛ أقول مادام أنه لا سبيل إلى الكمال المطلق، إما لأنه غير موجود، أو لاستحالة الوصول إليه، فالناس في الحقيقة سواء، وما اختلافهم في الجاه والمال والمراكز الاجتماعية إلا أمور
اعتبارية
لا أستطيع أن أعرف السعادة ما هي، غير أن الذي لا أشك فيه أنها ليست المال وحده، وليست الجاه وحده، وليست الجمال وحده، قد تكون مزيجاً من ذلك كله، وقد تكون غير ذلك كله، وقد يكون الألم جزءاً من ماهية السعادة، أو شرطا من شروطها، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تستطيع أن تضع الفوارق بين السعادة والشقاء، أو تومئ بإصبعك إلى شخص معين فتقول: هذا شقي، وإلى سواه، فتقول: هذا سعيد
أيها الراحل العظيم، لقد تبوأت سرير الملك
في ساعة يذر الأسرة نحسبها
…
مثل النجوم طوالعاً وأفولا
ولقد خلفت سرير الملك، وما تزال الجدود عاثرة، والأسرة متناثرة؛ ولكنك عشت ملكا، ومت ملكا. والآن قر في مضجعك، فلا قرار مع الحياة؛ والتمس في باطن الأرض الراحة التي خانتك على ظهرها. إن للملك لهما، وإن للشعوب من الأحمال الثقال، ما تنوء بحمله ظهور الرجال؛ وإن لك في جوار ربك لعوضاً أي عوض. أحسن الله عزاءنا فيك، وبارك لنا في خلفك المحبوب
كوم حمادة
محمود غنيم
الحياة الأدبية في الحجاز
للأستاذ عبد القدوس الأنصاري
نشر الأساتذة: علي الطنطاوي وعبد الوهاب الأمين وسامي الشقيفي وغيرهم في مجلة (الرسالة) الغراء بحوثاً ممتعة عن الحياة الأدبية في أوطانهم، فأجادوا وأفادوا، وجلو لنا بأقلامهم المرهفة حقيقة هذه الحياة
ولما كانت هذه البحوث عبارة عن جزئيات يتألف من مجموعها موضوع كليَّ عام، هو الهدف الأسمى ألا وهو (تصوير الحياة الأدبية في البلاد العربية) رأيت - والحالة ما ذكر - أن أدلي بدلوي وأقول كلمتي عن الحياة الأدبية في الحجاز، استكمالاً لحلقات البحث، ووفاء بحق هذا القطر الذي هو مهد الأدب العربي الأول
كانت الحياة الأدبية عندنا فيما قبل الحرب العامة الماضية تجري على سنن أدباء القرن الوسطى جريا تقليدياً محضا، ميكانيكياً خالصا؛ قصائد غزل ورثاء، ومدح وهجاء، وتطريز وتشجير، ورسائل معذرة وإطراء، وعتاب وتواصل وتقاطع. . . وكانت كل هذه الرسائل وهاتيك القصائد منهوكة القوى المعنوية بما تحمله دواماً من أغلال السجع المرهقة، وأثقال المحسنات البديعية الجافة. . . للألفاظ في الأدب عامةً المقام الأول: أما المعاني فهي في الدرجة الثالثة أو الرابعة في الأهمية. بقدر اقتدار الأديب ناثراً أو شاعراً على تنميق الألفاظ يقاس أدبه، وبموجبه يصدر له أو عليه الحكم
هكذا كان الجو الأدبي هنا محاطاً بسياج من الجمود. . . فلما وضعت الحرب العامة أوزارها استيقظ في نفر من ناشئة الحجاز المتعلمين روح النهوض، وشعروا أن أدبهم قد أخنى عليه التقليد وأفسده داء الجمود، فتركه هيكلاً عظيماً نخراً باليا، نابياً عن الحياة، بعيداً عن مطالبها، فاقداً روح الحياة، فاشمأزوا من هذه الحالة المزرية. وهنا ابتدأ دور العمل في الإنقاذ، ومن هنا ابتدأ عصر التجديد
إلى أين تتجه؟ كيف نجدد هذا الأدب الرث البالي؟ أين الطريق؟ وأين الدليل؟
هنا شاهدنا سببين ممدودين إلينا من أقطار العروبة الناهضة، وكل منهما له مغرياته، هذا الأدب المصري يجذبنا بنصاعة أسلوبه وقوة تركيبه، وهذا الأدب المهجري يسحرنا بمرونة أسلوبه وسهولة تعبيره. كان طبعيا - والحالة كذلك أن يحصل انقسام في اتجاه حياتنا
الأدبية. ففي المدينة كان منا إجماع على اعتناق الأدب المصري أسلوبا وتفكيرا، وفي مكة وجدة تمسكت طائفة بذيول الأدب الهجري، وأخرى اعتنقت الأدب المصري. وكل سار في اتجاهه يكتب ويفكر، ويفكر ويكتب. حتى كان تفاعل فكريّ في الآونة الأخيرة أنتج (توحيد) مناهج الأدب الحجازي في انتهاج سبيل الأدب المصري وحده. ومن هنا وبسبب تضافر الجهود وقوة الاتحاد رأينا الأدب الحجازي يخطو إلى الأمام خطوات سريعة تشف عن استعداد عظيم
على أن حياتنا الأدبية بسبب حداثة عهدها ولكونها نتيجة ثقافة محدودة فأنها ما تزال بحاجة إلى الإصلاح والتغذية، وإلى التنظيم والنضوج. فالاضطراب الفكري والارتجاج الكتابي، ظاهرتان ما تزالان تلازمانها فيما تنتجه من ثمار. ومع هذا فأننا لعلى اعتقاد أكيد باضمحلال هاتين الظاهرتين متى تضافرت الجهود في سبيل الإصلاح
وحياتنا الأدبية إنما تستمد كيانها وعناصرها من الأدب العربي الإسلامي القديم، كمؤلفات الجاحظ وقصائد المتنبي، ومن نتائج قرائح أدباء مصر المعاصرين؛ وقلما تأخذ أية فائدة أو تستمد أية فكرة عن الأدب الغربي رأساً لعدم إلمام الأكثرية الساحقة من القائمين بها باللغات الأجنبية إلماماً يؤهلهم للإفادة والاستفادة
ولقد خطت حياتنا الأدبية خطوات مباركة في سبيل النشر والتأليف، فمع وجود كثير من العقبات والحوائل قد ظهر في عالم المطبوعات كتب أدب حجازية منها: كتاب أدب الحجاز، وكتاب آثار المدينة المنورة، ورواية التوأمان، وإصلاحات في لغة الكتابة والأدب، والتحفة الشماء في تاريخ العين الزرقاء، وحياة سيد العرب، والانتقام الطبعي
وفي الحجاز اليوم صحيفة أدبية هي الأولى من نوعها، وهي (صوت الحجاز) التي تصدر بمكة، وهذه الصحيفة هي المنبر الوحيد الذي يتبارى من فوقه حملة الأقلام في الحجاز، وفي نية بعض إخواننا من أدباء المدينة وشبابها إنشاء صحيفة في المدينة كصوت الحجاز، ونرجو لهم التوفيق، لأن الصحافة كما أنها عنوان رقي البلاد فأنها الباعث الوحيد لإنهاضها وإنعاشها في هذا العصر
وخلاصة القول أن في الحجاز اليوم حياة أدبية، وإحساساً أدبياً، زاخرين بالآمال في مستقبل أدبي مجيد رائع لهذه البلاد. والآمال هي مصابيح الحياة؛ ومادامت حياتنا الأدبية
تحمل بين يديها هذه المصابيح، فإنها ولا ريب بالغة قمة النجاح
(المدينة المنورة - الحجاز)
عبد القدوس الأنصاري
أندلسيات:
أبو الفضل بن شرف
الشاعر الفيلسوف
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
(الناظم الثائر، الكثير المعالي والمآثر، الذي لا يدرك باعه، ولا يترك اقتفاؤه واتباعه؛ إن نثر رأيت بحراً يزخر، وإن نظم قلد الأجياد دُرّاً تباهي به وتفخر، وإن تكلم في علوم الأوائل بهرج الأذهان والألباب، وولج منها في كل باب؛ وقد كان أول ما نجم بالأندلس وظهر، وعُرف بِحوْك القريض واشتهر، تُسدّد إليه السهام، وتنتقده الخواطر والأوهام، فلا يصاب له غرض، ولا يوجد في جوهر إحسانه عرض، وهو اليوم بدر هذه الآفاق، وموقف الاختلاف والاتفاق، مع جري في ميدان الطب إلى منتهاه، وتصرف بين سماكه وسهاه، وتصانيف في الحكم ألف منها ما ألف، وتقدم فيها وما تخلف، فمنها كتابه المسمى يسر البر، ومنها الكتاب الملقب بنجح النصح وسواها، من تصانيف اشتمل عليها الأوان وحواها). . . هذا هو كل ما قاله الفتح بن خاقان في ترجمته لهذا الأديب الشاعر، الفيلسوف، النطاسني أبي الفضل بن شرف. وقد جرى الفتح في هذه الترجمة على شنشنته في سائر تراجمه، فلم يذكر اسم المترجم له، ولا اسم أبيه ولا منشئه، فضلاً عن أنه أغفل تاريخ مولده ووفاته. . وكذلك لم نر لغير الفتح ترجمة لهذا الأديب الكبير يصح أن تسمى ترجمة يعول عليها. . . ولكنا مع هذا أترانا لا نعرض لترجمة أمثال هذا الأديب البارع المتفنن الذي نبغ منه شعرٌ شاعر وحكمة بالغة وكان إلى ذلك نطاسياً عظيما، كما يؤخذ من كلام الفتح، ومن ثم يعد بحق من مفاخر الأندلس؟ وما قيمة عملنا إذا نحن ضربنا الذكر صفحاً عن مغموري أفاضل الأندلس أولئك الذين لم يوف المؤرخون تراجمهم حقها. .؟ وإياك والظن أنا نعني بقولنا مغمورين أنهم لم يكونوا مشهورين في عصورهم، وإنما نعني أنهم مغمورون في نظر أدباء هذه الأجيال. وقليل لعمري من سمع منّا بهذا أبي الفضل بن شرف سماعه مثلاً بابن هانئ وابن خفاجة وابن زيدون وابن عمار وابن وهبون وابن عبدون وأمثالهم ممن اضطرب ذكرهم وكانوا من المشهورين
(وأما بعد) فهل تدري من هو أبو الفضل بن شرف هذا؟ أظنك لا تجهل أديب القيروان وكاتبها وشاعرها أبا عبد الله محمد ابن أحمد بن شرف الجذامي القيرواني قرين ابن رشيق ومنافسه في خدمة المعز بن باديس ومنادمته والمتوفى سنة 460هـ؛ إذن فلتعلمن أن المترجم له هو ابن هذا الأديب القيرواني العظيم واسمه جعفر بن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن شرف المذكور. . دخل الأندلس مع أبيه، وهو ابن سبع سنين، وقيل إنه ولد في الأندلس بعد أن نهد إليها أبوه وأقام بقرية من قراها تسمى برْجَه ومن ثم يقال للمترجم أبو الفضل بن شرف البرْجي. وللمترجم ابن فيلسوف شاعر مثله هو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المذكور - وهو القائل:
وكريم أجازني من زمان
…
لم يكن من خطوبه لي بُد
منشد كلما أقول تناهى
…
ما لمن يبتغي المكارم حد
هكذا يحدثنا المقري عند إيراده قافيَّة المترجم التي يمدح بها المعتصم بن صمادح أحد ملوك الطوائف والتي ستمر بك قريباً. ومن هذا ومن قول الفتح في كلمته التي صدرنا بها هذه الترجمة، (وهو اليوم بدر هذه الآفاق) يستنتج أنا المترجم أبا الفضل بن شرف هذا أدرك ملوك الطوائف ودولة المرابطين، أي أنه عاش في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس
وقد حدثنا الفتح في كلمته بأنه شاعر وأنه فيلسوف وأنه طبيب. أما أنه طبيب فلم نقف له على أثر في الطب ويبدو أنه كان يحترف الطب ويتكسب به وإن لم يؤلف فيه، وربما ألف وضاعت تواليفه فيما ضاع من شتى التواليف. وكذلك الحكم في أنه فيلسوف إذ لم يذكر لنا المؤرخون شيئاً من آثاره في الفلسفة، ولعلهم يعنون بفلسفته ما أثر عنه من الحكم مثل هذه الكلم الجوامع، والحكم الروائع التي أثرت عنه وهي: (العالم مع العلم كالناظر للبحر، يستعظم منه ما يرى وما غاب عنه أكثر. الفاضل في الزمن السوء كالمصباح في البراح، قد كان يضيء لو تركته الرياح. لتكن بالحال المتزايدة أغبط منك بالحال المتناهية، فالقمر آخر ابداره، أول إدباره. لتكن بقليلك أغبط منك بكثير غيرك، فإن الحي برجليه وهي ثنتان، أقوى من الميت على أقدام الحملة وهي ثمان. المتلبس بمال السلطان كالسفينة في البحر إن أدخلت بعضه في جوفها أدخل جميعها في جوفه. التعليم فلاحة الأذهان، وليست
كل أرض منبتة. الحازم من شك فروّى، وأيقن فبادر. قول الحق من كرم العنصر كالمرآة كلما كرم حديدها أرت حقائق الصفات. ليس المحروم من سأل فلم يعط، وإنما المحروم من أعطى فلم يأخذ. يا ابن آدم! تذم أهل زمانك وأنت منهم، كأنك وحدك البريء، وجميعهم الجريء، كلا بل جنيت وجني عليك، فذكرت ما لديهم ونسيت ما لديك. اعلم أن الفاضل الذكي لا يرتفع أمره أو يظهر قدره، كالسراج لا تظهر أنواره أو يرفع مناره، والناقص الدنيء لا يبلغ لنفعه إلا بوضعه، كهوجل السفينة لا ينتفع بضبطه، إلا بعد الغاية في حطه). . . . إلى أمثال هذه الكلمات البديعة الحكيمة الشاعرة الناصعة البيان، المنيرة البرهان، التي لا تصدر إلا عن حكيم جهبذ من الراسخين، وأديب بارع من ذوي القرائح المطبوعين. ويشبه هذه الكلمات من شعر المترجم له قوله:
إذا ما عدوك يوماً سما
…
إلى رتبة لم تطق نقضها
فقبل - ولا تأنفن - كفه
…
إذا أنت لم تستطع عضها
وإذ قد وصلنا إلى شعر هذا الشاعر الفيلسوف كما يطلق عليه الأندلسيون فلنذكر أن شعره الذي وقع إلينا ينم على أنه شاعر متفنن رفيع الطبقة رصين الشعر، دقيق الفكر، لطيف التمثيل. ومن قصائده الفائقة قصيدته القافية التي أنشدها المعتصم بن صمادح أحد ملوك الطوائف، وكان قد قصر أمداحه عليه، وكان يفد عليه في الأعياد وأوقات الفرج والفتوحات. ولما وفد عليه وأنشده هذه القصيدة كان في زي تظهر عليه البداوة بالنسبة إلى أهل حضرة المملكة وإليك هذه القصيدة:
مَطَلَ الليل بوعد الفلق
…
وتَشكيّ النجم طول الأرق
ضربت ريح الصبا مسك الدجى
…
فاستفاد الروض طيب العبق
وألاح الفجر خدا خجلا
…
جال من رشح الندَى في عَرَق
جاوزَ الليل إلى أنجمه
…
فتساقطن سقوط الورق
واستفاض الصبح فيه فيضة
…
أيقن النجم لها بالغرق
فانجلى ذاك السنا عن حلك
…
وانمحى ذلك الدجى عن شفق
بأبي بعد الكرى طيف سرى
…
طارقا عن سكن لم يطرق
زارني والليل ناع سُدْفَه
…
وهو مطلوب بباقي الرمق
ودموع الطَّلِّ تَمريها الصبا
…
وجفون الروض غرقى الحدق
فتأنى في إزار ثابت
…
وتثنى في وشاح قلق
وتجلى وجهه عن شعره
…
فتجلى فلق عن غسق
نهب الصبح دجى ليلته
…
فحبَا الخد ببعض الشفق
سلبت عيناه حَدَّي سيفه
…
وتجَلى خده بالرونق
وامتطى من طرْفه ذا خبب
…
يلثم الغبراء إن لم يعتق
أشوس الطرف عرته نخوة
…
يتهادى كالغزال الخرق
لو تمطى بين أسراب المها
…
نازعته في الحشا والعُنق
حسرتْ دُهمته عن غُرة
…
كشفت ظلماؤها عن يقق
لبست أعطافه ثوب الدجى
…
وتحلى خده باليقق
وانبرى تحسبه أجفل عن
…
لسعة أو جِنة أو أوْلَقِ
مدركا بالمهل ما لا ينتهي
…
لاحقا بالرفق ما لم يلحق
ذو رضى مستتر في غضب
…
ذو وقار منطوٍ في خرق
وعلى خَدّ كعضب ابيض
…
أذن مثل سنان أزرق
كلما نصبها مستمعاً
…
بدت الشهب إلى مسترق
حاذرت منه شبا خَطيّة
…
لا يجيد الخط ما لم يمشق
كلما شامت عذارى خده
…
خفقت خفق فؤاد فرق
في ذرى ظمآن فيه هيف
…
لم يدعه للقضيب المورق
يتلقاني بكعب مصقع
…
يقتفي شأو عذار مفلق
إن يدر دورة طرف يلتمح
…
أو يجل جول لسان ينطق
عصفت ريح على أنبوبه
…
وجرت أكعبه في زئبق
كلما قلبه باعد عن
…
متن ملساء كمثل البرق
جمع الصرد قوى أزرارها
…
فتآخذن بعهد موثق
أوجبت في الحرب في وخز القنا
…
فتوارت حلقا في حلق
كلما دارت بها أبصارها
…
صورت منها مثال الحدق
زلّ عنه متن مصقول القوى
…
يرتمي في مائها بالحرق
لو نضا وهو عليه ثوبه
…
لتعرى عن شواظ محرق
أكهب من هبوات أخضر
…
من فرند أحمر من علق
وارتوت صفحاه حتى خلته
…
بحيا من لكفيك سقى
يا بني معن لقد ظلت بكم
…
شجر لولاكم لم تورق
لو سقى حسان إحسانكمُ
…
ما بكى ندمانه في جلق
أو دنا الطائيُّ من حيكم
…
ما حدا البرق لربع الأبرق
أبدعوا في الفضل حتى كلفوا
…
كاهل الأيام ما لم يطق
(يتبع)
عبد الرحمن البرقوقي
منشئ البيان ورئيس قلم المراجعة بمجلس النواب
الطفل
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مِنْ عالمِ الروح وهو الخلد والقِدَمُ
…
وكان بالأمس يطوي جسمه العَدَمُ
سِرُّ الحياةِ وسر الموت ما برحت
…
تطويه عن فِكَرٍ هَمَّتْ به الظُّلمُ
يُطِلُّ من عينه معنى يزاوله
…
معنى التَّفَهُّمِ لم ترْصَدْ له كَلِمُ
وحيرة هي بعض اللب يبرزها
…
صفو من العين لا خِب فَتَنْكَتِمُ
صفو الغرارة أبهى ما رأى بَشَرٌ
…
ما رَنَّقَ العينَ لا شر ولا ندم
ولم تَشِبهُ تجاريب الحياة بما
…
يدجوله اللحظ والأفكار والشِّيَمُ
ضعف الوليد وهل في القلب مُبّتَعِثٌ
…
نَبْعَ الحنان كضعف ليس يُتَّهَمُ
لأيِّ أمر بدا يَفْتَرُّ مبسمه
…
وما حباهُ بِزَعْمِ الأشيبِ الفَهَم
وكلما بدرت للشر بادرة
…
قلبٌ المُسِنِّ لها حيرانُ يضطرم
يود كل رجيح العقل مكتهل
…
أن لو يعود وليداً أمره أَمَمُ
وليس يبصر أن الشر مُقْتَبَلٌ
…
يعود منه إليه الهم والهرمُ
لكنها مهلة للقلب يَنْشُدُها
…
حيث الصفاء وعيش ماؤه شَبمُ
فلا عداءٌ ولا مكر ولا حِيَلٌ
…
ولا حقودٌ ولا غدر ولا جُرُمُ
حيث الحياة كبيت الله طاهرة
…
لدى الطفولة وهي المَعْبَدُ الحَرَمُ
أو جنة الخلد لا إِثْمٌ لساكنها
…
وما تَجاَوَرَ ذو عجز ومُجْتَرَمُ
إِنَّ الأزاهر والأطفال ما اجتمعا
…
صنوان والحسن فيها طُهْرُهُ عَمَمُ
مرأى يُطَهِّرُ ما بالنفس مِنْ دَنَسٍ
…
حتى يعود بها والخير مُغْتَنَمُ
كم ناقم سَلَّ منه الطفل عادية
…
من الضغائن إذ يرنو وَيَبْتَسِمْ
قد يُحْزِنُ الزهر إذ يذوي أَمِنْ شَبَهٍ
…
بمصرع الطفل رائيه له يَجِمْ
ما أعظم الفقد لو أن الورى خُلِقُوا
…
خلق الرجال وكالأطفال ما وْسِمُوا
لما تَمَلَّى أُناسٌ طُهْرَ ما فقدوا
…
ولا أحبوا ولا حنوا ولا رحموا
عبد الرحمن شكري
دمعة على الصورة.
.!
للأستاذ أبي السمح الفقيه
أغلاماً أرى هنا أم ملاكا
…
وجد العيش في سوى الخلد عجزا؟
فمضى للنعيم غضاً غريرا
…
مستبداً بروحه مستعزا!
نظرات بريئة وصفات
…
فاق أترابه بهن وبزَّا
وفؤاد يسيل في كلمات
…
لك فيه هزت فؤاديَ هزا!
لا أعزيك لا أقول تصبر
…
مثل هذا بفقده لا يُعزَّى!
لا أعزيك فيه إلا بدمعي
…
وبحزن يئز في الصدر أزا!
لهف قلبي عليه وهو ينادي
…
مستغيثاً أباه والغوث عزا!
قد رضينا له ربي الخلد مغنى
…
ولو أن الفراق في الوصل حزا!
كنت بالرزءِ مستهيناً فلما
…
شاهدته العيون ظلت تنزى!
عجبي يضحك الخلي ويلهو
…
والمنايا تجز في الناس جزا!
يبتلي المؤمنون مثلك فيما
…
وهبوه فيسلبون الأعزا!
مكة المكرمة
عبد اللطيف أبو السمح الفقيه
أستاذ اللغة العربية بدار الحديث
إلى الأستاذ أنور العطار
بقلم علي محمد الشلق
أيها الشاعر الذي سال حزناً
…
وجرى ذائباً ولم يتدفقْ
أنت همسٌ ورقَّةُ وهباء
…
ليت هذا القريض عطر فيعبق
يا شباب الشآم أنت فخار الده
…
ر لا بل أعزُّ منه وأعرق
يا شباب الشآم يا وثبة الشر م
…
ق ويا بسمة الرجاء المحقق
ما ترجي بالله من أدب با م
…
كٍ حزين واهي الأماني مُمزق؟
ليت شعري ماذا دهاك لتبكي؟
…
في شباب ضافي الذيول مُنمَّق
ليت شعري ماذا دهاك لتذوي؟
…
في رياض الحياة، والعيش أورق
شاعر الدمع خل عنك قريضاً
…
جاء نوعاً من الكلام المرقَّقْ
قد كفى الشرق ما بكى من دموع
…
كاد لولا الرجاء بالدمع يغرق
قد كفى الشرق وقع تلك المآسي
…
غمرت عيشه بنوم مؤرَّق
ألاسى خطَّةُ الضعيف على الأرْ م
…
ض وسجن على الذليل مُغلَّقْ
(ليس دمعاً من الحنان على الأرْ م
…
ض وكنزاً من المراحم مطلق)
أين عهد (الأعشى) بغرٍّ طوال؟
…
ترفع المجد فوق هام (المحلق)
أين عنا شعر ابن شداد؟ مالا م
…
ن، وما كان بالضعيف المزوّق
نحن نبكي على الهباء وهذا الغَرْ م
…
بُ، نشوانُ بالنجوم تعلَّقْ
(نحن لحن مضرَّجٌ بالمآسي)
…
وهو لحن يولي الخلود فيُعشق
نحن نحبو مع الخشاش ثقالاً
…
وهو فوق السماء بالعلم حلَّقْ
يا رجال القريض أين القوافي؟
…
تتلّظى من الشعور فتحرق
يا شباب الحياة، هاتوا قريضاً
…
كجبين الصباح إن ذرَّ أشرق
وابعثوها شعواء تزجي الأماني
…
ساميات على الكواكب تخفُق
أيقظوا الشرق من سبات عميق
…
أدلج الركبُ وهو بالذل مُوْثق
ما عهدناك أيها الشرق خوَّا م
…
راً، وما كنت في الميادين تُسبق
هُب فالصبح لاح والطير شادٍ
…
صفَّق الروضُ، والضياء تألَّقْ
كلية اللغة العربية
علي محمد الشلق
القبلة الأخيرة
للسيد الياس قنصل
وإذ أدركتْ أن الهنا مرَّ حينُه
…
وأن القضا أفتى ببعد فتاها
أكبَّتْ عليه وهو حيرانُ واجم
…
وأدَّتْ معاني حبِّها شناها
وعادتْ لتشكو دهرها بدموعها
…
وتجلوَ بالآهاتِ بعض شقاها. .
أُهنِّيك من قلبي وأحسدُ برهةً
…
وددتُ لها أختاً وروحي فداها
فقد أبعدتْ عني البحارُ حبيبتي
…
ولم أستطعْ يوم النوى أن أراها
الآلام
// لا تعنُ للشكوى ولا تحزنْ إذ
…
جارتْ عليك بصرفها الأيامُ
فالمرءُ يلبث طينة مجبولةً
…
حتى تشرف نفسَه الآلامُ
عاصمة الأرجنتين
الياس قنصل
القصص
جاسوسة!
لمدير الأكاديمية الفرنسية هنري بردو
ترجمة الأستاذ عبد الحليم الجندي المحامي
لم يبق لمدام (سرمِزِل) أمل في أن تُحَب، فأصبحت لا تطيق أن ترى قلبين يتناجيان
فلقد ودعت المسكينة جمالها إثر حادث سيارة، وعمل الجراح في وجنتيها خير ما هيأت له عبقرية الطب، ورسم أنفها الدقيق رسمه الأنيق السابق، لكن الفن والطب معاً قصرا عن أن يمسحا من صفحة وجهها تلك الشيات الهينة التي ما برحت تشير إلى الحادث. . فعينها التي لم يجسر الطبيب على أن يدنو منها قد اتسعت بعض الاتساع فصارت نظراتها مما يتجمد له الدم في العروق. . وعشيقها الذي حنا عليها في محنتها وسربلها بصنيعه لم يستطع تلقاء هذا (البعث الناقص) إلا أن يطلب نقله إلى وظيفة نائية!. . . ولا يصبر على القبح الجسماني إلا رجل سمت به فضيلته إلى أرفع ذروة، أو رجل يغمر الإيمان فؤاده. . والصديق العزيز لم يكن إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. . .
كانت ما تزال تدعى إلى الأوساط التي كانت تغشاها من قبل، لما عرف عنها من الملاحظة اللاذعة والروح المبتكر. . وفي إبان هذه الدعوات شهدت - وهي تكاد تُجن - ميلاً يبديه المسيو (ريانس) إلى (المدام دي نيج) وكان الداعون والداعيات يفطنون إلى هذا الهوى الناشئ فيجعلون كرسيّ كل منهما إلى كرسي الآخر. . وهكذا في كنف تلك التقاليد التي تواضعت عليها الأرستقراطية المعاصرة (!) تآمرت كل الظروف على أن يترعرع هواهما الوليد في هوائها الطلق الصافي
كانت مدام دي نيج مشغولة بزخرفها مشغوفة بنجاحها في ذلك الوسط الرفيع الذي كانت تتأرجح كالقمري الغريد فوق أفنانه، وكان زوجها منكباً على وجهه في عالم السياسة لا يجد الساعات التي يمنحها فيها الحنان أو يهبها فيها الحب. أما المسيو (ريانس) فقد وفد حديثاً من الريف. . ومعه ثروة الأقاليم وملاحة التبسط وقسمات بديعة كلها أغراء، لكنه كان
يضيف إلى تلك المؤهلات جهلاً تاماً بفن (الرجال مع النساء)
وذات يوم وقع خطأ في (بطاقة الاسم) فجاء كرسي مدام سرمِزِلْ بدلاً من كرسي مدام دي نيج بجوار المسيو ريانس. فقنعت الصديقة بمجلسها النائي وأخذت تبعث إلى صديقها من أقصى المائدة شعاعاً كله الكهرباء. . . فتطلعت (سرمِزِل) فوقع بصرها على ذلك التيار الذي يروح ويجيء بين القلبين فهمست في أذن جارها تقول:
- حقاً إنها جميلة. . وسكت ريانس، فعادت تقول:
- ولكن يا للخسارة! قال أي خسارة؟ قالت ألا تعرف؟ قال أي شيء أعرف؟
قالت إنها (في خدمة البوليس)!! قال: (إنك تمزحين يا مدام) قالت كيف أمزح؟ أو لم تقرأ كتاب (فوشيه) الذي قبلته الأكاديمية أخيراً؟ وحسبها قد أخذت بطرف من الحديث جديد، فقال كلا لم أقرأه، فاستطردت الجارة تقول:(هو مؤلف من جزءين، وإن المرء ليتعلم منه أشياء كثيرة وفيه تفاصيل عن نظام الجاسوسية في عهد الإمبراطور. . . كان في خدمتها سيدات من الطبقة الراقية. . جوزفين نفسها كانت جاسوسة في عهد الديركتوار (حكومة الإدارة)!!! وفي العصر الحاضر سيدات كثيرات من ذلك الطراز تجري عليهن الوزارة أجوراً ليطلعنها على فضائح المعارضة كيما تخضع المعارضة للوزراء. . .)
- ولكن كيف عرفت هذا يا مدام؟
- لا. لا. . . لن أبوح لك بمصادري. . وحسبك أنني أخبرتك
- إذن فهل تسمحين لي بألا أصدق؟
- ولِمَ لا أسمح لك؛ ليس المرء مكلفاً بأن يصدق كل ما يُلقى إليه، لكن عليه - على الأقل - أن يفتح عينيه
وتنقلا في شجون شتى وشؤون متشابهة، حتى إذا فرغ الطاعمون ونهضوا انتبذ من القاعة مكاناً قصياً وبقي فيه. . . . فلم يكن بد من أن تسعى إليه مدام دنيج تسأله ماذا دهاه؟ فأجابها: لا شيء، وأراد أن يُبدي لها بعضاً مما كان يُبدي من تحاياه أو من فيوض هواه. . . فكانت دعابته شوهاء، وحديثه بلا روح
وتعاقبت الأيام وهبط البارومتر، وهدأ التيار، وعملت مدام دي نيج جاهدة لتظهر عدم الاكتراث بما يظهره هو من عدم الاكتراث، ثم جمعت كل ما منحتها السماء من فتون
الأنوثة وخلاعة الأغراء ووجهتهما عليه جميعاً كالتيار الدافق، فلم يُلق إليها بالاً. . . ولما غلبها بأسه غلبها يأسها، فشاهت في وجهها الحياة
لكن الإعجاب الذي مال بكل منهما إلى الآخر، والذي تنضح به غريزة كامنة في أعماقنا جميعاً - غريزة تلك الميول المستعدة لأن تصبح حباً جارفاً عندما تقاوم - هذا الإعجاب جعلهما أوثق اتصالاً كلما حاولا الانفصال. فأخذ الرجل يسائل نفسه: ما علة هذا الجفاء، وكيف يؤمن بالسيدة سرمزل مع أن الملأ طراً قد وصموها بأن الحقد يفري كبدها من سعادة السعداء؛ وتملكه الريب فيما ألقت إليه. . . لكن الكلام كان كالسهم قد نفذ فاستقر في أعماقه. . . وإذن فليس يمكن أن يعلق فؤاده بغرام جاسوسة. . . وشرع يزين لنفسه أشياء ويقبح أشياء. . . وأخذ يقول لنفسه ما يقوله كل ريفي هبط حديثاً إلى العاصمة:(لا، لا يمكن أن تستغفلني باريس!). بلى: فمنأين لها هذه الفراء الفارهة، وهذه اليواقيت، وكل تلك الأعلاق! وراح يحقق أثمان ما يقتنيه الحسان من نفائس ومجوهرات؛ فلما أدركه التعب أخذ يقول لنفسه:(أو لست أنا الذي أصبحت جاسوساً؟!)
وغدا المسكين نهباً مقسما بين الشك والقلق المساور، وغاض من كيانه معين الشباب ومرح الفتوة اللذان إذا أحدقا بغانية سدا في وجهها الأفق ولم يتركا لها منهما منفذا إلا كما تترك خروق (الشبكة) الضيقة للفراش الرشيق
أما هي فقد ذهبت جهودها كلها بددا، فعكفت على قلبها تتسمع خفقاته وتستعذب فيه لذع الحريق
وذات يوم سمعته يخبر الأصدقاء بأنه مسافر، فلم تتمالك نفسها وسألته: إلى أين؟ فأجابها بتحفظ: (عندي)
- أين عندك؟
- في جكس
- قريباً من جنيف؟ فأجابها في سخرية لاذعة:
- هنيئاً للجغرافيا بكعبك العالي يا مدام!. وأنت إلى أين؟ قالت إنني لم أعتزم أمرا. . وهذا يتوقف عندي على أشياء كثيرة
فكرّ على عقبيه ورجع يقول لنفسه: أشياء كثيرة! طبعا. . طبعا! ومن يدري فهي
(مأموريات كثيرة) من يدري أيضاً. . . لا. لا. يجب أن أغادر الديار وأفلت من قبضتها. . . . وظل يأتمر بها مع نفسه وانتهى بأن قال (ستحسبني رحلت فلأراقْبها إذن. . . لأراقبْها أنا)
وتتلمذ حينا من الدهر على (شرلوك هولمز وأتاحت له الظروف فرصاً باهرة. . .
ما هذا: إنها في السيارة والسيارة تنهب الأرض نهباً إلى (المحافظة)!. . . الله! الله!. . . إن السيارة تطير بها إلى الوزارة!. . وزارة الداخلية!! الله أكبر! ما كان أصدقك يا مدام سرمِزِلْ!!. . ما هذا أيضاً: إن السيدة لم تنتظر في غرفة الانتظار. بل انفتح لها رِتاج الوزير فور الساعة!!. . . لا. لا، إنها ذات عهد بتلك المعاهد بلا مراء. . يا لله!. . ماذا كان مصيره لو هوى في ذلك الشرك. . ولو لم توح السماء إلى الناس فيخطئوا مرةً واحدةً ويضعوا بجانبه (المنقذة سرمِزِلْ)
وهكذا بعد أن اطلع عليها ولى فراراً وملئ منها رعباً
وكان قصره في الريف يشرف على عتبات جنيف! وكان اتصال البلد الذي هو فيه بالبلد الذي فيه عصبة الأمم يُسبغ عليه من جو الدبلوماسية ومن مراسيمها، وكانت أول دعوة وجهت إليه دعوة المركيز (دي بريل) وهناك. . . هناك. . ماذا. .! هنا ألفى نفسه وجهاً لوجه أمام من؟ أمام المدام دي نيج نفسها. . بلى، إنها هنالك تقتفي آثاره فيمن تقتفي آثارهم، ما في ريب، ولم يكن بد من أن يتحدثا فتحادثا
- أنت هنا يا مدام؟ أية مصادفة! أية مصادفة!. فحدقت في عينيه، وكان جَلدها قد وهى، بل كان قد انتهى، وقالت:
- لا ليست مصادفة. ألم تقل لي إنك قادم إلى جكس؟ قال:
- كم أنت ظريفة يا مدام! وأظنك لهذا جئت إلى جنيف؟ وشرع يتهكم فجذبته بقوة وقالت:
- لا تسخر مني وقل لي هنا. . هنا على الأقل. . لماذا كنت تتخلص مني؟ وحارت الدموع في مآقيها كالسحاب عندما يتجمع في زوايا السماء الصافية. فجرؤ صاحبنا وتشجع وقال:
بل أجيبي أنت
س: ماذا كنت تصنعين في المحافظة في 10 يوليو؟
ج: في 10 يوليو؟. . دعني قليلاً أفكر. . في 10 يوليو ذهبت إلى المحافظة أبحث عن جواز سفر إلى جنيف. . لأحضر إلى هنا. . قريباً منك
س: وفي نفس اليوم بوزارة الداخلية؟
ج: كنت أعرف الوزير فقصدت إليه أطلب تصريحاً بزيارة عصبة الأمم. وقالت (لكأنك قد تجسست علي). . . (إنك إذن من رجال البوليس)
قال: كلا يا سيدتي، لست أنا. . . ومسح جبينه وهو يتفصد عرقا، وأضاف: ولا أنت أيضا
- إذن هل قال لك أحد شيئاً؟ أو صدقت الذي قيل؟
ولم يكن يقيله من عثرته إلا أن يقول - كالشهود - الحق، وكل الحق، قال:(مدام سرمِزِلْ) فتنهدت الحسناء وقالت: (أفتصدق تلك الفرية فتلوث هذه التي كنتَ. . . التي كنتَ.)
- التي كنت أحبها، ومازلت أحبها كثيرا، كثيراً جدا، جدا، أما هي فلن يتفتح لي قلبها أبدا. . .
أفرَخ روع المدام دي نيج، وشاعت في وجهها نضرة النعيم، وتمشيا معاً في ممر يعطره أرج الربيع، لكأنهما الفكرة البديعة تروح وتغدو في خيال الشاعر. قالت: أرأيت إلى هذا الكمِّ الذي لم يتفتح بعد عن الزهرة! انظر ماذا فعلت بي. . . لقد لوثتني؛ فهل أهبك بعد هذا قلبي؟ خذ هذا الكم ذكرى من ذكرياتي. . . لقد وقع ولكن أثره ما يزال
فأخذ الكم بقوة كأنه ينزعه وقال: وإذا أنا طهرته بفمي من هذا الأثر أفتغفرين لي؟) ثم قضم بأسنانه لفائفه فبدا الطلع من ثناياها وضيئاً مشرقا. قال: (أما الزهرة يا سيدتي فلم تمس بسوء. فهلا تغفرين؟) وازدحم الدمع في موقيه كطفل غرير، وتطلع إليها كأنه يلتمس منها أن تهبه الحياة، فأطرقت في دلّ وخَفَرَ وقالت:(أما الزهرة فأنها لك) ثم عادت لتقول: (لكن عليك أن تغسل شفتيك قبل أن تقبلني)
هنري بردو
درامة من أسخيلوس
الفرس
للأستاذ دريني خشبة
اشترك أسخيلوس في الحروب الدامية التي نشبت بين فارس وهيلاس، وكان ميدانها وطنه والبحار المحيطة به، وقد اشترك كذلك في موقعة سلاميس البحرية التي تحطم فيها أسطول إجزرسيس ثم ظل متصلا بالجيش اليوناني إلى ما بعد انتصاره في بلاتيه وميكالي؛ ولذلك تعتبر هذه الدرامة مصدراً هاماً من مصادر هذه الحروب، ويعدها مؤرخو الأدب اليوناني أصدق مما ورد في تاريخ هيرودوتس بصدد الحرب الفارسية. ذلك لأن أسخيلوس كان شاهد عيان لوقائع هذه الحرب بينما كان المؤرخ اليوناني ما يزال طفلا لا يزيد عمره على خمس سنوات. وقد مثلت الدرامة بعد موقعة بلاتيه بسبع سنوات
- 1 -
ينقلنا أسخيلوس إلى فارس سيدة الأرض، ويطوف بنا دارات عاصمتها (سوس) حتى نقف عند القصر الملكي المنيف، مقر الأكاسرة، وقلب الإمبراطورية النابض. فنحن إذن بعيدون عن ميادين القتال في البر والبحر، لا نشهد الطعن والضرب، ولا نرى إلى فتك الحراقات اليونانية بأساطيل الأعداء، ولا تهولنا هرولة الكتائب الفارسية فوق تلك القنطرة الضخمة من السفن المتراصة بين عُدْوَتي الهلسبنت تنساب فوق بطائح هيلاس كأنها سيل العرم. . . ثم لا يبهرنا عاهل العجم البائس وقد وقف فوق أكمة تشرف على أبيدوس وما يجاورها من شطئان الهلسبنت، يطل على جيوشه الجرارة تعبر البحر الزاخر. . . ويبكي. . . فإذا سأله وزيره:(فيم بكاؤك أيها الملك؟) شهق شهقةً عميقة وقال: (أنظر أيها الوزير: هذه طروادة! وهؤلاء جندي! ويبكيني ألا يكون أحد من هذه الألوف عائشاً بعد حقبة واحدة من الزمان! أليست هذه طروادة؟؟)
لن نرى إلى شيء من ذلك، ولكن نرى عصبة عتيدة من مشايخ فارس وساداتها النُّجُب يتناجون في حديقةْ القصر، متلهفين إلى خبر يذهب بهذا القلق العظيم الذي يساورهم من
جراء انقطاع أخبار الجيش. . . وهم يذكرون دارا الأول، والد الإمبراطور، بخير ما يذكر به ملك شاد دعائم ملكه على العدل، وقاد جيوش بلاده إلى النصر، ورتع في ظله رعاياه في بحبوحة من العز وبلهنية من النعيم. . . وهم كذلك يصفون لنا أبهة جيش أجزرسيس وعظمة جحافله، وهذه الآلاف المؤلفة من الفرسان والمشاة والكماة والرماة، من مشارق الإمبراطورية الكسروية ومغاربها. . . من حفافي السند إلى ضفاف النيل، ومن أعالي دجلة والفرات إلى أسافل النوبة وإثيوبيا. . .
وهم لا يخفون ما يساورهم من قلق، ويخامر قلوبهم من شك في مصير هذا الجيش العرمرم الذي قذفت به آسيا ليهِلك في ربوع أوروبا، ويجوع ويعرى في مشارق جبالها، وتلتقمه الأسماك في بطون البحر المضطرب. . . لاسيما ومنهم من نصح للإمبراطور ألا يجازف بهذا العدد العديد ضد هيلاس، فكان جوابه أن أقام إلى جانبه رجلا من أمنائه يقول له في كل لحظة:(مولاي! لا تنس الأثينيين. . . مولاي: لا تنس الأثينيين)
- 2 -
وبينا هم في تناجيهم إذ تقبل آتوسا - الإمبراطورة الأرمل - زوجة دارا، وأم إجزرسيس، والتي قست عليها المقادير فناءت على قلبها بأحزان إمبراطورية بأسرها!!
تقبل آتوسا فيصمت القوم، ويهرعون إليها يسائلونها عما آل إليه أمر الجيش، وهل أفاءت عليه الآلهة بالنصر المرجو والغلب المنشود؟
فتقول آتوسا: (مواطنيّ الأعزاء، وأبنائي الأوفياء! تسائلونني عما أقبلت فيه، وهرعت إليكم من أجله. . . فوالله لقد ضقت بغرفات هذا القصر على سعتها، وخلتها جحيما على أنها جنة نعيم، أليس فيها كنت أحلم بالخلد في حضن دارا، وأجيل الطرف من شرفاتها معه على أمة سعيدة هادئة ناعمة، عيشها مخفرج، وجانبها عزيز، وسلطانها قوي، وظلها ممدود، وسؤددها يطوي السهل والجبل، وثروتها زاخرة وافرة؟! فماذا أرى اليوم؟ أليس ابني قد جمع خير كل ذلك، ومضى لطيته التي لا يعلم ما وراءها أحد؟ هاهي ذي الرياح تصفر في هذا القصر الذي نأى عنه سيده، فكأنه خراب على رغم خزه وديباجه، وشتى تماثيله وتصاويره. . . ويحي! لقد جئت إليكم يا سادات فارس ألقي إليكم بعبء الوساوس التي تجثم على صدري، وتثقل كاهلي، فهل أجد لديكم الكن الأمين، والمشير الوفي،
والناصح الذي إذا نصح أخلص النصح؟)
- (أيتها الملكة؟. . . نحن عبيدك وبعض رعاياك. . ولك في أعناقنا الولاء والوفاء. . . تكلمي بما تشائين وثقي من إخلاصنا ومحض نصحنا)
- (إذن فما هذه الأحلام المروعة والرؤى المفزعة التي تجتاحني كل ليلة حين آوي إلى الفراش، منذ أن انطلق ابني بهذا الجيش اللجب ليغزو بلاد اليونان؟ على رؤيا أمس لم تكن مثلها رؤيا قط. ذلك أنها كانت واضحة بينة حتى ما تكاد تحتاج إلى تفسير أو تفتقر إلى تأويل. . . رأيت فتاتين هيفاوين ممشوقتي القد، إحداهما دورية ناهدة تميس في حلي وفي حلل؛ والأخرى فارسية سمهرية، تختال في برد ووشى وأفواف. . . رأيتهما تقبلان إحداهما على الأخرى، ثم تأخذان بتلابيب بعضهما البعض، ويكون شجار بينهما، لأن إحداهما بغت على أختها، وحاولت الاستئثار بدارها من دونها. ورأيت ابني إجزرسيس مشرفاً عليهما من مرتقى صعب، فلما استحر القتال بينهما نزل إلى حيث حاول أن يجعل نيره في عنقيهما معاً. . . وذلت إحداهما واستكانت، ولكن الأخرى، ولكن الدورية أبت وأنفت، ودفعت النير بكل ما أوتيت من قوة، فغاصت الفارسية في لجة من دم، وتحطمت عربة ولدي الإمبراطور فوقف حيث كان قبل أن يتدخل بينهما، وأخذ يبكي وينشج، ويشق الأردان ويمزق الجيوب. . . وهنا وقف إلى جانبه أبوه. . . الإمبراطور المبكي، دارا، وطفق يرثي له ويهون عليه
هذه رؤياي يا سادات فارس النجب. . . ولكن ما تزال بقية. . . فإني حينما هببت من نومي، عسيت أن تكون رؤياي أضغاث أحلام، فقلت أتوجه إلى مذبح الآلهة مانعة الضر، أقرب لها وأضحي، عسى أن تنفعنا، وما كدت أغمس يدي في النبع المقدس، وأنثر بخور الند في المجمرة، حتى لمحت نسراً مهيض الجناح لائذا بقدس أبوللو. . . ثم ينقض عليه باز باشق، فما يزال به يوسعه ضرباً وتجريحاً حتى ينتفض النسر ويلوذ بالفرار. . . ويلاه! إن الرؤيين. . . في المنام وفي اليقظة، تفسر إحداهما الأخرى، فيا ترى؟ هل هما نبوءتان على إجزرسيس؟ وهل أعيش حتى أرى ولدي إن كان ما يزال حياً يرزق؟!)
- 3 -
وشده سادات فارس، ونظر بعضهم إلى بعض، ثم أشاروا على الملكة المحزونة أن تذهب
إلى قدس الآلهة، فتقرب لها وتضحي ثم تسأل عن رؤياها، وتتضرع أن تتلطف الأرباب بابنها وجنوده ومملكته، إن كانت الرؤيا حقاً. . . وإلا. . . فلترق الخمر باسم دارا العظيم الذي زارها في رؤيا أمس حين وقف إلى إجزرسيس يرثي له ويهون عليه، فإذا بدا طيفه لها فلتسأله أن يبارك ابنه، ويغدق البركات على فارس كذلك
ويتحول مجرى الحديث فجأة، فتسأل الملكة عن هذه الحرب ما سببها؟ ويجيب السادات أن الإمبراطور أراد أن تخضع له أثينا
- (فإذا خضعت له أثينا؟)
- (خضعت له هيلاس كلها!!)
- (وهل هيلاس من القوة بحيث تحشد لمحاربتها كل تلك الجحافل؟)
- (وكيف لا وهي أقوى دولة في العالم بعد فارس؟ وهل نسينا أنها دمرت جيش دارا؟)
- (أو غنية هي؟)
- (غنية جدا، وفي بطنها ثروة من الفضة لا تقدر بثمن)
(لها بقية)
دريني خشبة
البريد الأدبي
سجموند فرويد في تمام الثمانين
يحتفل العالم هذا الأسبوع بالعالم السيكلوجي الكبير سجموند فرويد لبلوغه الثمانين. . . وقد يبتسم القارئ حين يذكر بيت شاعرنا العربي الخالد (إن الثمانين وبُلّغتها. . . . . .) لاسيما إذا علم أن فرويد المحتفل به، والذي يعتبر واحداً من أعظم علماء العصور الحديثة إن لم يكن أعظمهم جميعاً، هو رجل ضعيف البنية هزيل الجسم، قد تحالفت عليه الأمراض. ولكنه بالرغم من ذلك يملك عقلاً جباراً لا يكل من التفكير، ولا يفتر نشاطه أمام ما ينتاب بدنه من الأوصاب
ولد فرويد في مايو سنة 1856 من أبوين يهوديين في مدينة فريبرج من أعمال مورافيا، والإمبراطورية النمسوية إذ ذاك في عنفوان مجدها. وبعد أربعة أعوام ذهب به أبوه إلى فينا حيث تعلم في مدارسها وقضى صدر شبابه في ربوعها؛ ولما بلغ من العمر التاسعة والعشرين غادرها إلى باريس (1885) بقصد التزود من الثقافة العالية التي كانت باريس مثابتها في هذه الآونة - ولكنه - لأمر ما - لم يلبث في باريس غير سنة واحدة عاد أدراجه بعدها إلى فينا
وكانت نفسه تجيش بآمال كبار، وكان ينظر إلى أساليب التفكير السائدة في أوروبا في ذلك الوقت كأنها أصبحت أساليب عتيقة لا تليق برقي الإنسانية التي تتيه بعصرها الحديث على جميع العصور القديمة والوسطى. وكانت عوامل الثورة في نفس فرويد الشاب تنفجر في الفينة بعد الفينة، ولكنها كانت تكبت بقوة وقسوة تلقاء التيار الرجعي الجارف الذي كان يكتسح النمسا في ذلك الوقت. فلقد حدث أنه ألقى أولى محاضراته بعد أن عاد من باريس عن الهستريا ومسبباتها النفسية الباطنية، وكان ذلك في جمعية الأطباء بفينا، فما كاد ينتهي من محاضرته حتى ثارت في الصالة عاصفة هوجاء من الضحك منه والسخرية به وبآرائه، وحتى انصرف العلماء الأفاضل يتهكمون به ويلمزون آراءه لمزاً شديداً قاسياً! ولقد كان لهذه الصدمة صداها الشديد في نفسه، فآثر أن يعتزل هذا الجمهور الفظ من العلماء الجهلة - إن صح هذا التعبير - وأن يعمل للعلم وحده بعيداً عن ضجيج هؤلاء الأصنام، وبمعزل من صخبهم. بيد أنه لم يسلم، برغم هذه العزلة من خصومه ولدد يثيرهما
عليه كثير من الدوائر العلمية وغير العلمية لا بحجة آرائه المتطرفة فيما هو بسبيله من مباحث ونظريات فقط، ولكن بسبب يهوديته أيضاً
ولم يثر أحد من العلماء حوله من الخصومة مثل ما أثار فرويد، ولكنه ألح بآرائه على خصومه إلحاحاً عجيباً حتى سحرهم بها وحتى جعلهم من أشد المعجبين بها والمتحمسين لها. وبحسبك أن تعلم أنه ما من قصة حديثة أو درامة يقدمها كاتب إلى مسرح من المسارح إلا ولفرويد أثر كبير في صاحبها. فليس في العالم الآن كاتب لم يدرس نظريات فرويد في العقل الباطن، وليس في العالم الآن باحث سيكلوجي أو مرب لم يهتد في أبحاثه أو فنه بمجهودات فرويد وتحليلاته العجيبة لهذه النفس الإنسانية التي لم نكن قبله نعرف منها إلا جانباً قليلاً:
ولقد كتب فرويد - هذا الأسبوع - بمناسبة بلوغه الثمانين - كلمة جاء فيها:
(العقل الإنساني في نظري عبارة عن جبل من الجليد طاف في الماء، لا يبرز منه فوق السطح غير سبعه فقط، أما الأسباع الستة الأخرى فهي دائماً تحت السطح. . .) وكأنه يريد أن يقول إننا لا نعرف من العقل إلا سبعه فقط، أما ستة أسباعه الأخرى - وهو ما يسميه العقل الباطن - فمضمرة، لا نعرف منها إلا القليل. وفرويد على حق في هذا التشبيه الغريب للعقل لأنه هو قد أثبت أن العقل الباطن إن هو إلا خزانة عجيبة اختبأت فيها غرائز الإنسانية الأولى وميولها الفطرية التي هي تراث الأحقاب والآباد والتي تطفو على السطح فتكون ذات أثر بليغ في عقلنا الواعي
وبالرغم مما لهذا الباحث العبقري من آراء ونظريات في الإيحاء والأحلام والاستهواء والمركبات والعُقد النفسانية فأنه ينفي عن نفسه في كلمته التي أشرنا إليها أنه صاحب نظرية أو مذهب أو أنه استحدث علماً جديداً. . . فهو يقول: (يخطئ من يزعم أنني صوفي أعطف على الإنسانية أو أحب الخير للبشر، أو أنني عالم صاحب نظريات استحدثتها بعد أن كانت خافية على الناس. . لا. . لست شيئاً من ذلك. . بل أنا أدع الناس يحلمون أحلامهم وقد أتركهم يستغرقون أنفسهم في مستقبلهم. . . ثم أقف منهم عن كثب ألاحظ وأشاهد وأتفرج. . . ثم أقيد ملاحظاتي، وأقارن وأعلل وأؤلف!)
وعلى ما بلغه فرويد من الثقافة العالية فأنه ما يزال يهزأ من مدارك الإنسان ويدعوها
قشورا لا غناء فيها. . . أو فيها غناء قليل: (ما ثقافتنا هذه؟ ماذا عرفنا من النفس الإنسانية؟ ماذا كشفنا من سر هذه الحياة؟)
والعجيب أن فرويد ما يزال مؤمناً بالإنسانية إلى حد كبير، وهو يتشوف لها عن مستقبل باهر برغم تلك المجازر التي تلطخ وجه الأرض بالدماء من أجل أطماع وضيعة. وهو يقول إن الحرب ستعجل بهذا المستقبل الجميل، لأنها وحدها ستثير الكراهية في نفوس الناس منها فيمقتونها إلى الأبد، ويعدونها كلما فكروا فيها نكسة منهم إلى الوحشية
ولقد عاش فرويد مخلصاً لأبحاثه إخلاصاً مدهشاً، فكان يكب عليها إكباباً يذيب الصبر الجميل، وكان يمقت كل من يصرفه عنها إلى غيرها، وكان كثيراً ما يتمثل بما كان يقوله أناطول فرانس إذا حدثه أحد بهراء لا شأن لأبحاثه به:
' ?)
ولعل أحسن مكافأة لهذا الرجال العالم أن تجتمع لجنة لتكريمه مؤلفة من بعض خصومه بالأمس، وأشد المعجبين والمتأثرين به اليوم، نذكر منهم الكاتب العالمي الأشهر هـ. ج. ولز، ورومان رولان، وستيفن زديج، وجول رومان، وتوماس مان. . وغيرهم وغيرهم. . . ولا ندري هل تشترك كل من روسيا وأمريكا في تكريمه؟ فهو معجب بروسيا وقد تأثر إلى حد كبير بتحليلات دستويفسكي وإضرابه. أما أمريكا فما نحسبها تشترك في هذا التكريم، فهو قد هجا مدنيتها كثيراً، ولم يفته أن يلذعها في كلمته الأخيرة من طرف خفي
ويقال إن لجنة تكريمه ستقترح على لجنة جائزة نوبل أن تمنحه جائزتها عن هذا العام لمناسبة بلوغه الثمانين. ونحن نشك في أن تستجيب لجنة نوبل لهذا الرجاء، فقد عرف أعضاؤها بكراهية فرويد، وهذا هو محل الدهشة
دريني
المعجم اللغوي الوسيط
اجتمعت بمكتب صاحب السعادة وزير المعارف لجنة المعجم اللغوي الوسيط للمرة الأولى وقد رحب بالأعضاء سعادة الوزير وألقى فيهم الكلمة الآتية: -
أحييكم أطيب تحية، وأشكر لكم تلبية دعوتي للاشتراك في عمل المعجم اللغوي الوسيط،
وقد أردت أن أنتهز فرصة الاجتماع الأول لأبين لحضراتكم مبلغ عناية الوزارة وحرصها على هذا العمل الجليل، ولأتشرف بالتعرف إلى من لم يسبق لي رؤيته من حضراتكم
وإنه لحظ سعيد لي فوق كونه حظا عاما أن يشرع في هذا العمل وأنا وزير المعارف، فقد عنيت بهذا الموضوع من سنوات، وكنت أنادي بضرورة وضع هذا المعجم، فهو واجب وطني يفرضه الإخلاص للغة والعلم والدين
ومما يزيدني سرورا أن يكون في تنفيذها هذا المشروع استجابة لقرار المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في سنة 1930، وتحقيقاً لرغبة العالم العربي أجمع. وإنه ليحق لمصر أن تفخر بتلبيتها نداء العالم العربي فوق ما فيه من فائدة خاصة لها
وإني لأعد هذا العمل من أجل الأعمال وأخلدها، بل اعتقد أنه لا فرق بين خلود هذا العمل الجليل وخلود الأهرام إن لم ير بعض حضراتكم أنه أعظم، ففي تحقيقه احتفاظ بهذه اللغة الشريفة، لغة القرآن وتهذيبها من الدخيل، وتحقيق لوحدة الأمم العربية بهذه الوسيلة وهي المعجم
وقد ساعدت العناية الإلهية مركز مصر الجغرافي أن تكون مصر زعيمة الثقافة الإسلامية في العالم العربي، وقد رضيت لها الأمم العربية هذه الزعامة وأقرتها
وإن المشروع الذي أريد أن نبدأ به هو هذا المعجم الوسيط مترسمين في وضعه المنهاج الذي ذكر في قرار تأليف اللجنة حتى يسد حاجة طلاب اللغة ورجال الثقافة من أمثال خريجي دار العلوم ومن في طبقتهم، فإذا ما وفقكم الله وأتممتم المعجم الوسيط شرعتم في وضع معجم مدرسي للجيب يسد حاجة الطلاب المبتدئين، وبعده تفرغون لمعجم بسيط بجميع شوارد اللغة ويسد حاجة الأدباء والعلماء. ثم تأتي بعد هذا مرحلة أخرى هي وضع موسوعة عربية تكون مرجعاً عاماً يتناول الفنون والعلوم والآداب وغيرها، فإذا وفقنا إلى إنجاز هذا كله حق لنما أن نفخر بأن مصر أصبحت بحق عضواً نافعاً في الهيئة الاجتماعية، وأنها قد أدت رسالتها كاملة عن اللغة العربية
هذا هو برنامج وزارة المعارف الذي أرجو أن يكون برنامجاً قومياً يأخذ كل وزير فيه بنصيب، وهذا هو اعتقادي وأملي الذي أرجو أن يتحقق على أيديكم وبفضل معونتكم الصادقة حتى يكون لكم شرف وضعه وإتمامه، ولي بعدكم الثواب من الله على مثل هذا
العمل الجليل
وإن الوزارة حريصة على أن تيسر لكم مهمتكم وهذا هو صديقي وكل وزارة المعارف خير ضمان لتنفيذ ما تطلبون فإن لي فيه الأمل الكبير والثقة العظيمة
كتاب عن مكيافيللي
صدر أخيراً كتاب جديد عن مكيافيللي وعصره بقلم الدكتور اركسين موير وقد صدرت كتب كثيرة عن مكيافيللي وعصره، أهمها وأشهرها المؤلف الجامع الذي وضعه المؤرخ الإيطالي فيلاري عن (حياة مكيافيللي وعصره) ولكن شخصية مكيافيللي وآراءه السياسية والاجتماعية مازالت تشغل البحث في عصرنا؛ بل إن فكرته في الدولة وفي الحكم تتبوأ مكانة هامة. ذلك أن فكرة الدولة تغدو في أوربا مسألة اليوم، ولاسيما الدولة التي تتجسم في شخص طاغية كما هو الشأن في ألمانيا وإيطاليا. ومن المعروف أن الفكرة الفردية قد قضى عليها اليوم في ظل النظم الطاغية الجديدة كالهتلرية والفاشستية، وأن فكرة الدولة تسود كل شيء في هذه النظم، وأن الدولة وكل مرافقها وقواها هي أداة في الأيدي الطاغية التي تشرف على النظام وتحركه؛ ونحن نلمس في فلسفة مكيافيللي أصول هذه النظريات الطاغية، فالكتابة عنها اليوم مسألة لها خطرها. ومما يذكر في ذلك أن موسوليني طاغية إيطاليا درس في شبابه كتاب مكيافيللي (الأمير) دراسة عميقة، وأنه مازال يردد اليوم (أن مكيافيللي يعيش اليوم أكثر مما كان يعيش منذ أربعة قرون) ومن أقوال مكيافيللي المأثورة في كتابه السالف قوله:(إذا كان الحكام جميعاً من الطراز الصالح فعليك أن تفي بعهودك؛ أما وهم خونة لا يفون بعهدهم فعليك من جانبك ألا تفي لهم بعهد)، وهذه النظرية تشتد وطأتها اليوم في أوربا
والواقع أن مكيافيللي أراد في كتابه أن يحلل نفسية أبناء وطنه في عصره وأن يحاول بملاحظته الدقيقة أن يجد ذلك الطراز من الطغاة الذي يستطيع أن يجمع الكلمة، وأن يسبغ على الوطن نعمة الحكم المستنير؛ ولكن الآراء والمبادئ الجافة الخطرة التي تتخلل مباحث مكيافيللي قد طبعت عقيدته في الحكم بطابع أسود، وجعلتها مضرب الأمثال للسياسة الفادحة الخطرة؛ على أن بعض الباحثين يرون أن هذه النزعة ترجع إلى حكم مكيافيللي على مجتمعات عصره، والى اعتقاده بأن الإنسانية تقوم على مبادئ وضيعة، وهو اعتقاد لم
يشاركه فيه كثير من أعلام عصره ولاسيما المؤرخ الكبير جيشارديني
ويستعرض الأستاذ موير في كتابه آراء السياسي الفيلسوف في الدولة والحكم ويقارنها بآراء جيشارديني؛ ثم يورد كثيرا من آراء مكيافيللي في خطبه ورسائله التي تلت كتابه (الأمير)، ويستخلص من المقارنة أن مكيافيللي قد عدل في أواخر حياته كثيرا من آرائه، وأنه كتب الأمير في وقت نقمة ويأس، وأن هذه الروح أملت عليه كثيرا من ألاراء المتطرفة التي عدلها فيما بعد
العالم المسرحي والسينمائي
آراء فنانين ارلنديين في الممثل والمخرج المصري
لناقد (الرسالة) الفني
(أوه يا صديقي! إنني سعيد حقاً إذ أقضي ليلة في مصر أشهد فيها الممثلين المصريين يقومون بتمثيل رواية معروفة كان من حظي أن أقرأها وأن أشهد تمثيلها قبل ذلك في باريس في الهواء الطلق.)
هذا ما نطق به المستر هيلتن ادواردز مخرج فرقة (دبلن جيت) الارلندية التي عملت على مسرح الأوبرا الملكية خلال شهر مارس الماضي بعد أن صافحني في فترة الاستراحة الأخيرة من رواية السيد التي أخرجتها الفرقة القومية المصرية في الأسبوع الماضي. ولقد بادرته بالسؤال: (وما رأيك في تمثيل المصريين؟)
فأجاب بحرارة (اسمح لي يا صديقي أن أقول لك إن المصريين يتمتعون بميزة طيبة، هي جمال الصوت، وإنه ليخيل إلي أن اللغة العربية من أصلح اللغات للمسرح. إني أطرب لها؛ ولكم وددت لو أعرف العربية حتى يكون استمتاعي بالتمثيل أكثر منه الساعة)
(إن بين الأفراد الذين يعملون أمامي مجموعة قوية، مما يدل على أن في المصريين استعداداً قوياً للتمثيل، فلقد علمت أن ليس في مصر معهداً للتمثيل، بل إن نبوغ هؤلاء الأفراد نتيجة جهد شخصي، واستعداد فطري، وهذا فخر كبير لهم. ولقد قرأت هذه الرواية وشهدتها قبل ذلك تمثل، ولكن لم أدرسها ومع ذلك أستطيع أن أقول إني مرتاح جداً إلى قدرة الممثلين المصريين)
قلت: هل لك أن تدلي برأيك في أداء الممثلين الذين يعملون أمامك الآن، وعن ملاحظاتك؟ إنهم يرحبون بكل ملاحظة تبديها وكذلك قرائي يودون أن يعرفوا رأيك
فابتسم المستر ادواردز وقال: (قلت لك إنني لا أعرف العربية فحكمي لن يكون صادقا. على أنني أستطيع أن أقول إنني كثير الإعجاب بالسيدة التي تقوم بدور شيمين حبيبة السيد (زينب صدقي) إنها ممثلة قديرة ويبدو لي أنها تفهم دورها تمام الفهم، وهي تجيد مواقف الكبرياء، وأرجو أن تبلغها إعجابي)
(وإنني كذلك معجب بالملك (منسي فهمي) وأعتقد أنه ممثل قدير، وكذلك أنا معجب بالسيد
(حسين رياض)، ومع جهلي باللغة العربية أحس أنه يجيد الإلقاء، وأنا مرتاح إلى تمثيله. والدون جوميز (زكي رستم) أدى دوره يحتاج إلى الصلف والكبرياء أحسن أداء، وهو يليق لهذه الشخصية)
قلت وما رأيك في السيدة التي تمثل دور ابنة الملك (عزيزة أمير)؟ فأجاب (إنها لا تليق لهذا الدور، وإنها تبدو في مستوى أقل كثيرا من مستوى الممثلة التي قامت به في باريس حتى ليخيل إليّ أنها لم تفهم دورها)
ثم سألته عن رأيه في الإخراج فأجاب (هل من الضروري أن أجيب عن هذا السؤال؟) فقلت أجل، إنه يهمنا كثيراً أن نعرف رأيك. . إن إخراجك قد حاز إعجاب جميع رجال الفن والأدباء من المصريين، وإن من دواعي السرور أن تفصح لنا عن رأيك
أطرق المستر ادواردز قليلا ثم رفع وجهه وقال: (لقد حدثتك من قبل عن رأيي في طريقة الإخراج التي أفضلها. لقد جعلت السينما أي جهد في إخراج الروايات بطريقة نقل الطبيعة ومحاكاتها عبثاً، لأن مجال المسرح محدود؛ والأمر على العكس من ذلك في السينما، ولهذا وجب علينا ألا نعنى بالأشياء الحقيرة والتفاصيل فهي مجال السينما، ولهذا فأنا غير مرتاح إلى اتباع طريقة الريالزم؛ وأفضل الطريقة الإيحائية لأنها تجعل رواد المسرح يشتركون مع الممثل والمخرج في نجاح الرواية والاهتمام بحوادثها، بدل أن تعرض عليهم عرضاً سهلا يبعث النوم إلى جفونهم، ولذلك لم يعجبني إخراج هذه الرواية)
(إن المسرح الحديث يعتمد أكثر ما يعتمد على الإضاءة؛ ولقد رأيت كيف عاونتني في إخراج هملت، وروميو وجولييت وغيرهما، ولكني أرى مخرجكم (زكي طليمات) لم يقصد من الإضاءة إلا أن يكشف المناظر والممثلين للنظارة، ولم يستخدم الإضاءة في غرض أو فكرة خاصة، واستخدامه للضوء يظهر في موقف واحد فقط بين السيد وحبيبته)
(وقد يكون استعمال المناظر المتعددة والستائر الكثيرة مما يلجأ إليه المخرجون الفرنسيون، ولكني أرى أن ما يصلح لفرنسا يجب ألا يفرض على مصر أو غيرها، بل يجب على المخرج أن تكون له شخصية تبرز في إخراجه وتعبر عن نفسيته، وتكون رجع الصدى للبيئة والقومية التي هو منها؛ ويبدو لي جلياً أن مخرج هذه الرواية لم يهتم بدراستها دراسة إخراج)
وكان أول ما صرح به المستر ميكائيل ماك ليمور الممثل الأول لفرقة (دبلن جيت) وواضع تصميم مناظر الروايات، إعجابه بممثل شخصية الملك (منسي فهمي) فهو في رأيه ممثل قدير، وقد أبدى إعجابه أيضاً بالسيدة زينب صدقي في دور شيمين، وهو يتفق مع زميله في أن للمصريين صوتا جميلاً وأن طريقتهم في الإلقاء الشعري بديعة
وقد سألته عن رأيه في الإخراج فأجاب (إن هذا اختصاص زميلي المستر ادواردز فهو يستطيع أن يحدثك عنه حديثاً طيباً، ولكن أقول لك أنه يجب على الفرقة أن تعنى باختيار المناظر وعملها فتضع تصميما لكل منظر تختاره بحيث تسود المناظر روح واحدة وطريقة واحدة. وانتهاج مثل هذا السبيل يعاون المخرج والممثلين على الوصول إلى غور نفوس النظارة.)
(إن فرقتنا قبل أن تخرج أي رواية تعهد بها إليّ وإلى المستر ادواردز فنقوم بدراستها ونضع الفكرة الأساسية التي سيقوم عليها الإخراج وبعدئذ أفكر في وضع تصميم مناظرها) ولو لجأت الفرقة المصرية إلى هذه الطريقة لما رأينا أسلوب تصوير منظر يختلف عن أسلوب المنظر الآخر
فن السينما
بقلم يوسف تادرس وظريف زكي
مقدمة
لا حاجة بنا إلى التنويه بانتشار فن السينما حتى طغى على المسرح، ولا بانشغال الناس به، من نظارة يقبلون على ارتياد دوره، إلى ممثلين يعرضون أنفسهم للظهور على شاشته البيضاء، إلى أدباء ينشئون له القصص والروايات
ذلك على حين أن فن السينما لا يزال في مهده لم يشتد عوده، وأن قواعده لم تخرج إلا بقدر من طور مجرد الإحساس بماهيتها إلى طور الاستقرار والتحديد
على أن ذلك القليل من قواعده الذي استقر وتحدد، لا يزال جمهور النظارة يجهله كل الجهل، ولا يزال الأدباء بعيدين عن درسه وهضمه. ولو عرفه الجمهور ولو بعض المعرفة لزاد استمتاعه بمشاهدة آثاره، ولو درسه الأدباء وهضموه لأفادوا منه الغنى ونباهة الذكر
ونحن إذ نكتب هذا الكلام نمثل أمام أعيننا المشاق التي لا بد أن تكابدها الآن شركة مصر للسينما في مراجعة الروايات التي قدمت إليها في المباراة التي عقدتها، ونتصور الجهاد الجهيد الذي يبذله رجالها في درس تلك الروايات وتنسيقها وإعدادها
لذلك وطدنا النفس وعولنا على بيان قواعد فن السينما والتعليق عليها بالشرح والتمثيل على صفحات (الرسالة) الغراء. متوخين الموضوع قبل كل شيء، نابذين المعقد الجاف من اصطلاحاتها، ساعين وراء فائدة أوفر عدد من الجمهور
وقد وقع اختيارنا على كتاب (ف. أ. بودوفكين) عن حرفية الفلم واتخذناه نبراساً نهتدي به في بحثنا، وكنزاً نغترف منه ونجود به على غيرنا
بودوفكين
وإذا اخترنا كتاب بودوفكين، فلأنه - على وضوح معناه وسهولة عباراته - قد فتح به فتحاً هز أرجاء القارتين الأوربية والأمريكية، ولا غرو فقد تضافرت جميع العوامل لتنصيب بودوفكين متشرعاً للفن السينمائي
فأنه ولد ويعيش في روسيا، وكانت روسيا ولاسيما في السنين الأولى التي تلت الثورة السوفيتية، محرومة من الاتصال بالعالم المتمدن؛ وكانت فقيرة في المواد الأولية التي تغذى بها الصحف والمجلات السينمائية، فانكب رجال الفن هناك على البحث النظري وعلى التجارب، فأتوا في هذين الميدانين بالعجب العجاب
وبودفكين يجري في عروقه الدم الروسي، ممتزجاً بالدم التتري، فكأننا به قد جمع إلى المزاج السلافي الذي يفنى في الفن الخالص، ذلك الجموح وتلك الجرأة اللذين قد وسم بهما الجنس التتري
وهو متزوج من ممثلة سينمائية، سعيد في حياته، مستريح البال مطمئن الخاطر، يستنشق في منزله نسيم الفن الذي جعل حياته له. ناهيك من عقل جبار، وإحساس مرهف، وقدرة على تبسيط العلوم الجافة مما لا يجتمع إلا للأفذاذ أمثال بودوفكين وقليل ما هم
(يتبع)
الكتب
الخطرات
كتاب في الأدب والأخلاق والاجتماع
تأليف السيدة وداد سكاكيني
السيدة وداد سكاكيني مربية سورية لها في ميدان الأدب والإصلاح الاجتماعي جولات موفقة، وهذه الخطرات التي خطرت لها في مرافق المجتمع العربي عامة والسوري خاصة لا ريب تشهد أنها شاعرة متألمة لا تملك غير قلمها وسيلة لإظهار ما تشعر به، وهذا القلم يبدو من خلال هذه الخطرات بليغاً صريحاً حكيما عزيزاً، ومن بين الموضوعات الكثيرة التي حفلت بها هذه الخطرات (الفن القصصي) وفيه تبين الكاتبة مقدار اهتمام الغربيين بذلك النوع من الأدب، وتعيب على القصة المعربة أنها لا تتمشى مع تقاليدنا، ولا تصف طرق معايشنا، ولا تتناسب مع أخلاقنا؛ وتهيب بأدباء العربية أن يكتبوا عن بيئاتهم قصصاً يحللون فيها ما يعتور ظواهر الاجتماع من التطور والانقلاب
وتفرغ الكاتبة عواطفها في مقال جميل عن ذكرى النبي الكريم، تنوه فيه بجهوده كنبي وشارع ومثل أعلى لمكارم الخلق؛ وهي ترى أن ما اعتاده المسلمون من الاحتفال بذكرى مولده بقراءة القصة المعهودة لا يفي بالغاية من الاحتفال والتكريم، بل يجب أن يعنى بتلاوة سيرة من طراز يناسب العصر الحديث، توصف فيها الأخلاق المحمدية والتعاليم الإسلامية وما أحدثته من الانقلاب الخطير في تاريخ الإنسانية
أما إصلاح المرأة فترجعه الكاتبة إلى أحوال المدرسة، فهي تصرح بأن الفوضى في مناهج الدراسة تجعل المدرسة عاجزة عن بث روح النشاط والهمة والتهذيب والثقافة في نفوس النشء، بل تجعل التلميذات (يدخلنها صباحاً بقلوب واجفة وأقدام تصطك خوفاً ورعباً، ويخرجن منها مساءً كالعصافير وجدت بعد طول الأسر حريتها المسلوبة) هذا ما تقوله في وصف المدرسة، ولعلها بهذه الصراحة قد وفقت إلى لفت أنظار القائمين بشؤون التعليم إلى أن الاتجاهات الحديثة في التربية تعنى قبل كل شيء بأن تكون المدرسة مكاناً يحبه التلاميذ ويجدون فيه مجالاً فسيحاً لإرضاء غرائزهم وإظهار مواهبهم وتنظيم رغباتهم في جو
يسوده المرح والاطمئنان
وهكذا وبمثل هذه الروح الطيبة تعالج الكاتبة كثيراً من الموضوعات التي أهمها الأدب العربي، والتجديد في الشرق، والجرأة الأدبية، وشاعرية الخنساء. ونحن نهنئ الكاتبة الفاضلة بذلك الجهد الموفق. ونرجو أن يستجيب المصلحون إلى ذلك النداء الصادق البريء
عبد الفتاح السرنجاوي
القياس في اللغة العربية
للأستاذ محمد الخضر حسين
عضو مجمع اللغة العربية الملكي
للأديب سيد أحمد صقر
القياس فن واسع الأطراف، متشعب المسالك، يمت إلى كل باب من أبواب اللغة بصلة، ويكاد يجري ذكره عند كل مسألة، ولولاه لضاقت الفصحى على أبنائها، وقعدت بهم عن مسايرة ركب الحياة. لم يؤلف فيه - على ما أعلم - غير هذا الكتاب. وسبب تأليفه أن مؤلفه البحاثة الأستاذ محمد الخضر حسين كان يمر أثناء دراسة لعلوم العربية على أحكام تختلف فيها آراء العلماء فيقصرها بعضهم على السماع، ويراها آخرون من مواطن القياس، وقد يحكي بعضهم المذهبين دون أن يذكر الأصول التي قام عليها ذلك الاختلاف. فرأي فضيلته أن التمسك بمثل هذه الأقوال من المتابعة التي لا ترتاح إليها نفس العالم الحر - ولاسيما أن الكتب التي اعتمد عليها أصحاب هذه الأقوال قد أصبحت في متناول أيدينا - فأخذ يوجه نظره الثاقب إلى الأصول العالية التي يراعونها في أحكام القياس والسماع حتى ظفر بقواعده صريحة أضاف إليها غيرها مما استنبطه أو ابتدعه فكان من ذلك (كتاب القياس). شرح الأستاذ في هذا الكتاب حقيقة القياس، وفصل شروطه، وجمع أصوله وضم أشتاتها، وأبرزها في ثوب قشيب، سهلة القطاف للراغبين، وقدم له بمقدمة رائعة في فضل اللغة العربية ونشأتها ومسايرتها للعلوم المدنية، وحاجاتها إلى المجتمع، وتأثيرها في الفكر، وتأثير الفكر فيها، إلى غير ذلك من الأبحاث الموجزة الشائقة، ثم تكلم عن القياس ووجه الحاجة إليه، وذكر أقسامه وخص منها بالبحث القياس الأصلي وقياس التمثيل، وتكلم عن الأمور المشتركة بينهما كالقياس في الاتصال، والترتيب والحذف والفصل إلى آخر تلك المباحث التي طبق فيها المؤلف مفاصل السداد، وأصاب شواكل المراد، ودل بها على تبحره في علوم اللغة، وتمكنه من ناصيتها. بيد أني كنت أحب أن يطلق الأستاذ ليراعته العنان، ويبسط القول بعض البسط، ويكثر من المثل والشواهد لتكون الفائدة بكتابه أعم وأعظم. وإن كان للأستاذ العذر فيما ذهب إليه من الإيجاز
السيد أحمد صقر
سلسلة القصص التهذيبية
عني الأستاذ أحمد فؤاد الصحن بوضع هذه القصص التهذيبية وأخرج منها حلقتين: الأولى (قصة البخيل)، والثانية (قصة الصياد الصغير والسلحفاة)، وفي ختام الحلقة الثانية قصة قصيرة وحكاية مصورة وبعض مشاهدات في مبادئ الطبيعية ومسائل حسابية ومسابقة لطيفة للأطفال، وهذه كلها قصد بها الأستاذ تسلية الأطفال وتزويدهم بطائفة من المعلومات العامة في قالب سهل؛ والكتابة للأطفال لا ريب تحتاج إلى جهد عظيم وعناية فائقة، ثم هي تقيد الكاتب بكثير من القيود، ولعل هذا هو السر في أن الأطفال في مصر ظلوا طويلا محرومين من الكتب التي تناسب مداركهم. وليس من شك في أن الأستاذ بكتابة هذه الحكايات قد أضاف إلى مكتبة الأطفال آثاراً لها قيمتها في تهذيبهم وتثقيفهم وتوسيع مداركهم وتقوية الخيال فيهم. ورجاؤنا أن يعنى الأستاذ في الحلقات القادمة بالإكثار من الصور وجعلها أكثر وضوحاً وأقرب إلى النوع الذي يحاول الأطفال أن يرسموه بأيديهم، فأن ذلك له أثره في تقريب الحكايات وجعلها جميلة سائغة
تاريخ الكشف في مصر والعالم
وضع هذه الرسالة الصغيرة الأديب مصطفى أفندي محمد حسين الرفيق الأكبر لرهط جوالة مدرسة بور سعيد الثانوية، وقد بدأها بترجمة موجزة لحياة (بادن باول) الكشاف الأعظم، ثم تناول الكلام عن تاريخ الكشف مستعرضاً الأنظمة الشبيهة به في التاريخ القديم، فهو يصف في إيجاز شديد النظام الإسبرطي، ثم ينتقل إلى القرون الوسطى، فيصف الفروسية عند العرب والأوربيين؛ ثم يجاوز هذا إلى حركة الكشف الجغرافي في بداية التاريخ الحديث، ويوازن بين أنظمة الكشف القديمة والحديثة، وأخيرا يعرض للكشافة في مصر، وينقد الفرق الأهلية والكشافات المدرسية؛ ويختتم رسالته بفصل عن المعسكرات الكشفية العالمية؛ وبرغم ما في هذه الرسالة من الأخطاء اللغوية الكثيرة فأنها جهد يشكر عليه صاحبه
(ع)