المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 15 - بتاريخ: 15 - 08 - 1933 - مجلة الرسالة - جـ ١٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 15

- بتاريخ: 15 - 08 - 1933

ص: -1

‌بين النيل والاكروبول

إلى الشباب أسوق الحديث

رحلت إلى بعض بلاد الغرب وإلى بعض أمم الشرق فلم أجد شعبا كهذا الشعب هان وجوده على نفسه، وأنطمس تاريخه في ذهنه، فأعطى الضيم عن يد وهو صابر!!

أسرف في اللين حتى رمي بالجبن، وأمعن في التسامح حتى وصف بالبلادة، وأفرط في التواضع حتى نسى الأنفة، وبالغ في إكرام الغريب حتى أصبح هو الغريب!!

فليت شعري يا ابن العرب أو يا سليل الفراعين من أين داهمتك هذه الذلة؟!

نسب يزحم النجوم، وحسب يَطُول الدر، وماض كالشمس نفذ إلى كل أرض وسطع في كل أفق، وواد كرفرف الخلد زخر بالغنى وفاض بالنعم! فكيف لا يرفع رأسك هذا النسب، ولا ينصب صدرك هذا الماضي؟

مالك تمشي في أرضك خافت الصوت، خافض الجناح، ضارع الجنب، كأن النيل يجري لغيرك، وكأنما الآثار تتحدث إلى سواك؟!

لقد أصبحت في بلدك المنكود تحيا حياة الجسم كما يحيا الأجير والخادم، أما حياة الروح التي ينبض فيها القلب بعزة القومية وصلف الوطنية، فقد أماتها فيك الوباء الوافد من كل مكان!

إن إخوانك في سورية لا يحبون الغريب إلا صيفا، وان إخوانك في العراق لا يكرمون الأجنبي إلا ضيفا، أما الدود الذي يمتص الدم ويقذي العيون ويغثى النفوس فلا يجد مغذاه ومرواه إلا على النيل!! وليت الذي قاسمنا أنعُمَ الوادي الحبيب يذكر فضيلة الإحسان، ويشكر عطف الإنسان على الإنسان!! إنما يتمتع بخيرنا تمتع الغازي الفاتح، في يمناه سيفه، وفي يسراه قانونه، فإذا عاملناه احتقرنا، وإذا عاتبناه انتهزنا، وإذا ضج المغبون، أو صاح المسروق، أو صرخ الجائع، ضربه (الخواجة) ضربته، ثم استعدى عليه دولته!!

في أي بلد من بلاد العالم اليوم يأتي محام أجنبي، ليدافع عن مجرم من جنسه أجرم على هذا البلد، فيجد له القضاء في قلب قضاء هذا البلد، وقانوناً بجانب قانون هذا البلد، وقوة فوق قوة هذا البلد، ثم يقوم بين يدي قضاة من جنسه فيقول في بلاغة ديمستين وحماسة مَنْ، لا أدري:

ص: 1

(أظهروا أيها السادة أنكم قضاة تنشقون هواء الأكروبول، وانكم لا تخوضون في ماء النيل العكر)

معك الحق كله يامتر بابا كوس! لقد تركت أثينا في اليونان ثم عبرت البحر فوجدت أثينا في مصر!! فالفنادق للروم، والمطاعم للروم، والمقاهي للروم، والمواخير للروم، ودور السينما للروم، وقاضيك من الروم، وجانيك من الروم، وبقالك من الروم، وحلاقك من الروم، وخادمك من الروم! وإذا طلبت الماء، أو أردت الكهرباء، أو ركبت الترام، أو دخلت البنك، أو قصدت المتجر، وجدت كل ذلك في أيدي أقوام سحنتهم غير مصرية، ولغتهم غير عربية!! فإذا سألت (مخالي) عن المصريين قال لك أنهم أجراء عند (خريمي) في المزرعة، أو سكارى عند (يني) في البار!! معك الحق كله يامتر بابا كوس أن تهين شعبا يسمع إهانته في كل يوم وفي كل مكان فيغضي ثم يمضي! وأي إهانة آلم وأشنع من (الامتيازات) وهي طعن في إنسانيته وقدح في كفايته وتجريح لعدله!! ولكن الحق يبرأ منك حين تقول وأنت وريث أرسطو ومِدْرَهُ أثينا إنك لم تقصد بهذه الجملة إهانة مصر، وإنما هي:(عبارة من عبارات البلاغة التي يستعملها المتكلم عادة) فلسنا من البلاهة بحيث يخدعنا عن جد الجريمة هزل الاعتذار!!

رحم الله أستاذنا المهدي! لقد كان يرى الرجل المتمدن يرمي الرجل المتمدن بالكلمة العوراء يندى لها جبينه، ويغلي منها دمه، فما هو إلا أن يقول الشاتم المتمدن للمشتوم المتمدن (سحبتُها) حتى يجف عرق الجبين، ويكف غليان الدم! فيقول الأستاذ بلهجته العربية:

(عجيب!! كلمة قيلت كيف تُسحَبْ! ولطمة أصابت كيف تُسترد؟!)

لا نريد من شبابنا أن يدفعوا البغي بالبغي، وإنما نريد منهم أن يفهموا الواغلين أن كدر النيل ليس من أهله، وأن الطريق الذي يسفي عليه الغبار والأقذار هو الطريق الذي فتحه لهم الاقتصاد المستعمر، فإذا ملناه ونظفناه عادت إلى نيلنا نقاوته، وإلى شعبنا كرامته

ليس على الأجنبي من حرج في أن يزاحمك في بلدك، فإنما جهاد الدنيا زحمة، وهو حين ينافسك ينافسك في حمى القانون، ويغالبك في حدود الطبيعة، وإنما الحرج كله عليك إذا ظللت تشتري وهو يبيع، وتغرم وهو يغنم!!

نضَّر الله الشباب العاملين!! لقد أخذوا يَجْلون عن وجه مصر الجميل غيرة القرون وذلة

ص: 2

الأحداث وإهانة الدخيل! نزلوا ميدان الاقتصاد جنودا متطوعين، وعمالا متواضعين، فعرفوا أين تكون المعركة الفاصلة بين الاستعباد والحرية، وبين الاستعمار والحق، وشقوا الطريق القاصد إلى إنقاذ مصر من احتلال دولي شديد الخطر قبيح الأثر لإتكائه على العدل واعتماده على القانون

إن (عيد الوطن الاقتصادي) و (مشروع القرى) و (تعاون الشباب) و (تعاون الطلبة) و (جماعة تمصير مصر) وشركات الدخان والألبان والإعلان والجزارة والمقاهي. . . فتح مبين في جهاد مصر الفتاة، وإن تَحَلَل الشباب المثقفين من ربقة التقاليد وإسار العرف فلا يرون غضاضة في أن يقيموا المشارب والقهوات في مولد النبي ومولد الحسين يكونون فيها الطهاة والباعة والنُّدُل والمديرين، لهو تحلل لحاضر الطموح الناهض، من قيود الماضي القنوع العاجز. وليس على أولئك الشيوخ الذين مكنوا بجمودهم وقعودهم للأجنبي فطغى بيده، وبغي بلسانه، إلا أن يطووا معهم هذه الصفحة المخزية من تاريخ مصر، ويتركوا الشباب يجدد ما بلى، ويدعم ما وهى، ويسد ما خلَّ

إن شطط المبشرين قد انقلب إلى تبشير بالإسلام ودعاية إلى المؤسسات الخيرية، فهل تنقلب سفاهة (الممتازين) إلى إعزاز القومية المصرية، وتحقيق الأماني الوطنية؟؟

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌لغو الصيف

للدكتور طه حسين

أيهما خير ياآنسة؛ أن نفترق الآن لنلتقي غدا، أم أن نظل كما نحن رفيقين في السفر والإقامة؟ قالت: بل أن نفترق لنلتقي بعد شهرين في القاهرة أو بعد شهر في باريس. وحسبنا أن قد أقمنا معاً أسبوعاً كاملا في هذه المدينة من مدن البحر نلتقي إذا أصبحنا، ونلتقي إذا أمسينا ولا يفرق بيننا إلا الليل، قال: فإنك إذا قد سئمت هذا اللقاء وطال عليك أمده، وأخذت تودين لو فرقت بيننا النوى دهرا طويلا أو قصيرا! وما رأيك في أني بعيد كل البعد عن هذا السأم، كاره كل الكره لهذا الفراق الذي تحبينه وتطمحين إليه؟ قالت: لك أن تفهم رأيي كما أحببت وأن تقدره كما شئت، وأن ترضى عنه أو تسخط عليه، فمن المحقق أني لم أره لك وإنما رأيته لنفسي، ومن المحقق أني لم أعلنه إليك إلا وأنا محتملة لنتائجه عالمة بموقعه من نفسك وتأثيره فيها، ولن يغير من رأيي ما تبدى وما تعيد، فقل لي: إلى اللقاء ودعني أهيئ أمري فقد دنت ساعة السفر، قال: ما شككت في أن ساعة السفر قد دنت، ولكن الذي أشك فيه هو أن دنو هذه الساعة يضطرنا إلى أن نفترق، فقد نستطيع أن نسافر معا كما أقمنا معا. قالت: فإني لا أريد. قال: ما رأيت كاليوم ظرفا ولا رفقا ولا حسن مودة للأصدقاء، سنفترق يا آنسة ما دمت حريصة على هذا الفراق فهل تأذنين في أن أصحبك إلى القطار. قالت: ولا هذا فإني لا أحب هذا الوداع السريع البطيء في وقت واحد. ولا أحب أن يفترق الناس لأن قوة غريبة عنهم تكرههم على أن يفترقوا فلنفترق منذ الآن واكتب إلي، ولعلنا نستطيع أن نلتقي في باريس. فان أعيانا ذلك ففي القاهرة متسع للقاء المتصل والحديث الطويل. ثم صافحته في قوة وعلى وجهها ابتسام يشبه العبوس، وفي وجهه عبوس يشبه الابتسام.

ولم يكد يقبل المساء حتى كانت ماضية في قراءتها لا يصرفها عنها شيء، كما كان قطارها السريع ماضيا في سيره لا يقفه عنه شيء وكانت حركة الناس من حولها لا تسكن، وحديث الناس من حولها لا ينقطع، وأصوات الناس من حولها لا تهدأ. ولكن شيئا من ذلك لم يكن ليلهيها عن هذا الكتاب الذي غرقت فيه. حتى إذا انتهت بها القراءة إلى شيء من الجهد والإعياء، ووضعت كتابها لتستريح ورفعت رأسها تجيل الطرف فيما حولها لم يرعها إلا

ص: 4

صديقها الأديب جالسا أمامها جلسة المتأدب الخاضع الذي ينتظر أن يفرغ سيده له ويلتفت إليه. فلما رأته لم تدهش ولم تنكر، ولكنها أظهرت ضيقا به وغضبا عليه، وقالت في لهجة حازمة: أتعلم أني أكره هذا النوع من اللعب، وأنك توشك أن تغيظني وتحفظني وتصرفني عنك إن مضيت فيه؟ قال في صوت خافت غير مطمئن: أعلم ذلك حق العلم وآلم له أشد الألم، ولو استطعت أن أكون عندما تحبين ما أثقلت عليك، ولا ترددت في طاعتك، ولا تحولت عما يرضيك. ولكن ما رأيك في أني لا أحب أن أموت، قالت ولم تملك نفسها من ضحك غالبته فغلبها: لا تحب أن تموت؟ قال نعم لا أحب أن أموت، ألم تفهمي بعد؟ قالت: ومتى رأيتني أحل الألغاز؟ قال: والغريب أنك قد عاشرت الفرنسيين فأطلت عشرتهم وأتقنت لغتهم وآدابهم الرفيعة والشعبية حتى كأنك واحدة منهم. فكيف يغيب عنك ما يتحدثون به كلما هموا برحيل أو فراق، وهل تعلمين شعراً وجد عددا ضخما من الرواة، تختلف طبقاتهم وتتفاوت منازلهم كهذا الشعر الذي ينشده الفرنسيون كلما هموا أن يفترقوا إنما السفر ضرب من الموت بالقياس إلى المحبين، قالت: وقد نسيت غضبها واطمأنت إلى طبعها، وخرجت من التكلف ولاءمت بين حديثها ومظهرها، وبين ما وجدت من الغبطة بلقائه الذي كانت ترجوه، والذي كانت تغضب وتحزن لو لم تظفر به، فأنت إذا تريد إلى هذا اللغو من الحديث، قال أنت تزعمين أنه لغو أما أنا فأراه الجد كل الجد، والحق كل الحق. ولولا أن السفر ضرب من الموت لما كرهه المحبون، ولا سخط عليه الشعراء، ولا تغنوا آلامه وأحزانه. ولولا أن السفر ضرب من الموت حين يفرق بين الناس لما رأيتني الآن في هذا المكان بعد أن افترقنا على أن لا نلتقي حتى يمضي شهر أو أكثر من شهر.

ولكني فكرت بعد أن افترقنا، فرأيت أني ميت بالقياس إلى كل الأصدقاء الذين تركتهم في مصر، مهمل بالقياس إلى كل هؤلاء الناس الذين كانوا حولي في نيس، والذين سألقاهم في باريس، وأني لاحتفظ من الحياة إلا بشعاع ضئيل، هو هذا الذي أحسه حين أصحبك وأسمع لك وأتحدث اليك، فشق علي أن أجود بهذا الشعاع، وأن أسلم نفسي للموت المطبق والإهمال المطلق شهراً وبعض شهر، ولولا خوف الموت والضيق بالإهمال ما خرجت عن طاعتك ولا خالفت عن أمرك، ولا عرضت نفسي لهذا الغضب اللاذع وهذه الثورة المهينة. قالت: فقد عدت إلى ذكر الغضب والثورة كأنك تريد أن أنكرهما أو أعتذر منهما أو أنبئك

ص: 5

بأني تكلفتهما تكلفا، واصطنعتهما اصطناعا. قال: لا تنكري شيئا ولا تعذري من شيء، فأنا معترف بأني ملح، وأنا معترف بأني مثقل في الإلحاح، ولكنك تعودت احتمالا لهذا الثقل، وتجاوزا عن هذا الإلحاح، فدعي حديثهما وحديث الغضب والثورة، وحدثيني عن هذا الكتاب الذي لم تكادي تقبلين عليه حتى ألهاك عن كل شيء، وصرفك حتى عن هذه المناظر البديعة الخلابة التي تعرضها عليك الطبيعة عرضا سريعا أثناء سير القطار. قالت: هذا كتاب تعجب إن عرفت أني أقرأه للمرة الخامسة، فأنا لا أعرف كتابا أهون ولا أيسر ولا أمتع ولا ألذ من هذا الكتاب أثناء السفر الطويل، أو حين يلح على الحزن الثقيل. هذا كتاب من كتب كورتلين، قال: هو كتاب (قطار الساعة الثامنة والدقيقة السابعة والأربعين) قالت: هو ذاك، قال: فإني لم أقرأه خمس مرات، لكني قرأته ثلاثا، ولولا أني علمت أني سأصحبك في القطار لقرأته للمرة الرابعة! فأنا مثلك معجب بهذا الكتاب إعجابا لا حد له، والغريب أني لا أدري بماذا أعجب من هذا الكتاب! بمعانيه أم بألفاظه أم بأسلوبه، أم بهذه الصور الرائعة التي يعرضها علينا في غير انقطاع؟ أم بهذا كله مما أعرفه، وما أحسه دون أن أعرفه، فهذا الكتاب عندي آية من آيات الأدب الفرنسي. قالت: وعند كثير من الفرنسيين أيضا، وإذا لم تكذبني الذاكرة فقد كان أناتول فرانس مشغوفاً به شغفاً عظيما، لست أدري أكان يعده بين آيات الأدب أم لا. وأني لأرجو أنه لم يضعه بين هذه الآيات فقد كان أناتول فرانس يضيق بآيات البيان ويرى أنها ثقيلة مملة، وليس في هذا الكتاب شيء من الثقل ولا الإملال. قال: ومع ذلك فان في هذا الكتاب ألفاظا لا تكاد تحصى وجملا لا يكاد يبلغها العد، وكلها خارج على النحو الفرنسي، مخالف لأساليب البيان المألوف. قالت: فهذا مظهر من مظاهر الجمال في هذا الكتاب، ومصدر من مصادر الإعجاب به، وسبب من هذه الأسباب التي تضطرنا إلى مراجعة النظر فيه. وما رأيك لو أن كورتلين أنطق أبطاله بهذه اللغة الفرنسية الفصحى، وأجرى على ألسنتهم هذه الجمل الأدبية الرائعة التي تجدها في كتب كورتلين نفسه وفي كتب غيره من الأدباء؟. إذا لما وجدت في الكتاب لذة كهذه اللذة التي أجدها الآن، ولعلي أن أعجز عن المضي في قراءته إلى آخره فضلا عن أن أقرأه مرات. إن للغة الفصحى خطرها وقيمتها، وهي مقياس البيان وظرف الأدب، ولكنها قد تسخف وتسمج إذا جرى بها لسان هذا الجندي الذي اتخذه كورتلين بطلا لقصته.

ص: 6

قال: هذا حق ومهما أنس فلا أستطيع أن أنسى هذه الجملة الطريفة التي يرددها جندي كورتلين كلما وقف موقف الحرج أمام الكابتن: ` فلولا هذه اللحنة الظريفة الشائعة، التي تجري بها ألسنة العامة من الفرنسيين والتي أذاعها كورتلين، حتى تفكهت بها الخاصة لما كان لهذه الجملة موقع في النفس حسن، ولا منزل من القلب عجيب. قالت: وكل كلام الجندي وكلام رفاقه ظريف محبب إلى النفوس لأن ما فيه من اللحن والتواء الأسلوب يصور روح الشعب كما هي صريحة مستقيمة لا غموض فيها ولا التواء. قال فأنت إذا من أصدقاء اللغة العامية وأنصارها، وماذا لو عرف أعلام البيان في مصر عنك هذا الرأي؟. قالت: لا أصنع شيئا فليس يعنيني أن يعرفني أو ينكرني أعلام البيان في مصر أو في غير مصر. وما تعودت قط أن أرى الرأي فاسأل نفسي عن حظه من رضى الناس أو غضبهم. قال: قد علمت ذلك حق العلم وجربته حق التجربة، ولم تمض ساعات على هذه التجربة اللذيذة الأليمة معا. ألست قد زعمت لي؟ قالت: لم أزعم لك شيئا! فلا تعبث ولا تفسد علينا بهذا الاستطراد ما نحن فيه من الحديث، لست من أصدقاء اللغة العامية، ولكني لست من أعدائها. وما أذكر أني كتبت شيئا باللغة العامية، وما أظن أني سأكتب بها شيئا؛ لأني لا أحب ذلك، ولو أحببته ما قدرت عليه. ولست أرضى أن تصبح اللغة العامية لغة البيان الأدبي، ولا أعطف على كاتب يتعمد الكتابة بها ويتخذها ترجمانا لما يريد أن يعرضه من الخواطر والآراء، ولكني على هذا كله لا أستطيع أن أمحو هذه اللغة، ولا أستطيع أن أنكر أن لها جمالا تنفرد به أحيانا وتعجز عنه اللغة الفصحى. ولا أستطيع أن أمحوها من قلوب الأشخاص الشعبيين وأضع مكانها اللغة الفصحى، وأوفق مع ذلك إلى تصوير هؤلاء الأشخاص الشعبيين تصويرا صادقا كل الصدق، جيداً كل الجودة، متقنا كل الإتقان. قال وهو يبتسم ابتسامة ملؤها المكر والخداع: ألا تعجبين أن ينتهي بنا الحديث عن كورتلين إلى الحديث عن توفيق الحيكم؟ قالت: ومن توفيق الحكيم؟ ما سمعت به قبل اليوم!. قال: فأنت إذا من أهل الكهف. قالت: وأي عجب في أن أكون من أهل الكهف، ومتى زعمت لك أني أعرف الناس جميعا أو أقرأ للناس جميعا؟!. قال فان أهل الكهف عنوان قصة لتوفيق الحكيم هذا الذي لم تعرفيه ولم تسمعي به، وأؤكد لك أني اكره لك هذا الجهل. فتوفيق الحكيم شاب خليق أن يعرف، ومن العيب كل العيب أن يجهله أديب

ص: 7

شرقي. ولكنك قد أقررت على نفسك بأنك من أهل الكهف فلا لوم ولا تثريب. قالت: قد أقررت وأنا خليقة أن ألام فأنبئني عن توفيق الحكيم، وكيف انتهينا من حديث كورتلين إليه، وأي سبب بين هذا الشاب المصري وهذا النابغة الفرنسي؟ قال: بينهما سبب لا أدري الآن ما هو، ولعله أن صدقت الظنون وتحققت الآمال أن يكون التفوق والنبوغ، ولعل الله قد أذن لمصر أن يكون فيها كورتلين كما كان في فرنسا. قالت: فإني لا أحب الإطالة، ولا أحب الالتواء، فأوضح وأبن عما تريد. قال توفيق الحكيم يا آنسة شاب مصري، ظهر فجأة بقصة تمثيلية أنت أحد أشخاصها. قالت: أنا أحد أشخاصها! ماذا تقول؟ قال: نعم! لأن أشخاصها أهل الكهف، ولست أريد أن أطيل في تقريظ هذه القصة. وإنما أقول أني قرأت في هذا العام قصصا تمثيلية كثيرة ظهر بعضها بالفرنسية، وبعضها بالإنجليزية، وبعضها بغير هاتين اللغتين. وترجم أليهما أو إلى إحداهما، فكانت قصة أهل الكهف هذه خير ما قرأت من هذه القصص كلها وأحسنها موقعا من نفسي، وأشدها إثارة لإعجابي. ولست أدري أمعجب أنا بموضوعها أم بأسلوبها السهل، أم بألفاظها الساذجة أم بتحليلها الدقيق أم بهذا كله، ولست أشك في أن إعجابي بها سيضاعف منذ اليوم لأنك أحد أشخاصها. ومن يدري لعلك برسكا التي صورها توفيق الحكيم! قالت: وقد ضاقت بهذا المزاح: لو كنت برسكا لما جهلت مبدعي! قال: كم بين الناس يعرفون مبدعهم؟ قالت: وقد كتب صاحبك هذه القصة باللغة العامية؟ قال: لا، بل بلغة لا تبعد كثيرا عن العامية. وليست هذه القصة هي التي ذكرت حين تحدثنا عن كورتلين، فان لتوفيق الحكيم قصة أخرى غير تمثيلية سماها عودة الروح. والغريب أن أهل الكهف ظفرت أول الأمر بإعجاب الشباب والشيوخ جميعا. فلما ظهرت عودة الروح تنكر لها بعض أعلام البيان في مصر، ودعا هذا التنكر بعضهم إلى أن يراجعوا إعجابهم بأهل الكهف فيخففوا منه ويقتصدوا فيه. أما الشباب فأضافوا إعجابا إلى إعجاب، ورضى إلى رضى وبدءوا يتخذون هذا الكاتب الشاب قدوة لهم ومثالا. قالت: وماذا ينكر أعلام البيان من عودة الروح؟ قال لغتها، فهي ككتاب كورتلين أبطالها شعبيون فينطقهم المؤلف بلغة الشعب. ولعله يغرق في ذلك بعض الشيء، وأعلام البيان يكرهون ذلك ويحرصون على إلا تظهر آيات البيان إلا في اللغة الفصحى، وهم يضنون بهذا الشاب على أن ينفق جهده الخصب ويضيع وقته العزيز في هذه اللغة

ص: 8

المبتذلة، قالت: ولكن القصة نفسها ما رأيهم فيها؟ فليست القصة ألفاظا خالصة ولا معاني خالصة، وإنما هي قوام من الألفاظ والمعاني، ولا بد من أن يستقيم لها جمال اللفظ وجمال المعنى، فهب ألفاظها رديئة عند أعلام البيان فما حكمهم في معانيها؟ قال: قرأها بعضهم لم يظهر رضى ولا سخطا، ولم يستطع بعضهم الآخر أن يقرأها فعابها لأن لغتها العامية صرفته عن قراءتها. قالت: فهذا بخل بالإنصاف وتجاوز للقصد، وقد شوقتني إلى أن أقرأ هذين الكتابين، ولكن هلا حدثتني عنهما حين كنا في القاهرة. قال ومتى حدثتك في القاهرة عما كنت أريد أن أحدثك عنه، إنما نلتقي فتمضي الأحاديث بيننا كما تريد هي لا كما نريد نحن، ولولا أني سألتك عن هذا الكتاب الذي تقرئين لما جرى بينك وبيني ذكر لتوفيق الحكيم، وهل فرغنا من الحديث عن أنفسنا لنتحدث عن هذا الأديب الجديد. قالت: كم كنت أحب أن اظفر بكتابيه لأفِرَّ إليهما منك ومن نفسي فقد يخيل إلي أنا نسرف في الحديث عن أنفسنا ونغلوا في الإعراض عن غيرنا. وقد يخيل إلي أن بين هؤلاء الكتاب الناشئين من هم أحق بعنايتك وعنايتي من هذا اللغو الذي نخوض فيه كلما التقينا. قال: وعلى ذكر كورتلين وتوفيق الحكيم، ما رأيك في هذا الكتاب الفرنسي الجديد الذي كثر الكلام فيه، واختلف فيه أدباء فرنسا كما اختلف أدباء مصر في كتاب توفيق الحكيم؟ قالت: وما ذاك أيضا؟ قال ماذا، ألم تقرئي كتاب سيلين الذي سماه سياحة في آخر الليل؟ ألم تقرئي ما كتب النقاد حول اللغة التي ألف فيها هذا الكتاب؟ قالت لا، قال وهو يضحك: معذرة فقد أنسيت أنك نائمة، وأنك من أهل الكهف. قالت: وقد رمته بكتابها مغيظة منه محنقة عليه: هبني نائمة فما لك لا توقظني وما اختلافك إلي في القاهرة، وما لزومك لي في نيس، وما مرافقتك لي في هذا القطار على كره مني. قال وقد أغرق في الضحك: إنما رافقتك في القطار يا آنسة لاوقظك، ولأخرجك من الكهف، ولأنبئك بأن في مصر شابا يقال له توفيق الحكيم كتب قصة يقال لها أهل الكهف، وأخرى يقال لها عودة الروح. وبأن في فرنسا أديبا جديدا يسمي نفسه سيلين، وقد أظهر كتابا أسماه (سياحة في آخر الليل) اختلف الناس فيه اختلافا كثيراً. قالت: فيم اختلفوا قال: في لغته فهو أيضا مسرف في حب العامية، وأنا معجب بكتابه إعجابا شديداً، مبغض للغته بغضا شديداً لأنه يتعمدها تعمداً ولا تدفعه اليها الحاجة ولا الضرورة ولا الرغبة في التصوير الصادق والتعبير الصحيح. وكل هذه الكتب

ص: 9

عندي أستطيع أن أعيرك إياها لتقرئي وتحكمي ثم لنتحدث بعد ذلك. قالت: فابدأ بقصة أهل الكهف فأعرني إياها منذ الآن فسأنفق ليلتي بينها وبين كورتلين. قال: ولكن أليس خيرا منها ومن كورتلين ان ننفق ساعة أو بعض ساعة؛ لا أقول في الحديث فقد يظهر انك سئمته وضقت به؛ وانما أقول في العشاء فإني اسمع جرس الخادم يدعو اليه؟!

ص: 10

‌الاشعاع

للأستاذ احمد أمين

كتب أخي الدكتور احمد زكي في مجلة الرسالة مقالا ممتعا في الإشعاع في (باب العلوم) تكلم فيه عن اشعاع الشمعة والنجوم والشمس والإشعاع اللاسلكي وموجات الضوء واختلافها، فأوحت مقالته إلي معاني في الإشعاع النفسي.

ان للنفوس والعقول إشعاعات لا تقل جمالا عن إشعاعات النجوم والكواكب، نشعر بها وقد لا نستطيع التعبير عنها، وهي أشد غموضا وتعقدا من الإشعاع الحسي، وهي مختلفة أكثر من الاختلافات بين أشعة الألوان من حمراء وبنفسجية وتحت الحمراء وفوق البنفسجية وما بين ذلك، وهي مختلفة في القوى أشد من اختلاف المصابيح الكهربائية، فلئن كانت قوة المصباح شمعة أو شمعتين أو ألفا أو ألفين فللنفوس قوى تختلف إلى ما لا نهاية له صغرا وضآلة، والى ما لا نهاية له عظمة وسناء

لعلك تشعر معي أنك ترى الرجل أو تحادثه أو تجالسه أو تسمع لمحاضرته فيشع عليك نوعا من الاشعاع يخالف الآخر قد تحسن التعبير عنه وقد لا تحسن، فهذا يشع عليك سرورا وأريحية واطمئنانا، وهذا يشع حزنا ووجدا ورقة وحنانا، وذاك يشع هيبة وجلالا ووقارا، وآخر يشع ضعة وذلة وهوانا، وقد تحس من رجل بنوع من الأشعة تدركه وتستطعمه، ولكنك لا تستطيع وصفه كما إذا أكلت كمثرى وتذوقتها وأردت أن تصف طعمها لمن لم يذقها.

في الناس من إذا جالسته أشع عليك نورا أضاء لك ما بين جوانبك فأدركت نفسك، وأشع نورا على العالم الذي حولك فتبينته وعرفت محاسنه ومساوئه، وأدركت مكانك منه، ورأيت كل شيء حولك صافيا لينا كأنك تنظر اليه من مصباح (المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار).

وفي الناس من يجالسك فتتلقى منه أشعة مظلمة تنقبض لها نفسك وتظلم جوانبها وتحس بميل إلى الفرار منها، وتتنفس الصعداء إذا بعدت عنها ونجوت من ظلامها وخرجت إلى النور.

ص: 11

قديما قالوا: (ان وردة عمر أهيب من سيف الحجاج) ذلك لأن عصا عمر معها يد عمر ومعها نفس عمر، وهي تشع جلالا وعظمة وتخضع أمام أشعتها نفوس الجبابرة، ويحس كل من وقعت عليه هذه الأشعة أنها صادرة من مستودع قوي دونه المصباح الكهربائي، البالغ ما وصل اليه العلم من القوة، وأما سيف الحجاج فمعه نفس الحجاج، وهي تشع من غير شك قوة، ولكنها قوة على الجسم لا على الروح، قوة تخاف وتُرهب ولكن لا تُحترم ولا تحب، أشعة عمر كانت تطاع سرا وعلنا، وأشعة الحجاج تطاع علنا لا سرا، لذلك كفت عمر عصاه، ولم يغن الحجاج سيفه

هذا الاشعاع هو السر في أنك تلي عظيما فيملؤك أثرا ويملؤك قوة، بهيئته، بنبرات صوته، بطريقة تعبيره، بنظراته، بإشاراته، بهزة رأسه، بحركة يديه، فكان في كل عمل من هذه الأعمال يوصل بينك وبينه تيارا كهربائيا قويا يهزك هزا عنيفا. قد لا يحدثك طويلا، وقد لا يكون لكلامه في الواقع قيمة ذاتية، ولكنه يوقظ نفسك ويحيي روحك، وتبقي رنات كلماته في الأذن الأيام والليالي، تعمل عملها في هدوء حينا وعنف حينا، وأصدقك أني لقيت عظيما من هذا النوع يوما فخرجت من عنده مملوءا حماسة وقوة وحياة، حتى إذا بلغت إلى محطة الترام لأركبه إلى مسافة بعيدة عفت الركوب لأنه يبعث على السكون ونفسي ثائرة، والمشي في شدة القيظ ظهر أنسب لها وأكثر اتفاقا لما هي فيه من نشاط وقوة. إذا ذكرت الآن كلامه لم أجده ذا قيمة، وكثير من الناس يتكلمونه ويتكلمون خيرا منه وأسمى وأعمق، ولكن أحدا منهم ليس له هذا الاشعاع ولا قوته وعظمته. وحدثني من أثق به أن الأستاذ جمال الدين الأفغاني كان يرتطن عجمة، ولم يكن فصيح اللسان ولا سلس القول، ولكن تجلس معه فيشعلك نارا دونها فصاحة الفصيح وبلاغة البليغ، لانها النفس مستودع كهربائي قوي يصعق أحيانا، ويضيء أحيانا، ويدفع للحركة أحيانا

والرجل العظيم، أو الكاتب الكبير، أو المؤلف القدير، يخرج ما ينتجه كتلة من الأشعة من جنس نفسه. ألست تقرأ المقالة أو الكتاب فيشع عليك معاني مختلفة، منها الهادئ الرزين، ومنها القوي المتين، منها المضحك، ومنها المبكي. منها الذي يأخذ بيدك فيحلق بك في السماء، ومنها ما يدفعك إلى الحضيض، وآية هذا الاشعاع أنك تقرأ المقالة أو الكتاب فيبعث عندك من المعاني ما لا تدل عليه الألفاظ، من طريق الحقيقة ولا المجاز، بل ما بين

ص: 12

السطور يشع كالسطور نفسها، أولست ترى مقالة الاشعاع في باب العلوم أَشَعَّتْ عليَّ معاني في باب الأدب؟

ليسم هذا علماء النفس تداعي المعاني، أو ليسموه إيعازا أو اقتراحاً أو ليسموه ما شاءوا، فليست الا إشعاعات نفسية من جنس الإشعاعات التي يشعها الأشخاص في كلامهم وحديثهم وحركاتهم فتلقف منها من المعاني ما يقرب وما يبعد. وفي الأماكن كذلك أشعة مختلفة، فشارع عماد اليدن يشع رغبة في اللهو وميلا إلى مسرات الحياة، والمساجد تشع ميلا للعبادة وتمجيدا لله، والبحر الجليل يشع عظمة وجلالا، ونجوم السماء تشع حسنا وجمالا، والبنك يشع حبا في المال، والجامعة تشع حباً في العلم، بل وكل بلد يشع نوعا من الأخلاق، وإلا فلم يذهب المصري إلى إنجلترا وقد اعتاد الفوضى في حياته ومواعيده وصحوة ونومه، فما هو الا أن يطأ أرضها حتى ينقلب خلقا آخر دقيقا في نظامه، دقيقا في معيشته؟ ويذهب المصري إلى ألمانيا فيكون في بيئة علمية فيشرب من مشربهم ويسير سيرتهم، فإذا عاد هذا وذاك إلى مصر عادا سيرتهما الاولى، ما هو الا الجو النفسي تلقى فيه أشعة نفسية مختلفة الاثر، مختلفة الألوان

ومن قوانين هذا الاشعاع النفسي أنه في كثير من الاحيان يعتمد على الفاعل والقابل معاً، واعتماده على القابل أبين فيه من الاشعاع الحسي، فاللون الأبيض أبيض عند كل الناس، والأحمر أحمر عند كل الناس، الا من أصيب بعمى اللون، وليس كذلك الاشعاع النفسي، فالخطيب يخطب وإشعاعه يختلف باختلاف السامعين، والكلمة قد تهدي ضالا وقد تضل هادياً، كما يقول المثل الإنجليزي (إن الليل الذي يغمض عين الدجاج يفتح عين الخفاش) وهذا هو السبب في أنك تستخف روح إنسان وغيرك يستثقله، وتعجب بقول متحدث ومن بجانبك يستسخفه، وتتفتح نفسك لكتاب وغيرك ينقبض منه، ما هذا الا لأن الاشعاع الواحد يختلف باختلاف من وقع عليه الشعاع، وإن هناك تفاعلا قوياً بين مصدر الاشعاع وقابله، ومن أجل هذا قد ترى لصا في مسجد وعابدا في حانة.

وموسى الذي رباه جبريل كافر

وموسى الذي رباه فرعون مرسل

والأرض يمطرها السحاب، فمنها جنان ناضرة، ومنها صحراء مجدية قاحلة، والنار تضيء للساري فيهتدي وللفراش فيحترق

ص: 13

لقد أثبت العلم الاشعاع اللاسلكي وأصبحنا نسمع الآن من الراديو أصوات الموسيقى في أوربا، وسنسمعها من أمريكا، وسنسمعها من أنحاء العالم، ومعنى هذا أن في جو مصر تموجات من أوربا وأمريكا وأنحاء العالم، وإذا كان هذا في المادة فإشعاع النفوس أبعد مدى، وأنفذ شعاعا، وأسرع سيرا. وإذا كان في حجرتي أمواج هوائية من مناحي العالم يظهرها الراديو، فان في حجرتي ملايين واكثر من الملايين من إشعاعات نفسية تشع من السماء ومن الأرض ومن النفوس البشرية، ومما لا يعلمه الا الله. وما الفكرة تصدر عني، ولا الإلهام ألهم به فلست أعرف له مصدرا وليس يخضع لقوانين المنطق ولا نظريات الاستنتاج، ولا الظواهر النفسية تتعاقب علي فلا اعرف تعليلها من انقباض وانبساط، وسمو وانحطاط، وكدورة وصفاء، وظلمة وضياء الا أثر من هذا الاشعاع

ان وراء هذا العالم المادي عالما روحانيا نفسيا أسنى وأبهى، وإذا كان للأجسام والحواس جو يحيط بها قد امتلأ أشعة من نجوم وكواكب وشموع ومصابيح، فللنفس جو يحيط بها اشتبكت فيه أشعة نفسية لا عداد لها. وإذا كان للعين أفق يختلف باختلاف النظر قصرا وطولا، فللنفوس أفق يختلف كذلك، فبعضها ينفذ إلى ما وراء الحجب ويستمد منه ما يستخرج العجب، وبعضها قصير المدى قريب المتناول. ولئن كانت قوانين الاشعاع الحسي لما يستكشف منها الا قليل، فقوانين الاشعاع النفسي أشد تعقدا وأكثر التواء غموضا، والعاكفون على دراستها، والموفقون لاستكشاف بعضها أقل وأندر. خضع كل الناس للإشعاع المادي، وخضع كل الناس للإشعاع النفسي، ولكن آمن بالأول كل الناس، وما آمن بالثاني الا قليل.

هل تنبعث من عالم النفس شرارة قوية تضيء جوانب النفوس؟ وهل يبعث العالم النفسي موجة قوية تعم العالم وتهزه هزة عنيفة فينتبه من سباته، ويهب علماؤه لتنظيم الحياة الروحية كما نظموا الحياة المادية، ويتخصص علماء النفس لاستكشاف قوانين الاشعاع النفسي كما استكشف الماديون قوانين الاشعاع الحسي، ثم ينتفعون وينفعون الناس كما انتفعوا بقوانين الضوء وما اليه، وإذ ذاك يكون الناس أسعد حالا وأهدأ بالا وأكثر اطمئنانا؟ من يدري!!!

ص: 14

‌صور من التاريخ الإسلامي

عمر بن عبد العزيز 62 - 101هـ

للأستاذ عبد الحميد العبادي

3

لم يكن عمر بن عبد العزيز صاحب حق في الخلافة بمقتضى نظام الخلافة الأموية. ولكن ذيوع فضله وسموه الروحي على سائر بني أمية لفت اليه نظر أولي الحل والعقد من صلحاء الشام أمثال رجاء بن حيوة الكندي وابن شهاب الزهري ومكحول الشامي، فلما مرض سليمان بن عبد الملك بدابق مرضه الذي مات فيه ولم يكن له ولد بالغ يعهد اليه، لم يزل به رجاء بن حيوة وأصحابه حتى كتب عهده لعمر بن عبد العزيز، ثم من بعده ليزيد ابن عبد الملك. ثم أمر فأخذت البيعة من بني أمية لمن سمى في عهده دون أن يعينه لهم، فلما قبض سليمان وأعلن الأمر إلى بني أمية جددوا البيعة لعمر على كره منهم (20 صفر سنة99)

شرع عمر في تنفيذ برنامجه الإصلاحي منذ تم له الامر، ولقد كان له من زهده، ومناصرة العلماء له، ومؤاتاة أهل بيته: زوجه فاطمة، وابنه عبد الملك، وأخيه سهل، ومولاه مزاحم، أقوى عون على ما أراد. بدأ عمر بمنصب الخلافة ممثلا فيه فجرده من كل مظاهر الأبهة ورده إلى بساطته القديمة؛ ولا أدل على ذلك من كلام ابن عبد الحكم قال: (ولما دفن سليمان وقام عمر بن عبد العزيز قربت اليه المراكب؛ فقال ما هذه؟ فقالوا مراكب لم تركب قط يركبها الخليفة أول ما يلي. فتركها وخرج يلتمس بغلته؛ وقال يا مزاحم ضم هذه إلى بيت مال المسلمين. ونصبت له سرادقات وحجر لم يجلس فيها أحد قط كانت تضرب للخلفاء أول ما يلون، فقال ما هذه؟ فقالوا سرادقات وحجر لم يجلس فيها أحد قط يجلس فيها الخليفة أول ما يلي، قال يا مزاحم ضم هذه إلى أموال المسلمين، ثم ركب بغلته وانصرف إلى الفرش والوطاء الذي لم يجلس عليه أحد قط، يفرش للخلفاء أول ما يلون، فجعل يدفع ذلك برجله حتى يفضي إلى الحصير، ثم قال يا مزاحم ضم هذه لأموال المسلمين.

(وبات عيال سليمان يفرغون الأدهان والطيب من هذه القارورة إلى هذه القارورة، ويلبسون ما لم يلبس من الثياب حتى تتكسر. وكان الخليفة إذا مات فما لبس من الثياب أو

ص: 15

مس من الطيب كان لولده، وما لم يمس من الثياب وما لم يمس من الطيب فهو للخليفة بعده. فلما أصبح عمر قال له أهل سليمان هذا لك وهذا لنا، قال: وما هذا، وما هذا؟. . . ما هذا لي ولا لسليمان ولا لكم ولكن يا مزاحم ضم هذا إلى بيت مال المسلمين. ففعل، فتآمر الوزراء فيما بينهم فقالوا: أما المراكب والسرادقات والحجر والشوار والوطار فيه رجاء بعد أن كان منه فيه ما قد علمتم، وبقيت خصلة وهي الجواري نعرضهن، فعسى أن يكون ما تريدون فيهن، فان كان وإلا فلا طمع لكم عنده. فأتى بالجواري فعرضن عليه كأمثال الدمى، فلما نظر إليهن جعل يسألهن واحدة واحدة من أنت؟ ولمن جئت؟ ومن بعثك؟ فتخبره الجارية بأصلها ولمن كانت وكيف أخذت فيأمر بردهن إلى أهلهن ويحملهن إلى بلادهن حتى فرغ منهن. فلما رأوا ذلك أيسوا منه وعلموا أنه سيحمل الناس على الحق)

ثم عمد إلى النظام الإقليمي فأصلحه بأن عزل العمال المتشبعين بروح الحجاج، عزل يزيد بن المهلب وحبسه في مال كان للدولة في ذمته، ونفى نفرا من بني عقيل أسرة الحجاج، وولى عمالا جددا لم يحفل في تخيرهم بعصبياتهم ولا بقدرتهم على جمع الأموال كما كانت الحال من قبل، ولكن بحسن سيرتهم وطهارة ذمتهم، فكان من عماله عدي بن أرطاة الفزاري والي البصرة، وعبد الحميد بن عبد الرحمن القرشي والي الكوفة، وعبد الرحمن بن نعيم القشيري أمير خراسان، وأبو بكر بن حزم أمير المدينة، والسمح بن مالك الخولاني أمير الأندلس. وقد شد أزر الولاة بقضاة عدول، فجعل الحسن البصري على قضاء البصرة، وعامرا الشعبي على قضاء الكوفة كما جعل أبا الزناد كاتبا لأمير الكوفة. ولم يكتف عمر بذلك في إصلاح الإدارة الإقليمية بل تقدم إلى العمال في أمر العقوبات ألا يأمروا بقطع أو صلب قبل مراجعته هو أولاً.

ثم ثنى عمر بالمسائل المالية فرد المظالم، والمراد بالمظالم الأموال التي استولى عليها بنو أمية بغير حق، وقد بدأ في ذلك بنفسه فخرج لبيت المال عن كل مال لم يرض سبب تملكه، حتى لم يبق له الا عقار يسير ببلاد العرب يغل عليه غلة يسيرة فوق عطائه الذي كان يبلغ مائتي دينار في العام، ثم أخذ يتتبع أموال بني أمية يرد منها ما ليس مشروع الملكية إلى مستحقه، وقد هاج ذلك سخط بني أمية عليه، وذهبوا ينعون عليه أخذه أموالهم باسم (المظالم)؛ فلم تلن لغامزهم قناته، وأراهم أنه لا يحجم عن بلوغ الغاية في التنكيل بهم

ص: 16

إذا اقتضى الأمر ذلك. يروي ابن عبد الحكم (ان رجلا من أهل حمص أتاه يخاصم روح بن الوليد بن عبد الملك في حوانيت بحمص كان أبوه الوليد أقطعه إياها، فقال له عمر أردد عليهم حوانيتهم؛ قال له روح: هذا معي بسجل الوليد، قال وما يغني عنك سجل الوليد والحوانيت حوانيتهم، قد قامت لهم البينة عليها؟ خل لهم حوانيتهم. فقام روح والحمصي منصرفين، فتوعد روح الحمصي، فرجع الحمصي إلى عمر، فقال هو والله متوعدي يا أمير المؤمنين، فقال عمر لكعب بن حامد وهو على حرسه: أخرج إلى روح يا كعب، فان سلم اليه حوانيته فذلك، وان لم يفعل فأتني برأسه! فخرج بعض من سمع ذلك ممن يعنيه أمر روح بن الوليد فذكر له الذي أمر به عمر، فخلع فؤاده. وخرج اليه كعب وقد سل من السيف شبرا، فقال له: قم فخل له حوانيته! قال نعم! نعم! وخلي له حوانيته)

وسار عمر في إصلاح الشئون المالية على الأساس الشرعي، فالأموال ينبغي أن تجبى من وجوهها وتنفق في مصارفها الشرعية، فمن أسلم من أهل الذمة سقطت عنه الجزية، وقد اسقط الجزية فعلا عن كثير من موالي خراسان وأهل مصر، وقال مقالته المشهورة (إن الله بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا) ونهى عن أن تصير الأرض الخراجية أرضا عشرية ابتداء من سنة 100 هـ مع عدم التعرض للحقوق التي اكتسبت من قبل، وألغى وظيفة مالية وظفها أخو الحجاج بن يوسف على اليمن فوق الزكاة، ونهى العمال عن اقتضاء أطلاق مالية لم يرد بها الشرع، وقد جمعها في كتابه إلى عامله على الكوفة فقال (ولا تحمل خرابا على عامر، ولا عامرا على خراب، أنظر إلى الخراب فخذ منه ما أطاق وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر الا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذن في الخراج. . . أجور الضرابين، ولا هدية النيروز والمهرجان، ولا ثمن الصحف، ولا أجور الفيوج، ولا أجور البيوت، ولا دراهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض)

وقد وسع عدل عمر أهل الذمة من هذه الناحية كما وسع المسلمين، فانه لما شكا اليه أهل نجرانية الكوفة تناقص عددهم إلى العشر مع بقاء جزيتهم على حالها، أمر برد جزيتهم إلى العشر (البلاذري، ص 67) كذلك رد جزية قبرس إلى ما كانت عليه وقت الفتح وألغى ما زاده عليها عبد الملك بن مروان (البلاذري 154) ويروي البلاذري أيضا (ص 422) انه

ص: 17

(وفد عليه قوم من أهل سمرقند فرفعوا اليه، أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر، فكتب عمر إلى عامله يأمره أن ينصب لهم قاضيا ينظر فيما ذكروا، فان قضى بإخراج المسلمين أخرجوا، فنصب لهم جميع بن حاضر الناجي، فحكم بإخراج المسلمين على أن ينابذوهم على سواء. فكره أهل سمرقند الحرب وأقروا المسلمين) وأبلغ من ذلك في الدلالة على تحري عمر العدل المطلق ما رواه البلاذري (ص 124) قال (قال ضمرة عن علي بن أبي حملة، خاصمنا عجم أهل دمشق في كنيسة كان فلان قطعها لبني نصر بدمشق، فأخرجنا عمر منها وردها إلى النصارى) ويروي البلاذري أيضا (ص 125) أن الوليد بن عبد الملك قد أدخل كنيسة يوحنا في مسجد دمشق بغير رضا النصارى (فلما استخلف عمر بن عبد العزيز شكا النصارى اليه ما فعل الوليد بهم في كنيستهم، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاده في المسجد عليهم. فكره أهل دمشق ذلك وقالوا نهدم مسجدنا بعد أن أذنا فيه وصلينا ويرد بيعة، وفيهم يومئذ سليمان ابن حبيب المحاربي وغيره من الفقهاء، وأقبلوا على النصارى فسألوهم أن يعطوا جميع كنائس الغوطة التي أخذت عنوة وصارت في أيدي المسلمين، على أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا ويمسكوا عن المطالبة بها، فرضوا بذلك وأعجبهم. فكتب به إلى عمر فسره وأمضاه) ذلك موقف عمر بن عبد العزيز من أهل الذمة. أما ما ينسب اليه في بعض كتب الفقه من تحامل عليهم، وانه كتب إلى عماله بعزلهم عن أعمال الدولة وأخذهم بألوان من الاضطهاد والتضييق عليهم (الخراج لأبي يوسف 73) فغير مؤتلف مع المستيقن من سيرته على فرض صحته، وقد يكون نوعا من العقاب كان يعاقب به ذميو الحدود الإسلامية إذا هموا بمظاهرة العدو على المسلمين.

وكما كان عمر حريصا على جباية الأموال العامة من مصادرها الصحيحة. فقد كان كذلك حريصاً على أن تنفق في مصارفها الشرعية. فمن حيث الفيء، قد فرض لذرية المقاتلة وعيالهم عملاً بسنة عمر بن الخطاب التي ترك بنو أمية العمل بها، وكتب الى عامله في الكوفة (وانظر من أراد من الذرية الحج فعجل له مائة يحج بها). وفرض لعشرين ألفا من الموالي كانوا يغزون بخراسان بغير عطاء. وأظهر استعداده لان يحمل من بيت المال إلى خراسان أموالا إذا كان خراجها لا يفي بعطاء أهلها. ومن حيث أموال الزكاة، فكانت صدقات كل إقليم تقسم على عهده في فقراء أهله، وقد قسم في فقراء البصرة كل إنسان

ص: 18

ثلاثة دراهم وأعطى الزمني خمسين خمسين، وفرض للفقيرات من عوانس النساء، وأعتق كثيرا من الرقاب. وقد كتب إلى أحد عماله (ان اعمل خانات في بلادك، فمن مر بك من المسلمين فاقروهم يوما وليلة، وتعهدوا دوابهم، فمن كانت به علة فأقروه يومين وليلتين. فان كان منقطعا به فقووه بما يصل به إلى بلده) وأمر عماله بقضاء الديون عن الغارمين فكتب اليه بعضهم (أنا نجد الرجل له المسكن والخادم وله الفرس والأثاث في بيته) فكتب عمر (لابد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي اليه رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، فهو غارم فاقضوا عنه) ولما رأى عمر أن ليس للشعراء حق في بيت المال جعل يجزهم من عطائه وماله الخاص على قلته، بالدراهم والدنانير المعدودة، وقد أدرك الشعراء سبب تحرجه هذا فكانوا يقبلون منه العطاء اليسير أو الرد أحيانا بغير عطاء، ولم يقصروا في مدحه وقدره.

على ان أهم ميزة تميز عمر بن عبد العزيز من غيره من خلفاء الإسلام ورؤساء الدول طراً فيما نعلم انما هي رغبته الصادقة في نشر لواء السلم، لا على بلاده وحدها ولكن على العالم بأسره. ولبيان ذلك نقول انه عمد في داخل الدولة الإسلامية إلى الأحزاب التي ناوأت الأمويين منذ قام ملكهم فترضاها وحملها على ما يريد من إيثار السلم والعافية. فالشيعة استجلب مودتهم بان منع سب علي بن أبي طالب على المنابر، وبأن رد على العلويين (فدكا) التي رآها حقا قديما لهم قد غصبوه. والخوارج قد كبح جماحهم من طريق المجادلة بالحسنى والإقناع بالحجة والبرهان. فعندما ظهر شوذب الخارجي بأرض فارس أمر عمر ألا يقاتلوا حتى يسفكوا دما أو يفسدوا في الأرض، وكتب في الوقت نفسه إلى شوذب يطلب اليه المناظرة في دعواه، فأنفذ اليه الخارجي اثنين من فقهاء الخوارج ليناظراه. وقد استطاع عمر أن يهدم كل حجة أورداها الا ما احتجا به من إقراره يزيد بن عبد الملك على ولاية العهد مع ما يعلم من قبح سيرته، وكان من وراء هذه المناظرة الطريفة أن انضم أحد الخارجيين إلى عمر، وأما الآخر فعاد إلى أصحابه وأنهى إليهم على ما يظهر من سيرة الخليفة ما حملهم على السكون طوال عهده. أما الموالي فقد قطع أسباب شكواهم، بأن أسقط الجزية كما رأينا عنهم، وبأن فرض لمقاتلتهم عطاء. وأما العصبية القبلية من يمنية ومضرية وربعية فقد هدأ من حدتها، بأن ردع الشعراء الذين كانوا يذكون نارها، وبأن

ص: 19

اختار ولاته بالنظر إلى كفايتهم لا إلى قبائلهم.

أما من حيث العلاقات الخارجية، فقد سلك عمر بن عبد العزيز في الأمر مسلكا بدعا لم يسبق اليه ولم يلحق فيه. ذلك أنه أقفل جميع الجيوش الإسلامية التي كانت تغزو وراء الحدود، أقفل مسلمة ابن عبد الملك وكان مرابطا حول أسوار قسطنطينية وأعانه على القفول بأموال بعث بها اليه. وأقفل الغزاة بما وراء النهر على كره منهم كما أقفل من كانوا يغزون بالسند. على أن عمر لم يقف في هذا الأمر الخطير عند هذا الحد، بل اتبع العدول عن سياسة العنف بالدعوة السلمية إلى الإسلام. يروي البلاذري أنه لما أقفل الجيوش التي كانت تغزو بما وراء النهر كتب إلى ملوك تلك الجبهة من الترك يدعوهم إلى الإسلام فأسلم بعضهم. ولما انتقض ملوك السند كتب إليهم يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، قال البلاذري (وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه فأسلم جيشبة والملوك وتسموا بأسماء العرب) كذلك كانت سياسته بازاء بربر المغرب الذين أشجوا الجيوش العربية زهاء ثمانين عاما. يقول البلاذري (ثم لما كانت خلافة عمر بن عبد العزيز ولى المغرب إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم، فسار أحسن سيرة ودعا البربر إلى الإسلام، وكتب إليهم عمر كتبا يدعوهم بعد إلى ذلك، فقرأها إسماعيل عليهم في النواحي فغلب الإسلام على المغرب. ويذكر المؤرخ اليوناني تيوفان أن عمر كتب أيضا إلى الأمبراطور البيزنطي يدعوه إلى الإسلام.

وكأن عمر بن عبد العزيز قد اطلع بلحظ الغيب على نظمنا الحديثة التي تفرض على الدولة الأشراف على التعليم والعمل على نشره بين أبنائها. فقد أراد تعليم الناس كما يؤخذ من قوله في رواية ابن عبد الحكم (ان للإسلام حدودا وشرائع وسننا. . . . . فان أعش أعلمكموها وأحملكم عليها) بل لقد أخذ في ذلك بالفعل فبعث يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث بن محمد الأشعري إلى البادية ليفقها الناس وأجرى عليهما رزقا. ثم هو أول خليفة أمر بجمع أحاديث رسول الله وتدوينها. نقل السيوطي (ان عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر محمد بن خزم أن انظر ما كان من حديث رسول الله (أو سننه فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء. وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن عمر بن عبد العزيز انه كتب إلى الآفاق ان أنظروا إلى حديث رسول الله (فاجمعوا) قال في فتح الباري

ص: 20

يستفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النبوي

وبعد، فماذا كان اثر تلك الجهود كلها؟ لقد أدت إلى الغاية التي كان يرمي أليها عمر. فقد طاف بالأمة الإسلامية اذ ذاك طائف الزهد والورع والتدين اقتداء بخليفتها، والناس على دين ملوكهم كما قالوا قديما. يروي الطبري (وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ مصانع وضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه، فإنما يسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانه، فولي سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن التزويج والجواري، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل، ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ وما تصوم من الشهر؟ وأصبح الناس وقد شملتهم نعمتا الرضا واليسر. قال (كثير) يخاطب عمر ويمدحه:

تكلمت بالحق المبين وانما

تبين آيات الهدى بالتكلم

وصدقت موعود الذي قلت بالذي

فعلت فأمسى راضيا كل مسلم

وروى ابن عبد الحكم قال (قال يحيى بن سعيد: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات أفريقية فاقتضيتها وطلبت فقراء نعطيها فلم نجد بها فقيرا، ولم نجد من يأخذها مني، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقابا فأعتقتهم وولاؤهم للمسلمين)

نعم، لقد أغنى عمر الناس جميعا إلا نفسه وأهله. فلم ير ولي قوم أعف عن مالهم منه، ولم ير أهل بيت أصبر على الطعام الخشن والثوب المرقوع والبيت المتهدم منه ومن أهل بيته. ولقد أراح عمر الناس ولكنه أتعب نفسه، فكان حركة دائمة يعمل ليل نهار حتى ذهبت نضرته واحترق جسمه. وزاده هما فقدانه في آجال متقاربة من عهده القصير أحبابه وأعوانه: ابنه عبد الملك، وأخاه سهلا، ومولاه مزاحما، فلم يقو جسمه على احتمال العمل والألم، فاسلم الروح بخناصرة في 25 رجب سنة 101 ولما يعد التاسعة والثلاثين من عمره. وقد دفن بدير سمعان قريبا من دمشق.

لا ندري ماذا كان عمر صانعا لو مد له في حياته؟ أغلب الظن انه كان يتلافى موضع الضعف من إصلاحه فيقيم هذا الإصلاح على أساس ثابت لا يتزعزع بمجرد موته. ومهما يكن من شيء فقد فاز عمر بن عبد العزيز بتقدير أنصاره وخصومه على السواء. فهو عند أهل السنة مجدد المائة الأولى وآخر الخلفاء الراشدين، وقد رضى عنه العلويون وأهدى

ص: 21

إلى روحه في أواخر القرن الرابع شاعرهم الشريف الرضي أبياتا من الشعر حارة جميلة، بل ان العباسيين عندما قامت دولتهم احترموا قبره فلم ينبشوه كما نبشوا قبور غيره من بني أمية، على أن أبلغ من وصفه وابنه رجل كان يحكم الظروف السياسية خصمه العنيد بل عدوه اللدود، ذلك ملك الروم أليون الثالث. أخرج ابن الجوزي عن محمد بن معبد قال (أرسل عمر بن عبد العزيز بأساري من أساري الروم ففادى بهم أساري من المسلمين. قال فدخلت على ملك الروم يوما فإذا هو جالس على الأرض مكتئبا حزينا. فقلت ما شأن الملك؟ فقال أو ما تدري ما حدث؟ قلت ما حدث؟ قال مات الرجل الصالح! قلت من؟ قال عمر بن عبد العزيز، ثم قال ملك الروم: لأحسب انه لو كان أحد يحيى الموتى بعد عيسى بن مريم لأحياهم عمر بن عبد العزيز. ثم قال إني لست أعجب من الراهب أن أغلق بابه ورفض الدنيا وترهب وتعبد، ولكني أعجب ممن كانت الدنيا تحت قدميه فرفضها وترهب)

أما نحن فنلحظ فيه خير نزعاته واشرف عواطفه: نلحظ فيه حبه للسلام وسعيه في توفيره في العالم، فهو بحق داعية السلام في القرن الأول الهجري والثامن الميلادي، وكفى بذلك مفخرة في الدنيا، وقربة في الآخرة.

ص: 22

‌أوراق مالية في القرن السابع الهجري

للدكتور عبد الوهاب عزام

كيخاتو بن أبا قا خان بن هلاكو خامس ملوك المغول المسمين ايلخانية كان كما يقول مؤلف (حبيب السيرَ) أسخى بني هلاكو: كان يفيض جودا في موائده، ولا يقف به حد في الإسراف واللهو.

وقد اختار لوزاراته صدر الدين الزنجاني المعروف بصدرجهان. ولم يكن الوزير مخالفا مولاه في التبذير. فخلت الخزائن واشتدت الحاجة إلى المال، وضاق بالملك الأمر، فبدا للوزير أن يأخذ عن أهل الصين سُنَّة كانت معروفة عندهم في ذلك العصر: هي التعامل بأوراق تغني غناء الحجرين الكريمين أو المعدنين النفيسين: الذهب والفضة. وليس الفرق بين الورَق والورِق ذا خطر.

أمر الوزير بطبع أوراق للتعامل سميت (جاو) وأنشأ في كل ناحية دارا لطبع الأوراق سميت (جاو خانة) وشرع قانونا يحتم على الناس الإقلال من تداول الذهب والفضة جهد الطاقة

وكانت الأوراق كما وصفها رشيد الدين الشيرازي في تاريخه المعروف بتاريخ (وصّاف) والمؤرخون المعاصرون على هذا الشكل:

ورقة مستطيلة عليها كلمات صينية، وفوقها باللغة العربية كلمة الإسلام:(لا إله الا الله محمد رسول الله) اتباعا للمألوف في المسكوكات الإسلامية. وتحت هذا اسم الكاتب ودائرة كتب فيها قيمة الورقة. وكانت القيمة تختلف من نصف درهم إلى عشرة دنانير. ومما كتب على هذه الأوراق هذه الكلمات الهائلة: (أصدر ملك العالم هذه الجاو المباركة سنة 693هـ، فمن غيرها أو محاها يقتل هو وزوجه وأولاده ويصادر ماله)

وأرسلت إلى المدن منشورات تبين فوائد التعامل بهذه الأوراق، وتبشر الناس أن الفقر والبؤس سيزولان لا محالة ان دام التعامل بها. ومما جاء في هذه المنشورات هذا البيت:

جاو أكردر جهان روان كردد

رونق ملك جاودان كردد

وترجمته: (إذا راجت في العالم الجاو دام رونق الملك أبدا)

ومما جاء في قانون هذه الأوراق أن الورقة التي تمزق أو تبلى ترد إلى الجاوخانه ويعطى

ص: 23

صاحبها ورقة أخرى تنقص عنها عشر القيمة.

ثار الناس على هذه الأوراق، فيروى أنه جُعل موعد تداولها في مدينة تبريز شهر ذي القعدة 693هـ، فلما جاء الموعد أقفلت الحوانيت ثلاثة أيام ووقفت الأعمال وأبى الناس أن يقبلوا الجاو المباركة.

وكان أعظم رجال الدولة نصيبا من سخط الناس وبغضهم عز الدين المظفر الذي وكل إليه إخراج الأوراق والقيام عليها. ومما قيل فيه:

تو عز ديني وظل جهاني

جهانر اهستئ تو نيست درخور

أزان كبر ومسلمان ويهودي

بس أز توحيد حق واللهه أكبر

همى خوانندأز روى تضرع

بنزد حضرت داراي داور

خدايا بر مراد خويش هركَز

مبادا درجهان يكدم مظفر

وترجمتها:

(أنت عز الدين وظل العالم،=ولكن بقاءك شر على العالم، ومن أجل ذلك ترى المسلمين واليهود والمجوس بعد توحيد الله وتكبيره يتضرعون إلى الحكم العدل: ربنا لا تجعله ساعة واحدة مظفرا بمراده)

انتشرت الثورة في مدن كثيرة حتى ذهب كبراء المغول إلى السلطان كيخانو فكلموه في أمر هذه الأوراق البغيضة حتى رضى بإلغائها.

رسائل حزينة

ص: 24

‌القلب المحطم

رسالة إلى صديق

بغير هذا اللون من الصور الشاحبة الحزينة، كنت أود أن أصور لك عواطفي ومشاعري، وبغير هذه السطور التي تترقرق في خلالها دموع البث والشكوى، كنت أحب أن يجري بالكتابة إليك قلبي. ولكني لا أريد أن أخدعك في شأن من شئون نفسي. وما أحسبك تريدني علي أن أصنع لك كلاما عن راحة القلب وهدوء الضمير في الوقت الذي تعصف بي الأحداث فيه عصفا يزلزل كيان النفس، ويزعزع أشد الأفئدة احتراماً لقوانين الأرض، وإيماناً بعدالة السماء، لقد شغلت في مطالع الشباب وبواكر الصبى بما يشبه أن يكون استجابة حارة لرغبات القلب ونوازع الهوى، وألهتني متعة اليوم عن التفكير فيما عسى أن يطلع به الغد، وقنعت بتلك النشوة التي يملأ بها الحب شعاب القلب في عالم تتألق حواشيه بالبسمات والأحلام. وكنت لغفلتي أحسب الحياة ستظل على هذا النحو رخية لينة، وأن الحب ما دام يعمرها ويخلع عليها من مفاتنه سلاما وابتساما ونورا، فثمة ملقى العصا، وغاية الأمل، ونهاية المطاف. فلو أنني أحطت هذه الحياة الأثيرة لديَّ بسياج يكفل لها على الأيام بقاءً واطرادا لما تعثرت في أذيال هذه الخيبة الأليمة. ولما صرت إلى ما أعانيه اليوم من تعس وشقاء.

أيها القلب! لقد سعدت بالحب حلما ذهبياً سلسل في نواحيك الأمل، وأشاع في جوانبك الرجاء، ولكنك شقيت به يقظة رهيبة تكشفت لك في ضوئها عناصر الجريمة من خيانة وغدر وعبث اليم بقداسة العهد والوفاء. فهل تراك يا قلب معتبرا بما أسلفك الحب من تجاربه القاسية الأليمة، فتظل بنجوة عن الوقوع في شرك البسمات المغريات، والنظرات القاتلات، ترسلها العيون الذابلة المريضة؟ أتراك معتبراً بعد أن عرفت أن الحب إنما يصور لك الحياة روضة مسحورة تشدو بلابلها، وتَطرد جداولها، وتتأرج بالعطر الجميل أزاهرها؟ ثم. . ثم تجف الروضة وتغيض الجداول وتصمت الأطيار، وتتحطم الأماني، وتتبدد الأحلام. وإذا الدنيا مناحة قائمة. وإذا الحب الذي سعدت به تلك اللحظات الخاطفة يستحيل إلى حسرة الماضي، وفجيعة الحاضر، ولعنة المستقبل. وإذا تلك الأناشيد الداوية تحور إلى أنين خافت، وآلام دفينة خرساء. وإذن ففيم هذا التهالك العجيب على تلك الشجرة

ص: 25

الملعونة وقد بلوت المر من ثمرها؟ وفيم تلك الخفقات السريعة المتلاحقة كلما رنت إليك غانية بنظرة. أو توامضت لك على شفتيها ابتسامة؟ وهذا الجسم الذي أذبلت زهرته، وأيبست عوده، وعطلت نشاطه، وصرفته عن مثله العليا، وفجعته في أقدس ما كان يرجيه من أمل ويحرص عليه من سعادة، ألا تأخذك فيه عاطفة من الإشفاق والرحمة، فتدعه يفرغ لما تتطلبه الحياة من جهاد طويل الشقة، وعر المسالك، فادح الأعباء. أيها القلب! انك أن تظل سادرا في غوايتك، فإني لأخشى أن أناجيك غداً بقول الشاعر:

أقول لقلبي كلما ضامه الأسى

إذا ما أبيت العز فاصبر على الذل

برأيك لا رأيي تعرضت للهوى

وقولك لا قولي، وفعلك لا فعلي

فان تك مقتولا على غير بغية

فأنت الذي عرضت نفسك للقتل

عبد الوهاب حسن. قسم النشر. وزارة المالية

ص: 26

‌منهن ومنهن

للأستاذ عبد القادر المغربي. وكيل المجمع العلمي العربي بدمشق

وإن من النسوان من هي روضة

تهيج الرياضُ دونها وتصوَّح

ومنهن غُلٌّ مقفل لا يفكه

من الناس إلا الأحوذي الصَّلنقَحُ

يقول حكيم العرب: إن النساء مختلفات في طباعهن وأمزجتهن وغرائز نفوسهن: فمنهن امرأة حسنة السجايا طيبة الأخلاق، تشبه الروضة فيما اشتملت عليه من خضرة وزهر، وطيب ماء، ورقة هواء. بل أن الرياض الحقيقية ذات الخضرة والنضرة، قد (تهيج) أي يصفر نباتها و (تَتَصوَّح) أي تيبس أو تذبل أوراقها. أما تلك المرأة فهي روضة لا تهيج ولا تتصوَّح، وإنما تبقى ناضرة الخضرة، طيبة الشذا طول حياتها.

هذه واحدة من النساء يا سعادة مجتمعها بها.

ومنهن واحدة أخرى وصفها الشاعر في البيت الثاني بأنها كالغُلّ. وهو القيد المقفل أي المشدود على عنق الرجل أو يديه، يمنعه الحركة ولا يقدر على فكه إلا (الأحوذيُّ الصَّلَنقَحُ)

(الأحوذي) الحاذق في السَّوق، الذي يعرف كيف يسوق الدابة ويحملها على السرعة في السير. فبينا ترى غيره يقطع بها مسافة عشرة أيام تراه هو يقطع بها ثلاثة أيام. وذلك لأنه (صَلَنقح) أي صيَّاح شديد الصوت. (وصلنقح) كلمة غريبة وثقيلة على السمع، غير أنها قد تروج لدى القارئ المنصف مذ يرى المقام يقتضيها، والسياق يواتيها، والقافية تناديها.

ووصف امرأة السوء بالغل معهود عند العرب، ومنه قولهم:(هي غل قمل. وجرح لا يندمل) ومعنى (قَمل) أن الغُلَّ أحيانا يكون من جلد غير مدبوغ ويكون على الأسير الذي يدوم أسره ويطول عهده بالاغتسال فيتسخ بدنه ويعشش القمل في غله ويأخذ يرعى في تجاليده فيؤذيه ويمنعه طيب المنام وهكذا حال امرأة السوء في البيت الذي تعيش فيه.

قد يعترض معترض على البيت الثاني بأن فيه إحالة، ومعنى (الإحالة) في اصطلاح علماء النقد الأدبي أن يكون الكلام معدولا به عن وجه الصواب

وهنا قد شبه الشاعر امرأة السوء بالغل الموثق المحكم الشد. ثم قال انه لا يفك هذا الغل إلا سائق صيّاح شديد الصوت

ص: 27

ولكن هل من عادة القيود المحكمة الشد أن تفك وتحل عقدها بكثرة الصياح والجلبة؟

ربما كان في هذا الاعتراض شيء من الحق. فماذا كان يجب أن يقال إذن؟

كان ينبغي أن يقال في البيت الثاني هكذا:

ومنهن مُهر شامسُ لا يروضه

من الناس إلا الأحوذي الصلنقح

فيكون المعنى أن من النساء من تكون كالمهر الشامس (أي الشموس) الذي يكثر شروده ولا يقدر على ترويضه وتليين شكيمته إلا الرجل الذي يعرف كيف يسوسه ويؤدبه بالانتهار ورفع الصوت والصخب عليه.

فتقول: ولكن كلمة (شامس) غير مأنوسة الاستعمال والمعروف (شموس) فماذا يمكن أن يحل محلها من كلمات اللغة؟

أقول يمكن أن يقال في البيت هكذا:

(ومنهن مهر كوسَجٌ لا يروضه. . . الخ).

و (الكوسج) من الخيل: الفرس الذي تريده على السير فلا يسير حتى تضربه.

فيقول القارئ معنى (الكوسج) حسن. ولكن لفظة اشتهر في معنى خفة شعر اللحية فلا أرى استعماله هنا. هات كلمة سواها يا أستاذ

فأقول هاكها:

ومنهن مهر خارط لا يروضه. . . الخ.

و (الخارط) الفرس الذي يجذب رسنه من يد ممسكة ثم يفلت شاردا لا يلوي على شيء.

ومثل (الخارط) الخَرُوط.

ولذلك تسمى المرأة الفاجرة التي جذبت رسنها من يد أسرتها (خروط)

يقول القارئ: وكلمة (خارط) أيضا قبيحة اللفظ وكفى (بالخرط) قبحا.

على أن استقباح القارئ لكلمة (خارط) في غير محله. وليس معه حق فيه: إذ كيف يستثقل كلمة (خارط) وهذه كلمة (خارطة) بمعنى الأطلس الجغرافي يتلفظ بها كثيرا. ويسمعها من صبيانه وبناته وهم يدرسون في بيته، ومن سائر التلامذة وأساتذتهم يقولونها عشرات من المرات في اليوم. كل هذا لا تستثقل معه أيها القارئ الكريم كلمة (خارطة) وتقوم الآن فتستثقل كلمة (خارط) وتتشاءم بها!!

ص: 28

ومع هذا فدونك كلمة رابعة وهي:

(ومنه مهرٌ ضاغنٌ لا يروضها الخ.)

ومعنى (الضاغن) الفرس الذي لا يعطي كل ما عنده من الجري حتى يضرب، أو هو الفرس الذي إذا مشى كان كأنه يرجع القهقرى. ويمشي إلى الوراء.

وقبل أن يبادرني القارئ بالتأفف من كلمة (ضاغن) أذكره بالأسرة اللغوية التي تنتمي إليها كلمة (ضاغن)، ولو لفظا،:

فان تلك الأسرة وجميع سلالتها مقيمة بيننا محببة إلينا. شائعة على ألستنا:

فالضغن أم الأسرة ومن نسلها (الأضغان) و (الضغينة) و (الضغائن) و (تضاغن) القوم و (اضطغن) فلان على فلان

فهل بعد هذا يصح للقارئ أن يتجهم لكلمة (ضاغن) ويدعي غرابتها. ويطلب أن يستبدل بها سواها؟

دمشق

ص: 29

‌في الأدب المصري القديم

النيل والحضارة المصرية (ملخص فصل من كتاب)

للأستاذ (آ. موريه)

كان المصريون أصحاب ألسنة لا تعرف الملل في النطق، على أن ما جاءنا من آثارهم الأدبية هو ثروة قليلة بالنسبة إلى ثمار شعب يحكي عنه منذ أربعة آلاف عام، وفي هذه الأعمار التاريخية قامت مآثر أدبية تختلف صفاتها الاجتماعية والطبيعية. والأدب كما هو في مصر وغير مصر، مرآة تتمثل فيها الحياة الاجتماعية.

نشأت المآثر الأولى في (الدولة القديمة) مصحوبة بأدب ديني صرف مقيد بتعاليم الكهنة، وهذا الأدب هو النصوص الجليلة والآثار المعروفة (بموضوعات الأهرام) والتي تحفظ كثيرا من التاريخ القديم، والديانة القديمة، والحركة العقلية، والجزء الثاني منها هو عبارة عن نصوص منقوشة على حجارة، وحكم هذا الأدب حكم الزخرفة وبقية الفنون، لم يكن المراد منه الا تزيين الهياكل والقبور، ومن الواجب أن يكون خاضعا حتى في مظهره الخارجي لهيئة العمارة، وفي قبور (ممفيس) فصول شعبية لا يتلاءم أسلوبها الحر مع الطقوس والتقاليد، وهذه الفصول الخرافية تطلعنا على اللهجة العامية؛ بل تكاد توحي لنا عن نفسية الشعب. . . .

هذه أغنية قديمة للراعي الذي يسوق قطيعه بين أتلاع الأرض ناثرا بذوره

(الراعي هو في الماء مع الأسماك يتناجى مع (صنف من السمك) ويتبادل التحيات مع (صنف من السمك) يا مغرب من أين جاء الراعي؟ انه من بلاد المغرب)

وهنالك مقطوعة مرفوعة لأوزيريس الملقى في النهر. وقد هشمته الأسماك، وأجزاؤه المتناثرة على الأرض قد أخصبت تلاع الأرض. والذين يحملون، على أكتافهم، الأسياد الضخام؛ يخففون من أتعابهم بأنشادهم.

(إن حاملي الهودج هم في سرور

ولأن يكون الهودج ملآن خير من أن يكون فارغاً)

وعصر ثان تفتح في عهد الثورة الاجتماعية بين المملكة القديمة والمملكة الوسطى. فازدهرت الفصاحة فيه أيما ازدهار، وترك الأدب الديني محلا للأدب الاجتماعي، فانقضى

ص: 30

عصر الأدب الحجري وأصبح يدون منه شيء على ورق البردي، وبهذا خفف الفكر عنه بانعتاقه من السجن الحجري. فأصبح كل شيء يدعو إلى الملاحظة، ويغري بالتأمل، وأصبحت العقول المثقفة تشعر بالضيق وتحس بالشك واليأس، والشعب تدفعه عوامل الرغبة إلى المعرفة واللذة، نشوان بنجاح جرأته، وكما يكون الأمر في كل ثورة، تصطدم الحركة العقلية بالقوة الجارفة، فلا يكاد يجد العقل متسعا ولا فراغا للإنتاج، على أنه برغم ذلك قام بعض متأملين معتزلين وألقوا بذورا مثمرة في هذا المجتمع يوم ثورته. وفي عهد ملوك (هيراكليوبوليس) دوَّن المصريون (تعاليم للملك مريكارا) وهجاء الضائع، وأنين الفلاح. وكلها مرايا تنعكس فيها الحالة السياسية التي شرحناها من قبل. وفي العهد نفسه نشأت موضوعات مختلفة (أيام الفوضى) وضعها أصحابها على لسان حكيم هرم أو كاهن، وشكاوي طرحها (مبغض للبشرية) بينه وبين نفسه، وفي كل هذا نرى الشعور الديني قد ضعف شأنه، وهنالك حيث تحطم النظام الاجتماعي الاول نرى التعاليم الاعتقادية قد تقوضت ووهن تأثيرها في النفوس.

في الأسرة الثانية عشرة على أثر الانعتاق من الروابط السحرية التي تلت عصر الثورة، حل شيء من الثقة في النظام، وأصبح المجتمع تسيطر عليه شرائع عادلة، والأدب الجديد الديني المنقوش على الصفائح والتوابيت، وعلى ورق البردي كان يعمل على إنماء الخواطر التي تدفع بالإنسان الفاضل إلى التلذذ بالنعيم الإلهي في العالم الثاني. وفي هذا العصر ازدهرت مدرسة أدبية عنيت بتهذيب اللغة وتنقيح الأسلوب، ونحن مدينون لأصحابه بقصص لطيفة منها (سيروت) و (الغريق) وهذه قصة حادثية تحوي أهواء مسافر طرحته المقادير في صحراء، أو ساقته إلى بحار مجهولة. وهنالك مشروع ساعد على تهذيب موظفي الحكومة وتثقيفهم، فنشأ من كل ذلك موضوعات وصفية وعاطفية وقصصية تؤلف أدب ذلك العصر كله، بل الأدب (الكلاسيكي) لمصر القديمة

والأدب، في الدولة الحديثة، فاض معينه، وتوثبت أمواجه إلى شواطئ حرة، وأساليب غير مقيدة. والدولة الحديثة قد حطمت قيودها وفتحت لنفسها ينابيع جديدة (للتحسس) حتى أصبحت الفنون في عهد (العماونه) عالمية.

والأدب الحديث حطم قيود المدرسة الأدبية واستطاع أن يدخل على لغته المختارة بساطة

ص: 31

اللغة العامية. ولم يكن من طريق الاتفاق ما رأيناه في كتابات (ايكوناتون) لأول مرة من التطورات الصرفية والنحوية التي طغت على الأسلوب الخاص ولهجة الشعب بما فيها، وأدخلت (أداة التعريف وأفعال المساعدة، والبناء الصرفي (أو الاشتقاق). والقصص الصغيرة التي كتبت للأطفال خير مثال لنا، والأدب الديني نفسه قد تطور وتشذب ليدنو من أدب الشعب وروحه: وأغاني (آمون) الذائعة الصيت تبث بسلامة قلب محبة الخلائق المتواضعة.

بعض نصائح أخلاقية من تعاليم (آتي):

يقول: (ضاعف الخبز الذي تحمله لأمك، واحمله لها كما حملته لك، عندما ولدت وبعد ولادتك بشهور، حملتك على حضنها، وثلاثة أعوام ظل ثديها يدر في فمك، فلم يأخذها سأم منك ولم تقل لنفسها يوما: لماذا أصنع هكذا؟ قادتك إلى الكتاب وبينما أنت تتعلم الكتابة كانت تنقل لك من بيتها خبزا ونبيذا. وغدا إذا صرت كبيرا وصار لك امرأة، ووجب عليك تدبير منزلك فأرجع بصرك إلى العصر الذي كنت فيه طفلا على حضن أمك يوم لم تصخب عليك ولم تبسط يدها لله الذي لم يسمع لها أنينا. . .)

ثم يذكر الأخلاقي علاقة الرجل مع المرأة فيقول:

(احترس من المرأة الأجنبية المجهولة في مدينتها، هي كالماء الواسع العميق لا يدري ما تحت أعماقه

واحذر المرأة التي يغيب بعلها، وتتصدى لك كل يوم قائلة لك (إنني جميلة) ليس هنالك من شهود، ولكن الخطيئة عظيمة جدير صاحبها بالموت إذا فشت!)

خليل هنداوي

-

ص: 32

‌على ذكر الشعر المرسل

الشكل والموضوع حول قصيدة الآنسة سهير القلماوي

في الأدب كما في القانون شكل وموضوع، وكما يرفض القاضي الطعن في حكم ما شكلا ويقبله موضوعا، فقد يرفض القاريء قصيدة ما شكلا وان قبلها موضوعا، والشكل في الأدب لا يقل في خطره عن الموضوع، فكم من قطعة أدبية أفسد أسلوبها موضوعها، وكم من قصيدة ذهب قبح نظمها بجمال معناها، وكم من قصيدة رقيقة اللفظ جميلة الأداء، في كلماتها عذوبة وفي نظمها اتساق، غير أن المعنى الجليل فارق فيها اللفظ الجميل، والخيال السامي بعد فيها عن الأداء الحسن، وهي مع ذلك خالدة على الدهر سائرة كالمثل.

وقد قرأنا للآنسة الأديبة سهير القلماوي في عدد الرسالة الماضي قصيدة نظمتها، فراعت فيها كما قالت خاصتين من خواص الشعر العربي وهما الوزن وتمام المعنى في البيت الواحد، وأهملت الخاصة الثالثة وهي القافية، فعنيت بالموضوع وأهملت الشكل، وكان الأجدر بها وقد أرادت أن تتبع سنة التجديد في الشعر العربي ألا تجيء إلى ركن من أهم الأركان الفنية فيه فتمحوه وتهمله وتقرب الشعر بذلك إلى النثر، فلست أرى الشعر المرسل إلا نثرا موزونا نخشى أن تمتد إليه يد التجديد فتنتزع منه الوزن أيضا. ولو قد أنصفت لأهملت تمام المعنى في البيت الواحد وراعت القافية فهي التي تعد بحق وباطراد من خواص الشعر العربي البارزة التي تميزه من كل شعر سواه، والتي أكسبته روعة خاصة، وأشركت الحس مع العقل فيه، وهيأت له السمع والإدراك، وجمعت للقارئ بين لذة التوقيع ولذة الفكر والفهم، وربما قيل أن التوقيع إنما جاء من الوزن لا من القافية، ولكن اصطدام القارئ بحروف متغايرة في أواخر الأبيات يشعره بفقدان الوزن في ثناياها.

أما تمام المعنى في البيت الواحد فلم يكن من خصائص الشعر العربي، وإنما كان من خصائص الشعراء العرب، فليس يدخل إذن في أصول الفن الشعري التي لابد للشعر منها كالوزن القافية، فقد كان العرب أميل إلى الإيجاز والإلمام بالمعنى في غير توسع ولا إطناب، ومن هنا كان حرصهم على إتمام المعنى في البيت الواحد كبيرا، حتى جرى الكثير من أبياتهم مجرى الأمثال لاحتوائه على المعنى الجليل في اللفظ القليل، ومن هنا جاز لنا وقد تغير العصر وبعد الزمان وتغيرت الأذواق إلا نتبع سنة القوم في ضرورة إتمام المعنى

ص: 33

في البيت الواحد، على أن الشعر العربي لم يخل من قصائد لا يمكننا أن نقف فيها على كل بيت لعدم تمام المعنى فيه، ولكنه خلا تماما من قصيدة لم تنته بحرف واحد.

وقد يقال أيضا أن الشعر إذا أطلق من قيده وأعفى الشعراء من التزام القافية فيه أصبح الأمر مألوفا تقبله الأذواق وتعتاده الأسماع، ولكننا إذا عدنا إلى قراءة الشعر العربي القديم وما نظمه المحدثون من شعر مقفى، وهذا كله كثير ثمين فسنشعر بالفرق بين الشعرين وسنعود إلى القافية نستحسن مراعاتها والتزامها، ولا أحسب أحدا يدعونا إلى ترك الشعر القديم وإهماله لنفسح المجال للشعر المرسل في غير حاجة ملحة ولا ضرورة ملجئة، وإذن فالتجديد في الشعر بإرساله دعوة لا تقوم على أساس من الفن يصلح لأن يطغى على القافية فيمحوها من الشعر العربي

وتشعر الآنسة ان المعنى إذا تم في البيت الواحد لم نحس بإهمال القافية، وهذا صحيح إذا كان الشعر معنى فقط لا دخل للحس فيه، ألا ترى الآنسة أن بعض أبيات قصيدتها وقد راعت فيه القافية كان ألذ للسمع من البعض الآخر الذي أهملتها فيه. هذا قولها:

قد أوهنت عظامه السنين

وغضنت جبينه العصور

وقسوة المسعى وراء العيش

قد أفقدته جزءه الإنساني

ألا ترى أن إهمال القافية في البيت الثاني قد جعله نابيا غريبا على السمع، فقبله الإدراك لحسن معناه، ورفضه السمع لاختلافه مع سابقه في مبناه؟ وهذا قولها:

يا سادة العبيد والأراضي

كيف لقاء الرب يوم الدين؟

يوم مثوله أمام الله

بعد سكون الساع والسنين

ألا ترى أن مراعاة القافية فيه قد كسبه جمالا وتهيأت له الإسماع والافهام؟ أؤكد للآنسة أن إهمال القافية لا يغني عنه تمام المعنى في البيت الواحد، وان شعور الكاتب نفسه لا يكفي دائما للحكم على آثاره الأدبية.

محمد قدري لطفي. ليسانسييه في الآداب

ص: 34

‌فلسفة سبينوزا

للأستاذ زكي نجيب محمود

شرحنا في المقال السابق فلسفة سبينوزا الميتافيزيقية التي تتلخص في أن في الكون حقيقة واحدة خالدة، هي عبارة عن قانون عام شامل لا ينقص ولا يزيد. هذه الحقيقة الخالدة، أو هذا القانون الشامل، لا يمكن أن يعبر عن نفسه ويفصح عن حقيقته إلا بواسطة الأجسام المادية، فاتخذ من تلك المادة التي تملأ جوانب الكون، قوالب وأشكالا لكي يبرز عن طريقها إلى عالم الواقع المحسوس، وهذه الصور والأشكال المادية التي تتخذ وسيلة للتعبير عن ذلك القانون الخالد، لا تظل على هيئة خاصة معينة، فهي متغيرة متبدلة أبدا، بل قد تزول وتفنى، ولكن تلك الحقيقة نفسها باقية خالدة لا تفنى ولا تزول، بل لا تنقص ولا تزيد، وهي لا تفتأ تلبس هذا الثوب المادي وتخلع ذاك إلى أبد الآبدين. وذكرنا أن ذلك القانون الأعلى وهذه الطبيعة شيء واحد لا يقبل التجزئة.

ونزيد في هذا المقال أن نتناول بالشرح الموجز فلسفته الأخلاقية والسياسية إتماما للبحث:

الذكاء والأخلاق

للأخلاق فلسفة متضاربة متناقضة، فهذا الفيلسوف يدعو إلى نظام أخلاقي معين، وذاك يروج لنقيضه، وثالث يقف بين بين، يأخذ من هذا وذاك بمقدار. فهذه المسيحية تبشر بفضائل الاستكانة والتواضع، وتدعو الناس إلى العطف والرحمة والإيثار، وتعلم الناس أنهم جميعا سواسية لا يمتاز رجل على رجل، ترد الشر بالخير، وتميل في السياسة إلى الديمقراطية المطلقة من كل القيود، وهي تعتبر المحبة أساس الفضيلة. . وذانكم مكيافلي ونيتشه يدعوان الناس إلى التخلق بأخلاق الرجولة القوية الصحيحة، وينكران المساواة بين الناس، فمنهم الضعيف ومنهم القوي، وفيهم العبقري الفيلسوف وفيهم الغبي الأبله، ويحفزان الناس إلى نبذ السلم والمغامرة في معمعان العراك والقتال ليحرز النصر من هو جدير بالنصر، وليتربع على الحكم من يستحق الحكم والسلطان، والفضيلة عندهما هي القوة، ويميلان في السياسة إلى الاستبداد والأرستقراطية الوراثية، فمكيافلي يصرح في كتابه (الأمير) بكل جرأة:(أن الأمير الذي يريد حفظ كيان دولته، لابد له في كثير من الأحيان أن يخالف الذمة والمروءة والإنسانية والدين) كما يحبذ نيتشه سياسة بسمارك التي تنتصر

ص: 35

بالحديد والدم.

وبين هذين النقيضين يقوم نظام أخلاقي وسط بين حب المسيح وقوة نيتشه، دعا إليه أرسطو، ومؤداه المزج بين أخلاق الضعف وأخلاق القوة، ويريد أن يلقى بزمام الأمر إلى العقل المثقف الحكيم، فهو وحده الذي يصح أن يؤتمن على اختيار الأخلاق الملائمة للمواقف المختلفة، فهو يعرف متى يلبس لبوس الحنان والعطف، ومتى يتنمر ليفترس، ومعنى ذلك أن الفضيلة عند أرسطو هي الذكاء، ويميل في السياسة إلى مزيج من الأرستقراطية والديمقراطية

ثم جاء سبينوزا فأخذ ينسج من هذه الصور وحدة خلقية متناسقة. وهو في هذا يسير سيرا منطقيا دقيقا حتى ينتهي إلى نتائجه التي يقدمها، فهو يبدأ بتقريره أن السعادة هي الغرض المقصود من الأخلاق الفاضلة. ولكن ما هي هذه السعادة التي نتجه نحوها ونقصد إليها؟ هي عنده في بساطة لا لبس فيها ولا غموض، وجود السرور وارتفاع الألم. ولكنا نعود فنقول: وما السرور والألم؟ أهما حالتان معينتان؟ أم هما نسبيان يختلفان باختلاف الأشخاص؟ هنا يجيب سيبنوزا بأنهما ليسا حالتين، أي ليس ثمة حالة مستقرة يقف عندها المرء قائلا: هنا السعادة، وهناك الألم. إنما السعادة شعور بانتقال النفس إلى درجة أدنى إلى الكمال، والألم شعور بانتقالها إلى مرتبة أبعد عنه. ولما كان الكمال عنده هو القوة، لا قوة نيتشه الغاشمة العمياء التي تقوم على الغريزة الوحشية، ولكنها القوة العقلية المتزنة. فكلما درجت صاعدا في سبيل هذه القوة العقلية كنت أقرب إلى الكمال، وكنت بالتالي سعيدا مطمئن النفس. ومعنى هذا أن العواطف والمشاعر هي مسالك أو طرق تسير فيها النفس، مقبلة نحو القوة تارة، مدبرة عنها طورا. (لاحظ العلاقة بين كلمتي ووكذلك بين كلمتي ولتدرك العلاقة القوية في اللفظ بين ألفاظ الحركة وألفاظ العواطف والمشاعر. ومثل هذه العلاقة موجودة أيضا في اللغة الفرنسية) فالفضيلة والقوة عند سبينوزا شيء واحد، أي أن الفضيلة هي زيادة فاعلية النفس التي تعمل على حفظ البقاء. وكلما اتسعت مقدرة الإنسان على حفظ وجوده ازداد ما يتحلى به من فضيلة. وبعبارة أوضح يعتقد سبينوزا أن أساس الفضيلة هي الأنانية المعتدلة التي تعينك على الاحتفاظ بوجودك، وهو لا يرى في حب الشخص لنفسه ضررا يلحق بالأخرين، واذن فلا خير في أن تضحي بنفسك من أجل

ص: 36

غيرك إلا إذا كان في ذلك قوة لك، وهكذا يجب أن يحب كل إنسان نفسه، وان يلتمس كل وسيلة ممكنة تأخذ بيده إلى مرتبة أدنى إلى الكمال

فأنت ترى من ذلك أن سبينوزا لا يبني الأخلاق على الإيثار والخير الطبيعي، ولا على الأنانية البشعة والشر الطبيعي، ولكن على أنانية معقولة لا يجد منها مفرا لحفظ البقاء وعنده أن هذه الأنانية المعتدلة التي يمليها منطق الحياة نفسها لا يمكن أن تباعد بين مصالح الأفراد، أو تبذر بذور البغضاء في النفوس، لذلك تراه لا يتمالك نفسه حيرة في هذا التحاسد والتنابذ والكراهية، وهو يائس من أن يبرأ المجتمع من علله وأمراضه قبل أن يهذب الناس من هذه العواطف ويصلحوها، وهو ينصح لنا أن نبادل أعدائنا حبا بكره، ذلك لأن الكراهية تنمو وتتغذى إذا وجدت لها صدى من كراهية مثلها في نفوس الآخرين. وهو بمحاربة هذا التباغض، ينشد فينا النخوة الحق والرجولة الصحيحة، فأنت حين تشعر بالكراهية نحو غيرك، فإنما يكون ذلك اعترافا صريحا منك بانحطاطك دونه وخوفك منه، لأنك لا تكره عدوا تثق بأنك تستطيع أن تتغلب عليه في سهولة وتدحره في غير عناء.

وإذا كانت عواطفنا الغريزية كما نرى حائرة السبيل يعوزها الدليل الأمين، فلا يجوز إذن أن نلقي بزمامنا اليها، إنما يجب أن يكون الفكر وحده رائدنا، ولكن سبينوزا لا يريد أن نكبح الغرائز جملة واحدة، لا بل نستغلها ونتخذ منها دافعا يسوقنا تحت سيطرة العقل وإشرافه، فتكون هي بمثابة قوة البخار الذي يدفع القطار، ويكون العقل بمثابة السائق الذي يتحكم في سيره ووقوفه، وحجته في عجز الغرائز وحدها عن القيادة، انها متضادة الأغراض متضاربة المقاصد، فإذا ما تركناها على سجيتها، انطلقت كل واحدة تسعى في إشباع رغبتها، دون أن تراعي صالح الكل، وإذن فلابد من رقابة رشيدة تعمل أولا وقبل كل شيء لما فيه خير الشخص كمجموعة متحدة، بأن نكبح بعض الغرائز حينا، ونطلق بعضها الآخر حينا، حسب ما يتطلبه الموقف، ومعنى ذلك كله أن الفضيلة مرهونة بالمعرفة أو الذكاء

والذكاء وحده هو الوسيلة التي نستطيع بها أن نحرر أنفسنا من سيطرة الغرائز التي تفرض عليها سلوكا معينا، وتعمل جهدها لقسرنا عليه، فنحن عبيد لها بقدر انسياقنا لما تمليه علينا، أي أن سلبية العاطفة عبودية للآنسان، وحريته في فاعلية العقل. فالحرية

ص: 37

الشخصية متوقفة على المعرفة، وفي ذلك يقول ديوي أستاذ الفلسفة في جامعة كولمبيا بالولايات المتحدة:(إن الطبيب أو المهندس يكون حرا في فكره وعمله بمقدار ما تتسع معرفته في المهنة التي يباشرها، وقد تكون هذه المعرفة مفتاح الحريات جميعا)

بناء على ذلك يكون السوبرمان (الإنسان الأعلى) الذي ينشده سبينوزا هو الذي يستطيع أن يحرر نفسه من سلطان الغرائز، وليس هو الذي يتخلص من القيود الاجتماعية العادلة كما صوره نبتشه. يقول سبينوزا:(ان من يعملون الخير بناء على إرادة العقل، ويلتمسون النفع الذي يدل عليه المنطق الصحيح، هؤلاء في الواقع ينشدون مع خير أنفسهم صالحا للإنسانية عامة) فلأن تكون عظيما لا يعني أن تضع نفسك فوق مستوى البشر لتنشب أظفارك في أعناقهم كما يريد نيتشه، ولكن العظمة هي أن تترفع عن سخف الرغبات الغريزية، التي لا يشرف عليها عقل متزن حكيم، ليست العظمة في أن تحكم الآخرين، وإنما هي في أن تحكم نفسك

هذه الحرية التي تستطيع أن تنعم بها من السيطرة على نفسك هي أشرف مما يسمونه حرية الإرادة، لأن الإرادة مجبرة مسيرة، أو قل ليس ثمة إرادة ما، لأن الإرادة والفكر وجهان لحقيقة واحدة. وهنا يلاحظ سبينوزا أن ليس في جبر الإرادة نقيصة يؤسف عليها، بل هو يهذب الأخلاق ويسمو بها إلى مستوى رفيع، فهو يعلمنا ألا نحتقر انسانا، كائنا ما كان موضعه من المجتمع، لأنه غير مسئول عن ذلك الموضع، إنما كتبت له الإرادة العليا أن يكون حيث هو. والجبر كذلك يوحي إلينا الرضى عما قد يبديه الدهر من قسوة وغلظة، لأننا نعلم أنه إن ظلم وجار في ناحية معينة، فلابد أن يكون ذلك لصالح الكل، ما دامت الأفراد جزءا من جسم الوجود المتحد

الرسالة السياسية

كان صوت سبينوزا واحدا من تلك الأصوات التي انطلقت تصيح بحرية الإنسان. ففي نفس الوقت الذي كان فيه (هوبز) يدافع عن الملكية في إنجلترا، ويقاوم بنظريته قوة الشعب الإنجليزي التي أخذت تناهض استبداد الملك، كتب سبينوزا فلسفته السياسية، وهي تعبر تعبيرا صادقا عن الديمقراطية التي بدأ يختلج حلمها الجميل في نفوس الناس عندئذ، والتي أخذت تنمو وتنمو حتى بلغت ذروتها عند روسو، ثم تدفقت ثورة عنيفة في فرنسا

ص: 38

يقدم سبينوزا بادئ الأمر هذه البديهية التي لا تحتمل الشك، وهي إن الإنسان في أول نشأته كان يعيش منفردا غير مجتمع، فلا يرتبط مع غيره بقانون ولا نظام، لا يفهم معنى الحق ألا ما يستطيع أن يستولي عليه بالقوة، وإذن لم يكن ذلك الإنسان الأول يدرك معنى الخير والشر، لأنهما عبارتان اصطلح عليهما بعد تكوين المجتمع، إذ أطلقتا على بعض الأعمال التي تواضع عليها الأفراد، أما قبل ذلك فكان الفرد يتصرف حسب ما تملي عليه شهوته، وبالطبع لم يكن مسئولا عن تصرفاته إلا أمام نفسه، ومعنى هذا أن الجريمة لم يكن لها وجود في الحياة الطبيعية الأولى، لأنها لا تدرك إلا في حالة المدنية، حيث يتفق الجميع على تحديد الخير والشر، ويصبح كل إنسان مسئولا عن ذلك أمام هيئة معترف بها هي الدولة

وأنت تستطيع أن تتمثل الحياة الطبيعية الأولى التي لم تكن تفرق بين الخير والشر، أو بعبارة أخرى بين ما يجوز عمله وما لا يجوز، في علاقة الدول بعضها مع بعض، إذ لا يربطها نظام خلقي معترف به في قوة النظام الذي يربط الأفراد، ولا تشرف عليها سلطة عامة نافذة الإرادة كما هي الحال بين الأفراد، لذلك كان الحق في العلاقات الدولية هو القوة (يلاحظ أن اسم الدولة العظمى بالإنجليزية هو وفي هذا إشارة صريحة تؤيد هذا المعنى) إذ لا تفهم الدول على وجه الدقة معنى الخير والشر كما يفهمها الأفراد

كان الناس إذن يعيشون بادئ الأمر كما تعيش الدول الآن، ليس لأحدهم عند الآخر حقوق، ولكن لم يلبث الإنسان أن شعر بحاجته إلى التعاون لدرء ما يتعرض له من الخطر، فاتفق الأفراد فيما بينهم على أن يتآزروا إذا دهمهم داهم من سوء، ومعنى ذلك أن الإنسان ليس مدنياً بالطبع، ولكنه اجتمع لدفع أخطار الحياة. وحسبك دليلا أن تلقى نظرة عجلى على الغرائز الإنسانية، لترى كيف أن الغرائز الاجتماعية أضعف جدا من الغرائز الفردية، فالإنسان يسعى لخيره أولا ثم يسعى لخير الدولة، بل هي الأنانية أيضا التي تدفعه للسعي وراء خير الدولة، لأنها دولته هو، ويريد أن يسعد بسعادتها.

اضطر الإنسان إذن إلى الاجتماع بعد تلك الحياة الفردية، فتواضع الجميع على حدود خاصة لا يجوز لواحد أن يشذ عنها، بحيث يصبح لكل إنسان الحق في أن يتصرف كيف شاء، دون أن يخرج على تلك الحدود المرسومة، أي أن له أن يستمتع بكل ما له من قوة

ص: 39

شخصية دون أن يغير على حرية الآخرين، وبعبارة أخرى اتفق الأفراد على أن ينزل كل منهم عن بعض حقوقه الطبيعية لهذه الجماعة المنظمة، في مقابل أن يأمن ويطمئن على حقوقه الباقية، أي أن قانون الجماعة يجب ألا تزيد وظيفته على الأشراف العام، بحيث يسعى كل فرد حرا، في غير تضارب ولا تنافر بين الأفراد، أي أن القانون الكامل يجب أن يكون للأفراد بمثابة العقل للعواطف: يحسن تصريفها بحيث يزيد نشاطها من قوة الكل، دون أن تتعرض واحدة منها لنشاط الأخرى

(فالغرض الأسمى من الدولة إذن، لا أن تحكم الناس، ولا أن تحد من مجهودهم، بل يجب أن تؤمن الإنسان من كل المخاوف، حتى يعيش ويعمل في طمأنينة تامة. . . الغرض من الدولة أن تدع الناس يعيش بعضهم بجانب بعض، كل يستغل قوته العقلية في صالح المجموعة، حتى لا تتبدد قواهم في التنابذ والتنافر، إذن فالغرض الأسمى من الدولة هو الحرية)

وظيفة الدولة العليا أن تكفل للأفراد حريتهم، ومعنى ذلك أن الديمقراطية هي المثل الأعلى لنظام الحكم، ثم يستدرك سبينوزا بقوله أن ضرر الديمقراطية الوحيد هو ميلها إلى وضع غير الأكفاء في مناصب الحكم، ولذلك ينصح علاجا لذلك أن يتسلم إدارة الدولة جماعة من ذوي العقول الجبارة، كي يسيروا بها بعيدا عن مواطن الزلل. . . .

وفاضت روح سبينوزا وهو يكتب للناس رسالة الحرية

ص: 40

‌ياليتني.

. .

إذا أطل البدر من خدره

فإنما يطلع كي تنظريه

وان شدا البلبل في وكره

فإنما يشدو لكي تسمعيه

وان يفح عطر زهور الربى

فإنما يعبق كي تنشقيه

يا ليتني البدر الذي تنظرين!

يا ليتني الطير الذي تسمعين!

يا ليتني العطر الذي تنشقين!

أواه لو تصدق (يا ليتني)!

إيليا أبو ماضي

ص: 41

‌العبقرية. علم وأدب وفن

للأستاذ الحوماني

واختلال نظام الحياة في الجسم مدعاة كبرى لاختلال نظام الحياة في الروح لشدة تلازمهما بشدة امتزاجهما، فإذا كان لمحيطك جزء فيك ولك فيه مثل ذلك بصحبتك إياه زمنا ما، فما قولك بصحبة الروح للجسم أزمانا يقصر العقل دون حدها؟

ولا تنس أنك وأنت تلحظ ما يدفعك اليها مستعرضا ما يحف بها من هذه العوامل، أنك جد عاجز عن لحاظ ما يردعك عنها من مرجحات العفاف.

وهكذا تراك، وأنت تلحظ مرجحات الفعل قاصراً بطبعك أن تلحظ مرجحات الترك، ضرورة أنه يستحيل على المرء أن يفكر في أمرين في وقت واحد فيجمع بين النقيضين، فاحفظ هذه لترجع اليها قريبا.

فالذي يدفعك إلى هذا العمل أو سواه من وراء الإرادة لقوة عوامل الدفع من الخارج في نفسك، والذي يردعك عنه لقوة نقيضها من عوامل الردع، والذي تستعرض به هذه العوامل أو غيرها في المجتمع، والذي يميز هذه الخواطر وهو يتصفحها فيفاضل بينها، والذي يخزنها في إحدى زوايا النفس أو يطبعها على صفحات القلب، والذي يستخرجها عند مسيس الحاجة إليها ويبحث عنها فيما إذا خفيت وراء الضمير، والذي يدرس بها الحوادث الخارجية درساً يستحيل مَلكَة في النفس تعصمها عن الزلل في الحياة، والذي تحس به ما تمسك إليه الحاجة في نفسك أو في بدنك، والذي يلهب جسمك تصوره ويحدم صدرك بما يتأثر به من عامل، والذي يزاوج بين محسوساتك فيستخرج من الحقيقة خيالا عن طريق الإبداع في التصوير، كل ذلك واحد لا تتعدد حقيقته، وجزئي فيك من ذلك المعنى الكلي تتعدد أسماؤه بما يتكيّف به من شكل ولون خارجيتين

فإذا استعرض الحوادث وحاكم بينها ليميز حسنها من قبيحها كان فكراً، وإذا حملك على فعل الحسن لقوة ما يحفه من عامل خارجي كان عقلا. وإذا دفع بك إلى اقتراف الإثم لما تحصّل عنده من ترجيح بسبب ما يحفه من عامل كان هوى، فإذا خزن ما يمر به من خواطر في إحدى زوايا النفس سمي حافظة، ثم إذا هو استخرجها بعد حين أو راح يبحث عنها سمي ذاكرة

ص: 42

وإذا درست به الحوادث فربى فيك ملكه الاستنباط سمى حذقاً ودهاء، وهكذا قد تتصور به مباشرة أو عن طريق حواسك ما تنفعل به نفسك فينتج سروراً أو حزناً ينتجان لذة أو ألما فتدعو ما ينتج عنه عاطفة.

وقد يبدع في التصوير أو يتصور مرغما بدافع الوهم الخارجي فيعطيك على طريق العبث بالحياة أو الخطأ في التصور صورا خيالية ينتزعها من الحقيقة فتسميه خيالا أو وهماً

فالعقل والفكر والحذق والحافظة والذهن والفطنة والذكاء والحلم والهوى النفس الأمارة بالسوء والشيطان، كل ذلك مصدر، واحد لهذا العمل الخارجي، يتلون بالعوامل التي تحف بالعمل محسنه ومقبحه، يلبس لكل مؤثر لونا غير لونه مع مؤثر آخر، ويدعى معه باسم كان قد دعي مع غيره باسم آخر

أما استلزامه في الدين حكم الجبر فذلك مما أرجحه، والدين إنما كان لتربية المجتمع تدريجا ليستحيل الهوى فيه عقلا، ويحول المثل الأدنى فيه مثلا أعلى بحكم التطور، إذ الخصائص النفسية بعد الإرادة غرائز تكونت من الكسب الاجتماعي، والجبر لا مناص منه قبل هذه الاستحالة وبعدها، فالمرء مع الهوى المطلق مجبر على كونه شيطانا، ومع العقل المطلق مجبر على كونه ملكا.

فعلى هذا يكون مناط المثل الأعلى والمثل الأدنى في المرء واحدا ولكنه باعتبارين مختلفين، ولا عجب في ذلك فالمرء يجمع الأضداد، فبينما هو الحليم الرزين في حالة، إذا هو الأحمق الطائش في حالة أخرى، وبينما هو الشجاع المقدام في مشهد، إذا هو الجبان الرعديد في مشهد آخر، فليس ذلك ناشئا فيه إلا بفضل هذا السر الغامض الكامن في نفسه المتلونة. وربما استقام لنا أن نخص المثل الأعلى بالعقل، ونعزو المثل الأدنى للإرادة، إنما لابد لنا ونحن نمشي مع رغباتنا إلى العمل السيء بعد المحاكمة العقلية وثبوت قبح هذا العمل لدى العقل أن نتساءل أين ذهب عنا ما نسميه عقلا فلا نحصله إذ ذاك إلا بعد أن نلتفت إليه؟

فما هو هذا الذي نلتفت به إلى العقل؟

هل هي الإرادة وهي التي تدفعنا؟

ثم أين يكون العقل ونحن في انغماس بما تحملنا الإرادة على الخوض فيه خلاف العقل؟

ص: 43

فهل نفقده إذ ذاك ويكاد يكون جزءاً مقوما في النفس، والنفس بمجموعها تيار لا ينفك متلاطما، ولا يخبو له نشاط حتى يتعطل ما يمسكه من آلة.

فهل يذهب به إذ ذاك اختلال مركزه العصبي بينما نستطيع استرجاعه بأقل التفات؟

(النبطيه) جبل عامر

ص: 44

‌بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام

للأستاذ محمد عبد الله عنان

وبينما قامت الدولة الإسلامية ثابتة وطيدة الدعائم، وقامت في جميع أقطار الخلافة حكومات محلية قوية ومجتمعات إسلامية مستنيرة، وجيوش غازية منظمة، إذا بمجتمع القبائل الجرمانية غزاة رومة من الشمال ما يزال إذا استثنينا مملكة الفرنج على حالته من البداوة والتجوال والتفرق. وكان الفرنج هم قادة القبائل الجرمانية في هذا الصراع الذي نشب في سهول فرنسا وآذن طوره الحاسم بعبور المسلمين إلى فرنسا في ربيع سنة 732، وكان سيل الفتح الإسلامي ينذر باجتياح فرنسا منذ عشرين عاما أعني مذ عبر المسلمون جبال البرنيه بقيادة موسى بن نصير لأول مرة واستولوا على سبتمانيا ثم اقتحموا بعد ذلك وادي الرون واكوتين أكثر من مرة. ولكن مملكة الفرنج كانت يومئذ تشغل بالمعارك الداخلية وتقتتل حول السلطان والرياسة حتى ظفر كارل مارتل بمنصب محافظ القصر، وأتفق أعواما أخرى في توطيد سلطانه؛ بينما كان خصمه ومنافسه أودو أمير أكوتين يتلقى وحده ضربات العرب. فلما استفحل خطر الفتح الإسلامي وانساب نحو الشمال حتى بورجونيا منذ ولاية الهيثم فزع الفرنج وهبت القبائل الجرمانية في أوستراسيا ونوستريا لتذود عن سلطانها وكيانها.

وكان الخطر داهما حقيقيا في تلك المرة لأن المسلمين عبروا البرنيه عندئذ في أكبر جيش حشد وأتم أهبة اتخذت منذ الفتح. وكان على رأس الجيش الإسلامي قائد وافر الهمة والشجاعة والبراعة هو عبد الرحمن الغافقي وهو أعظم جندي مسلم عبر البرنيه. وكان قد ظهر ببراعته في القيادة منذ موقعة تولوشة حيث استطاع إنقاذ الجيش الإسلامي من المطاردة عقب هزيمته ومقتل قائده السمح والارتداد إلى سبتمانيا. وتبالغ الرواية الفرنجية في تقدير جيش عبد الرحمن وأهبته فتقدره بأربعمائة ألف مقاتل، هذا غير جموع حاشدة أخرى صحبها لاستعمار الأرض المفتوحة. وهو قول ظاهر المبالغة. وتقدره بعض الروايات العربية بسبعين أو ثمانين ألف مقاتل، وهو أقرب إلى الحقيقة والمعقول. بل لقد أثارت هذه الغزوة الإسلامية الشهيرة وهذا الجيش الفخم خيال الشاعر الأوربي الحديث، فنرى الشاعر الإنجليزي سوذي يقول في منظومته عن ردريك آخر ملوك القوط:

ص: 45

(جمع لا يحصى، من شام وبربر وعرب وروم خوارج. وفرس وقبط وتتر عصبة واحدة. يجمعها إيمان هائم راسخ الفتوة. وحمية مضطرمة واخوة مروعة. ولم يك الزعماء أقل ثقة بالنصر. وقد شمخوا بطول ظفر. يهيمون بتلك القوة الجارفة التي أيقنوا أنها كما اندفعت حيثما كانوا بلا منازع ستندفع ظافرة إلى الأمام حتى يصبح الغرب المغلوب كالشرق. يطأطيء الرأس إجلالاً لاسم محمد. وينهض الحاج من أقاصي المنجمد. ليطأ بأقدام الإيمان الرمال المحرقة. المنتثرة فوق صحراء العرب وأراضي مكة الصلدة)

ونفذ عبد الرحمن في جيشه الزاخر إلى فرنسا كما قدمنا في ربيع سنة 732م (أوائل سنة 114هـ) واقتحم وادي الرون وولاية اكوتين وشتت قوى الدوق أودوا طبق ما أسلفنا، وأشرف بعد هذا السير الباهر على ضفاف اللوار. وتقول بعض الروايات الكنسية أن أودو هو الذي استدعى عبد الرحمن إلى فرنسا ليعاونه على محاربة خصمه (كارل مارتل). ولكن هذه الرواية مردودة غير معقولة لما قدمنا من أن أودو هو الذي بادر إلى مقاومة عبد الرحمن ورده، وكانت مملكته وعاصمته أول غنم للمسلمين. وكان ملك الفرنج يومئذ تيودريك الرابع، ولكن ملوك الفرنج كانوا في ذلك العصر أشباحا قائمة فقط. وكان محافظ القصر كارل مارتل هو الملك الحقيقي يستأثر بكل سلطة حقيقية وعليه يقع عبء الدفاع عن ملكه وأمته، وكان منذ استفحل خطر الفتح الإسلامي يتخذ أهبته ويحشد قواه، ولكن عبد الرحمن نفذ إلى قلب فرنسا قبل أن يتحرك للقائه. وترد الرواية الإسلامية هذا البطء إلى خطة مرسومة مقصودة فتقول في هذا الموطن (فاجتمعت الفرنج إلى ملكها الأعظم قارله وهذه سمة لملوكهم، فقالت له ما هذا الخزي الباقي في الاعقاب؟ كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس حتى أتو من مغربها استولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدة والعدد يجمعهم القليل وقلة عدتهم وكونهم لا دروع لهم. فقال لهم ما معناه: الرأي عندي ألا تعترضوهم في خرجتهم هذه، فانهم كالسيل يحمل من يصادره، وهم في إقبال أمرهم، ولهم نيات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم ويتخذوا المساكن ويتنافسوا في الرياسة ويستعين بعضهم ببعض، فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر) ونستطيع أيضا أن نعلل تمهل كارل مارتل بقصده إلى ترك خصمه ومنافسه أودو دون غوث حتى يقضي المسلمون على ملكه

ص: 46

وسلطانه فيتخلص بذلك من منافسته ومناوأته.

وعلى أي حال فان عبد الرحمن كان قد اقتحم أكرتين وجنوب فرنسا كله، حينما تأهب كارك مارتل للسير إلى لقائه. وجاء الدوق أودو بعد ضياع ملكه وتمزيق قواته يطلب الغوث والنجدة من خصمه القديم أعني كارل مارتل. وكان كارل قد حشد جيشا ضخما من الفرنج ومختلف العشائر الجرمانية المتوحشة والعصابات المرتزقة فيما وراء الرين يمتزج فيه المقاتلة من أمم الشمال كلها، وجله جند غير نظاميين نصف عراة يتشحون بجلود الذئاب وتنسدل شعورهم الجعدة فوق أكتافهم العارية. وسار زعيم الفرنجة في هذا الجيش الجرار نحو الجنوب لملاقاة العرب في حمى الهضاب والربى حتى يفاجئ العدو في مراكزه قبل أن يستكمل الأهبة لرده. وكان الجيش الإسلامي قد اجتاح عندئذ جميع أراضي أكوتين التي تقابل اليوم من مقاطعات فرنسا الحديثة جويان وبريجور وسانتونج وبواتو. وأشرف بعد سيره المظفر على مروج نهر اللوار الجنوبية حيثما يلتقي بثلاثة من فروعه هي (الكريز)(والفيين)(والكلين)

ومن الصعب أن نعين بالتحقيق مكان ذلك اللقاء الحاسم في تاريخ الشرق والغرب والإسلام والنصرانية. ولكن المتفق عليه انه هو السهل الواقع بين مدينتي بواتييه وتور حول نهري (كلين)(وفيين) فرعي اللوار على مقربة من مدينة تور. والرواية الإسلامية مقلة موجزة في الكلام عن تلك الموقعة العظيمة وليس فيها لدينا من المصادر العربية عنها أي تفصيل شامل. وإنما وردت تفاصيل للرواية الإسلامية عن الموقعة نقلها إلينا المؤرخ الأسباني كوندي سنعود إليها بعد. وتفيض الرواية الفرنجية والكنسية بالعكس في حوادث الموقعة وتقدم إلينا عنها تفاصيل شائقة ولكن يحفها الريب وتنقصها الدقة التاريخية. وقد رأينا أن نجمل وصف الموقعة أولا بما لدينا من أقوال الروايتين ثم نورد كلتيهما بعدئذ بتفاصيلها.

انتهى الجيش الإسلامي في زحفه إلى السهل الممتد بين مدينتي بواتييه وتور كما قدما، واستولى المسلمون على بواتييه ونهبوها وأحرقوا كنيستها الشهيرة، ثم هجموا على مدينة تور الواقعة على ضفة اللوار اليسرى واستولوا عليها وخربوا كنيستها أيضا. وفي ذلك الحين كان جيش الفرنج قد انتهى إلى اللوار دون أن يشعر المسلمون بمقدمه بادئ بدء، وأخطأت الطلائع الإسلامية تقدير عدده وعدته. فلما أراد عبد الرحمن أن يقتحم اللوار

ص: 47

لملاقاة العدو على ضفته اليمنى فاجأه كارل مارتل بجموعه الجرارة. وألفى عبد الرحمن جيش الفرنج يفوقه في الكثرة فارتد من ضفاف النهر ثانية إلى السهل الواقع بين تور وبواتيه. وعبر كارل مارتل اللوار غرب تور وعسكر بجيشه إلى يسار الجيش الإسلامي بأميال قليلة بين نهري كلين وفيين فرعي اللوار.

ص: 48

‌في الأدب العربي

عكاظ والمربد

للأستاذ أحمد أمين

المربد

أما المربد، على وزن منبر، فضاحية من ضواحي البصرة؛ في الجهة الغربية منها ما يلي البادية، بينه وبين البصرة نحو ثلاثة أميال. كان سوقاً للإبل، قال الأصمعي:(المربد كل شيء حبست به الإبل والغنم. . . وبه سميت مربد البصرة؛ وإنما كان موضع سوق الإبل) وهو واقع على طريق من ورد البصرة من البادية ومن خرج من البصرة أليها. ويظهر أنه نشأ سوقاً للإبل، أنشأه العرب على طرف البادية يقضون فيه شؤونهم قبل أن يدخلو الحضر أو يخرجوا منه.

وقد كان العرب في بادية العراق قبل الفتح الإسلامي؛ ونزلت فيه قبائل من بكر وربيعة، وكونوا فيه أمارة المناذرة في الحيرة؛ فكان هذا الإقليم معروفاً لهم وكانت الرحلات من البادية إلى العراق، ومن العراق إلى البادية في حركة مستمرة (ومعلوم أن البصرة إنما خططت في الإسلام في عهد عمر بن الخطاب ونزل بها العرب على منازلهم من يمنية ومضرية) ولكن يظهر أن المربد كان قبل أن تخطط البصرة، وكان قبل الإسلام؛ وربما فهم ذلك من قول الطبري: بعث عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان فقال له أنطلق أنت ومن معك حتى إذا كنتم في أقصى أرض العرب وأدنى أرض العجم فأقيموا. فأقبلوا حتى إذا كان بالمربد وجدوا هذا الكذان قالوا ما هذه البصرة.

وقال في اللسان (في مادة ب ص ر) وقال أبن شميل: البصرة أرض كأنها جبل من جص وهي التي بنيت بالمربد وإنما سميت البصرة بصرة بها. ولكن أخباره في الجاهلية منقطعة أو معدومة مما يدل على قلة خطره إذ ذاك، إنما كان له الخطر بعد أن فتح العرب العراق وسكنوه وخططوا البصرة، فقد أنشئت فيه المساكن بعد أن كان مربداً للإبل فقط. واتصلت العمارة بينه وبين البصرة حتى قالوا فيه:(العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين البصرة، ودارين عين المربد)

ص: 49

وقد كان المربد في الإسلام صورة معدلة لعكاظ، كان سوقاً للتجارة، وسوقاً للدعوات السياسية وكان سوقاً للأدب. جاء في كتاب (ما يعول عليه) المربد كل موضع حبست فيه الإبل. . ومنه سمي مربد البصرة لاجتماع الناس وحبسهم النعم فيه. كان مجتمع العرب من الأقطار، يتناشدون فيه الأشعار؛ ويبيعون ويشترون وهو (كسوق عكاظ) وقال العيني:(مربد البصرة. . . محلة عظيمة فيها (البصرة) من جهة البرية كان يجتمع العرب من الأقطار ويتناشدون الأشعار ويبيعون ويشترون).

وليس يهمنا هنا أثره السياسي والأدبي، وهما مرتبطان بعضهما ببعض أشد الارتباط. فلا داعي للتفريق بينهما؛ فقد كانت الأحزاب السياسية تنتج أدباً من خطب وشعر، وكانت الخطب والشعر تقوي الأحزاب السياسية وتساعد في تكوينها والحروب بينهما.

المربد في عصر الخلفاء الراشدين

كانت أهم الأخبار في ذلك العصر ما كان بعد قتل عثمان أبن عفان من سير عائشة أم المؤمنين إلى البصرة، فأنها نزلت بفضاء البصرة ورأت أن تبقى خارجها حتى ترسل إلى أهلها تدعوهم بدعوتها، وهي المطالبة بدم عثمان، وبعبارة أخرى الخروج على عليّ؛ وكان معها طلحة والزبير، ثم سارت إلى المربد معهما وخرج إليها من قبل دعوتها، وخرج إلى المربد كذلك عامل عليّ على البصرة، وهو عثمان بن حنيف ومن يؤيده، وأصبح المربد وهو يموج بمن أتى من الحجاز ومن خرج من البصرة، حتى ضاق المربد بمن فيه؛ ورأينا المربد مجالاً للخطباء ممن يؤيد عائشة ومن معها، ومن يؤيد علياً وعامله. أصحاب عائشة في ميمنة المربد وأصحاب علي في ميسرته؛ ويخطب في المربد طلحة ويمدح عثمان بن عفان، ويعظم ما جنى عليه ويدعو إلى الطلب بدمه ويخطب الزبير كذلك وتخطب عائشة أم المؤمنين بصوتها الجهوري ويؤيدهم في ميمنة المربد، ويقولون صدقوا وبروا وقالوا الحق وأمروا بالحق، ويؤثر قول عائشة في أهل الميسرة فينحاز بعضهم أليها ويبقى الآخرون على رأيهم وعلى رأسهم عثمان بن حنيف، ويخطبون كذلك يبينون خطأ الدعوة وأن طلحة والزبير بايعا علياً فلا حق لهما في الخروج عليه، ويؤيدهم أبو الأسود الدؤلي وأمثاله.

وهكذا ينتقل المربد إلى مجمع حافل، فيه الدعوات السياسية مؤيدة بالحجج والبراهين وفيه

ص: 50

معرض البلاغة من خطب طويلة وجمل قصيرة متينة، وفيه الجدل والمناظرة وبحث أهم الأحداث في ذلك العصر، وهو مقتل عثمان بن عفان، وتحديد المسؤولية في قتله. ولم تفد هذه الحرب اللسانية فانتقلت إلى حرب بالسلاح وأصبح المربد ساحة للقتال.

المربد في عهد بني أمية

كان العصر الأموي أزهى عصور المربد، ذلكم لأن العرب كانوا قد هدءوا من الفتح واستقرت الممالك في أيديهم، وأصبح العراق مقصد العرب، يؤمه من أراد الغنى وخاصة البصرة، جاء في الطبري (أن عمر بن الخطاب سأل أنس بن حجية وكان رسولاً إلى عمر من العراق فقال له عمر: كيف رأيت المسلمين؟ فقال إنثالت عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهب والفضة، فرغب الناس في البصرة فأتوها) وكان المربد باب البصرة يمر به من أرادها من البادية، ويمر به من خرج من البصرة إلى البادية، ويقطنه قوم من العرب كرهوا معيشة المدن، ويقصده سكان البصرة يستنشقون منه هواء البادية، فكان ملتقى العرب، وكانوا يحيون فيه حياة تشبه حياة الجاهلية من مفاخرة بالأنساب وتعاظم بالكرم والشجاعة، وذكر لما كان بين القبائل من أحن، فالفرزدق يقف في المربد ينهب أمواله فعل كرماء الجاهلية (حكي في النقائض أن زياد بن أبي سفيان كان ينهى أن ينهب أحد مال نفسه، وأن الفرزدق أنهب أمواله بالمربد، وذلك أن أباه بعث معه إبلاً ليبيعها فباعها وأخذ ثمنها فعقد عليه مطرف خز كان عليه، فقال قائل لشد ما عقدت على دراهمك هذه، أما والله لو كان غالب ما فعل هذا الفعل فحلها ثم لأنهبها، وقال من أخذ شيئاً فهو له، وبلغ ذلك زياداً فبالغ في طلبه فهرب. . . فلم يزل في هربه يطوف في القبائل والبلاد حتى مات زياد.)

وكان الأمويون على وجه العموم يعيشون عيشة عربية ويحتفظون بعربيتهم، أن أخذوا شيئاً من الحضارة صبغوه بصبغتهم وحولوه إلى ذوقهم وكذلك فعل عرب البصرة، أرادوا أن يكون لهم من مربد البصرة ما كان لهم من سوق عكاظ في الحجاز فبلغوا غايتهم. وأحيوا العصبية الجاهلية. وساعد الخلفاء الأمويون أنفسهم على أحيائها لما كانوا يستفيدون منها سياسياً، فرأينا ظل ذلك في الأدب والشعر، ورأينا المربد في العصر الأموي يزخر بالشعراء يتهاجون ويتفاخرون، ويعلي كل شاعر من شأن قبيلته ومذهبه السياسي، ويضع من شأن غيره من الشعراء ومذاهبهم السياسية.

ص: 51

ومن أجل هذا خلف لنا المربد أجل شعر أموي من هذا النوع. فكثير من نقائض جرير والفرزدق والأخطل كانت أثرأ من آثار المربد قيلت فيه، وصدرت عما كان بينهم من منافرة وخصومة. يروي الأغاني أن جريراً والفرزدق اجتمعا في المربد فتنافرا وتهاجيا وحضرهما العجاج والأخطل وكعب بن جعيل ألخ في خبر طويل.

كان كل من جرير والفرزدق يلبس لباساً خاصاً ويخرج إلى المربد ويقول قصائده في الفخر والهجاء، والرواة يحملون إلى كليهما ما قاله الآخر فيرد عليه. قال أبو عبيدة (وقف جرير بالمربد وقد لبس درعاً وسلاحاً تاماً وركب فرساً أعاره إياه أبو جهضم عباد بن الحصين.) فبلغ ذلك الفرزدق فلبس ثياب وشى وسواراً وقام في مقبرة بني حصن ينشد بجرير والناس يسعون فيما بينهما بأشعارهما فلما بلغ الفرزدق لباس جرير السلاح والدرع قال:

عجبت لراعي الضأن في حطمية

وفي الدرع عبد قد أصيبت مقاتله

ولما بلغ جريراً أن الفرزدق في ثياب وشى قال:

لبست سلاحي والفرزدق لعبة

عليه وشاحاً كرج وجلاجله

وما زالا كذلك يتهاجيان ويقولان القصائد الطويلة الكثيرة حتى ضج والي البصرة فهدم منازلهما بالمربد فقال جرير:

فما في كتاب الله تهديم دارنا

بتهديم ماخور خبيث مداخله

ص: 52

‌من طرائف الشعر

مداعبات شوقية لم تنشر

قصيدة أخرى لم تكتمل، قيلت في مكسويني حصان الدكتور محجوب ثابت أيام الثورة المصرية حين كان الدكتور يرتاد (بار اللوا) وجريدة الأهرام.

تُفدّيك يا مكس الجياد الصلادم '

وتفدى الأساةُ النُطسُ من أنت خادم

كأنك إن حاربت فوقك عنتر

وتحت أبن سينا أنت حين تسالم

ستُجزى التماثيل التي ليس مثلها

إذا جاء يوم تُجزى البهائم

فأنك شمسٌ والجياد كواكب

وأنك دينار وهنَّ الدراهم

مثال بساح البرلمان منصَّب

وآخر في (بار اللوا) لك قائم

ولا تظفر (الأهرام) ألا بثالث

مزاميرُ داود عليه نواغم

وكم تدَّعي السودان يا مكس هازلاً

وما أنت مسوَدٌ ولا أنت هازل

وما بك مما تبصر العين شُهبةً

ولكن مشيب عجَّلته العظائم

كأنك خيل الترك شابت متونها

وشابت نواصيها وشاب القوائم

فيا ربَّ أيام شهدت عصيبة

وقائعها مشهورة والملاحم

وهذه قصيدة أخرى لم تكمل قيلت في الدكتور محجوب أيام الثورة أيضاً والشاعر يشير فيها إلى ألفي جنيه كان الدكتور قد أكتنزها وحرص عليها في بنك حسن باشا سعيد

قل لأبن سينا لا طبي

ب اليوم ألا الدرهم

هو قبل بقراط وقب

لك للجراحة مرهم

والناس مذ كانوا علي

هـ دائرون وحُوَّم

وبسحره تعلو الأسا

فل في العيون وتعظُم

يا هل ترى الألفان وق

فٌ لا يمس ومَحْرم

بنك السعيد عليهما

حتى القيامة قيم

لا شيك يظهر في البنو

ك ولا حواة تخصم

وأعفَّ من لاقيت يل

قاه فلا يتكرَّم

ص: 53

‌الغريب

للشاعر الوجداني الرقيق أحمد رامي

يا نسيم الفجر ريّان الندى

مالذي تحمل من أرض الحبيب؟

فرح الكون بلقياه غدا

والأسى غَيمانُ في عين الغريب

غرَّد الطير وغنى

كل إٍلفْ يتهنى

وأنا قلبيَ حنا

أرسلَ الشكوى وأنا

آهةٌ تترى

مقلة شكرى

تيصر الأحباب من بين الدموع

رائح منهم وغاد

وترى بالظن أيام الربيع

لخيالي وفؤادي

يا نسيم الفجر

نادياً بالزهر

رنم الدوح ورَن الجدول

وسرت في الجو أنفاس العبير

وبدا النور فصاح البلبل

داعياً للشدو أسرابَ الطيور

والنجوم

في الغيوم

لبست منها نقاب

والشفق

في الأفق

لونه وردٌ مذاب

كل ما في الكون بشرٌ وهنا! وأنا؟

أنا ما زلت غريباً مفرداً

في ديار عزّني فيها الحبيب

فرح الكون بلقياه غداً

والأسى غيمان في عين الغريب

ص: 54

‌احساساتي

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

قال الأستاذ حفظه الله من كتاب خاص:

نزلت قبل أسبوعين تقريباً من السيارة عند باب السوق. أريد مقابلة أحد الكتبيين فسقطت مغمى عليّ، فحملوني في عربة إلى داري. وبعد انتباهي قلت لعل يومي قد أقترب، ونظمت قصيدة (حساساتي) ورجحت نشرها في رسالتك الغراء.

قد أنَى يا منيتي أن تعودي

بي إلى حيث كنتُ قبل وجودي

حيث لا أقتني شعوراً يُريني

كيف أدنو للفوز بالمقصود

حيث لا نبض في عروقي ولا ضر

بُ لقلبي ولا حراك لعُودي

هوِّني يا نفس فعلّكِ تستطي

عين عن هوة الردى أن تحيدي

ليت أن الحياة ترجع في يو

م إلى جسم الميِّت الملحود

ليس من هنا الموت يا نفسُ بدُّ

فهو للناس من تراث الجدود

يا أمانيّ فارقيني ويا نف

سُ وداعاً ويا حُشاشةُ جودي

بعد أيام قد تقاربن مني

أنا يا نفسي وداعاً لا محالة مودي

وسواء عليّ من بعد موتي

أن تبيدي معي وألا تبيدي

وسواء أكنتُ أحيا سعيداً

قبل موتي أم لم أكن بسعيدِ

وإذا كنتِ لا تبيدين، نفسي

تبعاً لي فأستبشري بالخلود

وإذا الشيخ بات يشكو الوَنَى وال

وهن فالموت عنه غيرُ بعيدِ

سيقولون شاعر غاب في اللح

د وكم غاب مثله في اللحود

لا تخافي عليَّ فالموت سهل

لا كما ينعتونه بشديدِ

لا تخافي، فالموت ليس على الأر

ض ولا في سمائها بجديد

سبقتني إلى المقابر موتي

أنا في الراحلين غيرُ وحيد

من قضى نحبه فنام بقبر

لا يبالي طول الليالي السود

غير أني ما سئمت حياتي

وهبوطي وهادَها وصعودي

فأرى راحة بقبري وان نا

لت على وجه الأرض مني جهودي

ص: 55

أننا، والفراق صعب، سننقض

إلى غير ملتقى وشهود

جمع الدهر حقبة شملنا ث

م رمته يداه بالتبديد

ما بلغنا من اللبانات يا نف

سي سوى النزر بعد جهد جهيدِ

أنت يا (ليلى) كنت ماثلة لي

كلَّ يوم في يقظتي وهجودي

أنا ماض إلى لقاء المنايا

بخُطىً ليس مشيها بوئيد

عانقيني قبل النوى لوداعي

وضعي الجيد ساعة فوق جيدي

وانظريني بأعين باكيات

ترسل الدمع مثل دُر نضيد

لهف نفسي على صُبابة عيش

هو لولاك لم يكن برغيدِ

أبِّنيني يا نفس فوق ضريحي

بقواف رقيقة وأعيدي

غن لي يا هزار أغنية النو

م على قبري كي يطيب رقودي

ولعلَّ الصبا تمر رخاءً

فوق ملحودتي فتنعش عودي

لستُ أدري أللفناء سنمضي

بعد ما قد نموت أم للخلود؟

حبذا لو حظيت من بعد موتي

بحياتي التي انتهت من جديد

أنني في شك وان ملأ واسم

عي بوعدٍ يروونه ووعيد

لا تثق بالجمهور يا عقل يوما

أن رأي الجمهور غير سديد

ولعلي رجوت ما ليس يرجى

ولعلي حمدت غيرَ حميد

بعد نومي على فراشٍ وثيرٍ

عن قريب أنام في أخدودِ

لا أنيس ولا نسيم ولا نو

رٌ يزيل الظلام من ملحودي

آه يا نفس إن ذلك سهل

لو نسينا ما فيه من تجريد

يوم لا نبصر الربيع ولا نص

غي لأنغام البلبل الغرِّيد

شاعر الروض يرسل الشدو شجواً

جاثماً فوق ناعم أملود ِ

يوم لا تطلع النجوم علينا

باسمات من السماء كخُودٍ

يوم لا يسفر الصباح لنا من

جانب الشرق قائماً كعمود ٍ

يوم أيدي الردى تجردني من

كل مالي من طارفٍ وتليدِ

أنا يا صحبي واحدٌ كنت منكم

فاذكروني ولا تنسَوا عهودي

ص: 56

أنا في قبري اليوم عنكم بعيدٌ

وأنا عنكم فيه غير بعيدِ

خير قبرٍ يسقى تراب حفيري

هو يا صحبي عبرةٌ من ودودِ

وإذا كان للفقيد بقلبٍ

خافقٍ مثوى، فهو غير فقيدِ

ولعل البكاء غير ' مُسلٍ

ولعل البكاء غير مفيدِ

تأكل الأرض كل حيٍّ فلا تُب

قي على والدٍ ولا مولودِ

اسألوها هل امتلأت تقل من

شرهِ في الجواب، هل من مزيد؟

أممٌ كلها تبيد فتأتي

أممٌ أخرى بعدها للبيود

سوف يقفو ركب إلى الموتِ ركباً

ثم لا أشدو خلفه بنشيدي

إنني إن أهلِك فَمنْ لقريضي

يتغنى به ومن لقصيدي؟

حشروني والجامدين، على ما

أخذوا من آبائهم، في صعيد

إنني منذ كنت أشدو بشعري

كان يُوحي إليَّ بالتجديد

أنا لا أدعي الزعامة فيه

غير أني أبث فيه وجودي

قلت شعراً فكاد يأكلُ لمّا

سمعوه كالنار قلب الحسودِ

فدَعوني مقلداً ينظم الشع

ر كما كان في زمان الرشيدِ

كذبوا أنني إلى اليوم ما قلد

ت غيري، مالي وللتقليد؟

حبذا الليل والنهار بعيني

إنني مغرم بكلِ جديدِ

وجديد القريض قرب ' معاني

هـ وبعدٌ له عن التعقيد

وشعورٌ كأنه فلق الصب

ح إذا فاض ضوءه من بعيدِ

لا تُرد للشعور مني حداً

فهو شيء يسمو عن التحديد

حبذا النقد لم يكن حين يغزو

نائلاً من كرامة المنقودِ

لا أغالي، فربما قلت شعراً

لم أكن في قرضي له بالمًجيد

ليس في الأرض شاعر قد نجا في

كل ما قاله من التفنيد

منه بكر يطري، ومنه عوان

لم تحن رتية الكعاب الخريد

قلته لاهياً به في شبابي

من هموم الهوى وبرح الصدود

يومَ للغيد كنت أصبو ومن ذا

ليس يصبو إلى الحسان الغيد؟

ص: 57

ثم أرهفتُه فكان سلاحي

ثم غنيتُه فكان نشيدي

ثم صيّرته مِجَنّاً يقيني

في (فَروقٍ) من شرّ عبد الحميد

ثم أودعته حقائق تسمو

فأتى جامعاً لكل مفيدِ

حِكَمٌ تهدم التقاليد قد كا

نت تُراعي من أهلها للجمود

عاب في الروض العندليب غراب

قائلاً صه فأنت غير مجيد

فمضى العندليب في شدوه غي

ر مبالٍ بقول ذاك البليد

قائلاً ليس للغراب بروض

زهرُه الغضُّ باسم أغرودي

أنا للورد قد تفتَّح أشدو

فهو إن أصغى تم لي مقصودي

يمّمي يا نفسي السماء فاني

لا أرى في الثرى طريق الخلود

هي ممتدة لغير تناه

وهي منبثَّة لغير حدود

اهتدي بالشعرَى وبعد خفاهاً

من بياض للفرقدين استفيدي

إنما خشيتي ضلالُك في تل

ك المحاني الكثيرة التجعيد

لا تهابي فلستِ أول روح

وَغَلت في هذا الفضاء المديد

لا تهابي فأنتِ يا نفس بعدي

مثل صمصامٍ ليس بالمغمود

ربما جاءوا يمنعونك فيها عن

وصول إلى المقام الحميدِ

أنهم قد يثبطونك عنه

بشهاب يلقونه من بعيدِ

فاصدميهم بما لديك من القوة

في صولة الكَمَيِّ العنيد

وإذا ما قسوا عليك فلاقي

هم بقلب أقسى من الجلمودِ

وإذا ما والوك ِفيها فوالي

وإذا ما عدوا عليك فذودي

ولقد كان الحق في كل جيل

ضائعاً بين سائد ومسود

إن تلك السماء كالأرض هذي

حومةُ تدمى للكفاح الشديد

لا يخيفنّك اللقاء بحرب

هي بالنار تلتظي والحديد

أنتِ حاربتِ للتحرر أعوا

ماً طوالاً فحاربي من جديد

أنتِ في الأرض ما تطأطات حتى

تخضعي في السماء أو تستفيدي

إنما أنت للتمرد لا لل

خسف والرسف في ثقال القيودِ

ص: 58

وإذا ما لاقيت سداً منيعاً

فأخرقيه بجرأة الصنديدِ

أسرعي واجتازي عوالم تحشو

سُدُماً قد أسرفن في التحشيد

مسرعات إلى التوسع لا ير

ضين ألا أخذ المكان البعيدِ

ليست الطالعاتُ يفجأن، الا

رُسلاً جئن من وراء الوجود

إنما مستقر قافلة الأر

واح في غير العالم المشهود

للذي يبتغي الولوج جريئاً

ليس باب السماء بالمسدودِ

أنت روح ترقى إلى حيث شاءت

لا حجاب لها عن التصعيد

لا تخافي هلكاً من الضرب فيها

أنت روح والروح ليس بمودِ

إنما العز من نصيب الذي يج

رأ والذل حصة الرِّعديدِ

أنتِ إن تعزمي يَهُنْ كلُّ صعبٍ

لا ينال المرادَ غيرُ المُريدِ

أحمد البارئ الذي يتساوى

عنده أيماني به وجحودي

قيل أن الشهيد يحيا لدى الر

بِ فمن ذا في الأرض غير شهيد؟

إنما هذه حقائق صرَّحْ

تُ بها صادعاً بلا تمهيدِ

فأسمعيها ولا تبوحي بها لل

ملأ الأعلى حول عرش المجيدِ

كلنا مؤمن يسبّح للرح

من في ظل عرشه الممدودِ

إنني ما سجدت يوماً لغير ال

له فالله وحده معبودي

اسألي الله أن يخفف سجني

في حفيري وأن يفك قيودي

وسلامٌ عليك يوم فراقي

وسلامٌ عليّ يوم همودي

ص: 59

‌في الأدب العربي

الذئب في الأدبين العربي والفرنسي

- 2 -

قص علينا الشاعر الفرنسي (الفرد ده فيني) حديث المعركة التي نشبت بينه وبين الذئب، وانتهت بموت الذئب ميتة سكينة وطمأنينة، بعد أن تظاهر عليه أربعة من الرجال ببنادقهم ومداهم، يشد أزرهم في هذه المعركة كلب من الكلاب الضارية، سقط هو قتيلاً، وأنياب الذئب الحادة في عنقه قبل أن يسقط الذئب قتيلاً برصاص بنادق الصائدين ومداهم. فصور لنا في هذه الحكاية صورة واضحة تمثل إقدام الذئب وجرأته، وثبات الأم ورصانتها، تستبقي لتعلم أولادها تحمل الجوع، وتحيا لتحذرهم من احتمال الخضوع. وتمثل كذلك احتقار الذئب للحياة وزرايته بها، فقد تركها بعينيه الواسعتين، وأستودعها بنظرتين قويتين، أولاهما إلى أعدائه، وثانيتهما إلى أعضائه، ثم أغمضهما ومات ميتة جبار، بل أستاذ في الجبروت يحق أن يتلذذ عليه (فيني) ليلقي عنه هذا الدرس الأخلاقي. فكيف كان أمر شعرائنا مع ذئابهم؟

ذئب الفرزدق:

كان كل ما عرضه علينا الفرزدق من حديثه مع ذئبه أنه عشاه وصرفه:

وأطلس عسال وما كان صاحباً

دعوت لناري موهناً فأتاني

فلما دنا قلت أدن دونك أنني

وإياك في زادي لمشتركان

فبتّ أقدُّ الزاد بيني وبينه

على ضوء نار مرة ودخان

فقلت له لما تكشر ضاحكاً

وقائم سيفي من يدي بمكان

تعش فان عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

وأنت أمرؤ يا ذئب والغدر كنتما

أُخيين كانا أرضعا بلبان

ولو غيرنا نبهت تلتمس القِرى

أتاك بسهم أو شباة سنان

وأنا لترعى الوحش آمنة بنا

ويرهبنا أن نغضب الثقلان

لا يريد بذلك ألا أن يدلنا على ما عنده من كرم وسخاء، وشجاعة عند اللقاء، لا يصرفه عن طعامه إقبال الذئب عليه ووقوفه بين يديه، فهو الذي قد بينه وبين الزاد، وأناله منه ما أراد،

ص: 60

مع أنه يعرف ما للذئب من طبيعة الفتك والغدر، ولكنه يعتمد ساعد قوي وسيف باتر.

فقصيدته أذن قصيدة بدوية ليس فيها غير التمدح بالكرم والشجاعة، والجمال الفني فيها قليل.

ذئب البحتري

أما البحتري فقد قدم لنا قصة سينمائية جميلة عن نفسه وذئبه:

وأطلس ملء العين يحمل زوره

وأضلاعه من جانبيه شوىً نهد '

له ذنب مثل الرِّشاء يجره

ومتن كمتن القوس أعوج منأد '

طواه الطوى حتى أستمر مريره

فما فيه ألا الروح والعظم والجلد '

يقضقض عضلاً في أسرتها الردى

كقضقضة المقرور أرعده البرد '

سما لي وبي من شدة الجوع مابه

بيداء لم تعرف بها عيشة رغد '

كلانا بها ذئب يحدث نفسه

بصاحبه، والجد يتعسه الجد '

عوى، ثم أقعى فأرتجزت، فهجته

فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد '

فأوجرته خرقاء تحسب ريشها

على كوكب ينقض والليل مسود '

فما أزداد ألا جرأة وصرامةً

وأيقنت أن الأمر منه هو الجد '

فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها

بحيث يكون اللب والرعب والحقدُ

فخر وقد أوردته منل الردى

على ظمأ لو أنه عذب الورد

وقمت فجمَّعت الحصى فاشتويته

عليه وللرمضاء من تحته وقد '

فأرانا ذئبه رؤيا عين، في لونه الأطلس، ومتنه الأعوج المقوس، وجسمه المنهوك، وعظامه المقضقضة، حتى ملأ قلوبنا رهبةً منه، وخوفاً على صاحبه، ثم صور لنا المعركة التي نشبت بينهما حتى كأننا نراها، وكما أنه أجاد في تصوير تلك المعركة وإبرازها إلينا محسوسة مشهودة، لم يقصر في تصوير جرأته وجرأة ذئبه، واستماتة كل منهما في الذب عن نفسه والغيلة على عدوه، حتى جعلنا نؤمن بعظمته وعظمة ذئبه.

كل ذلك في قوالب متينة محكمة في وضوح وجلاء، وفن بديع مونق يملأ البصر والبصيرة، ولعله قد وفق في هذا شعراً إلى ما لم يوفق أليه أديب نثراً.

ذئب الرضي

ص: 61

أما ذئب الشريف الرضي فانه ذئب البحتري نفسه، وأما الرضي فأنه أبو عبادة:

وعاري الشوى والمنكبين من الطوى

أتيح له بالليل عاري الأشاجع

أغيبر مقطوع من الليل ثوبه

أنيس بأطراف البلاد البلاقع

قليل نعاس العين إلا غيابةً

تمر بعيني جاثم القلب جائع

إذا فات شيء سمعه دل أنفه

وإن فات عينيه رأى بالمسامع

تظالع حتى حك بالأرض زوره

وراغ، وقد روعته، غير ظالع

ولما عوى والرمل بيني وبينه

تيقن صحبي أنه غير راجع

تأدب والظلماء تضرب وجهه

إلينا بأذيال الرياح الزعازع

له الويل من مستطعم عاد طعمة

لقوم عجال بالقِسي النوازع

أخذ ظاهر، وانتحال بين، وهو مع ذلك قد أفاض على حديثه من جمال الفن ما كاد ينسينا حديث أبي عبادة، فلئن فاته حسن تصوير البحتري للمعركة فلم يفته حسن جمالها وتصويرها في صورة صغيرة في بيت واحد:

له الويل من مستطعم عاد طعمة

لقوم عجال بالقسي النوازع

دل به على جرأة في مبتداها، وظفر بالعدو في منتهاها.

فإذا وضعنا القصة الفرنسة الحديثة بجانب القصة العربية القديمة وجدنا الفرق بينهما جلياً واضحاً، فالقصة العربية كل الغرض منها التمدح بالكرم والعطاء، والافتخار بالثبات عند اللقاء، وما هذه الصورة المخيفة التي صور بها الذئب إلا لينفذ منها الشاعر إلى ما يريد من مدح نفسه بالشجاعة، فليس فيها صورة خاصة لموت الذئب وساعة نزعه، بل أن الشريط لينقطع عند خبر موته، لأنه لا يهم هؤلاء الشعراء الاسترحام عليه أو الرثاء له، فهو عدو غدار نال حتفه بسيف الشاعر البتار وكفى، فليس بين موت ذئابهم إذن وموت أي حيوان أي فرق.

وأما القصة الفرنسية فهي على وحدة موضوعها وصورة ذئبها الخالدة التي ما تبرح مخيلة القارئ، ولا تنفك تعاوده كلما ذكر الذئب، سامية الغرض جليلة لمغزى نبيلة القصد، فالغرض منها اجتماعي تربيوي ذو شأن، فهو يريد أن ينبه القارئ إلى ما يجب عليه من إجابة دعوة القدر بهدوء وسكون، وتلبية نداء الموت في سبيل الواجب برزانة وصمت،

ص: 62

لأن الصمت هو العظمة، والبكاء والأنين وأشباههما جبن ونذالة.

فقصيدة (فيني) إذن مجلية في الحلية التي أنشأناها، وهي وحدها تقرب من المثل الأعلى، لأن العقلية غير العقلية والعصر غير العصر وثقافة فيني غير ثقافة هؤلاء الشعراء.

سامي الدهان

ص: 63

‌لعلوم

كيمياء الروح

للدكتور أحمد زكي

الكيمياء علم طوّاف جوّال سلك من العالم مسالك لم يدانه في سلوكها علم، ونزل من الأرض منازل لم ينزل في مثلها عرفان، فطورا تراه في البلقع الأجرد ينقر الصخر وينكت في الترب يستخرج معادنه ويتعرف جواهره، وطوراً تراه في الريف الأخضر يطعم النبات بالقوت الأنسب ويسقيه بالقدر الأوفق، وإذا مرض طبَّبه بصنوف الأدوية وحماه من الحَشَرِ بشتيت العقاقير، وطوراً في المدينة، في الحديقة الفسيحة، وفي الجنينة الصغيرة الأنيقة يعنى بزهرها ووردها وبنفسجها، أو بعنبها وتفاحها وبرتقالها ويوسفيها، عنايته بسنبلة القمح ولوزة القطن في الحقل في ظاهر البلد، وتجده في البيت إما في المطبخ قد سبق الطاهي إليه لا بصنوف الأطعمة المستطابة فحسب بل بالآنية والنار، وأما لدى غانية الدار جلس في متزينها ينتظرها بدقيق الأرز ودهن الحيوان وزيت الأزهار وصبغة الأرض ترطب بها جلداً وتورد خداً وتصبغ رمشاً وتزجِّج حاجباً، ويغنيك عن هذا التعداد المفصل أن تسير في حجرة من حجر البيت، وتنظر إلى ركن من أركانه، بل إلى جدران هذه الحجرات وسقوفها وأرضها، فلن تجد شيئاً لا تدخله الكيمياء. كذلك تجد علم الكيمياء في الشارع وفيما فيه من ذي حركة أو سكون، وفي المصنع تصنع الإبرة الصغيرة أو القاطرة الكبيرة، وفي المستشفيات وفي المقابر، وفي كل مظهر من مظاهر المدنية ومظاهر الحياة من مأكول وملبوس ومركوب، وكذلك في مظاهر الموت.

ولهذا الأتساع انقسمت الكيمياء إلى أقسام عدة: فالكيمياء العضوية وغير العضوية والكيمياء الطبيعية والهندسية والحيوية وهلم جرا. ولكن كل هذه موضوعها المادة، موضوعها الأجسام الملموسة الموزونة، سواء في ذلك الأجسام الجامدة والأجسام الحية، وهي إذا عالجت الأجسام الحية فهي لا تُعنى أو لم تكن تعنى ألا بمادتها الصامتة وهيولاها الجامدة دون حياتها وروحها. ولكن العلم طموح، والكيمياء علم، فكان من هذا أن بدأت تطمح إلى ما طمحت اليه وعجزت عنه القرون، تطمح إلى لمحة وراء المادة، ونظرة تختلسها من خلف ذلك الحجاب الأزلي الكثيف الذي فصل ما بين الجسام وأرواحها، تطمح إلى تفهم

ص: 64

العقل، لا من حيث الخلايا المخية التي هي مركزه، بل من حيث هو اسم لكل مظاهر الذكاء والغباوة والحب والبغض والغضب والحلم واليقظة والنوم، فتكوِّن من ذلك أو كاد يتكون علم جديد لا أجد إسما أنسب له من (كيمياء الروح)

وطريقة هذا العلم الجديد كطريقة كل علم، يبدأ بالمعلوم ليتعرف المجهول. والمعلوم هنا الجسم والمجهول النفس، فهو يحدث تغيرات في الجسم ويرقب أثرها في النفس. وليست علاقة الجسم بالنفس بجديدة، فقديماً عرفنا الصيام يشحذ الفكر إلى حين، والطعام الكثير يثلمه حتى يسلم صاحبه إلى النوم. وسمعنا الفلاسفة والمفكرين في قديم الأزمان يعافون الطعام رغبةً في صفاء البصيرة وجلاء الذهن. ونسمعهم اليوم يترسمون في ذلك سنّة السلف، فغاندي يعيش على اللبن والبرتقال، واينشتين يقنع من اليوابس والسوائل بالقليل الميسور الذي لا يقنع الولد الصغير. ولكن هذه ملحوظات يلحظها الإنسان عفوا وهو لا يدري أين يلحظها ولا متى، وإن هي حانت فهو لا يتعمد لحظها ألا إذا ملكت عليه انتباهه.

ولكن هذا العلم الجديد ينتظر الحوادث ويجثمُ على مرقب عال طلباً للفرص التي قد تمر، وهو إلى جانب هذه الحوادث وتلك الفرص السانحة يخلق لنفسه الحوادث ويفتتح مواطن للتجارب يكون هو العامل الأكبر في إحداثها، والمهيمن الأول على إدارتها وتوجيهها.

جاءت الحرب العالمية فأجاعت كثيراً من الخلق في الأمم المختلفة، وكان من أشدهم جوعاً ألمانيا، وكان من أشد أهلها تأثراً بذلك أطفالها، فتهيأت الفرصة للبحث، فجاء هذا العلم يبحث في الغذاء الذي كان كانت تتعاطاه تلاميذ المدارس أْيام السنوات العجاف، في مقداره ونوعه وعناصره، ويبحث في ذلك لا في أثر ذلك في أجسامهم فحسب، بل في أثره في عقولهم ونفسيتهم وروحهم، لا إجمالاً بل تفصيلاً، فعاهات النفس كعاهات الجسم، وخلل الروح كخلل المادة التي تتقمصها، أي أنها مثلها تختلف في الكيف كما تختلف في الكم، ولكل عاهة أسم إن كان الآن فيه كثير من الإبهام، فأنه إبهام ينجلي لا شك بطول البحث وكثير من الأناة والجلد. وخرج العلم من هذا البحث إلى أن أربعين في المائة من التلاميذ فقدوا مقداراً كبيراً من طاقتهم العصبية العامة بسب فقدهم عناصر هامةً في الطعام، وخرج على أن اختلافات خاصة في الشخصية وتغيرات محدودة في الطبع ترتبط بنقص في بعض جواهر الغذاء الذي كان. ومن النتائج التي خرجوا عليها علاقة بينة بين مرض

ص: 65

عصبي خاص، مظهره اضطراب وخوف، وبين خلو الطعام من الشحوم الفسفورية والأحماض الدهنية غير المشبعة، ومن الأستيرولات. وليس معنى هذا أن هذه الشحوم مفيدة دائماً في كل مرض. فقد درس شارل مرسيه عالم الأعصاب الإنجليزي المعروف عدة من المرضى بعقولهم فزاد غذائهم من الشحم والسكر والنشأ ونقصه من اللحم فوجد أن الجمع بين هذه الزيادة وهذا النقص زاد المرضى سوءاً على سوء. ولم يجد هذا هو الحال في كل المرضى، دليلاً على أن المرض يختلف، ولو جمع المرضى ظاهر واحد نسميه الجنون. على أننا قديماً قلنا الجنون فنون. ومن الدراسات الأحدث أثر (الفيتامينات) في نفسية الأصحاء. و (الفيتامينات) طائفة من المواد الكيمياوية موجودة في الطبيعة في كثير من الأغذية ولا سيما الفواكه ولتشابهها وتعددها أعطوها حروفاً أ، ب، ج وهلم جراً بمثابة أسماء لها. درسوا الأثر الناشئ من قلة الفيتامين ج في الغذاء أو انعدامه فيه فوجدوه يسبب في النفس هموداً تستتر وراءه حدة في الطبع وقابلية للتهيج شديدة. وهذه النتيجة تتفق تماماً مع ما لاحظه رواد القطب الشمالي من المستكشفين لما قلت مواردهم وخف زادهم، وهو زاد قليل الفيتامينات أو عديمها بطبيعة الحال. فأنهم كانوا دائماً يجدون الكسل في نفوسهم وحب الشجار في قلوبهم، يثورون أليه للسبب الحقير التافة كأنما يجدون فيه متنفساً من ضيق.

وهناك نوع من الجنون يصحبه مثل هذا الهبوط في النفس يعتري الرجل وقد أكتمل نموه وبلغت حيويته أقصاها. دخل هذا المرض في دائرة علم الكيمياء الروحي من سنوات قريبة واسترعى همة كثير من البحاث، وقد بدأوا يصفونه لا بخلل نفسي محض بل بخلل في الجسم واضطراب في وظائفه. أي أن ذلك العقل ساء لما ساءت كيمياء التربة التي أنبثق فيها، وتلك الشخصية الوقورة ضاع اتزانها لما ضاع أتزان بين الغدد التي تهيمن في الجسم على دخل السكر إليه وخروجه منه واختزانه فيه. ومصداق هذا أن المرض الذي نحن بصدده يكثر في الأسَر المصابة بالبول السكري، ولعل هذه الحقيقة هي أول ما لفت البحاثَ إلى تلك الغدد ودرس وظائفها في هذا الصنف من المعتوهين. والنوم، ذلك الطلسم الذي أعيا سره الأولين والآخرين، بدأوا يسلطون عليه شعاعات من ذلك العلم الجديد لعلهم يردون أصله الى الكيمياء، وحديثاً نشر (هرمان زندك) نظرية بناها على دراسات مبدئية

ص: 66

لم تنضج بعد، مؤداها أن الغدة النخامية وموضعها بقاعدة المخ، بها مادة كيميائية تسمى بالهرمونات، وهي واحدة من عدة مواد توجد في الجسم تسمى بالهرمونات، وهرمون هذه الغدة به عنصر البروم، فإذا بدأ النوم يخرج هذا الهرمون البرومي إلى سائر المخ شيئاً فشيئاً حتى يضيع كله، فإذا أستيقظ الإنسان أخذت هذه الغدة تحشد البروم، حتى إذا تكوَّن فيها بقدر معلوم أتى المرء النعاس، وخرج البروم يسير سيرته الأولى. بالطبع هذه النظرية في حاجة إلى بحث كثير من غير واحد لتأييدها، ولكنها إذا تأيدت وأتضح لنا أن النوم ما هو إلا محاولة الجسم إعادة أتزان كيميائي في الرأس لكان في الإمكان إحداث هذا الاتزان في المعمل والاستغناء عن النوم، وبذلك يتضاعف عمر العامل المنتج.

لا نريد أن نعدد كل ما صنع هذا العلم ولا كل النتائج التي خرج عليها ولا الظنون التي لا تزال تساوره ولم تدخل بعد في مضرب الحقائق، فأنه علم وليد، ولكننا نريد أن نؤكد العقيدة البارزة في كل أعماله وهي أن مظاهر الروح الخارجية وثيقة الارتباط بالتفاعلات الكيميائية للجسم الذي تسكنه، وأن الإنسان إذا أنصت يفكر في ضحولة أو عمق، أو تكلم يقرع الحجة بالحجة أو إذا هو سرّ فضحك فزاط وقصف أو تجهم واكتأب فتجرع الحزن في هدوء وصمت، أو إذا هو أحب أو أبغض أو خاف أو تجرأ، فإنما يفعل ذلك بجسمه لا بروحه وحدها، يفعل ذلك بالعقاقير الكيميائية التي بدمه ولحمه وغدده وعصبه وخلاياه جميعاً، وأن هذه الانفعالات تسبب شدتها وكثرتها إجهاداً للمراكز الجسمية التي تصنع هذه العقاقير، وأخص تلك المراكز الغدد التي تقوم بسب العقاقير التي تفرزها بموازنات عدة لتفاعلات متناقضة شتى ينشِأ من اختلالها اختلال الجسم والروح. ولا أدل على هذا من نظرة يلقيها المرء في معترك الحياة التجارية في هذه المدينة الحاضرة حيث تتصارع قوى العيش الهائلة وتصطدم العواصف والآمال تصادم الجبال، أعني بذلك البورصات، فقد دل الإحصاء على أن عدد الإصابات التي سببها تلف يعتري تلك الغدد، كالبول السكري وصنوف معروفة من الجنون، يزداد بعد كل زوبعة من زوابع المضاربات.

وإن كانت انفعالات الروح الطائشة تتلف معمل الجسم الكيميائي الذي في صلاحه صلاحها، كان من الطبيعي إذا اعترى التلف الروح (ذلك السر المعجز) أن نبحث عن سبب هذا التلف في حجرات المعمل، وأن نرد غازات كريهة نشمها ولا نراها تخرج من مداخن

ص: 67

النفس، إلى الأسباب التي سببتها في بوادق البناء وقواريره، وهذا عمل العلم الجديد:(كيمياء الروح).

ص: 68

‌لقصص

الباسمة

قصة مصرية

للآنسة سهير القلماوي. لسانسييه في الآداب

سكت القوم وكأنهم ينصتون إلى نغم سماوي جميل. وكأن النغم قد حملهم من الأرض الدنسة إلى السماء الطاهرة، واستمرت هي في عزفها تهز أوتار القلوب هزاً ضعيفاً مطرباً ثم أتمت عزفها والتفتت إلى السامعين فإذا كل منهم مشدوه، ألهاه الطرب وأنساه النغم أن يظهر إعجابه أو سروره. ورنت ضحكتها العذبة الجميلة فتنبه السامعون ودوى المكان بالتصفيق الشديد.

كنت في السامعين ولم أكن أعرف عنها ألا أنها عذبة الابتسامة وضاحة المحيا، يشع من نفسها سحر عجيب يملأ ما حولها حياة فرحة نشيطة. سألت عنها فقيل أنها تتكسب بعزفها هذا لتعول طفلها الصغير الوحيد. ورحت أسأل عنها هذا وذاك فعرفت أنها شخصية فذة، شخصية نادرة عجيبة. مات أبوها وهي في سن الطفولة، وفقدت أقرباءها واحدا وراء الآخر حتى فقدت زوجها منذ زمن يسير. ولكن الغريب من أمرها أنها برغم هذا كله كانت مبتسمة ومتفائلة دائما. لقد صغرت الدنيا في عينها ولم يسلمها هذا الاستصغار إلى الألم أو الحزن أو اليأس. فهي لم تكن يوماً ما تؤمل من الدنيا شيئاً حتى يخيب أملها فيها. ثم هي لا توقن بشيء من أمر آخرتها. كل ما تعرفه أنها تعيش وأن الحياة شيء بهيج يجب أن تستمتع بها كل الاستمتاع، فمن يدري لعل نهايتها قريبة! بل لعل ألواناً من العذاب تنتظرها بعد حين!

كانت شديدة الشغف بالطبيعة، تخرج أليها كلما استطاعت تستنشق نسيمها وأريج أزهارها، وكأنما تستنشق حياة جديدة فتزيد حيويتها ويزداد بشرها وسرورها.

منذ ذلك اليوم أصبحنا صديقين تزداد معرفة كل منا بالأخرى، يوماً بعد يوم، فيزداد لذلك حبنا ويستوثق رباطنا. ولقد صحبتها في بعض محاولاتها الأخيرة، فقد حاولت لتزيد كسبها أن تطرق ميدان الأدب ثم ميدان التعليم فطرقتها جميعاً وأخفقت في كل منها إخفاقاً لا ذنب

ص: 69

لها فيه

ولكنها كانت ترجع من كل خيبة وكأنها أول الظافرين وآخرهم! ثم لا يلبث فشلها أن يستحيل سريعاً إلى أمل جميل وعزم وطيد. وفي ذات يوم مرض ابنها مرضاً شديداً فعاونتها على علاجه والسهر عليه رغم إبائها ذلك.

وفي ليلة طاغية شديدة البرد اضطررت إلى تركها بجانب وحيدها العليل. وفي الغد عدت أليها فوجدتها محمرة العينين تنفرج شفتاها عن ابتسامة ساخرة مرة مؤلمة. ترى ماذا حل بهذا الوجه الصبوح المستبشر الذي لم يقو الدهر على قلب ابتسامته أو تشويهها؟ واتجه نظري أولاً إلى الطفل ماذا حل به وأين هو؟ وأخيراً علمت أن طفلها الوحيد الذي كان يربطها بالحياة فارق الحياة أمس مساء. فانهمرت دموعي على رغم ما حاولت من حبسها وأحسست بفراغ حولي وكأنما نار ألهبت رأسي وعيني، فأخذت أبكي وأبكي وظلت هي تكفكف عبراتي وتواسيني وكأني أنا الثكلى المكلومة، أيمكن أن تكون عديمة الإحساس؟ كلا لقد عرفت من حساسيتها الشيء الكثير، ولعل نظرة واحدة إلى ذلك الوجه الجميل تقنع الناظر بالآلام التي تحاول إخفاءها.

كل المصائب التي توالت عليها لم تغبر ابتسامتها، ولكن موت طفلها غير ملامح وجهها كلها. يا ليتها بكت! يا ليتها استطاعت أن تبكي!

وظلت نحو شهر في صراع بين الحزن وبين طبيعتها المرحة الضاحكة، تحاول بكل ما أوتيت من إرادة وعزم أن تتغلب على مصابها فتبتسم كما كانت تبتسم ولكن ابتسامتها أصبحت مبكية مؤلمة تبعث الشفقة والألم بعد أن كانت تبعث المرح والحياة.

لقد لازمت فراشها منذ أيام وكانت متعبة مريضة خائرة الأعصاب فذهبت أعودها يوماً فلم أجد بالدار أحداً، سألت عنها مرتاعة، وأخيراً علمت أنها فارقت الحياة أمس مساءً، سألت ماذا حل بها وأي أمر جديد انتابها؟ فعرفت أنها لم تصب بشيء جديد، وإنما فارقت الحياة وكأنها الشمعة تحترق. فارقتها شيئاً فشيئاً وقد لاقت ربها وعلى فمها ابتسامة رضا وطمأنينة، مرّ إذ ذاك بخاطري قول الشاعر الأمريكي برانيت، ذلك القول الذي كانت تردده أثر كل فشل أو مصاب، والذي ظلت تردده كثيراً في آخر أيامها: (هكذا عش، حتى إذا ما نادى منادي الموت لا تسر إليه كالعبد مسوقاً إلى سجنه بل سر إليه بأيمان ثابت وطمأنينة

ص: 70

تامة كمن يسحب غطاءه عليه ليستسلم إلى حلم عذب جميل).

ص: 71

‌النجوم

للقصصي الفرنسي ألفونس دوديه

عندما كنت أرعى الماشية على جبل (اللبرون) كنت أقضي أسابيع طويلة لا أبصر في خلالها مخلوقاً حياً غير كلبي (لابري) وقطيعي في المرعى، وقسيس جبل (الأور) وبعض عمال (البيامون) مارين من هناك في سبيلهم، تلك الجماعة التي أخرستها الوحدة وشغلتهما عن تسقط أخبار قرى الساحل ومدنه. ولهذا كنت أشعر بالسعادة تمر بي كلما سمعت رنين أجراس بغلنا آتيا يحمل إليّ الزاد كل خمسة عشر يوماً، مرة مع أجيرنا ومرة مع عمتي. فكنت أتلقى منهما أخبار البلد من تعميد وزواج وغير ذلك، وأهتم خاصة بما آلت أليه أبنه سيدي الآنسة ستيفانيث، هذه الآنسة التي فاقت أترابها بجمالها الفاتن، وأستفهم بلباقة عما إذا كانت تكثر من حضور الحفلات العامة أو قضاء الليالي الراقصة، وهل تقدم إلى خطبتها أحد، كل ذلك كنت أقف عليه دون أن أترك لمحدثي سبيلاً يلحظ منه هذا الاهتمام البالغ. ومن يسألني الآن لماذا كانت تعنيني هذه الأمور أجبه بأني شاب في العشرين من عمري وأن الآنسة ستيفانيت أجمل فتاة رأيتها في حياتي.

وفي ذات مرة كنت أنتظر الزاد يوم الأحد فتأخر عن موعد وصوله، فحملت ذلك في الصباح على (حفلة القداس الكبير) وفي الظهر على أن الدابة لم تستطع متابعة سيرها لرداءة الطريق بعد هبوب العاصفة الشديدة، وفي الساعة الثالثة بعد الظهر تماماً، بينما الجو في صفاء أديمه، والجبل يرفل في حلته اللؤلؤية. وخرير المياه يشنف أذني. سمعت رنيناً مطرباً كأنه رنين الناقوس في عيد الفصح، فتحققت أن الدابة التي أنتظرها آتية، ولما تبينتها ملياً لم أر معها لا الأجير ولا العمة وإنما رأيت عليها. . أتعرف من!. . . آنستنا! نعم آنستنا ستيفانيت نفسها، فقد شاهدتها منتصبة على ظهر البغل بين السلال، موردة الوجنتين كأن نقاوة الهواء وطراوة الجو بعثتا في وجهها الحياة.

وقبل أن تطأ قدماها الأرض أخبرتني أن الأجير المسكين مريض لا يغادر فراشه، وأن عمتي (نوراد) غائبة منذ أيام عند أبنائها، ولما سألتها عن سبب إبطائها أجابت (إني ضللت الطريق) ولكن من يبصرها في أبهى زينتها، بشريطها الحريري المغطى بالزهر، وردائها اللماع الحواشي، يحكم بأنها كانت تلهو بالرقص لا بالتفتيش عن الطريق بين الأدغال.

ص: 72

آه ما ألطف هذه المخلوقة التي لم تملها عيناي وما أجملها! كنت بالأمس أشاهدها أحياناً في الشتاء وأنا عائد في المساء من الحظيرة إلى المزرعة لأتناول طعامي، فكانت تدخل غرفتها وهي في زينتها وكبريائها دون أن تكلم أحداً من الخدم. . . حينئذ علمت أني ما تأملتها من قبل في مثل هذا القرب. وبعد أليست الآن واقفة أمامي في هذه الخلوة التامة فلم لا أعانقها؟

ولما أفرغت (ستيفانيت) السلال أخذت تتأمل ما حولها باهتمام ثم نزعت ثوبها الفضفاض، الذي لا ترتديه ألا أيام الآحاد، خوفاً عليه من التلف، ودخلت المراح تريد أن تشاهد المكان الذي أنام فيه، وفراش القش المغطى بفروة الخروف، ومعطفي الضخم المعلق على الجدار، وهراوتي الغليظة، وبندقيتي العتيقة، فكان في هذه الأشياء مسلاة لها.

- إذن أنت تقضي أيامك في هذا المكان أيها الراعي المسكين؟ لا بد أن تكون قد مللت الحياة في هذه الوحشة وتلك العزلة! وإلا فقل لي ماذا تفعل، وفيم تفكر؟

فهممت بأن أجيبها: (أني أفكر فيك يا سيدتي) كما هو الواقع، ولكني كنت في حالة اضطراب شديد، فلم أجد كلمة واحدة أقولها لها. ولما توسمت وجهها لاحظت أنها شعرت بما يجول بخاطري، وكأني بها أرادت أن تزيد في حيرتي وتلعثمي لتتلذذ في قرارة نفسها، فقالت:

- وصديقتك العنزة الذهبية اللون، هل تزورك أحياناً؟ أنا لا اشك في إخلاص هذه الشيطانة التي لا يلذ لها الجري إلا على رؤوس الجبال. . .

ولكن ستيفانيت بوجهها الضحوك، ورأسها المنحني، وإسراعها في العودة إسراعا كاد يجعل في زيارتها إغماضة عين، كانت أشبه بهذه الشيطانة المذكورة.

- أستودعك الله أيها الراعي.

- سلاماً يا سيدتي.

ولم أتم جوابي حتى كانت في طريقها وليس معها غير سلالها الفارغة. ولما اختفت عن ناظري في المنحدر خلت أن الحجارة المتناثرة من حوافر الدابة كانت تقع على قلبي واحدة بعد واحدة.

ومع أنها أصبحت بعيدة عني فقد ظل صوت الحجارة المتناثرة يدوي في أذني. وبقيت حتى أزف المساء كأنني في غفوة لا أتحرك من مكاني خوفا من أن يتبدد هذا الحلم اللذيذ.

ص: 73

ولم أصح الا على صوت يناديني من السفح. وكان الليل بدأ يرخي سدوله والقطيع أخذ يزاحم بعضه بعضاً ليدخل الحضيرة. وبينما أنا أفتش عن مكان الصوت ظهرت أمامي فجأة الآنسة ستيفانيت، ولكن بغير الهيئة التي قابلتني بها في المرة الأولى. قابلتني وهي ترتجف من البرد والخوف، وأثوابها مبللة، فعلمت حينئذ أن فيضان نهر (السورغ) في الوادي بعد تلك العاصفة الشديدة أخذ عليها الطريق، فخافت على نفسها إن هي اجتازته. والأغرب من ذلك أنها ساعة ودعتني ما كان يجب عليها أن تفكر في الرجوع إلى المزرعة، وما كان بإمكاني ان اترك القطيع وحده لأرافقها في طريقها الوعر.

ويظهر أن فكرة الإقامة هذه الليلة في الجبل كانت تزعجها ولا سيما عندما كانت تفكر في قلق أهلها عليها. فكنت أهديء من روعها واطمئن بالها بما أستطيع اليه سبيلا. واذكر أني قلت لها أن ليالي يوليو قصيرة، وان السماء يصفو أديمها بعد حين.

وأشعلت النار بسرعة وأخذت أدفئ قدميها وأجفف أثوابها. ثم قدمت اليها شيئا من الجبن والحليب. ولكنها لم تكن لتفكر في الدفء ولا في الأكل تلك الساعة، واسترسلت في النحيب حتى كدت أبكي لبكائها.

ولما أرخى الليل سدوله تماما ولم يبق على قمة الجبل غير شعاع حائل من الشمس، والا قطفة من نور في حواشي الأفق؛ أمسكت بيد الآنسة وأدخلتها المراح لتستريح، فتمددت على فروة ناعمة الصوف كنت قد فرشتها على القش الطري، ثم خرجت من عندها لأجلس لدى الباب متمنيا لها ليلة سعيدة. . .

ويشهد الله أني لم تخامرني فكرة سيئة قط، بالرغم من نار الحب المتأججة في دمي. ولكني كنت فخوراً جداً لأن في زاوية من المراح تنام في حراستي ابنة سيدي كأنها نعجة أثمن من تلك النعاج التي ترمقها بنظرات الاهتمام وأشد منها بياضا.

والحق يقال إنني لم أرَ السماء من قبل بمثل هذا الصفاء الذي رأيتها به في تلك الليلة. ولا النجوم بمثل هذا النور الساطع الذي كانت ترسله. .

وفجأة فتح باب المراح: وظهرت منه ستيفانيت. فالغنم كانت تزعجها بأصواتها فتمنع عنها لذة النوم. لذلك أحبت ان تأتي قرب النار. ولما لاحظت منها ذلك وضعت معطفي على كتفيها وأرّثت النار ثم أدنيتها مني. وبقينا مدة جالسين جنبا إلى جنب لا نجد حديثا نفتحه

ص: 74

ولا حادثا نشرحه.

ويعلم الذين قضوا بضع ليال في الفلوات أن عالما خفيا يهب من سباته ساعة ينام الإنسان في هذا الانعزال التام والسكون العميق، في هذه الساعة تستيقظ الطبيعة، فالينابيع تغني بصوتها العذب، وترسل المياه الراكدة بريق لألائها السماوي. وتأخذ الأشباح تروح وتجيء، وترتفع في الهواء أنغام خفية وأصوات كالحفيف، وكأن الأغصان أخذت تمتد والأعشاب تنمو. فالنهار يعطي الحياة للمخلوقات الحية، أما الليل فيعطيها للأشياء الميتة. وهذا مما يرعب الإنسان إذا لم يكن له به سابق عهد أو عادة. . ولهذا كانت الآنسة ترتجف أبداً من الخوف، وتلتصق بي كلما سمعت صوتا كأنها طفلة صغيرة.

وفي ذات مرة تعالت جلبة محزنة من المستنقع في الوادي وارتفعت إلينا تموجاتها مع الأثير. ثم رأينا شهابا جميلا يهوي فوق رأسينا من عل ويتجه نحو ذلك المستنقع كأن الضجة التي كرهنا سماعها تحمل معها بارقة خير. فسألتني ستيفانيت:

- ماذا جرى؟

- نفس دخلت الجنة يا سيدتي.

فرسمنا الصليب على صدرنا ثلاثا وبقيت هي تنظر إلى السماء بنفس مطمئنة، ثم قالت:

- أصحيح ما يقال عنكم معشر الرعاة أنكم سحرة؟

- لا يا سيدتي، إنما نحن اقرب هنا إلى النجوم من سكان السهل، ولذلك فنحن أكثر منهم علما بما يجري فيها.

ثم وضعت يدها على فؤادها وقالت:

- ما أكثر هذه النجوم وما أجملها! أنا في حياتي ما رأيت هذا المنظر. . . . هل تعرف أسماءها أيها الراعي؟

نعم أيتها الآنية. . . . انظري! فوق رأسينا تماما ترين (طريق سان جاك)(المجرة) الممتدة من فرنسا إلى إسبانيا، تلك الطريق التي اختطها (سان جاك دي غاليس) ليري الفاتح العظيم (شارلمان) سبيله عندما كان يحارب (العرب) وعلى مسافة منها ترين محفة الأرواح (بنات نعش الكبرى) بأقطابها الأربعة الساطعة. وعلى مقربة منها (الحيوانات الثلاثة). والنجم الصغير المقابل للثالثة هو (السائق)؛ وانظري من حولها هذه النجوم الهاوية، إنها

ص: 75

النفوس التي لم يقبلها الخالق في جنته. . . . وتحتها بقليل ترين (المشط) أو (الملوك الثلاثة)(الجوزاء) التي نستعين بها على معرفة الوقت. فيكفي أن القي عليها نظرة واحدة لأتأكد أن نصف الليل قد انقضى. وعلى مسافة منها للجنوب يلمع (جان دي ميلان) سراج الكواكب كلها (الشعري اليمانية) واليك الحكاية التي يرويها الرعاة عنها:

في ذات ليلة دعيت الشعري اليمانية و (الملوك الثلاثة) والثريا إلى حفلة زواج إحدى صديقاتها النجوم. فتقدمت الثريا رفيقتيها وانطلقت حتى استقرت في أعالي طبقات الجو كما ترينها؛ ولحق بها (الملوك الثلاثة) بطريق أدنى؛ أما الكسول (جان دي ميلان) فقد أخره نومه عن اللحاق بها، فاغتاظ ورماها بعصاه ليقفها في مكانها. ولهذا يطلقون أحيانا اسم (جان دي ميلان) على (الملوك الثلاثة).

ولكن اجمل النجوم وأكبرها قدرا (نجمة الراعي) التي تنير لنا الطريق في الفجر عندما نخرج بالماشية إلى المرعى، وفي المساء عندما نعود بها إلى الحظيرة. ونسميها أيضا (ماغلون) وهي الجميلة التي تمشي دائما إثر (بير دي بروفانس)(زحل) لتتزوج به كل سبع سنوات مرة واحدة.

- ماذا تقول! وهل من زواج عند النجوم؟

- نعم أيتها الآنسة.

ولما أخذت اشرح لها محور هذا الزواج أحسست بشيء ناعم يثقل على كتفي في لطف ورقة؛ فنظرت فإذا برأسها الناعس متكئا علي، وإذا بشرائطه الحريرية وتخاريمه اللطيفة وشعره المجعد يحتك بي إلى أن بدأت الكواكب تصفر في سمائها، وأخذ ضوء الفجر ينبثق في الأفق البعيد ليمحو أثرها. أما أنا فكنت أتأمل الفتاة النائمة بشيء من الحزن الخفيف. لا أفكر في هدأة الليل وصفائه إلا بكل ما هو جميل وشريف. وعلى جوانبنا تتابع النجوم سيرها ببطء وسكوت كأنها قطيع من الغنم. وبين الفينة والفينة كنت أشعر أن ألطف وأجمل نجمة كانت قد أظلت الطريق فهبطت إلى كتفي فنامت عليه بهدوء. . . .

كيفون (لبنان). محمد كزما

ص: 76

‌بلياس ومليزاند

للفيلسوف البلجيكي موريس ماترلنك

ترجمة الدكتور حسن صادق

اركل - من القادم؟

جنفييف - انه بلياس وفي عينيه أثر البكاء.

اركل - هذا أنت يا بلياس؟ اقترب مني حتى أراك في النور.

بلياس - تسلمت يا جدي رسالة من صديقي مارسيللوس في الوقت الذي تسلمت فيه كتاب أخي. . . إن هذا الصديق العزيز علي يعاني ألم الاحتضار. وهو يستقدمني إليه ليراني قبل أن يفارق العاجلة. ويقول في رسالته إنه يعرف بالدقة اللحظة التي سيموت فيها، وأني أستطيع الوصول إليه قبل حلول تلك اللحظة إذا شئت. إني ذاهب إليه في الحال.

اركل - يجب عليك أن تنتظر قليلا، على الرغم من ذلك أننا لا ندري ماذا تعده لنا عودة أخيك. ثم هل نسيت أن أباك ملقى على فراشه في الغرفة التي فوقنا، وقد شفه الداء وبراه السقم؟ أليس من الجائز أن يكون أشد مرضا من صديقك؟ ومن أولى برعايتك وعطفك، الوالد أم الصديق؟ (يخرج)

جنفييف - لا تنس أن تشعل المصباح الليلة يا بلياس (يخرجان متفرقين).

المنظر الثالث

(أمام القصر. تدخل جنفييف ومليزاند)

مليزاند - ما هذا السكون المعتم الذي يخيم على الرياض؟ انه يدخل على النفس الرهبة والاكتئاب! وما هذه الغابات الكثيفة الجاثمة حول القصر؟!

جنفييف - لما وطئت هذا المكان أثار هذا المنظر العجب في نفسي وأخذ منها مأخذا شديدا. انه رائع مخوف يغرق كل من رآه في التأمل العميق. توجد أمكنة لا يرى الإنسان فيها نور الشمس ولا ضوء القمر، فإذا ما طال مقامه بها ألفها واطمأن إليها. . . قضيت في هذا القصر الموحش أربعين عاما أو تزيد قليلا. . . لو نظرت إلى الناحية الاخرى لرأيت نورا ينبعث من ماء البحر.

مليزاند - أسمع حركة قريبة منا.

ص: 77

جنفييف - نعم. أحد الناس يسير نحونا. . . آه! انه بلياس. .

ما يزال التعب باديا في أسارير وجهه وفي خطواته المتثاقلة. . . لقد انتظركما طويلا.

مليزاند - إنه لم يرنا.

جنفييف - أعتقد أنه رآنا، ولكنه لا يعرف ما يجب عليه عمله، بلياس، بلياس، أهذا أنت؟

بلياس - نعم. إني آت من شاطئ البحر.

جنفييف - ونحن أيضا كنا نبحث عن مكان ينعم بشيء من النور، ولكننا لم نجد مكانا أقل ظلمة من هنا. كنا نرجو أن نجد البحر منيرا فألفيناه قاتماً مكفهرا. . .

بلياس - ستهب الليلة عاصفة كما هبت من قبلها عواصف في الليالي القليلة الماضية. . . ومع ذلك أرى الجو هادئا في هذا المساء، والسماء مصحية والبحر ساكنا لا تعروه رعدة ولا تعلوه موجة، قد يركب البحر الليلة إنسان وهو مطمئن الخاطر مثلوج الفؤاد، حتى إذا بعد عن الشاطئ، دهمته العاصفة، وحطمت السفينة، وابتلعه اليم في جوفه. . .

مليزاند - أرى شيئا يخرج من المرفأ.

بلياس - لا بد ان يكون هذا الشيء سفينة كبيرة. . . الأنوار عالية، وسنرى السفينة بعد قليل حينما تبلغ الموضع الذي فيه أشعة الضوء.

جنفييف - قد يحجبها عن عيوننا الضباب الراقد على سطح البحر فلا نراها.

بلياس - كأني بالضباب يعلو في دءوب وبطء. . .

مليزاند - نعم. . . أرى الآن على البعد نورا ضئيلا لم أره قبل ذلك.

بلياس - هذا هو ضوء منارة. .، توجد منارة أخرى لم نرها بعد.

مليزاند - بلغت السفينة الحيز المضيء. . . إنها الآن بعيدة عن الشاطئ.

بلياس - إنها تبتعد مسرعة وقد نشرت كل شراعها.

مليزاند - وهي التي جازت بي إلى المرفأ. . . إن لها شراعا كبيرا أعرفه حق المعرفة.

بلياس - سيباغتها الليلة هياج البحر!

مليزاند - ولماذا أقلعت في هذا المساء؟. . . اختفت عن الأبصار أو كادت. قد تحل بها كارثة في وحشة الظلام!

بلياس - الليل يبسط على الكون ظلمته في سرعة غريبة (سكوت)

ص: 78

جنفييف - حان الوقت لدخول القصر. بلياس، دل مليزاند على الطريق. إني ذاهبة لأرى (اينيولد) الصغير وامكث بجانبه بعض لحظات (تخرج)

بلياس - لم أعد أرى شيئا على سطح البحر.

مليزاند - أرى أنوارا أخرى. . .

بلياس - إنها المنائر الأخرى. . . أتسمعين صوتا يأتينا من البحر؟ إنه زفيف الرياح وقد مسحت عن عينيها فتور الكرى. . . هاتي يدك. . . الطريق من هنا.

مليزاند - انظر. . . انظر. . . في يدي أزهار كثيرة!

بلياس - اعتمدي على ذراعي. . . ان الطريق كثيرة الالتواء شديدة الانحدار، والظلام حالك متكاثف. . . في نيتي الرحيل غدا.

مليزاند - أوه! لماذا تنوي الرحيل؟ (يخرجان)

الفصل الثاني

المنظر الأول

(عين ماء في الحديقة. يدخل بلياس ومليزاند)

بلياس - تجهلين دون ريب هذا المكان الذي قدتك إليه. . . إني افزع إليه في كثير من الأوقات فرارا من شدة القيظ. . . الحر خانق اليوم، حتى تحت ظل الشجر!

مليزاند - أوه! الماء صاف!

بلياس - وهو بارد منعش كعهدي به أيام الشتاء. . . هذه عين ماء عتيقة أهملت منذ زمن بعيد، وأظنها كانت تأتي بالمعجزات. . . كانت تشفي الأعمى ولذلك ما يزال الناس يطلقون عليها (عين العمى)

مليزاند - ولم تعد تنتج هذا الأثر؟

بلياس - من يوم أن ضعف بصر الملك وشارف العمى لم يعد يتردد على العين أحد.

مليزاند - ما أثقل الوحدة على صدر الإنسان في هذا المكان! إني لا أسمع فيه حسا ولا ركزا!

بلياس - السكون التام الغريب يألف هذا المكان في كل حين ويستطيب صحبته في كل آن. . . انظري إلى الماء، انه في سبات عميق. . . اجلسي إذا شئت على هذا المرمر الذي

ص: 79

يحيط بالعين. . . فوق رأسك شجرة الزيزفون لا تخترقها أشعة الشمس.

مليزاند - سأرقد على المرمر. . . إن شوقاً ملحاً يدفعني إلى رؤية القاع.

بلياس - لم ير قط. . . قد تبلغ العين في عمقها البحر.

مليزاند - قد يرى الإنسان قاعها إذا وضح فيه شيء يلمع.

بلياس - لا تنحني هكذا!

مليزاند - أرغب في لمس الماء.

ص: 80

‌الكتب

النجوم في مسالكها

هذا هو النقد الذي بعث به إلى الرسالة الأستاذ عبد الحميد سماحة منذ عددين. وكنا على وشك أن ننشره لولا أن رأيناه بروحه ومعناه منشوراً في الأهرام بإمضاء ناقد، فلما كتب الأستاذ في الأهرام انه هو وزميله غير هذا الناقد الحاقد، وأنه ينتظر ظهور نقده في الرسالة ليعلن في الكتاب جملة رأيه، نشرناه اليوم متبوعاً بتعليق للأستاذ الغمراوي حتى لا تحول بين علم الأستاذ وبين جهل المترجمين الذين أقروا الكتاب! وحتى تهيئ الفرصة لمن أحسنوا الظن بالأستاذ أن يوازنوا بين نقده وبين نقد (ناقد)

قال الأستاذ سماحة بعد المقدمة:

يبدو لي ان شخصية المؤلف كان لها تأثير شديد على المترجم فالتزم الترجمة الحرفية التزاما في مواضع كثيرة شوهت من جمالها في الأصل الإنجليزي وأخرجتها في بعض الأحيان عن معناها الحقيقي حتى أصبح من الصعب فهمها دون الرجوع إلى الأصل الإنجليزي.

مثال ذلك: ما جاء من الصفحة الثامنة (وعلى ذلك فلا أقل من 000 ، 300 ، 1 أرض يمكن أن يزج بها في الشمس، وفي الأصل الإنجليزي 1 ، 300 ، 000

وما جاء في صفحة 74 (رأى السير اسحق نيوتن ان هذا الانحناء المستمر نحو الأرض في مسار القمر إنما يعين أن الأرض تجذب القمر جذبا مستمرا)

. .

وفي الأصل الإنجليزي ص 69 وفي صفحة 77: (منذ عهد نيوتن برهنت الحقائق الفلكية فوق كل شك غير جزاف صدق ما نقرره) وفي الأصل الإنجليزي:

،

وفي آخر صفحة 94: (وليس هناك نواة تستطيع أن تقبض على كهاربها بقوة في طوقها أن تصمد لمثل هذه الحرارة) وفي رأيي أنها لو وضعت في الصيغة الآتية لكانت أدل على المعنى المقصود: (وليس هناك نواة تستطيع أن تستبقي كهاربها في أطواقها عند مثل هذه الدرجة العالية من الحرارة) وما جاء في صفحة 107: (ولما تكلمنا عن وجه السماء في

ص: 81

الفصل الأول لم تكن النجوم في اعتبارنا إلا وراءاً بعيداً عن نقط ضوئية) فهنا أيضا يكاد يكون المعنى غير مفهوم.

وفي صفحة 42 في آخر الفقرة الأولى جملة مكررة ليست موجودة في الأصل الإنجليزي (فالجو في النجم يتدخل بالتدريج في مادة النجم نفسها لأن النجم وجوه مصنوعان من مادة واحدة، فالانتقال يتم تدريجيا من مادة الجو إلى المادة الأساسية للنجم نفسه لأن تكوينها واحد)

وفي صفحة 55 وضع المترجم شرحا عن عطارد ذكر فيه أن رؤيته بمصر صعبة نسبياً، والحقيقة أن رؤية عطارد ممكنة في مصر.

أما ترجمة بقدر بمرتبة، فلا زلت على رأيي الذي كاشفته به قبيل إصدار الكتاب وهو أن النحت هنا غير جائز بالمرة إذ أن كلمة قدر هي اصطلاح فني يدل على درجة لمعان النجم ويقابلها في الإنجليزية وكلاهما أقدم على الزمن من جينز ومؤلفات جينز وليس لمؤلف أو لمترجم أن يثور على الاصطلاح بغير ما سبب قوي وبمثل هذه السهولة، أما ما أشار اليه المترجم في مقدمة صفحة ح من أنه راجع كتاب محمود باشا الفلكي لمعرفة أسماء النجوم والكوكبات العربية، فالذي أعرفه أن محمود باشا ليس له مؤلفات باللغة العربية أو على الأقل في هذه الناحية من البحث، وأن الكتاب الذي يشير إليه الدكتور الكرداني هو كتاب (الدرر التوفيقية في علم الفلك والجيوديزية) والمؤلف هو إسماعيل بك مصطفى الفلكي وليس محمود باشا، أما ما يصح أن نسميه تمصير الكتاب فقد نجح بذلك المترجم إلى حد كبير، وهو مجهود يستحق الثناء، فأكرر تهنئتي له واشكره على ما نسبه لي في مقدمة الكتاب.

تعليق الأستاذ أحمد محمد الغمراوي

أظن أهم ما في نقد الأستاذ سماحة قوله أن الترجمة في مواضع كثيرة حرفية شوهت من جمال الأصل وأخرجته في بعض الأحيان عن معناه الحقيقي حتى أصبح من الصعب فهمها دون الرجوع إلى الأصل. وهذا النقد لو صح لكان عيباً كبيراً في الترجمة لا يمكن الاعتذار عنه بحال. لكن الأمثلة التي ساقها الأستاذ سماحة توضيحا لرأيه هذا تكفي في ذاتها لنقضه. فقد ذكر أمثلة ثلاثة قرن في كل منها الترجمة بمقابلها من الأصل وأشار في

ص: 82

كل إلى الموضع الذي لم يرضه من الترجمة والى ما يقابله. والذي لم يرضه في كل مثال هو في الغالب كلمة في جملة، وهذا يقرب مسافة الخلف بيننا وبينه إذ لو كانت الترجمة حرفية بالمعنى الذي يزعم لكانت الجملة كلها محل اعتراض لا كلمة واحدة منها أو كلمتان فإذا رجعنا إلى الكلمة أو التعبير الذي أعترض عليه لم نجد لهذا الاعتراض محلا. فالجمل العربية في جميع الأحوال إلا لشخص لا يعرف معنى مثل (يزج بها) و (شك غير جزاف). ولم يدر بخلد المترجم ولا المراجع أن في أي هذين التعبيرين ما يستغلق على أحد اللهم إلا على تلميذ يكون من صالحه عندئذ أن يكشف أو يسأل عما استغلق عليه. ثم الجمل العربية في جميع الأحوال ليست ترجمة للأصل حرفا بحرف بل فيها من التصرف قدر بسيط ينجيها من الحرفية المكروهة من غير أن يحرمها من الدقة.

على أن يحسن بنا أن ننبه هنا إلى أن الحرفية في الترجمة ليست دائما مكروهة وإنما تكره عندما يختلف الذوق في اللغتين. فإذا اتفق الذوقان كما يحدث في مواطن غير قليلة لم تكن الحرفية شيئا مكروها بل كانت مستحبة أو واجبة لأنها عندئذ تكون أسهل وأدق وأرضى للضمير الذي يطالب بالأمانة المطلقة في الترجمة كما يطالب بالأمانة المطلقة في النقل. فليس بعيب على مترجم أن يلتزم الأصل حتى في التراكيب ما دام مثل هذا الالتزام لا يؤدي في الترجمة إلى ما يأباه ذوق اللغة المنقول إليها أو يخالف معنى الأصل المنقول عنه. وليس في الأمثلة التي جاء بها الأستاذ سماحة ما يمكن ان يدل على أن الترجمة التي نحن بصددها فيها ما يخالف الذوق العربي أو يفيد معنى لا يفيده الأصل الإنجليزي. حتى الجملة التي قال أنها مكررة في صفحة 42 تكررا ليس في الأصل الإنجليزي معناها نفس معنى الجملة التي قبلها وإن اختلفت عنها كثيرا في اللفظ، فلو كان هذا التكرار مقصودا من المترجم لكان فيه ما يشهد بأنه يذهب إلى ما وراء الحرف بكثير إذا رأى ان توضيح المعنى يستدعي ذلك. لكن أكبر الظن أن الجملتين ترجمتان لجملة إنجليزية واحدة كان يراد اختيار واحدة منهما فحال دون ذلك سهو أو شبهة ثم لم يفطن إلى تكرار المعنى عند المراجعة لاختلاف التركيب من ناحية ولأن مثل هذا التكرار قد يلجأ اليه المؤلف لتوضيح أو لتوكيد.

وكون الأستاذ سماحة قد فطن إلى أن التكرار هنا غير موجود بالأصل يقظة منه محمودة

ص: 83

من غير شك كنا نود لو أنها ساعفته حين أراد التعرض للجملة التي أخذها عن آخر صفحة 94 فقد التبست عليه كلمة (طوق) بمعنى الوسع والطاقة بكلمة (طوق) بمعنى كل ما استدار بشيء، فاقترح الجملة التي يراها القارئ في مكانها من نقده. ولو كان هذا هو المعنى المقصود لكانت الجمل هي المثل الوحيد الذي جاء به الأستاذ على سوء الترجمة، لأن الجملة تصبح مضطربة غير مفهومة لو كانت كلمة (طوق) فيها معناها مدار كما فهم الأستاذ سماحة وكما تدل عليه جملته التي اقترح. ولو أن الأستاذ تجشم مراجعة الأصل في هذا أيضا لتدارك قلمه قبل ان يفرط منه ما فرط أو لعل الأستاذ سماحة راجع الأصل واستباح مع ذلك أن يتصرف في ترجمته. هذا التصرف الغريب لأنه من الآخذين بمذهب التصرف الواسع في الترجمة. وهو مذهب له أنصاره لسهولته.

ولأنه يحل شخصية المترجم محل شخصية المؤلف، ولعل هذا هو السر في أن الأستاذ سماحة عاب على المترجم أن سمح لشخصية مؤلف كتاب (النجوم في مسالكها) بالتغلب على شخصيته. ولو كانت المسألة مسألة مغالبة بين شخصيتين لكان هذا عيبا لكننا نفهم واجب المترجم على عكس ما يفهم الأستاذ، نفهمه على انه جهاد في سبيل إظهار شخصية المؤلف كما تتجلى في كتابه، وإخفاء شخصية المترجم تماما إن أمكن. واكبر صعوبة في الترجمة كما نراها هي في ذلك الإظهار وهذا الاخفاء، اذ ليس من السهل أن يتخلى مترجم عن شخصيته ويجتهد في تقمص شخصية مؤلف مكانها ليخرج للناس ترجمة تكون في اللغة المنقول إليها مثل الأصل في اللغة المنقول عنها. هذا مثل أعلى في الترجمة يقترب الإنسان منه كما يشاء من غير أن يبلغه. ويظهر أن الدكتور الكرداني قد نجح في الاقتراب منه إلى حد أن التبس الأمر على الأستاذ سماحة فظن المسألة مسألة شخصية غلبت شخصية، وما هي إلا مسألة مبدأ في الترجمة قائم على الأمانة والتضحية قد أفلح الأستاذ المترجم في اتباعه وتوخيه.

بقيت الملاحظتان الفلكيتان اللتان ذكرهما الأستاذ سماحة. فأما مسألة قدر ومرتبة فإنا نظن الحق معه فيها، وإن كان هذا ليس معناه أن يحرم مثل الأستاذ الكرداني من إبداء رأيه بصورة عملية في مسألة مصطلح من مصطلحات لم يستقر الناس فيها بعد على قرار. وإما مسألة رؤية عطارد فان القول الذي كان قاله الدكتور الكرداني من أنها صعبة نسبيا لا

ص: 84

ينبغي أنها ممكنة كما يقول الأستاذ سماحة. ولعله يحسن هنا إنصافاً للاثنين أن نقول أن الدكتور الكرداني أراد أن يستوثق من الأمر فسأل الأستاذ سماحة فكان رأيه أن رؤية عطارد غير ممكنة في مصر، فراجعه في ذلك حتى اتفقا على خير تعبير هو (صعبة نسبياً) وقد غيره الدكتور الكرداني بعد إلى (سهلة نسبياً). فإذا كان الأستاذ سماحة يخبرنا الآن أن رؤية عطارد ممكنة يريد سهلة فمرحبا بخبره، لكن كان الأولى أن يقول سهلة أن كان هذا مراده فان لم يكن هذا مراده فقد أقر الرأي الأول ولم يكن في ملاحظته فائدة للناس.

وأما مسألة الفلكي باشا فهو إسماعيل مصطفى باشا لا محمود باشا، فملاحظة الأستاذ سماحة هي في صميمها حق، إلا في ما تفيده من أن المترجم قال انه راجع محمود باشا الفلكي فان ما قاله المترجم في مقدمته لا يفيد إلا انه خالف من غير أن يستلزم انه راجع. وعلى أي حال فان معلومات المترجم التي نسبها للفلكي باشا في صلب الكتاب هي كما أذن لنا المترجم أن نقول مأخوذة كلها عن الأستاذ سماحة وان سماه الأستاذ سماحة إسماعيل بك وسمته نسخة دار الكتب للدرر التوفيقية إسماعيل مصطفى باشا. وهذي كانت إحدى أيادي الأستاذ التي نوه بها الدكتور الكرداني في مقدمته وأراد أن ينوه بها بصورة عملية فطلب إليه أن ينقد الكتاب.

وبعد فقد كنا نود لو قصر الأستاذ سماحة نقده على الناحية الفلكية التي هو من رجالها فاشبع فيها القول، أما الناحية اللغوية فلها رجالها، وكثير منهم من أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنثر التي تولت إخراج الكتاب.

ص: 85