المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 150 - بتاريخ: 18 - 05 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٥٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 150

- بتاريخ: 18 - 05 - 1936

ص: -1

‌النقد المزيف

كاد الأدباء الناشئون في مصر وفي غير مصر ينصرفون عن الإنشاء إلى النقد. وأريد بالنقد هنا معناه العامي أو مدلوله الأعم؛ فأن النقد المنطقي بمعناه الأخص إنما هو ملكة فنية أصيلة، وتربية أدبية طويلة، وثقافية علمية شاملة. والناقد بهذا الاعتبار يشارك المشترع في صدق التميز، والفيلسوف في دقة الملاحظة، والقاضي في قوة الحكم. ومن ثم كان نوابغ النقد في العالم أندر من نوابغ الشعر والكتابة. وهذا الذي تقرأه في الصحف العربية من حين إلى حين لا يدخل في هذا الباب إلا كما يدخل المجون في نطاق الجد أو العبث في سياق المنطق؛ كالرجل يقعد به العجز عن اللحاق بالقادرين، فيقف نفسه موقف القائد الحصيف، يلمز هذا، ويتنادر على ذاك، ويزعم أنه وحده المسيطر على ثمرات الذهن، فيحكم بذوقه الخاص على هذه بالقبح، وعلى تلك بالفجاجة؛ وأمره كله لا يخرج عن مألوف الطباع الساخرة الفكهة: تصور الحق بلون الباطل لتُضحك، وتبرز الجميل في مظهر القبيح لتُسئ. وعيب الناس طبيعة في بعض الناس، لا يكلفهم إلا تحريك اللسان إذا لقوا سامعاً، أو تجرير القلم إذا وجدوا صحيفة

هذا طالب في ثانويات القاهرة يملي خطة في الكتابة على الجامعة؛ وذاك معلم في ابتدائيات بيروت يلقي درساً في الصحافة على القاهرة؛ وذلك صحفي في مطارح الهجرة يقضي بالموت على الأدب العربي كله!

علام اعتمدت يا بني في إنشاء خطتك؟ وإْلام يا أخيَّ في إعداد درسك؟ ومم اتخذت يا زميلي أسباب حكمك؟ وهل تظفر من هؤلاء بجواب ما دمت في الزمن الذي ترى فيه الناظم ينظم ولا يعلم العروض، والكاتب يكتب ولا يدرس النحو، والمجادل يجادل ولا يفقه الأصول؟ إنها فوضى تتولد في عصور الانتقال وتفشو في ابتداء اليقظة، حين لا يسكن أمر إلى قرار، ولا يطمئن نظام على وجه، ولا يخلص رأى من حيرة، ولا يصدر حكم عن اختصاص!

إن هذا الضرب من النقد إما أن ينبعث من مكامن الحقد فيرمى إلى التجريح، وإما أن ينطلق من مواضع الغرور فيسعى إلى الهدم. كان منذ قريب يعمد إلى الكتاب القيم في الفلسفة أو التاريخ أو القانون قد ألفه مؤلفه من دمه وعصبه وعقله وعمره وماله، فيقف منه موقف الحاسد الأحمق ينقد في بعض صفحاته فعلا تعدى بغير حرفه، أو اسماً جمع على

ص: 1

غير قياسه، وقد يكون لكل منهما وجه، ثم يحكم على الكتاب كله بأنه سخيف لا يقرأ، وضعيف لا يعيش!. ثم أصبح اليوم يعرض للموضوع فيقول: هذا قديم لأنه يدور على بحث في تاريخ الشرق، أو على معنى من معاني الدين، أو على أثر من آثار البلاغة؛ وهذا جديد لأنه يقوم على حادثة من حوادث الغرب، أو على رجل من رجال الأكاديمية أو على غانية من غواني المسرح؛ هذا مقلد لأن أسلوبه شريف ممتنع، وهذا مجدد لأن أسلوبه مبتذل ممكن! ثم تعصف بأقلامهم اللينة نخوة الحفاظ وحماسة الفتوة فيصيحون:

أميتوا أدب العاصفة وأحيوا أدب القوة!

أبيدوا أدب الخاصة وأوجدوا أدب الشعب!

انبذوا أدب المقالة ألزموا أدب القصة!

صيحة قرارها حق ومقالها باطل! فأن إجماع الناس واقع على أن خلو الأدب الحديث من أدب الشعب وأدب القصة خلل لابد أن يسد، ونقص لابد أن يكمل؛ ولكن من الذي يقول ويعني ما يقول: إن وجود هذه الأنواع يقتضي عدم الأخرى؟ إن لكل فن من الأدب طبقة من الناس تتذوقه، فإذا منعتها إياه طلبته. والناقص لا يكمل برفع نقص ووضع نقص؛ والبناء لا يتم بهدم ركن وإقامة ركن

أرأيتك إذا كان الأدب كله قوياً يخشن الصدور، وحماسياً يؤرّث الحفائظ المريرة، ويترجم أشجان القلوب الكسيرة، ويرقق حواشي الأنفس الجافية؟

أرأيتك إذا كان الأدب كله شعبياً يعبر بألسنة السوقة، وينقل عن عواطف العامة، أفما كنت تقول: أين الأدب الذي يرضي أذواق الخاصة فيجمع بين سمو الفكرة ونبل العاطفة وقوة الأسلوب في صورة من الفن الرفيع تسمو بالنفوس إلى المثل الأعلى، وتغمر الشعور بالجمال الخالد؟

الأدب صورة النفس فلا بد أن ترتسم فيه مشاعر الفرد؛ والأدب مرآة الحياة فلا بد أن تنعكس فيه ألوان المجتمع. وما دام في الناس الحساس والبليد، والخوار والجليد؛ وفي الدنيا التفاوت الذي يوجد التمايز، والألم الذي يفجر الدموع، واللذة التي تبعث المسرة، والمدنية التي تخلق التنوع، فلا بد أن يكون الأدب الصحيح صدى لكل ذلك

ليست وظيفة النقد أن يهدم أو يميت أو يشترع. تلك وظيفة الطبيعة التي تطور كل شيء،

ص: 2

وتغير كل نظام، وتسد كل عوز، وفق قانون ثابت. إنما وظيفة الناقد أن ينظم الموجود وينبه الأذهان إلى الفاقد. أمَّا أن يحاول تغيير الطباع بقانون، وقلب الأوضاع بمقالة، ومحو الثابت بنكتة، فذلك عبث لا يخلق بكرامة إنسان، وتهريج لا يذكر بضمير فنّان!

أما بعد فلعل في هذا الأجمال يا صديقي (نجيب) بعض الجواب عن مقالك (فوضى النقد)، ولعلك تكتفي مني بذكره عن نشره؛ فانك سميت أشخاصاً وعينت كتباً وحددت حوادث، وفي بعض ما قلتَ مشابهُ مما يقول هؤلاء! ومن خلُقَ الرسالة كما تعلم أن تكتفي بالتلميح وتتأبّه عن التجريح وتعوذ بفطنة قرائها من شر ذلك.

أحمد حَسن الزيات

ص: 3

‌إنسان ناجح

للأستاذ أحمد أمين

صخري الوجه، صلب الجبين، لم يعرف يوماً حمرة الخجل، ولا برقع الحياء، لا يتوقى شيئاً، ولا يبالي ما يقول

إن كان لكل الناس وجه ولون ولسان، فلهذا المخلوق أوجه وألسنة وألوان

هو صديقك وعدوك حسب الظروف الخارجية، لا حسب ما يصدر منك، وهو مادحك وذامك حسب ما يدور في المجلس، لا حسب رأيه، وهو عابس لك يوماً باسم يوماً حسب ما يقدر هو أنه في مصلحته، لا حسب ما تستحق أنت منه

له حاسة زائدة عن حواس الناس الخمس هي سر نجاحه، ولهذه الحاسة خصائص: فهو يدرك بها أي نوع من الوزارات ستتولى الحكم ليحول نفسه على وفقها، وليتهجم لأعدائها، ويتقرب من أحبابها؛ ويشم بها مواطن المال في كل ظرف، ويرى بها من يجلب له النفع، ويؤقلم وفق ذلك نفسه، فيتشكل بأشكال في منتهى الظرف والطلاوة، فإذا عدوه اللدود بالأمس صديقه الحميم اليوم

ويعرف بها - في مهارة عجيبة - موضع الضعف من كل إنسان يهمه، فأن كان يعبد النساء حدثه أعذب الحديث في النساء والجمال وحسن الشكل، وبدع المحاسن، وجمال الملامح، وأستعرض نساء الفرنج، وأية حوراء العينين، كحلاء الجفون، ساجية الطرف، فاترة اللحظ، وأية أسيلة الخد، ممشوقة القد، وأية بيضاء اللون، شقراء الشعر، زرقاء العين. وأية سوداء العين، سمراء اللون سوداء الشعر. وأية ممتلئة البدن؛ ضخمة الخلق، شبعى الوشاح، وأية دقيقة الشبح نحيلة الظل مرهفة الجسم، وتفنن في ذلك ما شاء أن يتفنن حتى يملك لبه، ويستعبد عقله، فإذا هو طوع بنانه ومستودع أسراره

وإن كان سكيراً حدثه الحديث الممتع في الشرب والشراب، والكؤوس والأكواب وآداب النديم، وروى له أحسن الشعر في الخمر وحدثه عما يمزج ومالا يمزج، وخير الخمور ومواردها وتواريخها وما يلذ صبوحا وما يلذ غبوقا - وتعرف ما يستحسنه صاحبه فأفرط في مدحه وادعى الإعجاب به، وأنه لا يفضل عليه غيره، وأن ذوقه من ذوقه وشرابه من شرابه ومزاجه من مزاجه، وأسكره من حديثه كما أسكره من كأسه، فإذا هما صديقان وثقت

ص: 4

بينهما الكأس والطاس

وأن كان شرها في المال حدثه عن الضياع ومحاسن الأراضي وكيفية استغلالها، والعمارات وجبايتها، ووازن بين أنواع العقار وكم في المائة يمكن أن تغل، وأعانه في مشاكله وبذل له كل أنواع معونته، فوجد فيه صديقه النافع وخليله المواتي

وهدته حاسته هذه أن يعمد إلى عدد من الرؤوس الكبار ذوي النفوذ فينصب لهم حبالته، ويوقعهم في شبكته، بما يبذر من حب ذي أشكال وألوان، فإذا تم له ذلك خضع له الصغار من تلقاء أنفسهم وطوع أرادتهم، وضرب لهم مثلاً بقضاء حوائج لبعضهم ما كانت تقضى من غيره، فهو مقصد جميعهم ومحط آمالهم وموضع الرجاء منهم، يعملون كلهم في خدمته على أمل أن ينالوا شيئاً من جاهه، فإذا هو سيد على الصغار والكبار، وإذا هو عظيم حيث كان، يقابل بالإجلال والإعظام، ويملق من أتباعه وإخوانه، ويحسب حسابه في دائرته وأوسع من دائرته

إلى جانب هذه الحقائق القليلة قدر كبير من التهويش، فهو يزعم أنه في كل ليلة جليس الكبراء والوزراء، كم يتغزلون فيه ويطلبون القرب منه وهو يتأبى عليهم، ويبتعد عنهم، وهو لو شاء لكفت إشارة منه لأن يرفع من شاء في أعلى عليين، ويخفض من شاء إلى أسفل سافلين - الوزارات في يده، ومصالح الحكومة في إصبعه - والإنجليز يخشون بأسه، والفرنسيون يقضون مصالحهم على يده - وبريده كل يوم من خارج القطر ينوء السعاة بحمله، ثم لا أدري كيف اتصل بالجرائد فهي تشيد دائماً بذكره، فإذا تحرك حركة أعلنتها على الناس كما تذاع حركات الملوك، فهو مسافر إلى الإسكندرية، وقادم من الإسكندرية، ومبحر إلى أوربا، ومنتقل في عواصم البلدان، وعائد إلى مصر بعد أن رفع شأنها، أعلى مكانها، حتى لم يبق إلا أن تخبرنا ماذا أفطر، وكيف أفطر، وفي أي ساعة تناول غداءه، وماذا كانت أصنافه، وهل غفا قليلا إلى زوجه وأولاده

وهو يستغل هذا كله في قضاء مصالحه، فطلباته ناجزه نافذة، والمستحيل لغيره جائز له، والأموال تكال له كيلا، والهدايا تنهال عليه انهيالا، وه مع كل ذلك لا يشبع، كلما نال مطلبا تفتحت له مطالب، فهو في طلب دائم، ومن بيدهم الأمور في إجابة دائمة، حتى ليوشك - إذ لم يتعود الرفض - أن يطلب النجوم تزين غرفته، والسحاب يمطر في الصيف حديقته،

ص: 5

والحر والبرد يتأدبان في حضرته، والشمس تكسف لطلعته

ومن غريب أمر الناس فيه أنهم يكرهونه من أعماق نفوسهم، ويمقتونه من صميم قلوبهم، ويرون فيه السخافة مركزة، واللؤم مجمعاً فإذا لقوه فترحيب وتهليل، وإعضام وملق، يبسطون ألسنتهم فيه بالسوء غائباً، ويبطنون في مدحه حاضرا، فهو معذور إذ يشعر أن الناس مجمعه على حبه، حتى ليخشى عليهم أن يموتوا به غراما أو يُجَنُّوا به هياما، شهدته مرة وقد أتى عملا شنيعا حتى كان مضغة الأفواه ومعرة القوم، وظننت الناس إن رأوه ازدروه - على الأقل - بعيونهم، وكلموه ببعض شفاههم، واستهانوا بمقدمه، وأقل ما يفعلونه ألا يحلفوا به، وليأبهوا بمقدمه، فما كان أشد عجبي أن رأيتهم - إذ حضر - قد انتفضوا من أماكنهم، وأفسحوا له مجالسهم، وأجلّوا شأنه، واعظموا ورفعوا منزلته فوق من يقدرون فضله ويجلون خلقه

فهو - حتى في هذا - ينتفع بإعظامهم وإجلالهم، ولا يضره كرههم الذي لا يعدو قلوبهم - فكرهم لأنفسهم، وإعظامهم له، وماذا يضيره كرهٌ محتقن وخير منه حب مصطنع، وماذا يضيره سب صادق في إسرار، وخير منه مدح كاذب في إعلان؟ لاشك أنه في كل ذلك ناجح حتى في الكرة والذم

قال صاحبي: وهل تعد ذلك نجاحا؟ لو كان النجاح بقضاء المصالح والأغراض والحصول على المال فحسب، لعددنا السارق يجيد السرقة ويفلت من العقوبة ناجحاً، ولكان أنجح الناس من حصل على المال من أقرب الوجوه ولو كان من أخسها - إن هذا الذي ذكرت قد كسب المال وخسر الشرف، حييت مطامعه ومات ضميره، وخدم من يظنهم كبراء أو عظماء بضعة نفسه ومت حسه، بأي مقياس أخلاقي قسته لم تجده شيئاً، إن قسته بمقياس الفضيلة الباتة الحاسمة لم تجده سعيداً، إنه يتمتع ويأكل كما تأكل الأنعام، فان كان الحمار أو الخنزير سعيداً سعيد، وأين منه لذة ذي الضمير الحي ينعم بمواقف الشرف والنبل، ويلذهما لذة لا تعدلها ما ذكرت من مال وجاه؛ إن الرجل الفاضل سعيد حتى في آلامه لأنها آلام لذيذة خصبة، هي كالنار تنضج النفس ولا تحرقها، أما لذة صاحبك فسم في دسم، ونار تحرق ولا تنضج - وبعد قليل من حياته يفقد حتى لذة المال والجاه، وتصبح لذتهما كلذة من يتناول الحلوى صباح مساء تتهوّعُ نفسه وتتقبض شهيته - فان اللذة الباقية الدائمة هي

ص: 6

لذة الروح لا الجسم، ومن عجيب أمر الروح أن لذتها لذة صافية، وألمها ألم مشوب بلذة، ثم لذة هذا المخلوق لذة مشروطة بشروط، فهو يعتقد أن لذته مرتبطة ببقاء صاحبه في الوزارة، وصديقه في الوكالة، وحميمه في منصبه، لأن قيمته ذاتية، ونجاح مثل هذا في أمة عنوان فشلها وسوء تقديرها، وضعف الرأي العام فيها - وهو مثل سيئ يشجع البذور السيئة على النماء والبذور الصالحة على الخفاء - قد يكون هذا المثل في كل أمة، ولكنه في الأمة الصالحة نادر، ويحتاج في نجاحه إلى كثير من الطلاء حتى يخدع الناس ويوهمهم بصلاحه. أما أن يجرؤ ويظهر بمظهره الحقيقي ثم ينجح فذلك فساد الأمة وسبه الدهر

قلت: ربما كان ما تقول صحيحاً فدعني أفكر

أحمد أمين

ص: 7

‌العجوزان

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال محدَّثي: التقى هذان الشيخان بعد فراق أربعين سنة، وكانت مثابتهما ذلك المكانَ القائم على شاطئ البحر في إسكندرية في جهة كذا، وهما صديقان كانا في صدر أيامهما - حين كانت لها أيام. . . - رَجُلي حكومة يعملان في ديوان واحد، وكانا في عيشهما أخَوَيْ جد وهزل وفضائل ورذائل، يجتمعان دائماً اجتماع السؤال والجواب، فلا تنقطع وسيلة أحدهما من الأخر؛ وكأن بينهما في الحياة قرابة الابتسامة من الابتسامة، والدمعة من الدمعة

ولبثا كذلك ما شاء الله ثم تبددا، وأخذتهما الآفاقُ كدأب (الموظفين) ينتظمون وينتثرون، ولا يزال أحدهم ترفعه أرض وتخفضه أخرى، وكأن (الموظف) من تفسير قوله تعالى:(وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت)

وافترق الصديقان على مضض، وكثيراً ما يكون أمر الحكومة بنقل بعض (موظفيها) - هو أمرها بتمزيق بعضهم من بعض؛ ثم تصرَّفت بهما الدنيا فذهبا على طرفي طريق لا يلتقيان، وأصبح كلاهما من الآخر كيومه الذي مضى، يُحفظ ولا يُرى

قال المحدِّث: وكنت مع الأستاذ (م)، وهو رجل في السبعين من عمره، غير أنه يقول عن نفسه إنه شابٌ لم يبلغ من العمر إلا سبعين سنة. . . ويزعم أن في جسمه الناموسَ الأخضر الذي يحيي الشجرة حياة واحدةً إلى الآخر

رجل فارةٌ، متأنق، فاخر البزَّة، جميلُ السَّمْت، فارغُ الشَّطاط كالمصبوب في قالب لا عوج فيه ولا انحناء، مجتمع كله لم يذهب منه شيء، قد حفظته أساليبُ القوة التي يعانيها في رياضته اليومية. وهو منذ كان في آنِفَتِه وشبابه لا يمشي إلا مستأخر الصدر، مشدود الظهر، مرتفع العنق، مسندا قفاه إلى طوقه؛ وبذلك شب وشاب على استواء واحد، وكلما سئل عن سر قامته وعوده لم يزد على قوله: إن هذا من عمل إسناد القفا. .

وهو دائماً عَطرٌ عبق، ثم لا يمسُّ إلا عطرا واحد لا يغيره، يرى أن هذا الطيب يحفظ خيال الصبي، وأنه يبقي للأيام رائحتها

وله فلسفة من حسّه لا من عقله. ولفلسفته قواعد وأصول ثابتة لا تتغير؛ ومن قواعدها الزهر، ومن بعضها الموسيقى، ومن بعضها الصلاة أيضاً. وكل تلك هي عنده قواعد لحفظ

ص: 8

الشباب. ومن فلسفته أن مبادئ الشباب وعاداته إذا هي لم تتغير اتصل الشبابُ فيها واطَّرد في الروح. فتكون من ذلك قوة تحرس قوة اللحم والدم، وتمسك على الجسم حالته النفسية الأولى

وهو يزيد في حكمة الصلاة فكرةً رياضيةً عملية لم ينتبه أليها أحد، هي رياضة البطن والأمعاء بالركوع والسجود والقيام؛ ويقول إن ثروة الصلاة تُكْنَز في صندوقين: أحدهما الروح لما بعد الموت، والأخر البطن لما قبل الموت. ويرى أن الإسلام لم يفرض صلاة الصبح قبل الشمس إلا ليجعل الفجر ينصبُّ في الروح كل يوم

قال المحدّث: وبينما نحن جالسان مرّ بنا شيخٌ أعجفُ مهزولٌ موهونٌ في جسمه، يَدْلُفُ متقاصِرَ الخطوْ كأن حِمل السنين على ظهره، مُرْعشٌ من الكبَر، مستقدِمُ الصدر منحنٍ يتوكأ على عصا، ويدل انحناؤه على أن عمره قد اعوجَّ أيضاً. وهو يبدو في ضُعفه وهُزاله كأن ثيابه ملئت عظاماً لا أنسانا، وكأنها ما خيطت إلا لتمسك عظما على عظم. .

قال: فحملق إليه (م) ثم صاح: رينا، رينا. فالتفت العجوز، وما كاد يأخذنا بصره حتى أنفتل إلينا وأقبل ضاحكا يقول: أوه رِيت، رِيت

ونهض (م) فاحتضنه وتلازما طويلا، وجعل رأسهما يدوران ويتطوَّحان، وكلاهما يقبل صاحبه قبلاً ظامئة لا عهد بمثلها في صديقين، حتى لخيّل إلي أنهما لا يتعانقان ولا يتلاثمان ولكن بينهما فكرة يعتنقانها ويقبلانها معاً. .

وقلت: ما هذا أيها العجوز؟

فضحك (م) وقال: هذا صديقي القديم (ن) تركته منذ أربعين سنة معجزةً من معجزات الشباب، فها هو ذا معجزة أخرى من معجزات الهرم، ولم يبق منه كاملاً إلا اسمُه. .

ثم التفت إليه وقال: كيف أنت يا رِينا؟

قال العجوز (ن): لقد أصبحت كما ترى؛ زاد العمر في رجليَّ رجلاً من هذه العصا، ورجع مصدرُ الحياة فيَّ مصدراً للآلام والأوجاع، ودخلت في طبيعَتي عادة رابعة من تعاطي الدواء

فضحك (م) وقال: قبح الله هذه الدخيلة، فما هي العادات الثلاث الأصلية؟

قال العجوز: هي الأكل والشرب والنوم. . ثم أنت يا رِيت كيفَ تقرأ الصحف الآن؟

ص: 9

قال (م): أقرأُها كما يقرؤها الناس، فما سؤالك عن هذا؟

وهل تقرأ الصحف يوما غير ما تقرأ في يوم؟

قال: آه! إن أول شيء أقرأ في الصحف أخبارُ الوَفيَات لأرى بقايا الدنيا، ثم (إعلانات الأدوية). . ولكن كيف أنت يا ريت؟ إني لأراك ما تزال من وراء أربعين سنةً في ذلك العيش الرَّخِيُ، وأراك تحمل شيخوختك بقوة كأن الدهر لم يَحزُمْك من هنا ولا من هنا، وكأنه يلمسك بإصبعه لا بمساميره، فهل أصبت معجزة من معجزات العلم الحديث؟

قال: نعم

قال: ناشدتك الله، أفي معجزات العلم الحديث معجزةٌ لعظمي؟

قال (م): ويحك يا رينا. إنك على العهد لم تبرح كما كنتَ مزبلة أفكار. . ماذا يصنع فيك العلم الحديث وأنت كما أرى بمنزلة بين العظم والخشب. .؟

قال المحدث: وضحكنا جميعاً ثم قلت للأستاذ (م): ولكن ما (رينا وريت) وما هذه اللغة؟ وفي أي معجم تفسيرُها؟

قال: فتغَامزَ الشيخان، ثم قال (م): يا بني هذه لغة ماتت معانيها وبقيت ألفاظها، فهي كتلك الألفاظ الأثرية الباقية من الجاهلية الأولى

قلت: ولكن الجاهلية الأولى لم تنقض إلا فيكما. . ولا يزال كل شاب في هذه الجاهلية الأولى، وما أحسب (رينا، وريت) في لغتكما القديمة إلا بمعنى (سوسو، وزوزو) في اللغة الحديثة؟

فقال (م): اسمع يا بني. إن رجل سنة 1935 متى سأل فيَّ رجل سنة 1895: ما معنى رينا وريت؟ فرد عليه: إن (رينا) معناها (كاترينا)؛ وكان (ن) بها صباٌ مغرماٌ، وكان مُقْتَتَلاٌ قتله حبها. أما (ريت) فهو لا يعرف معناها

فامتعض العجوز (ن) وقال: سبحان الله، اسمع يا بني! إن رجل سنة 1895 في يقول لك: إن (ريت) معناها (مرغريت) وكانت الجوى الباطنَ، وكانت اللوعة والحريق الذي لا ينطفئ في قلب الأستاذ (م)

قلت: فأنتما أيها العجوزان من عشاق سنة 1895 فكيف تريان الحب الآن؟

قال العجوز (ن): يا بني إن أواخر العمر كالنفي. . ونحن نتكلم بالألفاظ التي تتكلم بها أنت

ص: 10

وأنتما وأنتم. . غير أن المعاني تختلف اختلافاً بعيداً

قلت: واضربْ لهم مثلاً

قال: واضرب لهم مثلاً كلمة (الأكل) فلها عندنا ثلاثة معان: الأكل، وسوءُ الهضم، ووجع المعدة. . وكلمة (المشي) فلها أيضاً ثلاثة معان: المشيُ، والتعب، وغمزاتُ العظم. . وكلمة (النسيم)، النسيم العليل يا بني؛ يزيد لنا في معناها تحرك (الروماتزم). .

فضحك (م) وقال: يا (شيخ). .

قال العجوز: وتلك الزيادة يا بني لا تجيء إلا من نقص، فهنا بقيةٌ من يدين، وبقية من رجلين، وبقية من بطن، وبقية من ومن ومن، ومجموع كل ذلك بقية من إنسان

قال الأستاذ (م): والبقية في حياتك. .

قال (ن): وبالجملة يا بني فان حركة الحياة في الرجل الهرم تكون حول ذاتها لا حول الأشياء؛ وما أعجب أن تكون أقصر حركتي الأرض حول نفسها كذلك، وإذا قال الشاب في مغامرته: ليمض الزمن ولتتصَّرم الأيام، فان الأيام هي التي تتصرم والزمن هو الذي يمر. أما الشيوخ فلن يتمنَّوه أبداً. فمن قال منهم: ليمض الزمن فكأنما قال فلأمض أنا. .

فصاح (م): يا شيخ يا شيخ. .

ثم قال العجوز: واعلم يا بني أن العلم نفسه يهرم مع الرجل الهرم فيصبح مثله ضعيفاً لا غنَاء عنده ولا حيلة له، وكل مصانع لنكشير ومصانع بنك مصر واليابان والأمريكتين، وما بقى من مصانع الدنيا، لا فائدة من جميعها فهي عاجزة أن تكسوَ عظامي. .

قال المحدث: فقهقه الأستاذ (م) وقال: كدتُ والله أتخشَّب من هذا الكلام، وكادت معاني العظم تخرج من عظامي. لقد كان المتوحشون حكماء في أمر شيوخهم، فإذا علَت السنُّ بجماعة منهم لم يتركوهم أحياءً إلا بامتحان، فهم يجمعونهم ويلجئونهم إلى شجرة غضة لينة المهَزَّة فيكرهونهم أن يصعدوا فيها ثم يتدلَّوا منها وقد عَلِقَت أيديهم بأغصانها؛ فإذا صاروا على هذه الهيئة اجتمع الأشداء من فتيان القبيلة فيأخذون بجذع الشجرة يرجعونها وينغضونها ساعة من نهار؛ فمن ضعفت يداه من أولئك الشيوخ أو كلتَّ حوامل ذراعيه فأفلت الغصن الذي يتعلق به فوقع، أخذوه فأكلوه. ومن استمسك أنزلوه فأمهلوه إلى حين فاقشعر العجوز (ن) وقال: أعوذ بالله هذه شجرة تخرج في أصل الجحيم، ولعنها الله من

ص: 11

حكمة، فإنما يطبخونهم في الشجرة قبل الأكل، أو هم يجعلونهم كذلك ليتوهموهم طيورا فيكون لحمهم أطيب وألذ، ويتساقطون عليهم من الشجرة حمائم وعصافير

قال (م): إن كان في الوحشية منطق فليس في هذا المنطق (باب لِمَ)، ولا (باب كيف)، ولو كان بهم أن يأكلوهم لأكلوهم، غير أنها تربية الطبيعة لأهل الطبيعة؛ فان رؤية الرجل هذه الشجرةَ وهزَّها وعاقبهّا يبعد عنه الضعف والتخلخل، ويدفعه إلى معاناة القوة، ويزيد نفسه انتشاراً على الحياة وطمعاً فيها وتنشطاً لأسبابها، فيكون ساعدهُ آخر شيء يهرم، ولا يزال في الحِدّة والنشاط والوَثَبان، فلا يعجز قبل يومه الطبيعي، ويكون المتوحشون بهذا قد احتالوا على الطبيعة البشرية فاضطروها إلى مجهودها، وأكرهوها على أن تبذل من القوة آخر ما يسمع الجسم

قال (ن): فَنَعم إذنْ، ولعن الله معاني الضعف. كدت والله أظن أني لم أكن يوماً شاباً، وما أراك إلا متوحشاً يخاف أن تؤكل فتظل شيخاً رجلا لا شيخا طفلا، وترى العمر كما يرى البخيل ذهبه مهما يبلغ فكثرتهُ غير كثيرة

قال المحدث: وأضجرني حواهما إذ لم يعد فيه إلا أن جسم هذا يرد على جسم هذا، وإنما الشيخ من أمثال هؤلاء زمان يتكلم ويقص ويعظ وينتقد، ولن يكون الشيخ معك في حقيقته إن لم ترحل أنت فيه إلى دنيا قديمة. فقلت لهما: أيها العجوزان! أريد أن أسافر إلى سنة 1895. . .

(لها بقية)

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 12

‌من روائع عصر الأحياء

قصص الأيام العشرة

بقلم جوفاني بوكاشيو

للأستاذ محمد عبد الله عنان

من أثار عصر الأحياء الخالدة قصص بوكاشيو الشهيرة المسماة (ديكا أمروني). وقد مضى على ظهور هذا الأثر الرائع زهاء ستة قرون؛ بيد أنه ما زال حتى عصرنا يحتفظ بروعته وسمو خياله وفنه، وما زال يتبوأ مكانه بين الآثار العالمية الخالدة

وقد أوحت إلى بوكاشيو كتابة أثره حوادث مروعة شهدها وهزت نفسه إلى الأعماق، فأذكت خياله، وانتزعت من قلمه تلك القصص الساحرة التي تصور لنا كثيراً من العصر وخلاله أصدق تمثيل وأمتعه

كتبها بوكاشيو وأشباح الفناء تحتشد من حوله، والموت الذريع يقطف أزاهير المجتمع من كل الطبقات والأعمار؛ والتمس بكتابتها عزاء لنفسه وعزاء لمجتمعه عما نزل به من أهوال الفناء، ولتكون باعثاً إلى النسيان والمرح. وكان بوكاشيو يومئذ في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، في ذروة الفتوة والنضج، فجاءت هذه القصص أروع آثاره، وعنوان مجده، واتخذت مكانها بين أعظم آثار عصر الأحياء

ولد جوفاني بوكاشيو في سنة 1313 م في باريس من أب إيطالي وأم فرنسية، ونشأ في فلورنس موطن أسرته، وتلقى فيها تربيته، وشغف منذ حداثته بالشعر والأدب، وتأثر أيما تأثير بشعر فرجيل؛ وكان أول آثاره قصة غرامية عنوانها (فيا ميتا) وهي فتاة حسناء يظن أنها تمثل فتاة حقيقية هام بها بوكاشيو، وأظهرها في شخص فيا ميتا، والمظنون أيضاً أنه يصف حبيبته هذه في شخص بطلة قصته الأخرى (فلسكوبو). وتجول بوكاشيو في المدن الإيطالية، وعاش حيناً في نابل، في عهد ملكها روبورتو وملكتها الفتية الحسناء جوفانا (جنه)، واتصل ببلاطها الساطع النحل معا، وكتب فيها بعض قصائده وقصصه، ومنذ سنة 1342 نراه يستقر مع أسرته في فلورنس، ويحاول أن يفوز بمنصب في الحكومة أو مركز أدبي يعيش منه؛ وقد لفتت كفاياته الحكومة غير بعيد، فأوفدته سفيراً إلى حكومة

ص: 13

(رومانيا) في سنة 1346، ولكنه اضطر بعد ذلك بنحو عام إلى العودة إلى فلورنس على أثر موت أبيه ليعنى بشؤون أسرته، واشترى بمعظم ميراثه كتباً لاتينية ويونانية، وانقطع للكتابة والتأليف

ولم يمض قليل على ذلك حتى نكبت إيطاليا وفلورنس ونكب العالم بأسره بتلك الكارثة العظمى التي تعرف في الرواية الغربية بالوباء الأكبر، وفي الرواية الإسلامية باسم مماثل هو (الفناء الكبير)، ذلك أن الفناء الكبير قد اجتاح أمم المشرق والمغرب معاً، وحمل منها إلى القبر عشرات الملايين، وعصف بجميع المجتمعات الزاهرة أيما عصف؛ وبسط على العالم المتمدن كله ريحاً من الرهبة والروع؛ وقد شهد بوكاشيو أحداث الوباء في فلورنس منذ بدئها، وترك لنا عنها وصفاً مروعاً مؤثراً؛ واليك ما يقوله في أصل الوباء وأعراضه:

(أنه في سنة 1348 ميلادية حل الوباء الفاتك بمدينة فلورنس الزاهرة، أجمل المدن الإيطالية، بعد أن لبث قبل ذلك بأعوام يعصف بالمشرق، إما لتفاعل الكواكب والأجرام، وإما لغضب الله الحق لما يرتكبه عباده من الخطايا، ولأنه أرسل إليهم صواعق عقابه، فعصف بكتل من البشر لا حصر لها؛ وانتقل الوباء مسرعاً من مكان إلى مكان حتى حل بالغرب يحمل الفزع والروع. . . وكانت أعراضه سواء بالنسبة للرجال أو النساء، فيظهر أولاً في شكل أورام تصيب الإبط أو أسفل البطن ثم تنتشر في جميع أجزاء الجسم، ثم تتحول إلى بقع سوداء أو ممتقعة تملأ الذراعين والفخذين، ثم سائر أعضاء الجسم؛ وكان المصاب يموت عادة في اليوم الثالث دون حمى ودون مضاعفات أخرى)

واجتاح هذا (الفناء الكبير) أمم الشرق والغرب معاً، فعاث في الأمم الإسلامية أيما عيث؛ وعصف بمجتمعاتها الغنية الآهلة، وسرى إلى جميع الأمم الأوربية، وبسط عليها رهبة الدمار والموت، وحمل من سكانها نحو الثلث في أشهر قلائل؛ وكان فتكه أشد ظهوراً، وأعمق أثراً في مجتمعات إيطاليا، وبخاصة في فلورنس التي كانت تتمتع يومئذ بحضارة زاهرة؛ وهنالك أفنى جيوشاً برمتها، وأهلك عدداً كبيراً من الأمراء والعظماء والقادة، ويقول لنا بوكاشيو إنه استطال هنالك من مارس إلى يونيه سنة 1348، وحمل من فلورنس وحدها مائة ألف إنسان)

ويصف لنا بوكاشيو أهوال الوباء ومناظره المروعة وصفاً ضافياً مؤثراً، فيقول: (كان

ص: 14

الناس يجتنبون بعضهم بعضاً، وقلما يتزاور الأقارب أو لا يتزاورون أبداً؛ وألقت الكارثة الرعب في قلوب الناس جميعاً، رجالاً ونساء، حتى أن الأخ كان ينبذ أخاه نبذ النواة، والأخت أخاها، والمرأة زوجها؛ بل أروع وأبعد عن التصديق أن الأباء والأمهات أضربوا عن رؤية الأبناء أو تعهدهم، كأنما ليسوا من ذويهم)

(بل لقد هجر الناس الجيران والأقارب والخدم حتى اضطروا إلى ارتكاب عادات لم يسمع بها، من ذلك أن المرأة مهما كانت من الجمال أو النبل، إذا أصابها مرض واضطرت إلى استخدام رجل، شيخا كان أو شابا، فإنها تكشف له دون خجل كل أجزاء جسمها إذا اضطرتها ظروف المرض، وربما كان ذلك هو السبب في انحلال الحشمة والحياء عند أولئك اللائى نجون)

ثم يقول: (وكان يعنى بدفن الناس بادئ ذي بدء، فيلقى بهم دون احتفال في أول مقبرة؛ فلما اشتد الوباء، كان الموتى يحملون جماعات، ويلقون في الطرق؛ وقد تموت أسر برمتها فلا يبقى منها إنسان؛ وأزواج وآباء معا، ويلقى الجميع بلا تمييز في حفر كبيرة)

تلك هي الأحداث والمناظر المروعة التي أذكت خيال بوكاشيو، وأوحت إليه كتابة أعظم آثاره، وهيأت له في نفس الوقت ذلك الأفق المعنوي الحر الذي جرى في ظله قلمه، ويلخص لنا بوكاشيو غايته من تأليف ذلك الأثر في قوله:(ولقد رأيت ترويحاً للسيدات العاشقات وتعزيتهن - وتكفي في ذلك لغيرهن الإبرة والمغزل - أن أقص مائة خرافه أو ما شئت أن تسميها)

ثم يقول: (ومن ذا الذي ينكر أن الأفضل أن نقدم ذلك العزاء للسيدات العاشقات لا للرجال العاشقين؟ ذلك أن السيدات العاشقات يفضن خجلاً وخوفا؛ ويرغمن على إخفاء جوى الحب في صدورهن، وتحملهن رغبات الآباء والأمهات، والأخوة والأزواج، وأهواؤهم وأوامرهم، على أن يقضين معظم أوقاتهن معتقلات في غرفهن الضيقة، فيجلسن عاطلات ويستعرضن في أذهانهن أفكارا مختلفة لا يمكن أن تكون مرحة أو سارة)

وكتب بوكاشيو قصصه الساحرة في ذلك الأفق الذي تعمره أشباح الفناء، والناس ينظرون إلى الحياة كأنها لعب طائر، ويودعون بعضهم بعضاً، واختار لكتابه هيكلا طريفاً خلاصته، أنه في ذات يوم ثلاثاء، وعصف الوباء في أشده، اجتمع في كنيسة القديسة (ماريا نوفيلا)

ص: 15

في فلورنس، سبع فتيات هن بامبنيا، وفياميتا، وفيلومينا، وأميليا، ولوريتا، ونفيلي، وأليزا؛ وكانت أكبرهن بامبنيا في الثامنة والعشرين، وأصغرهن أليزا في الثامنة عشرة، واقترحت بامبينا أن يغادرن المدينة فراراً من الوباء والموت أسوة بأصدقائهن؛ فاعترضت فيلومينا، وقالت إن النساء ينقصهن التفكير السليم، ويغلب عليهن التقلب والشك والخور، ولذا وجب عليهن أن يخترن مرشدا؛ فأيدت قولها أليزا وقالت إن الرجال هم أصحاب الرشاد والنصح، واقترحت أن يستدعين بعض رجال يقومون بالإرشاد

وفي تلك اللحظة يدخل الكنيسة ثلاثة فتيان، أصغرهم يناهز الخامسة والعشرين، وهم بانفيلو، وفيلوستراتو، وديونيو، وكان من غرائب الاتفاق أن كلا منهم كان يعشق إحدى الفتيات السبع، وأنهم جميعاً أقارب للأربع الباقيات، فأشارت إليهن بامبينا، وقالت إن العناية تحقق أمنيتهن بحضور أولئك الفتية الكرماء الأمناء، فاعترضت نيفيلي، وكانت حبيبة أحدهم، خشية الافتضاح، وناقشتها فيلومينا مؤيدة بامبنيا؛ فغلب رأيها واستدعي الفتيان الثلاثة، واتفق الجميع على ارتياد قصر خاص، ومعهم الخدم وكل ما يحتاجون إليه، وهنالك يقيمون حتى ينصرف الوباء؛ وفي صباح اليوم التالي ذهب الجميع إلى هذا المحل المختار، وهنالك اتخذوا مجلسهم تحت الأشجار الظليلة على أرائك وثيرة، وأمامهم الأطعمة والأشربة الشهية، وجعلوا يترددون بين الطعام والسباحة في بركة صغيرة بالقصر؛ وهنالك أيضاً بدءوا سرد القصص

وكانت صاحبة الفكرة بامبنيا، فقد اقترحت أن ينتخب أحدهم حاكما للمجلس كل يوم، وأن يضطلع في هذا اليوم بتدبير شؤون الجماعة وتسليتهم؛ وتولت هي منصب الملكة في اليوم الأول، واقترحت لتسلية الجماعة أن يقص كل منهم قصة، وأن يختتم واحد منهم بإنشاد أنشودة؛ فوافق الجميع متحمسين؛ واستثنى الجماعة من أيام الأسبوع اثنين، يوم الجمعة، ويوم السبت، وخصصا للراحة والتجمل والصلاة؛ وعلى ذلك أصبحت أيام القصص عشرة خلال أسبوعين، وفي كل يوم تقص عشر قصص، فالمجموع مائة قصة؛ هي محتويات مجموعة بوكاشيو الشهيرة، وهى التي يسميها (ديكا مروني) وهي كلمة مؤلفة من مقطوعين يونانيين ومعناها (الأيام العشرة)

هذا هو التمهيد الذي يقدم به بوكاشيو لمجموعته، وهو تمهيد يمتاز ببساطته وطرافته،

ص: 16

ويدلي بكثير من روح العصر؛ لقد كان المجتمع الذي كتب فيه بوكاشيو قصصه يعيش من يومه إلى غده؛ وكان بوكاشيو نفسه يجوز هذه الحياة؛ وكان يملأ هذا الفراغ المتصدع بالتجوال في عوالم الخيال الممتع، وكان يرى أن يقدم ثمرة هذا التجوال إلى إخوانه في المجتمع، أولئك الذين يرون أشباح الفناء ماثلة في كل آونة وفي كل مكان

(للبحث بقية)

محمد عبد الله عنان

ص: 17

‌أدبنا الجديد

وحظ من الاتصال بثقافتنا التقليدية

للأستاذ إسماعيل مظهر

ركدت الحركة الأدبية في مصر ركوداً أشبه بأن يكون سباتاً عميقاً. ولقد حدث هذا الركود إثر نشاط عظيم في الإنتاج والنقد والترجمة، وإثر شعور قوي بأن الشباب أحق بأن يتزعموا حركة الأدب، وأن ينتزعوا الزعامة الأدبية من أدباء الشيوخ. ولقد اصطبغت حركة الشباب بألوان مختلفة، مهما يكن فيها من مظاهر التطرف حيناً، ومن مظاهر التفريط حيناً آخر، فإنها دلت في بعض أطوارها على حيوية قوية، وطموح، وتطلع إلى إحياء ما قيل إنه أدب جديد. وما من شك في أن حدوث هذا الركود عقيب ما أبدى الشباب من نشاط، ظاهرة جديرة بالبحث، خليقة بأن تدرس من نواح مختلفة، وأن تحلل في ضوء الحقائق التي أحاطت بها، والحقائق التي أحاطت بأدبنا الحديث على وجه عام. ذلك بأن شباباً يعجز عن تكوين فكرة جديدة في الأدب، أو تقعد همته عن خلق تصور جديد في الفن، إنما هو شباب ينذرنا من الآن بأن أدبنا سوف يبقي جيلاً آخر في داخل الحدود التي رسمها للأدب أولئك الذين سماهم الشباب أدباء الشيوخ

وإني لآمل ألا يتبادر إلى الشيوخ من أدبائنا أني أعني بذلك أن أدبهم لم يؤد لأهل هذا الجيل شيئاً جديداً، أو أن وقوف الأدب عند الحد الذي بلغوا إليه دليل على جمود الأدب، وإنما أعني بذلك أن وقوف حركة الأدب، وركود التصور الفني عند حد بلغه شيوخنا من غير أن يعقب عليهم الشباب بأدب جديد له صبغه خاصة وفن له تصورات ذات طابع مستقل عن طابع الفن الذي عرفناه، دليل قاطع على أحد أمرين: إما أن الشباب عاجز عن الابتكار، وإما أن الأدب الذي روج له الشيوخ أدب غير منتج؛ وكلا الأمرين يحفزنا إلى أن نبحث الأمر من وجهيه: علاقة أدب الجيل الجديد بأدب الجيل السابق، وعلاقة الأدبين بالنظرية التي نروج لها: نظرية أن الأدب الثابت والفن الأصيل إنما يجب أن يتجه دائماً إلى إحكام الرابطة بين الصور التي يتشكل فيها، والصور التي قامت عليها ثقافتنا التقليدية

ولقد عبرت عما أعني بالثقافة التقليدية في المقالات التي نشرتها لي (الرسالة) بعنوان (التعليم والحالة الاجتماعية في مصر)، وصورت على قدر ما أتيح لي مجمل ما أدركت من

ص: 18

هذه النظرية. ولقد عرفت الثقافة التقليدية بأنها مجموعة الحالات والملابسات التي ينشأ شعب من الشعوب مكتنفاً بها من حيث طبيعة الأرض والإقليم، وما يتطلب ذلك من العكوف على فن خاص من فنون الحياة؛ وبمعنى أوسع تدل الثقافة التقليدية على العناصر التي ورثها شعب من الشعوب على مدى الزمان من طريق التأثر الطبيعي بالبيئة والمحيط، كما تدل على مجمل ما ثبت في عقليته باللقاح السلالي من عادات وأساطير وعلوم وآداب نشأت بنشأته في مرباه الأصيل. وعلى الجملة نقول إن الثقافة التقليدية لشعب من الشعوب إنما هي في الواقع جماع ما يرث من صفات حيوية، ومعتقدات، وفنون عن أسلافه الأولين

ولا شك عندي في أن ما يبدو على أدبنا الحديث، أعن الشيوخ صدر أم عن الشباب، إنما يرجع إلى ضعف علاقتنا بثقافتنا التقليدية. فإن أكثر الذين اتصلوا بهذه الثقافة لم يتصلوا بها اتصال تفهم لروحها ومعناها وأغراضها ومثلها العليا، وإنما اتصلوا بها اتصال استيعاب لظاهرها دون حقيقتها. وهذا أمر لا سبيل إلى نكرانه. كذلك نلحظ أن هؤلاء، على أنهم لم يتصلوا بثقافتنا التقليدية إلا اتصالاً ظاهرياً، فإنهم عجزوا عن أن يدركوا روح العصر الذي يعيشون فيه ليكون ذلك عوناً لهم على تلوين ما استوعبوا من آثار ثقافتهم القديمة بلون يرضاه أهل هذا الزمن وتقره البيئة التي خلقت من حولها خضوعاً لتطورات العصر نفسه، وهذا أيضاً أمر لا سبيل إلى الشك فيه، أضف إلى ذلك أن الذين لم يتصلوا بثقافتهم التقليدية، وعكفوا على الأخذ عن الثقافة الأوربية وحدها، قد عجزوا عن أن يخلقوا مما أخذوا عن أوربا أدباً جديداً له طابع معين، بحيث يختلف عن الأدب الأوربي على مقتضى ما في الثقافة من روح ومعنوية، ويختلف أيضاً عن الثقافة القديمة على مقتضى ما تتطلب روح العصر الحديث من فنون وتصورات وأخيلة. ذلك بأن دعوتنا إلى الثقافة التقليدية لا ينبغي أن يدرك منها أننا نريد الرجوع إلى القديم بذاته، وأن نحييه ثانية بصفاته التي عرفناها والتي واءَمت العصر الذي خلقت فيه، وإنما نعني بها أن الثقافة التقليدية يجب أن تكون الأصل الذي يلقح بثمار الآداب الحديثة، حتى نقوى على هضم ما يصل ألينا عن أوربا هضماً يمكننا من تكييف الآداب الدخيلة تكييفاً يلائم وراثاتنا العديدة. وبعبارة أخرى نقول إن ثقافتنا القديمة هي المزدرع الذي نلقي فيه ببذور الأدب الحديث، فما عاش منه فيه فذلك ما نكون قد هضمنا ومثّلْنَا، ومنه نخرج الأدب الجديد الملائم لطبائعنا وميولها

ص: 19

وتصوراتنا وأخيلتنا، وما مات في ذلك المزدرع من الآداب الحديثة فذلك ما يبعد عن طبعنا ولا حاجة لنا به. وعلى الجملة نقول إن ثقافتنا التقليدية هي بمثابة حقل التجارب الذي يمتحن فيه المجربون قوة البذور الدخيلة على الإنبات والحياة. وما السبب الصحيح في كثرة ما نقع عليه في أدبنا المنقول من الآثار الميتة إلاّ أننا لم نمتحن فيما نقلنا قوة الاستمرار والبقاء في بيئة جديدة. تلك البيئة التي يجب أن تكون من عناصر تستمد من ثقافتنا التقليدية أول شيء

قد ينكر علينا بعض الذين يودون إرضاء ناحية العزة في أنفسهم شيئاً مما نقرر في هذا البحث؛ غير أني أريد لهؤلاء أن يكونوا أكثر تشاؤماً مما هم، ذلك بأن بيئاتنا الأدبية قد تولاها منذ أول نشأتها روح رمت بها في أحضان التشاؤم المرير، ولم يسعدها الزمن بيوم واحد تفاءلت فيه بحسن المستقبل. ذلك بأن معسكري الأدب والتفكير لم يتصل أحدهما بالآخر مطلق اتصال خلال كل ذلك الزمن الذي نفخر فيه بأننا كونّا نهضة جديدة. فالناحية التي اتصلت بالثقافة القديمة متهمة في عين الناحية الأخرى بالجمود عن إدراك ما في الآداب الحديثة من تصورات، والناحية التي لم تتصل بالثقافة التقليدية متهمة في عين الناحية الأخرى بالزيغ عن التراث القديم. ومن ثَمَّ كان التشاؤم. وما لهذا التشاؤم من سبب إلاّ أننا لم ندرك السر عدم اتصال الناحيتين

وإنما ندعو هؤلاء لأن يكونوا أكثر تشاؤماً لأنهم بذلك يكونون أدنى إلى تفهم الحقيقة كما هي واقعة. ولأضرب لهم مثلا بشرقيين اتصلا بالثقافة الأوربية، وأوربيين اتصلوا بالثقافة الشرقية. وبالأحرى بالمستأربين منا، والمستشرقين منهم. لنسأل أي الفريقين استطاع أن يهضم من آداب الآخر أكبر قسط يمكن هضمه

ولنبدأ أولاً بالمستأربين منا ولنتخذ ناحية معينة من نواحي الأدب موضوعاً لبحثنا، كالقصة أو التاريخ مثلاً. أما القصة فقد يقال بأن آدابنا القديمة لم تعن بها العناية الكافية، وأننا لذلك إنما ننقل عن أوربا أدباً جديداً لا أصل له في ثقافتنا؛ وإذن ينبغي لنا أن نتخذ التاريخ محكما للحكم، وقد ظهر من أولئك من كتب فيه أمتع المؤلفات، سواء أفي التاريخ العام، أم في تاريخ الأدب. وأنت تعلم فوق ذلك أن فن كتابة التاريخ ونقد الشواهد التاريخية ومقياس الحكم فيها وروح التفقه التاريخي، إنما هي خلق جديد من مخلوقات القرن التاسع عشر في

ص: 20

أوربا؛ وتعلم فوق ذلك أننا اتصلنا بهذا الوجه من الأدب في مدارسنا وجامعاتنا. وتعلم فوق هذا وذاك أن الأوربيين قد كتبوا تاريخنا على أوجه انتحيت فيها نظريات اجتماعية أو اقتصادية أو جنسية، وخاصة تاريخ العرب والإسلام. وأنت بعد هذا كله تعلم علم اليقين أن كثيراً ممن أرخ للعرب أو الإسلام قد أخطئوا التقدير أو شطوا في الأحكام، أو أن النظرية التي بنوا عليها تواريخهم لم تواتهم بالحقائق التي تلبس ما كتبوا ثوب الإقناع. فهل استطعنا الانتفاع بهذا الوجه الجديد من أوجه الأدب؟ هل ألفنا في تاريخنا كتباً قامت على نظريات جديدة تتصل بالثقافة الحديثة أو بفروع منها بحيث تبين لنا عن الاتجاهات الفكرية والتصورية التي اختفت وراء الحوادث الظاهرة، وصححنا بذلك الأخطاء التي وصلها بعض الكتاب بماضينا؟ كلا وكفا

ولنعد بعد ذلك إلى المستشرقين منهم، ونمتحن في ضوء العقل والاتزان الآثار التي صدرت عنهم متصلة بثقافتنا القديمة، ونعني بالمستشرقين كل من اتصل بالشرق سواء كان ذلك من طريق اللغة أم من طريق الدرس باللغات التي نقلت إليها آثارنا القديمة. أما إذا اتجهنا ذلك الاتجاه فإن أول ما نلحظ في الآثار التي صدرت عنهم عكوفهم فيها على أسلوب البحث العلمي وهو أسلوب يتلقونه في معاهدهم وتلازمهم آثاره بعد ذلك. فهم يكتبون التاريخ بأسلوب البحث العلمي، ويكتبون الأدب بأسلوب البحث العلمي، ويتكلمون بأسلوب البحث العلمي وهو أسلوب أخص ما امتازت به ثقافتهم التقليدية. ثم تلحظ بعد ذلك أثر البحث الأكاديمي من حيث الانكباب على الفهم العميق لأشياء قد تلوح أول شيء تافهة غير جديرة بالبحث ولا هي خليقة بالدرس، ومقارنتها بمجموع الحقائق التي تتعلق بها. وهو أسلوب من البحث عاش بين جدران الأزهر أزماناً، وكاد الأزهر يفقده الآن مع الأسف، مع ما فقدنا من تقاليدنا القديمة. وتشهد بعد ذلك في آثارهم ما تضفي الأناة والصبر والاستقلال في الرأي على الآثار العلمية من مظاهر الروعة والجلال. هذا إلى المظهر العام الذي يلابس ما يؤمنون من جماع هذه الأشياء. وبذلك استطاع هؤلاء المستشرقين أن يهضموا ما أخذوا عن الشرق ليخرج من بين أيديهم لابساً صورة أوربية رسيسة. ولقد يخطئون، ولقد يشط أكثرهم أكبر الشطط، ولكنه خطأ واشتطاط تلابسه روح البحث والدرس، ويحوطه الأسلوب الأكاديمي بروعة البحوث العلمية

ص: 21

وبعد. فما هو السبب في الفرقة بين مستأرب عاجز عن كتابة تاريخه بروح جديدة، ومستشرق يكتب تاريخ غيره بروح مستمدة من طبعه؟ السبب أن الأول بعيد عن ثقافته التقليدية التي يتخذ منها مادة للدرس والبحث والاستنتاج والصياغة، وأن الثاني يكتب تاريخ غيره مستهدياً بفطرة مستمدة من ثقافته التقليدية. وإني لواثق أن هذه المقارنة سوف تجعل الذين يجنحون إلى إرضاء ناحية العزة والأنفة في أنفسهم يخففون شيئاً من غلوائهم، وتنزع بالذين لا يتشاءمون من أدبنا الحديث بقدر يجعلهم يرون الحقائق كما هي واقعة، إلى درجة من التشاؤم تنير أمامهم السبيل

لقد بدأت نهضتنا الأدبية الحديثة باندفاع نحو الآداب العالمية، واستمداد من وحي أوربا الجديدة؛ ولو أننا تذرعنا مع الاتجاه الجديد بركيزة تقوم على ثقافتنا التقليدية ووراثاتنا المختلفة، إذن لكان لنا أن نقول إننا أخذنا نشيد بناء ثابتاً على أساس مستمد من فطرتنا. أما وإننا لم نعن العناية الواجبة بماضينا، فأهملنا أمر اللغة حتى خرج المتعلمون من أبنائنا وأكثرهم يجهل القواعد الأولية من لغة العرب؛ ونبذنا آداب العربية، حتى نشأ الجيل الحاضر بعيداً عن استذواق الأدب العربي والوقوف على أسراره، فان دفعتنا الأولى نحو التزود من الآداب العالمية الجديدة هي التي أحدثت ذلك الركس الشديد الذي يتجلى الآن في عجز أدباء الشباب عن خلق صورة من الأدب فيها من قوة الحياة ما يجعلها خليقة بان تصبح عنواناً على روح العصر الذي نعيش فيه

على أننا لا يجب أن ننسى في هذا البحث أن نشير إلى علاقة الآداب من الناحية العلمية بطبيعة الأرض والإقليم والمناخ من حيث أنها بيئة طبيعية، كما أننا لم ننس أن نشير إلى اللغة والآداب القديمة والتاريخ والأساطير والحالات الاجتماعية من حيث أنها بيئة عقلية. أما العلاقة بين البيئتين فبينة لا سبيل إلى إنكارها، أو نكون قد أنكرنا أخص العلاقات التي تفرضها الطبيعة فرضاً على الأحياء وتصبغ بها طبائعهم وأخلاقهم وميولهم وأخيلتهم، وعلى الجملة جماع ما فيهم من الصفات العقلية والنفسية. وإلى جانب هذا ينبغي لنا أن نضع في ميزان الحكم والتقدير عند النظر في مثل هذه العلاقات أن الآداب التي أنشأتها شعوب قديمة إنما هي بنت البيئة وربيبة الوسط، بل إنها خلاصة الطبع وعصارة النفس؛ وإنما تتشكل هذه الآداب بمقتضيات العصور علية، وتتكيف بحكم ما يستجمع العقل من

ص: 22

مختلف التصورات. أما الروح التي تظهر متجلية في هذه الآداب، فذلك ما لا سلطان لمقتضيات العصور عليه، ولا أثر لما يستجمع العقل فيها إلاّ بمقدار ما تظهر ملابسه لآراء جديدة أو تصورات حديثة أو ميول معينة، تسري فيها تلك الروح سريان القوة في الأجسام المادية، تظهر وهي خفية، وتتجلى وهي كامنة، كأنما هي السيال الذي يخرج من جسم مشع في أقصى أغوار الكون ليصل إلى عالم آخر في صورة أشعة، هي بذاتها الأشعة التي كان يبعثها ذلك الجسم منذ أبعد الأزمان، وإنما ينتفع بها أقوام على الأقوام الأول، وتستهديها شعوب غير الشعوب الغابرة؛ هي في جوهرها وروحها نفس الأشعة القديمة، ولكن تكييفها مرهون بالقدرة على استخدامها أو الحاجة إليها، وإذن ينبغي لنا ألا نقطع الصلة بيننا وبين ذلك السيل الخالد الذي تصلنا أشعته من ماضينا؛ من لغتنا وآدابنا وتاريخنا وأساطيرنا ونظمنا الاجتماعية، تلك التي جادت علينا بها طبيعة الأرض التي حملتنا والسماء التي أظلتنا منذ أبعد عصور التاريخ الإنساني

إسماعيل مظهر

-

ص: 23

‌الشيخ محمد النجار

صاحب الأرغول

للأستاذ عبد الوهاب النجار

لمناسبة ما ذكره الأستاذ حسين شفيق المصري عن صاحب

الأرغول في محاضرته القيمة في تطور الصحافة الأسبوعية

الشيخ محمد النجار شخصية غير مجهولة في عالم الأدب في غروب القرن الماضي وفجر القرن الحاضر

كان المرحوم طالباً بالأزهر الشريف نابهاً بين إخوانه، يجمع الطلبة الذين هم أقل منه ويدرس لهم من العلوم الأزهرية ما هم في حاجة إليه

فلما جاء الشيخ محمد العباسي المهدي شيخاً للأزهر لم يجد به نظاماً يتبع في إعطاء إجازة التدريس ولا دفتراً يضم أسماء العلماء بالأزهر، بل كان من آنس في نفسه قوة وأهلية للتدريس أعد نفسه لتدريس أحد الكتب ودعا الطلبة والعلماء لحضور ابتداء درسه، فإذا أداه حق الأداء وأجاب على كل الأسئلة التي وجهت إليه والاعتراضات التي اصطدم بها من الطلبة والعلماء عد عالماً، وذلك بتهنئة العلماء إياه وثنائهم عليه، وعليه بعد ذلك أن يدعو جلة العلماء والفضلاء إلى مأدبة يعملها لهم شكراً على نجاحه وفلاحه

أما إذا لم يسدد إلى سداد، ولم يوفق في درسه إلى صواب، فإن العلماء ينصرفون عنه دون تهنئته، وحينئذ يتبين الجمهور أنه أخفق ولم يوفق

عزم الشيخ العباسي المهدي على أن يسجل أسماء العلماء الذين يدرسون في الأزهر لذلك العهد وألا يدخل في زمرتهم أحد بعد ذلك إلا إذا اجتاز امتحاناً يعقد لذلك، وعين العلوم على الطالب أن يمر فيها بنجاح في ذلك الامتحان

كان في ذلك العهد يوجد عالم بالأزهر قد بلغ من الكبر عتياً أسمه الشيخ محمد النجار (غير صاحب الأرغول) وقد ذهب ذلك الشيخ إلى بلده ومات بها ولا يعلم بذلك أحد

فلما شرع الشيخ المهدي في تسجيل أسماء العلماء المدرسين بالأزهر أملى بعض العلماء أسم الشيخ محمد النجار، وكان الكبير الذي يحمل ذلك الاسم قد مات قبل ذلك لوقت بقليل

ص: 24

ولا يوجد ممن يدرس للطلبة بهذا الاسم سوى الشيخ محمد النجار (صاحب الأرغول فيما بعد)، فتلقف هذه الوظيفة النجار الفتى إذ لا يوجد بازاء الوظيفة ما يميز نجاراً من نجار

بهذا أخبرني العلامة الأديب المرحوم الشيخ محمد أبو راشد إمام المعية في عهد الخديو السابق عباس حلمي باشا الثاني

عين بعد ذلك الشيخ محمد النجار مدرساً بالمدارس الأميرية مع بقائه مدرساً بالأزهر إلى أن كان مدرساً بمدرسة الفنون والصنائع الأميرية ببولاق

وقد كانت نظارة المعارف في ذلك العهد ليس بها درجات للمدرسين ولا نظام للعلاوات وإنما كان ينال من العلاوات من يصادفه الجد ويسعده الحظ. وقد عبر الشيخ النجار على ذلك مدة من الزمن، وكلما آنس أن العلاوة ستسعده بعدت وأخطأته أو تخطته. فلما كان عهد تولية علي مبارك باشا نظارة المعارف عمل له زجلاً يشكو به حاله وقدمه إليه. وهأنذا أنص ما وعته ذاكرتي منه

الدهر دا ديْماً غدار

لكنوعَ العاقل أكتر

والسعد يأتي بالأقدار

والرزق مقسومْ ومقدر

الدهر ديْماً مع الأحرار

يقول حاوريني يا طيطه

تلقى الردِى بخته طيب

والحر لُو بخت قليطه

ودا غنى بيتو فشبراً

ودا انزرع في التبليطه

ودا حمار وراكبلو حمار

مبسوط بأنه سي بعجز

الناس خدامتها سهلة

وان خدامتي في اتعاب

في كل يوم الصبيحه

أمشي إلى بولاق قراب

واللي أبات فيه أصبح فيه

رايح وجي من الكُتاب

خوجه وعايز حق حمار

ولي ماهيَّه لا تذكر

امتى أفوت مشوار بولاق

واعرف أنا الآخر بختي

وأفوت بتوع حياك الله

وبتوع حبرتك يا ستي

كتب علينا (قل سيروا)

فيها مصيَّف ومْشَتي

الشمس فيها زي النار

وفي الهوا دايماً تعفر

ص: 25

يا أهل المعارف والأنصاف

أنا جرالي معاكم إيه

تأخروني بالمرة

وتقدموا الغير عني ليه

البيه يقول روح للباشا

والباشا يأمر روح للبيه

وأنا كدا واقف محتار

زعلان ومغموم ومكدر

قالوا الديوان عامل ترتيب

وبالزيادة لك جادوا

يا حلم وان صحت الأحلام

وطلعت أنا في اللي زادوا

ورحت أرجو سيدي فلان

والعبد يترجا اسيادوا

وضع أمام اسمي أصفار

حتى بقي حالي يصفر

لا أنا مساعد في الساحل

ولا قريب الشيخ قفه

ولا صعيدي بياع دوم

خالي حمد سرق الزلفه

ولا مراكبي لي مركب

عويلها مربوط بالدفه

إلا شريف جدي المختار

عالم مدرس بالأزهر

فلما قدم هذا الرجل الزجل إلى المرحوم علي مبارك باشا أعجب به وأمر بنقله إلى مدرسة القريبة وزيادة جنيه ونصف على مرتبه، وما كان يحلم أن يصل إلى ذلك في ثلاث علاوات

وكان رحمه الله راسخ القدم في فنون الأدب، فكان ينظم المواويل الحمر ويساجل أبطالها

كان يوجد رجل بمديرية المنيا اسمه الشيخ عبد الله لهلبها ينظم المواويل، وقد ذهب المرحوم الشيخ محمد النجار إلى المنيا وبحث عن الشيخ فلم يجده

فترك له موالاً عند عبد القادر أفندي إدريس وهو:

والله ما حرق الأحشا ولَهْلِبْها

ولا أذاب مهجتي إلا ولَهْلبها

ونزلت في أرض لا ناسي ولهلبها

وجيت أدور على مواوي يواويلي

قالوا ما فيش إلا أبو كراع في بلدة ولهلبها

أما ما رد به عبد الله لهلبها على هذا الموال فعند عبد القادر أفندي إدريس

وكان النجار رحمه الله يبتدئ الموال ويتحدى الأدباء يريد منهم تكملته فلا يجد. وربما زاد قسما آخر بعد ذلك في الموال. فيعي الأدباء عن ذلك

ص: 26

من هذا قوله:

مغزل حماتك سقط ضاعت تقاقيله

فلما لم يظفر بتكملته زاد عليه:

ما تنظر الديك والفرخه تقاقي له

ومن ذلك أيضاً قوله:

مغزل حماتك سقط ضاعت سنانيره - ثم زاد -: فضل المعدل يعدل في سنانيره

وكان رحمه الله سريعاً إلى النكتة، حاضر البديهة. فمن ذلك أنه مر بصديق له، فقال له الصديق: يا شيخ محمد، ازاي الأرغول؟ - فأجابه بقوله:(بِنَفَسك ماشي)

ويا حبذا لو أتحف أصدقاؤه وخلانه قراء (الرسالة) بشيء عنه

عبد الوهاب النجار

ص: 27

‌للتاريخ السياسي:

اليوم السابع من مارس

ضربة مسرحية في برلين

للدكتور يوسف هيكل

تمهيد

مما يجدر ذكره أن حكومة برلين تتخذ عادة يوم السبت قرارات هامة، وتقف العالم أمام حوادث دولية عظيمة. وكانت حكومة القيصر تعمل على هذه السياسة، وقد سارت عليها جمهورية (ويمر) وتبعتها حكومة الهر هتلر!. وكانت آخر هذه الأعمال الدولية الخطيرة النتائج، رفض حكومة برلين معاهدة لوكارنو واحتلال أراضي الرين يوم السبت الموافق 7 مارس من هذا العام. والمرء يتساءل عن السبب الذي من أجله تختار حكومة برلين يوم السبت لأعمالها الجليلة الخطرة في وقت واحد عليها وعلى السلام

إننا نعتقد أن هنالك سبباً واحدا، وهو أن عطلة (نهاية الأسبوع) - متبعة في بلاد الإنكليز وفي جميع دوائرها الرسمية. وفي نهاية كل أسبوع يترك معظم كبار ساسة لندن وأولي الأمر فيها العاصمة لقضاء (نهاية الأسبوع) في الضواحي وعلى شواطئ البحار. وفي هذه الحالة يكون من الصعب جداً اجتماع الذين في يدهم زمام أمور الحكومة حين حدوث طارئ جلل يوم السبت أو الأحد. وفي هذه الحالة يتعسر جداً، إن لم يكن محالاً، على حكومة باريس الاتصال بحكومة لندن، لتبحث معها في التدابير التي يجب اتخاذها أمام الخطب السياسي الجديد الذي أحدثته حكومة برلين، ولإعاقة اجتماعهما وتبادلهما الآراء تختار الحكومة الألمانية يوم السبت لإيقاف العالم على قرارها الدولي الصبغة!

وقبل أن نحاول تحليل ضربة برلين المسرحية والأزمة التي نجمت عنها يجدر بنا التحدث أولاً عن معاهدة لوكارنو وإبانة الغرض الذي من أجله عقدت، والنقط الهامة التي تحتوي عليها، تسهيلاً للوقوف على تطور الحوادث الدولية، وتمييز الصواب من الخطأ. ويتلو ذلك عرض حوادث 7 مارس وما تبعها في ألمانيا، وتفنيد ادعاءات حكومة الهر هتلر ضد المعاهدة الفرنسية الروسية؛ وشرح موقف دول لوكارنو إزاء هذه الحوادث وقرار مجلس

ص: 28

عصبة الأمم. وهذه النقط تكون القسم الأول من هذه المقالات

ثم نأتي على عرض الجلسات الهامة لمؤتمر دول لوكارنو وتحليل (اقتراحات لندن) و (منهاج السلام الألماني، أو اقتراحات الهر هتلر) و (المنهاج الفرنسي أو اقتراحات فرنسا السلمية).

وهذه الأمور تكون القسم الثاني من هذه الدراسة السريعة

وأخيراً نحاول إبانة حقيقة سياسة الهر هتلر الخارجية، والهدف الذي يرمى إليه

من لوكارنو إلى 7 مارس

معاهدة لوكارنو

أظهرت ألمانيا في السنين التي تلت الحرب رغبة في التفاهم مع جاراتها، وتوطيد السلام في أوربا الغربية، فاقترحت عام 1922 إيجاد اتفاق بين الدول التي تحد أراضي الرين، تمنع بموجبه الحرب وتحسن العلاقات الدولية بين ألمانيا وجاراتها الغربية - فلم يلق هذا الاقتراح أذناً صاغية. . . . . وقد جدد (المستشار مثل هذا الاقتراح عام 1923 فاعتبره مسيو بوانكاريه دسيسة ألمانية جديدة. . .

وفكر اللورد دابرونون ' سفير بريطانيا في برلين عام 1924 في أن الوقت مناسب لعقد هذا الاتفاق، ففاتح الهر ستريزمان بذلك؛ وبعد درسهما الموضوع أرسل ستريزمان في 9 فبراير سنة 1925 بواسطة سفيره في باريس الهر إلى الحكومة الفرنسية مقترحاً على الحكومات التي تحد الرين عقد اتفاق بموجبه تمنع الحرب خلال أجل مسمى، وتحل الاختلافات المدنية والسياسية بموجب التحكيم، وتتعهد فيه ألمانيا بعدم تسليح أراضي الرين. حض سفير بريطانيا على عقد مثل هذا الاتفاق، على رغم أن بريطانيا لا تحب أن تتحمل مسؤوليات دولية، لأن توطيد السلام في أوربا الغربية يفيد السياسة البريطانية، ولأن بريطانيا تريد إرغام فرنسا بوسيلة ما على تخلية أراضي (الرور). . . . . وتحول دون اجتياز الجنود الفرنسية الحدود الألمانية. . . .

كان مسيو هريو رئيس الوزارة الفرنسية حينئذ، وبرغم أنه كان على رأي القائلين بسياسة التفاهم مع ألمانيا فقد خشي أن يكون في مذكرة ستريزمان مكيدة، ثم دعاه انهماكه في

ص: 29

المشاكل الداخلية والمالية إلى إهمال المذكرة وعدم إعطائها الأهمية التي تستحقها. وفي ذات يوم اطلع عليها مسيو بريان، وبعد أن قرأها السياسي الكبير، أبدى رأيه فيها قائلاً: إنها عظيمة الأهمية

فقال رئيس الوزراء: إنها (لمصيدة)

فرد مسيو بريان: إن الثعلب الماهر يأخذ اللحمة ويترك المصيدة

ولما عاد مسيو بريان في أبريل من العام نفسه إلى الـ (كي دورسي) أعطى المذكرة أهميتها وأخذ يتحادث مع بريطانيا بشأنها. ولما تمت هذه المحادثات التمهيدية، قدم السفير الفرنسي في برلين في 16 يونيه إلى الهر ستريزمان جواب فرنسا وحلفائها، وكان جواباً إيجابياً. ثم شرع الفنيون في درس الموضوع ووضع المبادئ العامة. . .

وفي لوكارنو - وهي مدينة سويسرية صغيرة واقعة على بحيرة ليمان - تقابل بريان وستريزمان واستين شمبرلين؛ وأخذوا يدرسون دقائق المعاهدة، ووصلوا إلى الاتفاق الأخير في 16 أكتوبر سنة 1925، ووافقت فرنسا وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا وإيطاليا عليها

وتفيد لوكارنو الدول الثلاث الأولى مباشرة، أما بريطانيا وإيطاليا فضامنتان فيها

وتتألف معاهدة لوكارنو من خمس مواد:

ففي المادة الأولى تعترف الدول الموقعة على المعاهدة بالحدود التي وضعتها معاهدة فرساي، بين ألمانيا وبلجيكا من جهة، وبين ألمانيا وفرنسا من جهة ثانية. وتعترف هذه الدول أيضاً بمحتويات المادتين 42 و43 من معاهدة فرساي، أي الإقليم غير المسلح: أراضي الرين

وفي المادة الثانية تتعهد ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وبلجيكا بعدم الالتجاء إلى الحرب لحل أي خلاف. على أن هذا التعهد لا يعمل به في الأحوال الآتية:

(1)

في حالة (الدفاع عن النفس) - أي عند مخالفة المادة 42 أو 43 من معاهدة فرساي (مخالفة ظاهرة) - غير محرض عليها؛ ولسبب تجمع قوى حربية في الإقليم غير المسلح، والعمل الفوري ضروري في هذه الحالات

(2)

عند القيام بعمل ناجم من المادة 16 من صك العصبة

(3)

عند القيام بعمل حسب قرار العصبة أو حسب المادة 15 بند 7 من صكها

ص: 30

ومع اعتبارات محتويات المادة الثانية فإن ألمانيا وفرنسا من جهة، وألمانيا وبلجيكا من جهة ثانية، تتعهد في المادة الثالثة بتصفية أي خلاف يحدث بينهما عن طريق سلمي: ففي الخلاف المدني تُرفع القضية إلى قاض يعمل الغرماء حسب قراره. وفي أي خلاف آخر يرفع الخلاف إلى (لجنة توفيق)، وإن لم يقبل الغرماء قرار اللجنة يرفع إلى مجلس عصبة الأمم

والمادة الرابعة تنص على أنه:

(1)

إن اعتقد أحد المتعاهدين بأن تعديا قد وقع على المادة الثانية أو على المادة 42 أو 43 من معاهدة فرساي رفع دعواه إلى العصبة

(2)

حينما يقرر مجلس العصبة تلك المخالفة يخطر المتعاهدين بقراره، وعلى كل منها أن تمد يد المساعدة حالاً إلى الدولة الموجه أليها العمل المحرَّم

(3)

وعند تعدي إحدى الدول المتعاهدة (تعدياً ظاهراً) - على المادة 2 من المعاهدة أو (المخالفة الظاهرة) على المادة 42 أو 43 من معاهدة فرساي، فإن كل دولة من الدول المتعاهدة الأخرى تتعهد من الآن إلى مد يد المساعدة حالا إلى الفريق الذي كانت موجهة ضده المخالفة أو التعدي، ابتداء من تَيَقُّن تلك الدولة أن التعدي كان عملاً عدائيا غير محرض عليه، أو لسبب اجتياز الحدود، أو الابتداء بالعداء، أو جمع قوى حربية في الإقليم غير المسلح فإن العمل الفوري ضروري. وعلى كل فإن مجلس العصبة الذي استلم الدعوى حسب البند الأول من هذه المادة يعلم نتيجة قراره. والمتعاقدون في هذه الحالة يتعهدون على العمل بموجب قرار المجلس الذي أخذ بالإجماع بغض النظر عن أصوات ممثلي المتخاصمين

أما المادة الخامسة فتقول: (إذا رفضت إحدى الدول المذكورة في المادة 3 إتباع الحلول السلمية أو تنفيذ قرار التحكيم أو القرار القضائي واعتدت على المادة 2 من هذه المعاهدة أو خالفت المادة 42 أو 43 من معاهدة فرساي، فتنفذ، إذ ذاك محتويات المادة 4 من هذه المعاهدة

وفي الحالة التي ترفض فيها الدول المذكورة في المادة (الثالثة) إتباع الحلول السلمية أو تنفيذ قرار التحكيم أو القرار القضائي، دون أن تكون قد اعتدت على المادة الثانية أو

ص: 31

خالفت المادة 42 أو 43 من معاهدة فرساي، فإن الفريق الثاني يرفع الدعوى إلى مجلس العصبة الذي يقترح الإجراءات الواجب اتخاذها: وأن المتعاقدين يعملون حسب هذه الاقتراحات

قبلت ألمانيا في هذه المعاهدة عدم المساواة في الحقوق، ووافقت على الحدود التي بينها وبين بلجيكا وفرنسا، وتخلت بذلك عن طيب خاطر عن الالزاس واللورين، ووافقت أيضاً على بقاء الإقليم غير المسلح. وهذه الشروط ليست جديدة، بل هي مدونة في معاهدة فرساي. وظن حينئذ أنه من الأنسب قبول ألمانيا اختيارياً بها، لأن المعاهدات الموقع عليها طيب خاطر لها حرمة أقدس من المعاهدات المرغم عليها، وهذه المعاهدات تمزقها الأمة التي أرغمت عليها عند ما تجد في نفسها القوة والجرأة الكافيتين للقيام بذلك. والمعاهدات، في الواقع على نوعين: قانونية كفرساي، وأخلاقية - كلوكارنو، وكان لهذه النوع الأخير من المعاهدات قيمة كبرى من الوجهة العلمية قبل 7 مارس 1936

وقد دفعت فرنسا ثمن هذه المعاهدة بإخلائها إقليم كولون وأراضي الرين، أي أن فرنسا قد تركت سياستها المبنية على الضغط على ألمانيا للوصول إلى حقوقها، وأقامت مكانها ثقتها في ألمانيا السلمية. وقيل حينئذ إن كانت هذه الثقة قد وضعت في غير مكانها فإن فرنسا تصبح تحت رحمة جارتها الجبارة، وهذا ما وقع في السنين الأخيرة

وانتقد كثير من الفرنسيين معاهدة لوكارنو قائلين: ألا يعني ذلك أن فرنسا قد تركت كل المحاولة في جعل ألمانيا عزلاء، وتركت مراقبة الرين وحقها في التعويض؟ أليست هذه المعاهدة إنشاء للتفاهم بين ألمانيا وبريطانيا، لا بين ألمانيا وفرنسا؟ وقيل أيضاً: هل من الأكيد أن بريطانيا ستقف مع فرنسا حين هجوم ألمانيا عليها؟! أو ليس من الممكن أن تحابي بريطانيا ألمانيا وتؤيد عملها؟! ثم لبريطانيا وحدها الحق في التقرير فيما إذا كان اعتداء ألمانيا دون تحريض أم لا، وعلى ذلك فيمكنها تأويل كل قانون وتفسير كل عمل حسبما تقتضيه سياستها؛ فمساعدة بريطانيا ليست أمراً واقعاً. . . ولقد حاربت بريطانيا النفوذ الألماني في أوربا، وهي الآن جادة في محاربة النفوذ الفرنسي فيها. ألا تعيد في عملها هذا السيطرة الجرمانية على أوربا؟

وتكون هذه الانتقادات في محلها إن كانت نية ألمانيا سيئة، وقيمة الميثاق تتوقف على مقدار

ص: 32

انتشار روح التسامح والوئام بين الجارتين وتوثيق العلاقات الودية بينهما؛ وإن فقدت هذه الروح في إحدى البلادين فلوكارنو تصبح ورقة بالية ولتقدير قيمة هذه المعاهدة يجب معرفة عقبة كل من البلادين

مما لاشك فيه أن الفرنسيين محبون للسلم، فهم يكرهون الحرب دون أن يخافوها، ولا يفكرون في الاستيلاء على بلاد أوربية، غير أنهم يسيئون الظن في الغير، وهم حريصون جداً على حريتهم وسلامة بلادهم. وإن حاول الغير التعدي عليهم أصبحوا كالرجل الواحد، يدافعون حتى النفس الأخير في سبيل حريتهم ووطنهم. وهم يودون التفاهم مع ألمانيا وإيجاد سلام أبدي بين البلادين، غير أنهم يعتقدون اعتقاداً راسخاً بأن ألمانيا تريد غدرهم والإيقاع بهم، وهي تستعد لحرب ثانية وتعمل لها، ونتيجة لهذه الفكرة المختمرة في رءوسهم يعملون على تقوية مركزهم الحربي، ويسعون في إيجاد حلفاء لهم ضد ألمانيا ونتيجة ذلك حصر ألمانيا والظهور بمظهر العدو لها. . .

والشعب الألماني شعب (ديناميكي) يحب الحرب ويصبو إلى الفتح، ولا يقبل إلا أن يكون له المركز الأول في أوربا. . . وهو ينظر إلى فرنسا كالحاجز الذي يحول بينه وبين غرضه، فيبغضها ويعمل على كسر هذا الحاجز؛ ثم إن الشعب الألماني فخور، يأبى العار ويعمل على غسله حتى بالدماء؛ وهو لن يرضى عن فرساي بل يبذل جهده في تمزيقها

فلوكارنو لم تحل هذه المعضلات، ولم تزل أسباب العداء الذي بين الجارتين؛ فهي لم تؤمن فرنسا على سلامتها، ولم تعط ألمانيا بعض ما تصبو إليه، فهي عاجزة عن إيجاد السلام وتوثيق روح الصداقة والوئام بين أكبر عدوين

أما قيمتها الأخلاقية فقد زالت بضربة 7 مارس، ووضع الهر هتلر المعاهدات الأخلاقية في دائرة المعاهدات القانونية التي ترغم الدول على التوقيع عليها؛ وقال بعدم قانونيتها ما دامت تخالف مصالح إحدى الدول التي وقعت عليها

وسنرى في المقالات التالية أن لا قيمة لكفالة بريطانيا وإيطاليا، وأن هاتين الدولتين لم تقوما بما تفرضه عليهما نصوص معاهدة لوكارنو

وعندما دعت ضربة 7 مارس إلى تطبيق المعاهدة، اختلف في تفسيرها ولا سيما البند الثالث من المادة الرابعة

ص: 33

فأخذ فريق من ساسة الإنكليز ورجال الحقوق فيها يقول بأن عبارة (تلك الدولة) تعود إلى (الفريق الذي كانت موجهة إليه المخالفة والتعدي)، لا إلى عبارة (كل دولة من الدول المتعاهدة الأخرى)، وإن الحكومة البريطانية غير مقيدة بمساعدة فرنسا لمجرد احتلال أراضي الرين؛ ومساعدتها واجبة فقط عندما يكون هذا الاحتلال على شكل يوجب القيام فوراً بإجراءات صارمة، وهو يريد بهذا التفسير أن بريطانيا لم تخالف المعاهدة، لأن فرنسا لم تعتبر عمل ألمانيا (تعدياً ظاهراً)، ولم تقم بإجراءات عاجلة. . . ولأن بريطانيا تعتقد أن عمل ألمانيا لا يوجب القيام بإجراءات حربية

ويرد فريق آخر على هذا التفسير، وعلى رأسهم السير استين شمبرلين، وهو أحد الذين وضعوا المعاهدة بأن عبارة (تلك الدولة) ترجع إلى عبارة (كل دولة من الدول المتعاهدة الأخرى) لا إلى عبارة (الفريق الذي كانت موجهة ضده المخالفة أو التعدي). وأن لوكارنو تعتبر اجتياز الحدود وإشهار الحرب وجمع قوى حربية في الإقليم غير المسلح عملاً هجومياً يقضي على جميع الموقعين على المعاهدة القيام بإجراءات صارمة حتى الحرب لإعادة الستاتيكو إلى ما كان عليه قبل وقوع التعدي، وأن السبب الذي لم يدع إلى اتخاذ الإجراءات العسكرية في حالة 7 مارس يعود إلى الموقف السلمي الذي وقفته فرنسا وبلجيكا

إن تفسير الفريق الأول خطأ، وهو قائم على دعائم هوائية، ولا يراد منه إلا التهرب من واجبات المعاهدة. أما تفسير السير استن شمبرلين فصحيح متين:

فلو أن عبارة (تلك الدولة) تعود حقاً إلى عبارة (الفريق الذي كانت موجهة إليه المخالفة أو التعدي) لما قبل السير استن شمبرلين بذلك؛ ولما وافقت حكومة لندن وبرلمانها على هذه المعاهدة. إذ الحكومة البريطانية أشد الحكومات حرصاً على عدم ارتباطها بمعاهدات ترغمها على دخول الحرب بمجرد إرادة غيرها. ولو أن هذا التفسير صحيح لما رأينا فرنسا تقف واجمة أمام ضربة 7 مارس، بل لرأيناها تجتاز الحدود وتحتل أراضي الرين، إذ كان في إمكانها أن تقول لبريطانيا: إنني أعتقد بأن عمل ألمانيا عمل عدائي غير محرض عليه، ولذا يجب عليك أن تتخذي إجراءات عسكرية صارمة ضدها. وواقع الأمر أن فرنسا لم ترغم ألمانيا على سحب قواها الحربية من أراضي الرين إلا لأنها لم تكن

ص: 34

واثقة من موقف بريطانيا إزاء ضربة 7 مارس من جهة، ولأنها لم ترد تعقيد المعضلة من جهة ثانية

(لندن)

يوسف هيكل

ص: 35

‌من الموضوعات التي نالت الجائزة في المباراة

‌الأدبية

التربية الوطنية الاستقلالية وأثرها في بناء الأمة

للأستاذ محمد عبد الباري

- 2 -

النشأة الأولى

لست أدخل في مناقشة مسائل التربية وعلم النفس وأنا أحاول كتابة كلمة مفروض أنها كما هي للخاصة، ولهذا فإني أستعرض الأدوار التي تمر بنا جميعاً مجرد استعراض قصد توجيه النظر العادي

(من شب على شيء شاب عليه) جملة قصيرة شائعة بين الخاصة والكافة هي جماع ما أريد تقريره

يولد الطفل طليقاً من كل قيد. ومن المستطاع تربيته على الفضائل الاجتماعية منذ نشأته الأولى إذا ما تركناه على سجيته متناولين حركاته بالتقويم الرشيد دون إفساد طبيعته

هذا يقتضي بلا ريب أن يكون لدى الأم فكرة عامة؛ وهذا الإدراك الضروري للأم ليس من الأمور الهينة في مثل بيئتنا، لكن هذا لا بد منه؛ وما دام لا بد منه فلا سبيل إلى إهماله. أما كيف تصل إليه فلا تسع له مجال القول هنا، ويكفي القول بأن الأمر من الأهمية بحيث يرخص في سبيل تحقيقه كل غال، ويسهل في سبيل الوصول إليه كل صعب. وهل هنالك غرض أسمى من بناء الأمة بناء متيناً؟

أول ما تجب العناية به في أمر الطفل تربية جسمه طبقاً لقواعد الصحة، والعناية بغذائه وبنظافته؛ يتلو هذا في الأهمية ويقترن به في التبكير عدم تقديم كل ما يريد بغير تكليفه السعي إليه. يجب أن يربى على السعي لتتكون لديه فكرة الاعتماد على النفس. فإذا أشار إلى شيء ليحصل عليه، يجب أن يقرب إليه بحيث لا يتسنى له الحصول عليه إلا بمحاولة جسدية. وإذا ما كان في مقدوره أن يحبو فيجب أن يوضع الشيء بحيث يحبو إليه ليصل

ص: 36

إليه؛ فإذا تظاهر بالإعياء فلتغض الطرف عنه ليسعى ثم يسعى. ومن يتأمل ير على الطفل إمارات الارتياح إذا ما وصل إلى غرضه بعد كد وسعي

وإذا ما سقط وهو يمشي فلا نظهر انزعاجنا ونسرع إليه نلتقطه مظهرين الحنو عليه، بل نتركه ينهض بنفسه. فبهذا وبأمثاله تربي فيه صفة الاعتماد على النفس والثقة بها، وهما من أقوى عوامل النجاح في الفرد، وأمتن أسس البناء في الأمة

يلي هذا وذاك في الترتيب، ويتقدمه في الأهمية، أمر أعصاب الناشئ. ينبغي عدم الالتجاء بحال إلى تخويف الطفل لحمله على الإذعان برسم صور خيالية مرعبة في مخيلته. هذه الصور الخيالية المرعبة هي شر ما يحطم النفس البشرية؛ هي الجرثومة الخبيثة لمرض الجبن، أعصى الأمراض الاجتماعية على العلاج وأشدها فتكا بالجماعات

لست أقول بترك الطفل يعمل بلا تقويم، ولكني أقول بأنه يجب تقويمه في عناية وبغير إفساد خياله (بالمرهبات). فإذا تقدم في السن فلا بأس بإشعاره بسوء عاقبة الخطأ بحرمانه أو بضربه بالقدر الكافي مع الهدوء التام والقصد. ومن الواجب أن نظهر استحساننا واستهجاننا في مناسبات ذلك

بهذا يمكن أن نربي في الطفل قوة الاعتماد على النفس وحكم الأعصاب والشجاعة والمثابرة. وإذا ما ترك المنزل إلى المدرسة أو المصنع على هذا فإنه يكون مزوداً بالقدر الكافي للحياة الكريمة

وفي المكتب أو المدرسة وفي المصنع وفي الشركات ومصالح الحكومة ودار العمدة يمكن تناول هذه الصفات بالتقوية. ولكن أقوى الدعائم ما يكتسبه الطفل في المنزل سواء بالتقويم والتعويد، أو بالمثل والقدوة

فالأولاد يكسبون كثيراً إذا ما شاع في البيت شعور المحافظة على الكرامة والقيام بالواجب والتمسك بالحق. إذا احترم كل من الزوجين الآخر، ولم يتحكم الكبير في الصغير، ولم يستغل ضعف الخدم لإرهاقهم وظلمهم؛ وبالجملة إذا حرص رب الدار على ألا يكون في بيته إرهاب أو إذلال أو استكانة، ينشأ مع الأولاد شعور بالعدل والعزة، ونفور من الظلم والعدوان

والنشأة المنزلية الملهمة للحرية والاستقلال تهون ذيوعهما في الجماعة. فالغالب فيمن لم

ص: 37

يألف الإهانة في صغره عدم قبولها إذا ما كبر. وإذا آنس المعتدي من فريسته المقاومة فكر كثيراً قبل الاعتداء. فإذا ما قوبل الاعتداء بمثله كف المعتدون مع الزمن، فتشيع في الجماعة روح الاعتدال نتيجة هذا التفاعل، ويشع في جوانبها نور الحرية ويصلب عودها وتقوى ويصعب النيل من حريتها واستقلالها

إيجاد هذه الروح في الجيل الحاضر وتربيتها في الجيل الناشئ ليس من الهين في بلادنا مثلاً. لكن الأمر كما قلت عظيم. فليكن من أغراض دعاة الإصلاح تحقيق هذه الغاية بكل الوسائل. فبناء الأمة قوية مستحيل إذا لم تغلب روح الاستقلال والحرية والاعتماد على النفس والأباء. وكل بذل في هذا السبيل له ما يبرره

خلاصة ما تقدم أن البذرة الأولى للتربية الاستقلالية في البيت، فإذا ما نمت به تعهدت خارج البيت بالمدرسة والمصنع ودواوين الحكومة ومكاتب الشركات والمنشآت الاجتماعية بوجه عام، وكانت بذرتها القوية في البيت مما يهون نموها وذيوعها وانتشارها في الجماعة

حرية الجهر بالرأي

إذا نشأت غالبية أفراد الجماعة على الاعتماد على النفس والأباء، فإن الغالبية تجهر بالرأي في غير خشية ولا خجل. والرأي يسمع في غير اشمئزاز ويناقش في غير تعصب أو تحامل غير طبيعي. وبذا تسير الجماعة في غير كثير من الاحتكاك

أما إذا لم تكن الشجاعة والاعتماد على النفس والإقدام هي الصفات الغالبة، فإن حرية الجهر بالرأي تعز من جهة، وقبول النقد النزيه يندر من جهة أخرى، فيكثر العسف وتنتشر الأخطاء وتنحط الجماعة

التربية الاستقلالية ترفض بطبيعتها المداراة. وفي الأوساط الحرة لا تحرج ولا إحراج، بل يأتي النقد النزيه بالطبع ويقابل كذلك. والحقيقة تظهر بتلاقي الآراء. أما في الأوساط غير الحرة لانعدام التربية الاستقلالية أو ندرتها، فالإقدام يندر ويندر معه النقد ومقاومة الظلم، فيكثر الغرور وتكثر الأخطاء وينحط المستوى الفكري والخلقي تبعاً لذلك، وتضعف أداة السير إلى الأمام وتهن قوة المقاومة فتفقد الجماعة وجودها المستقل وتمسى خاضعة لمشيئة الغير

علاقة الحكام بالمحكومين

ص: 38

أدوات الحكم مهما اختلفت ألوانه هي - أ - التشريع - ب - القضاء - ج - الإدارة

أ - والمثل الأعلى للتشريع، في رأيي، هو أن يكون أقرب ما يمكن إلى التعبير عن الإرادة المشتركة. وأعني بالإرادة المشتركة في جماعة ما ملتقى الإرادات الجزئية أو الإرادات الفردية نتيجة تبادل الآراء وتعديل بعضها بعضاً. وكلما كانت حرية الرأي مكفولة كبر مجال تمحيص الآراء وقربت إرادة الدولة، مجمع الإرادات، من إرادة الجماعة وصدق تعبيرها عنها. وإذا كان القانون، وهو إرادة الدولة أساسه هذا، فإنه يسهل تطبيقه كما يسهل تعديله بما يساير تطور الجماعة، لأنه يعبر تعبيراً صادقاً - بقدر ما تقبله طبيعة الإنسان - عن إرادة المجموع

هذا النحو في التفكير يقودنا إلى تقرير أن الحكم النيابي أقرب أشكال الحكومات المعروفة إلى التعبير عن إرادة الجماعة أصدق تعبير ممكن. وهنا لابد لي من الإشارة إلى اعتراضين:

قد يتساءل البعض: كيف السبيل إلى سيادة الحكم النيابي في الجماعات المتأخرة ما دام القانون هو إرادة الدولة، وما دام مثله الأعلى هو أن يكون نتيجة ملتقى الإرادات الجزئية، وكانت الأغلبية جاهلة؟

وجوابي على هذا أن هنالك رغبة مشتركة بين مختلف الطبقات، أو إرادة مشتركة مهما بعدت النسبة بين درجات التفكير. وأعني بهذه الإرادة المشتركة إرادة توفير أسباب العيش والأمن على النفس والمال. فإذا عملت على ترقية مدارك الفلاح، ويسرت له سبيل الري والصرف، وأمنته على نفسه وعلى ماله، فإنك إنما تحقق رغبته أو تنقذ إرادته. والشرائع التي تؤدى إلى هذا تعبر عن إرادته. وبالعكس إذا صدر قانون بإقامة دور فخمة للتمثيل وقاعات للتصوير في قلب الريف مع شدة حاجته للمستشفيات العامة والمدارس العامة، فإنك لا تعبر عن رأي سكان القرى بل تخالف إرادتهم. ويقال مثل هذا عند جميع طبقات الأمة. فإذا أبدى نائب رأياً عن جماعة فإنه، طبقاً لما تقدم، لا تناقض بين فكرة الإرادات الجزئية وبين الحكم النيابي في الجماعات المتأخرة، ولو لم تظهر الإرادة الجزئية مستقلة منفصلة. وبتقابل إرادات الطبقات المختلفة يعدل بعضها بعضاً حتى تلتقي في نقطة تحقق الإرادة المشتركة بالقدر العملي اللازم لسير الجماعة إلى الأمام

ص: 39

أما الاعتراض الثاني فنشأ عن وقائع ما بعد الحرب، تسمعه من أفواه أساتذة الجامعة كما تسمعه ممن يهتم للكلام في الشؤون العامة من بين معلمي المدارس الأولية، ويتردد صداه بين أوربا وأمريكا وآسيا، ذلك هو الاعتراض على صلاحية الحكم النيابي بنجاح نظام الحاكم المستبد العادل. يقولون إن المستبد النزيه انتشل إيطاليا من مخالب الفوضى ووضعها في مصاف الدول المرهوبة الجانب في زمن قصير. وفي مثل هذا الزمن انتزع المستبد النزيه تركيا من أحضان الموت وأوقفها على قدميها يخطب الأقوياء ودها اليوم بعد أن كانوا يتنافسون في اقتسامها بالأمس، ويقولون عن جماعات أخرى مثل هذا. ويخرجون من المقارنة بأن الحكم النيابي لم يعد المثل الأعلى لنظم الحكم في وقتنا هذا

غير أن المستبد العادل من خوارق الطبيعة. ولا يصح وضع قاعدة عامة على أساس الشذوذ. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالمستبد لا يقبل معارضة. ولا بد أن تفقد الجماعة روح النقد في مثل هذا الجو. فإذا ما انقضى عهد سحر الزعيم لسبب ما، سارت الأمة نحو الضعف بأسرع مما سار بها سحر الزعيم المستبد إلى القوة

هذا إلى أن إحاطة الزعيم بكل شيء أمر مستحيل. ولا بد له من مجلس يرجع إليه، وإن لم يتقيد بما يبدي فيه من آراء. فإذا لم يكن هنالك، في ذلك الحيز الضيق، حرية رأي فإن الزعيم لا يسمع في الواقع إلا صدى صوته. ولما كانت الإحاطة بكل الأمور متعذرة كان خطأ التصرف هنا أمر لابد منه في حالات كثيرة. وإذا قدر للحكم النيابي، بشكله الحالي، أن يتلاشى، فلا ينفع الجماعة نظام المستبد العادل. بل ينفعها نظام النقابات وفي هذا النظام لا بد من استقلال الرأي والحرية لتمحيص الأمور قبل إبرامها

لنعد الآن إلى تناول موضوع التشريع لنقول إن حرية الجهر بالرأي ألزم ما تحتاج إليه أداة التشريع. هذه الحرية لازمة داخل الأحزاب لزومها خارجها. فنقد رأي الزملاء والزعماء في حرية لا غنى عنه لتقرير أقرب الآراء للسداد وأقلها تعرضاً للسقوط إذا ما هاجمها خصوم الحزب، والإمساك عن النقد مصانعة أو جبناً قد يؤدي إلى قرار خاطئ تسهل معه المهاجمة من الخارج. وهذه الحرية لازمة كذلك في مجالس التشريع وعلى صفحات الجرائد وفوق المنابر خارج هذه المجالس. وإبداء الرأي في غير مواربة من أقوم سبل تغيير هذه الهيئات برغبات الجماعة وبمواطن الصواب. ولن يكون هذا ما لم تكن غالبية

ص: 40

الجماعة قد نشأت نشأة استقلالية. فلا يجهر برأيه إلا من قويت عنده روح الاستقلال وكانت لديه الشجاعة وفي خلقه الأقدام

ب - والمثل الأعلى للقاضي هو من يتعرف وجه الصواب ويحسن تطبيق روح القانون على حالة الجماعة التي يطبق فيها، ويدرك حق الإدراك رسالة القاضي وأثره في المجتمع فلا يخضع لغير القانون والحق والعدل. هو الذي يتحرر من نزعات نفسه ومن المؤثرات الخارجية في تصرفه كقاض. هو الذي لا يخشى في الحق لومة لائم

والتربية الاستقلالية هي أقوى حصون القاضي ضد نزعات النفس. والكرامة الذاتية والثقة بالنفس هما أقوى دافع يدفعه إلى الدرس المستمر والتفكير غير المنقطع فيما يحيط به ليستطيع إبلاغ رسالته على خير وجه. وهما اللتان تلهمانه رفض الإيحاء الخارجي مهما كان مصدره

وإذا آنس القاضي المدرك لسمو رسالته ضعفاً في روح الجماعة أو شيوع عوج في خلقها - وهو بحكم مركزه ميزان حساس - عالج النقص في أسباب أحكامه تارة، وبإسداء النصح إلى الماثلين أمامه تارة أخرى. وما أشد وقع النصيحة المقترنة بالعبرة!

وإذا آنس، بحكم الممارسة، نقصاً في التشريع أو عيباً أو غموضاً جعل من أغراضه، في قراراته، إكمال القانون إذا ما اتسعت لذلك النصوص دون إرهاق المعنى. فإذا لم يكن هذا مستطاعاً فإنه يخاطب الجهات التشريعية لاستكمال القانون ويعمل لتحقيق هذا الغرض بكل ما يستطيع

(يتبع)

محمد عبد الباري

ص: 41

‌ملاحظات متواضعة على مشروع

ترجمة معاني القرآن الكريم

بقلم المستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس

طالعت والغبطة تفعم قلبي المرسوم الصادر بترجمة معاني القرآن الكريم استناداً إلى الفتوى الشرعية المقدمة من هيئة كبار العلماء، إذ يبدأ العمل بمقتضاها قريباً في هذا المشروع الخطير الذي يعد أول حادث له قيمته في تاريخ الإسلام

لقد ترجم مسيحيو القرون الوسطى كتاب الله الكريم إلى عدة لغات أوربية. وكانت أول ترجمة، على ما أعرف، هي تلك التي قام بها كلوني إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر. ثم أقبلت طائفة من القسس الرهبان على نقله إلى بقية اللغات الحية، حتى أن بعض الأمم الصغيرة ساهمت في هذا العمل، ولا تزال تفتخر بوجود نسخ من هذه التراجم البدائية في متاحفها. وتوجد في اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية عشرات التراجم، القديمة والحديثة، بحيث يمكن للمرء أن يختار منها ما يوافقه. على أن معظم هذه التراجم تكاد تكون حرفية لآيات الذكر الحكيم، برغم حرص القائمين بترجمتها على وضعها في قالب صحيح يتفق والمعنى الذي أنزلت به، لأنه من العلوم أن فصاحة القرآن وبلاغته أمران لا سبيل إلى إنكارهما. وهذا لعمري مما حارت فيه عقول العلماء والفلاسفة واللغويين. ولو سلمنا جدلاً بأن معظم هذه التراجم خال من الأخطاء - وهذا ما لا يمكن الجزم بصحته - فالتفسير لا يكون مؤدياً تماماً لنصوص الذكر الحكيم. ومن المتيسر أن يصل المترجم إلى الأصل الذي يخلع على كتاب الله جلالة وروعة. فمعجزة القرآن في أسلوبه وبلاغته، مما لا يجعل الأجانب يفقهون معناه أو يشعرون بلذة عند تلاوته، نظراً لأن بعض المترجمين أطلقوا لأنفسهم العنان في ترجمته

ويلوح لي أن هذه التراجم أشبه ما تكون بالصور القاتمة التي تمثل الطبيعة الحية، فالنشوة الروحية العميقة التي يحس بها المسلم لدى تلاوة القرآن، يكاد أمرها يكون معدوماً لدى طائفة من الإفرنج وهم يطالعونه في لغاتهم. فمن هذه الناحية نرى أن القرآن الكريم غير قابل للترجمة، ولا يمكن أن يصل كاتب مهما بلغت عبقريته إلى مثل هذا السمو. والتاريخ على ما فيه من الحوادث الجسام والعظات البالغات، كذلك الفن في أنبل وأسمى معانيه، لا

ص: 42

يمكن مقارنة أحدهما بآية واحدة من آيات المنزل الحكيم

وكيف لا يكون الأمر كذلك وهو كلام الله القديم الأزلي؛ وهو معجزة ليس من السهل تفسيرها في ضوء الحوادث، أو شرحها بمنطق التدليل، والمفروض أن الإنسان يؤمن به حسب نزوله

إن فلسفة التاريخ بمناهجها الصحيحة، حاولت عبثاً أن تحلل تفاصيله وتواريخه وترده إلى أصوله، ولكنها برغم الجهود الجاهدة التي بذلتها أجبرت على الخضوع لأحكامه، ورضيت من الغنيمة بالإياب، وأيقنت أنه أمر ليس في طاقة البشر أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. ففي وسط ظلام الإنسانية الحالك، انبثق ذلك القبس الإلهي، وأضاء الكون ليمهد للإنسانية طريق الهداية والرشد. مما أدى إلى وضع الأصول الاجتماعية والقوانين والشرائع وتحديد علاقة الناس بعضهم ببعض. بل أصبح القرآن قاعدة موطدة لثقافات علمية واسعة النطاق، وحلقة كونية لم يظهر لها نظير في كل أحقاب التاريخ

ولقد كان طبيعياً أن يكون القرآن باعثاً على خلق الوحدة العربية والاخوة الإسلامية، سواء في اللغة أو في الفكر والعاطفة، وبتأثيره امتدت حضارة الإسلام من قلب الجزيرة العربية إلى أطراف العالم؛ وكان امتداد هذه الحضارة مما لم تشهده مدينة من المدنيات الإنسانية العظيمة الأخرى. فإقامة الصلاة يرن صداها اليوم من مراكش إلى اليابان حول قارات ثلاث. كذلك كان القرآن سبباً في أحكام رابطة الوحدة بين ثلاثمائة مليون مسلم، سلاحهم التقوى ومخافة الله، ودينهم مستمد من القانون السماوي المقدس الذي رفعهم إلى السمو الروحي. ولقد طغى القرآن على الفوارق المادية التي بين المسلمين، حتى أصبحوا بفضله إخواناً، وأزال البغضاء والنقائص من نفوسهم، ونفى عن قلوبهم الأدران والعوامل الشعوبية واللغوية والجغرافية حتى صاروا كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضاً

إن تفشي النزعة المادية كان من أقوى البواعث لزعزعة العقائد الدينية في عالم الغرب. وهذه الظاهرة بدت ماثلة قوية في القارة الأوربية عند ما حاولت أن تشيد لها صرحا فوق أنقاض الدولة الرومانية، هنالك بدأت حركة الإصلاح التي قام بها مارتن لوثر، وكان من أقوى عواملها ترجمة الإنجيل، فكانت ترجمة هذا الكتاب المقدس سبباً في تقدم الحضارة الجرمانية، وسبيلاً إلى إدماج لهجات ولغات متباينة بعضها في بعض، حتى غدت منها لغة

ص: 43

واحدة هي الآن لسان للأدب الألماني الكبير

من ذلك ترى أن ترجمة الإنجيل من اللاتينية أحدثت في الحضارة الأوربية بعض الأثر الذي أحدثه القرآن الكريم في تكوين حضارة إسلامية راقية مؤسسة على قواعد ونظم ثابتة. أضف إلى ذلك أن اختراع الطباعة جاء في نفس الوقت الذي سارعت فيه الأمم والشعوب الجرمانية لتلم شعثها. فأخضعت الطباعة للغة والفكر والدين، وازدهر الأدب الجرماني وانتشرت ضروب الثقافات، وبفضل ترجمة الإنجيل اندثرت اللغات واللهجات، ومحيت الفوارق السياسية التي كانت إحدى نتائج الجهل المؤدي إلى العبودية

في ذلك الوقت كانت طائفة صغيرة من العلماء في الشرق الإسلامي، قد احتكرت علوم القرآن وتفسيره، وأصبحت اللغة الفصحى على وشك التدهور والانهيار، وتفشت الأمية والجهل إلى حد مخيف، وأصبح المسلمون الذين كانوا قادة الأمة في العلوم والآداب في حالة تأخر وانحطاط بالنسبة لأسلافهم. أما الكتاب الكريم، ينبوع الحضارة الإسلامية الزاهرة، فكان غير مفهوم لأكثر من الناس

في هذه العصور المظلمة كانت طائفة العلماء في عزلة تامة عن الشعب، يحتكرون القرآن في صدورهم، فانتشرت الجهالة وعمت الفوضى، على أنه توفيق من الله، كان لا يزال ألوف من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يحفظون القرآن وإن لم يفقهوا معانيه. فالإسلام في حد ذاته هو التشبع بالمبادئ الروحية السامية المركزة على طهارة النفس ونقاوتها مما يشوبها. فهل يمكننا في هذه الحالة أن نعترف بأن الإلهام السماوي، مهما بلغ من التقديس، يؤثر في نفوس من لا يفهمون معناه؟ إن الإسلام ليس سحراً ولا طلسماً، ولكنه دين الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وإذا اعتقدنا بأنه صالح لكل زمان ومكان، فيجب علينا إذن أن نعمل جهدنا لشرحه وترجمة معناه وجعله في أيدي ألوف الناس الذين يتحرقون شوقاً للدخول فيه أفواجاً وأفواجاً

نحن لا نحارب في هذا العصر مثلا بنفس الأسلحة التي كان آباؤنا يلجئون إليها للدفاع عن أنفسهم - من أقواس ونبال ورماح - بل نقاتل بالدبابات والطيارات وسائر الآلات الحديثة، كذلك يجب علينا في هذا العصر ألا ندخر وسعاً في الالتجاء إلى كافة الوسائل الأدبية والروحية لإظهار فضائل الدين الحنيف والتبشير به في أرجاء الأرض

ص: 44

لقد كان القرآن محصوراً في بدايته في بضع نسخ خطية، فلما انتشرت المطابع الحجرية استخدمت لنشره وجعله في متناول أيدي ألوف المسلمين. كذلك كان الأمر في المطابع الرحوية والحديثة؛ وهو الآن يذاع في الراديو ويفسر على موجات الأثير. أما الذين يحفظون كتاب الله ولا يفقهون معناه، فهؤلاء شأنهم شأن غريق يلتمس النجاة، محاولاً التعلق بحزمة من القش. وليس في وسعهم أن يفقهوا الشطر الروحاني منه الذي يؤهلنا للرشد والتقدم والتسلح بأسلحة من العلم واستقامة الفهم

إن العالم الإسلامي الذي يقف اليوم في مفترق الطرق، فيه أكثر من ثمانين في المائة يحفظون القرآن عن ظهر قلب ولا يفقهون معناه، فإلى هؤلاء الملايين نوجه الأسئلة الآتية:

1 -

هل تميلون إلى حفظ القرآن في صورته الحاضرة دون أن تفقهوا معناه فتظل نفوسكم ظامئة إلى هذا الشراب الروحي؟

2 -

هل تريدون أن يكون وقفاً على طائفة من العلماء يحتكرون معانيه في صدورهم مع أن الله عز وجل أرسله إلى كافة البشر؟

3 -

ماذا يكون لو أن الكتاب الكريم نقل إلى لغاتكم حتى ترتوي منه النفوس الظامئة التي تتلهف عليه كينبوع تفجر من الألوهية العظيمة؟

(البقية في العدد القادم)

(بودابست)

عبد الكريم جرمانوس

ص: 45

‌من الموضوعات التي نالت الجائزة في المباراة

‌الأدبية

استثمار نهضة المرأة لخير البلاد

للسيدة إحسان أحمد القوصي

لما قام المرحوم قاسم أمين منذ ربع قرن ونيف يطالب بتعليم المرأة وتحريرها من أسر عادات بالية، وقيود تقاليد عتيقة شلت نصف الأمة، وحالت دون انتفاع البلاد بجهودها. . . لم يكن يحلم أشد أنصار المرأة تفاؤلاً أن المصرية ستخطو هذه الخطوات المباركة في تلك الفترة القصيرة، وتسير سيرها الحثيث، لتحتل المكانة التي سمت إليها من آلاف السنين في حضارة مصر القديمة، وأيام ازدهار مجد العرب. وإذا كنا اليوم نغتبط بما نلمسه من دلائل نهضتنا الرائعة، وما تقوم به المشتغلات بالحركة النسوية من نواحي الإصلاح وجلائل الأعمال، فوق ما رفعن به شأن بلادهن في شتى بلاد العالم، ومختلف المؤتمرات النسوية الدولية. . . فذلك لما تبعثه فينا هذه النهضة من قوة الأمل وكبير الرجاء؛ في مستقبل زاهر تستكمل فيه المصرية نهضتها، ويظهر أثر ذلك في الكمال نهضة البلاد

وإذا رأيت من الهلال نموه أيقنت أن سيصير بدراً كاملا وإذا كان بيننا اليوم المحامية والطبيبة والصحفية والكاتبة والمعلمة والممرضة، والكثيرات من حاملات الشهادات وكاتبات المقالات، فليس معنى ذلك أننا بلغنا غايتنا، واستوفينا نهضتنا، فما زالت الأغلبية الساحقة من نسائنا يخيم عليهن ظلام الجهل، وما زالت الألوف المؤلفة من أطفالنا تقع فريسة للأمراض، وتقضي ضحية الجهالة؛ وما زالت بلادنا تفوق بلاد العالم في نسبة العمي، وما زالت سوق الخرافات رائجة، وما زال الكثير من عاداتنا في حاجة إلى التهذيب والإصلاح. ويطول بي الشرح لو أردت أن أستوعب أمراض المجتمع التي تستطيع المرأة أن تساهم في علاجها بنصيب كبير إذا مهد لها الطريق فتكون المتعلمة قد أدت حينئذ رسالتها، وقامت بواجبها من خدمة لبلادها. نعم إن طريق الإصلاح شاقة وعرة، والعقبات جمة، والمصاعب كثيرة؛ لكن كل صعب يهون أمام صدق العزائم، وشحذ الهمم، وتضافر الجهود، وتوحيد قوى المتعلمات ليهذبن ويدبرن ويصلحن شأن أمتهن، وينهضن على

ص: 46

الأخص بأخواتهن من مختلف الطبقات صحياً وخلقياً وأدبياً، فيكن قد عالجن الداء من أساسه، فالمرأة ليست نصف الأمة فحسب، بل هي مربية النصف الآخر منها كذلك. ومما يزيدنا تفاؤلاً أن البلاد اليوم روحا تفعل في نفوس الأفراد والجمعيات فعل الخير، متجهة بها من الوحدات الجزئية إلى وحدات كلية مما يساعد على استثمار نهضة المرأة

واستثمار نهضة المرأة يقوم على تعاون ثلاث قوى: جمهور المتعلمات، والحكومة، والشعب

أما واجب المتعلمات فالمبادرة بالاستعداد لعقد مؤتمر نسائي تمهيدي تشمله الحكومة برعايتها، تشترك فيه كافة الجمعيات النسائية على اختلاف مذاهبها وغاياتها، ويدعى إليه أكبر عدد ممكن من فضليات السيدات والآنسات المتعلمات، ليكون واسطة للتعارف وتوحيد الجهود، ووضع الأسس لخطةٍ عملية منتجة بعد المناقشة والبحث في خير الوسائل لمعالجة نواحي الضعف التي توكل كل منها إلى لجنة تقتلها بحثاً ودرساً، ثم تقرر الوسائل الكفيلة بعلاجها. فتؤلف لجنة مثلاً لبحث خير الذرائع لرفع مستوى أخلاق النشء، ولجنة ثانية لتحسين الصحة العامة، وثالثة لمحاربة الخرافات والعادات الذميمة، ورابعة لتنظيم الإحسان وتخفيف ويلات البؤس، وخامسة لتوفير السعادة العائلية وإصلاح حال الأسرة، وسادسة للعناية بالولد صحياً وخلقياً، طفلاً ويافعاً، وسابعة للشؤون القومية والاقتصادية، وثامنة لنشر الثقافة والفنون بين المتعلمات، إلى آخر ما يراه المؤتمر من الموضوعات جديراً بتأليف لجنة لبحثه، وبعد أن تنتهي اللجان من أبحاثها الدقيقة وتكون قد دعمتها بالأدلة والإحصاءات كلما أمكن، واستعانت على استفاء ما ينقصها من المعلومات باستقائها من مصادرها في مختلف مصالح الحكومة والمؤسسات الوطنية والأجنبية التي تشتغل بالشؤون الاجتماعية في مصر أو الخارج، تكون قراراتها بمثابة الخطة الحكيمة لقيادة جيوش المتطوعات إلى حرب صامتة في مظهرها، مصلحة طموح في جوهرها، عدتها التعاون والهمة، وسلاحها الإيثار والتضحية، ثم يبدأ زحف كتائب المتطوعات على الأحياء الفقيرة في العواصم، ثم يتقدمن بزحفهن إلى البنادر، ثم إلى الريف، لنشر الدعاية الصحية والتهذيبية، وإرشاد الفقيرات وتعليمهن النظافة والعناية بالأولاد الخ

ولما كانت الإطالة في شرح أعمال تلك اللجان واستيعاب النقط التي تدخل في لجنة كل

ص: 47

منها تتطلب إفاضة لا يتسع لها مقال كهذا، كما أنه يكون استباقاً للحوادث وإحلالاً لرأيي الفردي محل رأي سيكون ثمرة شورى الجماعات التي تنصرف إلى بحث كل نقطة، وتتفرغ لدراستها على ضوء ما يتوفر لها من الأدلة والبيانات، لهذا أكتفي بإيراد النقط التي تدخل في بحث لجنة أو اثنتين على سبيل المثال تنويراً للأذهان وتوخياً للاختصار: فاللجنة التي يوكل إليها رفع مستوى الأخلاق مثلاً يصح أن تتناول الأمور الآتية:

1 -

أفعل الوسائل في بث روح الفضيلة في النشء وتعويدهم العادات الحسنة

2 -

محاربة الرذائل والعادات الذميمة كالبغاء والمخدرات وكجرائم اللسان والخلاعة والاستهتار

3 -

توجيه الشباب للقيام بالخدمة الاجتماعية

4 -

الأماكن التي يصح أن يرتادها الشباب، والكتب التي يجب أن يقرأها

5 -

مقاومة مساوئ المدنية، والمحافظة على الحسن من تقاليدنا وعاداتنا

6 -

توفير أسباب اللهو البريء ليقضي الشباب وقت الفراغ في المسلي المفيد

7 -

مساعدة المتعطلات على الارتزاق حفظا لهن من السقوط

واللجنة التي تتخصص في تخفيف وطأة البؤس يصح أن يتناول بحثها النقط الآتية:

1 -

تنظيم الإحسان

2 -

توفير وسائل العلاج للمرضى من الفقراء

3 -

تعليم الفقيرات صناعات تزيد في رزقهن

4 -

تحديد نسل الفقراء

5 -

الإكثار من ملاجئ للأطفال المتشردين

6 -

العناية بذوي العاهات

7 -

التأمين للعمال

8 -

النسج على منوال ألمانيا في الاكتفاء بغذاء رخيص يوماً في الشهر وتأدية الفرق للفقراء

9 -

إيجاد أماكن صحية للناقهين والضعفاء بأجور زهيدة

هذه أمثلة من المواضيع التي يمكن أن تتناولها اللجان العاملة بأبحاثها، يرينا تشعبُها

ص: 48

وترابطها مدى أهميتها، وأثرَ تحقيقها في مداواة أمراض المجتمع

أما الحكومة فيقع عليها النصب الأكبر من هذا الواجب، واجب الأخذ بيد العاملات على تنفيذ البرامج الإصلاحية التي يرسمنها بعد الدرس والتمحيص، لأنها المسئولة عن صالح المجتمع بصفتها الحاكمة، ولأنها تملك سلطة التشريع وفي قدرتها تدبير الأموال، ولها من وسائل التنفيذ ما لا يتوفر لغيرها من الهيئات، ولهذا يكون اشتراكها وإشرافها ضروريين لضمان نجاح العمل وتحقيق الإصلاح، لا سيما وهو في مرحلة التأسيس والإنشاء. فلابد من تعيين بعض الموظفات إلى جانب المتطوعات لينتظم العمل ويطرد سيره في سبيل النجاح، كما لابد من مساعدة الحكومة للعاملات لخير المجتمع مادياً وأدبياً، فتمدهن بعونها ونفوذها بسن القوانين الكفيلة بالإصلاح، وتسهل لهن سبل العمل، كأن تخول لعدد من المتطوعات السفر بالسكة الحديدية مجاناً، وتسمح بمبيتهن في مدارسها في مختلف البلاد، وتسهل لهن زيارة المؤسسات الاجتماعية من ملاجئ وإصلاحيات ومستشفيات الخ، إلى غير ذلك من وسائل المساعدة. وهذه أمثلة بسيطة ذكرتها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر والتحديد

ومن أهم ما يجب على الحكومة لاستثمار نهضة المرأة، المبادرة إلى تعديل مناهج تعليم البنات، وإرسال بعثات للتخصص في الخدمة العامة في كلية سيمونز ببسطن وهي أهم معهد بالولايات المتحدة لدراسة الخدمة العامة الطبية والسيكولوجية الخ، أوفي مدرسة الخدمة العامة بشيكاغو أو كلية أو غيرها، حتى إذا عادت البعثات ساعدت المدارس على تربية روح الخدمة العامة في الناشئة، وجندت منها فرقاً للعمل تحت إشرافها، وأفادت المشتغلات بالشؤون الاجتماعية وتوجيههن إلى أنجح الوسائل وخير الطرق لتحقيق الغايات التي يسعين إليها. وغريب أن الحكومة لم تفكر حتى الآن في هذا النوع من البعثات، مع وفرة عدد البعثات التي أوفدتها وتنوعها، ومع شدة حاجة بلادنا إليها

أما تعليم البنات فواجب الحكومة فواجب الحكومة أن تستغل رغبة الآباء في تعليم وإقبال البنات على التعليم بمختلف مراحله، لتجعل من تلك الآلاف المؤلفة زوجات فاضلات يحسن تدبير البيوت ويملأنها بهجة وسروراً، وأمهات صالحات ينشئن رجالاً صحيحي الأجسام، قويمي الأخلاق، كريمي النفوس، وذلك بتعديل البرامج، لأن البرامج الحالية

ص: 49

قاصرة جداً عن تحقيق هذه الغاية. ومن المسلم به أن غاية التربية الصحيحة أن تعد المرء للحياة، وتسلحه بما يكفل له النجاح في كفاحها، وتؤهله للدور الذي ينتظره وتنتظره الإنسانية منه. والمدارس التي تعلم الطبيب كيف يحارب العلل وينقذ المرضى، وتعلم التاجر كيف يُروج بضاعته ويزيد ربحه، والزارع كيف تجود حاصلاته وتسلم من الآفات، والصانع كيف يتقن صناعته ويرقى بفنه، فتعد كلا منهم لمركزه الخاص. . . جديرٌ بها أن تعد الفتاة (ووظيفتها تختلف عن وظيفة الرجل) للقيام بدورها الخطير. فما لاشك فيه أن الفتاة أحوج إلى درس نفسية الأطفال في مراحل نموهم وعرفة طرق العناية بهم جسمياً وخلقياً منها إلى دروس الميكانيكا، وهي أحوج إلى علم الاقتصاد منها إلى حساب المثلثات، وهي أحوج إلى تدبير المنزل والحياكة والتفصيل منها إلى الهندسة الفراغية، وهي أحوج إلى علم الصحة والموسيقى منها إلى الكثير مما تدرسه الآن. لست ضد ثقافة المرأة، ولا أريد الحد من حرية الرغبات في الدراسة العالية، ولكني أريد أن يميز العلم بين حاجة الجنسين، وأن يفرق بين من تتعلم لتحترف الطب أو المحاماة مثلا وبين الأغلبية من سواد الشعب اللواتي ينتظرهن البيت المصري جنوداً يعملن على حمايته ورفع مستواه، وأن يعني بالمواد النسوية عناية كافية تستفيد منها المرأة في حياتها العملية، وإلا ضاع معظم جهدها وما ينفق على تعليمها فيما لا طائل تحته، وصدق علينا قول الشاعر:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا

مضر كوضع السيف في موضع الندى

ونظرة نافذة ترينا أننا في حاجة ماسة تبلغ حد الظمأ إلى تحسين نوع تعليم البنات منا إلى إكثار المدارس لهن. فما أكثر حاملات الشهادات، ولكن ما أكثر الصدف وما أقل الدر فيه، وما أكثر الزهر وما أقل العِطر منه، وأن يوماً تعدل فيه مناهج تعليم البنات تعديلاً يهيئ لهن الدراسة التي تتفق مع وظيفتهن، وتوضع القيود والضمانات لقصر عدد من يدرسن مناهج البنين على الراغبات فعلاً في الدراسة العالية حتى لا تتحول الأغلبية إليها. . . لهو اليوم الذي نكون فيه قد وجهنا التعليم النسوي وجهته المنتجة، وخدمنا البلاد أجل خدمة

هذا واجب الحكومة مجملاً: أما واجب الجمهور فأن يساعد العاملات مادياً وأدبياً، ويشد أزرهن بلطفه وتشجيعه، فيناصرهن الغني بماله والكاتب بقلمه، والخطيب بلسانه، والمصور بريشته، والفقير بتطوعه للعمل، والمعلمون والآباء بما يبثونه من المبادئ الطيبة

ص: 50

في نفوس الصغار؛ لأن المرأة في حاجة، حاجة ماسة، إلى تعضيد الرجل لها في نهضتها، والرجل والمرأة يجب أن يكونا فرسيْ رهان في ميدان الإصلاح يندفعان جنباً إلى جنب في سيرهما لترقية المجموع وخدمة الإنسانية دون أن يعترض أحدهما سبيل الآخر في عدوه، وأن يبادر كل منهما لعون الآخر في جهوده النافعة ما وجد إلى ذلك سبيلاً، ويا سعد يوم يتم لنا فيه التآزر الكامل على العمل الصالح. إننا لا شك بالغون فيه غايتنا بأذن الله

إحسان أحمد القوصي

ص: 51

‌الأدب بين الخاصة والعامة

لامرتين ورينيه جارد

للسيد إسكندر كرباج

تابع لما نشر في العدد الماضي

يأسف لامرتين إذ يرى اليأس مخيماً على وجه رينيه، والأسى يغمر نفسها التوَّاقة إلى إرواء هذا الظمأ الطبيعي في الناس من ينابيع الحبّ والمعرفة. ثم يقول لها: هل وجدت يا رينيه بين كل ما ذكرت لك من الكتب ما يوافق الطبقات العاملة مثلك؟

فتجيبه: صفحات قليلة يا سيدي، لأن كل ما في لغتنا كُتب لكم، لذلك يجب أن يخلق الله من يكتب لنا

فيقول: لقد حان الوقت الذي يجب أن يُكتب فيه لكم يا رينيه، لأن ارتقاء عقليَّة الشعب وشدَّة ميله إلى المطالعة سيحملان الكثيرين من الأدباء عَلَى تخصيص الوقت الذي يصرفونه في أماكن اللهو لوضع الكتب الشعبية. وفضلاً عن ذلك فالارتياح العام إلى اشتداد حركة الصناعة والعمل في البلاد سيدفع الحكومة إلى التوسُّع في نشر الإصلاح ودعوة كل من أفراد الأمة إلى القيام بقسطه من خدمتها. وهذا يضاعف عمل الفكر في كل الطبقات الاجتماعية؛ وبما أن الكتب هي أدوات هذا العمل فسيوضع منها للعمَّال ما يوافق أيديهم

وقد ازداد عدد الكتَّاب على ما كان عليه في الماضي زيادة كبرى، لأن قسماً كبيراً من النفوس الهاجعة استيقظ بعد الثورة واندفع إلى ساحة العمل والإنتاج، ولأن خريجي المدارس العالية تحوَّلوا عن خدمة الإمبراطورية والدين إلى التوظُّف في دوائر الحكومة والاشتغال بالأدب، فكثر عدد الكتَّاب وأصبح ما ينشر في السياسة والشعر والأدب والاجتماع يومياً كافياً لوضع المجلدات الضخمة، وتزاحمُ هذا العدد الكبير من الأدباء على أبواب الشهرة يحول دون معرفة العباقرة الحقيقيين

لم يعمل رأس الإنسان وقلبه فيما غبر من عصور الإنسانية ما يعملانه في هذا العصر، فهما كناية عن معلمين للأدب دائمي الحركة، وهذا العمل المتواصل يبحث عن وجهة ينصرف إليها فلا يجد، لذلك نراه قلقاً مضطرباً. غير أن الطبيعة التي أوجدت التبادل بين

ص: 52

الأعمال والحاجات ستوجد لهذا العمل حاجته، وهذه الحاجة هي وضع الكتب للجمهور

ثقي يا رينيه أن عهد الأدب الشعبي قد دنا، وأعني بالأدب الشعبي الأدب السليم المكتمل، لأني أفهم من كلمة شعب ما يفهمه الله والفلسفة، أي القسم الأكبر والأهم من البشرية لا يفهمه المتطرفون؛ وإذا لم يطرأ على الأنظمة الحديثة في هذه السنوات العشر ما يعرقل سيرها، أو يحولها إلى طغيان مؤقت، فسيكون للشعب مكتبته وعلومه وفلسفته وروايته وشعره وأدبه وتاريخه وفنه

فتسأله رينيه دَهِشة: ومن يضع لنا كل ذلك؟

فيجيبها: الكبار بين العلماء والشعراء، فكما أن تربية الأمراء والتحدث إلى الملوك والتقرب من رجال البلاط كانت إلى الأمس القريب تعدُّ شرفاً كبيراً فإن تثقيف الصغار والتحدُّث إلى الوضعاء وخدمة الطبقات العاملة ستعد في الغد القريب لا شرفاً كبيراً فحسب، بل فضيلة عظمى، وهكذا يتحول مجد الكتَّاب من القصور إلى الأكواخ ومن العواصم إلى القرى. وبما أن العبقرية تتجه بطبيعتها نحو المجد، فالمجد سيكون ترديد اسم الكاتب في أفواه الملايين من النساء والرجال صغاراً وكباراً. لماذا يؤلف الأديب ويكتب وينظم؟ ليُقرأ ويُدرك ويُشارك في شعوره وتأثره، ويُحب ويُكرم ويُطرى، أفليس الأفضل للشاعر أن تنقش منظوماته على صفحات قلوب أربعين مليوناً من أن تُصف على رفوف ستة آلاف مكتبة؟ أو لا يفضل الكاتب أن ينتسب إلى هذه الأسرة الكبرى المؤلفة من أربعين مليوناً، يعيش في أفكارها وتذكاراتها ويقاسمها عواطفها وميولها، من أن يكون عضواً في مجمع علمي لا يجاوز عدد أعضائه الأربعين؟ فما هو رأيك يا رينيه؟ ماذا تؤثرين: أن تتردد منظوماتك في أفواه الملايين من الصغار، ينشدونها في نهاية كل صلاة أو في أحضان أمهاتهم، أو أن تطبع وتجلّد بدقّة وجمال، وتوضع في مكتبة بعض هواة الشعر؟

فتجيبه: آه يا سيدي! أوثر أن تردد في أفواه الصغار والوضعاء لأنها تكون طبعة شعبية تختلج بالحياة، فالمجد الذي لا يدعمه الود هو حبة لا تنبت، ونور لا يدفئ

وأراد لامرتين أن يذهب إلى أبعد من ذلك في معرفة حقيقة ذوق الشعب وميله الأدبي بواسطة هذه الفتاة التي نشأت بين

الخدم وتعيش مع العمال فاستأنف قائلاً: أنت يا رينيه تعرفين أصناف الكتب التي توافق

ص: 53

أهل طبقتك وتنطبق على عاداتهم وميولهم، فما هو الكتاب الذي يجب أن يؤلف أولاً للذين لم يقرءوا أو أنهم قرءوا قليلاً؟

فتجيبه: لا رأي لي في ذلك إذ لا يتذوق الأدب إلا من كان ثقيفاً

- ولكن لا بأس أن تجاوبي عن نفسك، أي نوع من الأدب كان بإمكانه أن يستهويك ويؤثر في نفسك قبل أن تتيسر لك المطالعة؟ أهو الفلسفة الدينية والوجدانية التي تصلح لأن تكون دستوراً لأفكار البشر وإنجيلا يعبر بأمثال قصيرة سامية وجلية كأشعة الشمس، عن مبادئ العلوم الإنسانية الكبرى وفضائلها المكملة بالذكاء والمعرفة على ممر العصور؟

- هذا لا بأس به، غير أن برودة الأمثال لا توافق حرارة قلوبنا، فهي كناية عن أفكار تشع فيما نقرأه، ولكنها فوق مستوانا العقلي

هل يرضيك تاريخ عام جليّ العبارة، رائق الأسلوب، ذو فروع عديدة كأغصان هذه الشجرة التي تسمعنا، تخرج فيها الأصول من الأرض، والجذع من الأصول، والأوراق من الأغصان بحيث تستطيعين أن ترافقي بنظرك نشوء كل هذه الأسرة البشرية الكبرى من أقدم الأزمنة إلى اليوم بما رافقها من ارتقاء وانحطاط، ومن سلالات ظهرت ثم انقرضت مع أفكارها وأديانها وأنظمتها وفنونها وأعمالها؟

- هذا لا يرضي إلا الشبان المتعلمين والشيوخ الميالين إلى أشياء الماضي، أما سواهم من النساء العذارى والأولاد فلا يميلون إلى مثل هذا الموضوع لارتفاعه عنهم، فهو يمر أمامنا كالسيل العظيم يبهر عيوننا ويغرق أرواحنا، لذلك نفضّل عليه وشلة من ينبوع قريب. إن العظيم عظيم، ولكنه غامض كالسماء لا يرى سوى النجوم

- ما قولك في كتاب يفسر كل العلوم والفنون بطريقة سهلة تقفك على كل ما اكتشفه الإنسان واخترعه وتصوره وحسَّنه في كل أنواع الحرف والصناعات وغير ذلك مما يريك الحقيقة ويهدم كل ما قام حول العجائب الطبيعية والاصطناعية المنسوبة إلى الراقيات من الأفكار الكاذبة؟

- لا نزال في مكاننا يا سيدي، فهذا الموضوع لا يهم إلا المثقفين وما أقلهم بيننا وأقصر وقتهم لمطالعته، وعدا ذلك فماذا يبقى في النفس بعد مطالعته كل ذلك؟ غيمه من الألفاظ والخطوط والأشياء والحوادث والأدوات وغيرها مم يبلبل أرواحنا! يكفينا ما نعرفه من

ص: 54

أسرار حرفنا فلا حاجة بنا إلى معرفة أسرار حرف الغير!

- وما رأيك في القصائد والملاحم، كقصائد وملاحم هوميروس وفرجيليوس وطاسو تصف مواكب الأبطال وفتوحات الشعوب وما قامت بها من الحضارات ودكته من الحصون وأحرقته من المدن وأفنته من الجيوش؟

- لقد مضت نشوة تلك الأيام يا سيدي. أيام اليونان والرومان حيث لم يكن للأمم غير فكرة الاقتتال والتطاحن والاعتقاد بكل أشكال الخرافات وبآلهة ومخلوقات تنزل من السماء وتحارب مع هؤلاء ضد أولئك، فالشعب اليوم لا يثق كثيراً بخيال الشعراء، ويريد منهم أن ينشدوا له الحقيقة والفضيلة والصلاح وإلا تخلّف عن سماعهم ومطالعة منظوماتهم

- وفي رواية لطيفة رقيقة تتضمّن وصف حوادث رجال ونساء يتحابون ويتخاطبون ويتراسلون ويتواشون ويتخاصمون ثم يعودون فيتصالحون ويتشاكون، وبعد كثير من المغامرات يتزاوجون ليعيشوا أغنياء سعداء في أحد فنادق لندن أو باريس؟

- نكون كمن يقرأ بالصينية أو اليابانية لجهلنا معاني هذه الحوادث وأسرارها، أننا لا نقرأ إلا روايات الخادمات والخائطات إذا روعيت في كتابتها شروط الحشمة والأدب كي لا تضطر ربات الأولاد إلى نزعها من جيوب البنين والبنات وطرحها في النار

- ما قولك في هذه القصص البسيطة التي تصف بيوت الشعب وعاداته وإصلاحاته وميوله وأخلاقه وصدقه وبؤسه وسعادته وحوادث أفراده بلغه سهلة كلغته وتعابير ساذجة كتعابيره

- في اعتقادي يا سيدي أن هذه هي الكتب التي تستهوي العمال ولا سيما زوجاتهم وبناتهم، لأن المرأة تمثل كل شعور الأسرة فمتى قرأت ربة البيت أو ابنته كتاباً ما، فكأن الأب والأخوة قرأوه أيضاً، فنحن أرواح المسكن، فما نحبه تحبه حتى الجدران، إن النفس تهذَّب في البيت أما العقل فيثقف في المدرسة

- يجب أن تكون حوادث هذه القصص حقيقية، أليس كذلك؟

- نعم لأننا نحيا الحياة الحقيقية، والحقيقة هي شعرنا

- وأن تكتب بلغة نثرية؟

- نعم لأنها أسهل علينا ونحن لا نحب إلا الذين يتكلمون مثلنا، يجب أن ينظم الشعر للطبقات العالية فقط لأنها أقدر على تفهم معانيه وحل رموزه، أو في الذكريات والحنين كما

ص: 55

أفعل أنا، لأن الشعر لا يتكلم عن حوادثنا ولا يقصها، بل هو ينشد لأنه صوت لا يخرج من النفس إلا في أشد حالات التأثر

(العصبة)

إسكندر كرباج

ص: 56

‌الأناشيد القومية المصرية التي نالت الجوائز في

‌المباراة الأدبية

(ننشرها على ترتيب لجنة التحكيم)

نشيد الأستاذ محمود محمد صادق

بلادي بلادي فداك دمي

وهبت حياتي فدى فاسلمي

غرامك أول ما في الفؤاد

ونجواك آخر ما في فمي

سأهتف باسمك ما قد حييت

تعيش بلادي ويحيا الوطن

غرامك يا مصر لو تعلمين

قصارى شعوريَ دنيا ودين

فمنك حياتي وفيك مماتي

وحبك آخرتي واليقين

سأهتف باسمك ما قد حييت

تعيش بلادي ويحيا الوطن

حياتك يا مصر فوق الحياةِ

وصوتك يا مصر وحي الإله

تعاليت يا مصر من موطن

على الدهر يبقى وتفنى عداه

سأهتف باسمك ما قد حييت

تعيش بلادي ويحيا الوطن

لك المجد معجزة الأولين

وما زال تاجك فوق الجبين

فتيهي بمجدك فوق الوجود

ومدى اللواء على العالمين

سأهتف باسمك ما قد حييت

تعيش بلادي ويحيا الوطن

مآثر مجدك تحت الثرى

تشيد بذكرك بين الورى

وهذي فتوحك في المشرقين

تعالت بمجدك فوق الذرى

سأهتف باسمك ما قد حييت

تعيش بلادي ويحيا الوطن

ص: 57

أيا مصر هذا لواء الهرم

على النيل يخفق منذ القدم

تمر عليه جيوش الزمان

تحيي اللواء تحيي العلم

سأهتف باسمك ما قد حييت

تعيش بلادي ويحيا الوطن

لك الشرق ألقي زمام القياد

فنعم الزعامة بين البلاد

فيوماً حملت لواء الفنون

ويوماً حملت لواء الجهاد

سأهتف باسمك ما قد حييت

تعيش بلادي ويحيا الوطن

يظلك عرش المليك الكريم

وترعاك عين العلي العظيم

ألست الكنانة في أرضه

وموعود جنته والنعيم

سأهتف باسمك ما قد حييت

تعيش بلادي ويحيا الوطن

بلادي بلادي إذا اليوم جاء

ودوَّى النداء وحق السماء

فحيي فتاك شهيد هواك

وقولي سلاماً على الأوفياء

سأهتف باسمك ما قد حييت

تعيش بلادي ويحيا الوطن

ص: 58

‌نشيد الأستاذ مصطفى صادق الرافعي

حُمَاةَ الْحِمى، يا حُمَاةَ الْحِمى

هَلُمُّوا، هَلُمُّوا لِمَجْدِ الزمَنْ

فقد صرخَتْ في العُروقِ الدِّمَا:

نموتُ، نموتُ، ويَحْيَا الوطن

هَلُمُّوا، هَلُمُّوا

لِتَدْوِ السماواتُ في رَعْدِهَا

لِتَرْمِ الصواعِقُ نِيرَانَها

إلى عِزِّ مِصْرٍ، إلى مَجْدِهَا

رِجالَ البلادِ وَفِتْيَانَها

فلا عاش مَنْ لَيْسَ مِنْ جُنْدِها

ولا عاش في مِصْرَ مَنْ خانَها

نموتُ ونَحْيا عَلَى عَهْدِها

حياةَ الكرامِ وموتَ الكرام

حُمَاةَ الْحمى، يا حُمَاةَ الْحِمى

. . . . . . . . . . . . . . . . . .

بلادي احكمي واملِكي واسعَدي

ولا عاش من لم يَعِشْ سَيِّدَا

بِحُرِّ دَمِي، وَبِمَا فيِ يَدِي

أنا لبلَادِي وَعَرْشي فِدَا

لكَ الَمجُدُ يا مِصُرُ، فاستمجدِي

بعِزَّةِ شَعْبِكِ طُولَ المَدَى

وَنَحْنُ أُسُودُ اُلْوَغَى، فاشهَدِي

وُثُوبَ أُسُودِكِ يَوْمَ الصِّدَام

حُمَاةَ الْحِمى، يا حُمَاةَ الْحِمى

. . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَرِثْنَا سَوَاعِدَ بَانِي الهَرَمْ

صُخُوراً، صُخُوراً كهذا البِناَ

سَوَاعِدُ يَعْتَزُّ فيها العَلَمْ

ُنبَاِهى بِهِ، وَيُبَاهِي بِنَا

وفيها كِفاَءُ العُلَى والهِمَمُ

وفيها ضمانٌ لِنَيْلِ الُمنَى

وفيها لأعداءِ مِصْرَ النِّقَمْ

وفيها لمنْ سالَمُونَا السلام

حُماةَ الحِمى، يا حُماةَ الحِمى

هَلُموا، هَلُموا، لمجدِ الزَمنْ

فقد صرختْ في العُروقِ الدّما:

نموتُ، نموتُ، ويحيَا الوطنْ

هلموُّا، هَلموُّا

ص: 59

‌نشيد الأستاذ محمد الهراوي

دعتْ مِصرٌ، فلَبينَّا كِراما

وَمصرُ لنا، فَلَا نَدَعُ الزّمامَا

قياماً تحتَ رَايتها، قيامَا

أمامكمُ العُلا، فامضوا أماما

هناكَ المجدُ يدعوكُم فهبوا

وليس يروعكم في المجدِ خطبُ

لعمرُ المجدِ ما في المجدِ صعبُ

تَردَّى الذُّلَّ منْ يخشى الحِماما

فنحن أُولو المآثر في العصور

وبينَ يديَ أبي الهولِ الهصورِ

وفي الأهرام، أو فوقَ الصخورِ

ترى آثارَ أيدينا جِساما

لنا مَجدٌ على الدُّنيا تَعالى

(بناهُ اللهُ يومَ بنى الجِبالَا)

رسمناهُ برايتنا هلالا

وننشُرها على الدنيا سلاما

لنا التاريخُ، فَياضَ المعاني

لنا الأسرارُ، مَعجِزةَ البيانِ

لنا عِلمُ الأوائلِ في الزمانِ

لنا الأخلاقُ، نرعاها ذماما

لنا ذِكرٌ مع الماضي، مَجيدُ

لنا أملُ، يَجيدُ بنا، بعيدُ

كذلك مِثلما سدنا نسود

ونرفعُ فوق هام النجمِ هاما

فيا وَادي الكِنانةِ لَنْ تَزولا

وفيكَ النيلُ يَجري سلسبيلا

يطوفُ بمائهِ عَرضاً وطولاً

ويبسطُ فَيضَه عاماً فعاماً

بِساطكَ سُندسٌ، وثِراكَ تِبرُ

وجوُّكَ مُشرقٌ، وشذاكَ عطرُ

ونهركَ كوثرٌ، وبنوكَ غُرُّ

أبوا في اللهِ والوطنِ انقساما

فإن لم نَستعزَّ بمصرَ حَولاً

ونَبسطْ ظلها صَولاً وطولا

وإن لم نَحمها فالموتُ أولى

نعم: فالموتُ، أو نحيا كِراما

نُعزُّ ضُيوفنا، ونقرُّ عيناَ

فلا نعدوُ، ولا يُعدى علينا

فإما مَسنا ضَيمٌ، أبينا

ونذكيها على العادي ضراما

فيا ابن النيل، هُزّ لواَء مِصرا

وهيئ في النجوم لَهُ مَقرا

وأطلعْ بالهلال عليه فجرا

وعش في ظلهِ العالي إماما

ص: 60

‌أغنية.

.

إلى الحلم. .

بقلم العوضي الوكيل

إذا خَدرتْ عيني من طول ما أرنو

وأتعب هذا الجفنَ إمعانُ إيماءِ. .

إذا ما استباني في مطالعكَ الفنُ

وبتُ لديه ساهراً دونَ إغفاءِ. .

إذا ظمئت روحي فأغرقها دنُّ

من الحسنِ ممزوجٌ سناهُ بأعضائي

إذا ما عراني من مطالَعَتي وهنُ

وباتَ كِياني، من عياءٍ، كأشلاءِ

فدعنيَ أحلم لحظة بك في نفسي!

إذا ماجت الدنيا، وجن جنونها

وثارت براكين، وهاجت كواكب

وغال جميعَ الناس فيها مَنُونها

ولاحت بقاعُ الأرضِ وهي خرائبُ

وصوِّحت الدنيا، وبادتْ فنونها

فلا شيء إلا وهو في الرمسِ غائبُ

فدعني أحلمْ لحظةً بِكَ في رَمسي!

دار العلوم العالية:

العوضي الوكيل

ص: 61

‌القصص

هواجس

بقلم حبيب الزحلاوي

قلت لصديقي: لك الله من رجل غريب الأطوار! لقد أضفتنا الليلة ودعوتنا إلى تناول العشاء معك، فأين المطعم وأصناف الطعام المطبوخ من هذه الحانة والزجاجات والأقداح (والمزات) آليت على نفسك مخالفة المألوف واتباع هوى النفس وبداواتها في كل شيء؟؟

-: خل عنك يا صاح الملاحظات والمعارضات لأننا في ليلة خمر وانتهاب لذة، هيا أيها الرفاق إلى الأقداح الدهاق نقرعها، والى الزجاجات نفرغها في أجوافنا، فتمشي فينا الحمّيا، فتدور رؤوسنا فتسابق الدورات الزمنية، وبذلك نطوي الصفحة القاتمة من تاريخ الحزن الماضي وعقابيله المؤلمة، ونستقبل حياة جديدة بنفس مشعشعة وفرحة وضاءة

- أي حزن تعني؟ لأن أحزان هذا العصر تشملنا من كل صوب وتغمزنا كل مغمز!!

على رسلكم أيها السادة، جئنا لنشرب ونطرب لا لنتزمت ونتفلسف، لندع عنا تقعرات صاحبنا هذا الذي يود مسابقة الدورة الزمنية ليطوي الحزن وعقابيله!! أما أنا فوالله العظيم لا أعرف كلمة عقابيل هذه ولا سمعت بها، إنما أعرف ماركات زجاجات الوسكي كلها، وأتذوق شرابها وأميزه، وأحسن الفتك بأفراخ الحمام والدجاج، ولا أتورع عن البطش بهذا الديك الرومي نكاية بفنزيلوس

وقال آخر: اشربوا واطربوا أيها الرفاق، فوالله ما عرفت سر عجيبة السيد المسيح الأولى وقد حول الماء إلى خمر، إلا وقتما صرت أنكر قول الحكيم سليمان:(قليل من الخمر يفرح قلب الإنسان)

- ليس الحق في جانب سليمان الحكيم، لأن القليل من الخمر يفرح القلب الضعيف. أما الكثير منه والعبّ الوفير من ذوبه الذهبي فيحيي العقل والقلب والروح!!!

- راعوا أيها الإخوان حرمة وسدانة الحانة التي أنتم فيها وصونوا ألسنتكم عن الاستشهاد بالآيات وذكر العجائب في مكان آيته الكبرى خمرته البكر وعجيبته الغادرة، دعوة صاحبنا إليه، وأنا الذي تعرفني حانات المدينة كلها، ولا تجهلني إلا هذه البؤرة التي لا يسكنها سوى شيطان مثله ليتوارى عن أعين الناس

ص: 62

- صه أيها الخبيث ولا تحاول نبش أسرار الناس، فقد يقودك الحظ إلى هذه الحانة فترى الهناء يبسط أجنحته عليك وحدك، عليك وحدك، أفهمت أيها الخبير الفني بحقوق الاتصال؟؟

كلا لم أفهم بعد!! إنما يبدوا لي أن مفتاح سر تعاطيك المسكر والتدخين في شهر معلوم ثم انقطاعك عنهما، إنما هو مدفون في هذه الحانة التي لا يعرفها سوى الراسخين في علم التستر والتخفي

ضحك الرفاق لهذه المداعبة الظريفة وسأل أحدهم الداعي قائلاً، ما معنى أنك لا تشرب الوسكي إلا من ماركة (كناديان) ولا تدخن السجاير إلا من ماركة (لكي ستريك)؟ وسأل الثاني: لماذا تندّ الليلة عن الشرعة الشاذة التي اشترعتها لنفسك في الخمر والتدخين وموعد تعاطيك إياهما لم يئن بعد؟ وقال الثالث: أحسب أن دعوة الليلة إنما هي لتوديع الشباب والكهولة وقد ذبل ويبس منها الورد والثمر والغصون

فصاح صائح: اسكتوا اسمعوا، لنشرب هذه الكأس على ذكر داعينا وقد ودع الخمسين من عمره السعيد منذ عشر سنوات خلت. . . فقاطعه آخر وقد انتصب على الكرسي قائلاً: بل نشرب نخبه وقد عاد إلى العاشرة من عمره لأن التقدم بعد الخمسين إنما هو نكوص وتراجع!!! وهكذا كان الرفاق بين ضاحك وناقد وظريف لطف دبيب الخمر ذوقه، وبين صامت يشتف ما في الكأس روية، ومالتها مترعة، هذا يشرب بلا انقطاع، وذاك يهمش اللقمة ويمضغها ويضحك، وذلك يفتك باللحم يلته بالتوابل ويزدرده، وواحد غمه الطعام والشراب فثقلت معدته وجاشت نفسه فانتحى الزاوية ولبد والظريف في هذا الحفل أنهم كانوا يتكلمون جملة، ويضحكون ويقهقهون بجرس واحد، ولا يستمعون إلا إذا صاح بهم صائح جاف، وهكذا أنصتوا للقائل بصوت أجش

لكم الله من ضيوف كثيري الجلبة واللغط، اشربوا واطربوا فخير الشراب ما كان كغناء المغني يعبر عن حزن دفين وإن كان يبدو أنه يعرب عن الطرب والسرور

وقعت العبارة في نفوس الشاربين موقع الجمرة في الماء، تنطفئ ولكنها تترك أثرها، وتصعد بخارها، وتئن أنه الموجع

كاد السكوت يسود المجلس، ويعتري المتنادمين فتور السكير وكظة الآكل لو لم يقل أحدهم:

ص: 63

حقاً إن الغناء تجاوب وجداني لحزن دفين وذكريات مؤلمة كانت في الأصل نتيجة لوقائع خاصة أو طوارئ مفاجئة طرأت على الإنسان فغيرت سير حياته فجعلته رهين قيود وأسير أوهام لم يقو على التخلص منها والإفلات من إسارها وعبوديتها!!

هل وراء هذه المقدمة حديث غرام؟

بلى يا صديقي، حادث غرام قديم، عبثاً حاولت الإنعتاق منه وكنت إذاءه كفراشة تفتش عن طريقها في نور المصباح وهي تجهل أنها صائرة إلى الاحتراق

ليكن حديث الليلة إذن عن الوقائع الغرامية وطوارئها ذات الأثر في النفس، وأحسب أن طبيعة اجتماعنا ومفاجأة صديقنا إيانا بالشراب، ودعوتنا إلى الاشتراك معه، على حد قوله، في طي تاريخ الحزن ونشر أعلام حياة جديدة على أضواء الخمرة المتلألئة مهيأة لحكاية غريبة نادرة يقصها علينا، وقد تكون حكاية تعاطيه الخمر والدخان في شهرين فقط من شهور السنة، أليس حدسي صادقاً يا صاحبي؟

سكت صاحبنا ولم يشر بحركة تدل على النفي أو الإثبات

قال أحدنا: من منا لم تصدمه حادثة غرام حولت سير حياته وبدلت نظامها المألوف؟ إنما لبعض صدمات الحب قوى عجيبة ودوافع غريبة تنتقل بالمرء من حال إلى عكسه، ويتوقف ذلك على نحيزة الإنسان لا على طبيعة الصدمة

موضوع لذيذ، إي والله إنه لموضوع مستحب، يجانس طبيعة نفوسنا الدافئة بنار الخمر، إني لأقترح عليكم أيها الرفاق، وكلكم لوى عنقه عن الشباب، وطوى كشحه عن. . الكهولة عفوا عفوا، أريد أن أقول كلكم فتى القلب، شاب الروح و. .

صه يا ثرثار، ودع عنك اللغو فليس وقته الآن

سكت، وأنصت الجميع للراوي الأول حكاية مغامراته في شبابه وهي تحمل نطفة الموت مع جرثومة الحياة كذكور النحل، وأنصتوا للمتكلم الثاني، وقد أظهر وقائع بطولته في الإغراء وانتصاراته على المرأة بالخداع، وتكلم الثالث عن غرامياته وقد أوحت إليه نظم الشعر وتأليف الحكايات

وقص الرابع والخامس قصصاً فردية كسابقتها لا صلة لها بصميم الحياة ومشاكلها، فلما انتهى الأمر إلى صاحب الدعوة قال: أقص عليكم قصة طريفة نادرة، فيها درس وقد لا

ص: 64

تخلو من لذة

(يسرني أيها الأصدقاء، وقد دعوتكم إلى الاشتراك معي بفرح وحزن لا شأن لكم بهما، أن أطلعكم على سرهما وقد لزمني خمس عشرة سنة، ولأن في الأفراح كما في الأحزان إنبثاقات من نور تهدي الإنسان إلى سمت الوجود، وتجعل الحياة نفسها عذبة مشتهاة، فأصغوا إلى قصتي واعلموا أن الحياة هي الحياة في الفتى والشاب والكهل والشيخ، إنما الفارق هو في قوة الشعور وخصائص الوعي، قد يحب الكهل بقوة وحرارة تماثلان حب الشاب، وقد يعشق الشيخ ببراءة وسذاجة عشقاً يضارع عشق الفتى، إنما الرجل من يحتفظ بتوازنه، فلا يشتط في أطوار الحب وهي مرافقته ولا بد حتى اللحد، ومن يستضيء بنور نفسه لا يضل السبيل، وبذلك تسعده شاعريته ويفرحه روحه وينعم بلذة وجوده الإنساني)

المقدمة بارعة، والاستهلال حسن؛ فهات القصة فكلنا لك سامعون

(رن جرس التلفون، تناولت السماعة وأثبتها على أذني، وإذا بي أسمع صوت امرأة تناديني باسمي وتقول إنها قادمة من أمريكا لزيارة الشرق واستعادة ذكريات طفولتها فيه، وإن اسمي في مقدمة أسماء من وطدت الأمر على مقابلتهم، وإنها ستكون سعيدة إذ تراني يوم الاثنين بعد غد في القاهرة، فقلت لها: انه يسعدني لقياها الليلة في الإسكندرية لأني أسافر في قطار مساء اليوم، فأقضي نهار الأحد فيها كعادتي في فصل الصيف، وسألتها عن أسمها فأجابت: ستعرف اسمي قريباً، وقالت: إن لقياك بي في الإسكندرية تعطل على خطة الريادة؛ وتفسد طريقة الاستكشاف التي رسمتها لنفسي. فقطعت عليها الكلام وقلت مازحا: إني لست واحة في صحراء مجهولة، وإنك لست (روزتا فوربس) تقتحم الصحاري لتصف الحياة فيها تحت إطناب الخيام ومضارب الأعراب الأشداء، فأجابت قائلة: أرجوك الاحتفاظ بهذه الاعتراضات إلى حين اللقاء في القاهرة، وألا تزاحم المرأة في فضولها وبداواتها، وودعت فانحبس الكلام

أرجعت السماعة إلى مكانها، وأخذت أستعيد في ذاكرتي وخيالاتي نبرات الأصوات، وصور النساء اللواتي عرفتهن، فلم أهتد إلى واحدة يوائم صوتها صوت المرأة المجهولة التي حدثتني

امرأة من أمريكا تعود إلى الشرق لاشك أنها سورية، ولقد هاجرت من سورية منذ نيف

ص: 65

وعشرين سنة ولما أبلغ العشرين بعد، ولم يكن لي فيها علاقة غرام بسوى فتاة حالت الحوائل دون استمرارها وديمومتها، وأنها تزوجت برجل تقيم معه في سلام ووئام في لبنان، فمن هي هذه السيدة المتأمركة يا ترى؟

أف للمرأة المشغلة المعطلة، لم لا أركب قطار الظهر إلى الإسكندرية فأشبع ناظري برؤية البرية الخضراء المنبسطة، وأبهج نفسي بمشهد الشمس حين المغيب، تخضب الزاخر من موج البحر بدمها المسفوك وذهبها المذاب ونارها المتقدة؟! لم الذهاب إلى رئيس عملي أقف بين يديه وقفة المستجدي، وقد يستجيب رجائي بعد أن يغمرني بفيض من المنة أو يرفض ويتأبه ويتعالى، الأجل كلمات سمعتها بالتلفون من امرأة مجهولة قد تكون من المغامرات وقد تكون شيئاً آخر لا أملك وصفه أو الحكم عليه؟! أمن أجل هذه المرأة أنقض قانون العمل وأعرض نفسي لما لا قبل لها على احتماله من الرؤساء، أبلبل ذهني وأضنى أعصابي بتفكير سخيف، وشهوة باطلة، وأوهام أنسج خيوطها من اللاشيء تحقيقاً لبداوات امرأة لا أعرف وأجهل مقرها، وقد رفضت أن تتلقاني في الإسكندرية (كي لا أعطل عليها خطة الريادة وأفسد طريقة الاستكشاف التي رسمتها لنبش قبر (توت عنخ آمون) حي هوانا؟؟!!

لا لا. . . سأواصل عملي حتى موعد الانصراف ثم أسافر إلى الإسكندرية أقضي راحتي الأسبوعية فيها كالعادة

امرأة ممشوقة العود، عريضة الجبين، عسلية العينين، هدباء وادعة النظرات، آثار صباها بادية واضحة، وقفت هذه المرأة تجاهي في محل عملي المكتظ دائماً بعشرات بل بمئات السيدات من كل جنس ولون ومدّت لي كفاً ناعمة اللميس، طويلة الأصابع وقالت بصوت كسير لين أغن بعد أن تعلمت ابتسامة رقيقة بدت في ركني فمها دلالة تحرك النفس (جود مورنن)، وضغطت على كفي بكل ما في وسع المرأة التعبير عن المودة بالمصافحة

مرحبا بك يا سيدتي الأمريكانية وأهلا بهذه الطلعة البهية، قد رأيت صبحها منذ زمن بعيد. . . ولكن أين كان ذلك؟ في مصر، في الشام، في الطريق، في الكنيسة، أوه أكاد أقول لا أدري، هل لك أن تحرضي ذاكرتي على التذكر؟؟!

أحسب أن من كان مثلك في محل عملك هذا المتألق بأنماط من أنواع الخليط قد تضيق

ص: 66

ذاكرته، فهل الأسماء والكنى مكتفية بالملامح والصور، وإني لعاذرتك على نسيانك إياي وقد افترقنا بالفعل منذ زمن بعيد

- كان افتراقنا قبل ثلاثين سنة أو أزيد. أليس كذلك يا سيدتي؟

- لا تعرف السيدات أعداد السنين التي تحصى أعمارهن بالضبط

- عفواً يا سيدتي ما إلى هذا رميت، إنما لأتذكر، ولكن أين كان افتراقنا؟

قالت: أتذكر فلاناً. . . (وقد ذكرت اسمه) وقد كنت معه في مدرسة النهضة الأولية في دمشق؟

قلت: نعم أذكر ذلك

قالت: هل نسيت أخته سلمى وقد كانت تمزق لك أوراق (المزامير) فتضطرك إلى إستحفاظ (المزمور) غيباً عن كتاب أخيها وكنت تتظاهر أمام معلم الكتاب أنك تقرأ في الكتاب لا عن ظهر قلبك؟

قلت: إني لذاكر ذلك، وأحسب أنك ابنة خالتها وقد كنتما سوية في المدرسة المسكوبية

قالت: كنت أخا لك قوي الذاكرة قديراً على استعادة ما طبعته الطفولة في لوحة حوادثها النقية، ولفظت عبارتها هذه برزانة وتأمل

شاعت أحاسيس مضطربة مؤلمة في جوانب نفسي فشعرت بضنى الخيبة والفشل، وفجأة تيقظت فيّ عوامل الانتباه بعد إذ توجه شعوري وتمركز فأصبح الخاطر الغامض واضحاً جلياً لديّ، فقلت بعد أن مررت بأطراف أصابعي على جبهتي الندية في صياح: الآن تذكرت، الآن تذكرت، أنت الفتاة اللعوب أنيسة. . وكنا جيرانكم في بيت واحد وقد قبضت عليك مرة متلبسة بسرقة رمانتي وقد استبدلتها بتفاحة من عندك، وفي مرة أخرى رأيتك تدسين في محفظة كتبي قلماً رصاصياً وصورة بديعة للعذراء مريم

تضاغطت شفتاها فكتمتا ابتسامة حلوة وقالت: نعم أنا هي أنيسة وقد كنت لا تنفك تتحداها بتلاوة الكلمات الفرنسوية وتركيب جمل منها

أوه يا أنيسة كم أنت طيبة القلب فقد وضعت اسمي في مقدمة الأسماء التي أزمعت على مقابلة أصحابها بعد الغياب الطويل، أما أنا فقد نسيتك لتقادم العهد وجور السنين، وقد طوحت بنا في قطرين متباعدين. . . . . وكدت أخب في الحديث معها وفي استعادة

ص: 67

ذكريات الطفولة، لولا نظرة مستسرة غامضة لمحتها في عيني صاحب العمل وقد مر بنا في هذه الفترة فطويت الكلام واختزلت الحديث ورجوتها أن تدلني على الفندق لأقابلها في المساء لنتعشى معاً

أدركت موقفي فمدت يدها للوداع قائلة: أنتظرك على شرفة (الكونتنتال) وقد قرأت على قسمات وجهها إمارات عاطفة رقيقة حلوة فيها هدوء النفس المطمئنة وخلوص السريرة)

(البقية في العدد القادم)

حبيب الزحلاوي

ص: 68

‌درامة من اسخيلوس

2 -

الفرس

للأستاذ دريني خشبة

- 4 -

وتبدي الملكة مخاوفها على أبنها حينما تذكرت اندحار جنود زوجها في حربه مع هيلاس، ثم يصمت الجميع حينما يلمحون في ظلام البعد فارساً أعجمياً يطوي الأفق، مقبلاً من الغرب، وهو مقبل لا شك من ميدان القتال. . .

(يدخل الرسول)

- (السلام على كرام سوس و. . . و. . . بلاط الأ. . .)

- (ماذا بك أيها الرسول؟! تكلم. . . ما وراءك؟)

- (. . . يا لشؤمي!. . . أشأم من الشؤم نقل أخبار الشؤم يا سادة!. . .)

- (أي شؤم أيها الرسول؟. . . تكلم. . . تكلم. . .)

- (الجيش. . .!

- (الجيش؟ ما للجيش!)

- (تبدد!. . . استؤصلت شأفته. . . وشالت نعامته!)

- (يا للكارثة!. . . أسعدي يا دموع الفرس! يا للجد العاثر، والمجد الغابر، والسلطان المهيض!)

- (طاشت الآمال، وخابت الأماني. . . والتهمت النيران عزة فارس!)

- (يا ويح لنا!! يا رحمة لك يا دارا؟ أهكذا خلفتنا لنشيخ مع الزمان، وليرزح مشيبنا تحت هذا الضغث من الأشجان؟. . . يا للهم المفاجئ، والضربة اللازمة!

- (لقد رأيت كل شيء! وخضت المعمعة مع الخائضين. . يا للشجو. . . يا للشجو!)

- (الجيش؟ تحطمت قوة فارس! ويلاه! ألهذا الدمار حشدت زهرة بنينا؟. . . الحول والطول، والقوة والجبروت، والعدد والعُدد. . . طاشت جميعاً؟. . .)

- (لقد طفت جثثهم في اللجة الدامية عند سلاميس! ولم تنفعنا الجحافل ذات العدد والعُدد!

ص: 69

ما أبغض هذا الاسم! سلاميس. . . سلاميس! وأثينا! يا للذكريات السود!)

وعيل صبر أتوسا، فسألت الرسول أن يقص الخبر كاملاً كما وقع، فانطلق يروي المأساة، ويصور الهزيمة، برغم تفوق الفرس على اليونانيين في العدد، وبرغم أن لهم أسطولاً ينيف على ألف سفينة كاملة العدة، في حين لم يكن لهيلاس كلها غير ثلثمائة. . . (. . . ثم انقضت سفنهم على أسطولنا الضخم فأوقعت به وأعملت النيران فيه، وكنا ننظر في الأرض فنجد جندا، وفي البحر فنجد جندا، وفي السماء فنجد جندا. . . وأنا لا أقول إلا أن آلهة أثينا كانت تدافع عن أوطانها مع الأثينيين. . . وهكذا تمت هزيمتنا. . . وقتل كل قادتنا، ولاذت الفلول القليلة التي أفلتها القتل بالفرار. . .). . . وكان الرسول بارعاً أيما براعة حينما ذكر هتاف اليونانيين بجنودهم فوق الشاطئ: (أيها اليونانيون هلموا. . .! أنقذوا هيلاس، وخلصوا أطفالكم ونساءكم، واحفظوا قبور آبائكم، واحموا هياكل أربابكم، وأقداس آلهتكم. . . من العبودية!! قاتلوا! وفي سبيل الوطن من استشهد منكم!!)

- 5 -

وكان الرسول لم ينته من سرد قصته بعد، حين صرخت أتوسا المرزّأة، وحين تناوح المشايخ النجب من هول ما سمعوا

قال الرسول: (وليس هذا فقط يا سادة، بل هناك مصيبة المصائب لما يجيء ذكرها بعد. . .)

- (وأية مصيبة أهول مما سمعنا أيها الرسول!. . . قل، تكلم!)

- (ذؤابة الجيش. . . النبلاء. . . مجلس شورى الإمبراطور. . . لقد كانوا يشرفون على المعركة من ربوة في جزيرة عند سلاميس. . . وما كادت النهاية المحزنة تتم حتى أحدق بهم اليونانيون من كل فج، فمزقوهم إرباً، وساروا برؤوسهم فوق أسنة الرماح يتغنون وينشدون ويهتفون. . .

- (والإمبراطور!)

- (لاذ بالفرار يا سادة، في بعض الكواكب التي نجت قبيل النهاية!)

- (وفلول الجيش!)

- (من لم يذق كأس الردى في المعركة، تشرد في آفاق هيلاس، ومات من جوع ومن ظمأ.

ص: 70

لقد كانت الفصائل تهيم على وجهها في برية موحشة، فإذا بلغت إحدى مدائن اليونان أبى أهلها أن يطعموها. . . فتموت جوعاً!)

- (ثم؟. . .)

- (ثم عبرت البقية الباقية المنهوكة مياه الهلسبنت، على أن الأكثرين ماتوا ثمة غرقاً. . . لأن آلهة الأولمب أرسلت العاصفة على قنطرة السفن الضخمة فغاصت بمن عليها في الأعماق. . .)

وتكون الإمبراطورية المحزونة قد بلغ بها الجهد ونال منها الأسى، فتذهب لتقرب للآلهة وتصلي لأربابها عسى أن تخفف من أثر الفاجعة، وتوصي، إذا وصل ابنها الإمبراطور قبل أن تعود أدراجها، أن يتلقوه بالبشاشة، وأن يهونوا عليه قدر ما يستطيعون

- 6 -

ويفتأ المنشدون - السادة الأشياخ النجب - يبكون حظ فارس العاثر، وينعون على أجزرسيس سوقه زهرة شبابهم إلى المهالك، ويذكرون بالخير والأسف إمبراطورهم الراحل - دارا، الذي صان البلاد ووقاها هذه العاقبة السوداء، التي ردّاها في أغوارها ولده من بعده. . . الإمبراطور الطائش الذي ذهب على وجهه بعد الهزيمة ميمما شطر الهلسبنت ليهرأه البرد، ويعصره شتاء أبيدوس القارس. . . ثم يستهولون العاقبة التي تتبع الهزيمة المروعة من غير ريب. . . وإنها لا بد آتية. . . فسينتفض الناس على عرش فارس وستثور الولايات. . . وتستقل مصر. . . وتخلع ليديانير الأعاجم. . . وتنتثر حبات العقد. . . وقد تتحطم الواسطة نفسها

وفيما هم يتناجون ويتباكون، إذ تقبل آتوسا البائسة! وهي تقبل هذه المرة لتذرف دموعها كرة أخرى. . . وهي تقبل مترجلة. . . لا تحملها عربتها الملكية المسرجة. . . ولا تجرها الخيول الفارسية المطهمة. . . (لأنه لا أبهة لهذا البلاط بعد اليوم، ولا صولة ولا صولجان. . . إن المخاوف تحدق بي. . . والوسواس تصرخ في وجهي، وتملأ صيحاتها المنكرة أذني. . . وقد حملت أضحية لروح زوجي، وقرباناً من اللبن الأبيض، وشهداً اشتاره نحل آذار. . . وخمراً. . . عتقتها أحداث المجد التالد. . . وزيتاً من تلك الزيتونة الشرقية الوارفة. . . التي يا طالما تفيأ ظلالها دارا. . . ووروداً ورياحين، ومن كل ما

ص: 71

تنبت الأرض. . .)

- 7 -

ويصلي الجميع على روح دارا. . .

وينشدون نشيداً طويلاً كله ثناء وكله حمد. . . ويبتهلون إلى روح عاهلهم الراحل أن تطلع عليهم من عليائها لتخفف من أحزانهم، وترفه عنهم من أشجانهم

- (هلم! هلم يا مولانا العظيم إلينا! إن ظلمات الأسى تغشى قلوبنا فاقشعها بسنى فضلك وضياء حكمتك! هلم فقد أودى شبابنا في العاصفة الهوجاء! هلم! إننا نركع أمام قبرك، فابدُ لنا، وأدرك إمبراطوريتك!)

(يبدو شبح دارا)

(لها بقية)

دريني خشبة

ص: 72

‌البريد الأدبيّ

كتاب البديع لابن المعتز

كانت دار الكتب المصرية قد حصلت في العهد الأخير على نسخة فوتوغرافية من كتاب (البديع) لعبد الله بن المعتز الخليفة والشاعر العباسي الأشهر، وذلك نقلاً عن النسخة الوحيدة الموجودة من هذا الكتاب والمحفوظة بمكتبة الأسكوريال بمدريد تحت رقم (328 أدب)(فهرس الغزيري - وفهرس ديرنبور) وحصلت أيضاً على نسخة فتوغرافية لأثر آخر من آثار ابن المعتز وهو كتاب مختصر طبقات الشعراء المحفوظ أيضاً بمكتبة الأسكوريال رقم (279. أدب)(من الفهرسين المذكورين)

وقد ظهر الأثر الأول أي كتاب البديع أخيراً مطبوعاً عن نسخته الوحيدة المذكورة، وقام باخراجه المستشرق الروسي الكبير الأستاذ أجناس كراتشكوفسكي عضو أكاديمية العلوم في لننجراد، ومهد له بمقدمة بالانكليزية، وصححه وعلق عليه، وذيله في طبعة بديعة، وقامت بإصداره (لجنة تذكار جب)، الإنكليزية الشهيرة، وهو المجلد الثالث والعشرون من مجموعة جب. وقد قامت لجنة جب حتى اليوم على إخراج طائفة نفيسة من الآثار العربية المخطوطة، نذكر منها بالأخص كتاب أخبار مصر وفتوحها لعبد الرحمن بن الحكم المصري، (ومهد له وعلق عليه المستشرق تشارلس توري)، وكتابين لأبي عمر الكندي، هما: أخبار أمراء مصر، وأخبار قضاة مصر (ومهد لهما وعلق عليهما المستشرق جست) مع مختارات من كتاب رفع الأصر عن قضاة مصر لابن حجر العسقلاني

وكتاب البديع لابن المعتز يعد من أمهات الكتب في موضوعه، وهو أيضاً من أشهر وأنفس آثار ابن المعتز

وعسى أن نسمع قريباً بأن هنالك من يعني بإخراج كتاب (مختصر طبقات الشعراء) فتصبح بين أيدينا مجموعة قيمة متنوعة من آثار ابن المعتز

ذكرى أدبية شائقة

لإنكليز ولع شديد بإحياء بعض الذكريات القومية الغربية، وقد احتفل أخيراً في لندن بإحياء إحدى هذه الذكريات الشائقة، وهي ليست ذكرى عظيم أو حادثة شهيرة، وإنما هي الذكرى المئوية لصدور كتاب ما زال يتمتع بين آثار الأدب الإنكليزي بشهرة واسعة، ذلك هو

ص: 73

كتاب (أوراق نادي بكويك) بقلم الكاتب الشهير تشارلس دكنز

ففي مارس سنة 1836 صدر القسم الأول من هذا الأثر الأدبي الخالد؛ وكان تشارلس دكنز في ذلك الحين ما يزال فتى مغموراً في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وكان قد بدأ حياته الصحفية وأحرز شيئاً من النجاح برسائل كان ينشرها في (المجلة الشهرية) بعنوان (صور) بقلم بوز يصف فيها خلال العصر وعاداته بأسلوب طريف، وكان من الظواهر الأدبية في ذلك العصر أن تصدر دور النشر قصصاً رياضية مصورة بأسلوب فكاهي، وكان هذا النوع من القصص ذائعاً جداً. فتقدمت دار النشر المعروفة باسم (تشابمان وهول) إلى الكاتب الفتى تشارلس دكنز بأن يضع لها قصة من هذا النوع تتعلق ببعض المغامرات الرياضية، ولكن دكنز اعتذر بعدم خبرته في الشؤون الرياضية وبأنه لا يستطيع أن يضع أية قصة من هذا النوع فعدل عن هذه الفكرة وتركت الصفة الرياضية، واتفق على وضع مذكرات قصصية شائقة تمثل الحياة اللندنية الصميمة، وأن يشترك في تصوير مناظرها الرسام الشهير (فيز)، وهكذا صدرت النشرة الأولى من أوراق نادي بكويك ومعها مقدمة بقلم سام ويللر؛ وتصور هذه القصة الشائقة شخصية مدهشه غريبة الأطوار هي شخصية (بكويك)، وتصور حياة المجتمع الإنكليزي المتوسط في هذا العصر وبخاصة حياة المجتمع اللندني تصويراً بديعاً شائقاً، ويقدم إلينا دكنز مستر بكويك في ألوان طريفة مضحكة جداً؛ وقد اشتهر أمر هذه السلسلة منذ ظهورها، وكان القراء ينتظرونها بفارغ الصبر؛ وكانت في الواقع فاتحة مجد دكنز، وفي سنة 1937 طبعت هذه السلسلة لأول مرة في مجلد واحد، وذاعت ذيوعاً عظيماً

وقد احتفلت أخيراً في لندن جماعة تشارلس دكنز بإحياء هذه الذكرى الشائقة ونظمت موكباً تاريخياً استعادت فيه شخصية مستر بكويك وصحبه، وارتدوا ثياب ذلك العصر، وركبوا مركبات مما كان يستعمل في ذلك العصر، وشقوا شوارع لندن؛ فكان احتفالاً ظريفاً شائقاً

عميد كلية العلوم

اجتمع مجلس كلية العلوم بالجامعة المصرية في الأسبوع الماضي لانتخاب عميد الكلية، فحصل صديقنا الدكتور احمد زكي أستاذ الكيمياء ووكيل الكلية على تسعة أصوات، وهي أصوات جميع الأساتذة - مصريين وأجانب - وحصل الأستاذ حسن أفلاطون بك على

ص: 74

ستة أصوات، والدكتور علي مصطفى مشرفة على خمسة أصوات

وستعرض هذه النتيجة على حضرة صاحب المعالي وزير المعارف لاختيار أحد هؤلاء الثلاثة لعمادة الكلية

ومما يجمل ذكره أن الدكتور أحمد زكي كان أول مصري يجمع أساتذة الكلية المصريون والأجانب على انتخابه عميدا للكلية منذ أنشئها، وكان قد انتخب للعمادة منذ ثلاث سنوات إلا أن وزارة المعرف في ذلك العهد البغيض حالت دون إقرار الانتخاب

تعليقات أدبية: درامات شو في مصر

تمثل الفرقة الأيرلندية التي تزور مصر هذه الأيام نخبة من الدرامات العالمية ومنها بعض درامات شو، ونحن نتساءل: هل تنجح درامات شو إذا نقلت إلى العربية وأديت على المسرح المصري؟ وللإجابة على ذلك نضع بين يدي القارئ هذه الملاحظات التي أخذناها على الكاتب الأيرلندي الكبير:

1 -

يتبع برنرد شو في حواره أسلوباً فلسفياً قد يستطيل حتى يغمض، والحوار الفلسفي الممل يقضي على الحياة فوق المسرح ويجعلها مملولة إلى حد ما، إن لم يكن كل الملال. ولهذا قد يكون من الخير أن تقرأ شو لا أن تره على المسرح. ويكفي أن تلقي نظرة على دراماته والأسلحة والإنسان، وقيصر وكليوبطرة، ثم على ملهاته ليتأكد لك ما نقول

2 -

يتقمص شو الفيلسوف جميع شخصيات دراماته فينطقهم بكلام فلسفي، ويرهقهم بألوان من التفكير لا نحسب أن مثلها يصح أن يدور في خلد أحد منهم. وهذا تعسف لا يطيقه المسرح ولا سيما في مصر. ودرامته دليل واضح على ذلك. ففي هذه الدرامية القديمة التي كتبها منذ 25 سنة تسمع الفكرة السامية المعقدة من لسان (عربجي) كما تسمعها من لسان (المتشرد) كما تسمعها من لسان رجل الدين - وفي فم كل من هؤلاء تسمع صوت جورج برنرد شو وتلقي فكرته

3 -

كثيراً ما يعرض شو بالدين ويستهزئ برجاله وإن كان من رأيه أن التدين ضرورة من ضرورات الحياة لا غنى للبشر عنها، وفي روايته (بلانكو بوسنت) التي هاج بها الرأي العام عليه منذ نحو ربع قرن والتي أستدعى من أجلها لمناقشة أمام مجلس العموم البريطاني بعد إحراقه الأعداد المطبوعة شاهد على ذلك. وهو يبدو متعسفاً في كثير من

ص: 75

مآخذه على الأديان والمتدينين

4 -

يتبع برنردشو في أكثر دراماته طريقة الكاتب النرويجي الكبير هنريك إبسن وهي (الهدم ولا بناء - وتشخيص الداء. . . ولا دواء) وهي طريقة وعرة تثير التشكك في أذهان النظارة وتتركهم حيارى على غير هدى. على أن إبسن يفضل شو في بيانه السلس وطريقته السهلة وعدم حشو دراماته بنتف لا لزوم لها

جيمس جويس والأدب الجنسي

كان الكاتب الإنجليزي الشهير د. هـ. لورانس زعيم الأدب الجنسي إلى ما قبل بضع سنين في إنجلترا، فلما مات تربع جيمس جويس على عرشه، وإن كان الكاتب الروائي ألدوس هوكسلي يرنو إلى هذا العرش وهو في نظرنا أشرف من أن يتربع عليه

ولقد أمعن كل من لورانس وجيمس جويس في نشدان اللذة وتحبيبها إلى الشباب والتمتع بكل ما في الحياة من نعيم جسمي والاستهانة بأوضاع الدين وتقاليده، فلورانس في روايته الوضيعة (عشيق لادي شاترلي) يبيح للزوج الأشل أن يسمح لزوجته أن تأتي لهما بولد من رجل آخر. . . وهكذا تنتصر الدعارة على الزوجية، وينقض المنزل السعيد الهانئ على من فيه

وقد كتب جويس قصته الأخيرة (أولسس) وجرى فيها على شرعة لورانس ومنهاجه، فهو يتناول العورات المستورة وما خلقها الله له بأفحش أسلوب، وأخس تصوير، وكل من لورانس وجويس يثيران في نفس القارئ أحط ضروب الشهوات، ولذا كان مذهبهما في الأدب لوناً من الدعارة المكشوفة وقفت له الحكومة البريطانية بالمرصاد، فلم تسمح بطبع كتبهما في المطابع الإنجليزية، ولم تبح تداول هذه الكتب في إنجلترا، وخيرا فعلت

أما نحن. . . فنقرأ لورانس وجويس في مصر. . . ولا رقيب على شبابنا من الحكومة!

د. خ

نتيجة المباراة الأدبية الرسمية

انتهت ثماني لجان الحكم في المباراة الأدبية الرسمية من الفصل في ثمانية موضوعات ومنحت المكافآت للفائزين فيها، وبقيت ثلاث لجان لم تفصل اللجان المختصة فيها وهي:

ص: 76

1 -

أثر الحافز الشخصي

2 -

عدة النجاح لرجل القرن العشرين

3 -

علاج مشكلة البطالة

وننشر فيما يلي أسماء الناجحين في الموضوعات الثمانية التي فصلت اللجان فيها وقيمة الجوائز التي منحت لكل منهم:

الموضوع الأول - رسالة الأزهر في القرن العشرين

الفائزون: الأساتذة: أحمد خاكي المدرس بمدرسة الأمير فاروق ومنح ثمانين جنيهاً، وأحمد توفيق عياد ومنح شرين جنيهاً، والأساتذة مصطفى صادق الرافعي، وعبد الله عفيفي، ومحمد الههياوي ومحمد عرفة، وقد منح كل منهم مكافأة قدرها خمسة عشر جنيهاً. وبلغ مجموع الجوائز في هذا الموضوع مائتي جنيه

الموضوع الثاني - اللغة والدين والعادات

الفائزون في هذا الموضوع ثلاثة منح كل منهم 25 جنيهاً وهم الأساتذة: أحمد وفيق، وزكي مبارك، ويوسف محمد

الموضوع الخامس - التربية الوطنية الاستقلالية

الفائزون في هذه المباراة أربعة وقد منح كل منهم 25 جنيهاً وهم الأساتذة: محمود مسعود، ومحمد جلال، ومحمد عبد الباري، والآنسة إيريس حبيب المصري

الموضوع السابع - تدعيم الحياة الدستورية: قالت لجنة التحكيم في هذا الموضوع ورئيسها سعاد بهي الدين بركات بك إنه لم يتقدم إليها أية رسالة تستحق أية جائزة

الموضوع الثامن - ترقية الفلاح اجتماعياً: والفائزون فيه أربعة وهم الآنسة ابنة الشاطئ ومنحت الجائزة الثانية وقدرها 50 جنيهاً، ومنح الثلاثة الآخرون كل منهم 25 جنيها وهم الأساتذة عزيز خانكي بك المحامي، وعبد الوارث كبير الصحفي، ويوسف فهمي حلمي

الموضوع التاسع - استثمار نهضة المرأة المصرية للخير العام الفائزات فيه أربعة:

1 -

الآنسة سيزا نبراوي وقد فازت بالجائزة الأولى وقدرها 100 جنيه

2 -

الآنسة نور الهدى الحكيم وقد فازت بالجائزة الثانية وقدرها 50 جنيها

3 -

السيدة إحسان القوصي وقد فازت بالجائزة الثالثة وقدرها 25 جنيها

ص: 77

4 -

الآنسة إيفا حبيب المصري وقد فازت بالجائزة الرابعة وقدرها 25 جنيها

الموضوع العاشر - النشيد القومي: فاز بالجائزة الأولى وقدرها مائة جنيه الأستاذ محمود صادق، ومنح الجائزة الثانية وقدرها 50 جنيها حضرة الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، ومنح الجائزتين الثالثة والرابعة وقيمة كل منهما 25 جنيها الأستاذ محمد الهراوي والأستاذ محمد فضل إسماعيل

وقد لاحظت اللجنة في تقريرها أن أجود الأناشيد التي عرضت عليها لم تخل عن أبيات أو فقرات ضعيفة إلى جانب أبيات أو فقرات جيدة، ولهذا أخذت كل نشيد بمجموعة لا ببعض أجزائه. ثم قالت اللجنة (إنها لم تر حرمان المتبارين من الجوائز بالترتيب الذي وضعته، لأن المباراة تستلزم بطبيعتها إعطاء الجوائز المقررة للمتفوقين من المتبارين سواء أدركوا الغرض كله أو لم يدركوا إلا بعضاً منه) وقد خالفت بذلك أكثر اللجان

الموضوع الحادي عشر - سلامة الدولة في حفظ النظام:

فاز في هذه المباراة اثنان، ومنح كل منهما 25 جنيها وهما الصاغ علي حلمي أحد مأموري المراكز، والأستاذ محمود كامل المحامي

ص: 78

‌العالم المسرحي والسينمائي

2 -

فن السينما

بقلم يوسف تادرس وظريف زكي

فن السينما وفن المسرح

هذا الفن الحديث ما شكله؟ ما هي الفوارق بينه وبين غيره من الفنون؟ وما هي أوجه الشبه؟

إنه يشبه المسرح أكثر مما يشبه أي فن آخر، فهذا وذاك يؤديان رسالتهما عن طريق إبراز المناظر وتمثيل الممثلين

وقد ذهب بعضهم إلى تعداد الفوارق الآتية بينهما وهي:

أولاً - إن التمثيل السينمائي أقرب إلى الطبيعة، وأبعد عن التكلف

ثانياً - إنه ليس فيه فترات (استراحة) بالمعنى الصحيح تفصل بين منظر ومنظر، وتتيح للمخرج إعداد المنظر اللاحق

ثالثاً - إنه أقل حاجة إلى الحيل التي يتوسل بها لإيهام الناظر، وأقل لجوءاً إلى المبالغة في الحركات وفي تغيير ملامح الوجه للتعبير عن مختلف الأحاسيس

رابعاً - انه في مكنته أن يريك وأنت جالس في كرسيك المنظر الواحد من نواح مختلفة ومن أبعاد متباينة

خامساً - انه لا يقيده حد من الزمن والمكان

سادساً - المسرح يعتمد على التحليل النفسي والحوار

على أن جميع هذه الفوارق على صحتها لا تعدل في نظرنا الفارق الأساسي بين الفنين وما اختص كل منهما به، فان بين ممثل المسرح والنظارة تجاوباً في الإحساس وتبادلاً في التأثير، لا تجد لهما شبيها على الشاشة البيضاء

وإذا كان ممثل المسرح كثيراً ما يرضى لنفسه بأن يسرد عليك في حديث مع زميله بعض الحوادث التي تقوم عليها القصة، فان المدير الفني في السينما يريك تلك الحوادث متحركة أمام عينيك؛ وهذا الفارق لا زال صحيحاً حتى الآن وقد نطق الفلم

ص: 79

الكتابة للسينما

لاحظ (بودزفكين) أن كتاب السينما قد اعتادوا أن يحصروا عنايتهم في سرد الحوادث وأن يلبسوها ثوباً قشيباً من الأسلوب الجميل مستعينين بالوسائل المعهودة في كتابة الأدب، غافلين عن إمكان تطبيقها على السينما

هذا على حين أن لكل فن وسائله وأصوله، وأن معالجة الموضوع بحيث يكون صالحاً للإخراج السينمائي أمر من الأهمية بمكان عظيم

زعم بعض الناس أن الكاتب للسينما ما عليه إلا أن يخلط مجملاً عن الحادث، أما التحوير والتبديل فيما خطه قلمه، أما جعله صالحاً للسينما، فمن شأن المدير الفني وحده ومن واجباته هو دون سواه

ما أبعد هذا الزعم عن الصواب

ومتى جاز أن يقطع العمل الفني تقطيعاً!! وأن يفصل بين مرحلة ومرحلة! وأن يجعل كل وحدة مستقلة عن الأخرى، لا تمت إليها بسبب!!

ألست وأنت تقدم على تناول موضوع بالكتابة تفكر في نفس الوقت - ولو تفكيراً سريعاً غير واضح - في كيفية معالجتك له وعن سيرك فيه؟ بل إن مجرد عقد نيتك على العمل يفرض فيه اتجاه ذهنك نحو بعض خصائصه وتفاصيله

لا نقول إنه يتعين على من يكتب للسينما أن يرشد المدير الفني عن كيفية التصوير والطبع، وأن يأمره بما يصور وما يطبع، إنما لا بد له من معرفة أولية يستطيع معها أن يأتي بموضوع يصلح للإخراج، وأن يتجنب عوائق قد لا يتيسر تذليلها

ولعله يعثر على مثل تلك المعرفة الأولية فيما ننشر على صفحات (الرسالة) الغراء

(يتبع)

يوسف تادرس - ظريف زكي

ص: 80

‌الفرقة القومية المصرية والمسرح المحلي

لناقد (الرسالة) الفني

باعد المسرح ما بينه وبين الأدب والأدباء، لأن أصحاب الفرق التمثيلية - فيما مضى - جعلوا مثلهم العليا والروايات الثائرة العنيفة التي لا تمت إلى الفن الرفيع بسبب، وكانوا بصفتهم ممثلين ومخرجين يوجهون الفن حسب أهوائهم، حتى إنه كان لبعضهم مؤلفون من نوع خاص، وهذه السياسة التي ساروا عليها جعلت النظارة من المثقفين الذين يطلبون الفن ينفضون عن دور التمثيل، مفصلين السينما، وكانت هذه الجناية من أكبر الأسباب التي قعدت بالمسرح وأتت عليه

ومدت الحكومة يدها إلى المسرح لتقيله من عثرته، وتكونت الفرقة القومية المصرية، وعملت موسماً متقطعاً على مسرح الأوبرا عرضت خلاله عدة روايات من روائع الأدب الغربي

على أن ما عرضته وإن كان جديراً بالتقدير، لن يؤدي إلى الغاية المقصودة، فان المسرح إذا عنى بالترجمة والنقل فقط، لن يكون إلا صدى للمسارح الغربية، والحياة المصرية على تقمها لن تشبه ولن تبلغ الحياة الغربية ومجتمعاتها وعاداتها

حقاً إن الروايات المسرحية فيكل الأمم غربية أو شرقية ترمي إلى بذر الخير في النفوس واقتلاع الشر من الرؤوس وتغذية القلوب بالعواطف النبيلة بتصوير المثل العليا وتمجيدها وتقويم المعوج من الأخلاق والعادات، كما تعني بدقائق الحياة الداخلية ومشاكلها الاجتماعية والتجديد للمستقبل وتوجيه التطور إلى الناحية التي تجدي على الشعب والإنسانية، إلا أن التباين في العادات يضعف أثر التمثيل في نفوس النظارة، ولهذا فان ما تبذله الحكومة من جهد ومال لن يكون له الأثر المنشود ما دامت الفرقة تعرض الروايات الغربية

نحن لا ننكر أن اللغة والأدب قد اكتسبا الكثير من نقل هذه الروايات إلى العربية، ولكن المسرح المحلي والاهتمام بتكوينه ليعالج مشاكلنا الاجتماعية، أهم لدينا من كل ما عداه، فالمسرح وهو فن من فنون الاجتماع، يجب أن يؤدي رسالته مستعيناً بالأدب، لا أن يكون أداة اللغة فحسب

والمسرح وهو وسيلة من وسائل الإصلاح يجب ألا ترتفع لغته كثيراً حتى يمكن الشعب أن

ص: 81

يتفهمها، فالمسرح ليس للمثقفين وإنما هو للشعب أولاً، ولذلك فان أكثر الروايات التي أخرجتها الفرقة القومية كانت عويصة على الجمهور مما أدى إلى عدم الإقبال المنتظر على حفلات الفرقة

ورب قائل يقول إن الفرقة لم تجد الروايات المحلية التي تتوفر فيها الشروط الفنية حتى تعرضها، ومعنى هذا أننا سنبقي الأعوام الطويلة ننقل عن الغرب روايات لا تتفق مع عاداتنا وأخلاقنا حتى يبعث الله لنا مؤلفاً عبقرياً موهوباً يقدم للفرقة الروايات المحلية، ويومئذ، ويومئذ فقط، تقام دعائم المسرح المحلي!!!

لا أظن أحدا يرى هذا الرأي أو يقره

إن واجب اللجنة التي تشرف على الفرقة القومية أن تشجع الأدباء والكتاب المسرحيين، فتدرس رواياتهم وتنبههم إلى المآخذ لكي يعملوا على تلافيها، وإلى مواضع الضعف لكي يعملوا على تقويتها، ثم تخرج هذه الروايات بعد ذلك على المسرح. ويجب أن يكون لدى هذه اللجنة من الشجاعة ما يجعلها تغامر بإخراج الروايات العصرية ما دامت لها بعض المزايا الخاصة

وإن التشجيع المادي والأدبي والمران لمن بين الأسباب التي تدفع الكتاب المسرحيين إلى أن يشقوا طريقهم نحو الكمال، وبهذا تكون الفرقة قد أدت رسالتها نحو خلق المسرح المحلي والأدب المصري الحديث

فهل تعني اللجنة والفرقة بهذا الاقتراح؟

سنحاول في كلمة أخرى التحدث عن الروايات التاريخية والروايات العصرية من حيث التأليف، ونرجو أن يتسع صدر (الرسالة) الغراء لهذا البحث الصغير، فقد يكون فيه بعض الفائدة لمن يحاول الكتابة للمسرح

ص: 82