الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 151
- بتاريخ: 25 - 05 - 1936
أكُلُّ هذا يصنع البرلمان؟
قلت للشيخين صالح وعلي وقد لقيتهما في هوادي الليل يتبختران بميدان إبراهيم في الحرير الشاهي والجوخ المصقول: الآن تتركان القرية والقطن يريد العزْق، والدودة تطلب المراقبة؟ فتسابقا إلى الجواب كأنما حضراه من قبل واتفقا عليه، فكان كلمة من هذا وكلمة من ذاك. قالا:
جئنا نجتلي طلعة المليك، ونهنئ وزارة الشعب، ونشهد برلمان الأمة. ثم قال الشيخ صالح وحده: وجئنا كذلك نبلغ نائبنا المحترم. . . رغائب الناخبين ومطالب الدائرة
فملت بهما إلى قهوة من قهوات الميدان تعج بأمثالهما من الشيوخ والنواب والتوابع؛ وبعد شيء من نوافل الحديث كالسؤال عن العشيرة والزرع، عطفت على جوابهما المشترك بالتعقيب قلت: أما اجتلاء طلعة المليك فجلاء الهم ونعيم الروح وسرور النفس المؤمنة؛ وأما تهنئة الوزارة فشعيرة الحب المتبادل، وإعلان الثقة المؤيدة، وإهلال الرجاء المحقق. وأما تبليغ النائب مطالب الدائرة يا صديقي صالح فما لك تعجل به، والبرلمان لما ينعقد، والنائب مفروض عليه أن يصل نفسه بناخبيه صلة الرسول بالمرسل والوكيل بالموكل واللسان بالقلب؟ فأجابني بلهجة حاول باتزان إشارته واطمئنان صوته واعتدال جلسته أن تكون مقنعة، قال: إنا من جنود الوفد الأمين، وكنا من دعاة النائب المحترم، توسطنا بينه وبين الناس، فوعدناهم الوعود، ومنيناهم المنى، وبشرناهم النُّصفة؛ والفلاح درج منذ العهود الأولى على أن يفهم من لفظ (الحكومة) جباية المال وتسخير الرجال وتجنيد الشباب وتغريم المتخاصمين المبطل منهم والمحق. فلم يكد يفهم أن حكومة الوفد هي حكومة الفلاح: ترجع إليه وتعطف عليه وتعمل له، حتى انثالت علينا شكاويه وأمانيه بالبريد واللسان واليد
قال هذا وألقى على منضدة رخامية لا تأخذ منها هبًّة الريح ولا مسًّة الكف، إضبارةً بطينة من العرائض والرسائل، ثم قال لي: انظر! فابتدرتها يدي قبل الاستئذان إطاعة لحكم الصنعة، ثم أخذت أصفحها مع الوسيطين ورقة ورقة
هذه عريضة من أهل قرية طغت على جنباتها الأربع البرك المنتنة، فأصبحت كالجزيرة الملعونة في غسلين جهنم!
صاحب البرك هو مالك الأطيان ومن أعضاء البرلمان؛ ورجال الإدارة يرجونه أو
يخشونه، فلا يذكِّرونه القانون إلا بالتي هي أحسن؛ والتي هي أحسن لا تساوي عجلاً في دوار الباشا! وأهل القرية وبعوض الملاريا في رأيه سواء، فلماذا يقتل البعوض ويبقون هم في الأحياء؟
وهذه عريضة من أهل قرية يسكنون المسكن القذر، ويشربون المشرب الكدر، ففشت في دمائهم جراثيم الانكلستوما والبلهارسيا، ففزعوا منها إلى مستشفى الحكومة بالبندر، فكان ما كابدوه من عنت الممرضين والأطباء، أضعاف ما كابدوه من عنت الأدواء، ففر الموسر من العلاج بالمجان إلى العلاج بالأجر، ولاذ المعسر من تعب الإنسان إلى راحة القبر!!
وهذه عريضة من أهل قرية يملك أرضها مُثْرٍ يملك اثني عشر ألف فدان، ولكنه منهوم لا يشبع، وطماع لا يقنع، وقاس لا يلين، فهو يشتط عليهم في أجرة الأرض حتى يأخذ القطن فلا يفي، ويغتصب أكثر القمح والذرة والأرز ولا يكتفي، فيضطر المستأجر المجهود إلى أن يدفع الجوع عن أسرته بالعمل أجيراً عند الناس. وهكذا يظل طول عمره دائب العمل، دائم الفقر، لا يخف عنه دين، ولا يجف له عرق.
وهذه عريضة من أهل قرية ليس فيهم كاتب، وحفاظ القرآن منهم ثلاثة عميان لا يحسبون إلا (النجم) ولا يعرفون إلا تاريخ اليوم بالعربية والقبطية؛ فإذا اضطرتهم الحال إلى تحرير عرض أو كتابة خطاب سافروا إلى الكتاب العموميين في عاصمة المركز. فهم يطلبون إلى (البرلمان) أن ينشئ لهم كتابا يحفظهم القرآن ويعلمهم الخط!
ومن خلال هذه العرائض المنطقية الرزينة كان يقع في يدي أنماط شتى من رسائل الالتماس عليها طابع السذاجة والحاجة؛ فهذا والد تلميذ فقير يطلب حق ابنه في المجانية؛ وهذه أم حنون ترجو إخراج ولدها من الجندية؛ وهذا تلميذ سابق يريد أن يكون موظفاً في وزارة؛ وهذا عسكري قديم يجب أن يكون حاجباً في محكمة؛ وهذا تاجر جوال لا تقع قريته على الطريق العام يحتم أن تمر بها السيارات العامة؛ وهذا فلاح يقترح على (البرلمان) أن يأمر التجار أن يشتروا القطن غالياً، مادامت الحكومة لا تأمر الملاك أن يؤجروا الأرض رخيصة.
كَلَّ النظر من طول القراءة، وألم الشعور من تناقض الأثر، والإضبارة الشعبية لا تزال وارمة! فطويتها بعناية ورفق، ثم قلت لحاملها الأمين الوفي: شكر الله مسعاك، وأعانك
النائب الكريم على إبراء ذمتك. فقال الشيخ علي وقد خفق على وجهه الأبلج ظل رقيق من الشك: ولكن بالله قل لي: أكل هذا يصنع البرلمان؟ فقلت له: ولم لا؟ إن علماء الدستور قالوا في برلمان إنجلترا: (إنه يقدر على كل شيء، إلا على تحويل الرجل امرأة) وبرلماننا صديقه اليوم وحليفه غداً، فلم لا يجوز على أحد الحليفين ما جاز على الآخر؟ فضحك الصديقان وهما ينصرفان. ولا أدري أكان ضحكهما من سخف القياس، أم من سخف الناس.
أحمد حسن الزيات
2 - العجوزان
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال محدثي: ولما قلت لهما أيها العجوزان: أريد أن أسافر إلى سنة 1895؛ نظر إليَّ العجوز الظريف (ن) وقال: يا بنيَّ أحسب رؤيتك إياي قد دنت بك من الآخرة. . . فتريد أن نلوذ بأخبار شبابنا لتنظر إلينا وفينا روح الدنيا
قال الأستاذ (م): وكيف لا تريه الآخرة وأكثرك الآن في (المجهول)؟
قال: ويحك يا (م) لا تزال على وجهك مسحة من الشيطان هنا وهنا؛ كأن الشيطان هو الذي يصلح في داخلك ما اختلَّ من قوانين الطبيعة، فلا تستبين فيك السن وقد نيَّفتَ على السبعين، وما أحسب الشيطان في تنظيفك إلا كالذي يكنس بيته. . . .
قال (م): فأنت أيها العجوز الصالح بيتٌ قد تركه الشيطان وعلق عليه كلمة (للإيجار). . . .
فضحك (ن) وقال: تالله إن الهرم له إعادة درس الدنيا، وفهمها مرة أخرى فهماً لا خطأ فيه، إذ ينظر الشيخ بالعين الطاهرة، ويسمع بالأذن الطاهرة، ويلمس باليد الطاهرة. . . وتالله أن الشيطان لا معنى له إلا أنه وقاحة الأعصاب
قال (م): فأنت أيها العجوز الصالح إنما أصبحت بلا شيطان لأن الهرم قد أدب أعصابك. . .
قال العجوز الظريف: وعند من غيرنا نحن الشيوخ تطاع الأوامرُ والنواهي الأدبية حقَّ طاعتها؟ عند من غير الشيوخ تقدس مثل هذه الحكم العالية: لا تعتد على أحد. . . لا تفسد امرأة على زوجها. . .
قال المحدث: وضحكنا جميعاً، وكان العجوز (ن) من الآيات في الظرف والنكتة، فقال: تظنني يا بني في السبعين، فوالله ما أنا بجملتي في السبعين، والله والله
قال (م): لقد أهتر الشيخ يا بني فإن هذا من خرفه فلا تصدقه
قال (ن): والله ما خرفت وما قلت إلا حقاً، فههنا ما عمره خمس سنوات فقط وهو أسناني. . .
قلت: (ورينا وريت) وسنة 1895؟
قال الأستاذ (م): أنت يا بني من المجددين، فما هواك في القديم وما شأنك به؟
وما كاد العجوز (ن) يسمع هذا حتى طرف بعينيه وحدد بصره إلي وقال: أئنك لأنت هو؟ لعمري أن في عينيك لضجيجاً وكذباً وجدالاً واحتيالاً وزعماً ودعوى وكفرا وإلحاداً؛ ولعمري. . .
فقطعت عليه وقلت: (لعمرك أنهم لفي سكرتهم يعمهون)، لقد وقع التجديد في كل شيء إلا في الشيوخ أجساماً والشيوخ عقولاً؛ فهؤلاء وهؤلاء عند النهاية، وغير مستنكر من ضعفهم أن يدينوا بالماضي فإن حياتهم لا تلمس الحاضر إلا بضعف
قال العجوز: رحم الله الشيخ (ع). كان هذا يا بني رجلاً ينسخ للعلماء في زمننا القديم، وكان يأخذ عشرة قروش أجراً على الكراسة الواحدة، وهو رديء الخط، فإذا ورق لأديب ولم يعجبه خطه فكلمه في ذلك تعلق الشيخ به وطالبه بعشرين قرشاً عن الكراسة، منها عشرة للكتابة وعشرة غرامة لإهانة الكتابة. . .
نعم يا بني إن للماضي في قلوبنا مواقع ينزل فيها فيتمكن، ولكن قاعدة (اثنان واثنان أربعة) لا تعد في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، والحقيقة بنفسها لا باسمها، وليست تحتاج النار إلى ثوب المرأة إلا في رأي المغفل
قال الأستاذ (م) وكيف ذلك؟
قال العجوز: زعموا أن مغفلاً كان يرى امرأته تضرم الحطب فتنفخ فيه حتى يشتعل، فاحتاج يوماً في بعض شأنه إلى نار ولم تكن امرأته في دارها، فجاء بالحطب وأضرم فيه وجعل ينفخ، وكان الحطب رطباً فدخن ولم يشتعل. ففكر المغفل قليلاً ثم ذهب فلبس ثوب امرأته وعاد إلى النار، وكان الحطب قد جف فلم يكد ينفخ حتى اشتعل وتضرم. فأيقن المغفل أن النار تخاف امرأته. . . وأنها لا تتضرم إلا إذا رأت ثوبها
قال الأستاذ (م): إن الكلام في القديم والجديد أصبح عندنا كفنون الحرب تبدع ما تبدع لتغيير ما لا يتغير في ذات نفسه، وعلى ما بلغت وسائل الموت في القديم والجديد فإنها لم تستطع أن تميت أحداً مرتين
لقد قرأت يا بني كثيراً فلم أر إلى الآن من آثار المجددين عندنا شيئاً ذا قيمة. ما كان من هراء وتقليد زائف فهو من عندهم، وما كان جيداً فهو كالنفائس في ملك اللص لها اعتباران
إن كان أحدهما عند مقتنيها. . . فالآخر عند القاضي
كلا أيها اللص لن تسمى مالكاً بهذا الأسلوب؛ إنما هي كلمة تسخر بها من الناس ومن الحق ومن نفسك
يقولون: العلم والفن والغريزة والشهوة والعاطفة والمرأة وحرية الفكر واستقلال الرأي ونبذ التقاليد وكسر القيود إلى آخره وإلى آخرها. . . فهذا كله حسن مقبول سائغ في الورق إن كان في مقالة أو قصة، وهو سائغ كذلك حين ينحصر في حدوده التي تصلح له من ثياب الممثلين أو من بعض النفوس التي يمثل بها القدر فصوله الساخرة أو فصوله المبكية، ولكنهم حين يخرجون هذا كله للحياة على أنه من قوتها الموجبة، ترده الحياة عليهم بالقوة السالبة، إذ لا تزال تخلق خلقها وتعمل أعمالها بهم وبغيرهم، وإذا كان في الإنسانية هذا القانون الذي يجعل الفكر المريض حين يهدم من صاحبه - يهدم في الكون بصاحبه؛ ففيها أيضاً القانون الآخر الذي يجعل الفكر الصحيح السامي حين يبني من أهله - يبني في الكون بأهله
قال العجوز (ن): زعموا أن أحد سلكي الكهرباء كان فيلسوفاً مجدداً فقال للآخر: ما أراك إلا رجعياً، إذ كنت لا تتبعني أبداً ولا تتصل بي ولا تجري في طريقتي؛ ولن تفلح أبداً إلا أن تأخذ مأخذي وتترك مذهبك إلى مذهبي. فقال له صاحبه: أيها الفيلسوف العظيم، لو أني اتبعتك لبطلنا معاً فما أذهب فيك ولا تذهب فيّ؛ وما علمتك تشتمني في رأيك إلا بما تمدحني به في رأيي
قال العجوز: وهذا هو جوابنا إذا كنا رجعيين عندهم من أجل الدين أو الفضيلة أو الحياء أو العفة إلى آخرها وإلى آخره. ونحن لا نرى هؤلاء المجددين عند التحقيق إلا ضرورات من مذاهب الحياة وشهواتها وحماقاتها تلبّست بعض العقول كما يتلبس أمثالها بعض الطباع فتزيغ بها. وللحياة في لغتها العملية مترادفات كالمترادفات اللفظية تكون الكلمتان والكلمات بمعنى واحد، فالمخرب والمخرف والمجدد بمعنى
كل مجدد يريد أن يضع في كل شيء قاعدةَ نفسه هو، فلو أطعناهم لم تبق لشيء قاعدة
قال الأستاذ (م) إن هذه الحياة الواحدة على هذه الأرض يجب أن تكون على سنتها وما تصلح به من الضبط والإحكام، والجلب لها والدفع عنها والمحافظة عليها بوسائلها الدقيقة
الموزونة المقدرة، والسهلة في عملها الصعبة في تدبيرها. فعلى نحو مما كانت الحياة في بطن الأم يجب أن نعيش في بطن الكون بحدود مرسومة وقواعد مهيأة وحيز معروف؛ وإلا بقيت حركات هذا الإنسان في معناها كحركات الجنين، يرتكض ليخرج عن قانونه. فإن استمر عمله ألقى به مسخاً مشوهاً من جسد كان يعمل في تنظيمه، أو قذف به ميتاً من جسم كان كل ما فيه يعمل لحياته وصيانته
هذا الجسم كله يشرع للجنين مادام فيه، وهذا الاجتماع كله يشرع للفرد مادام فيه؛ فكيف يكون أمرٌ من أمر إذا كان الجنين مجدداً لا يعجبه مثلاً وضع القلب ولا يرضيه عمل الأم، ولا يريد أن يكون مقيداً لأنه حر؟
أنظر إلى هذا الشرطي في هذا الشارع يضرب مقبلاً ليدبر ومدبراً ليقبل، وقد ألبسته الحكومة ثياباً يتميز بها، وهي تتكلم لغة غير لغة الثياب وكأنها تقول: أيها الناس إن ههنا الإنسان الذي هو قانون دائماً، والذي هو قوة أبداً، والذي هو سجناً حيناً، والذي هو الموت إذا اقتضى الحال
أتحسب يا بني هذا الشرطي قائماً في هذا الشارع كجدران هذه المنازل؟ كلا يا بني. إنه واقف أيضاً في الإرادة الإنسانية وفي الحس البشري وفي العاطفة الحية. فكيف لا يمحوه المجددون مع أنه في ذاته إرغام بمعنى، وإكراه بمعنى غيره، وقيد في حالة، وبلاء في حالة أخرى؟
لكنه إرغام ليقع به التيسير، وإكراه لتتطلق به الرغبة، وقيد لتتمجد به الحرية؛ وكان هو نفسه بلاءً من ناحية ليكون هو نفسه عصمةً من الناحية التي تقابلها
يا بني! كل دين صالح، وكل فضيلة كريمة، وكل خلق طيب، كل شيء من ذلك إنما هو على طريق المصالح الإنسانية كهذا الشرطي بعينه؛ فإما تخريب العالم أيها المجددون وإما تخريب مذهبكم. . . .
قال العجوز (ن): أنبحث عما نتسلط به أم نبحث عما يتسلط علينا. وهل نريد أن تكون غرائزنا أقوى منا وأشد، أو نكون نحن أشد منها وأقوى؟ هذه هي المسألة لا مسألة الجديد والقديم
فإن لم يكن هناك المثل الأعلى الذي يعظم بنا ونعظم به، فسد الحس وفسدت الحياة. وكل
الأديان الصحيحة والأخلاق الفاضلة إن هي إلا وسائل هذا المثل الأعلى للسمو بالحياة في آمالها وغاياتها عن الحياة نفسها في وقائعها ومعانيها
قال المحدِّث: ورأيتني بين العجوزين كأني بين نابين؛ ولم أكن مجدداً على مذهب إبليس الذي رد على الله والملائكة وظن لحمقه أن قوة المنطق تغير ما لا يتغير. فسكت حتى إذا فرغا من هذه الفلسفة قلت: والرحلة إلى سنة 1895؟
(لها بقية - طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
تجربة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
ماذا ترى يصنع رجل يعشق للمرة الأولى في حياة صاخبة مضطربة، ولكنها على كثرة ما جرب فيها خلت من الحب ونجت من زلزلته للنفس؟؟
عن هذا كان يسأل (ميم) - وحسبنا من اسمه حرف واحد - وهو جالس إلى مكتبه، والفتاة التي يحبها قبالته على الشرفة. والجديد من الأمر يتطلب جديداً من التصرف والتدبير، ولو كانت له خبرة بالحب، أو سبق له به عهد، لقاس حاضره على ماضيه، وأجراه في مجاريه. وغريب أن يتقضى شبابه وهو فارغ القلب، وأن يدركه الحب ويعمر فؤاده بعد أن شارف الكهولة ووقف على بابها، واخذ الأبيض يختلط بالأسود، وبدأ الزمن يرسم خطوطه!! وإن كان هو لا يحس شيئاً من ذلك ولا يباليه، ولا يعرف إلا أنه مازال في عنفوان الفتوة
وألقى القلم واضطجع وقال يناجي نفسه، وهو يضحك ساخراً:(هل أصنع كما يصنعون في هذه الروايات الكثيرة التي قرأتها؟ وعلى ذكر ذلك - ماذا ترى أبطال هذه الرواية يصنعون في حالات كهذه؟ لقد نسيت والله! فكأني ما قرأتها ولا وقعت عيني عليها. . . وهبني كنت أذكر ذلك فهل يصح في دنيا الحقيقة ما يصف الخيال؟)
واستطرد من هذا إلى القول بأن الروايات ليست - ولا يمكن أن تكون - خيالاً بحتاً، وشيئاً يخلقه الإنسان من لا شيء، ولا يحور فيه إلى أصل من حقائق الحياة، وأنكر قدرة الإنسان على هذا الخلق، وذهب إلى أن كل ما يسعه هو أن يلفق القصة من جملة ما شهد وجرب وسمع، وأن يكوّن الشخصيات من أشتات ما عرف، فليس القصص خيالاً، ولا ما تصفه محالاً، وإذن يكون تقليدها ميسوراً. . . أو دع كونه ميسوراً أو غير ميسور، وقل أنه لا يكون شططاً
(ولكن القصص يعنى فيها وأضعها بترتيب الأحوال والمواقف على النحو الذي يؤثره هو، والذي يراه أوفق لغايته، ومن عسى يرتب لي دنياي كما يرتب مؤلف القصة دنيا أبطاله؟؟
أم أستشير صديقاً مجرباً؟؟؟ ولكن هذا مخجل!! ثم أن العبرة بنوع استجابة الفرد لوقع الحياة في نفسه؛ والاستجابة تختلف باختلاف الأفراد. والذي يفعله إنسان ما، في موقف ما، ليس من الحتم - ولا من المعقول - أن يفعله كل إنسان في الموقف عينه
فالاستشارات عبث ولا خير فيها، ولا جدوى منها إلا الفضيحة. . . الفضيحة؟؟. نعم. أليس فضيحة أن تفتح قلبك لمخلوق غيرك، وأن تبيحه سرك، وتكشف له عن ضعفك، وتدع عينه ترى مقاتلك؟؟ ولكن هل معنى هذا أن الحب ضعف؟؟ نعم. لأن فيه إفناء شخصية في أخرى - إلى حد ما على الأقل - ولم أكن هكذا قبل أن أبتلى بهذا الحب. وأني الآن لأرى حياتي كلها رهناً بمخلوق آخر لا أعرفه ولا يعرفني. . . فكيف لا يكون هذا ضعفاً؟؟
وعلى ذكر ذلك من تكون هذه المحبوبة التي غيرتني وأورثتني هذه الهواجس والوساوس؟؟. وجعلت من نفسها المجهولة قطباً تدور عليه خواطري جميعاً في اليقظة والمنام؟. . .
واستغرب من نفسه أنه لا يعرفها، وأنه مع ذلك لا يعنى بسواها، في حي يعرف من إحصاء البوليس أن فيه مائتي قهوة ومائة وعشرين ألف نفس، أي دائرتين انتخابيتين. (ولو مات أهل الحي لما حزن عليهم، ولا أسى لهم، ولا أحس نقصاً أو خسارة، ولا أسف إلا على خلو الحي وخرابه وقعوده هو فيه وحده على تله! ولكنه لو علم أن هذه الفتاة جرح إصبعها أو أصابها زكام، أو وعك، لبات مسهّد القلب كاسف البال، بل لاسودت الدنيا في وجهه - ومع لك لا يعرفها!! لا اسمها. . ولا دينها. . ولا شيئاً عن قومها. . . وكل ما يعرف هو أنه يراها من نافذة غرفته وهو جالس إلى مكتبه يقرأ أو يكتب. . . وإنه ألف أن يبصرها، وصار على الأيام يطيل النظر إليها وهي واقفة على الشرفة العالية، حتى اعتاد أن يراها على الأيام، وحتى صارت نفسه تستوحش إذا دخلت أو غابت. وجعل يلاحظها بعد ذلك فأدهشه منها أنها لا تكاد تغادر بيتها، فما رآها خارجة إلا مرة واحدة في شهور طويلة - مع أمها فقد كانت تلك أمها بلا شك - وهي مع ذلك من السافرات!! وزاد دهشته أنه كان يراها في الأغلب جالسة في الشرفة وفي يدها كتاب. . . كتاب لا مجلة!!. ترى أي كتاب أو كتب تقرأ؟؟. لاشك أنها روايات. . وهل للفتيات صبر على غير ذلك؟؟. وللسن حكمها. . . وسنها الصغيرة تغريها ولاشك بإيثار القصص والروايات لأن حياتها جديدة فهي تروم أن تعرفها معرفتها؛ وتظن أن الروايات أخصر الطرق وأوجزها إلى هذه المعرفة. . . ثم أن الروايات تصف كل هو ما هو حبيب إلى الشباب وقريب من هواه
وصار يأنس بمنظرها، ويرتاح إذا بدت لناظره، ويشعر بالفراغ حوله - وفي نفسه - إذا خلا مكانها، أو لم تظهر على الشرفة أو من النافذة. وأدهى من ذلك أنه صار يحس من نفسه العجز عن العمل والتفكير إذا لم تأخذها عينه في محلها المألوف من الشرفة
واستحيا أن يسأل عنها جارا، أو خادما، أو أحداً من الناس - وماذا عسى أن يقول لهؤلاء؟. . . وبأي شيء يسوغ السؤال؟؟
وفرك عينيه بأصابعه، وهو يدير هذا كله في نفسه، ثم أطبق جفونه وراح يحاول أن يحضرها لذهنه، كما تبدو له من النافذة أو الشرفة المألوفة،. . فلم يجد عناء في ذلك، فقد كانت الصورة مطبوعة على صدره. . . وذكر قول العقاد في قصيدة مرقصة له:
ذهبيّ الشعر ساجي ال
…
طرف حلو اللفتات
فأما أنها ذهبية الشعر فنعم! وأما أنها ساجية الطرف فلا. . فإن في نظرتها - حتى على هذا البعد - لقوة، وإن كان لم ير أحلى من نظرتها ولا أسحر للب حين تبتسم، ويشرق وجهها الواضح الصبيح، وأنه ليراها الآن كما كانت يوم ضحكت وتثنت، وكانت معها أختها - لا بد أن تكون هذه أختها الكبرى فإن فيها منها مشابه. والأرجح أنها متزوجة فإنها لا تزور هذا البيت إلا غبّا - وتالله ما كان أحلاها يومئذ!! لقد كانت في ثوب وردي اللون محبوك، مفصل على قدها تفصيلاً يجلو محاسنها كلها ويعرض مفاتنها جميعاً. . . وكان نحرها يضيء - وثدياها الناهدان يبدوان من تحت الثوب بارزي الحلمتين. . . إيه ما أعظم فتنة هذا الجسم الغض الجديد الذي لم تبتذله السن، ولم يرهله الزواج. . . وكان شعرها الوحف الأثيث الناعم اللامع مرخي. . . وكان الضوء المراق عليه يخيل للناظر أن فيه نجوماً زهرا، أبهى وأسنى من نجوم السماء. . . وكان وجهها الدقيق المعارف. . . (يا ويلي من هذا الفم الذي لم يعرف الأصباغ، وهو مع ذلك يبدو لي كأنما غَذَتْهُ الورود) متهللاً. وقد لانت نظرتها القوية، وفقدت حدتها المألوفة، واعتاضت منها الرقة، وبدا خداها كأنهما غلالتا ورد. . . آه. . ماذا يقول هذا الشاعر مهيار؟؟
آه على الرقة في خدودها
…
لو أنها تسري إلى فؤادها!!
صحيح. . . . . وليت من يدري كيف فؤاد هذه الفتاة الرائعة الرقيقة الخدين اللينة النظرة حين يسرها شيء. . . . . أرقيق هو يا ترى كخديها؟؟ أم. . . كلا!! لا يمكن أن يكون إلا
رقيقاً!. ولكن لماذا؟؟. على كل حال لا يزال أوان السؤال بعيداً. . أوه بعيداً جداً. . وما حاجتي إلى الاطمئنان من هذه الناحية، ولا صلة هناك، ولا كلام، ولا حتى إشارة؟؟.
وقام يتمشى في الغرفة الواسعة المكظوظة بالرفوف والمقاعد وغير ذلك، وحدثته نفسه - وهي تعابثه - أن يركب الحياة بما يركبها به الشباب، فضحك وقال. . لم يكن باقياً إلا هذا. . أمسح لها شعري بكفي. . . . أو أعبث لها على مرأى منها بوردة أرجوانية (كتفاح خدها الأرجواني) كما يقول البحتري!!. أو أبعث إليها مع النسيم بقبلة. . . . أو هو هو هو!!.
وقهقه وهو يتخيل نفسه فاعلاً ما يفعل الشبان والأحداث. ثم أشعل سيجارة وارتمى على مقعد وثير وسأل نفسه: (أتراني أحتقر الشبان وأسخر مما يصنعون؟؟. وماذا أرى الحكمة والاتزان والوقار والاحتشام أجداني؟. . أو يمكن أن يجديني؟. . هه؟. ومع ذلك لم لا أفعل كما يفعل الشبان. . أتراني هرمت!. كلا!. فما جاوزت السابعة والثلاثين، وإن كان الكثير من شعري قد حال لونه، وإني لأقوى وأعظم جلدا على الحياة والكفاح من ابن عشرين. . . . ولكنها عادة الاحتشام - قبحها الله!
ولم يرقه أن يقطع نفسه حسرات هكذا، فقال. . لماذا أرخي لنفسي الطِوَلَ. . . وهي؟؟ أكبر الظن أنها لا تراني، ولا تعبأ بي إذا رأتني، ولا يرد ذكري على بالها، وإن كنت أراها أول ما يجري بخاطري في الصباح، وآخر شيء يجريه خاطري بالليل. . أفلا يحسن أن أكبح نفسي عن هوى عقيم؟؟ ولكن لماذا أدع العاطفة تستنفد نفسها. . لا مانع فيما أرى، لو أن من الممكن أن تستنفد نفسها. . . وهبها يمكن أن تفعل، فإني أخشى أن تورثني حسرات كثيرة. . . ولهفات ثقيلة. . والأرجح مع ذلك أن تعمق العاطفة مجراها في النفس وإن كان لا مدد لها من المحبوب. فإن فيها - بمجردها - للذة تترك المرء كالجمل حين يجتر ما في جوفه ويعيد مضغه مرة وأخرى. . وهل قتل المجنون وأمثاله من صرعى الهوى إلا هذه اللذة التي كانوا يجدونها في حبهم والتي كانت تغريهم بأن يجعلوا لها غذاء ومدداً من نفوسهم؟. . .
وابتسم وهو يقول. . لست أحب أن أكون أحد هؤلاء المجانين الذين أتلفهم الحب وقتلهم العشق. . . فقد كانوا حقيقة مجانين. . . ولكن ليتني أعرف حيلة!! والبلاء أن حياة
المجتمع مازالت كما كانت، وإن كان النساء قد سفرن! ومن النادر جداً على الرغم من هذا السفور أن يتيسر التعارف في مجتمعات مختلطة. إذن لهان الأمر وأمكن السعي
وقال وهو يضحك (لم يبق إلا السحر) ثم عبس ونهض وقال لنفسه إن التعبير بالسحر فيه تجوز كثير، ولكن في الوسع تغليب إرادة على إرادة، وأداء رسالة من نفس إلى نفس أخرى. . أعني أن الإيحاء حقيقة ثابتة لاشك فيها - نعم لا يشك فيها إلا جاهل - وفي مقدوري ولا ريب أن أوحي إلى هذه الفتاة العاطفة التي تخامر نفسي، وأن أبلغها رسالة قلبي، وأن أوقد في صدرها ناراً كالتي تتسعر في قلبي. . . أفعل كل ذلك بعيني. . . ألست قد أنمت مرة خادماً كان عندي وأمرته ألا يستيقظ إلا بعد صلاة الجمعة؟؟. ألست قد جربت فعل نظرتي في نساء كثيرات؟. ألم تصح إحداهن وقد أطلت التحديق في عينيها (حوّل عينك عني، فإني لا أطيق نظرتها وأحس أن رأسي يدور) ألم تصرخ إحدى قريباتي دون أن تحول عينها عني، لأني كنت أحدق في عينيها على غير قصد؟؟. فهذه قوة مجربة. . . قوة نفسية لاشك فيها. . وما أظن إلا أني قادر على أن أوحي إليها الحب. . وكل شيء بعد ذلك يهون. . نعم أن بيننا لبعد. . . ولكن ما قيمة هذا؟؟. أنها موجة نفسية أرسلها إليها، لا شرارة قصيرة. . . ولماذا يمكن إرسال موجة من آخر الدنيا، ولا يسهل إرسالها مسافة ثلاثين أو أربعين متراً؟؟
واقتنع بأن ذلك ميسور، فانشرح صدره، وأشرق وجهه، واعتزم أن يجري هذه التجربة
وسأبلغ القارئ ما يكون - إذا كان شيء
إبراهيم عبد القادر المازني
من روائع عصر الأحياء
2 -
قصص الأيام العشرة
بقلم جوفاني بوكاشيو
للأستاذ محمد عبد الله عنان
بقية ما نشر في العدد الماضي
يستطيع أولئك الذين قرءوا قصص بوكاشيو وألف ليلة وليلة، أن يجدوا بعض نواحي الشبه بين الأثرين، سواء في المادة أو الروح؛ ذلك أن قصص الأيام العشرة تفيض كقصص ألف ليلة وليلة بروح مادية قوامها السرور والمرح، والتوفر على استمراء متاع هذه الحياة بأي الوسائل؛ وتفيض أيضاً كألف ليلة وليلة بالمواقف الغرامية المدهشة المثيرة، أو المبتذلة أحياناً؛ ثم أن كلا الأثرين يرمي إلى غاية واحدة تقريباً، وهي مجالدة النوائب والنسيان والسلوى؛ ففي ألف ليلة وليلة نجد ملكاً نكب بخيانة زوجه، وانقلب إلى بغض النساء، يتسرى في كل ليلة بكراً ثم يقتلها في صباح اليوم الثاني، إلى أن يبعث إليه وزيره بابنته (شهرزاد)، فتحتال لتسلية الملك وتحويله عن فكرة الثأر من النساء، وإنقاذ نفسها وبنات جنسها، بأن تقص عليه في كل ليلة طرفاً من القصص الشائق حتى ألف ليلة وليلة؛ وفي الأيام العشرة نجد عشر سيدات وسادة يجتمعون أثناء الوباء المروع للترويح عن أنفسهم وتناسي ويلات الفناء والموت، بتبادل القصص الممتع
ولا نعني بذلك أن جوفاني بوكاشيو قد تأثر في كتابة قصصه بألف ليلة وليلة؛ ذلك أن هذه القصص الشهيرة لم تكن قد عرفت في الغرب في عصره؛ ولكنا نريد أن نقول فقط أنه يوجد بين الأثرين تماثل في الروح والطابع والغاية يرجع إلى تماثل في روح العصور الوسطى وفي روح مجتمعاتها
على أنه إذا كانت قصص ألف ليلة تمتاز أحياناً بخيالها المبدع، وفنها الممتع، وصورها الوصفية والاجتماعية الشائقة، فإن قصص الأيام العشرة تفوقها من الناحية الفنية في مواطن كثيرة، وتمتاز بالأخص بعبرها ومغازيها الدقيقة، وصورها الفكهة اللاذعة، ومع أنها تمتاز أيضاً بكثير من التنوع والتباين في التصوير والوصف، فإنها تمتاز في نفس
الوقت بطابع من التناسق الممتع في الروح والأسلوب والتعبير
وقد رجع بوكاشيو في كتابة قصصه إلى مادة غزيرة من القصص القديم وقصص العصور الوسطى، وإلى بعض الحوادث الواقعية التي شهدها، وإلى بعض حوادث حياته ذاتها؛ ويرى بعض النقدة أن الفتيان الثلاثة الذين اتخذهم بوكاشيو أبطالاً لثلاثة من الأيام العشرة، إنما يمثلون ثلاث مراحل مختلفة من حياة بوكاشيو نفسه، وأن في قصصهم كثيراً مما اشتق من حياة بوكاشيو ذاتها
وبدأ بوكاشيو كتابة قصصه كما قدمنا، أيام عصف الوباء بمدينة فلورنس في ربيع سنة 1348، وأنجز الثلاثة أيام الأولى منها في مايو سنة 1349، وهو يومئذ بنابل، كما يستدل من خطاب الإهداء الذي يوجهه عن هذا القسم إلى صديقه الساندرو دي باردي التاجر الفلورنسي، وكان يقيم يومئذ في جايتا؛ وانتهى من كتابة مؤلفه في سنة 1353، أعني لخمسة أعوام من البدء فيه؛ وظهرت الطبعة الأولى من هذه المجموعة الخالدة في سنة 1492
وقصص الأيام العشرة تجري حوادثها في جميع المدن الإيطالية وفي بلاد بعيد أخرى مثل البرتغال أو إنكلترا والإسكندرية وآسيا الصغرى؛ وقد اختصت فلورنس موطن المؤلف؛ وكذلك نابل حيث عاش بوكاشيو مدى حين، بكثير منها؛ وفي كثير منها نجد صوراً ممتعة لمحاسن الطبيعة في تلك الأرجاء، ووصفاً شائقاً فكهاً لمجتمعات هذه العصور وخلالها ومثالبها
كذلك تقدم إلينا هذه القصص أبطالاً من كل صنف وضرب؛ فهنالك مجتمع العصور الوسطى بكل طوائفه وشخصياته، من سادة وفرسان وأحبار وقسس، وشعراء وفنانين، وصناع وعمال ولصوص، ونساء من كل ضرب؛ وهنالك شخصيات الطبقة العليا من ملوك وأمراء وسادة وملكات وأميرات وسيدات أنيقات من كل الطبقات، وهنالك طائفة كبيرة من ملوك وأمراء معينين معاصرين وغير معاصرين
ونجد مثل هذا التباين في موضوعات القصص؛ ونلاحظ أولاً أن القصص كلها بعيدة عن الإسهاب الممل، وقد صيغت في أحجام متقاربة، من خمس صفحات إلى عشرين؛ بيد أن هذا الإيجاز في الحجم لم يحل دون حسن السبك، ففي كل قصة فكرة طريفة، وفي كل
نادرة فكهة، وحادثة مطربة. وهنالك تنوع ظريف في الحوادث والفكر؛ بيد أنه يلاحظ أن القصص الغرامية تشغل أكبر حيز وتفوز بأكبر نصيب، وربما كانت تسعة أعشار المجموعة كلها. وهنا تبدو براعة بوكاشيو وفنه بصورة بارزة؛ فهذه المجموعة الغرامية الحافلة بعيدة عن التماثل الممل، وفي كل منها نجد مأساة أو مهزلة غرامية طريفة؛ وربما صيغ بعضها في أثواب مغرقة، وتضمنت فكراً أو مواقف مستحيلة، ولكنها على العموم تنفث نفس السحر والمتاع
وهذا الأفق الغرامي الساحر هو الذي يسود قصص الأيام العشرة؛ وهنا يبدو بوكاشيو في ذروة فنه وسحره؛ فالحب هو قوام المجتمع، وهو متاع الحياة، والحب يمد المرأة والرجل معاً بكثير من البراعة والعزم والخيانة والشجاعة والكرم، والإقدام والغدر؛ وفي أحيان كثيرة يمزج بوكاشيو المأساة بالهزل والفكاهة؛ فهنا زوجة خؤون تدبر أن يضرب زوجها في نفس حديقته من يد حبيبها، وتحمله على منازلته كعنوان على الإخلاص والحب؛ وهنا طالب عاشق يسير طول الليل فوق الجليد جيئة وذهابا، بينا تحدجه الحسناء وحبيبها باسمين من وراء النافذة؛ وهذا قس ساذج تستخدمه زوجة عاشقة دون أن يدري في توثيق علائقها بحبيبها المنشود وتدبير وسائل التمتع بوصله؛ وهذه زوجة خبيثة تدبر لحبيبها الوصل في منزلها وفي فراشها، بينا زوجها يضرع إلى ربه مستغفراً عن ذنوبه في مكان آخر من الدار؛ وهذا قس خبيث يفترس فتاة ساذجة تحت ستار الوعظ والهداية؛ وهذه راهبة مضطرمة تحتل لاقتناص جنان الدير حتى توقعه في شرك وصالها، وغير ذلك مما يضيق المقام عن ذكره
ومما يلاحظ بنوع خاص أن بوكاشيو يحمل على الأحبار والقسس بشدة، وينوه في كثير من المواطن بأخلاقهم الفاسدة وشهواتهم الوضيعة، يسترونها تحت ثيابهم ومظاهر ورعهم الغادرة؛ وإليك كيف يعرض بوكاشيو نظريته في خبث رجال الدين على لسان بانفيلو أحد الفتيان الثلاثة إذ يقول:
(سيداتي الحسان، لقد خطر لي أن أقص عليكم حديثاً ضد أولئك الذين يسيئون إلينا دائماً، دون أن نستطيع نحن الانتقام منهم؛ وأعني بذلك رجال الدين الذين أعلنوا حرباً صليبية على زوجاتنا، والذين إذا ظفروا بواحدة منهن، تصوروا أنهم قد غنموا غفران الذنب
والعقوبة؛ وفي ذلك يعجز المدنيون عن مقابلتهم بالمثل، وإن كانوا يصبون جام انتقامهم على أمهات القسس وأخواتهم، وخليلاتهم، وبناتهم، ويطاردونهن بمثل الحماسة التي يطارد بها القسس أزواجهم)
فيجيب زميله فيلوستراتو: (إن الحياة الفاسقة الدنسة التي يحياها رجال الدين، وهي في كثير من نواحيها عنوان دائم للخبث، تقدم بكل سهولة فرصة لذوي العقول ليحملوا عليها ويجرحونها)
ويقد إلينا بوكاشيو مجموعة متباينة من القسس الذين فاضت نفوسهم بأروع صنوف الاجتراء والإثم، ويصور لنا خبائثهم ودسائسهم وتحيلهم على استباحة الأعراض بكل الوسائل، واستتارهم في ذلك باسم الدين؛ كذلك يقدم إلينا طائفة من الراهبات اللائي يضطرمن وراء جدران الدير توقاً وجوى، ويلتمسن تحقيق شهواتهن بأخس الوسائل؛ وفي هذه القصص الكنسية يبدو بوكاشيو في ذروة فنه وسخريته اللاذعة، ومع أنه يشتد في حملته على الكنيسة وأحبارها، فإنه يحيط هذه الصورة الخبيثة بكثير من الدعابة والمرح
وقد أثارت هذه القصص المثيرة سخط الكنيسة الكاثوليكية على الكتاب ومؤلفه، فوضعته فيما بعد في قائمة الكتب المحظورة؛ ولكنها لما رأت بعد ذلك أن هذا الحظر لم يحل دون ذيوع الكتاب، سمحت بظهوره في القرن السادس عشر في ثوب مهذب رفع منه القسس والراهبات واستبدلوا في صلب القصص الأصلية بسيدات وسادة
وقد كتب بوكاشيو قصصه بكثير من الحرية والبساطة؛ وإذ كان معظمها يتحدث عن الحب والوصل، فإن مؤلفها لم يحاول تحفظاً في وصف المناظر والصور، ولم يحاول تكلفاً في اللفظ أو التعبير؛ وعلى ذلك فقد يبدو لنا أن قصص الأيام العشرة تخرج في كثير من المواطن عن حدود الحياء والحشمة؛ والواقع أن بوكاشيو يحدثنا عن الحب والوصل، وعن العلائق والشهوات الجنسية في كثير من البساطة والصراحة، ويقدم إلينا هذه الصور الغرامية المضطرمة عارية لا يسترها لفظ أو تحشم؛ ولكن هل يجوز لنا مع ذلك أن نعتبر قصص بوكاشيو أثراً خليعاً ينبو عن معيار الحياء والحشمة والخلق الرفيع؟ لقد وجهت هذه التهمة إلى قصص بوكاشيو منذ ظهورها، ومازالت توجه إليها في عصرنا؛ واضطر بوكاشيو نفسه أن يجيب عنها في خاتمة مجموعته، وأن يبرئ نفسه من قصد العبث
والإسفاف
يقول النقدة، لقد تحدث بوكشيو كثيراً عن الحب، وأسرف في ملق النساء واسترضائهن؛ ويجيب بوكاشيو، ولماذا لا؟ لقد ملق النساء أذهان عظام مثل جيدو كافالكانتي ودانتي الجييري، وألفوا في استرضائهن متعة وشرفاً
ويقولون أن بوكاشيو استباح لنفسه وصف المناظر الجنسية المثيرة، واستعمل ألفاظاً تنبو عن الحياء والحشمة؛ ويقول بوكاشيو إنه ينكر هذه التهمة، (لأنه لا يوجد ثمة شيء قبيح يحظر على إنسان ما، إذا استطاع أن يخرجه في صيغ مقبولة، وهذا ما يلوح أنه قد فعل بصورة مرضية)
ويقولون أن هذه القصص تثير فساداً وتحدث ضرراً؛ ويقول بوكاشيو، إن كل شيء في الوجود يمكن أن يحدث الخير والشر؛ فمن ذا الذي لا يعرف أن النبيذ وهو من أفضل مقومات الصحة، مضر بالمحمومين؟ وهل لنا أن نقول إنه ضار لأنه يؤذي المحمومين؟ ومن ذا الذي لا يعرف أن النار مفيدة بل ضرورية للإنسان؟ وهل لنا أن نقول أنها شر لأنها تحرق الدور والقرى والمدن؟ كذلك تكفل الأسلحة سعادة أولئك الذين يريدون العيش في سلام؛ ولكن الأسلحة كثيراً ما تودي بحياة الناس، لا لخبث في ذاتها، ولكن لخبث أولئك الذين يستعملونها. ثم يقول بوكاشيو: فإذا كان ثمة في الأيام العشرة قصص مثيرة أو خارجة، فإنه لا ضير من وجودها، ولم يكن في وسعي أن أكتب غير ما سمعت؛ ولا عصمة لإنسان؛ وفي الحقل النضر تنمو الأعشاب الضارة؛ ولما كنت أقصد أن أحدث فتيات الشعب، فإنه لم يكن ثمة داع للتكلف والبحث عن الصيغ والعبارات المنمقة
هكذا يعتذر بوكاشيو عما عسى أن يبدو في قصصه من خروج على حدود الحياء والحشمة؛ بيد أنه مهما كانت الملاحظات التي تبدى في هذا الشأن، فإنه لا ريب أن قصص بوكاشيو، تعتبر من أقيم الآثار العالمية وأبدعها وأمتعها
وقد كان لمجموعة الأيام العشرة أعظم الأثر في تطور النثر الإيطالي، وتطور فن القصص الأوربي بوجه عام؛ ومازالت آثار بوكاشيو تعتبر إلى جانب آثار دانتي وبترارك، قوام الأحياء الأوروبي، والصرح الأول في بعثه وازدهاره
(تم البحث - النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان
عَالَمُ الإيحاء
للأستاذ عبد الرحمن شكري
إذا مجد المنطق أمام الإنسان في الحياة نشأ على احترام المنطق إلى حد كبير، حتى ليعد العقل كأنه طاحونة منطق، وحتى يظن أن وسائل التأثير مقصورة على مقتضيات المنطق وأن لا إقناع إلا الإقناع المنطقي، ويخفى عنه أثر الإيحاء الذي يتخذ قوى النفس وميولها ونزعاتها وعواطفها وإحساسها وسائل يستخدمها بطرق تعجز أحياناً تتبع المنطق وتقصيه. وإذا اعتقد الإنسان أن الحياة مؤسسة على أسس من المنطق فحسب، وفاجأته بعكس هذا الاعتقاد إذا اختبرها، صعب وقع تلك الخبرة في نفسه. فإن تجاريب المرء في الحياة تعلمه أن الحياة ليست مؤسسة على الإقناع المنطقي فحسب، وأن المنطق نفسه يستخدم لكل غرض حتى غرض الإيحاء، وأن المنطق خليق أن يشبه بالخادم الذي يعمل في بعض البيوت فيغسل أماكن دورات المياه تارة، وتارة يطهي ويقدم الطعام للأسرة والزوار. والحقيقة هي أن للإيحاء أثراً كبيراً في الحياة حتى أنه ليسيطر على المنطق في بعض الأحايين ويستخدمه لأغراضه، وفي بعض الأحايين يغري المرء بعكس ما يغري به الإقناع المنطقي
وقد يعتمد المرء على مقتضيات المنطق لنيل العدل بين الناس في الحياة أو ما يراه عدلاً؛ فإذا لم ينله انهارت دنياه ودهش إذا لم يكن عالماً أن وراء حياة المنطق حياة أخرى تدين للإيحاء، وأن عليه أن يحدد موقفه في عالم الإيحاء هذا، وأن يتخذ عدته له وأن يبحث مخبآته وأسراره، فإن قيمة الناس والقضايا في ذلك العالم ليست إلا بقدر ما تستطيع أن تستخدمه من وسائل الإيحاء ومؤثراته، ولا يخلو أحد في الحياة من الخضوع لعوامل الإيحاء والتأثر بها سواء في ذلك التاجر والموظف
يحكى أن أشعب الثقفي قد أولع الغلمان بمعاكسته يوماً فقال لهم ليصرفهم عنه: إن في شارع كيت وكيت أفراح عرس تنثر فيها الدنانير على الجمهور؛ فصدق الغلمان قوله وتركوه وجروا إلى المكان الذي وصفه في قوله، فلما رأى أشعب تصديق الغلمان أغراه ذلك وجرى خلفهم إلى المكان الذي وصفه في قصته التي لفقها كي يصرف الغلمان عنه. والناس في الحياة على شاكلة أشعب فيما يشيعون من الخير والشر عن أنفسهم أو عن
غيرهم، يقولون ما ليس بحق ثم يصدقونه إذا رأوا تصديق الناس له، وهذا بسبب تأثير الإيحاء في أنفسهم. ولا يستطيع المرء أن يفهم الناس إلا إذا فهم هذا الإيحاء، وإلا إذا فهم أن النفس قد تجمع بين النقيضين في وقت واحد، فتجمع مثلاً بين أثر الإيحاء وبين الدليل المنطقي الذي ينقضه
خذ مثلاً آخر: يقول لك علي أن أحمد قد هجاك، وأنت تعرف أن علياً كاذب فيما نقل عن أحمد، ولكن من المستطاع أن تجمع في نفسك بين تكذيب علي وبين الامتعاض من أحمد الذي تعرف براءته، والامتعاض هذا من أثر الإيحاء
والإنسان يستطيع أن ينقل الكلام المحكي من عالم المنقول إلى عالم المدرك بالحس بسبب أثر الإيحاء أيضاً، حتى أنه لو قيل لجماعة أن إنساناً ينظر إليهم شزراً لم تعدم بينهم من يرى ذلك أو يظن أنه يرى ذلك وإن لم يحدث؛ وبعض الناس أكثر تأثراً بالإيحاء من غيرهم. وقد حكي أن بعض فقراء الهنود يرمون بحبل إلى السماء فيظل ممدداً حتى يستطيع غلام أن يصعد إلى طرفه الأعلى؛ وفسر بعض الكتاب هذه القصة بأنها من أثر الإيحاء في نفوس بعض النظارة، وبسبب أن المرء ينقل الكلام المنقول المحكي إلى عالم حسه فتنشأ دعوى المشاهدة. وهذه الصفة في الإنسان كثيراً ما تخدعه ويخدع بها غيره من الناس في أمور كثيرة من أمور الحياة. وقد ينخدع بها ويصدقها وهو يعرف أنها وهم؛ وقد يجمع بين تصديقها وتكذيبها في نفسه في وقت واحد
ويعتقد كثيرون أن الإيحاء يؤثر في الحيوان أثره في الإنسان. ومن المشاهد أن احساسات الإنسان من ذعر أو حب أو فرح أو خوف قد تنتقل إلى الكلاب مثلاً عن طريق الإيحاء. وقد بالغ بعض الناس فادعى أن أثر الإيحاء قد ينتقل إلى الجماد أيضاً. وعلل إسقاط كهنة زنوج أواسط أفريقية الأمطار بهذا الأثر. والعلم لله في هذا الأمر
وترى الجهال في الحياة يستخدمون وسائل الإيحاء لمنفعة النفس أو منفعة الصديق ومضرة العدو بطرق منظمة تحسبها نتيجة دراسة الإيحاء والبحث في علم النفس، وما هي بنتيجة دراسة وعلم، ولكنها السليقة التي تبصر الإنسان بوسائل الإيحاء. ولو علم الصائلون بإيحائهم المقتدرون به الجالبون لأنفسهم ولأودائهم به الخير أن بين العامة من لا يقل قدرة عن الخاصة في استخدام الإيحاء ما افتخروا بمهارتهم في استخدام وسائل الإيحاء ولا
عدوها من دلائل العقل والحكمة، ولا حسبوا أنهم فازوا في الحياة بهمها، ولو علم العقلاء الحكماء أن وسائل الإيحاء أقرب إلى النجاح من وسائل العقل، وأن الإيحاء يستمد من السليقة ما غالوا بعقلهم وحكمتهم كل المغالاة، ولا حزنوا إذا أبصروا انخذال وسائل العقل وانهزامها أمام وسائل الإيحاء
والتأثر بالإيحاء من صفات القطعان، سواء القطعان البهيمية والقطعان البشرية؛ فإذا أحدثت بهيمة في قطيع صوتاً أو اتخذت طريقاً تابعتها بهائم القطيع. وهذا هو ما يحدث أيضاً في القطيع الإنساني بسبب أثر الإيحاء والمحاكاة التي هي من أثر الإيحاء. والقطيع البشري أكثر تأثراً به بسبب إحساسه وخياله الناميين. والإيحاء قد يكون في النوم أو في اليقظة، وكثيراً ما كان يعتمد السحرة على الإيحاء وأثره في النفس، وتأثر الجسم بما تعتقده النفس
وقد تتذبذب وتتحول نفوس الناس ساعة بعد ساعة، أو يوماً بعد يوم تذبذباً لا حد له في الأمور اليومية والاحساسات المتغيرة العارضة بسبب اختلاف أنواع الإيحاء ومراميه، حتى ليشبه تذبذبهم تذبذب السراب أو ذرات الهباء في أشعة الشمس، ولكنهم لا تأخذهم الدهشة من أنفسهم لأنهم لا يفكرون في أنفسهم ولسرعة التذبذب كما لا تحس دورة الأرض، ولأنهم ثابتون على بعض عقائد ومبادئ عامة لا مناص لهم من الثبات عليها، فتلهيهم عن تذبذبهم المستمر بسبب اختلاف نزعات الإيحاء، والتذبذب النفساني ينشأ عنه تذبذب جثماني لاختلاف حركات الوجه والجسم حسب الأهواء والميول والنزعات النفسية. والبيع يشبه الاحتيال من ناحية الاعتماد على الإيحاء إلى حد كبير، وإن اختلفا فيما عدا ذلك، ويسمي الناس وسائل البيع والاحتيال التي تعتمد على الإيحاء الطريقة الأمريكية في البيع، والطريقة الأمريكية في الاحتيال والنصب، وهي طريقة شائعة في النفوس عامة وفي كل أمر من أمور الحياة من تجارة أو مهنة أو صداقة أو محبة أو عداوة، وإنما تختلف باختلاف النفوس ولا تمنع من اقترانها بنصيب من الفضيلة أو الصدق أو النزاهة أيضاً، لأن النفس تجمع بين النقيضين. ويستخدم الإيحاء كثيراً في الإعلانات عن العقاقير والكتب والمؤلفات وغيرها
ومما يزيد الإيحاء قوة أن المتأثر به الذي نقل أثر الإيحاء إلى عالم حسه ومشاهداته كما أوضحنا يصبح شاهداً يستشهد به صاحب الإيحاء كأن شهادته ليست نتيجة أثر إيحائه، إذ
المتأثر بالإيحاء بعد أن ينقله إلى عالم حسه ويدعي أنه من أثر مشاهدته ومن أثر اقتناع حواسه ينأى بنفسه ويترفع عن أن يكون ذنباً لصاحب الإيحاء تابعاً له، فيدعي الاستقلال في الرأي والمشاهدة، حتى لقد يخدع صاحب الإيحاء، فيتأثر به صاحب الإيحاء، ويتناسى أن رأيه من أثر إيحائه
ولقد أتقنت وسائل الإيحاء للإعلان عن ممثلي وممثلات الصور المتحركة، كما أتقنت وسائل الإيحاء عندما تنشر دولة الدعوة العالمية ضد دولة تعاديها أو تحاربها
والإيحاء قد يطرد في شكل سلسلة من الحلقات من إنسان إلى ثان ثم إلى ثالث ورابع الخ، حتى يختفي مصدر الإيحاء وأوله ومنشؤه. وإذا كان إيحاء المرء لغيره سهلاً ميسوراً فإيحاؤه لنفسه أسهل وأيسر، لأنه أملك لها؛ وقد يفطن إلى أن إيحاءه لنفسه مغالطة، ولكنه يقدس تلك المغالطة كما يقدسها لو كانت من أثر المنطق والإقناع المنطقي، بل قد يقدسها أكثر من تقديس ذلك الإقناع، فترى أن وراء هذا العالم المادي الظاهر، ووراء ما يبحثه به الباحث من منطق يوجد عالم آخر حقيق أن يسمى عالم الإيحاء
عبد الرحمن شكري
من الموضوعات التي نالت الجائزة في المباراة
الأدبية
التربية الوطنية الاستقلالية وأثرها في بناء الأمة
للأستاذ محمد عبد الباري
- 3 -
ومع أني لست من القائلين بالفصل التام بين السلطات، فإني لا أجد في سلوك القاضي هذا مأخذاً حتى ممن يقولون بالفصل التام. فتصرف القاضي على النحو الذي ذكرت يمكن حمله على حق إبداء الرأي بكافة الوسائل باعتباره عضواً ممتازاً، بنوع ثقافته وبخبرته، من أعضاء الجماعة التي يعمل فيها ولها، وبهذا الوصف لا يكون تصرفه تدخلاً من السلطة القضائية في شؤون السلطة التشريعية
ومن أدق عمل القاضي حكمه فيما يختص بعلاقة الحكام بالمحكومين. ففي هذا المجال بخاصة تظهر قيمة الاستقلال والإقدام والكياسة. وبديهي أن القاضي المقدر لمركزه لا يتردد في القضاء بما تمليه روح القانون والعدالة. لا يعمل بغير الواجب إذا كان حراً مستقلاً. فالكل أمامه سواء. إن القاضي النزيه المقدام يبعث في الجماعة الشعور بأن الكل في حماية القانون، وهذا الشعور، يدعمه الواقع، يعين كثيراً على حرية إبداء الرأي وحرية التصرف ومن ثم يؤدي إلى خير المجموع
جـ - وليست التربية الاستقلالية أقل أثراً في الشؤون الإدارية. ففي البيئات الحرة المستقلة يعمل الصغير والكبير بما تقتضيه المصلحة العامة ويوحي به الضمير الحر. يقترن الإحساس بالكرامة باستشعار المسؤولية فلا يخشى المرؤوس أن يبت في الأمر أو يلقي بالرأي، ولا يشمئز الرئيس من قبول ملاحظات المرؤوس والعمل بها إذا ما تبين وجه الصواب فيها. المستقل لا يصطنع الرياء والملق؛ ومهما صغر مركزه الاجتماعي فهو في نفسه كبير؛ والواثق من نفسه يبرم الأمور مادامت في متناول يده ولا يؤجل ولا يتهرب. هذا إذا كان مرؤوساً، وإذا كان رئيساً فإنه لا يرى في مرؤوسه الحر شذوذاً أو غروراً فيغضي عنه، بل يرى فيه كفاية وإقداماً فيقبل عليه. يقومه إذا أخطأ ويشجعه إذا أصاب،
ويقدره إذا أجاد. بذا تسير أداة الحكومة بلا إبطاء أو عوج، وتقضى مصالح الناس بلا إرجاء أو إهمال، لأن كلاً يحتمل نصيبه ويقوم بواجبه
على أنه مما يقوم سبل الإدارة ويوجهها جادة الحق سلوك أصحاب الحاجة أنفسهم. ففي البيئات الحرة يستمسك المرء بحقه، ولا يرى في عمال الإدارة طبقة مميزة عليه، ولا يعتبر الالتجاء إليهم لقضاء مصالحه استجداء أو استعانة لم يؤد ثمنها. بل يرى أن من حقه طلب ما يطلب في حدود القانون، ومن واجب عمال الإدارة خدمة الناس خاصتهم وعامتهم في هذه الحدود، قياماً بواجبهم وأداء لحقوق الغير عليهم. أما استخذاء الشعب واستكانته إزاء تصرف غير كريم من أحد عمال الإدارة فإنه يغري من وهنت أخلاقهم بظلمة وإهمال شؤونه من جهة ويشجعهم على التواني والعدوان بصفة عامة من جهة أخرى
التربية الاستقلالية كما قلت تنمي في الفرد صفتي الثقة بالنفس والإقدام. ولهما أهميتهما العظمى في الوسط الإداري. فالإدارة لا تستمد قوتها واستقامتها من النظم الموضوعة فقط، بل من شخصية منفذي القوانين والنظم. فهم يطبقونها ويفسرونها للخير والشر، كبيرهم وصغيرهم كل بنسبة نفوذه وقوة شخصيته. والمقدام لا يتهيب طلب الإصلاح وإن صغر مركزه وضاق نطاق مسؤوليته. ولكنه يقدم غير هياب ولا وجل فيكون أكثر إنتاجاً وأعظم للجماعة خدمة
وهنا لا أجد مندوحة، اتباعاً لمنهاجي في البحث، عن ضرب مثل برجل الإدارة ذي الشخصية والإقدام والإحساس بالواجب
صدر قانون محاكم الأخطاط سنة 1912، ولاحظ أحد كتاب المحاكم الجزئية الأهلية بينما كان يفتش أعمال بعض محاكم الأخطاط لسنة 1922، أن بمحكمة خط العطف قضايا مدنية عظيمة القيمة تحكم فيها المحكمة حكماً نهائياً. وهاله كثرة القضايا، وخشي أن يكون في الأمر غبناً على الفلاح بحرمانه حق الطعن في الحكم، وغبناً على الخزانة العامة بتحصيلها رسماً مخفضاً. ولما ناقش الكاتب المختص أجابه هذا بأنه يتبع نص القانون القاضي بأن محكمة الخط تختص بالحكم نهائياً في المنازعات التي يتفق طرفا الخصومة على أن تنظرها
وفاتح رئيسه القاضي الجزئي فنصحه بأن يلزم حدوده فهذا بحث لا يدخل ضمن عمله
الكتابي. لكن الفتى كان حساساً بواجبه فلم يقنع بهذا. وبحث فهداه البحث إلى مخرج وهو أن الاتفاق في مثل هذه الحالة التي كان يعالجها ضد النظام العام، فهو باطل لهذا السبب. ذلك أن المدعي في تلك القضايا كان مقيماً بالقاهرة ومن كبار تجارها. وفعلاً كتب مذكرة برأيه هذا وأبلغه رأساً لرياسة محكمة الإسكندرية، وهذه بدورها أبلغته لوزارة الحقانية. وما كان أشد سرور صاحبنا لما وصلته بعد قليل من الزمن تعليمات عامة أرسلت بها وزارة الحقانية للمحاكم تقضي بأن مثل الاتفاق المشار إليه باطل. وهكذا أنتج إحساس كاتب بسيط تعديلاً في سير المحاكم في مسألة فيها شيء من الخطورة، بعد أن سارت عشر سنين على عكس ما ينبغي أن تسير في هذه النقطة
ذاك الموظف عينه التحق بمصلحة أخرى وكانت الجهة التي يعمل بها تتلقى تعليماتها من وزارة الداخلية. وحدث أن أرسلت الوزارة تعليمات فيما يتعلق بمحاكمة أكبر طائفة من موظفي مصلحته. ورأى هو أن التعليمات لا تتفق مع صريح نص اللائحة المعمول بها. وأنها فوق ذلك تحرم طائفة كبيرة من ضمان هام. فاعترض في لطف بأنه مع وجود النص الصريح كيف تطبق تعليمات الوزارة بغير أن تعدل اللائحة طبقاً للقانون. ولكن الوزارة لم تأخذ برأيه. فترقب فرصة ملائمة، لاعتقاده أنه يصعب أن تعدل الوزارة عن رأي بناء على ملاحظات موظف بسيط خارج الوزارة؛ ثم كتب اقتراحاً بصورة أخرى وأبلغه الوزارة فشجعها على تعديل التعليمات بما يطابق اللائحة دون أن يكون في ذلك حرج. وفعلاً عدلت الوزارة التعليمات
ولكن من الحق أن نذكر أن هذا الموظف لا يجد عمله هيناً دائماً، بل كثيراً ما أوذي لتمسكه برأيه وعدم تقيده بحرف التعليمات دون روحها. بل أحياناً يتعرض للجزاء بسبب رفضه التقيد بلفظ التعليمات المالية إذا كان تنفيذ روحها يحقق مصلحة مالية للهيئة التي يعمل بها ويتمشى مع المنطق، ولا تتعرض معه المصلحة لنتائج إجراء غير عادل
هاتان واقعتان من الأمور البسيطة. ومن الممكن تصور حالات يؤدي استمساك أحد عمال الإدارة برأيه فيها إلى تلافي قرار ضار أو إلى توفير أموال طائلة، أو اتقاء عمل يحمل الجماعة مسؤوليات جساماً
لكن جل صغار موظفي الإدارة عندنا، بل كبارهم، لا يكتفون بموافقة رئيسهم على ما يقول
أو يطلب، وإن خالف القانون والمصلحة، بل يكادون يسبقون رؤساءهم إلى ما يظنون أنه يرضيهم غير مبالين بالقانون أو الحق أو العدل، وفاتهم أن الرئيس إذا عرف الأمور كما ينبغي، قد لا يتمسك بالرأي. وغاب عنهم أن للجماعة الذين يعملون لحسابها حقوقاً يجب رعايتها، وأن لأنفسهم حقوقاً تقضي بعدم امتهانها بتزويق الباطل وتحويلها إلى أداة تصدع بما تؤمر ولا إرادة لها
هذه الظاهرة المحزنة دليل على ضعف التربية الاستقلالية. فمن واجب جميع المصلحين أن يعملوا على القضاء عليها بعدم تشجيع المرائين والمتملقين، وبتقدير العاملين المخلصين للواجب وللحق والعدل. أما أبناء اليوم رجال المستقبل فيجب عدم ادخار شيء في سبيل إنشائهم على حرية الرأي واستقلال الفكر والإقدام والشجاعة من جهة، وعلى بعض الطغيان والصلف والتعصب للذات من جهة أخر
(البقية في العدد القادم)
محمد عبد الباري
عين جالوت
للأستاذ عبد الله مخلص
أذكرنا الأستاذ الألمعي محمد فريد أبو حديد بوقعة عين جالوت بين المصريين والتتار، ووقفة الأولين فيها موقف الذائدين عن حياض الإسلام الذابين عن كيانه
وما كان الإسلام لينسى لمصر ذلك اليوم الأغر المحجل الذي دفعت فيه ذلك السيل المتدافع من التتار وردتهم على أعقابهم يتعثرون في أذيال الهزيمة والخسران، ورفعت فيه نير التتار عن أعناق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان لسنة 658هـ (1260م)
موقف المسلمين الأول في عين جالوت
وللمسلمين في عين جالوت مثل هذا الموقف المشرف سبق موقفهم الثاني بنحو ثمانين سنة، فقد بلغ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب اجتماع الفرنجة في قرية صفورية ورحيلهم إلى قرية الفولة فسار إليهم يطلب حربهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، بينا كان ينضم بعضهم إلى بعض يحمي راجلهم فارسهم، وساروا حتى جاءوا عين جالوت ونزلوا عليها، ونزل السلطان حولهم، والقتل والجرح يعمل فيهم ليخرجوا إلى المصاف فلم يفعلوا خوفاً من المسلمين؛ وكان ذلك أيضاً في يوم الجمعة السابع عشر من شهر جمادى الآخرة سنة 579هـ 1183م كأن الله اختص تلك الليلة الغراء واليوم الأزهر بالنصر
عين جالوت في التوراة
وعين جالوت هذه هي المذكورة في التوراة في سفر صموئيل الأول في الإصحاح 1: 29 باسم عين يزرعيل التي نزل عليها شاول بجيشه في الحرب التي قامت سوقها بين الفلسطينيين والإسرائيليين وأسفرت عن انتحار شاول المذكور بإلقاء نفسه على سيفه والقضاء بهذه الصورة على حياته. ومات معه في هذه الحرب بنوه الثلاثة وحامل سلاحه وجميع رجاله
وهي أيضاً عين حرود المذكورة في سفر القضاة في الإصحاح 1: 7 - 8 ومنها شرب جيش جدعون بن يواش المعروف أيضاً باسم يربعل عند نزوله لحرب المديانيين.
وللتوفيق بين رواية القرآن المجيد عن هذه الموقعة أنقل للقارئ الكريم قبل ذكرها رواية التوراة في الإصحاح المذكور وهذه هي:
(وقال الرب لجدعون كل من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فأوقفه حده، وكذا كل من جثا على ركبتيه للشرب. وكان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم ثلاثمائة رجل. وأما باقي الشعب جميعاً فجثوا على ركبهم لشرب الماء. فقال الرب لجدعون بالثلاثمائة الرجل الذين ولغوا أخلصكم وأدفع المديانيين ليدك. وأما سائر الشعب فليذهبوا كل واحد إلى مكانه)
إلى آخر ما جاء في الإصحاح المذكور الذي ينتهي بخبر انتصار جيش جدعون وفرار المديانيين ومتابعة الإسرائيليين لهم ومطاردتهم
جالوت في القرآن المجيد
وهذه آيات بينات من الذكر الحكيم عن جالوت من سورة البقرة:
(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بنَهرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنيِّ، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فإنَّهُ مِنِّي، إِلاَّ مَنِ اغْتَرفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ، فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ، قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَم مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهَِ واللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (آية 249)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ علَيْنَا صبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكافرِينَ (250)
فَهزَموُهُمْ بِإذْنِ اللهِ، وَقتَلَ دَاوُود جَالُوتُ وَآتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ، وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفسَدتِ الأَرْض، وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمينَ (251)
تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ (252)
قرية جالوت
ولنذكر صفة قرية عين جالوت في القديم والحديث: قال ياقوت الحموي في معجم البلدان: (عين جالوت اسم أعجمي لا ينصرف، وهي بليدة لطيفة بين بيسان ونابلس من أعمال فلسطين كان الروم قد استولت عليها مدة ثم استنقذها منهم صلاح الدين الملك الناصر يوسف بن أيوب سنة 579)
قلنا وقد غشيت عين الجالوت غير مرة مع نفر من موظفي الحكومة العثمانية في قضاء جينين من أعمال نابلس حين كنت في عدادهم، وكنا نذهب إليها أحياناً للنزهة وقضاء يوم العطلة، وكان الماء يتفجر أمامنا من سفح الجبل فيحيط بالمصطبة التي جلسنا عليها من جميع جوانبها ثم ينساب في منحدر يصل إلى مدينة بيسان ويسقي في طريقه الغلال والبقول
وليست عين الجالوت من العيون الصغيرة، بل هي نهر صغير يقال له نهر الجالوت؛ يحاذي سفح جبل قامت عليه بعض القرى والمزارع مثل زرعين ونورس وغيرهما؛ ويقال لهذا الجبل جبل الدحى وبين هذا الجبل وجبل الطور المقابل له في الناحية الشمالية مرج ابن عامر المعروف بوادي يزرعيل كما يعرف جبل الطور بجبل تابور في التوراة
أما اليوم فإن هذه القرية قد أصبحت ملكاً لليهود يتصرفون فيها كيف يشاءون، فقد انتقلت ملكيتها من أصحابها الأصليين العرب إليهم في السنين الأخيرة بعد أن وعدتهم الحكومة البريطانية بلسان وزيرها بلفور المشهور بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين ومكنت لهم في أرضها، وهم كل يوم يقتنصون (بليدة لطيفة) من بلدان فلسطين فيشردون أهلها تحت كل كوكب، ويبنون وطنهم العتيد على أنقاض الإسلام وتراثه الخالد فيغيرون معالم البلاد ويردونها إلى أصولها
هذه عين جالوت التي حمت فيها مصر الإسلام والمدنية والإنسانية قبل سبعة قرون - كما قال الأستاذ أبو حديد - تعود فتتسمى باسمها العبري القديم عين حرود، ويسكنها شذاذ الآفاق من اليهود
وفيها اليوم بحسب آخر إحصاء لحكومة فلسطين 483 نسمة يشغلون 135 بيتاً
ويا ليت أن المصيبة اقتصرت على ضياع عين الجالوت فقط من العرب، بل إنها تعدتها إلى أكثر القرى الآهلة في ذلك الوادي الممرع، وأصبح الباقي القليل عرضة للضياع والانتقال، إلا إذا أراد الله بالمسلمين والعرب خيراً، ودفع بالحكومات الإسلامية والشعوب العربية إلى الدفاع عن هذه الأرض المقدسة التي أسرى الله بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إليها، وجعلها قبل ذلك موطن أخيه عيسى بن مريم عليه السلام، إذ ولد بها ودعا إلى عبادة الله في أرجائها وأنحائها، ورفع إلى الله منها
قلنا ليس لمعضلة فلسطين ووقعتها من دون الله كاشفة. أما الدول الإسلامية فمن واجبها أن تحمي المقدسات في بلاد فيها أولى القبلتين، وثاني البيتين، وثالث الحرمين. أما الشعوب العربية فمن مصلحتها أن تستملك وتتاجر وتسكن وتتوالد في بلاد هي همزة الوصل بين الغرب والشرق، وخط الاتصال بين آسيا وأفريقية، وباب جزيرة العرب التي أخذ قطانها يحبون كما يحبو الطفل لرضيع ويحاولون الوقوف على أرجلهم
فهل تتحقق الأحلام، وتنقلب الآلام إلى آمال قبل استفحال الغزوة اليهودية المحكمة بين سمع الدولة البريطانية وبصرها، بل تحت حرابها وبنادقها ورشاشاتها التي جعلتها حزباً لليهود وحرباً على العرب؟ ولله الأمر من قبل ومن بعد
(حيفا)
عبد الله مخلص
من أدبنا المجهول - شاعر يرثي ولده بديوان
اقتراح القريح واجتراح الجريح
لأبي الحسن علي الحصري
بقلم الأديب السيد أحمد صقر
(للأستاذ الزيات عزاء وسلوة)
من أغرب الظواهر في الأدب العربي - إن لم يكن في الغربي - أن يرثي شاعر ولده الصغير بديوان كبير، ثم يظل مجهولاً طيلة ثمانية قرون ونصف قرن، لم يحاول أحد خلالها نشره أو التعريف به
ومازالت خزائن الأدب العربي ملآى بالآثار الرائعة التي خلفها لنا الأجداد تجاذب الأحداث أسباب البقاء، حتى إذا ما صرعها الزمن وقفنا على أطلالها نندبها ونبكيها، ونقول كان لنا وكان. . .
من تلك النفائس المشرفة على الفناء ديوان فذ في بابه، غريب في اسمه وموضوعه، نظمه أبو الحسن الحصري صاحب القصيدة المشهورة: يا ليل الصب متى غده؟ سماه اقتراح القريح واجتراح الجريح وكل قصائده في رثاء ابنه الوحيد عبد الغني؛ رزقه وقد بلغ من الكبر عتياً، ورزئه وقد أتم التاسعة من عمره
وكان موته بالنزيف: فسالت حشاشة نفسه من أنفه، وفي ذلك قوله:
لست أنسى مقامه ومقامي
…
وكلانا مثل القتيل خضيبا
أنفه ينثر العقيق وعيني
…
تنثر الدمع بالعقيق مشوبا
ليس للحصري غير هذا الديوان على كثرة شعره، ووفرة أدبه، يدلنا على ذلك قوله في مقدمة الكتاب:(والقرآن شعاري، ولذلك لم أجمع أشعاري، سحرت بها العقول فحبذتها، ووراء ظهري نبذتها، تركتها لمن يعيها، فيسرقها أو يدعيها، يرثني بغير نسب، ويملكها بغير نشب، حاشا ما في كتابي هذا)
لم يطبع هذا الكتاب ولم يشتهر أمره بين الأدباء، ولم يجر ذكره على أسلات أقلام المؤرخين، ولعل ذلك راجع إلى ندرة وجوده، وقلة ذيوعه. . .
في دار الكتب المصرية نسخة فريدة من هذا الديوان النفيس مخطوطة بخط معتاد فرغ ناسخها من نسخها في سادس ربيع الأول سنة سبع وستمائة، عدد صفحاتها 262 من القطع الكبير. بها خروم وخروق، وآثار عرق لا تمكن القارئ من متابعة قراءته
قدم الناظم بين يدي ديوانه ثلاث خطب، أولاها مهملة الحروف، قد بدأها بقوله:(الحمد لله ملك الملك ولا أمد، وممسك السماء ولا عمد، سمكها فأطلع مهلها، وعلم آدم الأسماء كلها، ووعد لأعمال الطاعة، وواعد لأهوال الساعة، لا أمر إلا أحكمه، ولا مراد إلا حكمه، لا إله إلا هو إله واحد لا ولد له ولا والد، أحمده لآلاء أولاها، وأدعوه ملك الأملاك ومولاها) الخ وهي تملأ عشر صفحات، وقد عقبها بقوله:(نثرت فأبلغت، ونظمت فتفننت. وهذه الخطبة على بلاغتها، وإبداع صياغتها حليتها من بدر بحري ملقوط، وأخليتها من كل حرف منقوط، وأردت أن أشفعها بأخرى منقوطة الحروف، فوجدتني أخرج فيها عن الرسم المعروف، إذ استفتاح الخطب بحمد الله والثناء عليه، وذلك في المنقوطة لا سبيل إليه؛ غير أني اختصرت فأثبت منها ملحا في لمح، ورب دليل في قليل، ورب عثار في إكثار). ويلي هذا التعقيب الخطبة الثانية وأولها: بثثت بثي الخ وهي تقع في ثلاث صفحات. وبعدها الخطبة الثالثة وهي أهمها من الوجهة التاريخية والأدبية. وهي في 29 صفحة. وقد أحببت أن أنقل لك منها شذرات لتعرف قصة الرجل وعقله وتفكيره وأسلوبه في النثر
قال بعد كلام طويل لا وحدة تجمعه، ولا سبب يربطه: (ولما أنقض ظهري، ما وزرت في سري وجهري، وهدم الموت في ابني، ما كنت من الأمل أبني، سألت الله له الانتجاب، فقال لا بد أن تجاب، وأنجبه طفلاً، وأتاني به كفلاً، فنمى مهذباً في مهده، ومازال ينمى بعهده، حتى أكمل تسعة، ورامت سعيه الكبار فلم تسعه. كان يروق هلالاً، ويشوق زلالاً، فقالوا يافعك نافعك، وقال الله بل هو شافعك. أعطانيه بفضله، وأخذه بعدله، فجرحتني أنياب النوائب، وقرحتني أوصاب المصائب، نثرت شاكياً ما اجترحت إلى فاطري، ونظمت باكياً ما اقترحت على خاطري، وقلت عسى الله أن يرحم الناظم الناثر، فيسلي المحزون ويقيل العاثر، وسميت هذا الكتاب: اقتراح القريح، واجتراح الجريح. وضمنته قصائد على حروف المعجم، وإن كانت من الأحزان كالملجم، ومقطعات تقفو كل قصيدة في قافيتها، على أنها مثيرة الأحزان غير شافيتها، ونظمت من فصول المنثور، مقطعات في الزهد
المأثور. على أن خطبي جليل، وخطابي كليل. فتنزهت في حديقتين زهراوين أنيقتين، وبحت بما كان مكتتماً، ونحت مفتتحاً ومختتما، وأنا أستغفر الله من تشحطي في تسخطي، ومن عاري الأشعار الكاسدة الأسعار وصفت فيها المقبوحين بالجمال والمنقوصين بالكمال. . . . وكنت نظمت كل هذه الأشعار إذ قلبي مشتعل، ثم أخرتها خمس سنين إذ لبي مشتغل، وفكرت في صرعة الموت، وفي سرعة الفوت، فبادرت الآن إملاء هذا الكتاب إذ رغبت إلى فيه بعض الكتاب، رجوت به الترحم علي من كل من يقرؤه؛ وعسى الله أن استحققت العذاب يعفو عني ويدرؤه). . . . . . .
(ابني متى أبني مجداً هدمه الدهر يوم مصابك؟ ومتى أخصب في ربع أمحله الدمع غب غيابك؟ تركتني في الإظلام نهاراً، وأجريت دمعي أنهاراً، فأي مرثية فيك أسلو بها، وإن أعجب الناس بأسلوبها، وأي عيشة بعدك ألهو بها، وحسرتك لا يطفأ حر ألهوبها؟ أستغفر الله قد سلوت بعض السلو، بأم العلو، أتتني بعدك على الكبر، فحمدت الله وعددتها من الحسنات الكبر ثم قلت بديهاً:
يهب الله لمن شا
…
ء إناثاً وذكورا
فإذا أعطاك بنتاً
…
فكن الراضي الشكورا
واسأل الله - لك الخي
…
ر رواحاً - وبكورا
وأقم في العسر واليس
…
ر وذر عنساً وكورا
فعلى الأفراخ حباً
…
تألف الطير الوكورا
وما أتت إلا ورزقها معها، ما أقنط نفس المرء وأطعمها، ساعة أفرح بها فأسلو، وساعة بالحزن فيك وفيها أخلو، وطورا أمر أخلاقاً وطوراً أحلو، إذا ذكرت الموت اشتغل بال أمها بل بالي، وإن نظرت محاسنك فيها اهتاج بلبالي، فترحتي أكثر من فرحتي، وسبيل الدنيا هذي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل
حببت ابنتي وابني فقد عاشت ابنتي
…
لهمي ومات ابني ولم يمت الحب
وما ذكر يشفي كأنثى تهمني
…
ولكنني راض بما صنع الرب
وبهذا البيت تنتهي الخطبة الثالثة. ويليها شعر الديوان مرتباً على حروف المعجم في 182 صفحة، ويليه مندمجاً فيه مجموعة صغيرة من الشعر في نفس الموضوع التزم فيها لزوم
ما لا يلزم، مرتبة على حروف المعجم كل حرف فيه 15 بيتاً. وتقع في 38 صفحة وبانتهائها ينتهي الديوان
الآن وقد قصصت عليك بإيجاز قصة اقتراح القريح المجهولة، أرى لزاماً علي أن أقص عليك قصة ناظمه الحصري المجهول. وموعدنا العدد القادم إن شاء الله.
السيد أحمد صقر
للتاريخ السياسي:
2 -
اليوم السابع من مارس ضربة مسرحية في برلين
للدكتور يوسف هيكل
في 28 فبراير نشرت جريدة (باري ميدي) حديثاً لمراسلها في برلين مع الهر هتلر، مبيناً فيه أن زعيم ألمانيا يود إزالة كل خلاف بين الجارتين وتوليد علاقات الود والألفة بين أعظم شعبين في أوروبا. وفي اليوم التالي، أي يوم السبت الموافق 29 فبراير، أرسلت حكومة باريس تعاليم إلى سفيرها في برلين، طالبة منه الإسراع في طلب مواجهة (المستشار الألماني) ورجائه في إبانة الطرق التي يعتقد أنها تزيل كل خلاف بين الشعبين الألماني والفرنسي، وإعلامه بأن حكومة باريس حريصة على إيجاد التفاهم بين الحكومتين
قام مسيو (فرنسوا بونسيه) بما عهد إليه. فقابله (المستشار هتلر) بحضور (فون نيرات) وزير الخارجية، وأجابه بأن الحكومة الألمانية باذلة جهدها في درس الموضوع بدقة، وقريباً تسلم إلى الحكومة الفرنسية اقتراحاتها. وقد طلب الهر هتلر بقاء هذه المحادثات سرية، تسهيلاً للوصول إلى الغاية، فقبلت حكومة باريس ما طلب، وظلت منتظرة خبراً من برلين، ولقد جاءها الخبر يوم السبت الموافق 7 مارس، وعندها أذاعت هذه المحادثات
وفي مساء الجمعة الموافق 6مارس أمر الهر هتلر باجتماع (الريشتاك) اجتماعاً فوق العادة؛ وفي الساعة 12 (في ألمانيا) من اليوم التالي وبحضور الوزراء وقف على منبر الخطابة وألقى خطاباً طويلاً ثم تلاه بقراءة المذكرة - التي سلمها فون نيرات إلى كل من سفراء بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا قبل إلقاء الهر هتلر خطابه بساعة، وقبل أن يترك منبر الخطابة أعلن أنه يحل (الريشتاك) ليتمكن الشعب الألماني من إبداء حكمه في أعماله وزملائه خلال السنوات الثلاثة الأخيرة؛ وقد قرأ الجنرال (كيرنك) أمر الحل، وتعيين موعد الانتخابات في 29منه
وكان صوت زعيم ألمانيا قوياً وواضحاً، ولكن وجهه كان شاحباً، ودالاً على خطورة القرار الذي اتخذه، كما أن جوه الوزراء الصامتة والمفكرة، إذ ذاك، تفكيراً عميقاً وقلقاً، تظهر جلياً خطر الساعة وتخوفهم من العاقبة
وفحوى خطابه أن ألمانيا بلاد سلمية، تريد العيش بسلام مع جاراتها، غير أنها لا تقبل أن
لا تكون متساوية وإياهم في الحقوق، وهي تريد نيل هذه المساواة والعمل مع الدول الأخرى على تقوية السلام، وأن حكومة برلين قد بذلت جهدها في التفاهم مع الدول الأوروبية، ولاسيما مع فرنسا؛ غير أن جهودها لم تقابل بحسن نية، بل قوبلت بالعمل ضد ألمانيا وحصرها، وكان آخر هذه الأعمال المعاهدة الفرنسية الروسية التي هي موجهة ضد ألمانيا، وقال:
(أنها لمأساة مروعة أن نرى في نهاية السنة التي بذلنا جهوداً شريفة خلالها لنيل ثقة الشعب الفرنسي، انعقاد تحالف حربي نعلم ابتداءه ولكن لا يمكن التنبؤ عن نهايته
(أن المحالفة الفرنسية الروسية لا تتفق مع معاهدة لوكارنو؛ وأن تلك المعاهدة تمكن إمبراطورية حربية عظيمة من تهديد أوروبا الوسطى عن طريق (التشيكوسلوفاكيا) التي عقدت مع الروسيا معاهدة مماثلة للمعاهدة الروسية الفرنسية
(أن روسيا السوفيتية دولة قائمة على مبادئ فلسفية ثورية، وأن إدخال هذه القوى الحربية الهائلة إلى أواسط أوروبا يهدم التوازن الدولي الأوروبي. . .)
ولم يذكر الهر هتلر مشكلة المستعمرات إلا عرضاً، وأبان بأن حلها سيكون عن طريق المفاوضات الودية، كي لا يثير الرأي العام البريطاني عليه، وقد بذل في سبيل نيل عطفه جهوداً أنتجت الثمر الذي يريده
وبينما كان الهر هتلر يلقي خطابه التاريخي، كانت الجيوش الألمانية تعبر أراضي الرين وتحتل في كولون، دسلدروف - وميتز وغيرها من مدن أراضي الرين
وقد اختلف في عدد هذه الجيوش، فهي ثلاثون ألفاً حسب التقرير الألماني، وتسعون ألفاً حسب التقرير الفرنسي، وما يقرب من ستين ألفاً حسب الرأي الإنكليزي
وجدير بالذكر أنه عندما أعلم الهر هتلر صباح السابع من شهر مارس، مسيو فرنسوا بونسيه بعزمه، أضاف باعتناء بأن احتلال أراضي الرين ما هو إلا رمزي. ولما ثار الرأي العام ولاسيما في فرنسا على التناقض الجلي بين قول زعيم ألمانيا وبين الواقع، أرسلت حكومة برلين، في 14مارس إلى لندن وباريس تصريحاً تقول فيه بأنه لا يوجد في أراضي الرين إلا (36. 500) ستة وثلاثون ألفاً وخمسمائة جندي. . . وإذا علم بأن عدد سكان هذا الإقليم يبلغ خمس عد سكان ألمانيا أي أربعة عشر مليوناً ونصف مليون، ومساحته ثمن
مساحة ألمانيا، وفيه مدن كبيرة يظهر من عدد الجنود التي فيه بأن احتلاله لم يكن إلا رمزياً
وأعلنت ألمانيا في المذكرة التي قدمتها إلى دول لوكارنو الأربع بأنها غير مرتبطة بمعاهدة لوكارنو. وذكرت في صدرها الأسباب التي دعتها إلى اتخاذ هذا القرار وكلها مبنية على مناقضة المعاهدة الفرنسية الروسية للوكارنو، وتقول الحكومة النازية بأنه:
(1)
لا جدال في أن المعاهدة الفرنسية الروسية موجهة خصيصاً ضد ألمانيا
(2)
لا خلاف في أن فرنسا أخذت على عاتقها واجبات، في حالة حدوث اختلاف بين ألمانيا والروسيا تفوق الواجبات التي تضعها على عاتقها عصبة الأمم، وأنها - أي الواجبات - ترغم فرنسا على إشهار السلاح ضد ألمانيا، حتى في الحالة التي لا تستطيع فيها نيل موافقة عصبة الأمم أو قرار بذلك
(3)
في مثل هذه الحالة تدعي فرنسا الحق في أن تقرر وحدها وحسب إرادتها من هو المعتدي -
(4)
لا جدال في أن فرنسا قد أخذت على عاتقها واجبات نحو الروسيا توجب عليها العمل في بعض الظروف، كما لو كان ميثاق عصبة الأمم ومعاهدة لوكارنو، التي تستند على ذلك الميثاق غير موجودين
وتدعي المذكرة أن المعاهدة الفرنسية الروسية أوجدت حالة دولية جديدة، وأزالت النظام السياسي لمعاهدة لوكارنو في حرفه وفي معناه و (بالتالي فقدت لوكارنو السبب الذي من أجله أنشئت، وعملياً زال وجودها. ولذلك ترى ألمانيا أنها غير مرتبطة بهذه المعاهدة الملغاة)
وتنتهي هذه المذكرة بتقديم حكومة برلين إلى دول لوكارنو نظاماً سياسياً جديداً ليحل مكان معاهدة لوكارنو وليزيل الاضطرابات السياسية الدولية، ويولد - في رأي حكومة برلين - الثقة الدولية التي بدونها لا تتقدم المدنية ولا يستمر السلام. وأهم نقطة:
(أن الحكومة الألمانية تصرح بأنها مستعدة للتفاوض مع فرنسا وبلجيكا لإنشاء إقليم مشترك غير مسلح، وأنها توافق من الآن على مقدار امتداده ومساحته، على شرط المساواة القطعية في ذلك. والحكومة الألمانية تقترح إيجاد معاهدة عدم الاعتداء بينها وبين فرنسا وبلجيكا
لمدة 25 سنة، وأن تكون بريطانيا وإيطاليا كفيلتين على ذلك
والحكومة الألمانية مستعدة لإمضاء معاهدة تمنع الهجوم الجوي الفجائي، ومعاهدة عدم الاعتداء مع جاراتها في الشرق كالمعاهدة التي عقدتها مع بولونيا
وبما أن حكومة برلين قد نالت المساواة في الحقوق وأقامت سيادتها القومية في البلاد الألمانية أجمع، فهي مستعدة للاشتراك في عصبة الأمم، وتأمل الوصول في وقت قريب، عن طريق المفاوضات الودية إلى المساواة في المستعمرات وفصل عصبة الأمم عن معاهدة فرساي)
وقد صرح مستر إيدن في مجلس العموم في 9 مارس أن السفير الألماني أعلمه بأن حكومته ما عرضت اشتراكها في عصبة الأمم إلا لتسر الإنكليز وترضي الرأي العام البريطاني!
تبع الضربة المسرحية في برلين اضطراب شديد في الدوائر السياسية. . . وكانت برلين في قلق شديد، تارة ترى أن عملها يذهب الثقة بعلاقاتها الدولية، وأن حوادث 7 مارس ستقرب فرنسا من بريطانيا، وتكون نتيجة ذلك الحصر الكامل لحكومة برلين والضربة القاضية على سياسة هتلر الخارجية؛ وتارة ترى أن الفرج قريب إذ لندن غير موافقة على اقتراحات باريس في تطبيق (العقوبات) عليها وإرغامها على سحب قواها الحربية من أراضي الرين. وقد أخذ رجال الحكومة النازية في إلقاء الخطب وتدبيج المقالات، وبعضها موجه إلى الشعب البريطاني للتقرب إليه ونيل عطفه، والبعض الآخر يهدد فرنسا إن هي لم تقبل منهاج هتلر وتسير عليه
وكان الهر هتلر في جميع خطبه يتودد إلى (الرأي العام) وخصوصاً البريطاني؛ وكان يوجه نداءه إلى (رجل الشارع) ويصرح بأنه يريد التفاهم الخالص مع فرنسا. . . وبأنه لا غاية لألمانيا إلا العيش بسلام مع جاراتها، وأن العمل الذي قامت به ما كان إلا لتحقيق سياسة دولية عملية مبنية على المساواة في الحقوق وعلى السلام في أوروبا، وإنعاش الاقتصاديات الدولية. .
ولما قامت الصحف الباريسية بإظهار سوء النية المطوي في منهاج الهر هتلر وفي أنه يريد السلام مع دول، والحرب مع دول أخرى. . . ولما سأل السير أوستن شمبرلين في
مجلس العموم عما إذا كانت النمسا في الدول التي يريد الهر هتلر عقد محالفات (عدم الهجوم) معها، اضطر الهر هتلر إلى التصريح لمراسل جريدة لندنية بأنه مستعد لعقد معاهدات (عدم الهجوم) مع النمسا وكذلك مع تشيكوسلوفاكيا. . .
أما الجنرال كيرنك فكان يحمل علم التهديد، وقال في خطابه الذي ألقاه في فرنكفور في 17 مارس: ربما أثر التهديد (بالعقوبات) في ألمانيا عام 1932، ولكنه لا يؤثر على الشعب الذي تدرب طيلة السنوات الثلاث الأخيرة في مدرسة النازي، وإن استعمل الضغط الاقتصادي ضد ألمانيا فإنها تدعو الحزب النازي إلى المعركة القاسية التي تولد حماسة مقدسة وتشد عزم الشعب الألماني وتزيد قواه، وأن تهديد ألمانيا حربياً لا يثبط عزيمتها، بل هي تجيب على ذلك:(إنكم كنتم نياماً. أما ألمانيا فلم تكن نائمة) أنها قد تسلحت وأصبحت جد قوية، وهي لا تهاب شيئاً. . . وإن الذي يود تهديدها والاعتداء عليها سيدفع ألوفاً من الأرواح بدل كل (بوصة) من الأراضي الألمانية. . . ولا يحق لأحد غير الشعب الألماني أن يحكم فيما إذا كان عمل ألمانيا قانونياً أم لا (!!). إن ألمانيا قدمت خدمات جليلة للسلام، غير أن هناك أموراً لا يمكنها عملها: يجب أن تبقى الجيوش الألمانية في أراضي الرين
وكان الدكتور كبلس يساعده على رفع ذلك العلم، فحاول في الخطاب الذي ألقاه في 10 مارس في برلين مجيباً مسيو سارو الذي قال بأنه لا يمكن الاعتماد على المعاهدات التي تعقد مع ألمانيا، إقناع الرأي العام بأن ألمانيا تحترم إمضاءها وتحافظ على حرمة المعاهدات التي توقعها، ودليله على ذلك بأن ألمانيا محترمة معاهدتها مع بولونيا (!). وقال بأنه يجب على فرنسا أن تعتبر بدقة الحالة الراهنة، لا بالتشبث ببنود معاهدة لا يمكن للشعب الألماني احتمالها (!!)
ولقد خرج في كلامه عن اللياقة الدبلوماسية حين قال في خطابه الذي ألقاه في فرنكفور في 23 مارس: (إن ألمانيا ترفض العمل ضمن الدائرة السياسية القديمة. سياسة القطة التي تسير حول الحليب الساخن. إن الجيوش الألمانية قد احتلت أراضي الرين، فيجب أن تبقى هناك برمتها دون أن يسحب منها جندي واحد. . . وسترغم الأمم على المفاوضة مع ألمانيا حسب (اقتراحات الهر هتلر) خلال الأشهر القادمة، أرادت ذلك أو لم ترده. . . . . .
(لندن)
(يتبع)
يوسف هيكل
دكتور في الحقوق
ملاحظات متواضعة على مشروع
ترجمة معاني القرآن الكريم
بقلم المستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس
تتمة ما نشر في العدد الماضي
وليس من شك في أن الله عز وجل حين أنزل القرآن الكريم شاء أن يعم نشره بين الملأ، لا ليجعله وقفاً على أولئك الذين يحتكرون معانيه في صدورهم، ولا يعملون على ترجمته ونشره بين الذين هم أقل مكانة منهم في المعرفة. ألم يقل النبي الكريم: بلغوا عني ولو آية؟ وكيف يكون التبليغ إلا إذا كان بنقل القرآن إلى لغات الأمم والشعوب؟ وقديماً اعتبرت التفاسير ترجمة لمعاني كتاب الله وتحليله وشرحه حتى يكون في متناول الأذهان الأمم قاطبة
إن الإسلام دين الأذهان المستنيرة، وأن أصحاب العقول البارعة يجدون فيه متعة روحية شهية، وسوف يكون هذا الدين بفضل ترجمة كتاب الله معتقد الطبقات الرفيعة في العالم. وأنا أعرف في بلادي وفي أوروبا عامة رجالاً مستنيرين في أرفع الأسر يحترمون الإسلام لمجرد أنهم قرءوا ترجمة كتاب الله الكريم، وهم يوشكون أن يتخذوه ديناً ولو في سرائرهم. ومنذ خمس سنوات أسلم في فينا رجل من أعرق الأسر الرفيعة، هو البارون آرن فلس وسمى نفسه عمر. وأسلم مجري آخر كبير هو فيلكس فاي. وهذا دليل على سمو الإسلام الروحي والذهني لأنه دين صحيح يستولي على رجال الفكر ويقنعهم بصحة آرائه. أن الإسلام لا يدعو إلى الأنانية والتعصب، بل إلى الأخوة والحضارة الجديدة ونشر ألوان العلم والعرفان، وترجمة القرآن هي أول خطوة في سبيل قبر التعصب والجهل
من ذلك أرى أنه لزام على العلماء أن يظهروا للناس كتاب الله، ولا يجعلوه وقفاً على من يعرفون العربية وحدها. بل يجب عليهم أن يترجموا معانيه ويقبلوا على تفسيرها ولا يخشوا في الحق لومة لائم
فلا العلوم الحديثة، ولا المعارف، ولا فلسفة الغرب تستطيع أن تطفئ نورانيته وعظمته، فهو كالشمس إذا سطعت حجبت ذبالات الشموع الخافتة. ولتأخذ هذه التراجم صفة الشروح
والتفاسير بدلاً من أن يطلق عليها في اللغات الأخرى اسم (القرآن)
أجل فلنقاوم الجهل والتعصب، ولننشر كتاب الله الكريم لا في الإنجليزية وحدها، بل في لغات الملايو والهندستانية والمغولية، وليكن نشر هذا الكتاب بنفس أسلحة القرن العشرين. فالفاصل الذي يفصلنا اليوم عن المعرفة الحديثة شاسع جداً إلى حد يجعل اعتمادنا على ما في أيدينا من تراث الأجيال، من الأسلحة العتيقة التي لا يمكننا بها مقاومة الموجات التي تجرفنا من عالم الغرب
ومن رأيي أن ترجمة معاني القرآن ستنتج عنها مسائل هامة. فبعض الناس عارضوا هذه الفكرة بحجة أنها ستكون سبباً في فصم عرى الوحدة العربية، وستحدث تقاطعاً بين الأخوان المسلمين في أنحاء العالم، ولكن بالعكس، فالترجمة ستكون سبباً في إشعال الحماس الديني عند ملايين ممن لا يفقهون كتاب الله الكريم، وستساعدهم هذه الترجمة على تفهم اللغة العربية وازدهار عصر التبشير الإسلامي
وإذا ما أتيح لنا أن نستقصي البواعث التي أدت إلى انحطاط بعض الطوائف الإسلامية وجب أن نسلم بأن سببها أن حكامهم كانوا يتكلمون لغة لا يفقهها العامة. وعلى الرغم من تعاليم الإسلام السامية ظلت هذه الطوائف ترسف في العبودية والجهالة والفقر، حتى نتج من ذلك وقوعها في الكثير من الأضاليل والبدع التي لا أصل ولا وجود لها في التعاليم المحمدية النقية. حتى أجبرت هذه الطوائف على الخنوع وألزمت أن تحني رؤوسها احتراماً أمام الجبروت الطاغي. هنالك وجدت سلوتها في الشعوذة الدينية، وأصبحت على عيون أهلها غشاوة تحجب عنها حقيقة الدين الحنيف. وانحط مستوى اللغة العربية إلى حد تفشت فيه الأمية وانتشرت العامية بين الأوساط الراقية. ومما أذكره والأسى يقطر من فؤادي، أنني لما زرت القاهرة لأول مرة كان الناس يدهشون إذ يرون رجلاً أجنبياً يتكلم العربية الفصحى، مع أنه أمر مألوف في الأوساط الألمانية والإنجليزية، ويندر أن تجد واحداً يتلفظ بكلمة واحدة دارجة
فليكن في ترجمة القرآن إذن، رفع لقدر اللغة العربية، وليكن رفعها إلى مستوى الكتاب، فالقرآن هو مصدر الثقافة الإسلامية وسبب انتشارها في الشرق والغرب، وهو السلاح الماضي الذي يحسم الداء
لقد كان إنجيل لوثر سبباً في رفع شأن اللغة الألمانية، وسبيلاً إلى إدماج لهجات القبائل المختلفة بعضها في بعض، فيجب أن تكون ترجمة القرآن الكريم سبباً في رفع العربية، وليرع الأزهر هذه الحركة الجديدة بكل ما فيه من عزيمة وقوة حتى تخرج إلى حيز العمل. فقد كان القرآن كلمة الله في البداية، ومنها انبعث كل ما في الإسلام من محبة وأخوة وسلام
(بودابست)
عبد الكريم جرمانوس
أندلسيات
أبو الفضل بن شرف
الشاعر الفيلسوف
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
(بقية ما نشر في العدد 149)
فلما سمعها المعتصم لعبت بارتياحه وحسده بعض من حضر، وكان من جملة من حسده ابن أخت غانم. فقال له: من أي البوادي أنت، قال أنا من الشرق في الدرجة العالية، وإن كانت البادية على بادية، ولا أنكر خالي، ولا أعرف بحالي. فمات ابن أخت غانم خجلاً، وشمت به كلا من حضر. وهذا ابن أخت غانم العالم اللغوي أبو عبد الله محمد بن معمر من أعيان مالقة متفنن في علوم شتى إلا أن الغالب عليه علم اللغة. وكان قد رحل من مالقة إلى المرية فحل عند ملكها المعتصم ابن صمادح، وله تآليف منها شرح كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري في ستين مجلدا. قال ابن اليسع في مغربه أنه حدثه بداره بمالقة وهو ابن مائة سنة وأخذ عنه عام 524. . . وغانم خاله الذي يعرف به هو الإمام العالم الأديب أبو محمد غانم بن الوليد المخزومي نسب إليه لشهرة ذكره وعلو قدره. ومن شعر الإمام أبي محمد غانم هذا قوله - وقد دخل يوماً على باديس بن حيوس صاحب غرناطة، فوسع له على ضيق كان في المجلس فقال بديها:
صيّر فؤادك للمحبوب منزلة
…
سم الخياط مجال للمحبيْنِ
ولا تسامح بغيضاً في معاشرة
…
فقلما تسع الدنيا بغيضين
وقوله:
الصبر أولى بوقار الفتى
…
من قلق يهتك ستر الوقار
من لزم الصبر على حاله
…
كان على أيامه بالخيار
وقوله في نكبة المعتمد بن عباد:
ومن الغريب غروب شمس في الثرى
…
وضياؤها باق على الآفاق
وقوله:
ثلاثة يجهل مقدارها
…
الأمن والصحة والقُوتُ
فلا تثق بالمال من غيرها
…
لو أنه دُرٌّ وياقوت
وكل ذلك من الحديث النبوي الشريف: من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه، معه قوت يومه، فكأنما سيقت له الدنيا بحذافيرها. ومن بديع قول أبي الفضل بن شرف المترجم من قصيدة يمدح بها المعتصم بن صمادح:
لم يبق للجور في أيامكم أثر
…
غير الذي في عيون الغيد من حور
وأول هذه القصيدة:
قامت تجر ذيول العصب والحبر
…
ضعيفة الخصر والميثاق والنظر
ومن هذه القصيدة في وصف السيف:
إن قلت ناراً أتندى النار ملهبة
…
أو قلت ماء أيرمي الماء بالشرر
ومنها في وصف الدرع:
من كل ماذية أنثى فيا عجبا
…
كيف استهانت بوقع الصارم الذكر
وكان قد وفد على المعتصم مرة يشكو عاملاً ناقشه في قرية يحرث فيها وأنشده الرائية المذكورة. ولما بلغ قوله: لم يبق للجور في أيامكم أثر. قال له المعتصم: كم في القرية التي تحرث فيها؟ فقال: فيها نحو خمسين بيتاً، فقال: أنا أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد، وعزل عنها نظر كل وال. . . ومن شعر أبي الفضل بن شرف: -
يا من حكى البيدق في شكله
…
أصبح يحكيك وتحكيه
أسفله أوسع أجزائه
…
ورأسه أصغر ما فيه
وقال: -
لعمرك ما حصلت على خطير
…
من الدنيا ولا أدركت شيّا
وها أنا خارج منها سليبا
…
أقلب نادماً كلتا يديا
وأبكي ثم أعلم أم مبكا
…
ي لا يجدي فأمسح مقلتيا
ولم أجزع لهول الموت لكن
…
بكيت لقلة الباكي عليّا
وإن الدهر لم يعلم مكاني
…
ولا عرفت بنوه ما لديا
زمان سوف أنشر فيه نشرا
…
إذا أنا بالحمام طويت طيّا
أسر بأنني سأعيش ميتا
…
به ويسوءني إن مت حيا
ويروى له: -
ألحاظكم تجرحنا في الحشا
…
ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا
…
فما الذي أوجب جرح الصدود
وأرسل إليه الشاعر ابن اللبانة بأبيات يواسيه بها ويحثه على النهوض وهي: -
يا روضة أضحى النسيم لسانها
…
يصف الذي تهديه من أرجائها
ومن اغتدى ثم اهتدى لطريقة
…
ما ضل من يسعى على منهاجها
طافت بكعبتك المعالي إذ رأت
…
أن النجوم الزهر من حُجاجها
شغلت قضيتك النفوس فأصبحت
…
مرضى وفي كفيك سر علاجها
هلا كتبت إلى الوزير برقعة
…
تصبو معاطفه إلى ديباجها
تجد السبيل لهم ولا تك للمنى
…
وينير سعيهم بنور سراجها
أنت السماء فما بها لك رفعة
…
طلعت عليه الشهب من أبراجها
وضحت مفارق كل فضل عنده
…
فاجعل قريضك درة في تاجها
فكتب إليه المترجم:
يا منجدي والدهر يبعث حربه
…
شعثاء قد لبست رداء عجاجها
لله درك إذ بسطت إلى الرضا
…
نفساً تمادى الدهر في إحراجها
وأرقت ماء الود في نار الأسى
…
كالراح يُسكر حدُّها بمزاجها
فيَّأتِني تلك الغمام فبرّدت
…
من غلة كالنار في إنضاجها
فأويت تحت ظلالها ووجدت بر
…
د نسيمها وكرعت في ثجاجها
قل كيف تنعش بعد طول عثارها
…
أم كيف تفتح بعد سدر تاجها
لأزيد في أمري وضوحاً بعد ما
…
قامت براهين على منهاجها
فأكون إن زدت الصباح أدلة
…
خرقاء تمشي في الضحة بسراجها
دعني أبرد بالقناعة غلة
…
يأس النفوس أحق في أثلاجها
بكر بخلت على الأنام بوجهها
…
ومنعتها من ليس من أزواجها
وصرفتها محجوبة بصوانها
…
مثل السلوك تصان في أدراجها
كالنور في أكمامها والبيض في
…
أغمادها والغيد في أحداجها
فالنفس إن ثبتت على أخلاقها
…
أعيا على النصح طول لجاجها
وإنك لترى للمترجم له مع ذلك رسائل بديعة أنيقة الوشي حسنة التحبير، تنم على دقة حسّه البياني، وذوقه الفني، وتفننه في جميع فنون المراسلات والمراجعات، وأنه مُحسْن في جميع فنون الأدب إحسانه في الطب والحكم، فهو شاعر كاتب حكيم طبيب، ولا جرم أنه انحدر من صلب ذلك الأديب العبقري ابن شرف القيرواني الذي غَمرَ ابنه هذا وأخمله حتى نحله مؤرخو الأدب العربي في عصرنا أكثر شعر ابنه
عبد الرحمن البرقوقي
الحياة الأدبية في شرق الأردن
بقلم السيد جريس القسوس
ما كنت أرغب في التعرض لهذا الموضوع، لو لم تنشر (الرسالة) الغراء بحوثاً ممتعة لمختلف الكتاب عن الحياة الأدبية في بلدانهم. لهذا رأيت من واجبي، وأنا بعيد عن شرق الأردن، أن أقدم للقراء الكرام صورة صادقة بقدر الإمكان عن الحياة الأدبية في شرق الأردن. أقول هذا وأنا أشعر بحروجة الموقف ودقته، إذ لا يخلو مثل هذا البحث من بعض الخطأ مهما توخى الباحث العدل والصدق في بحثه
لم تكن بلاد ما وراء الأردن، منذ خمسة عشر عاما، إلا جزءاً من سورية لا ينفصل، فهي لذلك بلاد فتية في تكوينها السياسي وفي نهضتها الأدبية والاجتماعية. أما والمقصود من هذا المقال النهضة الأدبية، فلنقتصر على هذه، تاركين البحث في السياسة والاجتماع لعلمائهما
دبت في شرق الأردن حياة أدبية جديدة، لم يكن لنا عهد بها قبل بزوغ فجر الإمارة. فكان أول عمل قامت به الحكومة فتح المدارس الأميرية، من قروية وابتدائية وثانوية، وتحسين برامج التعليم، وتوحيدها إلى حد ما، في مختلف المدارس الطائفية وغير الطائفية، حتى أصبحت تنهج جميعاً نهجاً واحداً سوياً نحو إيقاظ الروح العربية الكامنة، والتوفيق بينها وبين التيارات الجارفة التي بدأت تطغي على هذه البلاد من الغرب. كانت شرق الأردن بحكم الوضع السياسي والجغرافي، قبل الحرب العظمى، بلداً مجهولاً، ولانزوائه وانقطاعه عن البلدان العربية المجاورة لم يتسن لأهله الاحتكاك بأهل الأقطار الأخرى كل الاحتكاك، فتمتزج بذلك الثقافات، ولو كانت شبه متجانسة، فتتفاعل ويتولد عن ذلك روح ويقظة جديدتان. كانت الحياة الأدبية قبل ذلك راكدة، والنفوس فاترة، والمواهب كامنة؛ فلم تنبعث إلا بتأليف حكومة سمو الأمير المعظم؛ عندئذ دخلت البلاد فئة راقية من أدباء الأقطار المجاورة، وخاصة سورية؛ فكان دخول هذه الفئة البلاد باعثاً كبيراً على إحياء الأدب العربي، وإحداث نهضة فكرية مباركة لا نكون مبالغين إذا سميناها بالرنسانس؛ فكان مثلاً لقصائد الشيخ فؤاد باشا الخطيب شاعر الثورة، والأستاذ محمد الشريقي وغيرهما من الأدباء الذين رافقوا الثورة العربية، وطوّحت بهم الأقدار إلى هذا القطر الجديد، أثر لا
يستهان به في إحياء الآمال في نفوس الأحداث، وقد كانت ميتة آنئذ، وفي إيقاظ الروح الأدبية الكامنة، وتوجيهها في السبل القويمة
لقد نشطت الحكومة، بعد استقرار الوضع السياسي في البلاد، إلى إرسال البعثات العلمية سنوياً إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وغيرها من المعاهد الراقية في سورية وفلسطين، وتنبه الشعب الأردني إلى فضل العلم والأدب في نهضات الشعوب، فبادروا إلى إرسال أبنائهم على نفقتهم الخاصة إلى بيروت والجامعة السورية في دمشق، وإلى المدارس الثانوية في فلسطين، ولكثرة الطلاب كثر الإقبال على مطالعة الأدب، المصري منه والسوري؛ فكان أثره في إيقاظ الحركة الفكرية، وتجديد الحياة الأدبية غير يسير
كل ذلك كان يحدث، بينا الصحافة المصرية تغذي نفوس الأحداث بأدبها الراقي وعلمها الصحيح. ولا أبالغ إذا قلت إنه كان (للرسالة) أثر ملموس في إحياء النهضة الفكرية، وتشجيع الحياة الأدبية في البلاد. فقد كان إقبال الطلاب خاصة على مطالعتها شديداً. وأنني - أذكر على سبيل - أنه كان يباع منها في حين نحو ثمانين عدداً أو أكثر في بلد صغير كالسلط. (فالرسالة) وغيرها من المجلات والصحف العربية كانت ولا تزال، تسد عوز البلاد وافتقارها إلى صحافة حرة تعمل على تشجيع الإنتاج الأدبي، (وتحيي في النشء أساليب البلاغة العربية)
بيد أنه، وإن لم يقم في شرق الأردن إلى الآن مؤلف بالمعنى الصحيح، أو أديب منتج يستمد مادته وموضوعه من الحياة، إلا أننا نرى طلائع نتائج هذه العوامل المختلفة في تكوين النهضة الأدبية الحديثة في قيام فئة قليلة من حملة الأقلام النثرية كأديب عباسي، والدكتور محمد أبو غنيمة، وبشير الشريقي، وعبد الحليم عباس، والبدوي الملثم وغيرهم؛ والشعرية أمثال مصطفى وهبي التل شاعر النوَر، وصاحب ديوان (عشيات وادي اليابس)، وحسني فريز، والشيخ رشيد زيد، وحنا الشوارب وغيرهم من الأدباء الأحداث
لكن شرق الأردن تمتاز عن الأقطار العربية الأخرى، وخاصة الساحلية، بنوع خاص من الأدب، أعني به الشعر البدوي. وهو، وإن قل، من حيث الكمية والنوع عما قبل، فأنه لا يخلو من عناصر حية تميزه عن غيره من الشعر الراقي المعروف في شرق الأردن وفي كثير من البلدان العربية. والشاعر البدوي شاعران: شاعر رواية، يحفظ، على أميّته كمية
وافرة من القصائد المختلفة، قديمة كانت أم حديثة، ويلقيها في شتى المناسبات كمجالس الشيوخ والأفراح المختلفة من مولد وختان وعرس! وشاعر منشئ مبتكر، وعدد الفئة الأخيرة يسير جداً إذا قيس بالفئة الأولى. وأكثر ما يكون الشعراء المنشئون في مضارب البدو على سيف الصحراء. أما أشهر أبواب الشعر البدوي في المدح والحماسة والغزل والعتاب والرثاء. ويطول بنا المقام إذا أردنا أن نتبسط في وصف هذا الشعر، وفي معالجة شتى أبوابه بإسهاب؛ لكننا نقتصر على ذكر فريق من الشعراء البدو المخضرمي - أي الذين نشأوا في أواخر القرن التاسع عشر ولحقوا العشرين - ونخص منهم بالذكر نمر العدوان؛ وقصيدته في رثاء زوجه فصحاء مشهورة، تتناقلها الألسنة في كل مكان. وهو يستهلها بمخاطبة ابنه عقاب قائلاً: -
البارحة يا عقابْ يومَ القمرْ غاب
…
بليلة العيد السعيد الجديد
إلى أن يقول، واصفاً نفسه بعد ما ألم بها من حزن لفقد زوجه:
كل ما غشيت أمراحْ أو جئتْ مرقابْ
…
لَجوح جوحَ الذيب وعضّ بيدّي
أنهفْ ونوح وَأقطر الدمعْ سكّابْ
…
على صويحبيِ اللي راح ما هو من إيدّي
يا قلبي تقولْ سفوتّ حديد شبّاب
…
يا مهجتيِ لو أنّه حجرْ كِن صار شيد
من لامني يا عقابْ يبلى بأرقط ثاب
…
من جنّة الوهاب ما يستفيد
ومعنى هذه الأبيات (أنني كلما مررت بربع، أو صعدت جبلاً، عويت كالذئب، وقضمت كفي حزناً، ونحت وسكبت الدمع مدراراً على صاحبي المفقود؛ وإن بقلبي ناراً تضطرم اضطراماً يكاد منها ذلك القلب لو كان حجراً، أن يصير كلسا. ألا فليبتل يا عقاب من لامني في ذلك بحية تميته ميتة لا يدخل بعدها الجنة)
ومن هؤلاء الشعراء أيضاً أبو الكباير من قبيلة الشرارات، وهو مشهور بالشعر الحماسي، ووصف الغزوات والمعارك. وقصيدته في مدح عودة أبي تايه وقد تحاربت قبيلته مع أهل الكرك. وفي هذه القصيدة يقول، بعد أن يستهلها بذكر الله وطلب عفوه وغفرانه، شأن غيره من شعراء البدو:
قُمْ يا علي نُشْرفْ على كلّ طايلْ
…
شدّيتْ عوصا تقطعْ الدوّ حايلْ
أي انهض يا علي (وهو بطل الطليعة) وأعدّ فرسك، لنقطع الفلاة، ونشرف على مواقع
الأعداء.
إلى أن يقول واصفاً مرابع عودة أبي تايه:
تلقى بيوتاً بنوابي نزيله
…
تلفى حميل دللاهم عن نفيله
ألبن بالهيوان تسمع صهيله
…
عزام لوجوه الماسيير زافات
تلقي شايباً عندهم مستعدِّ
…
الحرّ إليّ بالملازم يسدّ
عنه بحوض الخيل يوماً يهد
…
عن حرب أبو تايه إليّ لَه الفعل عاداتِ
(أي تلقى منازلهم مضروبة في أعلى الروابي دلالة على شجاعتهم، وعدم خشيتهم العدو؛ وفي مطارح النار تلقى حثالة البن دلالة الجود. وفي تلك الخيم تسمع صوت الهاون؛ إذ يدق فيه البن، فيكون بصوته ذاك داعياً للخير والضيافة؛ تجد شيخاً حراً مضيافاً، وفارساً مغواراً تتجنب الفوارس بطشه، وترتعد له الفرائص عند الحرب، هو عودة أبو تايه)
ومن الشعراء المداحين سالم المرعي وعلي القزيعي وغيرهم، وأنا أعرف من الشعراء الأحياء الذين يجيدون قرض الشعر البدوي في شتى الأحوال ومختلف الظروف: محمد بن هلال، وسعود المجالي في الكرك. وقد يكون غير هؤلاء في مضارب البدو في الشمال وفي الداخل، لكن دراسة هذا النوع من الشعر دراسة عميقة، وتدوين هذه الأشعار قبل أن تعبث بها أيدي البلى يحتاج إلى مشقة كبيرة من تنقل بين مضاربهم وتعرف إلى أماكنهم وأحوالهم، وطرق عيشهم
ولقد فاتني أن أذكر أن الشيخ رشيد زيد الذي مرّ ذكره مع طبقة الشعراء المجيدين في الفصحى، ليحسن نظم الشعر البدوي. وقد أتيح لي أن أسمع له قصائد رائعة، وعالية النفَس في هذا النوع من الشعر، يعارض في بعضها قصائد مشهورة كاليتيمة وغيرها
والخلاصة أن الحياة الأدبية في شرق الأردن ضئيلة ضعيفة إذا ما قورنت بغيرها من الأقطار العربية، على أن سريها في مضامير النشوء والتطور على هذا الشكل المدهش ليدعو إلى التفاؤل الشديد. وأنا لا أشك في أنه سيأتي يوم تصبح فيه شرق الأردن بفضل هذه العوامل المختلفة التي بسطناها، وبفضل غيرها، حية بأدبها، وغنية بأدبائها. ولا بد قبل الختام من الاعتراف بما لقصر رغدان من فضل كبير في تنشيط هذه الحياة الأدبية؛ فقد كان ولا يزال يحدب على الأدب، ويؤازر الأدباء، ويشرق على نفوس الشباب بالنور
والحياة
(بيروت - الجامعة الأمريكية)
جريس القسوس
بعد احتلال أديس أبابا
فضيحة القرن العشرين!
(قطعة مهداة إلى جلالة الإمبراطور العظيم (نزيل فلسطين))
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . حق صريح يصان في عصور الظلام، وأمة آمنة تسلم في قرون الجهل، أفيعبث بهذا الحق في القرن العشرين، قرن العلم والنور. . . ويُعتدى فيه على هذه الأمة، فتسرق أرضها وحريتها وسعادتها؟
يا لفضيحة القرن العشرين!. . . يا لضيعة المبادئ الإنسانية! يا لخيبة العلماء والأدباء والأحرار!. . يا لإفلاس الحضارة الغربية. . يا للعار على الفكر البشري!
أتبنى المدارس، وتفتح المعاهد، وتشنأ المحاكم، لتبث مبادئ الحق والخير والفضيلة، وتعمل على ذلك دهوراً، فيأتي طاغية من طغاة الغرب فيهدمها كلها بطلقة واحدة من مدافعه، وترجع بالعالم إلى الوراء عشرين قرناً، ولا يجد من يأخذ على يده، وينصف الإنسانية منه؟
أيهزأ طاغية روما بكل المبادئ التي يقدسها البشر، ويدوسها بقدميه وأقدام جنوده، ويستعبد أمة بكاملها لم تستعبد منذ فجر التاريخ؛ ثم يمضي هؤلاء (الممثلون) في طريقهم إلى (مسرح جنيف) ليمثلوا عليه بقية المهزلة. . . هذه المهزلة الدامية التي كان أول ضحاياها عظمة الفكر البشري، وجمال الحضارة الحاضرة، ومبادئ جمعية الأمم؟
ارجعوا يا هؤلاء، ارجعوا إلى بلادكم، قد تمزق الستار وبدت من خلاله الوجوه المصطنعة واللحى المستعارة والسيوف الخشبية؛ ورأى الثقلان أن (جبار جنيف) لم يكن إلا صنماً من أعواد، أقامه الأقوياء ليخدعوا به عباد الأصنام من الأمم الضعيفة، عن حريتها وحقها ومالها
ارجعوا فأظهروا أنيابكم التي سترتموها، وأظافركم التي أخفيتموها. . . ما أنتم أيضاً إلا ذئاب
أما أنت أيها الإمبراطور الحبشي العظيم، أيها الجندي المجاهد الشريف، فتعزّ واصبر
وارتقب، فليس مع خصمك إلا الحديد والنار، ولكن العالم كله معك، والقلوب كلها تخفق بحبك، وبغض عدوّك. إن الحب والبغض هما أقوى سلاح في الوجود، وأنهما إذا لم يقوما اليوم للمدفع والطيارة، فلن يقوم لهما غداً طيارة ولا مدفع، وأن خصمك يستطيع اليوم أن يخطب فيصيح ويفخر ويهدّد، ويستطيع أن يجرّد الجيوش، ويسير الأساطيل، ويطلق المدافع؛ ولكنه لا يستطيع أن يصنع المسمار الذي يسمر به الفلك، فيقفه عن الدوران، ولو جمع له كل حديد الأرض. إن الفلك يدور أبداً، فيقوى الضعيف، ويضعف القوي، ويشب الطفل، ويهرم الشاب، ويرتفع من كان في الحضيض، ويهبط من كان في الأوج؛ فاصبر وارتقب
إنك لم تجبن ولم تفرّ، وقد أعذرت إلى أمتك ونفسك وإلى التاريخ، فما ألوت في الجهاد جهداً، ولا ادخرت عنه أيداً، وكأني أنظر إليك الآن وقد في كنت دارة عرشك، وقرارة ملكك، وموطن شعبك؛ وكنت آمناً مطمئناً، تتعهد بلدك بالإصلاح، وأمتك بالتهذيب والتعليم، فما راعك إلا صوت الصريخ تدوي به أروقة القصر، فهببت مذعوراً - وما كنت بالذي يذعر أو يضطرب - واستخبرت الخبر، فعلمت أنه الموت قد حمله المتمدنون إلى بلادك ألواناً، فخففت إلى هؤلاء الممتدين تسألهم ماذا يريدون؟
- قالوا: نريد بلادك فاخرج منها، أو فابق فيها عبداً لنا وخادماً!
- قلت: وأي ثأر لكم عندي، وأي عداوة بيني وبينكم؟ أهي أن جاء قوم منكم منذ حين يريدون قتلنا، فرددناهم عنا؟ أليس لنا أن ندافع عن أنفسنا؟
- قالوا: صه! أنت متوحش. . . . أنت متأخر. . . . وقد جئنا لنعلمك ونعلم شعبك، ونحمل إليهم حضارتنا ومدنيتنا، فإذا أنت لم تسمع وتطع كلمناك بلسان البارود والغاز الخانق والنار والحديد. . . . .
فثار في عروقك الدم العزيز الذي لم يذلّ منذ ألفي سنة، فأهبت بجمعية الأمم، وناديت حماة السلام. فلما لم تجد منهم مجيباً، صرخت في شعبك أن خذوا السلاح وتأهبوا للموت، فإن في الديار لصوصاً متمدنين، من أحفاد كافور وغاريبالدي ودانتي ورفائيل. . . يريدون أن يسرقوا حياتكم وحريتكم وبلادكم!
فهبوا للنضال. . . ولكنهم سقطوا شهداء، أمام وحشية المدنية، وجهالة العلم، وذئبية
الإنسان!
لا! إنك لم تنهزم ولم تغلب، ولكن غلبت المبادئ يا أيها الإمبراطور العظيم، وانهزمت الفضيلة، وديس الحق، وأفلست مدنية القرن العشرين!
إنك لم تنهزم، وإن الطليان لم يمتلكوا أرض الحبشة، لأن العصر عصر الأمم لا عصر الملوك، وقد استسلمت أنت مرغماً للقضاء، ولكن استسلامك للقضاء، وتركك أرضك للأعداء، لا يسلم أمتك إلى الفناء. إن هذا الشعب الذي عاش حراً عشرين قرناً، لا يستسيغ الاستعباد في عشرين شهراً، ولا في عشرين سنة، وإنه سيجاهد ويناضل ويقاوم ويقاتل، ما بقي فيه شخص واحد يمشي على أرض الحبشة. ويسمع صراخ الأجداد من أعماق الثرى. . . وأعالي السماء. . . تدعوه إلى إنقاذ رفاتهم من نعل الأجنبي الغاصب أن يطأها ويعبث بها؛ وأن الغالبين قد يملكون اليوم الدساكر والقرى، وينشئون القلاع والحصون، ولكنهم لن يمتلكوا القلوب، ولن ينشئوا فيها الحب، وهاهي ذي طرابلس، بل هذه هي الأندلس:
ألم تسمع أيها الإمبراطور باسم الملك الطريد أبي عبد الله الصغير، ذلك الذي كان ملك الأندلس، وسيد غرناطة، وصاحب الحمراء، سليل الملوك الذين جعلوا الأندلس جنة الدنيا، ومدرسة العالم، ومشرق أنوار الحضارة؟ لقد خدعوه كما خدعوك، فأعطوه العهود والمواثيق، وأقسم عليها ملوكهم وسادتهم، وشهد بها أعاظمهم وأشرافهم، وصدق عليها البابا أمين دينهم وسيدهم على أن يدعوا له قصوره ودوره وأمواله وجواهره، وحكمه وسيادته، وعلى أن يتركوا قومه أحراراً في عبادتهم وبيوتهم ومعاملاتهم وتجارتهم، وأن يكفلوا لهم راحتهم وهناءتهم وأموالهم وأمتعتهم؛ فلما ملكوا أخرجوا الملك من أرضه وبلاده، فرأى لآخر مرة شرف الحمراء، وجنان العريف، وجبل شلير، ثم مضى تتغلغل به السفينة في أمواج البحر، وصورة الأندلس تنأى وتبتعد، حتى توارت وراء الأفق، فخرجت من حيز الواقع لتدخل في حيز الذكرى، ولتكون أمنية في نفس كل مسلم، يوصي بها السلف الخلف، ويأخذ منه العهد على استرجاع (الفردوس الإسلامي المفقود)، وعمدوا إلى مسلمي الأندلس، فأخذوا مساجدهم، وأحرقوا مكاتبهم، وفيها ثمرة العقول البشرية منذ مطلع التاريخ إلى ذلك العهد، ليتلهوا بلهيبها في ليالي انتصارهم، وأنشئوا لهم محاكم التفتيش لتدخلهم في النصرانية قسراً، وتحرقهم أحياء، وتعذبهم عذاباً لا يتخيله إنسان. . .
وهاهم أولاء الأندلسيون بعد أربعمائة وخمسين سنة، وبعد احتمال أهوال لا يحتملها بشر، وبعد أن تنصروا جميعاً، لا يزالون ذاكرين عربيتهم معتزين بها، ولا يزالون يحاولون الرجوع إلى الأم العربية الكبرى؟
أفتلين الحبشة التي لم تزل عزيزة، وتندمج في الطليان في أيام معدودات؟
أجل أيها الإمبراطور! إن الحبشة لم تنهزم، ولكن انهزمت جمعية الأمم، وذبحت مبادئها في الحبشة، كما انهزمت الحضارة ومحيت أعلامها في الأندلس!
إن جمعية الأمم لم تكن أوثق عهداً من البابا، وإن موسوليني لم يكن أرقى من فرديناند، وأن الطليان ليسوا خيراً من الأسبان، وأن القرن الخامس عشر ليس شراً من القرن العشرين. . .
أما أنتم يا كتاب التاريخ فسجلوا:
(لقد كانت حادثة الحبشة فضيحة القرن العشرين!)
(دمشق)
علي الطنطاوي
سأجيء هذي الدار
للأستاذ فخري أبو السعود
البدر فضَّ غياهب الديجور
…
وأَذابَ لجة بحره المسجور
أَضْفى على وادي المنية روعةً
…
من صَوْبِ ضوء سال كالبَلُّور
فازدادت الأجداث فيه مهابة
…
لمّا انجلتْ في نوره المنشور
قَرَّتْ، وقَرَّتْ سامقاتٌ حولها
…
عُطِّلْنَ من نَسَمٍ وسَجْعِ طيور
فَكأنها في صمتها ومُثولها
…
أشباحُ وادٍ نازحٍ مسحور
وأَوَى الظلامُ إلى خرائب منزل
…
خلف القبور مهدّ م مهجور
مُقْوٍ من الأحياء والمَوْتَى فلا
…
هو في القبور يُرَى ولا في الدور
وأَتيتُ متَّئِدَ الخُطَى متأنّياً
…
أنْسَلُّ بين حفائرٍ وقبور
أَجتازُ في وادي المنون مُطَهِّراً
…
للنفس فيه أيَّما تطهير
متذكِّراً فيه وكم مِنْ عِبرة
…
لمنِ ابتغَى فيه ومن تذكير
حيثُ الصعيدُ جماجمٌ ومعاصمٌ
…
وجِبَاهُ صُيّابٍ وأعيُنُ حُور
حيث انطوتْ سِيَرٌ خَوَالٍ وانتهتْ
…
أشغالُ أجيالٍ وحربُ عصور
وخَبَتْ معاركُ لم يكَفكِفْها سوى
…
حملاتِ جيش للحِمام مغير
وخَبَا ضِرَامُ محبَّةٍ وعداوةٍ
…
وهمومُ أفئدة وداءُ صدور
أسْتَخْبِرُ الأجداثَ عما استُودعَتْ
…
من كلِّ منخوبٍ بها منخور
ماذا صنعن بفاتنٍ ومنعَّم
…
وجليل شَيْبٍ جاءها وصغير؟
كم غَيَّبَتْ من كان مَطمَحَ مُهجةٍ
…
ومناطَ آمالٍ وعَقْدَ أُمور
طَوَتِ الأليفَ فإذْ بَكاهُ إلْفُهُ
…
ثَنَّتْ برَبِّ المدمع المنثور
سأَجيء هذي الدارَّ يوماً لاحقاً
…
مَن غادَرُوا بالقلب بَرْحَ سعير
ومُخَلِّفاً بَعدي حزيناً موجَعاً
…
يبكي بدمعٍ للفراق غزير
يبكي وما عبراتُه في أَوْبَتي
…
بالشَّافعاتِ ولا الرَّدَى بعذير
وتَقَرُّ في تلك الغيابة أعْظُمي
…
مِن بَعْدِ كَدٍّ دائِبٍ مكرور
يَسْلُو بها قلبي قديمَ مآربٍ
…
كانت وينزع عن أسى وحبور
غفلان عن سالٍ لذكرى جامدٍ
…
أَوْ جائدٍ بفؤَاده المفطور
ويُطل ذاك البدرُ فوق زاهياً
…
يجلو سناه غياهبَ الديجور
فخري أبو السعود
نشيد الأستاذ محمد فضل إسماعيل
وهو الرابع الذي نال إحدى الجوائز
مَهِّدُوا لِلْمُلْكِ أَبْرَاجَ السَّماءْ
…
وارفعوا في ساحةِ المَجْدِ اللِّوَاءْ
واسْمَعُوا من جانب النيلِ النِّدَاءْ
…
مصْرُ للمصريِّ قلبٌ وجَنَانْ
نحن أبناءُ الأُولَى
…
طاوَلوا مُلْكَ الشُّهُبْ
قد خطَوْنَا للعُلَا
…
فوق أعناقِ الْحِقَبْ
مجدُها باقٍ عَلَى مَرِّ الدهورْ
…
خَلَّدَتْه في حناياها العصورْ
في جلالٍ ناطقٍ بين الصُّخورْ
…
حَيَّرَ الدنيا على مَرِّ الزمانْ
نحن أبناءُ الأُولَى
…
. . . .
لَا نَهَابُ الموتَ فانظر يا قَدَرُ
…
كيف لا نهتَزُّ يوماً للغِيَرْ
نحن شَعْبٌ مِلْءُ وَاديه الخطَرُ
…
خاضَ للعَلْيَاءِ لُجَّ المَعْمَعَانْ
نحن أبناءُ الأُولَى
…
. . . .
قد تآلَفْنا على حبِّ البلادْ
…
فانْطَلَقْنا في ميادينِ الجهادْ
نُشْهِدُ الأَرْضِينَ وَالسَّبْعَ الشِّدَادْ
…
أَنَّ لِلأَهْرَامَ عِزّاً لَا يُهَانْ
نحن أبناءُ الأُولَى
…
. . . .
دينُنا في مصرَ مَوْفُورُ الجلالْ
…
ليس معناهُ صليبٌ أو هلالْ
إنما معناه مُتْ يومَ النِّضالْ
…
بِئْسَ مَنْ يَحْيَا كما يَحْيَا الجبانْ
نحن أبناءُ الأُولَى
…
طاوَلوا مُلْكَ الشُّهُبْ
قد خطَوْنا للعُلَا
…
فوق أعناق الْحِقَبْ
صوتَ مَنْفِيسٍ يُدَوِّي كالرُّعودْ
…
هَيِّئُوا للنِّيلِ مَجْداً في الخلود
فابْتَنَيْنَا مثلَ بُنْيَانِ الجُدُودْ
…
كَعْبَةً للنُّبْلِ في أعلَى مكانْ
نحن أبناءُ الأُولَى
…
. . . .
فاجرِ يا نيلُ بِوادِيكَ الأمينْ
…
إنَّهُ وحْيٌ منَ السّحْر المبينْ
تاجُهُ في الدَّهْرِ وضَّاحُ الجبينْ
…
ينحَني في جانبيه النَّيّرانْ
نحن أبناءُ الأُولَى
…
. . . .
واسقِنا يا نيلُ من نَبْع الحياهْ
…
أنْتَ للأوطان جاهٌ أيُّ جاهْ
يَسْتَمِيتُ الشّعْبُ حُبّاً في عُلَاهْ
…
من شبابٍ أو كهولٍ أو حِساَنْ
نحن أبناءُ الأُولَى
…
. . . .
حولك الغُرُّ المَيَامِينُ السِّماحْ
…
يدفعونَ الضيمَ من كلِّ النَّوَاحْ
فاجرِ يا نيلُ وفِضْ بين البِطاحْ
…
أنْتَ والكوثَرُ فيها تَوْأمَانْ
نحن أبناءُ الأُولَى
…
. . . .
قد وقَفْنَا في ثباتٍ كالجِبالْ
…
في صُفُوفٍ صَدْعُها صَعْبُ المنالْ
صوتُنا يمْلأُ آذانَ اللَّيالْ
…
مصْرُ للمصْرِيِّ عاشتْ في أمان
نشيد الأستاذ محمد الأسمر
هيا بنا إلى الأمامْ
…
هيا بنا هيا بنا
المجد في الدنيا زحامْ
…
فزاحموا نحو المنى
واسعَوْا إلى خير الوطن
يحيا الملك. يحيا الوطن
…
يحيا الملك. يحيا الوطن
نحن الحياةُ للبلادْ
…
ونحن في مصر العلَمْ
إذا دعا داعي الجهاد
…
كنا بها أسد الأجمْ
نذود عن أرض الوطنْ
يحيا الملك. يحيا الوطن
…
يحيا الملكْ. يحيا الوطن
يا مصر يا كنز الوجود
…
نحن على الكنز أسودْ
ونحن أمثالُ الجدود
…
نفني ونعطيك الخلودْ
يا مصر يا خير وطن
يحيا الملك. يحيا الوطن
…
يحيا الملك. يحيا الوطن
هيا بنا إلى الأمام
…
هيا إلى الذكر الحسن
فنحن من بين الأنام
…
تاجٌ على رأس الزمن
ونحن روح للوطن
يحيا الملك. يحيا الوطن
…
يحيا الملك. يحيا الوطن
هيا بنا، هيا بنا
…
نبني الخلود والبقاء
نبني ونرفع البنا
المجد في الدنيا لنا
…
لما بنى الله السماء
بنا لنا مجد الوطن
يحيا الملك. يحيا الوطن
…
يحيا الملك. يحيا الوطن
منظر النيل الأزرق في بعض بلاد السودان
للأستاذ عبد الله عبد الرحمن
أي حسن تراه لم يحرز الني
…
ل وأي الجمال إلاّ لديه
رفَّ فيه النبات حتى كأني
…
من وراءِ النبات أرنوا إليه
وكأنَّ المياه صفحة خدّ
…
وكأنَّ الظلال شامٌ عليه
وكأن الدخان من جانب ال
…
شطّ مشيب يلوح في عارضَيه
يتلقّى الأديب منه قوافي ال
…
شعر رقراقة على حافتيه
وعلى متنه كهارب قامت
…
تبهر الناظرين واللَّيل قاتم
كسيوف مجردات على الما
…
ء مواضٍ له من البرّ قائم
نازعتني أقول فيه القوافي
…
نفس حر إلى الجمال نزوعَهْ
فتمشيت والهواء عليل
…
غير ما ناقل خطاي السريعة
وظلال الجميز والطلح والسد
…
ر تَرَامى على المروج الوسيعة
ووجوه النبات تحلو وتبدي
…
صوراً للحياة كانت بديعة
ليس أدعى إلى السرور كروض
…
خلعت حسنها عليه الطبيعة
فإذا ما دنا المغيب تدانت
…
من صنوف الطيور شبه الغمائم
رائحات إلى الوكور ولكن
…
هل تقيها الوكور كيد ابن آدم
(الخرطوم)
عبد الله عبد الرحمن
القصص
هواجس
بقلم حبيب الزحلاوي
بقية ما نشر في العدد الماضي
أكثر ليلي الصيف في مصر مقتطعة من فراديس النعيم لعشاق اللهو والاستمتاع يا لله!! كم ليلة قضيناها على شواطئ النيل نستمتع بانسياب أمواهه الهادئة، نشاهد مثاوي الأشباح تحت ظلال النخيل، نراقب أنوار المدينة ونجوم السماء تتناقص وتنطفئ وتتلاشى على بساط الفجر وإشعاع الشمس
يا لله! كم ليلة سمعنا فيها أغاني أم كلثوم وصوتها العذب الحنون! وكم أصغينا إلى نشيج محمد عبد الوهاب وأنغامه المسترخية المستلينة، وكم لمسنا فيها تفاعل الإغماء والتماوت، لقد شهدنا على المسارح تمثيل القردة المقلدين واسترعى انتباهنا ممثل هزلي بارع، إحساسه في وجهه، وعقله في نظرات عينيه، وبراعة فنه في إيمآته وسكونه، هو ذا نجيب الريحاني المطبوع على الفن
كم ليلة فيها جسنا فيها حلقات الأدب، ومجالس العلماء، و (بعكوكة) الظرفاء وصالات المتأدبات، لقد كانت الرغبات هي كل شيء في عرف صديقتي أنيسة تدفعها إلى معرفة كل شيء، وكانت تقول:(متى انقطعت الرغبات انقطع حبل الحياة معها، وتجزم بأن من يتعمل قتل رغبات نفسه كان كمن يحاول الانتحار) كانت تعرف الرغبات الجوالة في صدور الساسة (بأنها تقدير لما تحتاج إليه النفس الإنسانية الكبيرة) وتقول: (لا خير في جهود تبذل إذا كان رجل السياسة يعجز عن إدراك رغبات مواطنيه وحاجاتهم) وقالت عن المصريين: (إنهم كشعب، يعرف جيداً كيف يفرح ويحقد، ولكنه لا يعرف أبداً كيف يغضب وينتقم) لقد قالت لي صديقتي عن مجالس النساء والرجال قولاً ظريفاً فيه مداعبة ومفاكهة، ولذعات وسخرية قالت:(إنه قد يعسر عليها إيجاد رجل واحد خليق بأن يسمى رجلاً بين مائة ممن لقيتهم من الأدباء والعلماء والكتاب والسياسيين، وأن المرأة المصرية ليست إلا أنثى)، وكانت تضحك من الشبان المستكرشين والصبايا المترهلات وتقول: (إن الرياضة تعلم
الشباب الاعتداد بالذات)
شيطان صديقتي شيطان ذكر، نبت في الشرق وتمرد في أمريكا فصير صاحبته كعصير العنب المستقطر بالبيانسون فائدته في قتله بالماء، وهكذا متى عادت صديقتي إلى أمريكا سيتذوق الأمريكان خمرة معارفها ويستوعبون عمق وعيها وإدراكها وواسع اطلاعها، وقد مزجت ثقافتها الأمريكية بروح شرقي خاصته الإلهام والفيض
لقد عرفت نفسية صاحبتي تصغي إلى كل نأمة، تستوعب الكلمة والغرض، تلمح البادرة الخاطفة، تدرك مرامي النكتة، تقيد شوارد الفكرة وهمسات الفؤاد وسبحات الأحلام، تسمع ولا تتكلم كغالب السوريين، ولكنها متكلمة يطيب لها الحديث تحلل فيه ما سمعت وتنقد ما رأت، على ضوء كأس من الويسكي (كناديان) وسيجارة أمريكية لا تنطفئ من ماركة (لكي ستريك)
علقت الويسكي وأدمنت التدخين، فكانت تصدني عن الأول لو حاولت شرب كأس قبل الطعام، ولا تسمح به إلا بعيد منتصف الليل، لأنه يعاون الجسد على الاستغراق في النوم، وتستكثرني من التدخين، لأنه يجلي البصيرة على رقصات الدخان وتلاعب تموجاته
شهران من شهور الصيف كانت لياليهما لنا ريادة استكشفنا بها أشياء كثيرة، منها أغاني الرمال وأنغامها في الصحراء متى داعبها النسيم أو عصف الريح، جثوم أبي الهول عند أقدام الأهرام، هدير النيل في الشلال وعظمته في القناطر الخيرية، في غابات النخيل المتكاثفة في كثبان الرمل، وقد رأينا أشياء كثيرة في النهار من معالم مصر كقبور الفراعنة ومخلفاتهم الباقية على الدهر، والجوامع والأديرة والمدافن وسواها مما لم يحفزني حافز من قبل إلى مشاهدته
شهران كانا لي رياضة نفسية عجيبة كنت أتمرن في خلالها على الاستنباط من لوحة ذكريات الطفولة، صوراً بريئة أعرضها على مجهر خيالي وقد استفاق على المعرفة، والبحث عن المعلوم والمجهول. يا لله من اصطدام الطفولة البريئة بالرجولة المحنكة، من قوة العقل تكبح جماح طفرة النفس، من صعوبة سيادة الملكات الإنسانية المكتسبة على نزوات الطبيعة الوحشية، من همهمات ملائكة الضمير على وسوسة الشيطان الرجيم. . . . . .!!
وقفت قبالة عربة القطار المقل لصديقتي أنيسة عبر حدود مصر وقفة سهوم وفتور، بل وقفة الكلف الولوع المكتوي الفؤاد، أخاف الفراق وأفرق منه لأني سأصبح مضطرب الخيال، فريسة الوحشة، يتيم الروح. ولما هم القطار متثاقلاً في حركته، كان الألم المكبوت يوشك على الانفجار، ولكنه تحول دموعاً انهمرت سخينة على يد صديقتي وقد قبلتها لأول وهلة
رفعت ذراعي ولوحت بها في الفضاء، غير أن الصور اختلطت علي وغاب القطار
من لي بمن يعبر عما كان يتجاوب في صدرها من حنان وحب؟ من لي بمن يعبر عن نظراتها هل كان يغشاها طيف حزين، أو هي فاترة ساهمة؟ من لي بأفاك يضحك مني فأصدق تقوله إنها استسلمت للأسى والمرارة كما استسلمت أنا، وأن أحلام سعادتها قد انتعشت من جديد كما انتعشت أحلام سعادتي بأمل ورجاء؟!
لا. . . . لم يعد بي حاجة إلى متقوّل يضحك مني إرضاء لضعفي الطارئ المستحب، لم تعد لي بالاستهواء الذاتي فائدة لأني قدرت، بعد انقضاء أيام من الألم المضني، أن البرزخ الفاصل بيننا متعذر العبور، ولكن شيئاً جديداً أعاد إليّ رجائي، أحيا فيّ أملي، لقد أخذت كتب صديقتي تصلني تباعاً كل أسبوع، في كل شهر، فيها التوضيح والتبسيط لكل خلجات عواطف المرأة التي تعرف كيف تعبر عنها تعبيراً صحيحاً في حالة الانغماس فيها أو في حالة القدرة على وصفها بالكتابة، أما الفصول القيمة التي كانت تنشرها في المجلة الأمريكية ففيها من التفصيل الدقيق لذاتية الأديب الفنان الذي يتخذ من المشاهدات الواقعية والذاتية ومن الخلجات العاطفية أداة للخلق والابتداع
صارت خطاباتها على مر السنين مصدر وحي لي فياض بخصائص الحياة وعناصر الرغبة فيها، كنت أستلهم سطورها أدق المعاني وأبرع التصورات، وأشعر بسحرها يغشاني فتشرق نفسي لأنه كان كنغمات بعيدة عميقة لصوت حالم طروب حملها الأثير من جوف وادي الظلام!! إلا أنه حدث ما لم أكن أتوقعه، حدث أن جاءني كتاب منها تقول فيه أن أكف عن مراسلتها كما أنها ستنقطع عنها ريثما تعالج من مرض ألم بها في إحدى المصحات وتدعوني إلى الصلاة لأجلها، أو أبكيها بدمعة واحدة إذا استنزف الداء حيويتها!!
عام طويل أجوف كأنه دهر من العدم حاق بي من كل جانب كنت فيه كالمشلول خولط في
عقله، لا هو من الأحياء فينفع ولا هو بميت فيدفن. أما الآن فحمداً لله، فقد كتبت لي صديقتي تقول إنها استعادت عافيتها وبرئت من علتها فتخلصت أنا من التأرجح بين العدم والوجود، وشفيت من تقلبات النفس وانفعالاتها العكسية. . .
وانتصب واقفاً وقال: لقد دعوتكم الليلة يا رفاق صباي وعشراء كهولتي لأفضي إليكم بما كان بي من هواجس، وأعترف لكم اعتراف المثقل بالفرح، فهيا نشرب كأساً من الشمبانيا تبرد اليد المتقدة الممسكة بقلبي منذ عام، وقد أفلت من مقابضها اليوم
لم يتقدم واحد للشراب بل قال قائل: هل لمثلك وقد جاوزت الخمسين من عمرك أن يستغرقك الحب ويرديك في مهاويه؟ وقال آخر: ليس ما كان بك هو الحب، إنما هو أنانية أشعلت نارها امرأة مكبوتة حساسة عاشت على الحنين إلى الماضي في بيئة غريبة عنها. وقال الثالث: إن ما كان بك يا عزيزي هو حرمان أخرس حلت الفرحة المفاجئة عقلة لسانه فصرخ صرخة الوداع!!
وقال الرابع: لقد أنطقتك الخمر بما كان يجب السكوت عليه، وتبخرت اعترافاتك هذه نشوة سوف لا تلقاها بعد الآن. وعاد الأول فقال: لقد كان الخيال البعيد يشعرك بالذكرى المفقودة فكنت تتعمد إثبات وجودها بكأس كنت تشربها في وقت معين، وبسيجارة كانت تصور لك مرائي الماضي الضائع، وتخيلات تلك الليالي الهاربة من أجواء أحلام الشعراء، أما الليلة فقد بددت كل شيء، بددت كنز وجدانك، لأن رجل الحياة هو الذي يحب ويتعذب ويموت فلا يشتكي ولا يبكي، وقال آخر وهو يلوح بيديه ويلوي عنقه وشفته: ما هو الحب؟ أليس هو. . . أليس هو؟؟؟
لا. لا يا أصدقائي، ليس الأمر كما تتوهمون، ليس الحب ما تقول أنت يا صديقي، وأشار إلى المتكلم الأخير، إنما هو شعور بالحياة ووسيلة فعالة تصقل المدارك فتجعلها تتبصر وتتفقه المعاني لجمال الحياة، لا بد للرجل الحي من شعور سام بالحياة، فالحياة نفسها تسعد بالحب السامي. إن ما تمنحه المرأة للرجل عفو النزوة الطارئة أو الرغبة الطائشة أو المتعة الخاطفة إنما هي منحة متبذل يضع احترامه تحت أقدام الرجل. الحرمان لرجل الشهوة شواظ كومة قش مشتعلة، وللمرأة المسؤولة حنان مدفون لذيذ وعطف دائم، مستحب. الحرمان للرجل المثقف إنما هو مراء ومشاهد، وأنغام وألحان، أطياف وظلال لخيالات
المثل العليا التي تتخيلها روحه العظيمة وشاعريته الحساسة التي تلد وتنجب وتخلق وتبتكر
إن حقيقة بواعث ذلك الحب إنما هي بذرة الغريزة ألقتها الطفولة البريئة اعتباطاً عندما استبدلت الرمانة بتفاحة ودست صورة العذراء في محفظة الكتب، وقد أنتجت على كر السنين تقارباً يضارع انحدار الكهل في سلم الحياة ليلاقي الطفولة من طرفه الآخر، وهذا الانحدار يشبه طرفي قوس يتقابلان، ولا يتقاربان ويتماسان إلا إذا انكسرت القوس!!؟
انطلقت حنجرة أحد السامعين بضحكة كبيرة وقهقهة عالية كأنها صوت حجر الطاحون وقال: فلسفة مخمورة وهواجس سكرى هي ما تقوله أيها الصديق. ولله إني لأعجب من تخبطكم جميعاً في الحب وتكلفكم ابتداع صور له تشوه وجهه الحقيقي، الحب أيها السكارى نداء جنسي. الحب أيها المتفلسفون تجاوب غريزي لنداء الجنس. وإن كل ما تختلقه خيالاتكم وتبتدعه عقولكم إنما هو وصف مبرقع لحقيقة العلاقة الجنسية التي تأنف من البراقع
حبيب الزحلاوي
العالم المسرحي والسينمائي
الممثل والمخرج المصري كما يراه بعض الفنانين الأيرلنديين
(رد على حديث لمجلة الرسالة)
للأستاذ زكي طليمات
تفضل ناقد (الرسالة) الفني فنقل في أحد الأعداد الماضية حديثاً عن المستر هيلتن إدواردز مخرج فرقة (دبلن جيت) الأيرلندية التي عملت بمسرح الأوبرا الملكية في نهاية هذا الموسم، حديثاً تناول فيه الممثل المصري والمخرج المصري بما تراءى له بعد أن شهد رواية (السيد) التي مثلتها أخيراً الفرقة القومية المصرية بدار الأوبرا
فعن الثناء والنقد الذي خص به هذا النفر من الممثلين والممثلات أقدم للمستر إدواردز شكري الخالص؛ وكنت بدوري أود لو أتيحت لي فرصة التمثيل أمامه لأسمع رأيه فيما أقدمه، وأتعرف مواطن الأستاذية أو الضعف في فني، إذ لكل مفتن، مهما بلغ شأنه في فنه، نواح لا تخلو من المآخذ
أما عن المخرج المصري، وقد خصني المستر إدواردز بالذات، فأرى لزاماً عليّ أن أتقدم إليه ببضع كلمات إقراراً للحقيقة التي ننشدها جميعاً، وكشفاً لبعض بواطن الأمور التي أصدر فيها المخرج الأيرلندي حكمه على مظاهرها دون اضطلاع بالظروف والملابسات التي أحاطت بإخراج رواية (السيد)
المذهب الواقعي والمذهب الإيحائي
كان أبين ما أخذه عليّ المستر إدواردز أنني أتبع طريقة المذهب الواقعي في إخراج الرواية ورسم مناظرها وأستارها. وهذا المذهب يحتم بقدر المستطاع نقل مظاهرا لحياة كما هي بتفاصيلها العادية وتفاهتها الحقيرة، ونعى على أنني لا آخذ فيما أعمل بالمذهب الإيحائي وهو المذهب الذي ساد فنون الرسم والنحت والتصوير جاعلاً من مظاهرها فناً مركزاً ينبو عن محاكاة الطبيعة كما تراها العين المجردة أو عدسة الكاميرا، على حين أنه يجمع من الأشياء خصائصها الرئيسية التي توحي بالجزيئات والتفاصيل، وتبعث مخيلة الرائي على استكمال ما أنقصته عمداً يد المفتن
ثم ساد هذا المذهب أيضاً فن الإخراج المسرحي فجعل من مظاهره المادية (وهي الأستار والملابس والإضاءة)، ثم من مظاهره النفسية (وهي إلقاء الممثل وإشاراته)، فناً يجنح إلى البساطة الموحية الغنية، ويميل إلى التركيز بل يهوي أحياناً إلى مقاربة الفن الرمزي من حيث المغالاة في التفسير بالرئيسيات عن الجزيئيات والدقائق
وكانت هذه النقلة من جراء تقدم فن الفوتوغرافيا ثم فن السينما الذي جعل كل محاولة من جانب المخرج المسرحي في نقل الطبيعة ومحاكاتها على المسرح ضرباً من السخف ولوناً من الهزل الفني الذي يجب أن يترفع عن إتيانه كل متفنن يتأثر بروح العصر ومزاجه العام
وغالى بعض المخرجين في توليد هذا المذهب، ولاسيما بعد أن نزلت بفن المسرح كارثته الأخيرة، وكسبت السينما النصر في استمالة الجمهور فجعلوا من المناظر المتعددة في رواية واحدة منظراً واحداً يشيد بحال يمكن المخرج من تمثيل كافة مشاهد الرواية في أقسامه المختلفة مع إضاءة القسم الذي يجري فيه تمثيل المشهد وإبقاء الأقسام الباقية في الظلام؛ هذا مع الاستعانة ببعض الأستار الجزئية أو الأثاث والمهمات، حتى لا يتصدع ما يصح أن (تعقله) عين الجمهور وحتى لا تصدم مخيلة النضارة بما يخرج على المنطق الإيحائي الذي هو الباعث الأساسي لشهوة الجمهور المثقف على تذوق هذه اللذة الفنية، لذة الإيحاء واستساغتها
وقد عمد المخرجون، ولاسيما الإنجليز منهم والألمان، إلى هذا الاتجاه الفني، وهو ليس بالفن الجديد لأنه عرف على حالة أولية في مسارح القرون الوسطى بأوروبا وفي المسرح الإنجليزي في عهد شكسبير والملكة اليصابات؛ عمدوا إلى ذلك بعد أن أفلس المذهب الواقعي الذي عمدته في فرنسا، وفي الروسيا، في محاولة إنقاذ المسرح بعد أن اكتسحته (الكاميرا) مستشعرين قصور ميكانيكية المسرح على تقدمها الأخير عن بلوغ الشأو الذي قطعه فن السينما في إيراد مناظر لا حد لها ولا نهاية بأيسر الوسائل وأقل التكاليف
وأرادوا بهذا أيضاً، وهو الصميم، أن يقدموا للنظارة لذة ذهنية جديدة غير تلك التي يقدمها فن السينما القائم على تعدد المناظر والعرض الواسع ومحاكاة الطبيعة في أدق مظاهرها، لذة أساسها التخيل واستثارة الخاطر وإشعار النظارة لذة التوليد مما هو مركز، وجمال
الكشف عما هو مغلق أو يكاد. وأصابوا التوفيق لدى الجمهور المثقف المشحوذ الخاطر، ولاسيما الجمهور الإنكليزي الذي يحمل في آدابه تقاليد المسرح الشكسبيري
وقد أطلق المخرجون الفرنسيون على هذا النوع من المنظر المركز اسم
وليعذرني المستر إدواردز إذا أنا لم أسهب أكثر من ذلك لضيق المقام، ولأن الأكثرية الغالبة من القراء لا يأبهون ولا يتذوقون الكلام في هذه الفنون الغريبة عن آدابهم القديمة والحديثة، ولكنني أذكر له أنني قرأت ما كتبه المخرج الإنجليزي الفقيه (جوردن كريج)، والألماني (رينهارت)، والفرنسيان العبقريان (كوبو) و (جيميه)، والأخير هو أستاذي في مسرح الأوديون، وقد شاهدت مآثر فنهم واتجاهاتهم الحديثة في الروايات التي رأيتها في لندن وبرلين وباريس
بعد هذا أعترف بأنني لم أعمد إلى المذهب الإيحائي المبالغ فيه وهو المذهب الذي تبعته الفرقة الأيرلندية في إخراج روايتي (هاملت) و (روميو وجولييت) على مسرح الأوبرا، لأنني أعلم، وأنا مصري وأعمل للمسرح منذ خمسة عشر عاماً، أن الجمهور المصري، بحكم مزاجه العام، لا يتذوق هذا الاتجاه الفني، بل ولا يستطيع أن يفهمه، بل إنه ليرى فيه ضرباً مما يخالف المعقول، وذلك بحكم أنه جمهور غير مثقف في أغلبيته تثقيفاً فنياً كاملاً، ولأنه جمهور (لاتيني) من حيث ثقافته
وإذا كان المخرجون الإنكليز والألمان أكثروا من استعمال هذا الصنف من المناظر فلأن ثقافتهم من (الشمال)، وثقافة (الشمال) يعلوها الضباب والسحاب، وليس فيها وضوح الثقافة اللاتينية التي قامت في بلاد البحر الأبيض المتوسط، حيث وهج النهار يكشف عن دقائق المرئيات. وإذا كان الجمهور الإنكليزي يرتاح إلى مشاهدة هذا النوع من الإخراج فلأنه جمهور شكسبير وجمهور المسرح الثابت الستار الذي تجري في ساحته الواحدة معارك القتال ومعارك الغرام وغيرها؛ ويكفي أن يرمز لكل منها بلوحة مكتوبة حتى يستقيم المنطق لدى النظارة وحتى ينزو كل خاطر من كمينه
وفوق هذا، وعلى اعتبار أن الجمهور المصري يفهم ويستسيغ هذا النوع من الإخراج، فإنني ما كنت لأخرج رواية (السيد) وفاقا لما يراه المستر إدواردز ويعتبر أنه قطرة العطر المختارة في سائر وسائل الإخراج، لأنها رواية من صميم الأدب الكلاسيكي، ولأنها من
الأدب اللاتيني القائم على الوضوح والبساطة، ولأنها رواية أساسها (الكلم) لا العرض والمستر إدواردز يعرف حق المعرفة أن المخرج الحق، المخرج الذي لا يقدم الشيء الغريب ليعرف بالغرابة، مقيد بروح الرواية وبنوعها الأدبي، ومن هذا المصدر يستوحي الاتجاه الفني ويتخير وسائله في الإخراج، ولاسيما فيما هو خاص بالإطار المادي الذي تبرز فيه الرواية وأعني به فيما أعني مناظر الرواية وأستارها
إذن فليسمح لي المستر إدواردز بأن أقول إنه تسرع في حكمه قبل أن يتعرف ذوق الجمهور المصري، وإنه من أولئك النفر من المخرجين الذين يريدون أن يجعلوا من فن الإخراج فناً قائماً بذاته لا يحفل بروح الرواية ولا يحترم إرادة مؤلفها ولا يأبه بمكانها من الاتجاهات الأدبية؛ وأننا أربأ به عن هذا النفر ذي السمعة المعروفة، وأقول، محسناً الظن بنقديه، أنه أخذ علي في الإخراج وسيلة لا يميل إليها شخصياً
أما أنني خرجت على المذهب الإيحائي البسيط الذي يستطيع أن يتذوقه الجمهور المصري، والذي يماشي روح الرواية، فأمر لا يقره الواقع؛ فالمستر إدواردز قد شاهد بعينيه أنني ركزت على جانبي مقدمة المسرح عمودين من النمط الذي كان شائعاً في القرن الحادي عشر، وهو عصر الرواية في إسبانيا ' عمودين يجمع بينهما (قبو) لا يرى النظارة منه سوى بدايته فوق كل عمود، على حين أنني لم أكمل الباقي وأسدلت ستارة من العلاء يغطي ما تعمدت إخفاءه، وذلك بقصد الإيحاء، عمودين لا يحملان في قطعهما وتصويرهما جزيئات الحقيقة، بل يبدوان وعليهما أهم مميزات النمط، وذلك نزولاً على مبدأ المذهب الإيحائي الذي أنا أول من قدمه في مصر، ولاسيما في روايتي (تاجر البندقية) و (أهل الكهف)
وبذلك أحييت الصبغة الزمنية والمحلية بأسهل الوسائل
كذلك عمدت إلى الأستار المخملية ذات اللون الواحد لتمثيل حجرة ابنة الملك وحجرة (شيمان)؛ ستاران أحدهما رمادي والآخر بني اللون، يهبطان الواحد خلف الآخر وراء العمودين، واستعنت بالأثاث للتنبيه على الإيحاء في إحياء الصبغة المحلية، فكان أثاث حجرة شيمان من الفن الإسباني في القرن الحادي عشر، وكان أثاث حجرة ابنة الملك من الفن العربي باعتبار أنها من الأسلاب التي غنمها الأسبان من العرب بعد أن أكرهوهم على
الجلاء عن قصورهم
ثم كان المنظر الذي يمثل ساحة أو ربوة بجوار المدينة حيث يتبارز الكونت والدوق دياج؛ هذا المنظر قد رسم وفاقاً لصميم المذهب الإيحائي المتطرف، بل لقد أمرت المصور الذي رسمه بألا يتبع قواعد المنظور في رسمه؛ وكل هذا بقصد استثارة مخيلة النظارة ودفعهم إلى توليد لذة ذهنية تطالعهم بعد التفكير والإمعان
ولكن حدث بعد ذلك أن شاهد المستر إدواردز منظر ساحة العرش في قصر الملك وهو منظر يمت بحق إلى (المذهب الواقعي) ويحطم بحق أيضاً الوحدة المسرحية التي يجب أن تسود سائر مناظر الرواية، وكان أن صاح المستر ماك ليمور زميل المخرج الأيرلندي النابه بأن المخرج قد أخطأ!!!
نعم لقد أخطأت. . . ولكن ليس عن جهل بأيسر وبأولى قواعد فن الإخراج. وهنا أستطيع أن أروي ما قد يرسم ابتسامة الإشفاق على شفاه الزميلين العزيزين. . .
المسألة وما فيها أن مصور المناظر لرواية (السيد) لم يتمكن من إنجاز هذا المنظر في الوقت المناسب، فاضطررت - أقول اضطررت - على الرغم مني، وعلى الرغم مما يعمر رأسي من فنون الإخراج، أن أستعير منظراً من مناظر دار الأوبرا الملكية حتى لا يتأخر تمثيل الرواية، وكان هذا الظرف المحرج الذي لم ينفع فيه علمي، ويصح أن أقول للزميلين إن مناظر الأوبرا لم تعرف بعد المذهب الإيحائي؛ وقد ضحك مني رئيس الميكانيستية حينما وضعت ستار المؤخرة في رواية (أهل الكهف) من القطيفة، على حين أن بقية أجزاء المنظر كانت من الإطارات المرسومة الملونة
إذن ليعذرني الزميلان، وكان يجدر بهما - وهذا ما آخذه عليهما - أن يتريثا في الحكم على زميل، وألا يصدرا هذا الحكم بعد مشاهدة رواية واحدة خذلت برغمي في الاحتفاظ بوحدتها المسرحية
وليعذرني أيضاً الزميلان إذ أن مصوري المناظر في مصر - ومن بينهم الأجانب - لا يعرفون شيئاً عن المذهب الإيحائي ولم يسمعوا بعد عن سائر الاتجاهات الحديثة من و ، ووإنني أجاهد معهم متعباً و. . .
وإن البعض من الممثلين بل والنقاد، عدوا المناظر التي قدمتها في رواية تاجر البندقية
وكلها إيحائية محضة، نوعاً من التمرين الأولي في فن التصوير والرسم مما يقدمه طالب بالمدارس الأولية
الإضاءة
يقول المستر إدواردز (أنني لم أقصد من الإضاءة إلا أن أكشف المناظر والممثلين للنظارة، وأنني لم أستخدم الإضاءة لغرض أو فكرة خاصة إلا في موقف واحد فقط بين (السيد) وحبيبته) ومجمل هذه الاتهام يناقض بعضه بعضاً، فهو يعترف أنني استخدمت الإضاءة لفكرة وغرض في أحد المواقف، ولكنني أهملتها في مواقف أخرى، أعني أنه يعترف بأنني أدري أن الإضاءة المسرحية ليس الغرض منها فقط إنارة المناظر والممثلين بل إحياء الصبغة النفسية لأهم عاطفة تجتاح المشهد، هذا مع خضوعها للمعقول وما يحتمه الزمان والمكان. وتكفيني هذه الشهادة، ويرفه عني هذا التناقض، لأن من يعلم أن 1 + 1=2 لا يرجع فيعطي نتيجة غير هذه!!!. يعلم المستر إدواردز وقد شاهد الرواية - ولا أعرف ما إذا كان قرأها - أن كافة المناظر تجري في رابعة النهار ماعدا مشهدين أولهما في وسط الليل وثانيهما - وهو الذي أشار إليه - في أول هبوطه، وقد اعرف بدقة الإضاءة فيه
ماذا كان يريدني أن أعمل للإضاءة المطلوبة في باقي مناظر الرواية، وكلها تجري في النهار، أكثر من الإنارة التامة للمسرح؛ ثم غمر الأقسام الرئيسية التي يجري فيها أهم مشاهد المنظر بأشعة ناصعة تصبها مركزات للنور (بروجكتور) على جانبي المسرح، وذلك بقصد اجتذاب أنظار الجمهور إلى أهم النقط التي يجري فيها التمثيل!!!
أقول للمستر إدواردز إنني من المعجبين بتصوير المصور رامبراند وأعرف أننا معشر المخرجين الحديثين نستقي من طريقته في توزيع النور في لوحاته الخالدة، نستوحي أساليبنا في إضاءة المسرح، وفي هذا ما يكفي ليعلم أنني أعتقد في الإضاءة المسرحية وأراها مصدراً غنياً في الإلهام يستوحي منه المخرج، وأن الإضاءة المسرحية قد أخذت مكان المناظر في إحياء الصبغة النفسية، بل والمكانية أحياناً
بعد هذا أصرح أن ما قرأته في (الرسالة) عن لسان المستر إدواردز لا يخلو من قسوة ومن تحرج لا أظن أن نفسية مفتن من طرازه تنطوي عليهما!!
ولكن أحقاً قال ذلك المستر إدواردز وزميله؟ أم أن ناقل الحديث هو الذي قسا وتحرج!!!
لا يهمني كثيراً. . . وأشكر لصاحبي الحديث ولناقله هذه الفرصة الغالية التي أتاحت لي أن أناقش وأحاور في فن أحبه كثيراً، وأود أن أتلمس مواطن الضعف مني في تأدية رسالته
زكي طليمات
خريج مسرح الأوديون بباريس وعضو جمعية المسارح
الدولية
أؤكد للأستاذ زكي أني كنت أميناً في نقل الحديث بما فيه من رقة وقسوة
يوسف تادرس
البريد الأدبي
زجموند فرويد أيضاً
قرأنا في الصحف النمساوية الأخيرة طائفة من البحوث والنبذ الممتعة عن العلامة النمساوي الكبير زجموند فُرويِدْ، فهو اليوم في الثمانين من عمره، وقد احتفلت الدوائر الرسمية والعلمية النمسوية بهذه المناسبة العلمية، وأقيمت للعلامة الشيخ عدة حفلات تكريمية، وحفلت الصحف النمسوية، وصحف العالم كلها بمختلف البحوث والمقالات عن حياته وعن مباحثه ونظرياته. وقد غدا فرويد منذ بعيد أستاذاً ومفكراً عالمياً يوجه بجهوده وبحوثه سير العلوم والمباحث النفسية والعصبية في العالم كله، وهو يعتبر اليوم إمام هذا الفن وحجته؛ ومن الصعب أن نتحدث عن حياة فرويد ومباحثه في مثل هذا المقام الضيق؛ وإنما نذكر بهذه المناسبة عنه نبذة خبرية فقط هي التي يتسع لها هذا المقام
فقد ولد فرويد من أبويين يهوديين في مايو سنة 1856، في فريبورج من أعمال مورافيا النمسوية، ودرس في فينا وباريس؛ ودرس القانون أولاً، ولكنه تحول عنه إلى العلوم الطبيعية، ودرس على الأستاذ (بريكة) علامة عصره؛ واشتغل في سنة 1884 طبيباً مساعداً في أحد المستشفيات الكبرى، وفي العام التالي درس مع الأستاذ شاركو العلامة الفرنسي في علم الأعصاب، وتلقى عنه بعض نظرياته في (الهستريا)؛ ثم عاد إلى فينا وبدأ مباحثه النفسية. وفي سنة 1895 أخرج فرويد مع الأستاذ بروير ثمرة مباحثه الأولى في كتاب عنوانه (مباحث عن الهستريا) وفيه شرح آراءه في أصل الهستريا وفي علاجها؛ واستمر فرويد في مباحثه النفسية والعصبية، وطلع على العالم في هذا الباب بآراء ومباحث مدهشة تمتاز بقوتها ومتانتها العلمية؛ وفي سنة 1900 نشر كتابه الشهير (تفسير الأحلام) ثم أعقبه بكتابه (التحليل النفسي والباتولوجي للحياة اليومية) - ثم بكتاب (ثلاثة مباحث عن النظرية الجنسية) وقد فتح فرويد بكتابه عن الأحلام فتحاً جديداً مدهشاً؛ وخلاصة نظريته أن تفسير الأحلام عامل هام في التحليل النفسي، وأن الأجزاء التي يتذكرها الذهن من الأحلام، إنما هي أعراض لنشاط العقل الباطن أثناء النوم، حينما تفقد الإرادة تأثيرها، ويقف سير الضابط الحسي. وقد أثار فرويد بادئ بدء بنظرياته ولاسيما في باب التحليل النفسي والباتولوجي كثيراً من الخصومات العلمية، بل أثار سخرية بعض الدوائر؛ ولكنه
صمد لهذه الخصومات، وصمدت نظرياته وبحوثه للحملات والآراء الخصيمة. ومن أشهر نظريات فرويد أيضاً أن الغريزة الجنسية تبدأ في الإنسان بمولده، وليس فقط عند البلوغ؛ وأن ما يعانيه الطفل من خلل في نموه الجنسي هو سبب الضعف العقلي، وأن النزعات الجنسية يمكن إخضاعها بشيء من التوجيه الحسن، وقد تغدو عندئذ قوى تبعث إلى أشرف النزعات
وفي سنة 1903 أنشأ فرويد (جمعية التحليل النفسي) في فينا، ولم يمض بعيد حتى ذاعت فروعها في جميع أوروبا؛ وعقد أول مؤتمر دولي للمباحث النفسية في سالزبورج في سنة 1908 ومنذ بدء هذا القرن يشتد نفوذ فرويد ونفوذ نظرياته ومباحثه في جميع أنحاء العالم
ويشغل فرويد منذ حقبة طويلة كرسي (العلوم العصبية) في جامعة فينا إلى يومنا
ونستطيع أن نلاحظ بهذه المناسبة أن التفكير اليهودي مازال يحدث أثره القوي في سير التفكير العالمي؛ فإذا كان فرويد يقبض على ناصية التفكير النفسي، فإن الفيلسوف الفرنسي برجسون (وهو يهودي أيضاً) يقبض على ناصية التفكير الفلسفي، ويوجه العلامة أينشتاين سير المباحث الرياضية العالمية؛ وإذا تتبعنا تاريخ التفكير الحديث وجدنا لليهودية مثل هذا الأثر البعيد في سيره وفي تطوره
الأستاذ هنري روبير
نعت إلينا الأنباء الأخيرة علماً من أعلام الكتابة والبيان الرائع هو الأستاذ هنري روبير المحامي الفرنسي الأشهر، وعضو الأكاديمية الفرنسية، توفي في الثالثة والسبعين من عمره بعد حياة باهرة في عالمي المحاماة والأدب. وكان مولده سنة 1863 في باريس، حيث تلقى تربيته ودراسته؛ وفي سنة 1885 قيد في جدول المحاماة، وبدأ حياته العملية، ولم يلبث أن لفت إليه الأنظار بحسن استعداده وكفايته؛ وقدر الأستاذ دورييه نقيب المحامين يومئذ مواهبه وألحقه بمكتبه، فلقى هنالك فرصة لدراسة القضايا الكبرى؛ وظهر لأول مرة في قضية (شامبيج) الشهيرة أمام محكمة الجزائر، حيث اشترك مع أستاذه دورييه في الدفاع عن (شامبيج) المتهم بقتل خليلته؛ وكان دفاعه الرائع في تلك القضية مثار الإعجاب من كل صوب، وكان فاتحة مجده؛ وأوحت حوادث هذه القضية الشهيرة إلى الكاتب الشهير بول بورجيه موضوع قصته (التلميذ)، ومن ذلك الحين توالى ظهور هنري روبير في كثير من
القضايا الجنائية الرنانة التي شغلت الرأي العام في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر
وتبوأ هنري روبير مقامه الرفيع كعلم من أعلام البيان والفصاحة القضائية بسرعة؛ وفي سنة 1913 انتخب نقيباً للمحامين في دائرة باريس مكان الأستاذ لابوري، وظل في هذا المنصب حتى سنة 1919؛ ومازال محتفظاً بزعامته ومكانته الرفيعة في عالم المحاماة والدفاع حتى خاتمة حياته
وكان الأستاذ هنري روبير إلى جانب مواهبه القضائية والدفاعية كاتباً عظيماً، يمتاز أسلوبه بقوة وصفاء رائعين. ومن مؤلفاته رسالة قيمة ساحرة عن (المحامي)، وكتاب (قضايا التاريخ العظمى) الذي بدأه في سنة 1923، وظل يعمل فيه حتى العام الماضي، حيث صدر منه الجزء العاشر؛ وفي هذه الأجزاء العشرة يعالج هنري روبير طائفة من قضايا التاريخ الكبرى، ولاسيما ما تعلق منها بالتاريخ الفرنسي؛ ويعرضها بأسلوب بديع ساحر، يجمع بين دقة الشرح القضائي، وروعة البيان الأدبي
وفي سنة 1923 انتخب هنري روبير عضواً بالأكاديمية الفرنسية في الكرسي الذي خلا بوفاة الوزير ريبو
وكان هنري روبير محامياً عظيماً يمتاز بصفات باهرة؛ فقد كان عالماً نفسياً ينفذ أحياناً إلى أعماق السرائر؛ وكان خطيباً رائعاً ينهمر بيانه؛ وكانت مرافعاته في القضايا الكبرى أياماً مشهودة في ساحات القضاء. وقد بلغ الذروة في أواخر حياته من قوة التأثير والسحر، حتى كان المحلفون في بعض الدوائر يخشون تأثيره، ويقاومون هذا التأثير بشيء من عدم الثقة. وكان هنري روبير موجزاً في العادة خلافاً لكثير من زملائه الأعلام، ولكنه كان في إيجازه دائماً قوياً مؤثراً
توفيق الحكيم في الفرنسية
نقل الأستاذان (ا. خضري) و (موريك برين) إلى الفرنسية رواية شهرزاد للأستاذ توفيق الحكيم ثم طبعاها ونشراها في باريس. وقد حافظا على روحها الشعري الشرقي حتى سمياها (قصيدة درامية في سبعة مناظر) وقد صدرها بمقدمة بليغة الكاتب الفرنسي الكبير (جورج لوكنت) أحد أعضاء الأكاديمية الفرنسية حلل فيها الفكرة التي قامت عليها الرواية
ثم قال: (كان لا بد من شاعر يُقدِم على معالجة إحدى درامتي الإنسانية العظيمتين في مثل هذا الإطار الضيق. ولكن كان لا بد من شاعر شرقي رقيق الحس خصب القريحة كالأستاذ توفيق الحكيم يحل العقدة في مثل هذا العمل بلباقة من الفن العربي البارع الذي ينال دائماً ذهننا الديكارتي بالدهشة قبل أن يرميه بالفتنة
(وكيف لا نحمد كذلك المسيو (ا. خضري) والمسيو (موريك برين) على أن ترجما إلى الفرنسية لغة خلقت لتعبر قبل كل شيء عن العطر والشعر والسر؟)
وفاة مارمدوك بكتال
توفي المستر مارمدوك وليم بكتال القصصي المعروف بتضلعه في العلوم الإسلامية، ولد في 7 أبريل سنة 1875 في شلورد بمقاطعة سفولك، وكان أبوه قسيساً بها؛ ثم تلقى دروسه في هارو وفي أوروبا، ثم قضى ثلاث سنين في الشرق الأدنى، درس خلالها العربية، وفقه العلوم الإسلامية؛ وقضى وقتاً طويلاً في لبنان وفي مصر، ثم دخل في الإسلام وتسمى محمدا، واتصل بسمو نظام حيدر آباد، فتولى إدارة (كلية حيدر آباد) ورأس تحرير مجلة (الثقافة الإسلامية) التي تصدر هناك باللغة الإنجليزية
وفي سنة 1930 ترجم القرآن الكريم ترجمة توخى فيها الدقة وطبعها بمعونة الأمير بعد أن راجعها الأستاذ محمد أحمد الغمراوي، وجعل عنوانها (ترجمة معاني القرآن المجيد). وقد أرسل نسخاً منها إلى مصر، وكان الشيخ الظواهري يومئذ شيخاً للأزهر، فنبهه بعضهم إلى أن في الترجمة خطأ، فطلب من الداخلية أن تصادرها فصودرت. وله غير ذلك مؤلفات قصصية وغير قصصية، منها (سعيد الصياد) و (عنيد) و (بيت الإسلام) و (حكايات عن الأرض المقدسة) و (أبناء النيل) و (وادي الملوك) و (النساء المحجبات) و (الترك في الحرب) و (فرسان عرابي) وغير ذلك
كننهام جراهام
نعت إلينا الأنباء الأخيرة الكاتب الإنكليزي الكبير روبرت كننهام جراهام؛ توفي في مدينة بيونوس آيرس عاصمة الجمهورية الفضية (أمريكا الجنوبية)، حيث كان يعيش منذ أعوام طويلة؛ وهو اسكتلندي الأصل، ولد سنة 1852، وتخرج في كلية هارو الشهيرة؛ وكان منذ
حداثته يشغف بالسياسة وغمارها، ويجنح للمبادئ الاشتراكية؛ وفي سنة 1886 تحققت آماله السياسية الأولى بدخوله مجلس النواب نائباً عن لانكشير؛ وظهر في البرلمان بذلاقته وحملاته العنيفة، واستمر نائباً حتى سنة 1892. وفي ذلك الحين كان جراهام قد خاض غمار الكتابة أيضاً؛ وكان جوالة كثير الأسفار، واستهوته إسبانيا وأمريكا الجنوبية فدرس شؤونهما، واتصل بالبلاط الإسباني وكتب كثيراً عن إسبانيا وتاريخها وعظمائها، وأنعم عليه ملك إسبانيا بمرتبة في النبل (جراندي)؛ ومنذ سنة 1898 يخرج لنا جراهام بالإنكليزية كتباً عن الشؤون والصور الإسبانية وعن تاريخ أمريكا اللاتينية. ومن أشهر مؤلفاته (ابنة عمي صبح)(سنة 1898) و (المغرب الأقصى) في نفس العام (أركاديا الذاهبة)(سنة 1901)(والنجاح)(سنة 1902) و (ترجمة هرناندو دي سوتو)(سنة 1903) والصدقة (سنة 1912) و (قرطاجنة وشواطئ سينو)(سنة 1920) و (أعمال بطولة)(سنة 1925) و (بيدرو دي فالديفيا فاتح شيلي)(سنة 1929) وخوزي أنتونيو بييز (سنة 1929) وغيرها؛ ومعظمها عن أمريكا اللاتينية
وتجول جراهام كثيراً في مدن أمريكا الجنوبية وثغورها، ودرس كثيراً من شؤونها وأحوالها، وأقام كثيراً في بيونوس آيريس؛ وكان أثناء الحرب العالمية يشتغل بتجارة الخيل وتوريدها لجيوش الحلفاء؛ وهو يعتبر في الواقع من كتاب أمريكا اللاتينية أكثر مما يعتبر من كتاب إنكلترا، وشأنه في ذلك شأن المؤرخ الإنكليزي جورج فنلي الذي خصص حياته لليونان وتاريخها وآدابها؛ وتوفي جراهام في نحو الثمانين من عمره
مباراة أدبية دولية
نشر مكتب الصحافة الدولية السويدية بياناً عن مباراة أدبية دولية رصدت لها بعض دور النشر السكندنافية جائزة حسنة، ووضعت لها موضوعاً وشروطاً خلاصتها:
أما الموضوع فهو: (هل يمكن أن يوضع معيار أدبي موضوعي في العصر الحاضر؟ وإذا كان الجواب نعم، فعلى أي أساس يمكن أن يقام؟)
ويجب ألا يزيد ما يكتب في الموضوع على ست عشرة صفحة من القطع المتوسط، ويجب أن يكتب بوضوح وترتيب؛ وقد ألفت لفحص الرسائل لجنة مؤلفة من الدكتور لانكوست أستاذ الفلسفة السويدي (ممثلاً للسويد) والدكتور ونسنس النرويجي (ممثلاً للنرويج)
والدكتور روين أستاذ الفلسفة الفنلندي (ممثلاً لفنلندة)؛ وستقوم هذه اللجنة بمهمتها مستقلة، وتقبل دور النشر المذكورة أحكامها دون مناقشة
وستخصص للفائزين ثلاث جوائز، الأولى قيمتها (2000) كرون سويدي، والثانية قيمتها (1000) كرون، والثالثة (500)؛ ويدفع للفائزين فوق ذلك نسبة من أرباح نشر رسالاتهم؛ وإذا لم يوجد من بين الرسائل المقدمة رسالة تستحق المكافأة، فإنه لا تمنح جوائز ما، ويحتفظ الناشرون أيضاً بحقهم في نشر رسائل لم تنل شيئاً من الجوائز
ويمكن كتابة الرسائل باللغات السويدية والدنماركية والإنكليزية والألمانية؛ ويجب أن تذيل بإمضاء مستعار، ومعها غلاف به هذا الاسم المستعار مقروناً باسم صاحبه؛ ويمكن الدخول في المباراة حتى أول يناير سنة 1937، وتنهي لجنة التحكيم من أعمالها في أول أبريل، وتعلن النتيجة في خريف سنة 1937، وترسل الرسائل إلى إحدى دور النشر المشتركة في وضع المباراة، وهي محلات:
، ، - ،
كتاب جديد عن مصر القديمة
ظهر أخيراً بالإنكليزية كتاب عنوانه (بحث في مصر الخفية) بقلم المستر بول برنتون واسم الكتاب يدل على موضوعه. بيد أن مؤلفه ينحو في كتابته منحى غريباً لم يسبقه إليه أحد، فهو لا يريد أن يتقيد في بحثه بما كتبه علماء الآثار المصرية أو استنتجوه من قراءة النقوش القديمة، بل يؤثر أن يعتمد على مباحثه الشخصية وعلى وحي نفسه في فهم ما تدلى به الهياكل والرموز من المقاصد والمعاني. وقد زار المستر برنتون مصر في العام الماضي وقضى بها بضعة أشهر يتجول بين آثارها وينقب ويبحث ويجمع لنفسه مواد كتابه؛ وهو كاتب شاب واسع المعرفة متزن مستنير في آرائه وشروحه
ويرى مستر برنتون أن الحضارة المصرية القديمة قد نشأت في القارة المفقودة (الأتلانتس)، ويستشهد على رأيه بحلم رآه في ذلك ووحي نفذ إلى نفسه ذات ليلة قضاها إلى جانب أبي الهول، وذات ليلة أخرى قضاها مع الأرواح بجانب الهرم الأكبر، وثالثة قضاها في معبد الكرنك؛ ويحاول فوق ذلك أن يدعم رأيه بمشاهدات أثرية شاهدها في أبيدوس ودندرة والأقصر
ويحمل مستر برنتون على مباحث علماء الآثار، ويقول إنهم لم يصلوا إلى لباب الحقائق، وأن الأرواح الشريرة والمضللة تنطلق كل مرة يجري فيها الحفر في مقبرة أو معبد، وأنه خير أن يوضع حد لإطلاق هذه الأرواح الخطرة التي كثر عديدها
ويرى فيما يتعلق باللغة المصرية القديمة أن علماء الآثار لم يتوصلوا إلا إلى معرفة المعاني التي كانت مستعملة على لسان الرجل العادي. أما المعاني والرموز الخفية التي كانت تجري على ألسنة الكبراء والخاصة فمازالت سراً من الأسرار
ويسير الكاتب في عرض آرائه عن شؤون مصر القديمة وأسرارها على هذا النحو الخيالي. بيد أنه مما لا ريب فيه أنه يذهب بعيداً في تصوراته، وأن كتابه لا يمكن أن يعتبر من النوع العلمي الذي يعتمد على شروحه؛ أما إذا اعتبرناه قطعة من الخيال المجرد، فإنه يستحق القراءة على هذا الأساس، ويغدو قطعة ممتعة من الأدب الروائي
ذكرى أمير عالم
احتفل أخيراً في فينا بذكرى البرنس أوجين دي سافوي، لمناسبة مرور مائتي عام على وفاته، وقد كان هذا الأمير الشهير قائداً عظيماً، وكان فرنسي الأصل والمولد، وكان مولده في باريس سنة 1663 ولكنه هجر فرنسا وطنه، لأن لويس الرابع عشر أبى عليه تحقيق بعض أمانيه، والتحق بخدمة إمبراطور النمسا ليوبولد الأول. وغنم ضد الترك عدة مواقع رفعت اسمه ومنزلته، وانتهى بسحق الترك في المجر في معركة زنتا الشهيرة، وحارب أيضاً ضد لويس الرابع عشر وهزم جيوشه في عدة مواقع، وذاع اسمه في أوروبا، واعتبر أعظم قائد في عصره
بيد أن الذي يهم هنا هو أن هذا القائد الشهير كان فيلسوفاً وكان عالماً، وكان شغوفاً بالتفكير والآداب؛ وله صلات أدبية وثيقة بأقطاب التفكير في عصره مثل الفيلسوف الألماني ليبنتز، الفيلسوف الفرنسي فولتير، وغيرهما من أقطاب الفلاسفة والمفكرين، وكانت له مكتبة عظيمة تغص بآلاف الكتب النفيسة؛ ومع أنه كان في معظم أوقاته مشغولاً بأعمال الحرب والسياسة، فإنه لم يكن يترك فرصة للقراءة إلا انتهزها؛ وكان واسع الاطلاع والمعرفة إلى حدود مدهشة؛ وكان نصير للآداب والفنون يدعو أقطاب الكتابة والفن إلى البلاط النمسوي ويغدق عليهم عطفه ورعايته؛ ومازالت مكتبته ومجموعاته الفنية تكون قسماً عظيماً من
المكتبة النمسوية الوطنية؛ وقد شمل الاحتفال بذكراه أخيراً في فينا عدة مناظر عسكرية وفنية، فنظم استعراض عسكري فخم، وأقيم احتفال تذكاري في القصر الذي توفي فيه (سنة 1736) في شارع (همل بفورت)، ويوجد في قصر بلفيدير الشهير حيث كان يقيم هذا الأمير العالم أثناء حياته معرض دائم يضم كثيراً من التحف والصور والتماثيل التي استطاع أن يجمعها طوال حياته