المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 152 - بتاريخ: 01 - 06 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٥٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 152

- بتاريخ: 01 - 06 - 1936

ص: -1

‌النقد أيضاً

للأستاذ أحمد أمين

أثار ما كتبه أخي الزيات في موضوع (النقد) معاني أخرى في نفسي تتصل بتاريخ النقد العربي في السنين الأخيرة.

ذلك أني أوازن بين النقد من نحو عشرين عاماً والنقد الآن، فأجده ليس خاضعاً لسنة النشوء والارتقاء، بل لسنة التدهور والانحطاط، حتى وصل إلى حالة من العجز يرثى لها.

فقد كان الكِتَاب إذا ظهر هبت الصحف والمجلات لعرضه ونقده؛ فاللغوي ينقده نقداً لغوياً، والمؤرخ ينقده نقداً تاريخياً، والأديب ينقده نقداً أدبياً؛ وتثور معركة حامية بين أنصار الكتاب وأعداء الكتاب، وتظهر في التأييد والتفنيد مقالات ضافية، وبحوث عميقة شائقة. ولست أنسى ما كان يقوم به الأستاذ إبراهيم اليازجي من نقد (لمجاني الأدب) و (أقرب الموارد) ونحوهما من الكتب، كما لست أنسى ما نُقد به كتاب (التمدن الإسلامي) والأخذ والرد اللذين قاما حوله؛ وكان شوقي أو حافظ يقول القصيدة، فيقوم ناقد معترض يبين معايبها، ومادح مقرظ يبين محاسنها؛ ومن هذا وذاك يستفيد الأديب، ويرقى الأدب، وتتجلى حقائق كانت خافية، وتتهذب أذواق كانت نابية، وكان يؤلَّف الكتاب الديني مثل كتاب (الإسلام وأصول الحكم) فتنشب معارك حامية، وينقسم المفكرون إلى معسكرين، وفي كل معركة شحذ للأذهان، ودرس للمتعلمين، وتمحيص للحقائق. قد كان في نقدهم أحياناً هُجر وقذع، وهجو وسباب؛ ولكن كان بجانب ذلك حقائق تذاع، وبحوث تنشر؛ وكان كل من السباب والنقد العفيف علامة حياة أدبية، وثورة فكرية، وعقل باحث، وقلم نشيط

تعال فانظر معي الآن إلى ما وصلنا إليه! لقد كثرت الكتب يخرجها المؤلفون، وأصبح الإنتاج الأدبي أضعاف ما كان، في كل ناحية من نواحي الأدب، من قصص وقصائد وموضوعات اجتماعية، وكتب تاريخية؛ وكثر الكلام في الأدب، وخصصت أكثر الصحف صفحات للمقالات الأدبية، وكان معقولاً أن يساير النقد هذه الحركة فيرقى معها، ويتسع باتساعها، وتتعدد نواحيه بتعددها، ولكن كان من الغريب أن تحدث هذه الظاهرة، وهي رقي الأدب وانحطاط النقد

نعم، أعتقد أن الأدب العربي ارتقى عما كان عليه منذ عشرين سنة في جملته لا في كل

ص: 1

ناحية من نواحيه، فقد يجوز أننا لم نجد من يخلف (شوقي) و (حافظاً) في ناحيتهما الشعرية، ولكن الأدب - بمعناه العام - أصبح خيراً مما كان، فغزرت معانيه بعد أن كان لفظياً، وعمق بعد أن كان سطحياً، وجادت القصة فيه نوعاً ما، واتسع أفقه وموضوعاته قدراً ما، وتأثر الأدبَ الغربي وقلده في مناحي رقيه. أما النقد فانكمش وأنكمش حتى ضمر وذبل وأشفى على الهلاك

وحسبك دليلاً أن ترى أشهر الكتاب في العالم العربي يخرجون الكتاب تلو الكتاب فلا تكاد تجد ناقداً يعتد به، وتقرأ ما يكتب عن ذلك في أشهر الصحف والمجلات فلا تجد إلا سراباً يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً؛ وأكثرها يكتفي باسم الكتاب وعرض موضوعه والاستعانة على ذلك بفهرسه ومقدمته ثم صيغة محفوظة متداولة من المدح والتقريظ. فان كان نقد فمظهر لا مخبر، هو نتاج فقر عقلي وخمود ذهني، ثم ينتهي الأمر ويغلق الباب. فلا معارك ولا مساجلات ولا بحوث حول الكتاب، ولا أخذ ولا رد، ولا مظهر من مظاهر الحياة الأدبية. لا يشعر الناقد أن عليه واجباً يؤديه للقراء، وأن منصبه يتطلب منه قراءة عميقة، وآراء صريحة، وتقديراً دقيقاً، وأن ذمته لا تبرأ إلا ببحث شامل واف ثم إبداء لرأيه في غير تحيز ولا مواربة، ولكن كل ما يشعر به أن المؤلف أهدى إليه الكتاب فهو يلقي على عاتقه العبء بكتابة كلمة خاملة، ووصف فاتر، ونقد سطحي.

ليس النقد مجرد استحسان الناقد أو استهجانه. فكل ما كان مبنياً على ذوق الناقد وحده، ومجرد ادعائه أن هذا بليغ وهذا ليس ببليغ وهذا راقِ وهذا غير راقِ لأنه يتذوقه أو لا يتذوقه، واكتفاؤه أحياناً بأن يصوغ عبارته في الاستحسان أو الاستهجان في قالب جميل، كل ذلك ليس من النقد في شيء. إنما النقد ما عُلّل وبينت فيه أسباب الحسن والقبح، وأسس على قضايا ثابتة. فبهذا يستفيد المنقود، ويرقى الأدب، ويسمو الذوق؛ وبهذا وحده لا يكون النقد فتاتاً لموائد الأدب، ولا متطفلاً على نتاجه، إنما يكون هادياً للأديب ومرشداً للجمهور وموجهاً للأدب نحو الكمال

ولكن ما علة هذه الظاهرة في الأدب العربي، وليس من الطبيعي في الأمم أن الأدب إذا رقي ضعف النقد، فإننا نرى الظاهرة في الأدب الغربي أن يرقى الأدب فيرقى النقد ويؤثر كلاهما في الآخر تأثيراً محموداً - فيجب أن تكون علة ضعف النقد العربي علة محلية لا

ص: 2

علة طبيعية

يظهر لي أن هذا الضعف في النقد يرجع إلى أسباب عدة:

أهمها أن النقد الصريح الصحيح يحتاج إلى شجاعة أدبية قوية من الناقد، ورحابة صدر من المنقود. وقد حدث في تاريخ مصر الحديث أن جماعة تسلحوا بالشجاعة الأدبية فأظهروا آرائهم في صراحة تامة ولم يبالوا الرأي العام سواء في ذلك بحوثهم ونقدهم؛ وكانت هذه البذرة الأولى للشجاعة الأدبية في مصر، فألفوا كتبا عبروا فيها عن آرائهم في جلاء ووضوح، وكتبوا مقالات تعبر عما يختلج في نفوسهم وإن لم تكن على هوى الجمهور، ونقدوا أدب الأدباء وإن بلغوا القمة في نظر الناس، فكان صراع بين القديم والحديث، وبين التفكير الحر والتقاليد، وبين الأدب الناشئ والأدب الموروث. ولكن هذا الصراع انتهى بهزيمة هذه الطليعة من المفكرين، وتعرضوا للخطر في مناصبهم وأرزاقهم، ونالوا من العسف والعنت ما ليس في طاقتهم. وهذا يحدث مثله في كل أمة من الأمم الأوربية، ولكن كان هناك فرق كبير بيننا وبينهم: ذلك أن أصحاب الرأي الجديد في البلاد الراقية إذا أوذوا في العصر الحديث رأينا من مقلديهم وأتباعهم في الرأي من يمدونهم بالمال وبالمعونة، وكم رأينا من المال يجمع ليستعين به من نكب في منصبه بسبب رأيه أو بسبب سياسته، يتبرع به أغنياء اعتقدوا صحة رأيه أو وجاهة سياسته، فعطفوا عليه، وتحول عطفهم إلى اتخاذ وسائل لدرء الخطر عنه فاستمر في خطر شجاعته، وشعر بأن تضحيته يقابلها عطف، وأنه إن ضحى بالكماليات لا يُصاب في الضروريات؛ بل وإن أصيب في الضروريات وبلغ ذلك فقدان القوت فقد ضربت له أمثلة عدة أيام الثورة الفرنسية وقبلها وبعدها، فتأصلت الشجاعة الأدبية، ونمت بذرتها وأصبحت غير قابلة للفناء. أما في مصر فكانت بذرتها هي البذرة الأولى، وشعر القائمون بهذه الحركة الجديدة أنهم أصيبوا في سمعتهم وفي منصبهم وفي مالهم، ثم رأوا أن أتباعهم تخلوا عنهم في أوقات الضيق؛ ومن عطف عليهم منهم فعطف أفلاطوني، عطف يتبخر، عطف لا يمكن أن يتحول إلى مال أو مجهود. وكان الرأي العام قوياً مسلحاً فتغلب وانتقم وأصبحت له السلطة التامة، وانهزم أمامه فريق المفكرين الصرحاء هزيمة منكرة؛ ولم تكن له أمثلة كثيرة في تاريخه القريب فاضطر إلى التسليم، بل وفي بعض الأحيان رجع عن رأيه إلى آرائهم، وعن منهجه إلى منهجهم،

ص: 3

وتعود المجاراة بدل المقاومة، والمداراة مكان الصراحة، فلم يعد هناك معسكران ولم يعد صراع، إنما هو معَسكر واحد ولا قتال. وتعلم الجيل اللاحق من الجيل السابق فاختط خطته ونهج منهجه وأخذ الدرس عن أخيه الأكبر ففضل السلامة. وبذلك اختنق النقد الأدبي في مهده، وأصبح الأدب مدرسة واحدة يختلف أفرادها اختلافاً طفيفاً، في العرض لا في الجوهر. لا مدارس متعددة تتناحر وتتعاون، وتتعادى وتتصادق، وفي عداوتها وصداقتها الخير؛ ولا أمل في عودة النقد الصريح إلا ببذرة جديدة وروح جديد على شرط أن تكون البذرة صلبة تتحمل حوادث الدهر وعوادي الأيام.

ويتصل بهذا أن الأدباء عندنا صنفان: صنف نضج وتكوّن واستوى على عرش الأدب، وهؤلاء هم القادة، وهم أفراد معدودون تسالموا وتهادنوا وحرمنا ما بينهم من خصومة أدبية وعلمية، وأصبح كل منهم كالعُشَراء لا تميل إلى النطاح ولا ترجو إلا السلامة. وصنف ناشئ هو في طور التكون، وهو يخشى أن يتعرض لمن استوى على العرش فيبطش به بطشة جبارة ترده إلى أسفل، فلما جامل الكبراء بعضهم بعضاً وخاف الناشئون من الكبراء، ضاع النقد بين هؤلاء وهؤلاء.

ولعل من أسباب ضعف النقد أيضاً السياسة قتلها الله، فقد تدخلت أولاً فنصرت الجمهور على القادة، وعاونت الرأي العام على المفكرين؛ وما كان الجمهور والرأي العام ينتصران هذا النصر لو وقفت السياسة على الحياد، ولو فعلت لكان الحرب سجالاً، ولظل المعسكران في قتال؛ وفي هذا تمحيص كبير للآراء، فيصد الرأيُ العام المتطرفين، ويدفع القادة غلاة المحافظين، والأمة من هذا وذاك في استفادة دائمة. أما أن تدخل السياسة فتبيد معسكراً بأكمله، فكان الضرر كل الضرر. ثم إن السياسة - ثانياً - دخلت في الأدب وقومت الأديب بلونه السياسي، ولم يستطع الناس التفرقة بين موازين الأدب وموازين السياسة، فأفسد ذلك الأدب والنقد معاً. قد تقول إن السياسة تلعب هذا اللعب في الأمم الممدنة ولم يكن لها هذا الأثر، ولكنا نقول إن الأمم الناشئة تتضرر من تدخل السياسة أكثر مما تتضرر الأمم العتيدة، وأكبر مظهر في ذلك أنه ليس بين أحزابها تنافر كالذي بين أحزابنا، ولا ينكل حزب بالأحزاب الأخرى كما يحدث بيننا، فالخصومة السياسية عندهم لا تفقد الصداقة في أغلب الأحيان، وكذلك الشأن في الخصومات الأدبية. أما الأمم الناشئة فلا تفهم من

ص: 4

الخصومة السياسية والأدبية والعلمية إلا العداء العنيف، وفي العداء العنيف قتل للحرية

وهناك أسباب أخرى غير ما ذكرت لعل الكُتّاب يعرضون لها فيكشفون عن أسباب هذا الداء الخطير ويصفون له ما يتطلب من دواء ناجع

أحمد أمين

ص: 5

‌3 - العجوزان

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال المحدِّث: وتبين في العجوز (ن) أثرُ التعب فتوجع وأخذ يئنُّ كأن بعضه قد مات لوقته. . . أو وقع فيه اختلالٌ جديد أو نالته ضربةُ اليوم؛ والشيخ متى دخل في الهرم دخل في المعركة الفاصلة بينه وبين أيامه

ثم تأفف وتململ وقال: إن أولَ ما يظهر على من شاخ وهرم، هو أن الطبيعة قد غيرت القانون الذي كانت تحكمه به

قال الأستاذ (م): إن صاحبنا كان قاضياً يحكم في المحاكم، وأرى المحاكم قد حكمت عليه بهذه الشيخوخة (مُطَبَّقةً فيها) بعض المواد من قانون العقوبات، فما خرج من المحكمة إلا إلى الحبس الثالث

فضحك (ن) وقال: قد عرفنا (الحبس البسيط) و (الحبس مع الشغل) فما هو هذا الحبس الثالث؟

قال: هو (الحبس مع المرض). . .

قال (ن): صدقتَ لعمري فأن آخر أجسامنا لا يكون إلا بحساب من صنعة أعمالنا؛ وكأن كرسي الوظيفة الحكومية قد عرف أنه كرسيُّ الحكومة، فهو يضرب الضرائب على عظام الموظفين. . . أتدري معنى قوله تعالى:(ومنكم من يُردُّ إلى أرذل العُمُر) ولِمَ سماه الأرذل؟

قلنا: فلم سماه كذلك؟

قال: لأنه خَلْطُ الإنسان بعضه ببعض، ومسخُه من أوله إلى آخره، فلا هو رجلٌ ولا شاب ولا طفل، فهو أردأ وأرذل ما في البضاعة. . .

فاستضحك الأستاذ (م) وقال: أما أنا فقد كنت شيخاً حين كنت الثلاثين من عمري، وهذا هو الذي جعلني فتىً حين بلغت السبعين

قال (ن): كأن الحياة تصحح نفسها فيك

قال: بل أنا أكرهتها أن تصحح نفسها؛ فقد عرفتُ من قبل أن سَعَةَ الإنفاق في الشباب هي ضائقة الإفلاس في الهرم، وأيقنتُ أن للطبيعة (عدَّادا) لا يخطئ الحساب، فإذا أنا اقتصدت عدَّت لي، وإذا أسرفتُ عدَّت عليَّ؛ ولن تعطيني الدنيا بعد الشباب إلا مما في جسمي، إذ لا

ص: 6

يعطي الكون حياً أراد أن ينتهي منه، فكنت أجعل نفسي كالشيخ الذي تقول له الملذات الكثيرة: لستُ لك، ومن ثم كانت لذاتي كلها في قيود الشريعتين: شريعة الدين وشريعة الحياة

قال: وعرفت أن ما يسميه الناس وَهَنَ الشيخوخة لا يكون من الشيخوخة ولكن من الشباب؛ فما هو إلا عملُ الإنسان في تسميم ثلاثين أو أربعين سنة بالطعام والشراب والإغفال والإرهاق والسرور والحزن واللذة والألم؛ فكنت مع الجسم في شبابه ليكون معي بعد شبابه، ولم أبرح أتعاهدُه كما يتعاهد الرجلُ داره، يزيد محاسنها وينفي عيوبها، ويحفظ قوَّتها ويتقي ضعفها، ويجعلها دائماً باله وهمه، وينظر في يومها القريب لغدها البعيد، فلا ينقطع حسابُ آخرها وإن بعُدَ هذا الآخر، ولا يزال أبداً يحتاط لما يخشى وقوعه وإن لم يقع

قال الجوز (ن): صدقت والله فما أفلح إلا من اغتنم الامكان؛ وما نوع الشيخوخة إلا من نوع الشباب. وهذا الجسم الإنساني كالمدينة الكبيرة فيها (مجلسها البلديُّ) القائم على صيانتها ونظامها وتقويتها، ورئيس هذا المجلس الإرادة، وقانونه كله واجبات ثقيلة، وهو كغيره من القوانين إذا لم ينفذ من الأول لم يُغن في الآخر

فال الأستاذ (م): وكل جهاز في الجسم هو عضو من أعضاء ذلك (المجلس البلدي)؛ فجهاز التنفس وجهاز الهضم والجهاز العضلي والجهاز العصبي والدورة الدموية، هذه كلها يجب أن تترك على حريتها الطبيعية وأن تعان على سنتها، فلا يحال بينها وبين أعمالها برشوة من لذة أو مفسدة من زينة أو مطمعة في رفاهية أو دعوة إلى مدنية أو شيء مما يفسد حكمها أو يعطل عملها أو يضعف طبيعتها

والقاعدة في العمر أنه إذا كان الشبابُ هو الطفولة الثانية في براءته وطهارته، كانت الشيخوخة هي الشباب الثاني في قوتها ونشاطها. وما رأيت كالدين وسيلة تجعل الطفولة ممتدة بحقائقها إلى آخر العمر في هذا الإنسان؛ فسرُّ الطفولة إنما هو في قوتها على حذف الفضول والزوائد من هذه الحياة، فلا يُطغيها الغنى، ولا يكسرها الفقر، ولا تذلها الشهوة، ولا يُفزعها الطمع ولا يهولها الإخفاق ولا يتعاظمها الضر، ولا يخفيها الموت. ثم لا تملُّ وهي الصابرة، ولا تبالغ وهي الراضية، ولا تشك وهي الموقنة، ولا تسرف وهي القانعة،

ص: 7

ولا تتبلد وهي العاملة، ولا تجمد وهي المتجولة. ثم هي لا تكلف الإنسانية إلا العطف والحب والبشاشة وطبائع الخير التي يملكها كل قلب؛ ولا توجب شريعتها في المعاملة إلا قاعدة الرحمة، ولا تقرر فلسفتها للحياة إلا طهارة النظر؛ ثم تتهكم بالدنيا أكثر مما تهتمُّ لها، وتستغني فيها أكثر مما تحتاج، وتستخرج السعادة لنفسها دائماً مما أمكن؛ قلَّ أو كثر

وبكل هذا تعمل الطفولة في حراسة الحياة الغضة واستمرارها ونموها؛ ولولا ذلك لما زها طفل ولا شبَّ غلام ولا رأت العيون بين هموم الدنيا ذلك الرُّواء وذلك المنظر على وجوه الأطفال يثبتان أن البراءة في النفس أقوى من الطبيعة

وكل ذلك هو أيضاً من خصائص الدين وبه يعمل الدينُ في تهذيب الحياة واطّرادها على أصولها القوية السليمة، ومتى قوى هذا الدين في إنسان لم تكن مفاسد الدنيا إلا من وراء حدوده، حتى كأنه في أرض وهي في أرض أخرى؛ وأصبحت البراءة في نفسه أقوى من الطبيعة

ثم قال: والعجيب أن اعتقاد المساواة بين الناس لا يتحقق أبداً بأحسن معانيه وأكملها إلا في قلبين: قلب الطفل لأنه طفل، وقلب المؤمن لأنه مؤمن

فقال العجوز (ن): إنه لكما قلت، ولعنة الله على هذه الشهوات الآدمية الباطلة. فأن الشهوة الواحدة في ألف نفس لتجعل الحقيقة الواحدة كأنها ألف حقيقة متعادية متنازعة. والطامعان في امرأة واحدة قد تكون شهوة أحدهما هي الشهوة وهي القتل. ولعنة الله على الملحدين وإلحادهم، يزْرون على الأديان بأنها تكاليف وقيود وصناعة للحياة، ثم لا يعلمون أن كل ذلك لصناعة الآلة النفسية التي تستطيع أن تحرك المختلفين حركة واحدة، فما ابتليت الإنسانية بشيء كما ابتليت بهذا الخلاف الذي يفتح من كل نفس على كل نفس أبواب التجني، ويجعل النَّفرةَ وسوء الظن أقرب إلى الطبيعة البشرية من الألفة والثقة

لقد جاء العلم بالمعجزات ولكن فيما بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان ومنافعه، وبين الإنسان وشهواته؛ فهل غير الدين يجيء بالمعجزات العملية فيما بين النفس والنفس، وبين النفس وهمومها، وبين ما هو حق وما هو واجب؟

قال المحدث: ثم نظر إليَّ العجوز (ن) وقال: صِلْ عمك يا بني بالحديث الذي مضى، فأين بلغنا آنفاً من التجديد والمجددين وماذا قلنا وماذا قلت؟ أما إن الحماقة الجديدة والرذيلة

ص: 8

الجديدة والخطأ الجديد، كل ذلك إن كان جديداً من صاحبه فهو قديم في الدنيا؛ وليس عندنا أبداً من جديد إلا إطلاق الحرية في استعمال كل أديب حقه في الوقاحة والجهل والخطأ والغرور والمكابرة

قال الأستاذ (م): وليس الظاهر بما يظهر لك منه ولكن بالباطن الذي هو فيه؛ فمستشفى المجاذيب قصر من القصور في ظاهره ولكن المجاذيب هم حقيقته لا البناء. وكل مجدد عندنا يزعم لك أنه قصر عظيم وهو في الحقيقة مستشفى مجانين، غير أن المجانين فيه طباع وشهوات ونزَوات. وعلى هذا ما الذي يمنع الفجور المتوقح أن يسمي نفسه الأدب المكشوف؟

قال (ن): وإذا أنت ذهبت تعترض على هذه التسمية زعموا لك أن للفن وقاحة مقدسة. . . . وأن (لا أدبية) رجل الفن هي (اللا أخلاقية العالية). . . .

قال الأستاذ (م): فوقاحة الشهوة إذا استعلنت بين أهل الحياء وأهل الفضيلة ودعت الى مذهبها، كانت تجديداً ما في ذلك ريب. ولكن هذا المذهب هو أقدم ما في الأرض إذ هو بعينه مذهب كل زوجين اجتمعا من البهائم منذ خلق الله البهائم. . .

قال (ن): وقل مثل ذلك في متسخّط على الله وعلى الناس يخرج من كفره بين أهل الأديان أدباً جديداً، وفي مغرور يتغفل الناس، وفي لص آراء، وفي مقلد تقليداً أعور؛ كل واحد من هؤلاء وأشباههم مبتلي بعلة، فمذهبه رسالة علته؛ وأكثرهم لا يكون ثباته على الرأي الفاسد إلا من ثبات العلة فيه

قال المحدِّث: وكنتُ من المجددين فأرمضني ذلك، وقلت للعجوزين: إن هذا نصف الصحيح؛ أما النصف الآخر فهو في كثير من هؤلاء الذين ينتحلون الدفاع عن الدين والفضيلة. نعم إنهم لا يستعملون حقهم في الوقاحة، ولكن القروش تستعمل حقها. . .

فضحك العجوز (ن) وقال: يا بني إن الجديد في كل حمار هو أن يزعم أن نهيقه موسيقى. . . فالحمار والنهيق والموسيقى كل ذلك لا جديد فيه، ولكن التسمية وحدها هي الجديدة. ولو كان البرهان في حلق الحمار لصح هذا الجديد، غير أن التصديق والتكذيب هنا في آذان الموسيقيين لا في حلق حمارنا المحترم. . .

قال (م): وزعموا أن رجلاً نصب فخاً لصيد العصافير، فجاء عصفور فنظر من هذا الفخ

ص: 9

الى شيء جديد فقال: يا هذا! مالك مطمورا في التراب؟ قال الفخ: ذلك من التواضع لخلق الله. قال: فممَّ كان انحناؤك؟ قال الفخ: ذلك من طول عبادتي لله. قال: فما هذه الحبة عندك؟ قال الفخ: أعددتها لطيور الله الصائمين يفطرون عليها. قال العصفور: فتُبيحها لي؟ قال: نعم

فتقدم المسكين اليها، فلما التقطها وقع الفخ في عنقه، فقال وهو يختنق: إن كان العُبّاد يخنقون مثل هذا الخنق فقد خلق إبليس جديد

قال (ن): فالحقيقة أن إبليس هو الذي تجدد ليَصْلح لزمن الآلات والمخترعات والعلوم والفنون وعصر السرعة والتحول. وما دام الرقي مطردا وهذا العقل الإنساني لا يقف عند غاية في تسخير الطبيعة، فسينتهي الأمر بتسخير إبليس نفسه مع الطبيعة. . لاستخراج كل ما فيه من الشر

قال (م): ولكن العجب من إبليس هذا. أتراه انقلب أوربيَّا للأوربيين؟ وإلا فما بالُه يخرج فيهم مجددين من جبابرة العقل والخيال ثم لا يؤتينا نحن إلا مجددين من جبابرة التقليد والحماقة؟

قال المحدث: فقلت لهما: أيها العجوزان القديمان، سأنشر قولكما هذا ليقرأه المجددون

قال الأستاذ (م): وانشر يا بني أن الربيع صاحب الإمام الشافعي مر يوماً في أزقة مصر فنثرت على رأسه إجانة مملوءة رمادا، فنزل عن دابته وأخذ ينفض ثيابه ورأسه فقيل له: ألا تزجرهم؟ قال: من استحق النار وصولح بالرماد فليس له أن يغضب. . .

ثم قال محدثنا: واستولى عليَّ العجوزان ورأيت قولهما يعلو قولي وكنت في السابعة والعشرين وهي سن الحِدَّة العقلية فما حسبتُني معهما إلا ثُلث عجوز. . . . مما أثرا علي، وانقلبت لا أرى في المجددين إلا كل سقيم فاسد، واعتبرتُ كل واحد منهم بعلته، فإذا القول ما قال الشيخان وإذا تحت كل رأى مريض مرضٌ، ووراء كل اتجاه إبرة مغناطيسية طرفها إلى الشيطان. . .

وفرغنا من هذا فقلت للشيخين: لقد حان وقت نزولكما من بين الغيوم أيها الفيلسوفان؛ أما كنتما في سنة 1895 من الجنس البشري. . .؟

(لها بقية - طنطا)

ص: 10

مصطفى صادق الرافعي

ص: 11

‌بعد انهيار الحبشة

الخطر الفاشستي والصراع بين الفاشستية والإمبراطورية

البريطانية

لباحث دبلوماسي كبير

انتهت أعمال القرصنة الإيطالية في الحبشة إلى نتيجة لم يتوقعها كثيرون من رجال الحرب والسياسة؛ فقد انتهت بانهيار قوى الحبشة بسرعة، وسقوط قواعدها في يد العدو المغير بلا مقاومة، ومثول عاهلها الإمبراطور إلى الخارج، تاركاً ملكه ووطنه وأمته إلى مصاير مجهولة. واستطاع موسوليني زعيم الفاشستية المعتدية أن يعلن خلال مناظر مسرحية ضم الحبشة لإيطاليا وتعيين ملك إيطاليا إمبراطورا للحبشة

ومن العبث أن نحاول التحدث هنا عن أسباب انهيار المقاومة الحبشية بتلك السرعة المدهشة بعد أن استطاعت أن تصمد في وجه العدو أشهراً، وأن تقف زحفه سواء في الشمال أو الجنوب حتى شهر مارس الماضي؛ ولكن المحقق أن هذا التطور الفجائي في أقدار الحرب يرجع قبل كل شيء إلى التجاء الإيطاليين، بعد أن عجزوا عن التغلب بوسائل الحرب المشروعة إلى استعمال وسائل الحرب المحرمة كالغازات القاتلة وغيرها؛ وهكذا استطاعوا بتلك الوسائل المجرمة أن يمزقوا صفوف الأحباش، وأن يلقوا الروع في نفوس الشعب الحبشي بأسره، هذا إلى ما يذاع من أنهم استطاعوا أن يبثوا بالرشوة والإغراء كثيراً من أسباب الشقاق بين مختلف الرؤوس والزعماء

على أن هذا النصر المثير الملوث بأدران الجريمة، والذي يعتبر بحق قرصنة استعمارية محضة، لم يمنع الفاشستية الإيطالية من أن تزفه إلى العالم نصراً رومانياً للحضارة والمسيحية المتمدنة، على بلاد همجية تتوق إلى الانظواء تحت السيادة الإيطالية الظليلة، والأخذ بأسباب الحضارة الإيطالية الزاهرة! ولم يمنع زعيم الفاشستية من أن ينوه بأسلوبه المسرحي بعظمة هذا النصر الفاشستي، وبأنه عنوان ساطع لقوة إيطاليا الفتية، وأن يتوعد أوربا والعالم كله بأنه على استعداد لأن يسحق أية قوة أو دولة تحاول أن تقف في سبيله أو تحاول أن تحرمه من ثمار ظفره

ص: 12

ولو عيد موسوليني مغزاه، ذلك أن إيطاليا تستقر الآن في الحبشة بقوة الفتح فقط، ولكن هذه الحقيقة الواقعة لا يمكن أن تعتبر حلاً نهائياً للمسألة الحبشية، وإنما تنتقل المسألة الحبشية الآن من ميدان الحرب إلى ميدان الحوادث الدولية والصراع الاستعماري. ولنذكر دائماً أن ما أبدته عصبة الأمم من إقدام في الحكم على إيطاليا بالاعتداء وتوقيع العقوبات الاقتصادية عليها يرجع قبل كل شيء إلى تدخل إنكلترا ونفوذها؛ وإنكلترا لم تتدخل ولم تعمل لتنظيم هذه الحركة الدولية تأييداً لميثاق العصبة ومبدأ السلامة المشتركة فقط، ولكن لأن الانتصار الفاشستي في الحبشة يهدد صرح الإمبراطورية البريطانية ومصالحها الحيوية بأعظم الأخطار

وقد عقدت الآمال من قبل على تدخل العصبة وجهودها؛ وما زالت العصبة على موقفها من استنكار عمل إيطاليا وتأييد العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها؛ وربما اتخذت إجراءات أخرى في هذا السبيل في اجتماعها الذي سيعقد في الخامس عشر من يونيه؛ ولكنا نستطيع منذ الآن أن نضرب صفحاً عن الدور الذي يمكن أن تؤديه العصبة في حل المشكلة الحبشية بعد أن انهار تدخلها، ولم تستطع أن تنفذ كل ما يقضي به ميثاقها للتوسل إلى إرغام المعتدي على وقف الاعتداء

والآن ينكشف النضال واضحاً عن معركة دولية ذات وجهين: أحدهما قد أتخذ حتى اليوم ستاراً للآخر؛ فأما الوجه الأول فهو مبدأ السلامة المشتركة طبقاً لميثاق عصبة الأمم، وهو المبدأ الذي انتهكته إيطاليا بغزو الحبشة، وحاولت العصبة تأييده بفرض العقوبات؛ فالدول الصغرى من أعضاء العصبة تتساءل اليوم، هل في وسعها أن تعتمد في سلامتها الخاصة على تطبيق هذا المبدأ بعد الفشل الذي لحق العصبة في وقف الاعتداء الإيطالي؟ أم هل يجب عليها أن تبحث عن وسائل عملية أخرى كعقد المواثيق المحلية لتأمين سلامتها؟ إن ما ارتكبته إيطاليا في الحبشة يمكن أن ترتكبه غداً في تركيا، أو في اليونان، ويمكن أن ترتكبه ألمانيا في النمسا أو هولنده أو لتوانيا، ويمكن على وجه العموم أن ترتكبه أية دولة قوية ضد أية دولة ضعيفة دون أن تجد وازعاً كافياً لوقف عدوانها؛ فأنصار عصبة الأمم يرون في هذا الطور الحاسم من تأريخ العصبة أن لا أمل في نجاح مبدأ السلامة المشتركة ما لم يعدل دستور العصبة في هذا الشأن تعديلاً وافياً، وتنظم العقوبات الاقتصادية

ص: 13

والعسكرية التي تطبقها العصبة على المعتدي تنظيماً يكفل أثرها في وقف الاعتداء المسلح بسرعة؛ وخصوم العصبة يرون أن التجربة الحبشية كانت حاسمة، فعلى عصبة الأمم أن تعلن إفلاسها، وعلى الدول أن تعتمد على وسائلها الخاصة للدفاع عن نفسها؛ وتقف الدول الصغرى فيما بين ذلك حيرى، ولكنها تعمل من جهة أخرى على تنظيم وسائل الدفاع عن نفسها جهد المستطاع

وأما الوجه الثاني من هذه المعركة الدولية، فهو نشوب النضال بين قوة عسكرية جديدة طامحة، هي الفاشستية الإيطالية، وبين إمبراطورية استعمارية عتيدة، هي الإمبراطورية البريطانية؛ ولم يكن خافياً منذ البداية أن نشاط السياسة البريطانية في توجيه عصبة الأمم إنما هو مرحلة فقط من مراحل النضال الحقيقي؛ والآن وقد انتهت هذه المرحلة بظفر العسكرية الفاشستية، وهزيمة السياسة البريطانية، فأن النضال يوشك أن يدخل طوره الثاني؛ وقد أدركت بريطانيا العظمى منذ البداية ما تهدد به تلك الفاشستية المضطرمة الطامحة، سيادتها في البحر الأبيض، وما يهدد به ظفرها في الحبشة سيادتها في وادي النيل وشرق أفريقية؛ وسيادة الإمبراطورية البريطانية ومواصلاتها، صرح لا يتجزأ، فأي صدع يصيبها يعرض البناء كله للخطر؛ ولم تخف الفاشستية ولا سيما منذ ظفرها في الحبشة، أنها تداعب حلماً إمبراطورياً ضخماً، وما فتئ زعيمها يتحدث عن أحياء الإمبراطورية الرومانية؛ وليس من ريب في أن السياسة البريطانية ترى في هذه العسكرية الطامحة المتجنية، المعتدة بقوتها، المعتزة بظفرها، خطراً عظيماً على كيان صرحها الإمبراطوري، تزمع سحقه بأي الوسائل

- 2 -

وليست إنكلترا وحدها هي التي تستشعر ذلك الخطر العسكري الجديد الذي تهب ريحه على أمم البحر الأبيض بنوع خاص، بل إن أمم أوربا كلها تستشعر به وتخشى تفاقمه؛ وإذا كانت ثمة دول مثل فرنسا وألمانيا والنمسا تنظر إلى نهوض الفاشستية بعين الإغضاء، وربما بعين الرضى، فذلك لظروف خاصة مؤقتة لا تلبث أن تزول فتشعر هذه الأمم بنفس الشعور الذي يثيره ظهور عسكرية جديدة جامحة تحتقر العهود والمواثيق الدولية وتجعل شعارها القوة الغاشمة دون غيرها

ص: 14

وأمامنا التأريخ الأوربي الحديث، يعيد نفسه دائماً؛ وفي رأينا أنه سيعيد نفسه في القريب العاجل مرة أخرى

ذلك أن أوربا، وإنكلترا بنوع خاص، لم تتسامح قط في أمر العسكريات القوة المعتدية؛ ولم تنهض في أوربا أية عسكرية قوية طامحة، خلال القرون الأربعة الأخيرة، إلا اجتمعت أوربا على مقاومتها وسحقها

وقد كانت العسكرية البروسية آخر عسكرية من هذا النوع، لقيت مصرعها في الحرب الكبرى

ومنذ القرن السادس عشر يعيد التأريخ الأوربي الحديث نفسه في هذا الميدان بصورة واضحة؛ ففي القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانت العسكرية التركية تجول ظافرة في جنوب شرقي أوربا وأواسطها حتى حدود بولونيا، وقد اجتاحت حوض الدانوب حتى أسوار فينا، وحاصرت العاصمة النمسوية مرتين، فما زالت أوربا حتى حطمت هذه النهضة العسكرية الخطرة في البر والبحر، وردتها إلى ما وراء الدانوب، وحرمتها من كل ثمار ظفرها؛ وفي القرن السابع عشر، قام لويس الرابع عشر يهدد سلام أوربا الغربية بأطماعه ومغامراته العسكرية، فما زالت الدول الخصيمة وفي مقدمتها إنكلترا والنمسا حتى سحقت قواه العسكرية، بعد سلسلة من الحروب الطاحنة؛ وفي أوائل القرن الثامن عشر كان كارل الثاني عشر ملك السويد يجتاح بجيوشه ضفاف البلطيق وغرب روسيا، ويهد التوازن الأوربي في شرق أوربا، فما زالت روسيا حتى سحقت مشاريعه وقواه

وربما كان أعظم مثل في التأريخ الحديث لذلك الصراع الخالد في سبيل التوازن الأوربي، وسحق العسكريات الجامحة، مثل نابليون بونابرت؛ فقد ظل هذا الجندي العظيم الطامح يقود جيوشه الظافرة في جنبات أوربا مدى عشرين عاماً، ويبسط سيادته على معظم الدول الغربية والوسطى، ويعمل بكل ما وسع لتحطيم سيادة إنكلترا في البحر الأبيض؛ ولكن إنكلترا لبثت تطاوله وتصارعه وتؤلب عليه الدول الخصيمة، حتى انتهت بسحقه وتحطيم ذلك الطغيان العسكري الشامل الذي بسطته الإمبراطورية على أوربا زهاء عشرة أعوام

وقد رأينا كيف اجتمعت أوربا الغربية، وفي مقدمتها إنكلترا، أثناء الحرب الكبرى، لتحطيم العسكرية البروسية، التي وثبت تهدد العالم بأطماعها الجائشة في السيادة والإستعمار،

ص: 15

وكيف لقيت مصرعها بعد حرب كانت أروع ما شهد التأريخ

والآن يبدو الخطر الفاشستي في الأفق، وتنذر العسكرية الفاشستية الجامحة بتحطيم التوازن الأوربي في شرق أوربا وفي وسطها، وتتحدى بالأخص سيادة إنكلترا البحرية في البحر الأبيض؛ وقد زادها انتصارها في الحبشة زهواً وتحدياً، فهل تصبر أوربا، وهل تصبر إنكلترا بنوع خاص حتى يتفاقم الخطر الفاشستي كما تفاقم الخطر البروسي قبيل الحرب؟ هذا ما لا نعتقد، وفي يقيننا أن الإمبراطورية البريطانية تتأهب لخوض ذلك الصراع التقليدي الذي حرصت دائماً على خوضه لتحطيم ذلك الطغيان العسكري الجديد الذي يهدد سيادتها ومصالحها الحيوية في البحر الأبيض وفي شرق أفريقية، وإذا كانت السياسة البريطانية ما زالت تبدي بعض الفتور والتردد في العمل الحاسم فذلك لأن مصاير الحرب والتسليحات الحديثة قد اتخذت وجهة جديدة، ولم تعد السيادة البحرية وحدها كافية لأن تملي بريطانيا كلمتها؛ ومن تقاليد بريطانيا المأثورة أنها لا تتعجل الحوادث، ولا تسارع إلى قبول التحدي الطائش؛ وبريطانيا تزن اليوم أقدار الحرب والنضال بميزان جديد لم تستقر عوامله بعد؛ وقد يمضي وقت آخر قبل أن تنزل بريطانيا إلى ميدان العمل الحاسم

قد تستطيع الفاشستية الجامحة في نشوة ظفرها المزعوم، أن تزعج أوربا وإنكلترا، مدى حين بمشاريعها ووعيدها؛ ولكن الفاشستية تخطئ بلا ريب إذا هي اعتقدت أن الظفر ميسور في ميادين أخرى غير الحبشة، وأنها تستطيع في مكان آخر من أوربا، أو أفريقية، أن تستعمل وسائلها العسكرية المجرمة في تحقيق أحلامها الرومانية، دون عقاب أو وازع؛ وهنالك حقيقة لا ريب فيها، وهي أن الفاشستية قد بثت بمسلكها وغرورها ووعيدها مخاوف ما كان أغناها عن بثها، وأنها سترغم بلا ريب، في القريب العاجل، على خوض الصراع الحاسم؛ وليس من ريب في أنها ستسحق في هذا الصراع، كما سحقت كل عسكرية أوربية جامحة من قبلها.

ص: 16

‌امتزاج الأحاسيس

للأستاذ عبد الرحمن شكري

قال المتنبي:

والذل يظهر في الذليل مودة

وأود منه لمن يود الأرقم

وأحسب أن المتنبي إنما أراد أن يصف الذليل المداجي الذي يظهر المودة ويخفي الضغينة والعداء، فيتودد ويتذلل حتى ينال من خصمه. وهذه صفة في ذوي الكيد والمكر والدهاء. ولكن هناك صفة أخرى في النفس الإنسانية تشبه هذه الصفة بعض الشبه، وهي صفة المحبة والمودة التي يحسها الخائف إحساساً حقيقياً لا مداجاة فيه إذا عجز عمن يخاف منه وألف الخوف فأزالت أُلفة الخوف غلواءه، وأزالت الرغبة في التخلص منه. وأبعدت هي والعجز أمل الانتقام من أجله، فتحول إرادة المحافظة على الحياة ذلك الخوف المألوف محبة أو مودة تحاول بها نيل الزلفى لدى الإنسان المخوف من طريق الإحساس الصادق بالمحبة أو المودة. وتحاول أن تسل بها من قدرة المخوف حمة البغض وسم الضغينة. لأن إرادة المحافظة على الحياة تعلم أن مودة الرياء ومحبة النفاق قد لا تقنع، وقد تنكشف ويشف ثوب الرياء عما تحته فينال الخائف المرائي شراً إذا انكشف مداجاته وعرفت مداهنته، ومن أجل ذلك تبالغ إرادة المحافظة على الحياة في الحيطة والحذر، فتحول الخوف من الإنسان المخوف إلى حب له أو مودة كي تقنعه وتتقي بوادر شره، وهي أيضاً تحاول أن تقنع بتلك المودة نفس من يحسها. وتفهمها أن لا داعي لليأس من الحياة كي لا يرهقها الخوف واليأس؛ وهذا أمر مشاهد إذا قرأ الإنسان سِفْرَ الحياة وتقصي البحث في تكوين النفوس

وهذه المحبة قد تزول وقد تبقى بعد زوال أسباب الخوف. وقد تقوى أواصرها بعد الرهبة ولا سيما إذا حلت الرغبة مكان الرهبة، ووجدت النفس منفعة دنيوية أو نفسية لها عند من زالت أسباب الخوف منه؛ وقد تنقلب تلك المحبة إذا زالت أسباب الخوف مقتاً ورغبة في الأنتقام، فيحسبها الباحث أنها لم تكن إلا مداهنة ونفاقاً، وهي قد تكون ذلك، وقد تكون كما شرحنا محض المودة والشعور الصادق بها، لأن احساسات النفس تمتزج وتتحول وتتشكل أشكالاً وتتلون ألواناً في السرائر، فكأن في النفس البشريةَ سر الكيمياء الذي حاول

ص: 17

الكيميائيون في القرون الوسطى معرفته كي يتمكنوا من تحويل معدن إلى معدن، فهذا التحول الذي وصفناه من كيمياء النفوس في معامل السريرة الخفية

وكما أن امتزاج الخوف والمحبة يشاهد في الأضداد البعداء من قوي مسيطر وضعيف ذليل، إذا تهيأت للأول أسباب القوة من جاه أو مال أو صحة، وخذلت تلك الأسباب الذليل الضعيف وقهرته على أن يعتمد على صاحب المال أو الجاه، فذلك الامتزاج يشاهد أيضاً في نفوس الأصدقاء والأوداء والأحباء والأقرباء. فكم من امرأة تحب زوجها حباً صادقاً أساسه الخوف منه؛ وكم من رجل يحب زوجه حباً صادقاً يخالطه الخوف؛ وكم من قريب يود قريباً، وصديق يود صديقاً وداً تمازجه الرهبة أو الخشية

وإذا تقصينا البحث وجدنا ما هو أعجب من ذلك فقد يمتزج البغض والحب في النفوس، فقد يبلغ العاشق منزلة من العشق تشرف على البغض والمقت لمن يعشق، وقد تتذبذب نفس العاشق بين الحب والبغض أو قد تجمعهما في وقت واحد، فهي تارة تريد الخير لمن تحب، وتارة تريد الشر، وتارة تجمع بين إرادة الخير وإرادة الشر - ويمتزج الإخاء والجفاء في نفوس الأصحاب، ويمتزج الاحترام والاحتقار في نفوس الجلساء والمتعاشرين، كما يمتزج الحب والبغض في نفوس العشاق، أو كما يمتزج الخوف والود في نفوس الضعفاء، فترى الصاحب أو الجليس يبالغ تارة في إخائه لصاحبه وجليسه ومعاشره ويكثر من إكرامه وإجلاله، وتارة يظهر له الجفاء وقلة الاكتراث أو العبث به أو الحط منه، وتارة يجمع في مجلسه بين النقيضين

وكل إنسان يشتكي هذه الصفة في النفوس، ولكل إنسان نصيب منها قل أو كثر وإنما يفطن إلى ما في نفوس الناس ولا يفطن إلى نصيب نفسه منها. وينقسم الناس في تدبر هذه الصفات ثلاثة أقسام: أناس يأبون الرضاء بها فيعتزلون الناس ما استطاعوا إلى العزلة سبيلاً؛ وأناس ينقدونها ويودون لو تكون النفوس على حال واحدة، ولكنهم يعرفون استحالة هذه الودادة فيقنعون بما هو مستطاع من النفس والحياة، وأناس لا يرون إعنات أنفسهم بالسخط على هذه الصفات النفيسة، ومنهم من يرى في تلون الناس وتقلبها وجمعها بين النقيضين رحمة أو تفكهة أو إراحة وترفيهاً، ويمقتون من لا يعاشرهم على هذه الخلال، وربما كان في قولهم شيء من الحق والصواب، وربما كنا نزهد في الحياة لو كانت نفوس

ص: 18

الناس على حال واحدة لا تتغير، فإن الحال التي لا تتغير مدعاة السأم والملل كسأم الذي يعيش في مكان قفر موحش لا يرى منه إلا مظهراً واحداً لا يتغير في أرضه أو سمائه

ولعل من أشد العقوبات وأقساها أن يحكم على إنسان ألا يأكل طول حياته غير السُّكَّر، فهو قد يشتهيه في أول الأمر، فإذا طال به العهد اعتراه السأم والملل؛ وكذلك ربما كان الجفاء مدعاة إلى التمتع بالإخاء، وقلة الاكتراث مدعاة إلى التنعم بالإكرام، والبغض حافزاً إلى استمراء الحب، كما أن اللذة لا يحسها إلا من يستطيع الإحساس بالألم. وهذه فلسفة لا شك فيها، ولكن الكثير من أمزجة النفوس تأباها، إما لأنها مرهفة الحس فلا تنسيها اللذة الألم والإخاء الجفاء، وإما لأنها إذا أحست ألماً أو عانت جفاء أو قاست عداء لا تطمئن إلى زواله، وقد تستبطئ زواله فيدركها اليأس والحزن

والحزن من تقلب النفوس وتلونها واختلافها نفساً عن نفس وحالاً عن حال كثيراً ما يدرك الشاب القليل الخبرة بالحياة والنفس الإنسانية، فهو لغرارته يحسب أن الحياة على مثل واحد يرتضيه، وأن النفس على خلة واحدة يحمدها، فإذا فطن إلى تقلب النفوس وتذبذبها وقلة استقرارها وجمعها بين الأضداد، وإذا راعه كل ذلك بسبب غدر صديق أو جفاء جليس أو عبث عشير أو شر رفيق أو كيد أليف أو بغض حبيب كاد ينفطر قلبه أو كادت تنهار دنياه، ولكن أكثر الشبان يستطيعون إذا طال بهم العمر ومد لهم فيه أو يوفقوا بين الحياة وبين مثلهم الأعلى، أو تطغي الحياة وما تدعو إليه على مثلهم الأعلى فتمحوه ويصير كل منهم في مودته مثل مقياس الحرارة (الترمومتر)، فتارة ترتفع مودته إلى درجة الغليان، وتارة تنخفض إلى ما هو تحت الصفر من درجات البرودة. وقس على المودة غيرها من الاحساسات

وإنما تصلح الحياة وترقى وتملح إذا لم يمح تذبذب النفوس المُثُل العليا منها. وخير خطة للمرء ألا يحزنه تقلب النفوس واختلاط خلال النفس، وألا يدع هذا الاختلاط والتذبذب يطغيان على كل شعور نبيل، فيجمع بين الاطمئنان ونشدان المُثُل العليا إذا استطاع ذلك

عبد الرحمن شكري

ص: 19

‌في حضرة الأمير فؤاد جلالة الملك الراحل

للأستاذ عبد القادر المغربي

عضو مجمع اللغة العربية الملكي

لم يتح لي شرف المثول بين يدي جلالة الملك فؤاد الأول وأنا عضو في مجمع اللغة العربية الملكي، وإنما أُتيح لي ذلك وهو أمير وأنا محرر في جريدة (المؤيد) سنة 1907م

كتبتُ في هذه السنة عدّة مقالاتٍ في الدين والأدب والأخلاق والاجتماع الإسلامي؛ وكان مما كتبته سلسلة مقالات بعنوان (حمامة الأزهر)، فكنتُ أروي عن تلك الحمامة - مستمداً من وداعتها ونزاهتها - وصفاً دقيقاً لأحوال الأزهر وأخلاق علمائه ومشارب طلابه وما يقع فيه يوماً فيوماً من خير يمتدح أو شر يجتنب

واتفق يومئذ حدوث ما حدث بين السّيد علي المرصفي ومشيخة الأزهر. وكان السيد يقرأ من كتب الأدب (كاملَ المبرد). وللحجاج فيه كلمة نابية لا تكاد تذكر حتى يتبرأ منها المسلم. فَنَقَلَ بعض الوُشاة إلى المشيخة خَبَرَ ورود هذه الكلمة في درس الأستاذ (المرصفي). فأكبرتْ أمرها. ودعت الأستاذ إليها وناقشته في اختياره لهذا الكتاب من بين كُتُب الأدب الكثيرة، وفيه تلك الكلمة. ثم أبَتْ المشيخة عليه إلا أن يقرأ مقامات الحريري، وأبى هو إلا أن يهجر الأزهر ويعكف على القراءة في داره في باب الشعرية، وهكذا وقع

على أثر ذلك زارني في إدارة تحرير (المؤيد) ثلاثة من مجاوري الأزهر الذين لم ينفضوا من حول شيخهم المرصفي. وقد ألفت بينهم حرّية في الفكر، وصراحة في الرأي، ونفوس وثابة إلى التجديد: فكانوا في تأريخنا الحديث أشبه بجمعية إخوان الصفا في تأريخنا القديم

وهم الأساتذة: طه حسين، والزيات (صاحب هذه الرسالة)، والزناتي

فأنستُ بهم وسررت بزيارتهم

وقد وصف لي الأستاذ طه حادثة أستاذهم المرصفي مع مشيخة الأزهر وعجَّبني أشدّ العجب من موقف المشيخة إزاء هذا الحادث. ثم رغب إليَّ أن أستنطق (حمامة الأزهر) فهي تملئ عليَّ الخبر بأتمّ ممّا أملاه هو وأن أنشر ما تقوله في (المؤيد)

فقلت له - وأنا آسف واجم: إن الشيخ علي يوسف دعاني إليه بالأمس وقال لي: إن سمو الخديو (عباساً) قال له: قل للشيخ المغربي ليدع (حمامة الأزهر) وشأنها، ولا يرو منْ بعد

ص: 20

الآن في (المؤيد) خبراً عنها

ولما أردت أن أناقش صاحب المؤيد في ذلك قطع علي حبل المناقشة بلهجة البات الجازم. وقد بين السبب في هذا البت بأن الخديو قال له: إن شيوخ الأزهر أنفسهم كلموه في هذه القضية فوعدهم خيراً، فلم يبق مناص من امتثال أمره

ثم قلت للإخوان الثلاثة: هذا ما جرى، وكنت أحب أن يصلني خبر حادثتكم هذه قبل ما بلغت من أمر الخديو فيكون للحمامة إذ ذاك شأن في وصف الحادثة والتعليق عليها. وما يدرينا أن يكون الشيوخ الذين كلموا الخديو في الأمر إنما حسبوا حساب (الحمامة) التي اشتهرت بصدق ورايتها، وإخلاصها في نصيحتها، فلجئوا إلى الخديو. وبهذه الصورة قطعوا عليها طريق الكلام في الحادثة

ثم أفضتُ مع (إخوان الصفا) في أحاديث أخر. حتى وصلنا إلى ذكر ما أنشره في (المؤيد) من مقالات (أمالي أدب) فأنشدني الأستاذ طه القصيدة التي اشتهرت باسم (اليتيمة) ومطلعها:

(هل بالطلول لسائلٍ ردُّ

أم هل لها بتكلمٍ عهدُ)

وكنت نشرت في (أماليَّ) أبياتاً من تلك القصيدة. فقال الأستاذ (طه) إن معظم القصيدة موجود في مجموعة رسائل مخطوطة في دار الكتب المصرية. وفي ثاني يوم أرسلها إلي بخط بعض إخوانه، وبقيت عندي حتى غلبني عليها أحد الأصدقاء قبل بضع سنين

وفي تلك الأثناء زارني صديقي الأستاذ (محمد الهراوي) وقال لي: يحسن أن تزور معالي (حسين رشدي باشا). وكان مديراً للأوقاف العمومية في ذلك العهد. ولم أكن اجتمعت به من قبل، أما الهراوي فقد كان على اتصال به

فزرناه في دار سكنه في (المنيرة) وهي الدار التي آلت ملكيتها بعد ذلك إلى الشيخ علي يوسف

ولما دنونا من بابها رأينا عربة فخمة يقودها فرسان مطهمان. فقال لي رفيقي: يظهر أن أحد أمراء العائلة الخديوية في زيارة

الباشا وهكذا كان: فإننا لم نكد نطأ البساط حتى خاطبنا الباشا مشيراً إلى صدر المجلس حيث زائره الكريم - قائلاً:

ص: 21

سمو البرنس فؤاد

فدنونا وسلمنا. ولم نكد نأخذ مجالسنا حتى التفت الباشا إلى الأمير وجعل يكلمه بالفرنسية. وكان في خلال الحديث يلتفت إلي، فعلمت أنه يقدمني إلى سموه، وبالطبع يكون قد قال له: إنني عالم سوري وإنني أحرر في (المؤيد) رسائل حمامة الأزهر، وإنني أسلك في نقد العادات والأخلاق وطرائق التعليم الدينية الأزهرية مسلك المرحوم الشيخ محمد عبده. عرفت هذا من قول صاحب السمو للباشا بالفرنسية:

سل الشيخ ما هو رأيه في الكرة الأرضية؟ هل هي حقيقة محمولة على قرن ثور كما يقولون؟

فكان لهذا السؤال وميض من الابتسام على شفاهنا جميعاً وشعرنا بشيء من الأنس والانبساط أفاضته علينا كلمة صاحب السمو بعد انقباض الاحتشام الذي غشينا من مهابته

فقلت للباشا قل لأميرنا المحبوب: إنه لولا الثور (أبيس) وبقية ثيران الدنيا التي كان يمثلها ذلك الثور في هياكل مصر - لما وجد في الدنيا إنتاج زراعي، ولما قام عمران في العالم. فلا جرم أن كانت الدنيا القديمة محمولةً على قرن الثور وحده وأن يكون أهلها عيالاً عليه: فهو الذي (يحمل) عبء الاهتمام بأمرهم، والسعي في تموينهم، وتدبير الأقوات لهم

ففكرة حمل الدنيا على قرن الثور إذن فكرة شعرية خيالية سرت إلينا من المصريين القدماء بشكل جديّ واقعي

فبرقت أسارير صاحب السمو من هذا الجواب. ثم أبدى أسفه الشديد لكثرة ما تسرب إلى الدين الإسلامي من تقاليد الأمم القديمة ومزاعمها، حتى أصبحت تلك المزاعم كأنها جزء من تعاليم الإسلام. ثم ذكر لنا سموه أمراً أستغربه جداً: وهو أن بعض علماء مراكش وفَدَ على القاهرة فسأله بعض من سلَّم عليه من زملائه عما إذا كان سفره من المغرب الأقصى إلى القطر المصري كان بطريق البر أو البحر. وقال سموه: إن العزلة التي تجعل صاحبها يجهل أبسط شأن من شؤون عصره لهي عزلة ضارة تجب مقاومتها والخروج من ظلمتها

وقد كان كلام سموّه يشفُّ عن مبلغ غيرته على الإسلام، وحرصه على تصفية علومه، وعلى الأزهر وحرصه على ترقية شؤونه

رحم الله فقيدنا العظيم رحمة واسعة، وجعل لنا من ابنه جلالة (فاروق الأول) خليفة صالحاً

ص: 22

يكشف الغمّة ويجمع كلمة الأمة.

(دمشق)

المغربي

ص: 23

‌النقد الأدبي

بقلم السيد عبد القادر صالح

بحث صاحب (الرسالة) الغراء في عددها الأسبق تهافت الأدباء الناشئين على النقد الأدبي ولما يأخذوا له عدته

ولم يَعْدُ الحق فيما سرده من العلل لتلك الظاهرة القوية بين كثير من ناشئتنا، لأن منزلة الناقد الحق منزلة رفيعة تحتاج إلى سعة إطلاع، وسلامة ذوق، وصراحة من غير ما قسوة أو غرض

ذكرني مقال الأستاذ في (النقد المزيف) بقصيدة مشهورة لشاعر إنكليزي نقادة اسمه (بوب) عاش في القرن الثامن عشر. ويتبوأ هذا الشاعر في الأدب الإنكليزي مكانة (أبي الطيب المتنبي) في الأدب العربي من بعض الوجوه. كلاهما كان أمير الشعر في عصره، وكلاهما كان يعتز برفعة نفسه وعدم إمتهانها، وكلاهما كان متين الأسلوب، وأشعار كل منهما أصبحت أمثالاً سائرة

وتلك القصيدة التي أشرت إليها آنفاً، والتي سأحاول أن أنقل لقراء (الرسالة) الذين لم يدرسوا بوب بعض آراء هذا الشاعر الواردة فيها، هي:(مقال في النقد) نشرت والشاعر في الثالثة والعشرين من عمره؛ ويظن أنه نظمها قبل نشرها بسنتين، يستهلها بقوله:

(يتعذر على المرء أن يقول: أي الرجلين تنقصه المهارة أكثر: السيئ النقد أم السيئ الكتابة؟ على أن ما يستنفد صبرك أقل خطراً مما يضلك

أحكامنا كساعاتنا، قل أن يتفق منها اثنان. غير أن كلاًّ منا يعتقد أن رأيه هو الأصوب

يندر وجود العبقرية الحق في الشعراء، كما يندر وجود الذوق السليم في الناقد. كل من الناقد والشاعر يجب أن يكون مطبوعاً.

هذا خلق ليكون ناقداً وذاك ليكون شاعراً

قلة معارف البعض تفسد مؤهلاتهم البسيطة. فإذا ما أخفقوا في الكتابة انقلبوا نقدة ليدرءوا عن أنفسهم أثر الخيبة.

العلم الناقص شديد الخطر، فإما أن تتبحر في العلم وإما ألا ترد مناهله. لأن الاغتراف البسيط يسكر، ولا يعيد الرشد إلا الإمعان في الطلب

ص: 24

قبل أن تتعرض للنقد يجب أن تتأكد من نفسك أولاً، وأن تعرف مدى ما لديك من المعرفة والعبقرية والذوق السليم.

الكبرياء من أقوى الأسباب التي تحول بين المرء ورؤية الحقائق. ومن شأن الطبيعة أن تزيد في كبرياء المرء بمقدار ما ينقصه من المقدرة

في البدء يخيل إلى الشاب المتحمس أنه بمعلوماته البسيطة بلغ ذروة الفن، ولكنه كلما أمعن في طلب العلم بدا له نقص أوضح. كالمصعد في جبال الألب يتراءى له في بدء تصعيده أنه يدنو من الذروة العليا، فإذا ما أستمر في تصعيده بدت لعينيه ذرى تعلوها ذرى

الناقد الكامل يقرأ الكتاب بنفس الروح التي كتب بها المؤلف. ينظر للكتاب ككل، فلا يجعل همه اكتشاف الغلطات التافهة. وهل يُحكم على جمال شخص بجمال العين أو الشفة على انفراد؟

بعض النقدة همهم اللغة. يعجبهم من الكتب ما يعجب النساء من الرجال: حسن الثياب

سلاسة الأسلوب ليست وليدة المصادفة، وإنما هي ثمرة الفن. جرس الكلمة يجب أن يكون صدى لمعناها

بعض النقدة ينتقد أسماء المؤلفين لا مؤلفاتهم، فيمتدح أو يذم الشخص لا كتابه. والبعض الآخر يمتدح القديم لأنه قديم، أو الجديد لأنه جديد. فلا تكن أول من يجرب الجديد ولا آخر من يتخلى عن القديم

وهنالك من يمتدح في أول النهار ما يذمه في آخره؛ وإذا سألته عن السبب أجابك: (أنا الآن أعقل مني في الصباح.) ولا ريب أنه سيكون في الغد أعقل منه الآن

والبعض إنما يقدر من كان من رأيه أو حزبه، فيتخذ من نفسه مقياساً للنقد عاماً

لا يكفي أن يجتمع في الناقد الذوق والمعرفة وإصابة الرأي، بل يجب أن ينضم إلى هذه الصفات الحق والصراحة.

عليك بالصمت التام عندما تكون غير واثق تمام الثقة من صحة رأي. وعليك أن تتواضع إذا كنت متمكناً من رأي، وأن تعترف بأغلاطك

لا يكفي أن يكون نقدك حقاً تقصد به الإرشاد، إذ كثر ما سببت الحقائق الجافة أضراراً أبلغ من الأخطاء، لأن الناس يحبون أن يُعلَّموا وهم لا يشعرون أنهم يعلمون، وأن تُذكر لهم

ص: 25

الأشياء التي يجهلونها كأنها منسية لا مجهولة

لا تقس في نقدك ولا تكثر منه. ولكن يجب ألا يسوقك التسامح لإهمال العدل. ولكن أين الرجل الذي يستطيع أن يقدم النصح خالصاً حباً في الإرشاد لا رغبة في إظهار المعلومات؟)

(نابلس - فلسطين)

عبد القادر صالح

ص: 26

‌من الموضوعات التي نالت الجائزة في المباراة

‌الأدبية

التربية الوطنية الاستقلالية وأثرها في بناء الأمة

للأستاذ محمد عبد الباري

تتمة

وجملة القول هنا أنه لابد من الشجاعة والإقدام للنجاح في هذه الحياة، لأنهما يأبيان على المتحلي بهما الاعتماد على الغير، ويقودانه إلى الطموح والسعي والابتكار. وصفتا الشجاعة والإقدام لا تتأصلان إلا بالتربية الاستقلالية التي تبدأ من الطفولة الأولى، وتنمو في الوسط الحر المستقل وتثبت بالقدوة والمثل

وفي البيئات الحرة المستقلة يقل اعتماد الفرد على الجماعة فتخفف أعباؤها. وفيها يشعر كل فرد بحقه وبواجبه فيعمل الواجب، ويطالب بالحق، ويكره الضيم ولا ينام للظلم. وبهذا يفكر الظالمون والمتعسفون كثيراً قبل أن يقترفوا الظلم والعسف، فيقل الاحتكاك وتسرع الجماعة في طريق البشرية لتحقيق مثل الإنسان الأعلى، دون فقدان كثير من قواعدها في احتكاك داخلي يوهن عزيمتها، ويفت في عضدها

ولا شك أن أعمال الحكومة تؤدي كثيراً إلى تدعيم روح الحرية والاستقلال بمراعاة ما ذكر في النظم والقوانين، وفي كيفية تطبيق رجال القضاة والإدارة لهذه القوانين والنظم

فكفالة حرية الرأي تساعد كثيراً على نضوج الفكر ومن ثم على نضوج الحرية الاجتماعية وتقضي على الفوضى، ومن الواجب مراعاة هذا لدى التقنين

واختيار القضاة ممن عرفوا بالصلابة في الحق، والتمكن من القانون، واستنارة الفكر، تعاون الجماعة على ضمان سير العدالة؛ وبذا يشعر الناس بأن لا ضير عليهم ما قاموا بواجبهم في حدود القانون، فيعظم نشاطهم ويكثر إنتاجهم

وتحلى رجال الإدارة كبارهم وصغارهم بصفات الاستقلال والحرية والشجاعة والإقدام يعمل كثيراً على سير أداة الحكم بلا عوج ولا غرض، فتشيع في الناس صفات الآباء والشمم،

ص: 27

ويعمل الجميع بلا خشية ولا رهبة ولا احتكاك ولا شقاق، ويقضي على النفرة بين الحكام والمحكومين، ويشعر الجميع بأن بينهم غرضاً مشتركاً يقوم كل بواجبه لتحقيقه، فيسهل الوصول إلى الغاية المشتركة بالتعاون والتضافر.

الوطنية

لا بد في الحياة الاجتماعية أن تقترن التربية الوطنية بالتربية الاستقلالية منذ الحداثة الأولى. نعم حب الوطن طبيعة يستشعرها الإنسان منذ فجر التأريخ بغير تلقين ولا درس، ولكنها مع ذلك من المشاعر التي يجب تعهدها بالترسيخ والتقوية، وحمايتها مما يفسدها من المؤثرات الصناعية

لا عزة في وطن ذليل؛ ولا قيمة للجاه الفردي والغنى الفردي في جماعة تخضع لإرادة خارجية؛ والاستقلال الفردي لا يثمر في أرض تسخر فيها إرادة الأفراد لغير مصلحة بلادهم

ففي مهد الطفولة يمكن تنمية شعور الوطنية بقص قصص الوطنيين الأبرار وتمجيد أعمالهم وإثارة الإعجاب بها. وفي المكتب أو المدرسة يتغنى الأطفال بحب الوطن ومجده والتفاني في خدمته، وإذا لم تكن العقول الصغيرة غير المتفتحة تدرك المعاني حق إدراكها فأن الذاكرة تختزن الألفاظ لتفيض معاني ملهمة عندما يتسع الإدراك وتأتي المناسبات؛ وخيال الطفل القوي يخلق من أبطال قصص والديه تماثيل ذهنية ناطقة تصاحبه ما عاش وتناديه وتناجيه، تزجره إذا ما حاول العقوق، وتدفعه إذا ما أعتزم العمل، وتتوج هامه بأكاليل الفخار إذا ما أجاد شاباً وكهلاً. وما أعجب فعل العقيدة عن إيمان!!

هذه الصور الخيالية تحفظ الشعور قوياً وثاباً. فإذا ما نضج الشخص بالتربية العقلية والجسمية والخلقية امتزج العقل بالعاطفة وكان في الفرد الوطنية الحية الرشيدة، أقوى أسس الحياة الاجتماعية

دراسة التأريخ بصفة خاصة من أقوى العوامل على تنمية الشعور الفطري بحب الوطن وتثبيته. فالصور الخيالية التي لزمت الطفل من البيت إلى المدرسة تزداد ثباتاً بدرس التأريخ كما ينبغي. التأريخ القديم والحديث حافلان بأعمال البطولة والشرف، وفيهما أمثلة لأعمال الدناءة والخيانة. فمن واجب الأبوين والمعلمين عرض صور الشخصيات التاريخية

ص: 28

البارزة عرضاً أخاذاً وتمجيد أعمال البر بالوطن والتفاني في خدمته وتحقير أعمال الخيانة والنذالة والجبن

بذا ينشأ الوطني طوحاً إلى المجد، مشمئزاً من الدناءة، منكراً لذاته في سبيل رفعة وطنه

ولا شك في أن للمثل الصالح هنا كذلك قيمته العظيمة. فسلوك الأبوين والأقارب والمعلمين يفعل في نفس الطفل العجائب، بل إن هذا السلوك يؤثر في الفتيان تأثيراً يخلق النفوس خلقاً آخر. فقيام كل من هؤلاء بواجبه كوطني يبث في الناشئين روحاً وطنية بلا تلقين أو وعظ، ويشبون على أن العمل لمجد الوطن واجب الجميع يؤديه الكل سجية. فإذا ما توانوا فيه أو تخاذلوا دونه كان ذلك شذوذاً معيباً وسلوكاً ممقوتاً

للكتب والقصص، تمثيلية وغير تمثيلية، قيمة كبيرة في هذه الناحية من نواحي تربية الفرد. فالتلقين الحكيم الذي يزود به الكاتب قراءه أو مشاهدي روايته لا يقل كثيراً عن المثل والقدوة. يجب أن يكون في الكتب والقصص ما يكفي للإيحاء إلى القراء والنظارة بأن كلاً منهم يستطيع أداء حق وطنه عليه بأعداد نفسه الأعداد الذي تحتمله ظروفه وطبيعته والذي يمكنه من أداء عمله، مهما كان نوعه بإخلاص وإتقان. وبأنه إذا قام كل فرد بأداء عمله كما ينبغي فأن الوطن يتقدم ويعتز. وبأن الإنسان خلق حراً، ولكن لا سبيل إلى الاحتفاظ بهذه الحرية إلا إذا كان الوطن قوياً بحيث يستطيع رد من يحاول التسلط عليه وفرض إرادته على أبنائه

ومن خير وسائل إعداد الشبان قرن الثقافة ببث روح الطموح في الشبان وإثارتها في كل مناسبة، بل بخلق مناسبات لأثارتها. فالطموح المحب لوطنه يخصص حياته لتحقيق أمثلة عليا في الحياة تعود حتماً بالخير على بلده. فما الأمة إلا أبناؤها. فإذا كانوا خاملين وقف تقدم البلاد بل تتدهور. وإذا كانوا ذوي أمثلة عليا تقدمت البلد وعز جانبها

ومن سبل ترسيخ الروح الوطنية الاحتفال بالأعياد القومية وانتهاز ما تتيح من فرص لتمجيد أعمال البر بالوطن والتفاني في خدمته، وفي كل الطبقات يجب أن تنشأ جماعات يجتمع أعضاؤها يتباحثون ويتناجون فيما يعود على جماعتهم بالخير. وينبغي أن تنشد الأناشيد الوطنية في مبدأ الاجتماع وفي نهايته لتحية الوطن وإعلان الإخلاص له والتضحية في سبيله

ص: 29

وهكذا يذكر الوطن في المنزل وفي المكتب والمدرسة، وفي الاحتفال بالأعياد القومية، وفي الاجتماع المتعلق بالشؤون الطائفية، فترسخ في الجماعة عقيدة (الوطن فوق كل شيء) ويرخص كل شيء في سبيل الوطن، يرخص المال والولد، بل ترخص النفس كلما تطلب مجد الوطن بذلاً في الحرب والسلم على السواء

وإذا ما غلبت في جماعة ما روح التربية الاستقلالية ونما في الأفراد وقوى وثبت الشعور الفطري بحب الوطن، وأعد الجميع إعداداً صالحاً ليقوم كل بواجبه على خير وجه، فلا بد أن تنجح هذه الجماعة في شق طريقها إلى الحياة الإنسانية الكريمة، حياة العزة والشرف ممتعة بنعيم الحرية وبركة الاستقلال الصحيح.

(شبين الكوم)

محمد عبد الباري

ص: 30

‌من أدينا المجهول - شاعر يرثي ولده بديوان

اقتراح القريح واجتراح الجريح

لأبي الحسن علي الحصري

(للأستاذ الزيات عزاء وسلوة)

للأديب السيد أحمد صقر

- 2 -

الحصري المجهول: هناك بن طيات القرون الغابرة، ثبت ضخم حافل بكثير من نوابغ الأدباء، وعباقرة الشعراء ذوي الجد العاثر والطالع النكد، الذين جار عليهم الزمان فطوى ذكرهم وطمر تراثهم. ولو عنى الناس بأمر هؤلاء المحدودين، وبعثوهم من مراقدهم ونشروا آثارهم، لكان للأدب من ذلِك ثروة طائلة

من هؤلاء الشعراء المجهولين أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري الحصري القيرواني الضرير، صاحب كتاب (اقتراح القريح واجتراح الجريح). والحُصْري - بضم الحاء وإسكان الصاد - نسبة إلى عمل الحصر أو بيعها

ويشترك مع أبي الحسن هذا في لقبه شاعر معاصر آخر، كانت بينه وبينه وشيجة نسب، أعنى به أبن خالته الأستاذ (إبراهيم الحصري) صاحب كتاب (زهر الآداب) المتوفى سنة 453 من الهجرة (1601م)

وقد اشتبه أمرهما على كثير من الناس فحسبوا ذاك هذا، ونسبوا آثار هذا لذاك! وأرخوا لأحدهما بتأريخ الآخر، ولكن الأمر لم ينته على الراسخين في العلم، فوضعوا الحق في نصابه

أكتنف الغموض حياة أبي الحسن الحصري من كل ناحية، فلسنا نعرف نشأته ولا ثقافته، وليس فيما بين أيدينا من المصادر ترجمة دقيقة شاملة نعتمد عليها في تأريخنا له، وكل ما وجدناه نتف متشابهة، وشذرات مقتضبة، لا تجدي نفعاً؛ وقد أحببت أن أنقلها للقراء علها تلقي شيئاً - ولو ضئيلاً - من الضياء على حياة ذلك الشاعر العبقري، وترسم صورة - ولو شاحبة - لذلك الأديب المجهول

ص: 31

1 -

ذكره أبن بسام في ذخيرته، فقال:(كان بحر براعة، ورأس صناعة، وزعيم جماعة، طرأ على جزيرة الأندلس منتصف المائة الخامسة من الهجرة بعد خراب وطنه من القيروان، والأدب يومئذ بأفقنا نافق السوق، معمور الطريق، فتهادته ملوك طوائفها تهادي الرياض بالنسيم، وتنافسوا فيه تنافس الدار في الأنس بالمقيم، على أنه كان فيما بلغني ضيق العطن، مشهور اللسن، يتلفت إلى الهجاء، تلفت الظمآن إلى الماء، ولكنه طُوِي على غَرِّه، واحتمل بين زمانه وبعْدَ قطره، ولما خلع ملوك الطوائف بأفقنا، أشتملت عليه مدينة طنجة، وقد ضاق ذرعه وتراجع طبعه. . .)

2 -

وذكره أبن بشكوال في الصلة فقال: (علي بن عبد الغني الفهري المقرئ الحصري القيرواني يكنى أبا الحسن، ذكره الحميدي وقال: شاعر أديب، رخيم الشعر، دخل الأندلس ولقي ملوكها، وشعره كثير، وأدبه موفور، وكان عالماً بالقراءات وطرقها، وأقرأ الناس القرآن بسبته وغيرها. أخبرنا عنه أبو القاسم بن صواب بقصيدته التي نظمها في قراءة نافع، وهي مائتا بيت وتسعة أبيات قال لقيه بمرسية سنة 481هـ وتوفي بطنجة سنة 488هـ)

الموافقة لسنة (1095) ميلادية

3 -

وذكره أبن خلكان في وفيات الأعيان، فأورد قول أبن بسام ثم قال:(قلت وهذا أبو الحسن أبن خالة أبي إسحاق الحصري صاحب زهر الآداب) ونقل كلام أبن بشكوال والحميدي ثم قال (وله ديوان شعر. فمن قصائده السائرة قصيدته التي أولها:

يا ليل الصب متى غده

أقيام الساعة موعده؟

رقد السمار وأرقه

أسف للبين يردده

إلى أن قال: وحكى تاج العلاء أبو زيد المعروف بالنسابة قال: حدثني أبو أصبغ نباتة بن الأصبغ بن زيدين محمد الحارثي عن جده زيد بن محمد قال: بعث المعتمد بن عباد صاحب أشبيلية إلى أبي العرب الزبيدي خمسمائة دينار وأمره بأن يتجهز بها ويتوجه إليه وكان بجزيرة صقلية، وبعث مثلها إلى أبي الحسن الحصري وهو بالقيروان فكتب إليه أبو العرب:

لا تعجبن لرأسي كيف شاب أسى

وأعجب لأسود عيني كيف لم يشب

ص: 32

البحر للروم لا يجري السفين به

إلا على غرر والبر للعرب

وكتب إليه الحصري:

أمرتني بركوب البحر أقطعه

غيري - لك الخير - فأخصصه بذا الداء

ما أنت نوح فتنجيني سفينته

ولا المسيح أنا أمشي على الماء

ثم دخل الأندلس بعد ذلك وأمتدح المعتمد وغيره، وتوفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة بطنجة رحمه الله تعالى

4 -

وذكره أبن العماد الحنبلي في كتاب شذرات الذهب في أخبار من ذهب عند كلامه على حوادث سنة 488هـ فقال: فيها أبو الحسن الحصري المقري الشاعر نزيل سبتة - علي بن عبد الغني الفهري. كان مقرئاً محققاً، وشاعراً مفلقاً، مدح ملوكاً ووزراء، وكان ضريراً. ثم نقل قول أبن بسام المتقدم وعقبه يقول أبن خلكان، ثم قال وله أيضاً:

أقول له وقد حيا بكأس

لها من مسك ريقته ختام

أمن خديك تعصر؟ قال كلا

متى عصرت من الورد المدام

ولما كان بمدينة طنجة أرسل غلامه إلى المعتمد بن عباد صاحب أشبيلية - وأسمها في بلادهم حمص - فأبطأ عنه وبلغه أنه ما أحتفل به فقال:

نبه الركب الهجوعا

ولُمِ الدهر الفجوعا

حمص الجنة قالت

لغلامي لا رجوعا

رحم الله غلامي

مات في الجنة جوعا

وقد التزم في هذه الأبيات لزوم مالا يلزم رحمه الله تعالى

5 -

وذكر الصلاح الصفدي في كتابه نكت الهميان وكل ما أتي به منقول عن أبن خلكان وأبن بشكوال، وزاد عليهما فذكر البيتين اللذين ذكرهما أبن العماد. أقول له وقد حيا بكأس

6 -

وذكره أبن الجزري في كتابة غاية النهاية فقال: (علي أبن عبد الغني أبو الحسن الفهري القيرواني الحصري أستاذ ماهر، أديب حاذق، صاحب القصيدة الرائية في قراءة نافع، وناظم السؤال الدالي ملغزا: سألتكم يا مقرئي الغرب كله

وهي في سواءت أجابه عنه الشاطي ومن بعده

قرأ على (عبد العزيز بن محمد) صاحب أبي سفيان، وعلى (أبي علي بن حمدون الجلولي)

ص: 33

والشيخ (أبي بكر القصري) وروى عنه (أبو القاسم بن الصواف) قصيدته، وأقرأ الناس بسبتة وغيرها. توفي بطنجة سنة ثمان وستين وأربعمائة. ثم في قول (أبن خلكان في وفيات الأعيان)، وقول أبن الجزري إن الحصري الأعمى توفي سنة 468هـ قول لم يشاركه فيه غيره من المؤرخين، ولعله وهم أو تحريف من الناسخين.

7 -

وذكره العماد الكاتب في كتاب خريدة القصر. وجريدة أهل العصر، فقال: الحصري الأعمى المريني: هو أبو الحسن علي بن عبد الغني من الأندلس (!) صاحب تصنيفات وإحسان في النظم، قال في غلام أسمه هارون:

يا غزالاً فتن الن

اس بعينيه فتونا

أنت هاروت ولكن

صحفوا تاءك نونا

وقال يهجو أبا العرب الصقلي:

معجب كالمتنبي

وهو لا يحسن شيا

إن هذا يحيوي

أوتي العلم صبيا

وقال:

كم من أخ قد كان عندي شهدة

حتى بلوت المر من أخلاقه

كالملح يحسب سكراً في لونه

ومجسه ويحول عند مذاقه

وقال يرثي المعتضد أبا المعتمد:

مات عباد ولكن

بقي الفرع الكريم

فكأن الميت حي

غير أن الضاد ميم

وقال: أقول له وقد حيا الخ البيتين

وقال:

وشاعر من شعراء الزمان

يفخر عندي بالمعاني الحسان

وإنما أطيب أشعاره

نصف خراسان والقيروان (؟)

وقال:

إذا كان البياض لباس حزن

بأندلس فذاك من الصواب

وقال:

ص: 34

مما يبغضني في أرض أندلس

سماع معتصم فيها ومعتضد

أسماء مملكة في غير موضعها

كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

وقوله إذا كان البياض الخ ذكره المقري في نفح الطيب وزاد عليه قوله:

ألم ترني لبست بياض شيبي

لأني قد حزنت على شبابي

وذكر أيضاً أن من عادة أهل الأندلس لبس البياض في الحزن بخلاف أهل المشرق. وذكر لبعضهم أبياتاً في ذلك

ألا يا أهل أندلس فطنتم

بلطفكم إلى أمر عجيب

لبستم في مآتمكم بياضاً

فجئتم منه في زي غريب

صدقتم فالبياض لباس حزن

ولا حزن أشد من المشيب

8 -

وذكره المراكشي عرضاً عند كلامه على نزول المعتمد مدينة طنجة قال: (فأقام بها أياماً ولقيه الحصري الشاعر فجرى معه على سوء عادته من قبح الكدية، وإفراط الإلحاف، فرفع إليه أشعاراً قديمة كان مدحه بها، وأضاف إلى ذلك قصيدة أستجدها عند وصوله إليه، ولم يكن عند المعتمد في ذلك اليوم مما زود به - فيما بلغني - أكثر من ستة وثلاثين مثقالاً، فطبع عليها وكتب معها بقطعة شعر يعتذر من قلتها، سقطت من حفظي، ووجه بها إليه فلم يجاوبه عن القطعة على سهولة الشعر على خاطره، وخفته عليه. وكان هذا الرجل - أعني الحصري الأعمى - أسرع الناس في الشعر خاطراً إلا أنه كان قليل الجيد منه، فحركه المعتمد على الله على الجواب بقطعة أولها:

قل لمن قد جمع العل

م وما أحصي صوابه

كان في الصرة شعر

فتنظرنا جوابه

قد أثبناك فهلا

جلب الشعر ثوابه

ولما أتصل بزعانفة الشعراء وملحقي أهل الكدية ما صنع المعتمد رحمه الله مع الحصري تعرضوا له بكل طريق، وقصدوه من كل فج عميق، فقال في ذلك رحمه الله:

شعراء طنجة كلهم والمغرب

ذهبوا من الأغراب أبعد مذهب

سألوا العسير من الأسير وإنه

بسؤالهم لأحق فأعجب وأعجب

لولا الحياء وعزة لخمية

طي الحشا ساواهم في المطلب

ص: 35

هذه هي كل النتف والشذرات التي عثرت عليها في كتب التراجم لذلك العهد السحيق. وكل هذه التراجم - إن صحت تسميتها بذلك - لا تكشف لنا عن حياة الشاعر، ولا تبين مقدار قوة شاعريته أو ضعفها، ولا توضح أثره في الأدب، ولا تتناول أدبه بالنقد والتحليل. والذي يستوقفني منها بصفة خاصة قول المراكشي:(كان هذا الرجل أسرع الناس خاطراً في الشعر) وقول أبن بشكوال نقلاً عن الحميدي (إن شعره كثير، وأدبه موفور)، فأين ذلك الأدب الموفور والشعر الكثير الذي واتاه به طبعه الدافق في يسر وسهولة؟ أين قصائده في الهجاء الذي (كان يتلفت إليه تلفت الظمآن إلى الماء؟) أين قلائده التي قلد بها ملوك الطوائف حتى تهادته تهادي الرياض بالنسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار في الأنس بالمقيم؟ أين خرائده في الوزراء الذين أغدقوا عليه النعم؟ أين أين ذلك الشعر الرخيم؟؟ لقد غمره طوفان الفناء فيما غمر، ولم يبق له جرس ولا أثر، والمسؤول عن ذلك هو الحصري نفسه فهو الذي أهمل ولم يحسب لذلك الطوفان حساباً، ولم يدون من شعره غير كتاب اقتراح القريح واجتراح الجريح. ولدينا مجموعة صغيرة من شعره في الغزل والنسيب أسمها (معشرات الحصري) سنتكلم عنها بعد أن نروي لك كثيراً من شعره في اقتراح القريح. . .

أحمد صقر

ص: 36

‌الأدب بين الخاصة والعامة

لامرتين ورينيه جارد

للسيد اسكندر كرباج

(تتمة)

ثم يقول لامرتين: نبّه فيَّ هذا الحوار فكرة وضع قصص شعبية إجابة لرغبة تلك الفتاة الكريمة. لقد عشت طويلاً في الأكواخ والحقول والثكنات وعلى ظهر البواخر وفي أعالي الجبال، وعاشرت العمَّال والمزارعين والجنود والنوتية والرعاة والخدم الذين يؤلفون قسماً من عيالنا؛ وتحدثت إلى هذه العقليات الساذجة الصالحة، وخبرت عاداتها وميولها ولغاتها أكثر مما خبرت عادات رجال المجالس وميولهم ولغاتهم؛ وكنت شاهداً بل أميناً لأسرار حياة ثماني شخصيات خاملة ولكنها حافلة بنوب وآلام خفية إذا دونّت بسذاجة كما روُيت كانت قصائد حقيقية طافحة بالشعور والإحساس؛ وأعرف الأماكن والحوادث والأشخاص معرفة تامة، فسأحاول كتابة هذه القصص ونشرها أجزاء متتابعة دون أقل اهتمام بفخامة الطبع والورق أو طرافة الأسلوب وأناقة الجمل وشحذ القريحة وكدّ الذهن، لأن الطبيعة هي روح هذا النوع من الأدب، والطبقات الوضيعة أقدر على إدراكها والاستلهام بها من الطبقات العالية؛ فإذا وجدتها في هذه الرسوم العارية من زخارف الفنّ استرقتها واستزادت منها. عندئذٍ تتقدَّ أيدٍ أجد من يديَّ وأبرع لوضعها بصورة أفضل، لأن الأدب الشعبي لا يكتمل إلا بالمؤلفات العاطفية التي هي من مميزات الطبقات الجاهلة، وإنجيل العاطفة كإنجيل الدين يجب أن يُبشَّر به أولاً بين البسطاء بلغة سليمة كقلب الطفل

وأراد لامرتين أن يطلع رينيه على آرائه فيما يتعلَّق بكتابة التأريخ الشعبي فقال لها: لا يزال رجال السلطة يمالئون الشعب ويتوددون إليه لاعتقادهم أنه مصدر القوة التي يجب أن يعتمدوها في إسقاط الحكومات وابتلاع الوطنيات، فيستغوونه بشتى الوسائل، ويمثلونه بقولهم إن قوته تولد الحق، وإرادته العدل، ومجده يكتسب عفو التأريخ، وانتصار قضيته يبرر كل الوسائط، حتى الجرائم تخف أمام عظمة النتائج، فيؤمن بهم ويتبعهم ويساعدهم بقواه المادية، وبعد أن يتوصلوا بقوة سواعده وإهدار دمه وارتكاب جرائمه إلى إسقاط

ص: 37

الطغاة وإثارة أوربا يصرفونه ويأمرونه بالعمل والصمت!

هذه هي الطريقة التي سلكوها إلى الآن في معاملة الشعب وكانت سبباً لانتشار شوائب البلاط بينه واستلذاذه التملق.

ليس هذا ما نريده للشعب؛ نريد أن يقابلنا واقفاً، ويخاطبنا وجهاً لوجه، فهو كسائر عناصر الأمة لا يقل قيمة عنها ولا يزيد؛ وإذا كان قد تعوَّد الكذب والممالأة، ففيه خلتان كبيرتان لا يجوز نسيانهما، هما الصراحة والجرأة. لذلك هو يعرف أن يحترم مقاوميه ويحتقر متخوفيه. ففي الحيوانات مالا يفترس إلا من يهرب من أمامه، والشعب كالأسد يجب ألا يجابه إلا من الأمام

يقوم التأريخ الشعبي على واحدة من هذه القواعد الأساسية الثلاث: المجد، والوطنية، والمدنية. فالمجد لا يرضى إلا أمة حربية تبهرها القوة فتعمى عن رؤية الحق؛ والوطنية تضرم نار الحمية في الشعب فيطوح بنفسه في مهاوي الأثرة والطموح

أما المدينة المستديمة فهي الأصلح لقيادة الفكر البشري بين شعاب الشك وبلبلة الآراء والأهواء والأثرة الفردية أو الوطنية، ولإفهامه أن المجد والوطنية لا ينفعان الأمة والنوع البشري إذا فصلا عن الأدب العام، لأن المجد لا يقاوم الصلاح، والوطنية ليست عدوَّة الإنسانية، والفوز لا يمكن أن يكون خصماً للعدالة، وأن التأريخ ليس هذا المزيج من الأفراد والأشياء المشوشة، بل هو خطوة إلى الأمام في طريق الدهور، إذ لكل أمة شأنها وعملها العظيم، ولكل طبقة اجتماعية أهميتها في نظر الله. وفضلاً عن ذلك فقيام التأريخ على هذه القاعدة يعلم الشعب أن يحترم نفسه، ويعرف مقدار قوته ونفعه، وأنه فوق الإمبراطورية والسلطة، وأن هذه تكون كما يريد، فإذا وجد شعباً يشكو من حكومته فهو دليل على أنه لا يستحق غيرها، هكذا كان تاسيت يفتكر في زمانه، ولا تزال فكرته تجري مجرى الأمثال إلى اليوم

واعتزامي كتابة التأريخ على هذه القاعدة نبّه فيّ فكرة قديمة كنت عرضتها على الحكومة فلم تصادف القبول، لأنها ليست آلة للحرب والتدمير بل للسلم والبناء. وهذه الفكرة هي أن حرية الصحافة وديموقراطية الحكومة وحركة الصناعة وانتشار التعليم في كل قرى البلاد وبين كل طبقات الشعب أنار الأذهان ورغب في المطالعة، وبعد أن أوجدوا في الشعب هذا

ص: 38

الميل إلى القراءة فما هي المؤلفات التي وضعوها له؟ لا شيء!

إن لأبناء الطبقات الغنيّة كثيراً من المدارس العالية حيث يسمعون شروح كبار الأساتذة في كل أنواع العلوم والفنون، وإذا لم تكفهم المدارس فعندهم المكاتب الكبيرة والصحف التي تحمل بين دفاتها ما يغذّي العقل والفكر والروح من المواضيع الشائقة. أما أبناء الطبقات الفقيرة العاملة ومنهم الجيوش والبحّارة والرعاة والشيوخ والنساء والأولاد فكل ما عندهم لتثقيف عقولهم وتسلية نفوسهم في أوقات الفراغ هو التعليم المسيحي وبعض الأناشيد المشوهة والقصص السخيفة، فمن هذه الكتب القليلة التافهة تتألف مكتبة الشعب ومتحفه وفنّه!

فأردتُ ملء هذا الفراغ في حياة الشعب الأدبية والعقلية بكتاب لا يقرأ إلا مرة واحدة، ولكن لا أول له ولا آخر، وأعني به صحيفة يومية كبرى يتولى تحريرها نخبة من كبار علماء العصر وكتابه وشعرائه، بلغة سهلة بسيطة، وتعابير قريبة من أفهامه تطلعه على أهم أخبار الكون اليومية وسياسته وفلسفته وعلومه وفنونه. وتحقيق هذه الفكرة لا يكلف أكثر من مليون فرنك سنوياً يكفي لجمعها أن يكتتب مليون شخص بفرنك واحد في السنة؛ وإذا كنت لم أحقق هذه الفكرة فلأني لست وحدي هذا المليون، ولأنه لا توجد في فرنسا حالاً فكرة تساوي فلساً واحداً!

هذه هي فكرتي يارينيه فيما يختص بالتأريخ والأدب والشعر والعلوم والفنون التي يجب أن تكتب للشعب؛ ولا أحب إلى الطبقات الفقيرة ولا أجمل وأبلغ من تحقيق هذه الفكرة. ولو أن لي ذكاء الكتاب المعاصرين وشبابهم واندفاعهم لقمت بأعمال عظيمة في عالم الفكر والثقافة، فأمامنا عالم جديد للاكتشاف لا يتطلب عبور المحيط ككولومبوس، هو إحساس الطبقات العاملة وعقلياتها، فجغرافية العالم الأدبية لا تكتمل إلا متى اكتشفت هذه القارة الشعبية وملئت بمبادئ بحارة الفكر

فتقول له رينيه: لقد فهمت كل أفكارك يا سيدي على رغم سموها وجمالها

فيجيبها: لم أخاطبك إلا كشاعرة، والشعب شاعر أيضاً لأنه طفل الطبيعة الفطيم، والطبيعة كخالقها لا تتكلم إلا بلغة الصور. . .

ثم تودعه رينيه وتودع زوجته شاكرة لهما حسن الضيافة، وتسافر إلى إكس في مركبة

ص: 39

المساء، وقبل أن تصعد إلى المركبة يقول لها لامرتين:(إذا وضعت بعض القصص الشعبية فاسمحي لي أن أصدر أوولاها باسمك)

اسكندر كرباج

من العصبة الأندلسية

ص: 40

‌للتأريخ السياسي

3 -

اليوم السابع من مارس ضربة مسرحية في برلين

للدكتور يوسف هيكل

المعاهدة الفرنسية الروسية ولوكارنو

رأينا كيف أن حكومة برلين قد اتخذت المعاهدة الفرنسية الروسية سبباً لرفضها معاهدة لوكارنو واتخاذها قرار 7 مارس. فهل النظرية الألمانية صحيحة من الوجهة الحقوقية؟ أي هل المعاهدة الفرنسية الروسية لا تتمشى مع معاهدة لوكارنو؟. وقبل الإجابة على هذا السؤال يحسن بنا أن نعرض بإيجاز المحادثات الديبلوماسية التي أدت إلى عقد هذه المعاهدة:

لم يكن هدف فرنسا بادئ ذي بدء، إيجاد هذه المعاهدة، بل كانت الديبلوماسية الفرنسية ترمي إلى إيجاد (ميثاق شرقي) - لوكارنو الشرقية - بين بولونيا والروسيا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا ودول البلطيق وفينلاندا. ولقد تم الاتفاق على هذه الخطة بين فرنسا وإنكلترا أثناء المحادثات السياسية التي دارت بينهما خلال 11و12 من يوليه 1934. وزيادة على ذلك قررت الدولتان أن تتحمل الروسيا واجبات معاهدة لوكارنو إزاء فرنسا وألمانيا، وأن تتعهد فرنسا نحو ألمانيا والروسيا، في حالة اعتداء إحداهما على الأخرى، بمساعدة المعتدى عليه، على أن تكون تلك المساعدة ضمن دائرة واجبات عصبة الأمم. وبعبارة أخرى أن تعقد معاهدة ثلاثية دفاعية بين فرنسا وألمانيا والروسيا، يكون مفعولها سائراً في حالة تعدي إحداهم على دولة ثانية داخلة في الميثاق، على أن تكون الواجبات الناشئة عنها متمشية مع واجبات لوكارنو والعصبة. وقد تعهدت الحكومة البريطانية بأن توصي هذه الدول ولا سيما بولونيا وألمانيا بقبول هذه الاقتراحات. غير أن سعيها قد خاب. وقد أبانت ألمانيا بصراحة بأنها تفضل (المعاهدات الثنائية) - بين أثنين - على المعاهدات المشتركة المبنية على (المساعدة المتبادلة) - وتم الاتفاق في الاجتماع الفرنسي الإنكليزي الذي عقد في لندن في 3 فبراير سنة 1935 على إنشاء معاهدة لوكارنو الجوية، وعلى متابعة المفاوضة مع ألمانيا للاتفاق معها على إنشاء السلام في أوربا

ص: 41

بواسطة عقد معاهدات بين دول شرقي أوربا توجب (المساعدة المتبادلة)

ولما زار السير جون سيمون برلين خلال شهر مارس التالي قدم إليه الهر هتلر معلومات عن المعاهدة الشرقية التي يحبذها مبنية على معاهدات عدم الهجوم الثنائية، ومضافاً إليها التحكم والمصالحة وعدم مساعدة المعتدي. وقد صرح الهر هتلر بأن حكومته لا تنظر بعين الرضى إلى المعاهدات المبنية على (المساعدة المتبادلة) ولا يمكنها بأي وجه من الوجوه الاشتراك في أي معاهدة من هذا النوع. وقد أعادت حكومة برلين هذا التصريح بوضوح أثناء انعقاد مؤتمر ستريزا. وعندما وقفت حكومة باريس على هذا التصريح وتيقنت بأن لا نجاح في إدماج برلين ضمن نظام سلام قائم على المساعدة المتبادلة رأت أن لا سبب هناك يعوقها عن عقد محالفة بينها وبين روسيا، لتساعد كل منهما الأخرى حين تعتدي ألمانيا على إحداهما

وبعد بضعة أيام قابل سفير بريطانيا في باريس مسيو لافال وأعلمه أن حكومة جلالته ترغب (بألا تمضي فرنسا أي معاهدة يمكن أن ترغمها على محاربة ألمانيا في ظروف لا يجيزها البند الثاني من معاهدة لوكارنو) فأجابه مسيو لافال بأن (الحكومة الفرنسية وضعت شرطاً أساسياً بأن المعاهدة الفرنسية الروسية يجب أن تكون متمشية ليس فقط مع مبادئ العصبة بل مع معاهدة لوكارنو أيضاً). وعلى هذا الأساس أُمضِيت هذه المعاهدة في 2 مارس سنة 1935، وأرسلت إلى البرلمان الفرنسي فوافق عليها

وجاء في خطاب الهر هتلر الذي ألقاه في 21 مايو أن الحكومة الألمانية (ستقوم بجميع الواجبات الناجمة عن معاهدة لوكارنو مادامت الدول الأخرى المشتركة في المعاهدة تريد القيام بها). وتبع هذا الخطاب مذكرة ادعت فيها حكومة برلين أن المعاهدة الفرنسية الروسية لا تتمشى مع معاهدة لوكارنو

وفي شهر يونيه دحضت الحكومة الفرنسية ادعاءات ألمانيا. وفي خلال شهر يوليه صرح السير صمويل هور وممثلا إيطاليا وبلجيكا بأنهم متفقون مع الحكومة الفرنسية على أن المعاهدة الفرنسية الروسية تتماشى مع لوكارنو

ولما رأت حكومة برلين أن دول لوكارنو على اتفاق تام، لم تستطع القيام إذ ذاك بأي عمل لتمزيق المعاهدة، بل أجلته إلى حين آخر، واكتفت بإرسال مذكرة إلى السير صمويل هور

ص: 42

تقول فيها (بأنه ستكون مناسبات كافية لمناقشة هذه المسألة مع المفاوضات الأخرى المعلقة)

ولما وقع الخلاف بين دول لوكارنو من جراء اعتداء إيطاليا على الحبشة، وانشغلت فرنسا بانتخابات مجلس النواب؛ رأى الهر هتلر أن الفرصة سانحة، فأعلن في 7 مارس 1936 خروجه على لوكارنو واعتبارها لاغية، وعلل ذلك بأن المعاهدة الفرنسية الروسية لا تتمشى مع لوكارنو، ودعم هذا القول بأدلة أربعة ضمنها المذكرة التي أرسلها إلى دول لوكارنو، وتنحصر في أن المعاهدة الجديدة:(1) موجهة رأساً ضد ألمانيا (2) وأن فرنسا بموجب معاهدتها مع الروسيا، تعهدت بالقيام بواجبات لا تتفق مع الواجبات التي يلقيها على عاتقها صك العصبة ومعاهدة لوكارنو

فالإدعاء الأول هو أن (المعاهدة الفرنسية الروسية موجهة رأساً ضد ألمانيا) صحيح، ولكن بالمعنى السلبي، أي الدفاعي

إن المعاهدة التي نحن بصددها تقول بأنها تصبح نافذة في حالة تعدي (دولة أوربية) على إحدى المتعاقدتين، وأن بروتوكولها يوضح بأن تنفيذ هذه المعاهدة يجب أن يكون فقط ضمن حدود (الاتفاق الثلاثي) الذي رفضت ألمانيا الموافقة عليه. وهذه النصوص تنفي مفعول المعاهدة في حالة اعتداء أي دولة غير أوربية أولاً، ثم تحصر مفعولها في حالة اعتداء ألمانيا فقط على إحدى الدولتين المتعاقدتين؛ فهي إذن موجهة ضد ألمانيا، ولكن يجب ألا يغرب عن الذهن بأنها لا تنفذ إلا حين تعدي ألمانيا على فرنسا أو الروسيا تعدياً غير محرض عليه؛ ونصها صريح في ذلك. والذين قاموا بعقدها يصرحون بذلك تصريحاً كافياً؛ فهي إذن من الوجهة القانونية والسياسية معاهدة دفاعية محضة، وبدهي أن لا خطر على ألمانيا من هذه المعاهدة إلا حين تعديها على إحدى الدولتين تعدياً غير محرض عليه. ولو كانت ألمانيا لا تفكر في أي تعد على أحديهما لما وجدت فيها تهديداً ولا خطراً عليها؛ وزد على ذلك بأن نص المعاهدة والبروتوكول يفسحان المجال لدخول ألمانيا فيها فتصبح معاهدة ثلاثية تضمن فيها فرنسا والروسيا الدفاع عن ألمانيا حين تعدي إحداهما عليها

ورداً على الإدعاء الثاني يمكن القول بأن (المساعدة المتبادلة التي تعهدت بها كل من الدولتين المتعاقدتين لا تصبح نافذة إلا حين وقوع إحداهما (ضحية هجوم غير محرض عليه)، (وبرغم نية البلادين الحسنة في المحافظة على السلام). وهذه المساعدة يوجبها

ص: 43

أيضاً صك العصبة. أما في الحالة التي لم تستطيع فيها العصبة الوصول إلى قرار بالإجماع في إبانة الحق من الباطل في الاختلاف، فمساعدة فرنسا للروسيا والروسيا لفرنسا لا يكون إلا إذا وضح بأن ألمانيا كانت المعتدية تعدياً غير محرض عليه على إحدى الدولتين؛ وبرغم أن مساعدة فرنسا للروسيا في هذه الحالة لم تكن نتيجة قرار العصبة، فإن مبدأ العصبة يوجبها؛ إذ أن البند 7 من المادة 15 ينص على أنه في الحالات التي لا تتمكن فيها العصبة من إصدار توصيات أو الوصول إلى قرار بالإجماع، تصبح كل دولة طليقة اليدين، ويحق لها اتخاذ قرار فردي والعمل منفردة، ويظهر لنا أن كل ما جاء في المعاهدة الفرنسية الروسية التي أثارت ثائرة ألمانيا، ما هو إلا إيضاح وتثبيت لهذا المبدأ

على أنه في حالة القرار والعمل الفردي من جهة، وحين اعتداء ألمانيا على الروسيا من جهة ثانية، لا يحق للروسيا مطالبة فرنسا بمساعدتها (أوتوماتيكياً) بل لفرنسا الحق وحدها في التقرير فيما إذا كانت ألمانيا المعتدية الأولى. وهذا الحق يمكن فرنسا من النظر فيما إذا كانت مساعدتها للروسيا مخالفة للمعاهدات التي عقدتها قبلاً وخصوصاً معاهدة لوكارنو. والبند الثاني من هذه المعاهدة ينص على أن (محتويات هذه المعاهدة لا تنفذ في الحالات التي يكون تنفيذها يوجب وقوع عقاب دولي الصبغة من جراء تضاربها مع واجبات معاهدات، غير سرية، عقدتها إحدى الدولتين مع فريق ثالث). وينتج عن ذلك أنه لا حق لألمانيا (قبل تمزيقها للوكارنو) طلب مساعدة بريطانيا وإيطاليا فيما إذا هاجمتها فرنسا عملاً بمعاهدتها مع الروسيا، لأن هجوم فرنسا عليها داخل ضمن دائرة المادة 16 أو البند 7 من المادة (15) من صك العصبة

ولو قرضنا جدلاً بأن المعاهدة الفرنسية الروسية لا تتمشى مع معاهدة لوكارنو، فلا يمكن أن يعد هذا الأختلاف، بوجه من الوجوه، سبباً لإبطال معاهدة لوكارنو. والمسألة الوحيدة التي يمكن أن تنشأ عن التضارب بين المعاهدتين هي عدم قانونية المعاهدة الجديدة. وفي هذه الحالة لا يحق للحكومة الألمانية إلا الإدعاء بعدم قانونية المعاهدة الفرنسية الروسية، ورفع دعوى بذلك، وليس اعتبارها غير قانونية حسب رأيها ومشيئتها فحسب، لأنه لا يحق لأحد أن يكون قاضياً في دعواه

أما المبدأ الجديد في العلاقات الدولية الذي تبعه ويبشر به الهر هتلر وحكومته، فيقول بأن

ص: 44

لا قيمة لأي معاهدة دولية مادامت تخالف مصالح إحدى الدول التي وقعت عليها، وأن لتلك الدولة المتضررة من المعاهدة الحق في تمزيقها وعدم اتباع موجباتها. وهذا المبدأ الجديد خطأ ومخالف لمبادئ الحقوق الدولية التي سارت عليها الدول حتى الآن، إذ تصبح الدولة المتضررة الحكم الوحيد في دعواها. وأن تنشر هذا المبدأ وعملت به الدول فمعنى ذلك القضاء على الحقوق والعدالة الدولية، وإقامة (حق القوة) مكانها فتزول العلاقات الدولية المبنية على قدسية المعاهدات وتحل مكانها الفوضى، وينتصر إله الحرب

يظهر من كل هذا أن فرنسا لم تأخذ على عاتقها في معاهدتها مع الروسيا واجبات تنافي الواجبات التي يفرضها عليها صك العصبة، وأن هذه المعاهدة تتمشى مع مبادئ العصبة ومعاهدة لوكارنو. ويتضح جلياً بأن عمل ألمانيا في 7 مارس ينافي الحقوق الدولية ويعتدي على قدسية المعاهدات منافاة تامة واعتداء صارخاً.

(لندن)

يوسف هيكل

دكتور في الحقوق

ص: 45

‌صرعى الأغراض

طرفة من الشعر الاجتماعي تعبر عن الآلام المكظومة

للكفايات المظلومة

للشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين

يا لَلْعزائم يثنى من مواضيها

أَنَّ الكفايات يُقضى بالهوى فيها

وللمواهب بالأغراض يقتلها

من يستمدّ حياةً من أياديها

وللجهود بأعشى الرأي يطفئها

ماضٍ على ضوئها سارٍ بهاديها

وللنوابغ يقضي في مواهبهم

بما يشاء هواه غيرُ قاضيها

جادوا بأعمارهم حتى لجاحدهم

إن المواهب سِلْم في أعاديها

كالشمس تقبس منها عين عابدها

وترسل النور في أجفان شانيها

والنفس إن ملئت بالود فاض على

نفوس أعدائها بالود صافيها

كالسحب إذ ملئت بالغيث فاض على

جدب البلاد خلوف من هواميها

لا يدَّع العدل قوم في عدالتهم

صرعى الكفايات تشكو ظلم أهليها

ولا المساواةَ والأفهامُ لو وزنت

مع الغباوة فيهم لا تساويها

ولا الحضارةَ من تجزي نوابغهم

وحشيةً تسكن البيداء والتيها

إذا البلاد تخلت عن حياطتها

يد النبوغ تداعت من صياصيها

دع الحديث عن القسطاس في عُصَب

ما سودت بينها إلا مُرائيها

سوق النفاق بهم شتى بضائعها

تزجَى لمن يشتري إفكاً وتمويها

أرخصتمو غاليَ الأخلاق في بلد

لم تغلُ قيمته إلا بغاليها

يا رُبّ نفس أضاء الطهر صفحتها

أفسدتموها فزلّت في مهاويها

وكم قلوب كساها الحسن نضرته

دنّستموها فعاد الحسن تشويها

أغلقتمو سبل الأرزاق لم تدعوا

لفاضِل الخُلق سعياً في نواحيها

مدارس تغرس الأخلاق في نَشَإٍ

ومغلق الرزق بعد الغرس يذويها

لا تَلْحَ طالب رزق في نقائصه

إن الضرورات من أقوى دواعيها

ص: 46

ما أطهر الخُلُق المصري لو طَهُرت

تلك الرياسات من أهواء موحيها

يا آخذين بقتل النفس قاتلها

قتلى المواهب لم يُسْمع لشاكيها

كم للنبوغ دماء بينكم سفكت

باسم المآرب لا اسم الله مُجريها

هلا أقتصصتم لها من ظلم سافكها

وقلّ فيما جناه قتل جانيها

أولى الورى بقصاص منه ذو غرض

يخشى المواهبَ تخفيه فيخفيها

مِلءُ المناصب منهومون قد جعلوا

من دونها سد ذي القرنين يحميها

على مناعة ذاك السد تنفذه

عصابة تتواصى في حواشيها

من كل أخرق تنسل الحظوظ به

إلى المراتب يسمو في مراقيها

خابي القُوَى عبقري الجهل يثقله

عبءُ الرياسة إذ يدعوه داعيها

يا حافرين تراب الأرض عن حجر

أو جثة في ظلام القبر يطويها

ومنفقين من الأموالِ طائلها

في البحث عن خِرَق لم يُغْنِ باليها

مستبشرين بما يلقون من تحف

للقوم أو خزفات من أوانيها

ورافعين من البنيان شاهقه

فيه الذخائر قد صُفًّت لرائيها

هلا عرفتم لمصرٍ فضل حاضرها

يا عارفين لمصر فضل ماضيها

إن العصور التي جادت بمن سلفوا

على الحضارة لم تبخل أياديها

ذُخر المواهب في أحيائكم تحفُ

بَذّت متاحفكم وصفاً وتشبيها

ما إن يقال لها: لله صانعها

ولكن يقال: تعالى الله باريها

هبوا النوابغ موتى فاجعلوا لهُم

حظَّ النواويس أكرمتم مثاويها

جعلتم الحيَّ يرجو حظ ميتكم

فحظ أحيائكم في مصر يشقيها

أيُحرم النحلُ غضَّ يلفظه

شهداً، وقد شبعت منه أفاعيها

ويُقتل الروض ذو الأثمار من ظمإٍ

والماء يروي مَواتاً من فيافيها

من يقتل الجهد يقتل فيه أمته

وأمة الجهد تحييه فيحييها

إن الشعوب إذا ماتت مواهبها

نُقاضةٌ أعوزتها كف بانيها

أحمد الزين

ص: 47

‌حرب العلم

للأستاذ فخري أبو السعود

لَلْجَهْلُ أَرْفَقُ في دُجى أَزمانِهِ

بالمرء إِنْ يَكُ ذَا مَدَى عرفانه

سقياً لعهد الجهل في أفيائهِ

نَعِمَ الجدودُ وفي رَضِيِّ جِنانه

إذْ شِكَّةُ البطل المُقاتِل لهذمٌ

يُصمى به الأقرانَ يوم طِعانه

لم يَبْغِ بالبُرََءاءِ عدواناً ولم

يخصُصْ بصولته سوى أَقرانه

يُولِي المُسَالِمَ بِرَّهُ من بعدما

أَوْلَى مُناجزَهُ شَباةَ سنانه

فاليومَ سَوَّى العلمُ في فتكاته

بين الورى طرًّا وفي إثخانه

أمستْ بيوت الخلقِ من أهدافِهِ

وغَدَتْ خدورُ الغيد من ميدانه

لا مُرْضعٌ تنجو ولا مَنْ أرضعتْ

من كيده يُعْفَى ومنْ عدوانه

قد كان يحمي الحوضَ أمسِ رجالُه

من خصمه إن جَدَّ يومُ رهانه

فاليوم أَوَّلُ ذائِقٍ لِلَظى الوغى

أطفالُه وَمَنَعَّماتُ حسانه

والشيخُ منحنياً على عكّازه

والحبْرُ مبتهلاً إلى رحمانه

العلمُ ليس بقانعٍ من خصمه

بالمُقْدِم المغوار من فرسانه

يسعَى إلى الساعين في أرزاقهم

والآمِنِ المأمونِ في جدرانه

يا وَيْحَ إقليمٍ أتاه العلم في

أجناده يسعَى وفي أعوانه

ينتابُه بسمومه ورجومه

ويلفُّه في ناره ودخانه

تطغى جحافله على أمواهه

وفضائِه وسهوله وقنانه

بِسَوَابحٍ تحت العباب وفوقه

ومحلِّقات في طِبَاق عناَنه

وزواحفٍ فوق الأديم شتيمةٍ

تطوي رَوَابيَهُ إلى وديانه

حيوانهُ وزروعُه وديارُه

وقُرَاهُ والآلافُ من سكانه

بعضُ الهشيم إذا أَتاه العلم في

آلاتهِ ليهدَّ من أركانه

هيهات يَعصم مًن أذى غازاته

حِرْزُ ويحمى مِنْ لَظَى نيرانه

َمنْ فَرَّ مِنْ غيلانه فإِلي حَمَى

حيَّاته وإلي رَدَى عقبانه

هذا جحيم العلم يُصليه الورى

إن هاجت الأطماعُ مِن شيطانه

ص: 48

لم يعتصمْ شعبُ أبيٌّ باسل

بهضات منه ولا قيعانه

لما رماه بناره وحديده

ومشى يقدُّ الصَّلْدَ من صوانه

حَرَمُ السيادةِ رَدَّ قِدماً دونه

أّعداَءه وأُعْتَزَّ في شجعانه

قد فَضَّهُ العلمُ الخؤون بغدره

وزها بما قد دَكَّ من بنيانه

قد بات يَخْشى الكونُ يوماً مقبلاً

فيه يلجُّ العلمُ في ثورانه

يَئِدُ الصروحَ الشُّمَّ في زلزاله

ويقوّض الأمصار في بركانه

ويَرُدَّ قَفْراً موحشاً ما شادَ من

زاهي حضارته ومن عمرانه

فخري أبو السعود

ص: 49

‌يوم الرسالة

للأستاذ رفيق فاخور

شدَّ ما بَرَّحت بي! هل من رجاء

أيها الشوق على الصبر العفاء

غلب المضني على مجهوده

وحماه راحة النفس العناء

وتعايا في جراح في الحشا

قتل البين! أساها فأساء

قل لمن أسرف في تعنيفه

سبق الداء ولم يُغْنِ الدواء

ويحه يقضي فلولا نفعت

رحمة منك وآثرت الوفاء

يا أحباي دموعي بعدكم

أعين تجري وأشجاني ظماء

وحنيني لو علمتم جذوة

في الحنايا بلظاها يستضاء

جددوا عهد التصافي إنه

نعمة عشنا بها قبل التَّناء

وخذوا قلبي بما أعطيتمُ

فدية العاني وجودوا باللقاء

وبروحي من إذا مرت على

خاطري ذكراه كانت لي شفاء

عَلَمُ من هاشم منتبه

كرم الآل الهداة السمحاء

ذروة السؤدد جيران السها

لهمُ صيغت تجاويد الثناء

مجدهم ينسخ لألاء الضحى

وعلاهم لا يدانيها علاء

سيد الخلق ونبراس الهدى

وضياء بجلاء الشك جاء

وعظيماً من بني الدنيا ارتقى

بجلاء الروح أسباب السماء

وعماد الملة الغراء ما

جاورت قلباً فجافاه الرجاء

ومنار الهائمين التبسوا

بالدجى في مجهل الأرض الفضاء

يومك المشهور في طلعته

كجبين الشمس حسنا وبهاء

مفرد يزهو على الأيام ما

نصلت من صبغة الليل ذُكاء

طبَّق الآفاق ميمون الخطا

وعلى الدهر تَمَشَّى الخيَلاء

وأعاد الكون بالبشرى فتى

رائع الغرة لماح الرواء

صبَّح الهادين سعداً شاملاً

ورمى العادين بالخطب العياء

زلزل الشرك على أنصاره

فاستوى الحق عليها فأضاء

ص: 50

يومك المشهود يا خير الورى

غرة التأريخ عيد الحنفاء

لم يظل الناس يوماً قبله

ملأ الأفواه حمداً وثناء

وجرى كل لسان مقول

فيه شوطاً وتبارى الخطباء

جاءنا يحمل في أطوائه

سيرة المختار زين الأنبياء

فمشت في كل روع هزة

جَلَّ من فجَّر ذياك الضياء

يا أبا الزهراء مَا مثلي وقد

خانه المنطق يجزي الكبراء

آية الله تعالى قدرها

تفحم الشعر وتعيي النصحاء

لك في كل جنان هيبة

ألفت بين قلوب الأتقياء

أنت من أسرار ذي العرش التي

لا يواريها مدى الدهر الخفاء

ربَّ إني واسلٌ بالمصطفى

فتقبل من مرجيك الدعاء

هَيِّئ الغوث لقوم أسرفوا

في الخطايا وأهتدوا بالأشقياء

إن قومي ظلموا أنفسهم

وتظنوا في الأضاليل النجاء

جعلوا دينك ظهرياً ولم

يسمعوا من جانب الحق النداء

رغبوا عن سنة الهادي فهم

إن علا صوت المنادي غرباء

وهُمُ في كل أرض وحمى

مركب للذل ما فيهم غَناء

خذلوا الأخلاق وانهالوا على

زخرف الدنيا فعاشوا ضعفاء

أيها القوم اذكروا تأريخكم

إن فيه عبرة للبصراء

أين ما شاد لنا آباؤنا؟

أين ما قد خلفته الخلفاء؟

أين آثار الميامين الأولى

ينسب العز إليهم والسنا؟

أين للإسلام ملك باذخ

كالرواسي حصنته الكبرياء؟

درج الدهر على أعيانه

فانطوى إثرهُم ذاك اللواء

وبقينا خلفاً في أرضهم

احمدوا السلوان واختاروا الثواء

ضل قوم ضيعوا الميراث أو

سدلوا جهلاً على الماضي غطاء

(حمص)

رفيق فاخوري

ص: 51

‌انتظري بُغْضي.

. .

للأستاذ محمود محمد شاكر

حَبَبْتُكِ، والأوْهَام فِكْرِي وحُجَّتي

تُؤَلِّبُ بَعْضيِ - في هواك - على بعضي

إذا ما نقضْتُ الرأيَ بالرأيِ، رَدَّنِي

- إلي خطراتِ الوهمِ - مضٌّ على مضِّ

أصارعُ أهوالاً من الغيظِ والرِّضَى

وما يتولَّى الغيظَ فَوق الذي يُرْضي

عجبتُ لمنْ راضَ النِّسَاَء ورُضْنَه

ويقضينَ من إيلامِهِ دون ما يقضي

ويَرْمٍينه بالسَّهم ليس بضائِرِ،

ويَرْمي بما يَحْمي الجفون عن الغُمضِ

فكيف به قد ذَلَّ وَهُو مُكَرَّمُ

وأغضَى ولو قَدْ ناصبَ الدهر لم يُغْضِ!

كفى بك ذُلاًّ أن تبيتَ على جَوَىً

وتُصبِحُ في ذكرى، وتَمْشِي على رَمْضِ

كأنك لم تُخْلَقْ لِدُنْيا تَجُوبُها!

وما أضيَق الدنيا من الحَدَقِ المُرْضِ!

فَهُنَّ اللواتِي زدْنَ في العيشِ لذَّةً

فأقْصَيْنَ لذَّاتٍ من الفرَح المَحْض

شككْتُ، وقد تُنْجِي من الشَّرَّ ريبةٌ

وتُبدِل مُسْوَدّ احظوظِ بمُبْيَضِّ

لقد كنتُ أمضي طائعاً غير جامحٍ

وأرضَى بإطراقي على الرَّيْبِ أو غَضي

ويفضَحُني فيك اقتحامي وغَيرتي

وطرفي وما جَسَّ الأطباء من نبضي

ويأكُلُ قلبي ما أُكتِّمُ راضياً. .

فما بكتِ العينُ الشبابَ الذي يمضي.!

وأنتِ. .! لعمري في سرور وغبطة

يَسُرُّكِ بسطي في الحوادث أو قبضي

أَأُنثى ووحشٌ؟ جلَّ خالقُ خلقه!

وسبحان كاسي الوحش من رونق غَض!

وأعجبُ منه لَذَّتي ومَسَرَّتي

على حين نَهشي في المخالبِ أو نفضي

فيا سوَء ما أبقيْتِ في الدَّم من لَظىً

وفي الفكر من كَلْمٍ وفي القلب من عضِّ

أخافك في سري وجهري، ومشهدي

لديك وغَيْبي، خوفَ أرقط مُنْقَضِّ

لقد كنتِ أحلامي - إذا الليل ضمَّني،

وكنتِ إذا ما الفجر أيقضني - روضي

يناجيك طير في الضلوع بلحنه

لقد عاش في سحر، وقد عشت في خفض

وكنتِ على ورد الخمائل زينةً

وكان بشيرَ الفجر في الفنن الغض

فأصبحتِ. . . لا خيراً فيُرْجى، ولا لقىً

فيُلقى، ولستِ من سمائي ولا أرْضي

تصاَممْت عن قلبي ورُمتِ مساءتي

وتنتظرين الحُب! انتظري بُغضي

ص: 53

‌القصص

من الحياة

الضحية. . .

للأستاذ كامل محمود حبيب

انحسر الليل عن جبين الفجر، والفتى لا يزال في مجلسه يشهد ليلة تنطوي، وفجراً يبزغ؛ وكأن الليلة لم تكن في فكره إلاّ ساعة، وكأنه وقد جلس يرقب سير الكواكب في أفلاكها كان ينتظر أن يقرأ فيها تتمة الرسالة التي قرأ أول كلمة منها أول الليل، فوجد فيها ما وجد من لذة ونشوة وسحر. لم ير في صفحة الكواكب السيارة، ولا في العالم الهادئ النائم المطمئن، إلاّ شيئاً كان في خياله هو وفي خواطره. جلس لا ليقرأ حظه في كتاب السماء، ولكن ليؤلف كتاباً من نفسه الطروب المرحة. . . وذهب إلى عمله وهو نشاط يشتعل؛ فهو يجيء ويذهب، ويقرأ ويكتب، ويتكلم فيبين، وكأن شيئاً فيه قد خلقه من جديد ليكون شخصاً غير الذي يعرفه في نفسه، ويكون إنساناً سوى ذلك الذي عرفه صحابته ورفاقه. ودخل إلى صديق يحدثه، يريد أن يفضي إليه ببعض ما يفوز في نفسه، ولكنه عاد فرأى أن ذلك الشيء الذي بعثه من جديد لم يكن إلاّ في نفسه لنفسه، فهو سره هو، وهو له وحده. . . ثم رجع إلى بيته ليطيل النظر إلى نفسه في المرآة يأمل أن تريه مرآته الشابّ الذي في قلبه، فلم ير إلاّ ما تريه المرآة كل يوم، ولكن هندسة عقله الجديدة قد بدت على هندامه وزيّه فكان جديداً حتى في هندامه وزيّه. أكلّ ذلك لأنه رآها أمس وجلس إليها وقال لها وقالت له. . .؟

ومضى الفتى على طريقه، وفتاته أمامه تنير له ما اظلم، وتفتح له ما استغلق، وقلبه ماضٍ على أثرها، وهو من وراء الاثنين: قلبه وفتاته، طيّع منقاد

وأبعد في السير، فباعد بين الفتى الجديد والفتى الذي كان، وعاد لا ينظر إلى الوراء إلاّ ليرى ذاك العريش الذي جلسا تحته لأول ما قال لها وقالت له. . . وكأن عمره قد أختُصِر في هذه الأشهر القليلة، ولكنه كان عمراً طويلاً

وخيّل إلى الفتى حين اجتلى النور من وجه صاحبته، وحين حاطه الشعاع الآسر من

ص: 55

روحها ومن عينيها، وحين رأى الأمل يترقرق على شفتيها من ابتسامة رقيقة، خُيّل إليه حينذاك أنه عاش ما عاش من العمر أعمى لا يرى الحياة إلاّ مادة؛ أما الآن فهي عنده روح من الروح، وهي عنده شعاع يسطع في قلبه، فلا يزال يذكي روحه، ويرهف حسّه، ويشعره معنى الحياة الجميلة، ويحبّب إليه أن يعيش عَيْشَه مغموراً في هذا النور الآلهي الذي ولَده السالب والموجب من قلبها ومن قلبه

وتلاقيا على ميعاد. ونظر ونظرت، فإذا عصفوران يتساقيان الهوى على فنن؛ فقال في نفسه:(ما أتعس الإنسان! يقيد نفسه بأغلال المادة والتقاليد، ثم يزعم أنه طليق. ليتنا مثل هذين. . .!) وقال لها وقالت له. وكان كلاماً لا تلفظه الشفاه: من ذا يفهم لغة الطير، أو يسمع نجوى العاشقين عيناً إلى عين؟ إن هذين الطائرين يفهمان من فلسفة الحياة أكثر مما استوعبت عقول البشر. إنهما يملكان الحرية، وفي أيدينا وأرجلنا قيود ذهبية. . .! ومالت على زهرة نضرة من أزهار الحديقة تقطفها، ونظر الفتى فما بدت لعينيه زهرة بل رمزاً من شفةٍ، وخدٍ، وعطر، وخطوة دلال. وأسرع إلى صاحبته: رويدك يا فتاتي، إن هذه الأنامل الجميلة ما خُلقت إلا لتتملّى هذا الجمال وترعاه!

ولما هّما ليفترقا لم يقل لها: يا فتاتي التي أحب. بل قال لها: يا من حبتني الخلود وأشعرتني لذة السعادة على الأرض

ما أعجب ما يرى الإنسان في الحياة! وهل يرى كل ما فيها إلا على ما رُكِّبتْ عليه طبيعته المادية الجامدة؟ حتى إذا ما لمست فِتاة قلبه حالت كل مادة على الأرض شيئاً إلهياً نورانياً، يتلألأ كما انفلق الأصباح عن ليل طويل دامس. وماذا في الشباب إن لم يكن هذا الشباب في القلب قبل أن يكون في نضرة الوجه وتكتُّل العضل؟ حتى الشيخ يرده الحب فتياً! تلك حكمة الله في الأرض

سار الفتى على سننه؛ وذهبت نفسه وراء فتاته، وهي من عقلها لا تخمد العاطفة بالرضى الدائم، ولا تبعث في نفسه السأم بالغضب المستمر. وهو من كبريائه لا يندفع اندفاع الطيش، ولا يُقْصر إقصار الملل. نفسان عُقِّدَتا؛ ولكنهما عقدتا ليكون الحب فيهما عقدة ثالثة. فهي تفور، وهو يتنزّى ولكنهما هما. أراد أن يكون صريحاً فتعقدت له، فلما أرادت أن تكون صريحة وجدته قد تعقد

ص: 56

ضَلَّ من يقول إن العقل والكبرياء كلاهما يذهبان برونق الهوى، ويطفئان شعلة الحب. إنهما يجعلان من الهوى هوى مركباً لا ترقى إليه العقول الصغيرة، ومن الحب حباً معقداً لا تبلغه العاطفة السقيمة

ثم انطلقا. . . والفتى سعيد بفتاته، والفتاة سعيدة بفتاها فما يفترقان إلا على ميعاد، وهما بين الميعادين كالظمآن يذكر آخر قطرة تذوقها ويرى فيها الحياة، وينتظر أول قطرة تأتيه ليرى منها النور

على ضفة النهر، وبين الخمائل، وتحت ظلال الشجر، وفي ضياء البدر، في صمت الطبيعة وجمالها، طائران أغمض الدهر عنهما جفنيه ليرشفا من رحيق الحياة كأساً صافية، ما كدّرها تخاصم، ولا لوّثها عبث. عام انطوى، فكان العمر، وكان جمال العمر، والصفحة البيضاء في كتاب حياة الشاب والشابة. فما يكون جزاء هذا الحب إلا رباطاً لا تنفصم عروته؟ وتلألأت الفكرة، وتضاعفت سعادة العاشقين بهذا الأمل الجديد

والفتى والفتاة من أسرتين ترسفان من التقاليد في أغلال، وويل للحب إذا اعترضت سبيله التقاليد!

وكانت فكرة، ثم استحالت الفكرة فإذا هي كلام، وحار الكلام فإذا هو خطوات إلى غاية، ولكن. . . ولكن ما أحوج هذا السالك إلى من يرود له الطريق! هؤلاء أهلها، ماذا يعرفون من أمره؟ وكيف يخطبها إليهم وما له عندهم أسم ولا رسم؟ وهؤلاء أهله، ماذا يعرفون من أمر فتاته، وما حاول من قبل مرة أن يفض لهم اغلاق قلبه أو يقرأ عليهم سطراً من شبابه؟ وهذا أبوه، شيخ لا يؤمن بالحب، ولا ينقاد لنزوات العاطفة؛ وهو رباه ونشأه واختار له فيما اختار فتاة من ذوي قرباه، فما ينتظر له زوجاً غيرها ولا لها زوجاً غيره. فمن ذا يشفع له عنده؟ وهذا عمه، وإنه لرجل جد وكفاح لا يرى الحياة إلا من الناحية الصلبة الجافة، فما إليه مشتكى، ولا فيه شفاعة! ولقد تلقى الفتى عن - فيما تلقى - دروساً في الشجاعة والصراحة معاً، فكيف تخذله شجاعته، وكيف يلتوي لسانه وهو يطلب الحياة لنفسه؟ وفي قلب الفتى نار لو لفحتْ الشجر الأخضر لتركته هشيماً، وفي رأسه شعلة لو نفخت على السائل لتركته يغلي ويفور. وابتدأ الفيلسوف الذي في رأسه يفرض الفروض، ويأتي بالمقدمات، ولكن إلى غير نتيجة

ص: 57

لقد ملك اللذة وأراد أن ينعم بها، ولمس السعادة وأمل أن يحتويها، ولكن فكرتي اللذة والسعادة هما اللتان ذهبتا بشجاعته وصراحته

ماذا في السعادة غير اطمئنان الخاطر، وهدوء الضمير، وإشراق الحياة، وابتهاج النفس، والرضى بكل ما يجيء به القدر؟ ذلك هو الإيمان، والشعور به هو اللذة. فلا تنشدهما من غير هذا السبيل

ونفخ الحب في عزم الفتى، ونفث من سحره في لسانه، فمضى بين الرجاء واليأس ينفض أمام أبيه جملة حاله. وكان أبوه قد قدّر حين رأى في أبنه الذهول والصمت حيناً، والانكباب على المطالعة حيناً آخر، أن به شيئاً. وقالت له ذكريات شبابه:(ويحك أيها الشيخ! إن فتاة قد سلبتك فتاك، لأنه فقد النوع، وإنه لشاب به ثورة الفتاء ما بالرجل يوقد تحته بنار من حجارة، فأمسك عليك ولدك بزوج تربطه بها وتربطها به. . .!) ووعى الشيخ ما سمع. فلما أذن للفتى أن يكشف لأبيه عن صدره، قال له:(يا بني! إن حكمة الشيوخ غير طيش الشباب. يا بني! إنه أنا الذي رباك وأنا الذي يريد أن يعيش في تأريخك جيلاً آخر. عقلك أولاً ثم عاطفتك، وغداً تهدأ هذه الثورة. . .!) ولكن الثورة لم تهدأ بل زادت ضراماً، وعاد الفتى إلى عمه يستعينه على رأي أبيه، فما الأخ إلا صورة من أخيه، ولما أرسل إلى أهلها قالوا:(حتى يرضى أهله)

وضاقت نفسي الفتى بما رأى وسمع، وما لبثت الفتاة أن سميت على غيره، فأصبح الفتى يتوزعه الحب وقد أخفق فيه وصفرت منه يداه، والكبرياء التي لا تطاوعه على أن ينقاد، فصار همه همين؛ وعض الحزن على قلبه فاستلبه من أيامه، وخلفه يمشي بين الناس جسداً بلا روح. . .!

وأحس الأب بمقدار قسوته على ولده، على حين لم يكن يريد له إلا السعادة، فأنطلق يلتمس له الشفاء من ألمه، ولكن أين له ما يريد وقد سميت الفتاة على غيره فخطبت فـ. . .

وكان الأب في انطلاقه يفتش عن السعادة لأبنه، قد ترك وراءه شبحاً يجلس إلى مدفئة في زاوية من الحجرة وقد نشر أمامه ورقة لا يكاد يتبين من سطورها إلا سطراً أسود يضطرب أمام عينه، وكأنه لم يكن ينظر كلاماً مكتوباً بل شريطاً عريضاً أسود يمثل له حظه في الحب. لقد وعاه من طول ما كرره، ولكنه ما يزال يقرأ، ويعيد ما يقرأ، كأن

ص: 58

ألفاظه تمسح ببياضها هذا السواد الماثل أمامه: (لقد تخليت عني في وقت أنا أحوج فيه إليك، وقد كان بيننا ما كان. تخليت عني ليعبث أهلي - بما لهم علي من حق - في مستقبلي. لقد أرغموني حين ردوك)

ولما أرتد الأب خائباً، وجد الابن قد أكلته الخيبة والتهمه اليأس، فعاد يهمس بينه وبين نفسه (ويلي! لقد جنيت!) ثم ابتدأ يلتمس لولده العزاء مما جنى عليه، فقدر له أن يمضي أياماً على شاطئ البحر، عند الربيع الأزرق. هناك حيث يخلع الإنسان همومه إذ يخلع ملابسه، ويتحلل من أثقال المدينة وتقاليد الناس حين يرى نفسه كآدم وحواء قبل اتخاذ الثياب. وكان الفتى واسع الخيال دقيق الحس، فآلمه أن يرى هذا الناس قد اجتمعوا ليقتسموا الصحة والعافية، واللذة والسعادة، وهو وحده يعيش في جو بعيد عن كل ذلك، هو جو قلبه، وانصرم الصيف، وما أفاد إلا هماً على هم، ووحشة كانت في قلبه فعادت في حسه وفي نفسه

وجلس الابن يقرأ - ذات ليلة - كتاباً في تأريخ قدماء المصريين والأب ينصت، وهو يتبين في صوته رنين الأسى والحزن. فقال: إن لنا في الشتاء لرحلة كما لنا في الصيف رحلة.

زيارة آثار أجدادنا القدماء. وطرب الشباب لهذه الفكرة الطارئة

وطوّفا ما طوفا والفتى في نهاره رفيق أبيه، وفي الليل صديق همومه

وجلس الفتى إلى نضد، وقد مضى الليل إلا أقله يكتب إلى التي أحبها:(ذهب عقلي واستقر هواك. وهأنذا أطوف في بلاد وقرى لم أنزل بها من قبل، ولم يزرها أبي من قبل أيضاً. يظن أبي أنني أفرج عن نفسي، وأراني شريداً لأنني أرغم على ذلك إرغاماً. يؤمر ليطيع كالإنسان الصناعي لا يدري ماذا يقال، ولا ماذا يُفعل؛ وهم يسخرون من الإنسانية إذ يسمونه الإنسان. أبي يرى في كل ذلك لذة، أما أنا فلا أرى هنا ما يلذني لأني بعيد عنك. والآن وقد بلغنا أسوان بقي علي أن أصف لك الخزان العظيم الذي يترك لأرض مصر جميعها فضلة ما يمسك. إنه في رأسي الآن يجيش ويضطرب، وغداً كيف أراه أمام عيني؟ سأذكرك هناك، يا فتاتي، وأذكرك. . .)

وعند انبثاق الفجر انفلت من الفندق ليضع بعض قلبه في صندوق البريد

ص: 59

وعلى خزان أسوان سار مطمئناً، وهو يعجب بما يرى؛ عن يمينه طود من الماء، وعن يساره رشاش الماء المنسكب، أمواجاً تتلاطم، كأنها في مضمار، أيهما يبلغ الغاية أولاً؟ وعلى سور الخزان المبني من حجر الجرانيت، وقف يتكئ على حاجز قصير هناك يطل منه على الماء يتدفق من فتحات الخزان حياة، والخواطر تتدفق في أعماقه شجواً حزيناً يبعث الألم. وأخذت الفتى روعة ما رأى وأحس كأن الماء الذي يعترك في أسفل يجذبه ليحمله إلى من يحب. ورأى الرشاش المتطاير تنعكس عليه أشعة الشمس فترسم عليه قوساً ذات ألوان جميلة، كأن عروساً في ثوب زفاف تتراءى له بين مرآتين، ولكنه لم ير فيها إلا العروس التي فقد، تبتعد بها الأقدار في صحبة رجل غريب. ورأى الماء يتسرب من بين الصخور كما يتسلل القدر في تأريخ إنسان ليضع فيه مأساة أو يصنع حادثة

ومضى الفتى يتخيل فيمعن في الخيال، والماء تحت عينيه يموج ويضطرب ويزأر متدفقاً مكتسحاً في بطش وعنفوان؛ فما يرى الفتى بين الموج والزبد إلاّ صورة واحدة: صورة الفتاة التي بعد بها عنه عنف القدر وسلطان التقاليد

ورجع الأب ليصحب ولده فيعودا، ولكنه انطلق يعدو حين رأى أبنه يوشك أن يتردّى. فما بلغ إلاّ ليشهد آخر مأساة للشاب تتلقفه الأمواج

يا يد الشيخ أنت التي دفعتٍه إلى هذه الهوة فما كان لك أن تنقذيه. . .!

يا تجارب الشيخوخة كم أنت قاسية! لقد أردتِ أن تزرعي السعادة فجنيت الشقاء. لقد كنت كبيرة فلم تفهمي لغة الشباب، وكنت مادية فلم تفهمي حديث الروح، وكنت صلبة فلم تعقلي كلمات القلب. هل أنت يا تجارب الشيخوخة إلاّ خرف الهرَم ونكسة الإنسانية. .؟

ألا ليت الشباب وليت الهَرَم. . . ولكن ماذا يجدي، ماذا يجدي؟ ليت شعري هل قُدِّر للإنسانية ألا تبلغُ سعادتها إلا على جسر من الضحايا؟ فيا ويح الشباب ويا ويح الهرم!

كامل محمود حبيب

ص: 60

‌درامة من أسخيلوس

3 -

الفرس

للأستاذ دريني خشبة

تتمة

- 7 -

(يظهر شبح دارا ويخاطب الجماعة)

- (أوه! أنتم هنا يا رفاق الصبي ولِدَات الشباب! مرحي! لقد ابيضت نواصيكم، وجلل هامتكم وقار المشيب! ماذا؟! ما لكم واجمين هكذا؟ أي شجو يعقد أساريركم يا سادات فارس؟ ماذا أسمع؟ هناك! هناك في جميع آفاق المملكة؟ الجماهير العزيزة تئن وتبكي! ويح لكم يا رعاياي! أية كارثة؟! تكلموا؟ إن قربان الخمر الذي أسقيتم ثرى رمسي قد روّى أعظمي وانتشت بِحُمَيّاه نفسي؟ لشد ما أيقضتني أناشيدكم وأذْكاركم تتغنونها على هذا القبر يا سادات، وتتغناها معكم مليكتي!! تكلموا! تكلموا إذن! فيم جُؤاركم بي، وصلاتكم من أجلي، لأطْويَ الرحب إليكم من عالم الأشباح؟ إن الآلهة ترنو إليّ من بعد، وإنها تكاد تتخطّفني. . . لماذا تصمتون هكذا؟ تكلموا وإلا فالويل لي من أرباب الظلمات!. . .)

- (لشد ما تفرق قلوبنا إذ نرى إلى هذه الهامة! كيف السبيل إلى الكلام؟ أي فزع يذوب كالموت في فرائصنا؟)

- ليفرخ روعكم! إن صلاتكم الطيبة هي التي سعت بي إليكم! فيم هذا الجزع الذي يسيطر عليكم؟ وهذا الحزن لِمَهْ! تكلموا! البدار، اختصروا ما استطعتم فأني عجلان، والآلهة تحدجني من أعماق الدار الآخرة!)

- (نفْرَق أن تنبس أفواهنا بكلمة عما حاق بأعز الناس! إن حبنا له، وجزعنا عليه يمنعنا من أن نقول كلمة!. . .)

- (هذا دأبكم دائماً. . . طالما كنتم تخافون من لا شيء إذن، فتكلمي أنت يا من كنت شريكتي في أهنأ حياة؟ وأرجو أن توجزي ما استطعت.! ما هذه الصيحات التي ترتفع من رعاياي في البر والبحر؟ ما لهم يبكون في كل صوب!)

ص: 61

- (مولاي دارا!؟ ملكي! يا من أقمت مجد الوطن، وكنت مُحَسَّداً من أندادك للأبهة التي شادت دعائمها يدك. . . كم أنت اليوم مُحَسَّد كذلك للراحة التي تنعم بها في جوار آلهتك. . .؟ قصتنا موجزة، وتكاد ترويها كلها كلمة واحدة! الإمبراطورية يا مولاي؟ لقد نسج الزمان عليها عناكب الخراب وليس من يقيل عثرتها!!)

- (لِمَهْ؟ هل طاعون سلطه عليها رب الشر؟ أم ثورة جعلت غزلها من بعد قوة أنكاثاً؟)

- (لا هذا ولا ذاك! ولكن. . . جيشنا. . . لقد حطمه القضاء تحت أسوار أثينا!)

- (جيشنا؟ وَمن مِن أبنائي هذا التاعس الذي غامر به ثمة؟)

- (الطائش إجزرسيس! لقد أقفرت آسيا من روض شبابها بسبب تَهَوُّره؟)

- (في البر أم في البحر، حاقت بهم النكبة النكباء!)

- (فيهما معاً يا مولاي!)

- (وكيف تم لهذا العسكر المجْر عبور البَحر إلى هيلاس؟)

- (مهندسوه يا مولاي أقاموا له جسراً عَجَبَاً!)

- (وأي جسر هذا الذي يصبر لأمواج البوسفور وأواذيه؟)

- (كانت أرواح مخربة تنفخ في صدره طيلة ذلك اليوم!)

(وأية ضربة لازب طاحت بجيش فارس وبأسطولها؟ أكان العدو أكثر عدداً وأعز قوة! يا لتعسك يا إجزرسيس! ترى! كم شرذمة نجت من بطشة هذا القضاء؟)

- (ثلة في البر وثلة في البحر. . . وكان هو ينطلق لا يلوى على شيء! حتى عبر إلى آسيا!)

- (إيه يا آلهة! هكذا تديرين رحى الخراب على من يديرها على نفسه! إجزرسيس الطائش! لقد كان شيطانه هواه، فلم يرحم شبابه ولم يترفق بشباب فارس! حسب المأفون أنه يسخر بالآلهة، ليستطيع أن يكتب الأقضية، ويحول مجرى المقادير. . . ألا قد حبط مكره. . . وحاق به سوء تدبيره. . . وبدد في حماقة كل ما ذخرت لفارس من قوة وعتاد. . . وجعل خزائن سوس لأعداء الإمبراطورية نهباً مُقَسماً. . . ألا من أَضلّك يا أتعس الأبناء!)

- (أضلته نفسه، وغلب عليه استبداده، وسَوَّلت له تلك العُصبة من الحمقى والمأفونين)

ص: 62

(تعْساً لهم مُشِيري سوءٍ، وإخوان ضلالة! وتعساً له من أُحيْمق، هدم المجد الذي بناه أجداده فرفعوا عماده، ومهدوا له وأرسوا في ساحات النصر أوتاده. . . الشقي الذي نسى نصيحتي فوق سرير الموت، إذْ حذرته من محاربة الهيلانيين!)

- (والآن يا مولانا! أنصح نهتد بك في ظلمات المستقبل)

- (هي نصيحتي أبداً. . . لن تتغير. . . لا تلتحموا في حرب مرة أخرى مع الهلانيين! حتى ولو كان جندكم أكثر من جندهم أضعافاً مضاعفة! إنهم يحاربون من أجل وطنهم المفدى! أما أنتم. . . ففي سبيل أطماعكم تهرق دماء شبابكم! هذا إلى هيلاس نفسها. . . إنها تحارب بجنود لا ترونها في جانب أبنائها!)

- (هيلاس تحارب بجنود لا نراها؟ وكيف؟)

- (أجل! إنها تحارب المغيرين بالمجاعات والأيْن والطواعين! انظروا! إن شراذم مبعثرة تهيم في الآفاق. . لا تلوي على شيء. . . تفر من الميدان! ويلاه! إنها فلول أجنادكم، أصبحت لا تقدر على شيء!. . . لقد تركها القائد الشقي تقاسي من الجوع والعرى والزّمهرير. . . أشباح وسمادير، يرنق فوقها الموت عند كل أكمة!! إجزرسيس! يا أتعس الأبناء! ذق إنك أنت العزيز الكريم! فيتم استباح جنودك معابد الآلهة وأقداس الأرباب! لقد دنسوا هياكل القوم، وسلبوا معابدهم، وكسروا أوثانهم. . . فليذوقوا إذن وبال أمرهم، ولترو من دمائهم رماح الأسبرطيين. . . وليؤدوا الدين من خزائن أرواحهم مُهَجاً غالية!! يا للآلهة!! ما أقساه درساً ألقيته على كبرياء بني الموتى وخيلائهم!! زيوس يا سيد الأولمب! يا كبير الآلهة ذا الطول، يا شديد الانتقام! ما أهول بطشك حين تأزف ساعته. . . وما أبلغ حلمك!)

أيتها الملكة! يا أم إجزرسيس! يا أم ولدي التاعس! هلمي فالبسي أبهى حلك ذات الأوشية، وانطلقي فالقي ولدك المحزون! رفهي عنه وواسيه بكلمة طيبة لن يحتملها إلا منك، وبلغيه نصائحي. . .)

أما أنتم يا رفاق صباي! فالسلام عليكم. . . لتثلج صدوركم ولتطلب نفوسكم. . . لقد فرغتم من زينة هذه الحياة الدنيا التي لا تسير في ركاب الموتى إلى الدار الآخرة)

(يغيب الشبح)

ص: 63

- 8 -

ويرسل الأشياخ الفارسيون النُّجب زفرة كأنها لفحة من جهنم، ويعبسون عبوسةً سادرةً حزينة لما يتحيف الوطن من أشجان، ثم تمضي الملكة لتضفي عليها من أبهى وشْى فارس ولؤلؤ بحرها العجيب، ولتذهب فتلقى ولدها المقهور المنهزم، الذي عاد من حلبة هيلاس يجرر أذيال الخيبة، ويتهالك على نفسه في أسمال الخزي والانكسار. . . (ولدي إجزرسيس! الذي لا بد له في هذه المحنة من قلب الأم يضمه ويحنو عليه، ويقشع عن عينيه ديجور الهم، ويعيد إليه مسرة الدنيا وحبور الحياة!)

- 9 -

أما الخورس - وهم أولئك الأشياخ الوقورون - فيهزجون بنشيد طويل يذرفون فيه دموعهم على مجد الأكاسرة الغابر، ويبكون على أيام كانت فارس سيدة الأرض ومؤدبة الأمم، ويذكرون الهزائم التي حاقت بجيوشهم في البر والبحر. . . (وشبح الخراب الذي ينوء بكلكله على المدائن والقرى، واليتم والجزع والبكاء التي تغزو كل بيت، وتمزق صدر كل أم) وإفلات الأيالات الفارسية في غرب آسيا وشمال هيلاس من قبضة الفرس. . . حتى لو شاء الهيلانيون غزو فارس نفسها لما استعصت عليهم

- 10 -

(يدخل إجزرسيس متخاذلاً)

- (واشجوى!)

لقد جل الخطب، وفدحت قاصمة الظهر، وامتداد يد الحدثان إلى زهرتك يا فارس، يا وطني، فقضت عليها في ريعان، وأذبلت غصنها إذ هو ناضر ريان، وجعلتها قصة في كتاب الزمان! ويحي! كيف لي أن ألقي ساداتك أيها الوطن وقد خذلت هيلاس قواي، وخانت تجلدي واصطباري! ألا ليتني لقيً بين أشلاء جنودي، ألا ليت كثيباً مهيلاً طواني في ساحة المجد، فلم أعد إليك يا بلادي! لقد كان ثمة عزاء لي بين القتلى من صناديدي!)

- (أهذا أنت يا إجزرسيس! ويلاه! من للأبهة والمجد! من للجيوش الجرارة والجنود المظفّرة! من للكواكب والرايات! أين أين القادة الصيد، والأبطال الصناديد والمغاوير

ص: 64

المذاويد؟ لقد انتفضت فارس تبكي أفلاذ أكبادها فأين تركتهم دون وليٍّ ولا نصير؟ أكانت تعدهم لهذا العبث الذي قذفت بهم فيه وهم زهرتها وذخيرتها وعتادها؟ ويلاه! يا للساعة ويا للحساب العسير؟ لقد كان أجدر لو لم تلقك آسيا أيها الملك كسيرة القلب مهيضة الجناح، لا حول لها ولا طول، ولا مجير ولا هاد!)

- (زهٍ! زهٍ! يا سادات فارس! يا للحظ العاثر والمجد الغابر! أو هكذا يا رب تخزيني ملء رعيتي وبين جدران بيتي؟)

- (بل نحييك بالصراخ والعويل كما كان المارياندون يحيون موتاهم. . .)

- (إذن، فهلموا فابكوا! لتنهمر دموعكم حتى ما تجف، ولتشق السموات آهاتكم حتى ما تقف! ألا ما حيلتي؟ لقد اتحدت عليّ الأقدار، واسودت في صحائف غيبي الحظوظ!)

- (بل نحن نصرخ في وجهك صرخة فارس التي كلها ألم وشجو. . .)

- (وا أسفاه! ماذا عساني كنت صانعاً وقد اتحد مارس وملؤه عليّ!)

- (بل قل لنا أيها الملك! أين أين أكايرتا؟ أين أين السوسيون والفرندسيون والبلاجيون وغيرهم وغيرهم من أشراف القبائل والبطون والأفخاذ؟

- (غرق من غرق، وغال الردى في الميدان من غال في يم سلاميس وبرية بلاتيه.)

- (بل أجب هذه الدموع وحرق الضلوع! أين أين المظفر فرْنوخوس وأريوماردوس الصالح، وأمير الأمراء سيوالكوس! وأين أين القنابل ذات الأيد من مازستراس وسيرابيس وممفيس!. . .

- (ابتلعهم اليم. . . ثم لفظهم الدأماء! ودارت عليهم المنايا أغربة سوداً وغرابيب لا تبقي ولا تذر!. . . فلا قائد اليوم ولا مقود!!)

- (يا للنكبة! يا للثمن الفادح! يا لزهرة شبابك يا فارس في هذا الرزء الذي ليس كمثله رزء، والمصاب الذي دونه كل مصاب!! إذن ماذا بقي للوطن أيها الرجل؟)

- (هذه الأسمال التي ترونها لا تكاد تستر جسد مولاكم!!

- (أهي كل ما بقي من الغرق و. . . الهزيمة؟

- (وهذا البيت الخاوي على عروشه. . . وكانت إليه خزائن الأرض من قبل؟ ماذا بقي لنا؟ لقد تفرق عني جميع أعواني أباديد!

ص: 65

- (ألا ما كان أشجع اليونانيين في هذه الحرب!

- (ألا ما كان أشجعهم حقاً! أبداً ما رأت عيناي أشجع منهم! لقد ظفروا بنا وأظهرتهم آلهتهم علينا، فلنا الخزي السرمدي، ولهم المجد الأبدي؟

- (ويلاه! إذاً سحقت كل قوة فارس!

- (عن بكرة أبيها! وليس لنا الآن إلا البكاء والنحيب! فرددوا بكائي وأسْعِدوا يا سادات

- (أي إسعاد أيها الملك وقد قضت علينا ضربة لازب!

(يبكون. . . ثم يعولون)

- (رددوا آلامي، فما أشجاكم أشجاني!

- (ألا من يرثي لنا. . . يا للشجو. . . يا للشجو!!

- (وبللوا تلك اللِّحى. . . اذرفوا عبراتكم يا رفاق!

(يأخذ الأشياخ في البكاء، ويشتد عويلهم، ثم يشقون جيوبهم. . . . . . . . . . . . . . .)

- (غفرانك يا فارس! غفرانك يا دارة المجد، وهالة العظموت! هلموا يا سادة! هلموا إلى الهيكل. . . إلى النار المقدسة.)

دريني خشبة

ص: 66

‌البَريدُ الأدَبيّ

هنري دي رينيه

من أنباء باريس الأخيرة أن الشاعر والكاتب القصصي الكبير هنري دي رينيه قد توفي في الرابع والعشرين من مايو؛ وبذا يكون قد توفي في أيام قلائل عضوان من أسطع أعضاء الأكاديمية الفرنسية، هما الأستاذ هنري روبير المحامي الأشهر (وقد ترجمناه في العدد الماضي) وهنري رينيه، وخلا بذلك كرسيان في مجتمع الخالدين. وقد ولد هنري فرانسوا دي رينيه في ديسمبر سنة 1864 في هونفلور من أعمال كالفادوس من مقاطعات الحدود؛ وكان أبوه هنري شارل دي رينيه مفتشاً في الجمارك، وتلقى الكاتب دراسته في كلية ستانسلاس، ودرس القانون؛ ولكنه انصرف منذ حداثته إلى الأدب؛ وبدأ بقرض الشعر قبل أن يبلغ العشرين، وفي سنة 1885، أصدر أول مجموعة شعرية، عنوانها (أيام الغد) فأصابت نجاحاً وأتبعها بعد ذلك بعدة مجموعات أخرى نذكر منها:(أوسمة دارجيل) ' و (فستيا الملتهبة) وعالج هنري دي رينيه كتابة القصص في نفس الوقت، وظهر منذ أواخر القرن الماضي بقصصه القوية الخصبة؛ ومن أشهر قصصه (عصا جاسب)(سنة 1895)، و (العشيقة المزدوجة)(سنة 1900) و (فراغ فتى عاقل) ' (سنة 1903)، و (الخوف من الهوى) ' (سنة 1907) ' (سنة 1912) و (وهم تيتوباسي) ' (سنة 1916) و (الخاطئة)(سنة 1920) و (الفرار) ' وغيرها

وكان هنري دي رينيه أيضاً صحفياً من الطراز الأول، يعالج المسائل الاجتماعية والأدبية في الصحف الكبرى بقوة وبراعة؛

وقد تبوأ كرسيه بين الخالدين في الأكاديمية الفرنسية منذ أعوام طويلة

حياة لايدي هستر العجيبة

تتفوق حوادث التاريخ أحياناً على القصة في غرابتها وروعة ظروفها؛ ومن ذلك حياة (لايدي هستر ستانهوب) الإنكليزية التي خاضت في أوائل القرن التاسع عشر غمار رحلات وحوادث مدهشة في تركيا ومصر وسوريا. وقد صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن هذه السيدة المغامرة عنوانه بقلم السيدة جوان هاسلب

وقد نشأت اللايدي هستر في أسرة نبيلة في أواخر القرن الثامن عشر، وهي ابنة أخت

ص: 67

لوليم بيث الوزير الإنكليزي الشهير، ولم تكن فتاة حسناء. ولكنها كانت تتمتع بجاذبية نسوية غريبة؛ ولم تصادف في بدء حياتها نجاحاً في المجتمع الإنكليزي ولا قبولاً في بلاط الملك جورج الثالث؛ بيد أنها اتصلت صلات غرامية ببعض رجالات العصر، مثل اللورد جرانفيل لنيفنسون والسير جون مور القائد الشهير؛ ثم عافت المجتمع الإنكليزي ونقمت عليه لما لقيت فيه من إعراض وخصومة، وغادرت إنكلترا في سنة 1810 لكي لا تعود إليها إلى الأبد. وبعد أن زارت جبل طارق ومالطه ذهبت إلى اليونان وهنالك لقيت الشاعر بيرون؛ ولكنهما لم يتفاهما؛ فسافرت إلى استانبول؛ وهناك اتصلت ببلاط السلطان محمود، وتركت لنا وصفاً شائقاً عن بلاطه وحاشيته وحفلاته. وإليك نبذة ظريفة تصف خروج السلطان إلى السلاملك في يوم الجمعة:

(يركض البستانية صائحين (أفسحوا لجلالة السلطان أمير المؤمنين) وهم يلوحون بأسواطهم المعقودة؛ بينما تنتظم في الشارع فرق من جند الانكشارية ترد الجموع؛ ويبدأ الموكب بالسقائين يرشون الشارع، ثم كوكبة من الفرسان ذوي اللحى تحيط بها جماعة زاهية تحمل أدوات القهوة السلطانية وسيف السلطان وشبكة في أوعية ساطعة)

وبعد أن لبثت لايدي هستر حيناً في استامبول سافرت إلى مصر، واتصلت في الحال بمحمد علي، وزارته في قصره الفخم بالأزبكية فأكرمها، وأنس بلقائها؛ ونوهت اللايدي هستر فيما بعد بكرمه وذكرت أنه اعتاد أن يقف للقائها؛ وفي ذات يوم نظم محمد علي عرضاً عسكرياً إكراماً لها، وعرض فيه الكولونل سيف (سليمان باشا) القوى البدوية، وبعد نهاية العرض قدم لها محمد جوادين هدية منه

بيد أن اللايدي هستر رغم ذلك تصف مصر بأنها مريعة، بأزقة ضيقة، وروائح كريهة، وشوارع متربة

وسافرت لايدي هستر بعد ذلك إلى فلسطين ثم إلى الشام، وهنالك تعرفت بالأمير الشهابي وتوثقت بينهما أواصر الصداقة؛ ثم سارت إلى تدمر حيث أعلنت نفسها ملكة على بعض قبائل البدو، وحصنت قصرها في جبل الياس، والتف حولها كثير من الدروز والنيصرية؛ ولما غزا إبراهيم الشام احترم قصرها ولم يهاجمها، وبلغ حب بعض السوريين لها أن كانوا يعتبرونها شبه قديسة، بل إن بعض الدروز اليوم يضعونها بين آلهتهم

ص: 68

وتوفيت تلك المرأة العجيبة في يونيه سنة 1839، ودفنت هناك في روضة بديعة

هذا ملخص الحياة المدهشة التي خاضت غمارها اللايدي هستر ستانهوب، والتي تصفها لنا المس هاسلب في كتابها وصفاً بديعاً شائقاً

وتختتم المؤلفة كتابها بوصف بطلتها بأنها كانت (خاتمة ذوي الشذوذ والأطوار الغريبة في القرن الثامن عشر، وأول الممهدين للحياة الجديدة في القرن التاسع عشر)

العلم والدين

يقول الأستاذ هكسلي في فصل نشره في إحدى المجلات الكبرى إن أصحاب النظريات العقلية في القرن التاسع عشر كانوا على يقين من أن ما يسمونه (النزاع بين العلم والدين) سينتهي حتماً بهزيمة الدين، ولكن تأريخ العصر الحديث أثبت أن هذه النظرية لا أساس لها. ذلك أن العلم لم يهدم الدين، ولكنه نقله فقط من ميدان إلى آخر؛ وقد كان من أخطاء أجدادنا أنهم كانوا يتصورون العلم والدين عدوين يحارب أحدهما الآخر، وأن العلم أمضى أسلحة من الدين، وأنه سيودي غير بعيد بالدين حتى يغدو جثة لا روح فيها؛ وتلك صورة خاطئة. فالعلم والدين ليسا عدوين، ولكنهما قوتان عظيمتان من قوى الطبيعة

إن الإنسان يفكر والله يدبر؛ ولكن المصلحين لم يظفروا بتحقيق المهمة التي رمزوا إلى تحقيقها، وهي القضاء على الأوهام والخرافات التقليدية التي تدخل الدين بغير حق. وقد أحرزوا في هذا السبيل نجاحا محدودا؛ ولكنهم هيئوا بجهودهم ميدانا لأنواع أخرى من العادات والتعصب، ربما كانت أسوأ من الخرافات الأولى؛ فهنالك اليوم من ضروب العبادة القومية والتعصب القومي والجنسي ما لا يقاس في حدته وروعته بتلك العواطف الساذجة التي جهد المصلحون للقضاء عليها

الحفريات الأثرية في فلسطين

تعمل الآن في فلسطين عدة بعثات علمية في الحفريات الأثرية، بعضها يعني بالعصر اليهودي، وبعضها بالعصر الروماني، والبعض الآخر بعصر المسيح. وقد نشرت مجلة المباحث الأثرية الفلسطينية التي تصدرها مطبعة جامعة اكسفورد في عددها الأخير بيانات جامعة عن النتائج الأثرية التي انتهت إليها جهود هذه البعثات؛ ففي بيت لحم، عثر

ص: 69

المنقبون تحت كنيسة المهد على آثار كنيسة أخرى أقدم منها، ووجدت بعض آثار للفسيفساء القديمة تحت بلاط الكنيسة الحالية؛ ووجدت أقسام الكنيسة القديمة واضحة، ولكن لم يبق منها سوى بعض جدران متهدمة؛ بيد أن ما وجد من البناء والفسيفساء يكفي لتكوين فكرة حسنة عن هندسة هذه الكنيسة القديمة وطرازها

وكشفت الحفريات في تل حسن بالقرب من أريحا عن كنيسة بيزنطية قديمة قد أزيلت تماماً، ولكن أمكن إعادة معالمها من آثار الفسيفساء التي وجدت؛ وقد كانت على ما يظهر من طراز البازيليكا القديمة، ذات فناء متوسط ورواقين في الجانبين، تفصلهما حنايا معقودة؛ وقد كانت الفسيفساء في حالة حسنة، وهي تشبه تلك التي وجدت تحت بلاط كنيسة المهد؛ ويرى المكتشفون أنها ربما كانت الكنيسة التي خصصت للعذراء مريم، وقام بإصلاحها الإمبراطور يوستنيان حسبما يذكر المؤرخ بروكوبيوس

ووجد هنا وهنالك كثير من الآنية الخزفية؛ وقد أثارت هذه الآنية بين العلماء المكتشفين كثيرا من الجدل، واعتقد بعضهم أنه ظفر من بينها بآنية ترجع إلى عصر حرب طراودة الشهيرة التي نظم عنها هوميروس إلياذته الخالدة

وتجري في نفس الوقت حفريات متعددة في جهة الناصرة، حيث يظن أن المسيح قضى حداثته وشبابه

الإسلام في المجر

يطوف السيد حسين حلمي مفتي بودابست ببلاد الهند لجمع تبرعات تساعد مسلمي المجر على تشييد مسجد ومدرسة لتعليم أولاد المسلمين. وقد نشرت مجلة (الإسلام) التي تصدر بالإنجليزية في سنغافورة حديثا مع الأستاذ راسوليفتس محمد بك سكرتير الجمعية الإسلامية ببودابست عن حالة المسلمين في المجر، فكان مما ذكره أن عدد المسلمين يبلغ الآن زهاء ثلاثة آلاف نسمة ومن المحزن أن حالتهم الاجتماعية في تدهور رغم أن البرلمان المجري اعترف في عام 1916 بالإسلام كدين من أديان الدولة، وأكثر المسلمين في حالة فقر مدقع، وهم في حاجة ماسة إلى عطف العالم الإسلامي واهتمامه بهم. فأولادهم يضطرون إلى التعلم في مدارس المسيحيين والتزوج من بناتهم. ولا يوجد في كافة بلاد المجر مسجد لإقامة الصلاة مع العلم أنه كان في بودابست وحدها 40 مسجدا أيام الدولة العثمانية

ص: 70

وتوجد اليوم في بودابست جمعية إسلامية تأسست في عام 1916 باسم (جمعية جول بابا) وقد جعلت مهمتها السعي في بناء مسجد ببودابست ومدرسة لتعليم أولاد المسلمين وتثقيفهم في أصول دينهم، وقد منحتها الحكومة قطعة أرض لتشييد المسجد، لكنها لا تجد المال الكافي للبناء، ومن المؤسف حقاً أن المسلمين يجتمعون لصلاة الجمعة في بهو فندق يستأجرونه خصيصاً لهذه الغاية. أما في الأعياد والمواسم فهم يجتمعون في ضريح ولي مسلم مدفون بأطراف بودابست واسمه (جول بابا)

معهد فني للجنائيات

من أنباء السويد أن معهد الجنائيات الفني الملحق بجامعة ستوكهلم قد افتتح في بنائه الجديد المجهز بأحدث الوسائل والمخترعات الفنية؛ ويقال إنه الآن أحدث معهد جنائي من نوعه إذا استثنينا معهد البوليس البريطاني

وقد كان هذا المعهد حتى اليوم منقسما إلى عدة أقسام؛ ومع ذلك فقد كان يجذب إليه الطلبة والفنيين من كل صوب ليدرسوا في أقسامه المختلفة التي اشتهرت بدقة أبحاثها الفنية؛ وكان يؤمه بالأخص رجال البوليس من السويد والنرويج والدنماركة وفلندة وكذلك بعض رجال البوليس الإنكليزي (اسكتلنديارد) لينتفعوا بتجاربه ومعلوماته

ويدرس الآن في هذا المعهد عدد كبير من المحاميين لدى المحاكم الجنائية وضباط البوليس، وفيه عدا ذلك نحو أربعمائة طالب يدرسون في أقسامه المختلفة طرق مكافحة الجرائم واستكشافها

كشف طبي خطير في علاج البلهارسيا

الدكتور محمد خليل عبد الخالق بك أستاذ علم الطفيليات بكلية الطب، ومدير معهد الأبحاث بوزارة الصحة، قد عرف بأبحاثه واكتشافاته الطبية العديدة، وامتد الاعتراف بكفاءته إلى الدوائر العلمية الأجنبية، فسجلت اسمه في قائمة العلماء الباحثين

وقد حدث منذ شهرين أن وفد على معهد الأبحاث طفل في التاسعة من عمره مريض بالبلهارسيا، وقام المعهد بعلاجه عن طريق الحقن بمركبات الأنتيمون، وهي الطريقة المتبعة في مثل هذه الحالات، ولكن الطفل عقب تناوله الحقنة الثامنة توفي بغتة، واتضح

ص: 71

من تقرير الطبيب الشرعي أن حقن الطفل تم على حسب الأصول الفنية

ولقد شغل هذا الحادث ذهن الدكتور خليل بك، وما زال به اهتمامه وتفكيره حتى اهتدى إلى كشف السر فيه وفي أمثاله من الحوادث، فدعا جمهرة من الأطباء إلى قاعة المحاضرات بكلية الطب لشرح كشفه والمناقشة فيه

وقد انعقد الإجماع على أن هذا الاكتشاف قد وضع أساساً جديداً لعلاج البلهارسيا، وسيكون من أثره:

أولاً - إنقاذ حياة ألفي مصاب بالبلهارسيا يموتون فجأة في كل عام، وقد كانت وفاتهم مبعث حيرة كبيرة بين الأطباء المعالجين والأطباء الشرعيين

ثانياً - ضمان الشفاء لعشرات الآلاف الذين كانوا فيما مضى لا يتمتعون به كلاماً حاسماً في أوجز وقت وبأقل تكاليف

ويقدر عدد المصابين بالبلهارسيا في ريف مصر وصعيدها بعشرة ملايين يتقدم منهم للعلاج سنوياً زهاء مليون ويموت منهم فجأة ألفان تقريباً، ولم يكن في مقدور العلم أن يتكهن بتلك الوفيات الفجائية التي أشرنا إليها، ولا كان في مقدوره ضمان القضاء على الداء الوبيل قضاء مبرماً. أما اليوم فقد توصل الدكتور خليل بك إلى اكتشاف طريقة بسيطة كيميائية تمكن الممرض أو مساعد الطبيب أن يجربها؛ وهي طريقة يعرف بها على وجه التحقيق المسائل الآتية:

1 -

هل يفرز المريض أكثر الدواء الذي يعطى له، ولا يمكث في جسمه إلا قليل منه لا يكفي لقتل الديدان المسببة للبلهارسيا، وعلى ذلك يصعب شفاؤه بالجرعة المعتادة؟

2 -

هل المريض لا يفرز الدواء مطلقاً، أو يفرزه بمقادير ضئيلة، وعلى ذلك يتراكم في جسمه ويسممه، فيموت فجأة إذا بذل أقل مجهود عضلي؟

3 -

هل المريض يفرز الدواء بمقادير عادية، وعلى ذلك يشفى؟ والأكثرية من المرضى من هذا القبيل

وقد أثبت ذلك الاكتشاف أن تقدير الجرعات في علاج البلهارسيا بمركبات الأنتيمون ومنها الفؤادين كان أساسه خاطئاً إذ أن الجرعة كانت تقدر حسب السن أو وزن الجسم من غير مراعاة لتفاوت الأشخاص في سرعة إفراز الدواء ومقدار هذا الإفراز. وليس مجهولاً أن

ص: 72

القيمة الشفائية الفعلية لمثل هذه العقاقير لا تتوقف على مقدار ما يدخل الجسم منها فقط، بل تتوقف أيضاً على ما يمكث منها فيه؛ ومن الطبيعي أنه إذا تفاوت الأشخاص في إفراز هذه العقاقير اختلف تأثيرها تبعاً لذلك، وهذا ما أثبته الدكتور خليل بك بتجارب كيميائية أجريت أمام الجمعية الطبية المصرية

ويتلخص الكشف الذي اهتدى إليه الدكتور لتعيين نسبة الإفراز في كل جسم في أخذ تفسرة من بول المريض قبل الحقن لتعرف هل يحتوي البول على مادة مماثلة للمادة التي سيحقن بها أولا؛ ثم يحقن المريض وتؤخذ تفسرة أخرى من بوله بعد نصف ساعة تقدر بخمسة سنتيمترات، ويضاف إليها مثلها من محلول كيميائي مركب من كلور الحديد يضاف إليه نشادر قوي مطهر. فإذا كان في البول إفراز من المادة المحقون بها احمر لونه، وإذا لم يكن هناك إفراز ظل اللون على حاله الطبيعية، ثم تؤخذ تفسرة أخرى بعد ثلاث ساعات وتكرر معها التجربة ذاتها

ص: 73

‌منْ هنا ومنْ هناك

من العلم إلى الأدب

كثير من العلماء هجروا العلم إلى الأدب ولم يستطيعوا الجمع بينهما كما فعل ابن سينا مثلاً حين جمع الأدب إلى الطب والحكمة أو كما فعل الكندي والبيروني

والعصور الحديثة ملأى بأمثلة ذلك

فذلك إبسن الكاتب النرويجي العظيم (1828 - 1906) وواضع الدعامة الأولى للأدب المسرحي الحديث قد نشأ ليكون أول أمره كيميائياً، ولكنه وجد هواه في كتابة الدرامة، فصبأ من الكيمياء إلى الأدب. . . وفرغ له وبرع فيه

وجوته أيضاً كاد يكون عالماً يبحث في الألوان ويضع الأصول للرسم والنحت ويؤلف في الأزهار وفلاحة البساتين، فلما تفتح قلبه للحب قذفت به حبيباته الثماني عشرة إلى الأدب فنبغ فيه نبوغاً يكفي لوصفه أن يقول فيه كارليل (إنه أعظم أدباء العالم) ولم يستثن حتى شاكسبير - وهذه مبالغة لا شك من صاحب كتاب الأبطال

والكاتب الإنجليزي الكبير هـ. ج. ولز هو الآخر، فلقد تعلم الكيمياء في صغره، ثم هجر المدرسة ليكون تاجراً، ولكنه أحس ميلاً ملحاً إلى التعليم، فصارع ظروف الدهر وتصاريفه وانتسب إلى جامعة لندن وكد وكدح حتى نال درجة في العلوم وعين بالفعل أستاذا لعلم الحياة (بيولوجيا) ولبث في منصبه لمدة ثلاث سنوات، ثم شعر بشغف شديد إلى الصحافة، فاعتزل منصبه واحترفها، ثم أيقن أن الله خلقه ليكون أديباً فهجر الصحافة واحترف الأدب، فها هو اليوم أكبر كاتب اجتماعي في العالم وكتبه تطبع بالملايين!!

وكذلك الكاتب الأرلندي المعروف جورج مور، فانه كرس حياته في فجر شبابه ليكون فناناً، وفتنه الرسم والتصوير، ونال فيهما أعلى الدرجات من جامعات لندن وباريس، ولكنه بعد ذلك كله شعر بسحر الأدب ينفث في قلبه، وذلك بتأثير إدمانه قراءة الأديب الفرنسي العظيم أميل زولا فشرع يكتب قصصه الخالدة التي ينهج فيها نهج أستاذه

جوركي وروسيا السوفيتية

اشتهر مكسيم جوركي في جميع أنحاء العالم بأنه أديب الصعاليك، وذلك لأنه يجيد الكتابة عن هذه الفئة إجادة لا يجاريه فيها أحد من الأدباء. وفي الحق أن جوركي يكتب عن الخدم

ص: 74

وأوشاب الناس وأبناء الشوارع كأنه واحد منهم، حيَ حياتهم وتخلق بأخلاقهم. وكان الأدب معواناً له على التغلغل في خبايا نفوسهم، فهو يصف لك خلجات العرابيد وقطاع الطرق والقتلة ومن إليهم، فتحس من وصفه أنك تجالسهم وتنغمس فيهم! وكل ذلك بأسلوب أخاذ وعبارة رشيقة، تذكر القارئ بمواطنه البائس دستوئفسكي

وقد كانت الحرب الكبرى وبالاً على جوركي، فلقد ذاق طوالها من ضروب الفاقة والعوز ما كان تصديقاً من الزمان الصارم على ما جاء في كتبه من وصف البؤس وذكر البائسين! ولما وضعت الحرب أوزارها، وقام في روسيا هذا النظام البلشفي العنيف اشتد الفتك بالناس هناك، وذاق الأهلون - ولا سيما الأدباء - ألواناً من الفاقة والعوز تنفطر من هولها القلوب! وذهب أديب إنجلترا الكبير هـ. ج. ولز ليجول جولة في هذه البلاد التاعسة، وحل ضيفاً على صديقه جوركي!!

وكانت حكومة الاتحاد السوفيتي قد أعدت له قصراً من أفخم قصورها لينزل فيه. . . ولكنه آثر القرب من جوركي إعزازاً للصداقة وإيثاراً للأخاء. . . فلما ذهب إلى منزله راعه هذا البؤس الذي خيم في منزل أكبر أدباء العالم، وهالة العوز الشديد الذي كان يعانيه صديقه. . . فما كان منه إلا أن تولى هو النفقة على المنزل طيلة وجوده فيه!

وكان جوركي يلبس أسمالاً لفتت أنظار ولز، فباسطه وسأله إن كان لديه ملابس؟ فتبسم جوركي وذكر أنه لا يملك غير البدلة الممزقة التي يرى! وكان معهما الكاتب الروسي الكبير (أمفيتياتروف) فانتهز هذه الفرصة السانحة وسأل ولز أن ينزل له عن (طقم) من ملابسه حين يعتزم العودة إلى إنجلترا! وقد فعل ولز، فانه أهدى أكثر ملابسه الخارجية إلى جوركي، وأكثر ملابسه الداخلية إلى (أمفيتياتروف)! ولم يفت ولز أن يذكر هذه الوقائع في كتابه عن هذه الرحلة:

ولقد شب جوركي مع البؤس في مهد واحد، فلقد ولد سنة 1868، ثم مات أبوه وهو يحبو على أربع، وكفلته أمه الفلاحة القروية، وعمل خادماً على ظهر سفينة من تلك السفن التي تمخر عباب الفلجا، ثم صار خبازاً فحمالاً فبائع تفاح! وبسم له الحظ فالتحق بوظيفة كتابية في مكتب محام. . . وبرم بالعمل ثمة فهرب إلى جنوب روسيا يذرع الرحب ويطوي الفيافي. . . ثم ظهرت مواهبه فجأة سنة 1892 حين شرع يكتب أول قصصه ويبعث بها

ص: 75

إلى المجلات

والعلاقة أكيدة موثقة بين الأدب الروسي والنظام البلشفي، وهو يكاد يكون في صميمه أدب الفقراء. . . ومن هنا اعتزاز حكومة السوفييت بجوركي وغمرها إياه بالهبات والأعطيات حتى لقد كادت حياة الترف تتخمه عن أعز ما هيأته له الحياة ألا وهو أدب الصعاليك!

والمدهش أن يرضى جوركي عن الطاغية ستالين، ويؤلف القصص تحبيذا لسياسته التي هي سياسة تخريب العالم. . . وهذا ما أفقده عطف أعضاء لجنة نوبل، فلم يحظ بجائزتها إلى الآن، مع أنه أحق بها ألف مرة من كثيرين من نكرات الأدباء والأديبات الذين نالوها

وسنفرد قصص جوركي بكلمة خاصة

أدب التراجم

من المؤلم جداً أن يكون التاريخ العربي مليئاً بهذا العدد الوافر من الفلاسفة والعلماء والأدباء ولا تروج كتب التراجم عنهم بيننا، أو لا نجد من أدبائنا من يترجم لواحد منهم مع أن أحدهم جدير بأكثر من كتاب يؤلف عنه

اقرأ هذه الأسماء: الكندي. ابن سينا. ابن رشد. البيروني. ابن منظور. القلقشندي. الأصمعي. ابن أبي أصيبعة. الجاحظ. النويري. . . . . الخ. أفنحن قوم يقدرون تراثهم؟ نحن لا ننكر أن غير واحد من أدبائنا طرق هذا الميدان البكر، ولكننا إذا استثنينا أبا العلاء والغزالي وبن خلدون ورسالات مقتضبة عن الكندي والبهاء زهير والليث بن سعد وجدنا أننا فقراء جداً إلى كتب التراجم

اللغة العربية منذ مائة عام

لما أنشأ المغفور له محمد علي الكبير دار صناعة الإسكندرية لصنع السفن الحربية لم يمض غير قليل حتى صار لمصر أسطول عظيم مرهوب الجانب. وكانت كلما أنزلت إحدى القطع من دار الصناعة إلى البحر أقيمت الحفلات وتبودلت الخطب على نحو ما يجري هذه الأيام في الممالك العظيمة مما نشاهد صوراً منه على الشاشة الفضية في دور السينما. والآن اسمع هذه الكلمات في وصف البارجة (الإسكندرية) عند نزولها إلى البحر: (الوقائع المصرية عدد 340 يناير سنة 1832)

ص: 76

(ان الغليون ذا الهيئة السنية، المجلي باسم الاسكندرية، تعريف انشاء آلاته البهية، وعمل أدواته الحربية، ووصف أبعاده الثلاثية، قد تقدم ذكره الشائع، واندرج في سلك السطور والوقائع. والمراد ذكره الآن قطع حبال تعلقاته من القطر البري، ليطير بأجنحة العنقاء في القطر البحري، وقد وافق هذا غرة شعبان المعظم في الساعة الرابعة من النهار، حيث تجلت مشاهد الأنوار. وكان ذلك بحضرة جميع الأمراء والعظماء، وزمرة الصلحاء والعلماء، وقناصل الدول المستأمنين، وقاطبة الأهلين، مع جملة أولادهم الكبار، وعيالهم الصغار، وكانوا لدى ساحة الترسانة الواسعة الأرجاء، منتشرين كنجوم السماء. وأما سعادة أفندينا ولي النعم فانه ركب الفلك بحرا، وهلم جرا، واستصحب بمعيته أحد رجال الدولة العلية. . . . . .)

ومسكينة اللغة العربية في (هلم جرا) التي حشرت هنا حشرا!

والآن، ما رأى الأستاذ الزيات في الطفرة التي طفرتها اللغة العربية في العشرين سنة الأخيرة؟ ألسنا قد شأونا عصر ابن المقفع وأحمد بن يوسف والهمذاني وعبد الحميد الكاتب؟

صمويل بطلر والأسرة الإنجليزية

كانت الأسرة الإنجليزية من قبل العصر الفكتوري إلى أواخر القرن التاسع تشتهر بجمودها وركودها وتقديسها لسلطة الأب تقديساً هو إلى الرجعية أقرب منه إلى الاحترام. فلم تكن لأحد في المنزل إرادة بجانب إرادته، وكانت الأم نفسها خادمة لا أكثر. . . تكدح طول يومها في المطبخ أو المغسل، أو تعد الحطب للمدفأ، وهي في كل ذلك لا تألو جهدا في تلقين الأطفال محبة الوالد، وكبت غرائزهم الثورية كلما بدرت منهم بوادر التململ أو التبرم بهذا التقديس الخانق لسلطة الأب. . . وكان أكبر العبء واقعاً على الفتاة. . فلم يكن يسمح لها بتعرف الحياة ولا تشمم نسيم الحرية المنعشة، وإذا تقدم أحد لخطبتها فما عليها إلا أن تنحني خاضعة لمشيئته

ولقد كان الأدب في العصر الفكتوري، برغم ما فيه من صور حلوة وطرف براقة يساعد على هذا الركود المنزلي، ويضاعف من سلطة الأب؛ ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد ظهر الكاتب النرويجي إبسن فجأة في الميدان؛ وإبسن هو أكبر نصير للمرأة في العصر الحديث؛ فقد ألف أكثر من عشرين درامة لنصرتها والإكبار من وظائفها المدنية التي تعدو

ص: 77

الطبخ والغسل والخياطة وتفريخ الأطفال. وقد تأثر الأدباء الإنجليز بإبسن النرويجي وأخذوا ينتهجون منهاجه. وكان الأديبان الكبيران جورج جسنج وصمويل بطلر في مقدمة المتأثرين به. فقد ألف الأول كتابه سنة 1891 وألف الثاني سنة 1903 على ضوء إبسن

وصمويل بطلر هو أستاذ الكاتب الكبير جورج برنردشو. وما يزال شو يفخر بهذه التلمذة إلى اليوم، بل ما يزال يتغنى بمبادئ أستاذه العظيم ويرددها في جميع قصصه. وأهم هذه المبادئ الثورة الصارمة على جمود الأسرة ومنح أعضائها - غير الأب - كل حرية العمل في الحياة؛ فللفتاة أن تتزوج بمن تحب وليس لأبيها أن يحول بينها وبين مثلها العليا، فإذا شاء أن يقسرها على شيء فلها أن تثور عليه وتضرب بإرادته عرض الأفق؛ وللولد كذلك أن يستقل بنفسه عن أبيه، ويعمل وحده، ويقوي شخصيته. وعلى العموم كان يرى وجوب التحلل من مبادئ الطهريين وإطلاق الحرية للفرد. وغلا بطلر في ثورته على الآباء فسب أباه وهجاه فأقذع، وكأنه بذلك أفسح الطريق للشبان فقلبوا الأسرة في إنجلترا رأساً على عقب!

ومع أن نظرية التطور التي بهرت العالم أجمع كانت في عنفوانها في القرن التاسع عشر فقد وقف بطلر في صف المعارضين لها؛ ولكنه لم يقف في صف المتدينين دفاعاً عن الدين، بل وقف يدفع إيمان داروين بهذه المادية البحتة التي يرد إليها كل ما يحدث في هذا العالم من خلق ورقي. وكان يغيظ بطلر ما كان يقول به داروين من تنازع البقاء وبقاء القوى المحتال، فكان بطلر نصيراً للروحيين من العلماء وفي مقدمتهم العالم الفرنسي الكبير هنري برغسون ألد أعداء داروين

صيفية الفلاح

أوشك العام المدرسي أن ينتهي، وسيتبطل التلاميذ أربعة أشهر حتى يعودوا إلى مدارسهم، فلو أنصفوا لصرفوها في تعليم الفلاحين مبادئ القراءة والكتابة. إن في مصر شعباً من الأميين لا يقل عن 85 % من مجموع سكانها، وليس في الدنيا عار أشد من الأمية في هذا العصر الذي نعيش فيه. فلو أن كل تلميذ مصري أخذ على عاتقه أن يعلم فلاحاً مصرياً أو فلاحين في الإجازة الصيفية القادمة لانخفضت نسبة الأمية في وطننا العزيز إلى 80 أو

ص: 78

75 % ونكون قد اقتدينا بالهند التي تحاول أن تصلح من شأن المنبوذين وتنتفع بالبقرة!! فهل يفعل التلاميذ؟

د. خ

ص: 79

‌الكتب

شهرزاد في اللغة الفرنسية

للأستاذ عبد الرحمن صدقي

نوهت (الرسالة) في عددها الماضي بصدور ترجمة فرنسية لرواية شهرزاد للأستاذ توفيق الحكيم. وهذه شهادة ناصعة على مبلغ ازدهار حركة التجديد في مصر وعلى المستقبل المنتظر للأدب المصري بين آداب الأمم

ولما كانت الترجمة مصدرة بكلمة ليست على طراز المقدمات المألوفة بل هي من قلم عضو المجمع الفرنسي المسيو جورج ليكونت تناول فيها الرواية بالتعقيب فأحسن جلاء فكرتها. فانه ليسرنا أن ننشر تعريب هذه المقدمة فيما يلي:

(شهرزاد! لا يتطلبن القارئ تحت هذا الاسم الحالم تلك المناظر المألوفة المعهودة في ألف ليلة وليلة، ولا أبهة الشرق كما أصطلح عليه العرف

طريق قفر. منزل منفرد في جنح الظلام. خيال مخدع الملكة مترائياً في حوض من المرمر: رمال الصحراء. وفي وسط هذه الرسوم الرصينة عن تعمد وقصد تتجلى المأساة الخالدة: مأساة النفس الإنسانية في كل زمان ومكان

هنا شهرزاد، مجردة من بريق عقودها ومن أبرادها المذهبة تتبدا لنا في جوهرها وكنه ذاتها. وما شأن اسمها وسماتها؟ فلتكن لها طلعة امرأة أو طلعة الحظ أو العلم أو المجد، فما هي بعد إلا الذروة اللامعة التي يتطلع إليها طماح الإنسان ويستنفد جهده نحوها؛ هي سراب بقيعة يهيج ظمأه ولا ينقع له غلة؛ هي الملتقى المحتوم يتوافى عنده أبداً تلهف الرجاء وخيبة الأمل على لقاء موجع ووفاء فاجع

(لقد استمتعت بكلِ شيء، وزهدت في كل شيء) بهذا يهتف شهريار. لم يفثأ غليله ولم تطب نفسه بما سفكه من دم العذارى والعبيد، وما ذاقه من سحر ألف ليلة وليلة من ليالي الحب والفتنة قضاها بين ذراعي شهرزاد. لقد استنزف كل شيء من حيث المتعة. والذي يضني نفسه الآن إنما هو ظمأ جديد:(إني براء من الآدمية. لا أريد أن أشعر. أريد أن أعرف)

ومنذ هذه الساعة تطمّ المأساة ويعبّ عبابها، وتنحصر وتستحكم حلقاتها، إلى أن يصبح

ص: 80

شهريار وشهرزاد وجهاً لوجه لا يمثلان غير الصراع المحتدم بين لهفة الإنسان وسر الأشياء المطويّ دونه

يسألها شهريار: (من أنت؟ هل تحسبينني أطيق طويلاً هذا الحجاب المسدل بيني وبينك؟)

فتغمغم شهرزاد كالمخاطبة نفسها بهذه الكلمات الخافية المشرقة: (وهل تحسبك - أيها الطفل - لو زال هذا الحجاب تطيق عشرتي لحظة؟)

وليس أصدق من قولها هذا. فان موضع العظمة في قلق الإنسان أنه قلق عضال لا دواء له؛ فضلاً عن أنه قد يكون ضرورياً للإنسان باعتباره مدعاة لاستمراره في البحث والطلب، وعلة لهذه الغريزة التي تحفز كل جيل - بالرغم من هزائمه - على أن يعهد للجيل اللاحق شعاره وهو الأمل

ولقد كان لا بد من شاعر ليقدم في هذا الحيز المحدود على إجمال لإحدى المأساتين العظيمتين للإنسانية؛ ولكنه كان لا بد من شاعر شرقي رقيق الحاشية دقيق الحس كالأستاذ توفيق الحكيم ليعالج صعوبة العمل بهذا الافتنان في التعابير المتراصفة النظم البارعة الوشى

ولا يسعنا أيضاً إلا الثناء الجميل على الأستاذين خضري وموريك بران؛ وكيف لا، وهما قد ترجما إلى اللغة الفرنسية المطبوعة على الوضوح والتعقل عن لغة أخرى جعلت قبل كل شيء للتعبير عن العطور والأشعار والأسرار

عبد الرحمن صدقي

ص: 81

‌في مدى استعمال حقوق الزوجية وما تتقيد به في

‌الشريعة الإسلامية والقانون المصري الحديث

تأليف الدكتور السعيد مصطفى السعيد

للأستاذ عبد المعتال الصعيدي

أهدى إلي صديقي الدكتور السعيد مصطفى السعيد وكيل النائب العمومي بنيابة الاستئناف كتابه القيم (في مدى استعمال حقوق الزوجية وما تتقيد به في الشريعة الإسلامية والقانون المصري الحديث) وهو رسالته التي نال بها عن جدارة إجازة الدكتوراه في القانون. وقد اقتضت هذه الرسالة منه أن يراجع في موضوعها كتب الفقه في مذاهب أهل السنة، وأهل الظاهر والشيعة، وكتب الأصول والتفسير وغيرها مما يتصل بموضوع رسالته، إلى مراجع أخرى باللغتين الفرنسية والإنجليزية

وهكذا دفع الدكتور السعيد بفكره المثقف بثقافته العصرية في متوننا الأزهرية وشروحها وحواشيها فخرج منها بتلك الدرة الغالية التي جمعت بين نبل القديم وجمال الحديث، في حسن اجتهاد، ودقة نظر، واستيعاب بحث، وتقليب للمسألة على كل وجوهها حتى يقتلها بحثاً من جميع نواحيها الشرعية والقانونية، وهذا إلى استيفاء ما يحب في حسن التأليف من انسجام العبارة ومتانة الأسلوب، وسلامة اللفظ، وحسن الترتيب والتقسيم

وإنها لقوة ذكاء عجيبة يكفي في تقديرها شهادة أستاذ الجليل الشيخ احمد إبراهيم وكيل كلية الحقوق فيما قدم به لرسالته، إذ يقول في ذلك:(وما أشد ما كان موفقاً لفهم نصوص الفقهاء في كتب جميع المذاهب المختلفة المطولة مع غرابة تعبيراتها عن أمثاله لعدم إلفه إياها)

ولم يتقيد المؤلف في رسالته بمذهب معين من المذاهب المتعددة في الشريعة الإسلامية، بل بحث موضوعه في المذاهب المختلفة بقدر ما وسعه جهده، على اعتبار أن هذه المذاهب وإن اختلف بعضها عن بعض في شيء من التفاصيل فأساسها واحد، وغايتها متفقة. وقد كان جهده في ذلك غاية الجهد، وما أظن أحداً يتصدى لموضوعه فيأتي بأوفى مما أتى به فيه، وإني لا أكاد أملك نفسي من السرور حين أجده تنتهي به دراسته لموضوعه إلى هذه الغاية التي لو عمل في سبيلها نظراؤه في كلية الحقوق لكان قضاء مستقل وقانون خاص

ص: 82

بنا نباهي به غيرنا من الشعوب. ولندع المؤلف يحدثنا عن هذه الغاية التي وصل إليها في دراسته، قال:(وقد تبين لنا أن تقييد الحقوق الفردية في الشريعة الإسلامية كان أوسع مجالا وأبلغ أثراً مما يحاول الفقه الحديث بنظرية سوء استعمال الحق، وإن هذه النظرية الناشئة لم تبلغ ما بلغته مثيلتها في الفقه الإسلامي منذ مئات السنين؛ وهذا طبيعي، فان النظرية التي تقرب أحكام القانون لقواعد الأخلاق - وكثيراً ما عمل فقهاء القانون الحديث على الفصل بينهما - يتسع لها المجال في تشريع أساسه الدين، وهو يأمر بالعمل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)

ثم قال: (ويجدر بنا أن نختم بحثنا بالإشارة إلى أننا أغنياء بفقهنا عن أن نستعين بغيره من مستحدثات القوانين. وإن الشريعة الإسلامية التي وسعت العالم الإسلامي في أزهى عصوره وقضت حاجة بلادنا من التشريع مئات السنين، لا تقصر عن أن تكون أصلح مصدر للمشروع يأخذ منه أحكام قانون مدني موحد)

وليعذرني القراء بعد هذا إذا أنا سلكت في كتابتي عن هذه الرسالة سبيل التقريظ، فان مؤلفها على ما بلغ فيها من البسط لم يدع فيها مجالاً للانتقاد ولا محلاً للمؤاخذة، اللهم إلا ما ذكره في صفحة - 146 - من انتقاد تفسير الأستاذ الإمام لقوله تعالى (فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة؛ ذلك أدنى ألا تعولوا) أي أقرب من عدم الجور والظلم، وقد جعل البعد من الجور سبباً في هذا التشريع، فانتقده المؤلف بأن تأويل آية التعدد يؤدي إلى اعتبار التعدد مباحا في الأصل، ويكون البعد من الجور قيداً لهذا الحق الأصيل، والقيد لا يكون سبباً في تشريع الحق الذي يتقيد به، فانه يمكن أن يحمل كلام الأستاذ الإمام على تشريع الاقتصار على واحدة عند خوف الجور، لا على تشريع التعدد الذي اعتبر البعد من الجور قيداً له

هذا وقد استفدت من قراءة هذه الرسالة أمراً أحب أن أنبه إخواننا الأزهريين إليه ليأخذوا له عدته، فقد رأيت بعد قراءة هذه الرسالة أنا سائرون إلى فتح باب الاجتهاد بخطى سريعة، وأن الأستاذ الجليل الشيخ أحمد إبراهيم إذا ظفر بعدد من التلاميذ النبهاء مثل ما ظفر بتلميذة النابه المجتهد صاحب هذه الرسالة، فانه سيسبقنا بتلاميذه إلى فتح هذا الباب المغلق. ولا يدري إلا الله ماذا يكون إذا تم فتح هذا الباب على يد غيرنا، فلنفكر ولنتدبر.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 83