الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 153
- بتاريخ: 08 - 06 - 1936
في النقد
إلى صديقي أحمد أمين
للدكتور طه حسين بك
أخي العزيز:
قرأت فصلك الأخير الذي تناولت فيه النقد فصورت ما رأيت من ضعفه، والتمست له العلل والأسباب. وما أكثر ما يمكن أن يتصل بيني وبينك من الجدل لو أنني وقفت عند هذه القضايا التي أرسلتها إرسالاً، وحكمت بها على النقد قبل عشرين سنة، وعلى الأدب الآن! ولكن الفصل فصل صيف، لا يسمح بالجدل الطويل والحوار المتصل، لأننا مشغولون عن هذا وذاك بما تعلم من أعمالنا اليومية الثقيلة التي يقتضيها آخر النشاط الدراسي وأول هذه الأيام التي يفرغ فيها كل منا لنفسه ودرسه وراحته وراحة من يتصلون به، فلن أجادلك في أكثر هذه القضايا التي لا أكاد أقبل رأيك فيها. ولو أني أرسلت نفسي على سجيتها لما جادلتك في شيء مما ألممت به في هذا الفصل، ولقرأته كما أقرأ كثيراً مما تكتب مستمعاً دائماً، عارفاً أحياناً، ومنكراً أحياناً، ومتحدثاً إليك بما أعرف من آرائك وما أنكر
نعم لو أني أرسلت نفسي على سجيتها لاكتفيت بما كان بينك وبيني من حديث أول أمس، ولكني مدفوع هذه المرة إلى أن أتجاوز السجية، وأخرج عن العادةالمألوفة، وأرد بعض الأمر إلى نصابه، لأنك تجاوزت فيه ما ينبغي من الأنصاف. وأنا أبرأ إليك من الغرور وأربأ بك عن الجور، وما أشك في أن أمثالي من الكتاب الذين عرضت بهم أو عرضت لهم في فصلك القيم يبرؤون إليك مثلي من الغرور ويربأون بك مثلي عن الجور، ويرون مثلي أنك عرضت لقضية النقد ولقضيتهم هم في النقد عرضاً سريعاً، حظ اللباقة فيه أعظم من حظ التثبت والتدبر والأناة
وأظنك قد عرفت الآن القضية التي أريد أن أجادلك فيها، والمذهب التي أود لو أصرفك عنه. فأنت ترى، أن جماعة النقاد الذين كانت إليهم قيادة الرأي الأدبي، أو قيادة الحياة العقلية منذ حين، قد اصطنعوا الشجاعة أول أمرهم، وآثروا الصراحة أو كانت الصراحة لهم خلقا، فكتبوا كما كانوا يرون، وأخذوا بحظوظهم الطبيعة من الحرية؛ لم يحفلوا
بالجمهور، ولم يخافوا الرأي العام، ولم يحسبوا لمقاومة المحافظين حساباً. ونشأ عن شجاعتهم تلك، وعن صراحتهم هذه، أن بعثوا في الحياة العقلية نشاطاً لم تألفه مصر، فكان الصراع العنيف بين القديم والجديد، وكان الخصام الشديد بين الحرية والرجعية، وألفت الكتب ونشرت المقالات وأذيعت الفصول، وأنتفع الأدب بهذا كله واستفاد النقد. وكل هذا صحيح عندي ولاشك فيه، ولكنك ترى بعد ذلك أن هؤلاء الكتاب قد أوذوا في مناصبهم وفي أنفسهم وفي سمعتهم وفي أرزاقهم، فلم يثبتوا للأذى، ولم يمضوا في المقاومة، ولم يعنهم اتباعهم وأولياؤهم على الثبات، وإنما عطفوا عليهم عطفاً أفلاطونياً لا يشبه ما يجده أمثالهم في أوربا من الأتباع والأولياء، فلانوا ودانوا وجاروا وداروا، وآثروا العافية ومضوا مع الجمهور إلى حيث أراد الجمهور، ونشأ الجيل الجديد فاقتدى بأخوته الكبار وسار سيرتهم، وأصبح النقد مصانعة ومتابعة وأصبح الأدب تملقا وتقليدا.
وهذا أيها الأخ العزيز هو الذي أخالفك فيه أشد الخلاف، وأنكره عليك أعظم الإنكار، يدفعني إلى ذلك أمران: أحدهما أن رأيك بعيد كل البعد عن أن يصور الحق؛ والثاني أن رأيك يمسني، وأؤكد لك أنه يحفظني كل الاحفاظ ويؤذيني كل الإيذاء؛ ولعله يحفظني ويؤذيني أكثر مما احفظني وآذاني كل ما لقيت من ألوان المشقة والإعنات. فهل من الحق أن هؤلاء الكتاب الذين تشير إليهم قد أدركهم الضعف والوهن، فمالأوا الجمهور، وصانعوا السلطان وآثروا العافية في أنفسهم وأموالهم ومناصبهم؟ ومتى كان هذا؟ أحين عصفت العواصف بمصر فأفسدت أمرها السياسي والعقلي وألغت نظامها الحر إلغاء، وفرضت عليها نظاماً أخر مصنوعاً ألغيت فيه كرامة الأفراد والجماعات وتجاوز العبث فيه بالحرية كل حد معقول؟ تعال أيها الأخ العزيز نبحث معاً عن هؤلاء الكتاب أين كانوا في ذلك الوقت؟ وماذا صنعوا؟ وإلى أي حد جاروا وداروا وآثروا العافية؟ لست في حاجة إلى أن أسميهم، فأنت تعرفهم كما يعرفهم الناس جميعاً. لم يكن لأكثرهم منصب في الدولة؛ ولعلي كنت من بينهم الوحيد الذي كان يشغل منصباً من المناصب، فلما عصفت العاصفة أقصيت عن هذا المنصب فأدركت الزملاء ووقفت معهم حيث كانوا يقفون، ومضينا جميعاً إلى حيث كان يجب أن نمضي، واحتملنا جميعاً ما كان ينبغي أن نحتمل من الأثقال. فكنا أيها الأخ العزيز ألسنة الساسة وسيوف القادة، والسفراء بينهم وبين الشعب. وكنا سياطاً في
أيدي الشعب يمزق بها جلود الظالمين تمزيقاً. وكنت ترى وكان غيرك يرى آثارنا في الظلم والظالمين، وبلاءنا في مقاومة العدوان والمعتدين، وحفاظنا لهذا الشعب الذي لم يكن له قوة إلا قوتنا يومئذ. وكنتم تعجبون منا بذلك وتحمدونه لنا وتؤيدوننا فيه. وكنتم تقومون على الشاطئ وتروننا ونحن نغالب الأمواج ونقاوم العواصف نظهر عليها حيناً وتظهر علينا أحياناً، فكان بعض الناس يصفق لنا إذا خلا إلى نفسه لا إذا رآه الناس، ويعطف علينا إذا لم يحس السلطان منه هذا العطف. ولست أزعم أني قد استأت بهذا الفضل، فقد كان نصيبي منه أقل من نصيب كثير من الزملاء. لم أدخل السجن وقد دخله منهم من دخله. أترى أن مواقفنا تلك كانت مواقف المنهزمين؟ أترى أنا شغلنا عن النقد الأدبي بأنفسنا وأموالنا وإيثار للعافية ومجاراتنا للسلطان؟ أم ترى أنا شغلنا عن النقد الأدبي بالدفاع عن قوم لم يكونوا يدافعون عن أنفسهم لأنهم لم يحسنوا هذا الدفاع أو لم يقدروا عليه أو لم يريدوا أن يتورطوا فيه؟ أليس أول ما يجب على المؤرخ الأدبي وعلى المؤرخ بوجه عام أن يكون منصفاً؟ أترى من الأنصاف أن تزعم أن الذين حفظوا للشعب المصري مظهر مقاومته للظلم وأدوا إليه رسالة ساسته وقادته، وأدوا إلى ساسته وقادته ما كان يضطرب في نفسه من الآمال والأماني، وما كان يثور في قلبه من العواطف، كانوا منهزمين يدارون ويجارون ويؤثرون العافية؟
مهلاً أيها الصديق فقد يفهم من الشعوب قصر الذاكرة، ولكنه لا يفهم من خاصة الناس وقادة الرأي وحفظة التأريخ. والغريب أن رأيك هذا في إخوانك الكتاب يظهر أنه قد أعجبك حتى ألهاك عن حقائق ما كان ينبغي أن تلهو عنها. فهؤلاء الكتاب المنهزمون في رأيك لم تشغلهم هذه السياسة العنيفة المنكرة عن الأدب ولا عن النقد؛ وإنك لتعلم أنهم جميعاً كانوا يخاصمون في السياسة وجه النهار ثم يفرغون لأدبهم آخره؛ وكلهم قد أنتج في الأدب أثناء المحنة، وفي الأدب الخالص الذي لا يتصل بالسياسة ولا يمت إليها بسبب؛ ومنهم من اتخذ السجن وسيلة إلى هذا الإنتاج؛ ومنهم من لم تصرفه ظلمة الحياة العامة وشدة الحياة الخاصة عن أن يجول في عالم الفن جولات ثم يعود منه ومعه زهرات في الشعر أو في النثر يهديها إليكم لتلهوا بها وتستمعوا بشذاها، وتستعينوا بذلك على المضي في أعمالكم الهادئة المطمئنة.
مهلاً أيها الصديق فقد يخيل إلي أن هؤلاء الكتاب أنفسهم لم يهملوا النقد نفسه في ذلك الوقت ولم يقصروا في العناية به؛ وإذا لم تكذبني الذاكرة فأنهم قد نقدوك أنت وتناولوا كتبك بما ينبغي لها من العناية والدرس؛ وإذا لم تكذبني الذاكرة فقد كانوا يفرضون على أنفسهم برغم السياسة وأثقالها وأهوالها، وبرغم الحياة الشاقة التي كانوا يحيونها، والتي عرفت منها شيئاً وغابت عنك منها أشياء؛ كانوا يفرضون على أنفسهم أن يقرءوا ما يظهر من الكتب والدواوين وأن يقولوا رأيهم فيه؛ كانوا يفرضون على أنفسهم صفحة أدبية في الأسبوع يفرغون لها اليوم أو أكثر من اليوم، ويعرضون فيها للنقد كما تحبه وترضاه، ولست أدري كيف نسيت أن المقالات التي كانوا يذيعونها في النقد أثناء هذه الأعوام الأخيرة، قد كانت تثير من الخصومات شيئاً كثيراً، منه ما يثور بينهم هم، ومنه ما يثور بينهم وبين الأدباء الناشئين. ولعلك لم تنس بعد أن خصومة ثارت بيني وبين هيكل حول ثورة الأدب، وأخرى بيني وبين العقاد حول اللاتينية والسكسونية، وثالثة بيني وبين العقاد حول ديوان من دواوينه. فأنت ترى أن إخوانك لم يقصروا ولم يفتروا، ولم يسالم بعضهم بعضا. ولم يأمن بعضهم شر بعض. ولعلك لم تنس أني قد اتخذت الراديو في بعض الأحيان وسيلة من وسائل النقد، فكنت اشتد حيناً على الكتاب الذين استمرت مريرتهم وتم لهم النضج، وأرق حيناً آخر للكتاب الذين لم تستقم لهم الأمور بعد؛ وأنا أفهم أن تطالبنا بالمزيد وألا تكتفي منا بما نعطي، فنحن نطالب أنفسنا بالمزيد ولا نكتفي من أنفسنا بما ننتج، ولكن هذا شيء ووصفنا بالمداراة والمجاراة وإيثار العافية شيء آخر.
وبعد فليس السبيل على الذين أدوا واجبهم الأدبي كما استطاعوا ومازالوا يؤدونه كما يستطيعون برغم ما يملأ حياتهم من الهموم وما يعترض طريقهم من الشوك، وإنما السبيل على الذين يتاح لهم الهدوء ويستمتعون بالبال الرخي والحياة المستقيمة المطمئنة ثم لا ينقدون لأنهم لا يقرءون، أو لا ينقدون لأنهم يقرءون ويشفقون إن أعلنوا آرائهم أن يتنكر لهم الناس وأن يسلقهم أصحاب الكتب بألسنة حداد.
إلى هؤلاء أيها الصديق تستطيع أن تسوق الحديث، وعلى هؤلاء أيها الصديق تستطيع أن تصب اللوم صباً.
وأخرى لا أريد أن أختم هذا الفصل قبل أن ألم بها إلماماً. فأنت تذكر قوماً قد استووا على
عروش الأدب وقد أمن بعضهم بعضاً وخافهم الناشئون، فأنت إذن تعيد الخصومة بين من يسمون الشيوخ ومن يسمون الشباب جذعه. وأظنك توافقني على أن التفكير في هذه الخصومة لا يخلو من بعض الحزن. فقوام هذه الخصومة فيما أعلم أن الأدباء الناشئين ضعاف أثِرُون عجلون، يخيل اليهم أن النقد يمحوهم من سجل الأدباء محواً، مع أن النقد يثبتهم فيه إثباتاً. يريدون أن يبلغوا بالجهد اليسير ما بلغه أسلافهم بالمطاولة والمحاولة واحتمال الأذى وكثرة القراءة والدرس، ويريدون أن يتم لهم ذلك ما بين طرفة عين وانتباهتها كما يقول القائل؛ وفيهم كبرياء لا تخلو من سخف، ومن سخف يذكر بأخلاق الأطفال؛ فهم إن كتبوا رأوا لأنفسهم العصمة، ولم ينتظروا من النقاد إلا ثناء وحمداً. فأن أدركهم بعض النقاد قالوا: حسد وتكبر واضطهاد وأثرة وتثبيط للهمم. وفيهم غرور يخيل إلى كل واحد منهم أنه ممتاز من أترابه جميعاً. ومهما أنس فلم أنسى كاتباً أضاع مودة وصداقة حباً وعطفاً لا لشيء إلا لأني جمعت بينه وبين كاتب من معاصريه في فصل واحد، وكان ينبغي أن يمتاز في رأيه، وإلا لأني دعوته إلى أن يستزيد من القراءة فعد هذا إسرافاً واعتداء.
أمام هذا الجيل الرخو من الأدباء الناشئين يضيق الناقد المخلص بالنقد ويزهد فيه ويصد عنه صدوداً في بعض الأحيان، ولكنه لا يلبث أن يرى حق الأدب عليه فيستقبل من أمره ما أستدبر، ويثني على قوم وهو يعلم أن ثناءه سيملؤهم غروراً وسيخرجهم على أطوارهم، ويعيب قوماً وهو يعلم أن عيبه إياهم سيدفعهم إلى اليأس إن كانوا أخياراً، وسيدفعهم إلى القحة إن كانوا أشراراً.
ونحن برغم هذا بل من أجل هذا نمضي في طريقنا لا نقف كما يظن بعض الناس، ولا نرجع كما تظن أنت أيها الصديق، لأنك في أكبر الظن قد لا تتابعنا أحياناً، وقد تطلب منا ما نطلب من أنفسنا وتحول ظروف حياتنا بيننا وبينه.
أما بعد، فأني أحب أن أؤكد لك أني أنا خاصة ما زلت عند رأيك القديم في، صريحاً إلى أقصى حدود الصراحة، جريئاً إلى أقصى حدود الجرأة، مستعداً في هذا العالم إلى أن استأنف ما فعلت منذ عشر سنين، وإلى أن أستأنف ما فعلت منذ أربع سنين. وإني لشديد الأسف أن كانت ثقة الأستاذ كراتشكوفسكي بي أقوى وأشد من ثقتك أنت، فأنه لم يتردد في
مقدمة ترجمته للأيام أن يتنبأ بأن ما عرض لي من الخطوب ليس كل شيء، وأنه ينتظر أن يعرض لي مثله، ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها فلا تتعجل، فمن يدري؟
وأنا أرجو بعد هذا كله أن تتلقى هذا الفصل بصدر رحب، فأني أهديه إليك تحية صديق يضمر لك اصدق الحب وأوفاه.
طه حسين
ذات الثوب الأرجواني
للأستاذ عبد القادر المازني
- 1 -
(ملاحظة - الكلام ليس شخصياً وأن كان بلسان المتكلم، وذات
الثوب المذكورة هنا لاوجود لها في الخيال)
لم يكن الأرجواني ثوبها الوحيد - وكيف يمكن أن يكون؟ - ولا كان كل ما تلبس حين تبرز، ولكنه كان أحلى ما تكتسي وأشبهه بخديها - في رأى العين، وفي إحساس القلب أيضا ً - وقد رأيتها في ثياب شتى وأردية متنوعة - في الشفوف والأفواف، وفي السبائب المضلعة، والمطارف المربعة، وفيما عليه من الخطوط كأفاويق السهم، ومن النقوش كهيئة الطير، ومن الصور كرسم العيون، وفي الأبيض والأخضر والأزرق، ولكنه لم يقع من نفس شيء من هذا كله كموقع هذا الثوب الأرجواني الذي لا نقش فيه ولا صور ولا ترابيع ولا تداوير ولا تضاليع ولا خطوط ولا وشي ولا نمنمة. ومن العسير أن يعلل المرء هذا الشعور بوقع ثوب معين؛ وأحسب أني لو قلت ما يجول في خاطري ساعة أراها بادية فيه - أو مجلوة على الأصح - لظنني القارئ عربيداً مستهتكا، وما أنا من هذا في قليل ولا كثير. وليصدق القارئ أو لا يصدق، فما يعنيني ماذا يظن بي. وقديماً قلت - أيام كنت أقول الشعر:
قد أفعل الشيء لا أبغي به أملا
…
ولا أبالي الورى ماذا يقولونا
هي ضميري - فأن أرضيته فعلى
…
رأي العباد سلام المستخفينا
ومازلت كما كنت يوم قلت هذا، بل لعلي أسرفت في قلة المبالاة، حتى صرت إلى الاستخفاف المطلق.
ولأرجع إلى ذات الثوب الأرجواني، فأنها أحق بالكلام وأولى به مني، وكم قلت لنفسي وأنا أراعيها: (بأي شيء يا ترى يمكن أن تتوسل إلى مثلها؟. . . لا أنت جميل ولا محتمل. . . ولا لك مال. . . ولا في رأسك هذا عقل. . . أو ليس لو كنت تعقل أما كنت حرياً بالانصراف عن هذا العبث؟. . . ماذا ترجو منها؟. . . إنها دونك سناً، وأنت دونها في كل
شيء. . . فلا خير فيك لها أو لمثلها)
ثم أعود فأقول لنفسي: (عن أي شيء تتكلم يا هذا؟. . . الجمال؟. . . سبحان الله العظيم! إن الجمال هو سلاح المرأة، فحظها منه ينبغي أن يكون موفوراً، وإلا زهد فيها الرجال، إذ كان لا مزية لها في غير ذلك. . . ولكن الرجل شيء آخر، وسلاحه في الحياة قوته وقدرته على الكفاح. . . لا هذه الأصباغ والألوان التي لا تلبث أن تحول. . فدع الجمال، فأنه شيء يطلب في المرأة ولا يطلب في الرجل. . . وماذا غيره؟. . . إنك غير محتمل؟؟. . لماذا بالله؟؟ لماذا تظلم نفسك وتبخسها هذا البخس؟. . ومع ذلك هذا شيء يترك لتقدير الغير ولا يجوز أن تكون أنت الحكم فيه. . . يعني ماذا؟. . . أتراني أهرب بهذه السفسطة من التقدير؟. . . لا. . . ولكن ينقصني أن أعرف الرجل الذي يستحيل أن يهتدي إلى امرأة تحبه، مهما بلغ من رأي الرجال فيه أو من سوء رأيه هو في نفسه. . . أو لم تسمع بالمثل القائل: (كل فوله لها كيال؟)، ألسنا نقول ذلك كلما رأينا رجلاً ثقيلاً تحبه امرأة جميلة كانت تستطيع أن تجد ألف عاشق لها غير هذا الجلف أو السمج، أو ما شئت غير ذلك من الأوصاف التي لا تهون على النفس؟ ومع ذلك هذه مبالغة، فما أنا بحيث أحتاج إلى التعزي بأن كل فولة لها كيال. . . أعوذ بالله. . . بقي المال والعقل. . . والكلام في هذا كلام فارغ. . . فليس من الضروري أن يكون المرء نداً لروتشيلد لكي تحبه المرأة مهما بلغ من جمالها. وليت من يدري بماذا فاز روتشيلد من حب الجميلات في حياته؟ ومتى كان المال يشتري الحب؟ كذلك ليس من الضروري أن يكون المرء سقراطا أو غيره من أصحاب العقول الضخمة ليكون محبوباً. . ومع ذلك سل سقراط عن تعذيب امرأته له، وتنغيصها حياته، وتسويدها عيشه!. . . ماذا ترى تفعة عقله وفلسفته؟. . . لا يا سيدي! الحب شيء لا ضابط له إلا تقدير المرأة للرجل الذي تحس بغريزتها أنه أصلح لها من سواه؛ وقد تكون مخطئة، ولكن هذا هو العامل الموجه لها في اختيارها. . . إذن هناك أمل؟. . . بالطبع!. . . ما هذه الحمارية!. . . إنها ولاشك عادة التفكير الطويل في كل أمر. . . وهي عادة تضعف الثقة بالنفس، وتفقدها الشجاعة اللازمة للأقدام)
ودارت في نفسي كلمة الأقدام بعد أن نطقت بها - في سري، وهل أنا مجنون لأتكلم بصوت عال يسمعه من في البيت فتكون النتيجة أن يخربوا بيتي؟ - فلم يسعني إلا أن
أسأل نفسي: (الأقدام على أي شيء؟. . هذه فتاة أراها - وتراني هي أيضاً فما يسعها إلا أن ترى، أعني تراني - ومن طول ما اعتدت أن أراها صرت أحس أنها أصبحت تشغل مكاناً في نفسي. . مغالطة!!. كأن كل الذنب في حبها أني رأيتها مراراً. . ولولا ذلك لما حفلت نفسي بها!؟! أهذا ما أريد أن أقوله أو أدعيه؟؟. لا يا سيدي!. . يحسن مادمت أناجي نفسي أن أكون صريحاً معها وإلا فما الفرق بين نجوى النفس ومحادثة الأغراب؟؟. وأعود إلى الأقدام. . وأسأل عن أي شيء؟. . على أي شيء؟؟ أو ليس الأمر بديهياً؟. تشير أليها. . تظهر لها هذا الحب. . كيف بالله تريد منها أن تعرف أنك تحبها وأنك تروم أن تبادلها هذا الحب؟! (تشم على ظهر يدها) كما يقول المثل العامي؟؟. حسن. . وصحيح هذا بلا شك، ولكن ألا يمكن أن تعرف من نظرة العين وحدها؟؟ بلى!. وإن للمرأة قدرة على الإحساس بشعور الرجال نحوها، ولو كان بينهم وبينها ألف سور وسور. . . ما هذه المبالغة؟. مبالغة؟! ألم أسأل امرأة هذا السؤال فكان جوابها أني أكون سائرة في الطريق فاشعر بنوع النظرة التي يرميني بها من يتفتق أن يكون سائراً خلفي؟. فإذا أسقطنا المبالغة من هذا الكلام كان مؤداه أن المرأة يسعها أن تدرك أتحبها أو لا تحبها من نظرة عينك؟. بل هذا يسع أي إنسان لا المرأة وحدها. . . ولكن إذا اكتفينا بالنظر ودلالته، فماذا يكون بعد ذلك؟! هل تروم منها أن تبدأك هي بالكلام وتقول لك: (يا سيدي أنك أعرف أنك تحبني فأنا أشكرك على تشريفي بهذا الحب الذي لا أستحقه، وأؤكد لك أني لست أهلاً لحب رجل عظيم مثلك؟ سبحان الله العظيم. . ما هذا البرود؟. إن الرجل حين يحب امرأة يكون معنى هذا أنه يريد أن يستولي عليها - هذا إذا كان رجلاً عادياً سليماً لا مريضاً - والرغبة في الاستيلاء تجعل من واجبه هو أن يسعى للتغلب على ما عسى أن يكون هناك من مقاومة، وليس ثم فرق بين غزو قلب وغزو مدينة؛ والحقيقة الجوهرية في كلتا الحالتين واحدة، وإن اختلفت المظاهر؛ وكما أن هناك مدناً لا يكاد الجيش يزحف عليها حتى تسرع إلى التسليم، كذلك تجد قلوباً لا تكاد العين تفوق إليها سهما حتى تذعن وتفتح بابه. غير أن هنالك قلوباً لا يسهل إخضاعها ولا بد من الكر عليها، وليست كل امرأة ككل امرأة، فالذي يجدي مع هذه لا يجدي مه تلك لتفاوت الأمزجة واختلاف الطباع؛ وما أظن صاحبتنا ذات الثوب الأرجواني بالعسيرة، وإن لي لمعواناً عليها من شبابها وغرارتها ومن حياة العزلة
والحرمان التي تحياها. والشباب هو زمن الفورة والاضطرام في العواطف، والحرمان والعزلة يجعلان العواطف الطبيعية أشد استعداداً للاضطرام السريع والتسعر لأقل اتصال. وهل طبيعي ألا تعرف الحياة فتاة في عنفوان صباها إلا من النافذة وإلا من كتاب - أو رواية - تقرأه وهي في الشرفة؟. ماذا تعرف عن هذه الحياة؟. وماذا خبرت من أحوال الناس وأساليبهم؟. كيف تستطيع أن تقاوم ما تهدد به؟ بل كيف تعرف أنها مهددة بشيء حتى تفكر في المقاومة؟؟ هذه هي في الشرفة واقفة تنظر من هذا الارتفاع الذي لا يمكن أن تستبين منه شيئاً. . . لماذا تلبس هذا الثوب الأرجواني الأنيق الذي يبدي للعين خطوط جسمها جميعاً وانحناءاته كلها ويجلو مفاتنها ولا يحجب شيئاً منها؟. . أليست تلبسه لتبدو فيه كأجمل ما تكون وفي أفتن صورة؟. . تعرض محاسنها هذا العرض البديع ولا تجد في مكانها العالي هذا من يقدرها!!. والناس لا يشعرون بالحرمان منها لأن غيرها في الدنيا كثيرات. . . ولكن هي. . . هي. . . أليس المعقول - وهي تنظر إلى الرائحين والرائحات والغادين والغاديات - أن تشعر شعوراً حاداً بما هو مكتوب عليها من الحرمان؟. . ومع هذا الشعور المستمر ماذا تقدر أن تكون النتيجة إذا أتفق أن اتصلت أسبابها أو هي اتصال بأسباب رجل يصفو بوده إليها وتأنس هي منه هذا الميل؟. يخفق قلبها على الرغم منها. . وتلفي نفسها معنية بهذا الرجل الذي يوليها العناية التي حرمتها في حياتها، ويظهر لها الحب الذي لا يستطيع أن يظهره لها أخوها أو أبوها لأنه من نوع آخر، ولا يغني عنه حب الأم والأخت ومن إليهما. . وتشغل خواطرها بالتفكير في هذا الإنسان لا يفتأ ينظر إليها وفي عينيه نور الحب. . . وقد يكون كاذباً أو مخادعاً، ولكنها لا تستطيع أن تعرف هذا لأنها غريرة لم تجرب الناس ولم تعرف الحياة إلا من نافذة بيتها. . . فتراها تبدو في حفل من الزينة - ولم تكن تعني بأمر زينتها كل هذه العناية - وتكون واقفة مع صاحبها لها تحدثها فتتحول عينها إليك وتخالسك النظر. . . ويكون الكلام عادياً جداً لا يستدعي كل هذه الحركة ولا يستوجب هذه الضحكات المتوالية التي يميل لها الجسم كل مميل. . . ولا تزال وهي تتكلم تهز رأسها وتسوي شعرها بيديها وتخرج وتدخل ولا شيء هنالك تدخل له، ولكنه الشعور المتقد القلق، والعواطف المشبوبة لأنها محبوسة تريد أن تنفجر من طوال الكبت. . . وهذا الدبوس التي تشيله وتحطه لم يكن قلقاً في موضعه من
شعرها ولكن نفسها هي القلقة، فيدها لا تهدأ ولا تسكن ولا تستطيع أن تكف عن الحركة. . . وهذا الثوب الجديد الذي لم يفصل والذي تنشره في الشرفة لزائرتها كان في وسعها أن تعرضه عليها في الغرفة ولكنها حركة عصبية تشي بالاضطراب النفسي. . . وهذا النبات الذي اتصل بعضه ببعض على جانب الشرفة والذي يحجب من فيها عن عيون الجيران هل تظنه أنه يحتاج إلى تسوية؟. لا. ولكن يدها مع ذلك لا تزال وأنت ناظر إليها تعبث بأوراقه النضيرة وقد تنظر إليك عن عرض وهي تفعل ذلك. . . ولا تحسب أنها تغازلك فما تفعل شيئاً من ذلك ولكنه لا يسعها إلا أن تنظر إليك خلسة من حين إلى حين، لأنه يسرها أن تراك ناظراً إليها وأن تعلم أنك مشغول بها حتى ولو أبدت الضجر من ذلك أحياناً. وإذا لم ينظر الرجل إلى المرأة فماذا يكون مصيرها؟. وماذا عسى أن تصنع بنفسها!. .
وهي تغيب عنك وتحتجب - يوماً كاملاً أو ساعات - لظنها أن احتجابها يسعر النار التي في صدرك ويرقى بألسنة اللهيب إلى السماء. وهي تقضي على نفسها بهذا الاحتجاب وخواطرها كلها معك وان كانت تكلم أمها وأخاها وأباها كأنما خلت بها الملهيات الحاضرة التافهة عن كل ذكر لك. وليست المرأة بشيء إذا لم تكن قادرة على هذه المخادعة البريئة. والشرفة الأخرى ليست في جانب غير هذا من البيت، بل الاثنتان على صف واحد، وليست إحداهما بأوسع أو آنق أو أحلى، ولكنها تنتقل من هذه إلى تلك لغير حكمة ظاهرة، إلا أنها تريد أن تفهمك أنها لا تحب أن تراها ولا ترتاح لطول تحديقك فيها. . وليس هذا بصحيح، ولكن المرأة هكذا أبدا. . . وتجلس في الشرفة على الكرسي وفي يدها الكتاب وتتعمد أن توليك ظهرها وأن تجعل وجهها إلى ناحية أخرى لتوهمك أنها غير راغبة فيما ترميها به من النظرات. . . ولا تقرأ شيئاً لأنها لا تقلب الصفحة إذ كان عقلها مشغولاً بك وهل لا تزال واقفاً؟. وهل تراك تنظر إلى غيرها؟. وهل أنت ضاحك أو عابس؟. وماذا كان وقع هذا الأعراض في نفسك؟. هل آلمك جداً؟. هل أغضبك؟. أو زادك تعلقاً بها وإقبالاً عليها؟. وتمد ساقها وتهزها لتلفت نظرك إلى جمالها. وتنهض واقفة وتنحني لتضع الكتاب على كرسي ثم تخرج من الشرفة - لا لحاجة - بل لتريك خط ظهرها وبراعته وفتنته. . . وترفع رأسها قليلاً - وعلى مهل - حتى تحاذي عينها حافة الشرفة لتنظر أباق
أنت أم مللت وذهبت؟؟. وتراك تتهيأ للخروج فتختفي وعينها عليك من وراء الأستار - وفي ظنها أنك لا تفطن إلى ذلك - فإذا انحدرت إلى الشارع برزت في الشرفة لتلقي عليك نظرة أخيرة. . . ويجيء الليل فتجلس في الظلام وأنت في النور لتراك ولا تراها. . وإذا جاء وقت النوم أغلقت باب الشرفة بعنف لا تدعو إليه أي ضرورة سوى أنها تريد أن تؤذنك بذلك.
هذه حياة المسكينة وهذا ما يحوجها إليه ما هي فيه من العزلة والحرمان الدائم. وأي قدرة لمثلها أو عسر يمكن أن يكون فيها الأعسر السجن. . . كان الله في عونها فأني أراني أعطف عليها وأرثي لها في محنتها هذه أكثر مما أراني أحبها. وسلام عليها.
إبراهيم عبد القادر المازني
المغالطة في الوسائل والغايات
للأستاذ عبد الرحمن شكري
كل إنسان ظالم في أمر واحد أو أكثر من أمور الحياة، فأن المرء قد تميل به رغائب نفسه وحاجاتها وشعورها حتى يحسب غايته الدنيئة، ومقصده الوضيع، ورغبته الخسيسة، غاية عالية، ومقصداً نبيلاً، ورغبة شريفة؛ وأساسها لو فطن له الغرور والإعجاب بالنفس، أو محاولة إخفاء نقائصها، أو محاولة كسب الجاه، أو المنفعة من حساب غيره، ومتى تهيأ له قبول الغاية الدنيئة، كأنها غاية نبيلة سهل عليه أن يغالط نفسه مغالطة أخرى فيزعم، أن الغاية النبيلة تزكي الواسطة الدنيئة.
ولا تجد بين الناس من لا يغالط هذه المغالطة أيضاً في أمر واحد أو أكثر من أمر واحد من أمور الحياة.
وهذه المغالطة مزدوجة تجعل المرء يزكى الواسطة الدنيئة بالغاية الدنيئة، لأنة أولاً غالط نفسه فحسب الغاية الدنيئة غير دنيئة، ثم غالط نفسه وحسب هذه الغاية تبرر الواسطة الدنيئة؛ وقد يغالط المرء نفسه مغالطة ثالثة، فيحسب الواسطة الدنيئة، نبيلة، وهذا من قبيل الاحتياط إذا لم يستطع أن يزكي عمله لدى الناس بمبدأ تبرير الواسطة بالغاية.
وهذه المغالطات الثلاث تصل بالمرء إلى حالة نفسية يرى فيها أنه يحاول بلوغ الغاية بالوسيلة النبيلة، وهو إنما يحاول بلوغ الغاية الدنيئة بالوسيلة الدنيئة. وقلما يفطن الناس إلى هذه المغالطات في أنفسهم، وقد يعمون عنها في نفوس معاشريهم، فالمرء قد يكون مدفوعاً في سلوكه بما ركب من طبائع الشر، أو لأنه يمني نفسه أن في قوله أو عمله منفعة لنفسه، أو لأنه يرى فيهما إعلاء لنفسه ولرغبته في الظهور بمظهر الغيرة على الخير والحق ومظهر كره الباطل والشر أو لسبب أخر من أسباب عديدة متنوعة، ولكنه لا يزال يروض نفسه حتى يصرفها عن الأسباب الحقيقة وحتى تعتقد نبل غايتها ومقصدها، وأن مطلبها الحق أو الفضيلة أو الخير أو الدين، وقلما تجد في الناس من يعجز عن أن يقنع نفسه أنه إنما يعادي أو يصادق من أجل هذه المطالب النبيلة الشريفة، فإذا اقتنعت سهل عليها أن تتخذ الوسائل الدنيئة لمحاربة من ترى في محاربته ظاهرة انتصار منها لهذه المطالب، فتتخذ من وسائلها النميمة والكذب واستثارة الأحقاد بالنميمة والغيبة والكذب، وكل
هذه وسائل دنيئة، وتحيل النفس على المبدأ المعروف الذي يقول أصحابه الغاية تبرر الواسطة، فتكون الثقة بالنفس قد خطت خطوتين في المغالطة والإيهام: الأولى تحويلها الغاية الدنيئة إلى غاية نبيلة، وهذه خطوة خطتها كي تخطو الخطوة الثانية، وهي اعتناق مذهب المبررين للواسطة بنبل الغاية، ولو أصبح هذا المذهب عقيدة عامة مقدسة لانهارت أركان الديانات وتفككت عن النفوس عرى الفضائل وانحلت قيودها وتسفلت النفوس، ولكن النفوس تأخذ بهذا المبدأ عملياً وفي خفية أو تبثه بطريق الإيحاء وهو من أسباب تحول النفوس عن الخير والفضيلة حتى على خفاء العمل به والاحتيال لتزكيته بوسائل النفوس الجشعة المتعطشة للمكاسب كما هي نفوس أكثر الناس في أحوال كثيرة
وأحسب أنه لولا المغالطة الأولى أي الوهم الذي يقلب الغاية الوضيعة ويجعلها غاية شريفة لما كثر أخذ الناس بالمبدأ الذي يبرر الواسطة بالغاية النبيلة، إذ أن تلك المغالطة الأولى هي الأساس الذي يبنى عليه هذا المبدأ في كثير من الأحوال والذي يبيح للناس كل وسائل الشر فيواقعونها وهم يحسبون أنهم على خير وإلى خير وفضل.
وإذا تتبعت غايات الناس في مساعيهم المختلفة وجدت أن كلاً منهم مهما سفلت غايته يزكيها ويرفع من شأنها ويلبسها لباس الفضيلة أمام نفسه وأمام الناس، وهو يفعل ذلك إذا كانت غايته وضيعة أكثر مما يفعل إذا كانت غايته رفيعة، لأن الغاية الرفيعة ليست في حاجة إلى كل هذا الجهد، وعلى قدر شعور المرء بحقارة غايته تكون رغبته في مغالطة نفسه، وعلى قدر تسفل تلك الغاية يكون غيظه وحنقه ممن يطلعه أو يطلع الناس على حقيقة غايته وأسبابه التي يخفيها. ومن العجيب أنه يحاول أن يستفيد أيضاً من هذا الغيظ الذي سببه الأنانية فيظهره بمظهر الغضب للحق أو الفضل أو الخير أو الدين ولا يزال بنفسه حتى يقنعها أن غيظها ليس غيظ الأناني المحنق الذي أطلع أو كاد أن يطلع أو يخشى أن يطلع الناس على دناءة غايته أو وسائله فيوهمهما أنه غيظ مقدس نبيل وغضب شريف، وهي إذا اقتنعت واعتقدت ذلك سهل عليها إقناع الناس بما اقتنعت به من باطل، وهنا منشأوهم كبير يقع فيه الناس، فأنهم إذا أبصروا إنساناً عظيم التأثير في الناس تعديهم شدة اعتقاده واقتناعه حكموا أنه على حق، ولا سيما إذا كان الحاكم هذا الحكم قليل الخبرة بالنفس الإنسانية، فإذا زادت خبرته بالنفس علم أن شدة اعتقاد الإنسان وعظم اعتناقه وما
ينشأ عنهما من عدوى تؤدي إلى شدة اعتقاد الناس وعظم اقتناعهم لا يدل على أن هذا الإنسان على حق فيما يعتقد وفيما أعدى الناس اقتناعه به، ولكنها سنة مألوفة لدى الباحث في النفس وهي أن الإحساس الشديد ينتقل كالعدوى لشدته وكذلك الاقتناع العظيم ينتقل من نفس إلى نفس كالعدوى لعظمه لا لصوابه، ولما كان الاقتناع المؤسس على الحقد أو الأنانية شديداً لأنه مؤسس على إحساس شديد وهو الحقد أو الأنانية، سهل انتقاله إلى نفوس الناس شأن كل اقتناع مؤسس على إحساس شيء شديد آخر، وأحسب أن الناس معذورون بعض العذر في هذه المغالطات النفسية وفي بعض هذا الغيظ والحنق إذا كشف كاشف عن تسفل غاياتهم أو وسائلهم لأنه إذا أتيح لأكثر الناس فهم حقارة غاياتهم ووسائلهم والتأثر بهذا الفهم والتألم من أجل تلك الحقارة ضاعت ثقتهم بأنفسهم وضاعت ثقة الناس بهم واعتراهم الضعف في معالجة أمور الحياة ومعالجة مطالبهم فيها ولا مراء أن بعض هذه النتائج محمود إذا بلغت بهم منزلة القصد والعدل والحق ولم تنحدر بهم إلى منزلة الضعف والعجز ولم تنل من عزائمهم كل منال، ولكن الناس يعرفون أن نفوسهم قلما تنتقل من إحساس إلى إحساس إلا من نقيض إلى نقيض مثل رقاص الساعة فمن فعل إلى رد فعل، ومن رأي إلى نقيضه ومن شعور إلى عكسه فتغيرهم النفسي يختلف عن تغير أمور الطبيعة. ومن أجل ذلك ترى أن الناس في حياتهم وتأريخهم يسبقون سنة التغير في الطبيعة فيحدث رد فعل ورجعة في أمورهم كي يرجعوا إلى ما يناسب تغير أمور الطبيعة، وهذا هو سبب كثرة ما يشاهد من فترات الرجعة ورد الفعل في تأريخ البشر وفي حياتهم.
وهذه الطفرة في إحساس النفس مشاهدة بصفة خاصة في العامة والصغار والجهلة والقليلي المدنية أكثر من مشاهدة الباحث لها في خاصة والكبار والمتعلمين والكثيري المدنية. ومن أجل تردد النفس بين الإحساس ونقيضه يخشى الناس على عزيمتهم في الحياة ويخشون النتائج التي يأتي بها إطلاعهم على حقيقة غاياتهم ووسائلهم ويخشون أن يعرفوا ضعتها بعد اعتقادهم نبلها فهذا أمر يفاجئهم مفاجأة قد تحدث هزة في النفس وهذه الخشية تزيد غيظهم وحنقهم فيدفعون بالغيظ ذعرهم من أن تنأى بهم ضعة غاياتهم عن عزائم النجاح ومساعيه، وهم يخشون الفشل والضيعة، وما قد يكون فيهما من الذل أو فقدان وسائل الحياة نفسها؛ ولا شيء يدعو إلى القسوة مثل ذعر المرء إذا خشي أن يفقد وسائل الحياة على اختلاف
منافعها بفقد اعتقاده نبل غايته ووسائله حتى ولو كان فقده وسائل الحياة من أجل ذلك بعيد الاحتمال.
ولكن كثيراً ما يحصن المرء ضعة غايته ووسائله بما يعتقد الناس فيه وما يعتقد هو في نفسه من الفضل والجاه والنبل والصدق، ولا تخلو نفس من شيء من هذه الصفات قل أو كثر، وكلما كثر نصيب المرء من هذه الصفات كثرة حصانة غاياته ووسائله، ومن أجل ذلك ترى الرجل الذي يعتقد الناس فيه هذه الصفات أقدر على مغالطة الناس ومغالطة نفسه فتسهل هذه المغالطة بما له عند نفسه وعند الناس من ثقة بنصيبه من هذه الصفات، وهذا الرجل أشد خطراً على الحق والخير وإذا غالط نفسه، أو غالط الناس لأنه يسهل تصديقه والاقتداء به ولا يحسب أحد أن له غاية حقيرة أو وسيلة دنيئة بجانب ما في نفسه من صفات الفضل والصدق والحق أو بجانب ما اكتسب من جاه وثقة
وكما أنه يسهل أن تحول الغاية الدنيئة غاية رفيعة نبيلة وأن تعتقد أن تلك الغاية التي صارت نبيلة في نظرها تبرر الواسطة الوضيعة يسهل أيضاً أن تستغني النفس عن الخطوة الثانية، وهي تبرير الواسطة الوضيعة أو تحويلها إلى واسطة نبيلة وإبرازها للناس كأنها واسطة شريفة سامية بدل تبريرها بالغاية والمقصد، وهذا من شدة احتياط النفس عند من قد يرفض ذلك التبرير ويأبى تلك التزكية، ونظرة من الباحث المتقصي وسائل الناس تدل على أنهم يتعامون عن ضعة وسائلهم ويغالون في إبرازها في حلة الوسائل السامية وإنما الخلاف بينهم في تزكية كل منهم وسائله واتهام وسائل غيره. وقد يعرض للباحث سؤالان هما هل يتاح للإنسان عصر يكثر فيه من بحث نفسه وتقصى حقائقها؟ وهل يرفع هذا التقصي من نفس الإنسان؟؟ أحسب أن هذا لا يكون مادام ذعره خشية فقدانه وسائل الحياة على اختلاف أنواعها واقعاً محذوراً.
عبد الرحمن شكري
المأساة الفلسطينية
لباحث دبلوماسي كبير
أجل لم تعد قضية فلسطين مسألة من مسائل الاستعمار والسياسة، ولكنها تغدو مأساة حقيقية.
مضت إلى اليوم عدة أسابيع، وفلسطين تجوز أحداثاً هائلة: أهوال الإضراب والمقاومة السلبية، وأهوال القوة الغاشمة تميل عليها وتنكل بها من كل صوب، وتحاول إخماد أصواتها وأنفاسها بكل وسيلة، وتعمل على تجريدها من كل وسائل الأعراب والمقاومة؛ والسياسة المتجنية تشهد آلام شعب بأسره هادئة جامدة، لا تحركها صرخات الألم، ولا إزهاق الأنفس وإهراق الدماء، بل تؤكد هادئة أنها لن تحاول بديلا لخطتها، وأنها ستمضي فيها إلى النهاية غير مكترثة بإرادة شعب وحقوقه، بل بحياته أو موته.
والواقع أن فلسطين اليوم تجوز صراع الحياة والموت؛ وهي تجوز هذا الصراع منذ تسعة عشر عاماً، أعني مذ قضت عليها السياسة الإنكليزية في سنة 1917، بأن تغدو وطناً قومياً لليهودية؛ ولكن خطر الصهيونية على كيان فلسطين لم يُبد في أعوامه الأولى كما يبدو اليوم؛ وكانت الأمة الفلسطينية مازالت في هذه الأعوام الأولى تهجس بشيء من الأمل، أما اليوم فأن الخطر الصهيوني يبدو في ذروة روعته، خطر فناء لا شك فيه؛ وتفقد الأمة الفلسطينية كل أمل في عدالة الاستعمار والعدالة الدولية، وتدفعها اليوم إلى الكفاح نزعة يأس عميق؛ وإذا بلغت الأمم حد اليأس، هانت عليها كل سبل الأقدام والتضحية.
وهذا ما يطبع كفاح الأمة الفلسطينية اليوم، فأنها تجوز غمار هذه الأحداث الهائلة التي نشهدها منذ أسابيع، مقدمة غير مكترثة لبذل النفس والمال، ونثابر على الكفاح بهمة الجلد المستميت.
أسفرت الحرب الكبرى عن وقوع فلسطين تحت نير استعمار مزدوج، فقد فرض عليها الانتداب البريطاني باسم عصبة الأمم، والانتداب هو حماية أجنبية صريحة؛ وقضت عليها السياسة البريطانية من جهة أخرى أن تكون وطناً قومياً لليهود، وأدمج هذا العهد الذي قطعته إنجلترا لليهودية في نص الانتداب الذي أقرته عصبة الأمم، وغدت فلسطين بذلك أرضاً بريطانية كما غدت ميداناً للاستعمار اليهودي الاقتصادي والاجتماعي
ومنذ سنة 1917 يتدفق سيل الهجرة اليهودية على فلسطين، يدعمها تدفق الأموال اليهودية، والنشاط اليهودي بسائر ألوانه ومناحيه؛ ولا تدخر السياسة البريطانية من جانبها وسعاً لرعاية هذا الوطن اليهودي الجديد، وتشجيع نمائه ورخائه، وتذليل كل صعب في سبيل الهجرة اليهودية، وتنظيم الاستعمار اليهودي للبلاد؛ وتفسح السلطة المنتدبة في ذلك مجالاً كبيراً لآراء الوكالة التنفيذية اليهودية، وهي الهيئة اليهودية الرسمية التي تقوم في فلسطين بجانب سلطات الانتداب طبقاً لصك الانتداب ذاته، وتتمتع بحق الاقتراح والمشورة في كل ما يتعلق بالوطن القومي اليهودي.
ومع أن اليهودية أقبلت من سائر أنحاء العالم على استعمار فلسطين بحماسة شديدة، وحملت إليها مئات الملايين، واشترت من أراضيها مساحات عظيمة، حولتها إلى مستعمرات يهودية، غنية ضخمة، وأنشأت مدينة يهودية عظيمة هي مدينة تل أبيب، وعملت على إحياء اللغة العبرية وجعلها لغة الوطن القومي الجديد، وأنشأت جامعة عبرية كبيرة لتعمل على إحياء التفكير اليهودي؛ مع ذلك كله كانت تشير اليهودية في أعوامها الأولى تسير إلى غايتها متعثرة، ويزعجها سخط العرب وتبرمهم؛ وكانت تخشى دائماً أن تميل السياسة البريطانية إلى إرضاء الأماني القومية العربية بوجه من الوجوه، خصوصاً وأن تصريح بلفور ذاته ينص على احترام حقوق الطوائف غير اليهودية، المدنية والدينية؛ بل لقد مر باليهودية قبل بضع أعوام فقط ساعات يأس حقيقي، وخيل لها غير مرة، أن حلم هرتسل في بعث الدولة اليهودية وإنشاء الوطن القومي اليهودي، سينهار في مهده؛ وكادت الحكومة البريطانية في سنة 1930 بعد أن تبينت عدالة المطالب العربية فيما يتعلق بوقف الهجرة اليهودية، ووقف بيع أراضي العرب، وهي مطالب عززها تقرير اللجنة الإنكليزية التي انتدبت لبحث هذه المسائل، تجنح إلى إرضاء بعض الأماني العربية، وصدرت في مجلس العموم البريطاني تصريحات رسمية في هذا الشأن؛ ولكن سرعان ما تغلب نفوذ اليهودية مرة أخرى، وسحبت الحكومة البريطانية تصريحاتها ووعودها للعرب، بتصريحات معارضة ألقتها تأييداً لوجهة النظر اليهودية وعهد بلفور.
وهكذا استطاعت اليهودية أن تخرج ظافرة من الأزمات والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كادت تزعزع إيمانها في حلمها وفي مثلها؛ وذهبت جهود العرب سدى، ولم
يظفروا رغم ثوراتهم واحتجاجاتهم المتكررة بحمل السياسة البريطانية على أن تحيد ذرة عن خطتها.
ثم لقيت الحركة الصهيونية ظرفاً جديداً لنشاطها واضطرامها؛ ذلك أن ألمانيا جاشت بالخصومة السامية عقب قيام النظام الهتلري، ونظمت الحكومة الهتلرية لسحق اليهود في ألمانيا مطاردة عنيفة رائعة، فتوجست اليهودية في أنحاء العالم شراً، وهتفت كلها بأخطار الخصومة السامية، وألفت الصهيونية الفرصة سانحة لتؤكد لأبناء جنسها كرة أخرى أن الوطن القومي اليهودي هو ملاذ اليهودية وعصمتها من تلك النزعات الخطرة؛ وهكذا تدفق سيل الهجرة اليهودية على فلسطين بعنف لم تعهده من قبل، وزاد عدد اليهود في فلسطين بسرعة حتى أنه بلغ الضعف تقريباً في نحو ثلاثة أعوام؛ ولبيان ذلك نقول أن اليهود بلغوا حتى سنة 1932 نحو ثلاثمائة ألف من مجموع سكان فلسطين وقدره مليون. وقد بلغوا في سنة 1936 حسب أخر إحصاء نحو خمسمائة ألف، وبلغ السكان العرب من مسلمين ونصارى نحو سبعمائة وخمسين ألفاً؛ وقد اجتمعت مرافق فلسطين الحيوية في الأعوام الأخيرة في يد اليهودية بسرعة، وأحرزت اليهودية بالشراء السخي معظم أراضي فلسطين الخصبة، وساعدتها السلطة المنتدبة على تحقيق سيطرتها الاقتصادية بجميع الوسائل التشريعية والإدارية، ومازالت هذه السيطرة تزداد توطداً وتمكيناً.
والآن وقد رأى العرب أن بلادهم التي استوطنوها منذ الأحقاب، وأراضيهم ومرافقهم الحيوية، وتراثهم الديني والاجتماعي، كل ذلك يسير سراعا إلى التلاشي والعدم، والدولة المنتدبة تؤازر اليهودية باستمرار على تمكين غزوها المروع؛ وخطر الفناء القومي يلوح في ثنية المستقبل، فهل نعجب إذا رأيناهم ينفجرون سخطاً ويؤثرون السقوط في ميدان الجهاد الشريف على ذلك الإعدام البطيء المنظم؟ وهل تعجب الحكومة البريطانية إذا كانت سياستها في فلسطين قد أدت إلى مثل هذا الانفجار الخطير، وهو الثالث من نوعه في نحو عشرة أعوام؟
إن مؤازرة السياسة البريطانية لليهودية وتعضيدها لإنشاء الوطن القومي يرجعان إلى اعتبارات واضحة معروفة؛ فالسياسة البريطانية تعرف مدى النفوذ اليهودي في عالم المال والسياسة، وقد حظيت بريطانيا في الحرب العظمى بمؤازرة اليهودية، ومازالت ترمي إلى
الاحتفاظ بهذه المؤازرة؛ وإنشاء الوطن القومي ضمان لاستمرار هذا التعاون بين السياسة البريطانية وبين اليهودية.
بيد أن هنالك اعتبارات أخرى يلوح لنا أن السياسة البريطانية لم تقدرها حق قدرها. ذلك أن فلسطين هي قطعة من العالم العربي تحوطها الأمم العربية من كل صوب، والأمة الفلسطينية هي عضو في جماعة الأمم الإسلامية الكبرى؛ وإنكلترا التي تسيطر على عشرات الملايين من المسلمين، في أفريقية واسيا يجب عليها أن تحسب حسابا لعواطف المسلمين ومشاعرهم؛ ومن المحقق أن العالم الإسلامي كله يعطف على فلسطين في محنتها وكفاحها كل العطف، ويأخذ على السياسة البريطانية مسلكها نحو فلسطين وأمانيها المشروعة، ومن المحقق أن إصرارها على هذا المسلك سيكون له أسوأ الأثر في العالم الإسلامي، وفي عواطف الشعوب الإسلامية نحو إنكلترا.
وعلى اليهودية ذاتها أن تفطن لهذا الاعتبار؛ فالوطن القومي اليهودي يقوم في قلب العالم العربي والإسلامي، متحديا عواطف العرب والمسلمين، وهم من حوله كالبحر الزاخر؛ ولتعلم اليهودية أن الحوادث قلب، وأن مصاير التأريخ ليست في يدها وأن هذا البحر قد يطغى يوماً فيغمر هذا الوطن القومي بما فيه ويصبح أثراً بعد عين.
والسياسة البريطانية لا يمكن أن يفوتها مثل هذا الاعتبار الخطير الذي تنوه به الصحف البريطانية؛ ولكن الظاهر أن عوامل أخرى على السياسة البريطانية تشددها نحو بحث المسألة الفلسطينية؛ فنحن نعرف أن السياسة البريطانية قد منيت بالفشل الذريع في محاولتها إحباط الغزوة الإيطالية للحبشة، وأن ظفر الاستعمار الفاشستي يثير اليوم في إنكلترا مخاوف خطيرة بالنسبة لمستقبل سيادتها في شرق أفريقية ووادي النيل، وكذلك بالنسبة لمواصلتها الإمبراطورية في البحر الأبيض المتوسط؛ وتخشى إنكلترا أن تساهلها نحو أماني فلسطين - وفلسطين تعتبر قاعدة حيوية في مواصلاتها الإمبراطورية - قد يحمل على نوع من الضعف والتسليم ويعرض هيبتها الاستعمارية للانتقاض. وقد رأينا المندوب السامي في فلسطين يرد على مطالبة العرب بوقف الهجرة الصهيونية بإصدار تصريح جديد بمهاجرة أربعة آلاف وخمسمائة عائلة يهودية، متجاهلاً بذلك أن طغيان الهجرة من أهم أسباب الثورة القائمة. هذا إلى أن نفوذ اليهودية في إنكلترا يعمل عمله؛ وقد
رأينا زعيم الصهيونية الدكتور ويزمان يسارع بالعودة إلى إنكلترا منذ بدء الثورة الفلسطينية؛ وقد كان لمساعي هذا الزعيم دائماً أثرها في موقف السياسة البريطانية نحو فلسطين ونحو رعاية الوطن القومي اليهودي.
على إن السياسة البريطانية لا يمكن أن تحتفظ طويلاً بهذا الموقف الشاذ؛ ففلسطين تقف اليوم موقف الحسم، وتصر على أن تبحث مطالبها وأمانيها بعين الإنصاف، ومن ورائها عطف الأمم العربية والإسلامية كلها؛ وإنكلترا تقدر بلا ريب مدى هذا العطف وآثاره؛ وبحث القضية الفلسطينية بروح الإنصاف لا يمكن أن يعتبر ضعفاً أو تسليماً كما يريد أن يفسره غلاة الاستعمار؛ أما الإصرار على تمكين اليهودية من أعناق فلسطين، ودفع الشعب الفلسطيني إلى منحدر التلاشي والفناء، والاكتفاء بإرسال لجان للتحقيق فسياسة خطرة؛ ولا ريب أنها تعرض مركز إنكلترا في الشرق الأدنى، وفي العالم الإسلامي كله لأشد الأخطار.
* * *
قصة المكروب
كيفية كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
الحصانة واليهودي الأفاق
- 1 -
ما أغرب هذا العلم علم المكروبات، وما أعجب ما كان من أمره في يوم وُلد!
بدأ هذا العلم رجلٌ قماش لم يُثقف ثقافة مذكورة، ومع ذلك كان أول راءٍ رأى المكروبات، ثم جاء كيميائي فأوجد للمكروبات مكانة ذات بال في خريطة الوجود، وأرعب الناس منها وأرعد. ثم تلاه طبيب قرية، فجعل من صيادة المكروب شيئاً منظماً قارب أن يكون علماً صحيحاً. وأراد فرنسي وألماني أٍن ينجوا بالأطفال من سم مكروب من أقتل المكروبات، فجزرا في سبيل ذلك أعدادا لا تحصى من الخنازير الغينية ومن الأرانب لو تراكمت لبلغت أكواماً كالجبال. إن تأريخ صيد المكروب تأريخ مليء بالخاطرات الجميلة، والإيحاءات النادرة؛ ولكن به كذلك كثير من الغباوات المدهشة، والمتناقضات المجنونة. ولا يختلف تأريخ علم المكروب في هذا عن تأريخ علم الحصانة وهو العلم الذي لا يزال ناشئاً، وبه تتفسر لنا مناعة الإنسان من المكروب، فالذي بدأ هذا العلم، على نحوٍ ما، هو رجل باحث كثير الاهتياج، قليل الاتزان، ذو جنة تعاوده كثيراً.
وكان هذا الرجل يهودياً يدعى إيلي متشينيكوف ولد في جنوب روسيا عام 1845، وقبل أن يبلغ العشرين قال لنفسه:(إني ذو غيرة وذو مقدرة، وقد حبتني الطبيعة مواهب راجحة، وأنا أطمع أن أكون بحاثاً كبيراً) وذهب هذا الشاب إلى جامعة خركوف واستعار من بعض أساتذته مجهراً، وكانت المجاهر عندئذ نادرة، وأخذ ينظر فيها نظرات لم تكن دائمة بينة واضحة، ومع هذا قام على أثرها فكتب مقالات علمية طويلة، وذلك قبل أن يعلم ما العلم وما كنهه وما جوهره، وغاب أشهراً عن فصول الجامعة وعن دروسها؛ ولم يكن للعب غاب ولكن للقراءة؛ ولم تكن قراءة القصص والنوادر، ولكن قراءة مؤلفات كبيرة في العلم مثل كتاب:(بلورات لأٍجسام زلالية) وغير ذلك كان يقرأ كتيبات ونشرات لو أطلع
عليها رجال الأمن لنفوه إلى مناجم سيبريا؛ وكان يسهر الليالي، ويكرع جالونات من الشاي، ويخطب رفقاءه، وهم أجدادُ بلا شفةِ اليوم، خطباً هائجة صاخبة جاحدة تنكر وجوه الله حتى لقبوه (لا إله) وجاءت ٍخاتمة السنة فقام إلى دروسه التي تراكمت في الأشهر السابقة فحفظها عن ظهر قلب؛ وكانت له ذاكرة أشبه شيء باسطوانات الفونوغرافات منها بالعقل الإنساني، فجاز الامتحان وظهرت النتيجة فكتب إلى أهله يقول لهم إنه نجح وكان أول الناجحين، وفوق ذلك نال وساماً من ذهب.
وكان متشينيكوف شديد العجلة في أمره نفسه، يود أن يسبق الزمن بها، ويحملها على أشياء قبل أن يأتي أوانها. بعث بالمقالات العلمية وهو لا يزال في عقده الثاني، وكان يكتبها في سرعة الهالع بعد ساعات قليلة من تحرير مجهره على بقة أو خنفساء، ويصبح الصباح فيعود إلى مجهره ليراها مرة أخرى، فإذا به يرى ما لم يكن يراه بالأمس فيسرع بالكتابة إلى رئيس تحرير المجلة يقول له:(أرجو أن لا تنشر مقالة الأمس، فقد وجدت نفسي مخطئاً. وأحياناً كان يرسل المقالة فلا تنشرها المجلة فيثور ويغضب ويصيح: (إن الدنيا تجهل قدري) ويذهب إلى غرفته يتأهب للموت وهو يصفر صفير اليائس الحزين: (لو كنت في صغر الحلزون، لطويت جسمي في صدفي).
بكى وناح لأن أساتذته والناس لم يقدروا مواهبه حق قدرها، ولكن لم يفت ذلك في عضده ولم يستطع أن يضعضع من أمله، فنسي ما كان انتواه من قتل نفسه، ونسى ما كان من ضيقه ووجع رأسه، أنساه إياه حبه المقيم لكل شيء حي. ولكنه أفسد على نفسه الفرصة كلما أمكنته من إجراء بحث علمي قيمٍ متواصل، ذلك بأنه كان دائما يشاجر أساتذته وينازع معلميه. وأخيراً كتب إلى أمه، وكانت تؤمن به وتعطف عليه وتفسده، فقال لها:(إن أكبر همي أجده في دراسة البروتوبلازم في دراسة مادة الجسم الحية. . . ولكن روسيا خالية من العلم والعلماء). وعلى هذا ذهب مسرعاً إلى جامعة فرتزبرج بألمانيا؛ فوجد أنه وصل قبل ابتداء العام الدراسي بستة أسابيع. فأخذ يبحث عن بعض الطلبة الروسيين فوجدهم، ولكنهم لم يرحبوا به لأنه كان يهودياً، فضاقت بنفسه مسالك الحياة، وعاد راجعاً إلى بلده وهو يعتزم الموت. وكان في حقيبته بضعة من الكتب التي أقتناها، وكان من بينها كتاب أصل الأجناس لصاحبه دارون، وكان قد خرج إلى السوق حديثاً، فقرأه، وفي
جرعة عقلية واحدة بلغ كل الذي فيه، وصار من أنصار نظرية النشوء الشديدين. ومن هذا الوقت دان بهذه النظرية إلى أن تهيأ له الوقت ليصطنع لنفسه من العلم ديانات جديدة يدين بها.
نسي ما أختطه لهلاك نفسه، وبدأ يخطط الخطط لأبحاث في هذه النظرية الجديدة، ورقد الليل ولكن لم ينمه لأنه أخذ يتخيل الخيالات عن ساحات واسعة قد امتلأت بطوائف الأجناس الحيوانية من الصرصور الصغير إلى الفيل الكبير، ثم تخيل إلى جانبها حيا بالغ الصغر هو جدها الكبير الأبعد.
وكان هذا الانقلاب بدء حياة متشينيكوف الحق، فأنه عندئذ خرج يحاج ويشاجر من معمل إلى معمل، ومن روسيا إلى ألمانيا إلى إيطاليا، ومن إيطاليا إلى جزائر هيليجو لاند وأدام هذا الشجار والحجاج عشر سنوات، واشتغل في بحث نشأة الديدان، وأتهم لوكارت عالم الحيوان العلامة بسرقة بضاعته؛ وكانت أصابعه لا تحسن العمل الدقيق، وكان لا يرجى لها أن تتعلم إحسانه، فذات مرة جاء بعظاية وضرب فيها بكلتا يديه ضربة المستقتل اليائس يريد أن يكشف في بطنها عن سر النشوء، فلما أعجزه أن يعلم منه شيئاً رمى بالذي تبقى من الزاحفة عبر المعمل. كان متشينيكوف على نقيض كوخ ولوفن هوك، فهذان الرجلان العظيمان عرفا كيف يتلطفان إلى الطبيعة فيسألانها عما يريدان وفازا منها بالجواب. أما صاحبنا فقرأ كتباً في نظرية النشوء، فألهمته وحمسته، فأمن بها.
وأعلن إيمانه مسموعاً عالياً، ثم جاء بعد ذلك يعالج التجارب لا ليمتحن بها عقيدته الجديدة، بل ليفرضها على الطبيعة فرضاً، وليدسها في حلقها لتبلعها اغتصاباً. ولكن العجيب أنه أصاب في هذا أحياناً، وعندئذ كانت إصابته ذات خطر كبير. ولم يكن عندئذ يعلم شيئاً عن المكروب، أعني في أخر العقد الثامن من القرن الماضي. ولكن إلحاحه كالمجنون في إثبات أن الأصلح هو الأبقى، وأن الفاسد للذهاب، هو الذي ساقه إلى تلك النظرية البديعة الخلابة نظرية الحصانة التي تصف كيف يصد الإنسان هجمات الفاتكات من المكروب، وهي نظرية صحيح بعضها برغم مظهرها الخيالي الذي لا يدعو إلى التطامن إليها
كانت السنوات الخمس والثلاثون الأولى من حياته كثيرة الاضطراب والصخب أشرف فيها على المهالك، ولكنه سار من طريقها المْخطر على جسر ضيق نفذ به في أخر الأمر إلى
الشهرة الواسعة التي كانت تنتظره على شواطئ صقلية في البحر الأبيض المتوسط. وتزوج قبل أن يبلغ الثالثة والعشرين لُدْميلا فودورفتشي وكانت مسلولة حتى كان لا بد من حملها في كرسّيها إلى حيث يعقد زواجها. وتبع هذا الزواج أربع سنوات مضت عليهما في أبأس حال وأكثرها استدراراً للرحمة، قضياها يجر بعضها بعضاً عبر أوربا يبحثان عسى أن يجدا لذات الصدر دواء. وفي أثناء ذلك، وفي أثناء تمريضه هذه الزوجة العليلة المسكينة تمريض عطوف حنان توتر عصبه وثقل قلبه كان يختطف سويعات يجري فيها تجارب يدرس بها تنشؤ بق النبات والاسفنجيات والدود والعقارب، يريد بذلك أن يقع على اكتشاف يهز الناس فتأتيه من ورائه أستاذية تدر عليه مالاً كثيراً. وهمس لنفسه وهو يكتب رسالاته العلمية، وهمس لها وهو يبعث بالرسل ويدفع بالوسائط ويختط الخطط ويحاور ويداور في طلب الوظيفة، قال:(إن البقاء ليس للأصلح؛ وليس هو للأكثر طيبة وخيراً، وإنما هو للأشد مكراً وللأنكى خبثاً وماتت لُدْميلا. وكانت قضت أيامها الأخيرة تتخلص من آلامها بالمرفين، فأقتبس زوجها عادة المرفين منها، ولما نفض تراب قبرها عن يديه قام عنه هائماً يضرب في الأرض، وأخترق إسبانيا متوجهاً إلى جنيفا وهو يزيد كل يوم مقدار العقار الذي يتعاطاه، وساءت عيناه أثناء ذلك وآلمته ألماً كبيراً. وما الباحث في الطبيعة إذا لم يكن له عينان تبصران؟ وصرخ: (ما الفائدة من هذا العيش!) وأخذ جرعة كبيرة من المرفين أيقن أنها لا بد قاتلته، ولكنها كانت أكبر مما تحملته المعدة فقاءها. وصرخ مرة أخرى:(ما نفع هذه الحياة!) وأستحم استحمامة ساخنة وخرج منها يتعرض عامداً إلى الهواء البارد الطلق عسى أن تصيبه من ذلك نيمونيا فتذهب بحياته، ولكن لم يظهر أن الآلهة الحكيمة المزاحة التي تقوم بتجهيز البحاث لهذا الكوكب شاءت له غير الذي شاءه لنفسه، أبقت عليه لحاجة في نفسها. وفي هذه الليلة عينها ساقته رجلاه إلى حيث أبصر طائفة من الحشرات كالغمام تدور وتحوم حول لهب مصباح. فأستوقفه هذا المنظر ووقف يتأمله بتعجب ظاهر وفم مفغور. صاح لنفسه:(إن هذه الحشرات لا تعيش إلا ساعات قليلة، فليت شعري كيف يستفاد بها لدرس نظرية بقاء الأصلح؟) وبهذا عاد فوصل من جديد تجاربه المقطوعة.
حزن متشينيكوف على زوجه حزناً شديداً ووجد عليها وجداً مبرحا، ولكن الأيام كانت
سريعة في شفاء الوجد ولأم الجرح العميق. وتعين أستاذاً في جامعة أودسا، وفي هذه الجامعة علم بقاء الأصلح، وفيها وضح علمه، وأرتفع قدره، وزاد في الناس إجلاله. ولم تمض سنتان على وفاة زوجته الأولى حتى التقى بفتاة في الخامسة عشرة، وفي وجهها بشاشة، وفي قلبها ذكاء. وكان اسمها أولجا، وكانت ابنة رجل ذي يسار، ونظرت أليه، فأسرت عينها إلى قلبها، قالت:(إن وجهه كوجه المسيح في قدسيته. لونه امتقاع، وعليه سحابة من كآبة). ولم يمض طويل من الزمن حتى تزوجها.
ومنذ هذا الزواج هدأت حياته كثيرا، وقلت نداءاته لعزرائيل كثيرا، وأخذت يداه تتعلمان أجراء التجارب لتلحق بعقله الذي نضج قبل أوانه، وأصبح العلم له ديناً، وتعلق به إيماناً؛ وأدخله في كل أمر من أمور عيشه في تحمس لم يسمع بمثله، وأخذ بيد أولجا يدخلها في هذا الدين علماً وفناً، وعلمها حتى علم الزواج وفنه! وعبدت فيه ذلك اليقين المغرق الذي أعطاه العلم إياه، ولو أنها قالت بعد ذلك بسنوات كثيرة: (إن الطريقة العلمية التي طبقها زوجي في غير هودة على كل شيء جاز ألا تخلق لنا إلا شراً في تلك الساعة المخطرة من حياتنا، والنفس دقيقة الحس في انتقالها من حال إلى حال.
(يتبع)
أحمد زكي
للتأريخ السياسي:
4 -
اليوم السابع من مارس
ضربة مسرحية في برلين
للدكتور يوسف هيكل
موقف دول لوكارنو وقرار مجلس العصبة
لنر الآن ماذا كان رد الفعل في عواصم دول لوكارنو، وموقف فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وإيطاليا إزاء حوادث 7 مارس والمذكرة الألمانية:
كان وقع قرار 7 مارس شديداً على باريس، ولقد أهاج الدوائر الرسمية والرأي العام، برغم أن هذه الحوادث كانت في الحسبان، وأول عمل احتياطي قامت به حكومة باريس هو إبقاء الجنود الذين كانوا على أهبة الذهاب إلى بيوتهم تحت السلاح إلى أجل غير مسمى، ثم إرسال جنود وقوى حربية لتحتل القلاع الواقعة على الحدود الألمانية.
وفي الساعة السابعة والنصف من مساء يوم الأحد الموافق 8 مارس ألقى مسيو سارو، رئيس الوزارة الفرنسية، خطاباً في الراديو على الشعب الفرنسي، عرض فيه العلاقات الفرنسية الألمانية منذ الحرب والجهود التي بذلتها فرنسا للتوفيق بين الجارتين. . . وقد صرح بأن الحكومة عازمة على المحافظة على معاهدة لوكارنو التي هي شرط أساسي لسلامة فرنسا. . وأنها ترفض منهاج الهر هتلر لسببين: أولهما أن ألمانيا قدمت مثلين في تمزيق المعاهدات بقرار منها وحدها خلال سنة واحدة، وهذا العمل المنافي للحقوق الدولية يدعو إلى نزع الثقة من المعاهدات المقبلة التي تعقد معها. والسبب الثاني وهو أشد فظاعة، كون ألمانيا قد أرسلت قوى عسكرية إلى أراضي الرين خلافاً لكل قانون دون أن تعلم الدول بعزمها قبل تنفيذه، ودون أن تفكر في المفاوضة مع دول لوكارنو للوصل إلى حل مرض، بل جابهت هذه الدول (بالأمر الواقع) في أبشع وأفظع صوره. وقال بأن فرنسا سترفع الدعوة إلى مجلس عصبة الأمم، وأنها ستضع قواها المعنوية والمادية تحت تصرف مؤسسة جنيف. . .
وفي يوم الثلاثاء الموافق 10 مارس ألقى مسيو سارو (رسالة) الحكومة في مجلس
النواب، ومسيو فلاندان في مجلس الشيوخ، وعرضت الحكومة فيها أعمال الحكومة النازية المخالفة للحقوق الدولية، وتمزيقها المعاهدات المقدسة. . . وأبان بأن عمل الهر هتلر لا يضع على بساط البحث مشكلة الرين، بل مسالة حرمة المعاهدات والعلاقات الدولية وكيان عصبة الأمم. وقال إنه إن أخذت كل أمة ترفض المعاهدات حسب إرادتها فلا سلام ولا حرمه للقانون، بل تحل محل الحق القوة المادية. . .
وفي هذا الخطاب هدأت حكومة باريس ثورتها، ولطفت رفضها البات في المفاوضات، وقالت إنها لا ترفض العمل لحل المشاكل الحالية ولتحسين العلاقات الفرنسية الألمانية، غير أن فرنسا لا تستطيع المفاوضة تحت ضغط القوة التي تمزق المعاهدات الموقع عليها عن طيب خاطر.
وأخذت الصحافة تندد بأعمال الهر هتلر وتبين الخطر الذي سيواجه أوربا نتيجة لعدم احترام المعاهدات. . . وتلوم بريطانيا لاتباعها اللين مع ألمانيا ولمسايرتها لها. . .
أما في لندن فقد أخبر مستر ايدن السفير الألماني عندما تسلم منه مذكرة بأن حكومة جلالته غير راضية عن انتهاك ألمانيا حرمة المعاهدات. وقال في خطابه الذي ألقاه في مجلس العموم في 9 مارس بعد أن أبان مخالفة عمل الهر هتلر للحقوق الدولية، والخطر الذي ينجم عن اتباع مثل هذه السياسة، إن عمل ألمانيا لا يعد تهديداً، غير أن الحكومة البريطانية تصرح بأنها ستكون في صف فرنسا وبلجيكا فيما إذا هاجمت ألمانيا إحداهما. . .
وغريب بأن يقول مستر ايدن بأن عمل ألمانيا لا يعد تهديدا، ومعاهدة فرساي صريحة العبارة في قولها (البند 44) بأنه في الحالة التي تخالف فيها ألمانيا مضمون البندين 42و43 (تعتبر قائمة بعمل عدائي نحو الدول الموقعة على هذه المعاهدة ومحاولة تعكير صفو السلام).
ولكي يثبت مستر بلدوين من أن الأزمة الحالية سوف لا تقود بريطانيا إلى تطبيق سياسة (العقوبات) الاقتصادية على ألمانيا أصر على أن يوافق اللورد هاليفاكس مستر ايدن في جميع اجتماعاته التي لها علاقة بحوادث الرين، واللورد هاليفكس صديق ألمانيا الحميم. . .
وكان وقع حوادث 7 مارس في الدوائر السياسية اللندنية نقيض ما كان عليه في باريس.
وإن كان ساسة لندن غير راضين عن الطريقة التي أتبعها هتلر في الوصول إلى احتلال أراضي الرين، غير انهم وافقوا ضمناً على نتيجة عمله، حتى أن بعضهم صرح بذلك، والبعض الآخر أخذ يقول بأن عمل هتلر ما هو إلا فرصة مناسبة لحل المشكلات الأوربية، وخصوصاً لإزالة كل خلاف بين ألمانيا وفرنسا! وكانت الصحافة وعلى رأسها (التيمس) تقول بهذا الرأي. ولا عجب في ذلك، إذ أن الرأي العام في بريطانيا ناقم على معاهدة لوكارنو، حتى أنها كانت سبباً في ضياع شهرة السير أستن شمبرلين، ولأن حكومة لندن تريد إنعاش ألمانيا وإدخالها ضمن حلقة دول ذات المكانة في السياسة الدولية، لكي تتخذ منها سنداً ضد فرنسا التي أخذت تعاكس بريطانيا ظاهرة في سياستها الخارجية، من جهة ثانية، ولقد رأينا الهر هتلر عرف كيف يستفيد من هذا الشعور البريطاني ويستغله.
وموقف بلجيكا يشابه موقف فرنسا: فالرأي في الدوائر السياسية والرأي العام ضد حوادث 7 مارس على خط مستقيم. لاسيما وأن بلجيكا لم تكن عضواً في المعاهدة الروسية الفرنسية، التي هي في رأي الهر هتلر، سبب زوال لوكارنو. . .
أما إيطاليا فلزمت الصمت، ولم تبد صحافتها رأياً في ذلك. على أن ممثل إيطاليا صرح بأن حكومته تحترم لوكارنو، غير ان ظروفها الحالية ترغمها على التحفظ. . .
رفعت فرنسا وبلجيكا وحدهما الدعوى إلى مجلس عصبة الأمم، في حين أن معاهدة لوكارنو توجب ذلك على جميع الموقعين عليها، إذ هي تعتبر احتلال أراضي الرين عملاً عدائياً نحو كل من المتعاهدين. . .
وكان مكان اجتماع مجلس العصبة عاصمة بريطانيا حسب اقتراح مستر إيدن. وعقدت الجلسة الأولى الساعة 11 من صباح يوم السبت التالي لحوادث 7 مارس، في قصر (سنت جيمس) وكانت سرية، وقال مستر إيدن في هذه الجلسة إنه يظهر له من المادة 17 من صك العصبة وجوب تمثيل ألمانيا في جلسات مجلس العصبة. وبعد جدال حول هذا التفسير للمادة 17 تقرر أن يرسل سكرتير مجلس العصبة برقية إلى الهر هتلر يقول فيها بأن (. . . مجلس العصبة يدعو حكومة ألمانيا بصفتها عضواً في معاهدة لوكارنو لتشترك في فحص مجلس العصبة للدعوى التي رفعتها حكومتا فرنسا وبلجيكا. . .)
ولقد ذهب مساء يوم السبت السير أريك فيبس، سفير بريطانيا في برلين لمقابلة بارون فون
نيرات وزير خارجية ألمانيا ليعلمه بأن بريطانيا تعلق أهمية كبرى على قبول ألمانيا دعوة مجلس العصبة. وفي صباح الأحد زار السير اريك فيبس (الزعيم) وأوقفه على رأي حكومة لندن.
وبعد أن استشار الهر هتلر مستشاريه أرسل إلى سكرتير العصبة يخبره بأن حكومة ألمانيا تقبل الدعوة مبدئياً على شرطين:
أولهما: أن يكون لممثل حكومة ألمانيا حق المساواة مع بقية ممثلي أعضاء المجلس في المرافعات وقرارات المجلس.
وثانيهما: أن تتسلم حكومة ألمانيا تأكيداً قطعياً بأن الدول المعنية - مستعدة للدخول حالا - في المفاوضة على (منهاج السلام الألماني)؛ الذي يعتبرونه (أي الدول) وإعادة السيادة الألمانية في أراضي الرين كخطوة سياسية متحدة، وجزأين متلازمين لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.
واعتبرت بريطانيا الشرط الأول معقولاً ومقبولاً. وأن عزم بريطانيا كان ولا يزال على أن تكون ألمانيا في لندن على قدم المساواة مع الدول الأخرى. وأما الشرط الثاني فقد أغضب الدوائر السياسية وأثار الصحافة على حكومة برلين، وكتبت مقالات رئيسية ناقشت فيها أعمال هتلر وجوابه الأخير، حتى أن لهجة (التيمس) كانت غير مألوفة. ومما قالته في عددها الصادر في 10 مارس إنه يجب التذكير وإعادة القول بأن عمل ألمانيا كان مهيناً في أسلوبه، و (إن دولة غير شريفة قادرة دائماً وأبداً على أعمال غير شريفة). . وأنه حجر عثرة محال قبوله، ولا يمكن لفرنسا احتماله
وفي الواقع لقد أثار جواب الهر هتلر الرأي العام الفرنسي وأخذت الصحافة تهاجمه مهاجمة عنيفة، واضعة اللوم كله على بريطانيا لمساعدتها ألمانيا وتشجيعها لها. ولقد صرح مسيو فلاندان لمراسلي الصحف بأنه يرفض طلب الهر هتلر لسبب واحد فقط: هو أنه قدم لندن ليسجل الاعتداء على لوكارنو؛ وهو لا يريد مناقشة أي شيء غير هذا، حتى وإن كلفه ذلك مغادرة لندن وترك مجلس العصبة.
ولما رأى الهر هتلر أن الرأي العام ناقم على جوابه، خشي خسران عطفه عليه، فعمل على تخفيف وقع جوابه، فأرسل إلى حكومة لندن يخبرها بأنه خطأ قد حصل في ترجمة جوابه؛
إذ أن المترجم قد ترجم كلمة بكلمة أي (حالا) في حين أنه يجب ترجمتها بعبارة أي (في أقرب وقت). . .
وتلي تلك الجلسة السرية أول جلسة علنية للدورة (91) غير العادية لمجلس العصبة الساعة 11 والدقيقة 45 من يوم السبت الموافق 14 مارس برياسة مستر بروس وجلس عن يمينه مسيو فلاندان وسنيور جراندي، وعن يساره مستر افينول ومستر إيدن، والرفيق ليتفينوف وكلونيك بك، وبقية الأعضاء على الجانبين.
وبعد أن قرأ الرئيس اللائحة التي قدمتها فرنسا وبلجيكا، قام مستر إيدن، ورحب بأعضاء المجلس بالنيابة عن الحكومة البريطانية وقال إنه يترك الكلام إلى ممثلي فرنسا وبلجيكا، وسيبدي وجهة نظر بريطانيا في وقت آخر.
ثم قام مسيو فلاندان وقرأ بيان فرنسا بصوت هادئ وجلي، وقال بان الواجب هو الذي دعا فرنسا إلى رفع الدعوى إلى مجلس العصبة لاحقها في ذلك، لأن فرنسا الحق في اتخاذ إجراءات مادية وعسكرية لإعادة كل شيء إلى ما كان عليه، غير أنها فضلت ألا تزيد في تعقيد المشكلة، بل تريد الوصول إلى حل سلمي ومرضي؛ وهي تثق في عدالة مجلس العصبة، وتطلب منه أن يضع قراراً مبينة فيه الإجراءات الفعالة التي يجب اتخاذها لوضع الحق في نصابه، وقال إن عمل ألمانيا يضع السلام وكيان عصبة الأمم في خطر عظيم. . . وأبان بأن معاهدة فرساي تعتبر احتلال أراضي الرين عملاً عدائياً، ومعاهدة لوكارنو تعتبره تعدياً على المعاهدة؛ وأن فرنسا تطلب تسجيل هذا التعدي في السجل الرسمي. . .
(يتبع)
يوسف هيكل
المتنبي يعشق.
. .!
للأستاذ محمد سعيد العريان
(كل أدباء العربية على أن المتنبي نشأ نشأة السواد من أهل الكوفة، وأن حياة الكفاح شغلته وملأت تأريخه حتى لم يكن فيها من الفراغ ما يهيئ له أن يتذوق الحب فيترجم عن إحساس العاشق.
(ولكن صديقنا الأستاذ محمود محمد شاكر يرى رأياً غير ذلك؛ فيزعم أن المتنبي علوي منكور النسب، وأنه كانت له في بلاط سيف الدولة قصة غرام بينه وبين خولة أخت الأمير، كان لها أثر أي أثر في شعره وحياته من بعد
(وهو رأي جديد في تأريخ المتنبي، أحسب أن طائفة كبيرة من أدبائنا لا تطمئن إليه ولا تأخذ به، حرصا على التقاليد. . . أو حفاظا على القديم وحسب. . .
(أما هذا الرأي عندي فهذه قصته، تجلو غامضة، وتؤلف غريبه، وتكشف عنه على ضوء من الفن يهيئ للباحث المصنف أن يجادل أو يقتنع. . .)
مضى الفتى العلوي الثائر المتوثب (أبو الطيب المتنبي)، تتقاذفه الفلوات من غربة إلى غربة، وتتراماه الأحداث من بلد إلى بلد، وتنوشه من كل جانب سهام البغي والشر والحسد، ويقعد له في كل مرصدٍ كيدٌ يتربص. . .
ممن أبوك يا فتى؟ وما بلدك؟. . . وهل له أن يجيب؟
أما الأولى فمن دونها سيوف (الأدعياء) تنكر عليه أن يجهر بعلويته، وماله قبلُ بأن ينازلهم فيثبت لهم. . .!
وأما الأخرى. . . وا أسفاه. . .! هذه جدته على الفراش تحتضر، وَحِدَةً منقطعة فريدة، فيأبون عليه أن يدخل (الكوفة) ليتزود منها بالنظر الأخير. . .!
لمن الملك اليوم؟ إنه للروم والترك والعجم، ولا سلطان لغير الروم والترك والعجم. . . في العراق، وفي مصر، وفيما بين العراق ومصر. . . في الشرق والغرب يبسط الأعاجم سلطانهم على الدولة العربية، فأيان يلتفت الشاعر العربي لا يجد إلا الروم. ومن أين لأبي الطيب أن يسكن إلى ذاك أو يستقر إليه؟ إنه ليرمي بصره إلى هنا وهناك، فلا يرى إلا ما يحزنه ويتهاوى بآماله؛ لقد خرج إلى الدنيا طريداً يتيماً، ينكرون عليه نسبه، وينكرون عليه
طموحه؛ ثم ها هو ذاك وقد سلخ أربعا وثلاثين يتلفت حواليه فما تزيده النظرة إلا شعورا بالوحدة واليتم والغربة. . . ولكن في أعراقه يفور دم العروبة، وفي أعصابه تنبض أماني الشباب، وفي نفسه تهمس ألحان الشعر.
(ستكون أميراً يا أبا الطيب، فأجمع عزيمتك على الجهاد حتى تبلغ، فتنال منالك من (الشامتين)، وتديل للعربية من (دولة الخدم). . .)
وأنطلق الشاعر المتوثب يطوي البيداء مطوياً على هم وألم، وفي نفسه أحقاد تثور، وأماني تتضطرع. . . حتى انتهى إلى بني حمدان.
هنا دولة العرب، وهنا عز العروبة، وهنا تستقر الأماني لتستجم للجهاد. وأجتمع الشاعر العربي الثائر، بالمجاهد العربي الظافر؛ وانعقدت أواصر الود بين أبي الطيب المتنبي وسيف الدولة بن حمدان. وآثره الأمير وأدناه وفتح له بابه. . . فإذا هو منه كبعض أهله. . . وتراءيا قلباً لقلب، فما بينهما سر ولا دونهما حجاب؛ وتكاشفا رأياً لرأي، فما هو إلا فكرة واحدة تسعى إلى هدف؛ وَتَنوَّرَا الأمل المشترك من بعيد، فإذا هما على الخلوة يتذاكران الرأي، ويتحايلان للظفر.
وصار شاعر الأمير صفيه وخليله وصاحب سره، يلقاه أيان يريد بلا إذن ولا ميعاد. . . وعرفه حاجب الأمير وأهله، وعرفته (خولة) بنت حمدان، فعرفت رجلها وعرف. . .
وقال أبو الطيب: (لله أنتِ يا أبنة المجد! لعينيك كنت أطوي البيد وتتقاذفني الفلوات!)
وقالت خولة: (ومن أجلك أنت يا أبا الطيب، كانت تخيل لي الأحلام ما ليس من دنياي!)
وطوت آخر كلماتها في ابتسامة، وأطبق الشاعر شفتيه على كلام؛ وقالت له عيناها. . . وقالت له عيناه. . .
ودخل الشاعر في تأريخ جديد. . .
وقال المتنبي لسيف الدولة: (أتراك يا أميري تعرف من أمري ما يقنعك بالرضا. . .؟) فوعده سيف الدولة أن يزوجه خولة. . .
وراح الشاعر يحلم. . . ثم عاد يحاول أن يلقى صاحبته فيقول لها وتقول له، ولكن الباب كان محكم الغلق؛ فلوى وجهه عن بابها وفي نفسه شوقٌ وحنين، ولكنه استمر يحلم. . .!
ومضى ينشد أميره من شعره. . . أذلك شعر المتنبي الثائر المتكبر ربيب الوحشة وطريد
الفلوات؟ أم هو الفن النسوي البديع يهيئ للشاعر مادته ويصنع له بيانه. . .؟ أسمعْتَ وسوسة القُبَل. . .؟
وسمع سيف الدولة وطرب، وسمع جلساؤه فعرفوا الجرس والرنين؛ وهمس شاعر في أذن صاحبه، ومال صديق على من يليه، وقال الخامس للسادس:(إن شاعر الأمير لعاشق!) وامتدت للكلام أطراف وأذناب. . .
وراح الشاعر ثانية يحاول أن يلقى صاحبته، فإذا من دون الباب بواب. . . وعاد إلى الأمير يستنجزه الوعد، فإذا الأمير في شغل عنه بالروم وحرب الروم، فهو يستمهله إلى حين. . . ورجع إلى نفسه يستلهمها الصبر فلا تلهمه، ويستعينها على ما يجد فلا تعينه. . . ونظر حواليه فإذا عيون تنظر، وإذا شفاه تبتسم، وإذا ألسنة في أفواه تلجلج بكلام. . .
كم يلقى العاشق من نأى الحبيب والدار قريب. . .؟
وقال الرجل لنفسه: (ما أنا والأمير وأخت الأمير: إن كانت لي فما يحول بيني وبينها؟ وإن كانت عدة بلا وفاء فما مُقامي؟)
وقالت له نفسه: (هون عليك يا صاحبي، لا حبٌ بلا وجد؛ إلا أن تكون نارٌ بلا إحراق!)
فعاد الشاعر ينتظر ويحلم، ولكن الأيام لا تنتظر، ومضى شهر في أذيال شهر، وتصرم عام وراء عام، والشاعر العاشق على صبره يرجو ويتقي. . .
وقال (أبو الفراس الحمداني) الشاعر لصاحبه: ما هذا الرجل بيني وبين خولة ونحن أولاد عمومة؟ أما كفاه مجلسه من الأمير؟ أبعدنا وأدناه، وحرمنا وأعطاه، وأسكتنا وأستمع أليه؟ أفيطمع بعد ذلك في نسب الأمير وصهره. . .؟)
وجاءت مقالته تسعى إلى المتنبي فنالت منه. . .!
(أبو فراس يطمع في خولة؟ ولكنها مسماةٌ علىّ؛ أيقف بين الأمير والوفاء بما وعد أن أبا فراس من عمومته. . .؟ ومن أكون إن كان ذلك موضعي من نفس الأمير. . .؟)
فعادت نفسه تقول: (بعض هذا يا صاحبي، إن الحب حيلة الحياة، فلست تبلغ منه بالكبرياء ما تبلغ منه بالصبر والحيلة. . .!)
ولكن العاشق المتكبر لم يستمع هذه المرة إلى نفسه وهواه؛ لقد غلبته الكبرياء فكفر بالحب؛ وهل كان للمتنبي أن يخضع للحب أو يتضرع. . .؟
وتوزعه العشق والكبرياء، وتقاسمته عزة الرجل ورقة العاشق. . . وغدا على مجلس الأمير ينشده، فإذا الحب المستور يستعلن، وإذا النفس الثائرة تفور، وإذا (أنت) على لسان الشاعر المادح تعود (أنا)، وإذا هو يفتخر وكان يريد أن يمدح. .
وفهم سيف الدولة ما يعني، وفهم جلساء سيف الدولة؛ ولكن حرمات الأمير الكريم ردت الكلام إلى الأفواه، فما استطاع منهم أحد أن يقول: إن في بيت الأمير قصة غرام
ولكن (أبا العشائر الحمداني) لم يسكت، فأرسل غلمانه يأخذون على العاشق الجريء طريقه. . ونجا الشاعر من كيد كان يراد، ولكنه لم ينتقم، وشفع للعدو عند الشاعر أنه منتسب إلى الحبيب.
واستيأس المتنبي ونفذ صبره، فأزمع الرحلة إلى بعيد لعله أن ينسى. . .
وفارق سيف الدولة متكبراً عزيزاً أبياً، ولكنه خلف قلبه وراءه، وخلف الأمل في الملك والجاه والسعادة، وأيقظته الحقيقة بعد حُلم دام تسع سنين؛ ومضى على غير وجهٍ وقلبُه يتلفت إلى تلك التي خلفها وراءه؛ وعادت تتقاذفه البلاد، وتتراماه القفار، يساوم للمجد، ويجاهد للأمارة، لعله يعود إلى من يحب وعلى رأسه تاج. . . .!
ومضت سنوات وقلب العاشق ما ينفك ينبض، وما يبرح يذكر هواه ومن أحب؛ فما ينشد شعراً إلا وفيه لوعة من أثر الفراق، أو حسرة من وحشة الحبيب النائي. . .!
وا أسفا لمشتاقٍ بلا أمل. . . تمضي لياليه بغير جديد، وتنقضي أيامه على غير ميعاد، مغيظاً على بعده (غيظ الأسير على القد. . .!)
ليت شعري. أكان هو وحده المعذب الملتاع بهذا الفراق الذي أختاره فراراً بكبريائه. . .؟
ودخل الكوفة يطلب العزاء في الوطن الذي حرم دخوله منذ الشباب، تتجاذبه الكبرياء والهوى، وتتدافعه الأماني والذكريات، ويسترجع الماضي ويهتف بالغد. . . ولكن ما استقرت به النوى حتى جاءه النبأ. . . ماتت خولة. . .!
وتهاوت آمال الشاعر أملاً أملاً فما عاد يستمسك، ونالت منه الحسرة والتفجيع فانصدعت كبده. وسكت أمير شعراء العربية سنتين لا ينشد، والشعر يترقرق دموعاً في عينيه ويتصعد زفرات. . .!
يا عجبا! إن النفس لا تجيش بأبلغ الشعر إلا حين يتأبى البيان على اللسان. . .!
وأستنجزه الحب على أن يفي فما تلبث. وأصابته الطعنة القاتلة بعد عام ثالث. . .!
وسكت شاعر العربية إلى الأبد، ولكن الناس ما تزال تتحدث عنه بعد ألف سنة من عمر الزمان ولن تزال. . .
وكتب في تأريخ الأدب قصة غرام عجيبة، لم يعرفها الناس إلا بعد ألف سنة، لأن العاشق فيها أكبر وأعظم من أن يقول؛ (أنا أحب. .!)
وظلت هذه القصة سراً في ضمير الغيب كل هذا الزمان، لتكون بهذا الكتمان العجيب رمزاً عجيباً لصبر هذا الشاعر العاشق: أبي الطيب المتنبي. . .
محمد سعيد عريان
ضوء جديد على ناحية من الأدب العربي
اشتغال العرب بالأدب المقارن أو ما يدعوه الفرنجة
في كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر
لفيلسوف العرب أبي الوليد بن رشد
- تلخيص وتحليل -
للأستاذ خليل هنداوي
مقدمة:
إن الإنسان لولوع جداً بإظهار الحقائق على طريق المقارنة، والمقارنة قد تكون مقارنة فرد بفرد أو شعب بشعب. أما الأولى فقد تكاد تكون شائعة في كل عهد لأنها رأس كل نقد. والأوائل لم يغمروا مثلاً امرأ القيس بما غمروه من فيض عبقريته إلا بعد أن قرنوا شاعرية غيره إلى شاعريته. والإنسان مسوق يطبعه الموروث إلى مثل هذه المقارنة التي قد تكون غريزية في كل كائن يفكر ويشعر. أما المقارنة الثانية فهي حديثة النشأة، لأن النقد لم يكن ليخطر في باله أن يقيم الأوزان بين أدباء أمتين مختلفتين ثقافة واتجاهاً وشعوراً. ومن كان يفكر في المقارنة بين شكسبير وراسين، ودانتي وميلتون، وبين ميزات الأدب الألماني والأدب الفرنسي؟ وكل واحد منهم يمت بوسائله إلى أمة مستقلة في تطورها وبيئتها. ولكن الأدب - كما يبدو - له سلطان قاهر، يرمي بالحواجز التي تفصل بين الحدود الصناعية ويقتحم في عوالم الفكر والخيال دون أن يصد اقتحامه شيء لأنه الأدب. . . وهكذا نشأت الصلات الأدبية بين الأمم إلى ما شاء ربك!. . وربطت بين المفكرين ربطا لا يقوم على مصالح سياسية أو مطامع مادية، وإنما يقوم على رفع منارة الفكر وإعلاء كلمة الفكر. فما أطهر هذه الرابطة لو أنها تخرج من هذا العالم غير المحدود إلى العالم الذي سودته الحدود! فتجد الأديب الفرنسي يحلل الأديب الألماني دون أن تطغى على قلبه سورة الحقد. وتجد الأديب الألماني يكتب عن الأديب الفرنسي من غير أن تغلب عليه موجدة. ذلك أن عالم الفكر سما بهما فوق عالمهما المحدود الذي غمرته الحزازات وتقطعت
بين وشائجه الأسباب. فهما يتفاهمان في ذلك العالم ويصافح بعضهما بعضاً.
هذا هو الأدب بالمقارنة يعمل على درس ميزات أدب كل أمة بمقارنتها مع ميزات غيرها من الأمم. وهو أدب - كما قلت - حديث الخلق، شجع على نشره شيوع الأدب الإنساني. ولعل رسالة الفلسفة كانت أسبق من الأدب إلى هذه الرسالة. لأنها تنعتق من قيود العاطفة ولا تتخذ مطيتها إلا الفكر. والفكر اصلب عوداً من العاطفة. والفلسفة وحدها كانت أبعد العلوم الفكرية شيوعاً وذيوعاً في كل عصر، تكتسبها الأمم الغالبة من الأمم المغلوبة دون أن يلحقها عار الاكتساب، ودون أن تتحوط له. كما نقل العرب الفلاسفة اليونانية بحذافيرها، وطبقوها على عقائدهم الفكرية والاجتماعية، حتى غدا اليونان أساتذة العرب في الفلسفة. أما الأدب اليوناني فلم يكتب له حظ الانتقال في كثير ولا قليل. ولعل ذلك يعود إلى اختلاف الإحساس والتعبير عند الأمتين. ومن عجب الأيام أن يمتزج المنطق اليوناني مع العقل، ويتبدل حتى يغدو جزءاً من العقل العربي. والأدب اليوناني لا يكتب له إلا الخيبة.
ألم يتدارس العرب الأدب اليوناني، كما تدارسوا الفلسفة اليونانية؟ قد يظن أنهم درسوا شيئاً منه وسمعوا ألحان هوميروس فيه، ولكن ألحانه لم تطب لهم، لأن هذه الأساطير التي يطفح بها أدبهم جاءت في العهد الذي كان يسيطر فيه المنطق اليوناني على العقل العربي، فصموا عن هذه الألحان ولم يعيروها التفاتاً. وقد يظن أن الأدب العربي الذي كانت معجزة البلاغة منه كان سيد نفسه، لا يميل إلى اقتباس قواعد البلاغة من غيره، وما فوق بلاغة الكتاب بلاغة. وقد يُظن - وأرجح هذا - أن العرب طووا الأدب اليوناني - اعتماداً على الظن الثاني - ولم يلجوا فيه، فلم ينم لهم ذلك الذوق اليوناني الذي يستطيع أن يحس لذة فنهم وعبقريتهم كما يحس أهله! وبذلك طغا العقل اليوناني على العرب. أما أدبه فلم يكن له في الدائرة نصيب.
على أن هذا الأدب لم يترك له أثراً في الأدب العربي قد شغل بعض أذهان رجال من العرب؛ شغلها عن طريق الفلسفة لا عن طريق الأدب. فأبن رشد والفارابي قد ناقشا الشعر اليوناني لا بالطريقة التي ينبغي لصاحبها أن يتبعها ويتخذ لها السبل المختلفة في نفسها، وإنما ناقشاه بالطريقة التي أتبعها أرسطو. فلولا أرسطو لم يتصد ابن رشد والفارابي للشعر
اليوناني، فهما في ذلك متبعان لا مبتدعان. فإذا أثنى ابن رشد على هوميروس فهو لم يثن بلسان نفسه وفن نفسه، وإنما يثني لأن ارسطو أثنى عليه. وسبب ذلك واضح، لأنهما قرءا تحليل أرسطو لهوميروس ولم يقرءا لهوميروس نفسه. وبذلك ظل الأدب اليوناني بعيدا عنهما. وبالرغم من ذلك نرى ابن رشد قد استطاع أن يدرس قواعد شعرهم ويفيد من تلك القواعد ويعمل على تطبيقها في آداب أمته. وعمله هذا هو ما نريد منه (الأدب المقارنة) وهذه المقارنة برغم نقصها الفني جاءت مقارنة حسنة في بابها، مبتدعة وقتها. ألقت على الأدب العربي ضوء دراسة جديدة. على أن أدباء العرب الذين وقفوا على هذه المقارنة وشعروا بهذا التفاوت لم يجدوا في أنفسهم ما يحملهم على مناقشة هذه القواعد والاستفادة منها، وقد رأوا ما حل بإخوانهم الفلاسفة من الوشايات والمكائد التي كانت تنصب لهم، وألوان الاضطهاد الذي نزل عليهم. أضف إلى ذلك أن الألحان الوصفية والعاطفية في الشعر اليوناني كانت تتمشى في تضاعيفها العقيدة والوثنية والآلهة الكثيرة، والعرب كانوا شديدي الغيرة على هذا الواحد زهوا به على الأمم، فصرفتهم الأساطير عن تذوق ما في الأساطير.
تذوق هذان الرجلان بعض روائع الأدب اليوناني ولكن طبيعتهما الأدبية لم تكن لتخول لهما أن يكونا زعيمي مدرسة في الأدب جديدة، فلن يخرج تأثيرهما عما اختصا به. وهيهات أن يصنع الفيلسوف ما يصنعه الأديب في عالم أدبه. فلو أن ابن الرومي مثلاً تذوق هذه الروائع إلى حد بعيد لفعل أكثر مما فعل، ولخلق للشعر أخيلة أخرى ونماذج أخرى، ولكن ابن رشد ما عسى يستطيع أن يعمل وهو ليس بزعيم مدرسة أدبية! إنه يجادل ويحدد ويهدي إلى مناهج ومناهج ولكنه لا يخلق شيئاً.
إن فضل ابن رشد على الأدب العربي في هذا الكتاب لفضل عظيم، لأنه يدل على العربي الأول الذي كتب عن الأدب بطريق المقارنة، ووفق في هذه المقارنة كثيراً؛ ويدل بعد ذلك على أن العرب جربوا أن يدرسوا الآداب الأجنبية ليستفيدوا ويفيدوا من قواعدها، وأن دراستنا - اليوم - للأدب الأجنبي أكثر ضرورة منها بالأمس، بعد أن امتزجت عوالم الفكر واتحدت مناهج الأدب، وأصبح لا يليق بنا أن نترك الأدب العربي محصوراً في عزلته بحجة صيانة ووقايته. وما الذي يخشى عليه؟ وإنما صيانته ووقايته في تعريضه للهواء
والنور لا في حجبه عنهما، وفي تقريبه من الآداب العالمية حتى يساهم معها في تأدية رسالتها لا في تنفيره منها وتنفيرها منه، على أن يبقى أدبنا محتفظاً بألوانه، ويبقى أديبنا عاملاً على إبدائها لا على إخفائها؛ وبهذا نحقق غاية من غايات الأدب، ونفتح لنا زاوية في عمارة الأدب، ونكمل الخطوة الأولى التي خطاها الأوائل ولم يكملوها.
غرض الكتاب وغرض الشعر:
وقعت مصادفة على مقالات منثورة من هذا الكتاب، وهي مقالات لا تكاد تؤلف المصنف كله، وإنما وجدت بأنها تعطي فكرة عامة عن الكتاب ومنهج صاحبه ومترجمه فيه. وقد بينت أن المترجم إنما عنى به لأنه أثر من آثار أرسطو، ولأن قواعده في الشعر ذهبت قوانين عامة، لأن أرسطو الجبار الذي أراد أن يفرض سلطان العقل على كل سلطان أراد أن يوحد مملكة الشعر ويمسك على الإحساس كما أمسك على العقل، جاهلاً أن الفرق بين هاتين المملكتين مملكة الإحساس ومملكة العقل فرق كبير، ولكن الرجل أستدرك وزعم أنه يذكر قوانين عامة للشعر، وهو لا يخوض في تولد الإحساس وملاءمة التعبير عن الإحساس، لأن هذا مما يتفاوت فيه العباقرة أنفسهم، فألف هذا الكتاب ليكون له كتاب في الشعر كما ترك كتاباً في الخطابة والموسيقى، ولقد أنتصر هذا العقل إلى حد كبير في هذه الميادين التي تختلف عن ميدانه الذي خلق له، والتي لم يكن لها مفر منها ليستطيع أن يمثل حق التمثيل ثقافة عصره. ولقد استطاع إلى حد بعيد أن يكسو هذه الأشياء النافرة عنه بأردية عقله وتفكيره، فتبيت تقرأ الشعر فكراً والتصوير تفكيراً. ولم لا ينتصر وقد أدرك بعين التأمل عبقرية هوميروس وأثنى عليه الثناء الجميل؟ وكيف يوفق الناقد بين رجلين خلدت الطبيعة هذا بعقله وذلك بقلبه؟
كتب أرسطو كتابه عن الشعر لا كما يريد الشعر لأن أرسطو مكبل بعقله مقتحم بمنطقه. فالأقيسة والأسطقسات والبراهين لا تكاد تفارق ما أراد منه أن يكون قوانين عامة للشعر، فجاءت قوانينه بذلك قوانين جافة قاسية يغلب عليها الذهن الرياضي، لو مشى عليها الشعر ذاته لجاء ممسوخاً. وجميل أن تدخل الفلسفة الشعر بشرط أن تتنازل كثيراً عن أقيستها حتى يمكنها أن تتذوق الشعر.
تناول ابن رشد هذا الكتاب وترجمه وتصرف فيه كثيراً وأحسن في هذا التصرف كثيراً،
فأنه استغنى عن النماذج اليونانية التي يستشهد بها المؤلف وأحل محلها نماذج عربية احسن انتقائها واصطفاءها ودلت على ثقافة أدبية عالية في ابن رشد لا تقل قيمة عن بقية الثقافات التي يتضلع بها الفيلسوف. ولكن عيب الترجمة في ابن رشد طوى كل النماذج اليونانية، ومن حقه أن يأتي بها ويضع إزاءها ما جاء به من نماذج العرب لتكون الترجمة والمقارنة في الأمانة سواء؛ وجاء تقسيمه للمقالات بحسب تقسيم أبواب الشعر عند العرب، لأنه وقف درسه على هذه الأبواب، وقد أضاف إليها دراسات مختلفة في صناعة الشعر والغاية منها، وفي ألحانه وأوزانه بالنظر إلى التوقيع لا إلى الأعاريض، وفي العلل المولدة للشعر، وفي التخيلات والمعاني، وفي كيفية التخلص إلى ما يراد محاكاته وأنواع المحاكاة المقبولة وغير المقبولة، وفي صناعة الأشعار القصصية. وكان أكثر توسعاً وتصرفاً في درس صناعة (المديح وأجزائها) لأن هذه الصناعة كانت أروج أبواب الشعر في ذلك العهد، وموضع التفات أكثر الشعراء، ولسهولة المقارنة فيها، واستخراج النماذج منها، وقد غض عن ذكر (الهجاء) لأن قوانينه تنطبق على قوانين المديح. على أن ابن رشد ليلام لوما عنيفاً في هذا الباب لإهماله باب الوصف إهمالاً كلياً. ولعل درسه له كان يعمل على خلق جديد فيه. ولا ريب عندي أن أرسطو قد عالج هذا الباب الواسع عندهم معالجته لغيره من الأبواب، ولكن ابن رشد قد طوى كشحاً عنه كما ضرب صفحاً عن غيره.
أما الغرض من هذا الكتاب فهو - كما يقول صاحبه - (تلخيص القوانين الكلية المشتركة لجميع الأمم أو للأكثر في الشعر ونسبة الموجودة في كلام العرب أو كلام غيرهم. والشعر عنده هو أقاويل يحتاج إلى وزن ولحن، ولا يسمى الشعر إلا ما جمع إلى الأقاويل التي تسمى شعراً مع الألحان كهوميروس (ولعل هذا النوع هو ما يدعى الشعر القصصي، وهو أول ما عرفه اليونان من ضروب الشعر)، وقد أدخل على الصناعة الشعرية بعض أقيسة منطقية، دأبها تكبل الشعر، ولكنها تقوم العقل.
(البقية في العدد القادم)
خليل هنداوي
4 - العجوزان
تتمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال محدثنا: وكنت قد ضقت بهذه اللجاجة الفلسفية ورأيتني مضطغناً على الشيخين معاً؛ فقلت للعجوز (ن): حدثني (رحمك الله) بشيء من قديمكما فأنتما اختصار لكل ما مر من الحياة يستدل به على اصله المطول إلا في الحب. . . وما زلتما في جد الحديث تعبثان بي منذ اليوم، فقد عدلتما بي إلى شانكما ورأيكما في القديم والجديد وبقي أن أميل بكما ميلة إلى سنة 1895. وقد والله كاد ينتحر قلبي يأساً من خبر (كاترينا ومرغريت)؛ ولكأنك تخشى إذ أعلمتني خبر صاحبتك هذه وهي من وراء أربعين سنة - ما تخافه من رجل سيفجؤك معها في الخلوة على حالٍ من الربية فيأخذك (متلبساً بالجريمة) كما تقولون في لغة المحاكم. . .
قال فضحك العجوزان وقال (ن): لا والله يا بني، أقول ما قال ذلك الحكيم العربي لقومه وقد بلغ مائتي سنة:(قلبي مضغة من جسدي ولا أظنه إلا قد نحل كما نحل سائر جسدي وأعلم يا بني إنه إذا ذهب الحب عن الشيخ بقي منه الحنان يعمل مثل عمله؛ فيحب العجوز مكاناً أو شيئاً أو معنى أي ذلك كان ليعيده ذلك إلى الدنيا أو يبقيه فيها (بقدر الإمكان). . .) فضحك الأستاذ (م) وقال: ولعل ثرثرة العجوز (ن) هي الآن معشوقة العجوز (ن).
ثم قال: وكل شيء يرق في قلب الرجل الهرم ويحول وجهه كأنه لا يطيق أن ينظر إلى معناه الغليظ؛ ولا بد أن يخرج العجوز من معاني الدنيا قبل أن يخرج من الدنيا. ولهذا لا يهنأ الشيخ إلا إذا عاش بأفكار جسمه الحاضر وقدر الأمور على ما هو فيه لا على ما كان فيه. والفرق بين جسمه الحاضر وبين جسمه الماضي أن هذا الماضي كانت تحمله أعضاؤه فهو مجتمع من أعمالها وشهواتها ماضٍ في تحقيق وجودها ومعانيها. أما الحاضر؛ أما الجسم الهرم فهو يشعر أنه يحمل أعضاؤه كلها وكأنها ملفوفة في ثيابه كمتاع المسافر قبل السفر. . . وكأن بعضها يسلم على بعض سلام الوداع يقول تفارقني وأفارقك.
فتململ الأستاذ (م) وقال: أفٍ لك ولما تقول! لا جرم أن هذه لغة عظامك التي لا صلابة فيها، فمن ذلك لا تجيء معانيك في الحياة إلا واهنة ناحلة فقدت أكثرها وبقي من كل شيء منها شيء عند النهاية. أليس في الهرم إلا أن يبقى الجسم ليكون ظاهراً فقط كعمشوش
العنقود بعد ذهاب الحب منه يقول كان هنا وكان هنا؟
ألا فأعلم يا (ن) إن هذه الشيخوخة إنما هي غلبة روحانية الجسم على بشريته، فهذا طور من أطوار الحياة لا تدعه الحياة إلا وفيه لذته وسروره كما تصنع بسائر أطوارها؛ غير أن لذاته بين الروح والجمال، ومسراته بين العقل والطبيعة، وكل ما نقص من العمر وجب أن يكون زيادة في إدراك الروح وقوتها وشدتها ونورها. وقد قيل لبعض أهل هذا الشأنٍ وكان في مرض موته: كيف تجد العلة؟ فقالوا سلوا العلة عني كيف تجدني؟
وإنما تثقل الشيخوخة على صاحبها إذا هي انتكست فيه وكانت مراغمةً بينه وبين الحياة، فيطمع الشيخ فيما مضى ولا يزال يتعلق به ويتسخط على ذهابه ويتصنع له ويتكلف أسبابه، وقد نسى أن الحياة ردته طفلاً كالطفل أكبر سعادته في التوفيق بين نفسه وبين الأشياء الصغيرة البريئة، وأقوى لذته أن يتفق الجمال الذي في خياله والجمال الذي في الكون؛ وإنه لكما قلت أنت: لا يهنأ الشيخ إلا إذا عاش بأفكار جسمه الحاضر.
وما اصدق وأحكم هذا الحديث الشريف: (إن الله تعالى بعدله وقسطه جعل الرَّوحَ والفرحَ في الرضى واليقين، وجعل الهمَّ والحزنَ في الشك والسخط). فهذه هي قاعدة الحياة، لا تعاملك الحياة بما تملك من الدنيا، ولكن بما تملك من نفسك، وبذلك تكون السعادة في أشياء حقيقية ممكنة موجودة، بل تكون في كل ما أمكن وكل ما وجد. وإذا كان الرضى هو الاتفاق بين النفس وصاحبها، وكان اليقين هو الاتفاق بين النفس وخالقها، فقد أصبح قانون السعادة شيئاً معنوياً من فضيلة النفس وإيمانها وعقلها ومن الأسرار التي فيها، لا شيئاً مادياً من أعضائها ومتاعها ودنياها والأخيلة المتقلبة عليها.
فأطرق العجوز (ن) قليلاً ثم قال: (ربِّ إني وهَنَ العظمُ مني)، ألا ما أحكم هذه الآية! فو الله إن قرأت ولا قرأ الناس في تصوير الهرم الفاني أبدع منها ولا أدق ولا أوفى؛ ألا تحس أن قائلها يكاد يسقط من عجفٍ وهزال وإعياء، وأنه ليس قائماً في الحياة قيامه فيها من قبل، وأن تناقض هذه الحياة قد وقع في جسمه فأخلِّ به، وأن معاني التراب قد تعلقت بهذا الجسم تعمل فيه عملها، فأخذ يتفتَّت كأنما لمس القبر عظامه وهو حي، وأنه بهذا كله أوشك أن ينكسر انكسار العظم بلغ المبرد فيه أخر طبقاته؟
قال محدثنا: فقلت له: ترى لو أن نابغةً من نوابغ التصوير في زمننا هذا، تناول بفنه ذلك
المعنى العجيب فكتبه صورةً وألواناً، لا أحرفاً وكلمات، فكيف تراه كان يصنع؟
قال: كان يصنع هكذا: يرسم منظر الشتاء في سماءٍ تعلق سحابها كثيفاً متراكباً بعضه على بعض يخيل أن السماء تدنو من الأرض، وقد سدت السحب الآفاق وأظلم بها الجو ظلامه تحت النهار المغطى، واستطارت بينها وشائع من البرق، ثم يترك من الشمس جانب الأفق لمعةً كضوء الشمعة في فتق من فتوق السحاب؛ ثم يرسل في الصورة ريحاً باردةً هوجاء، يدل عليها انحناء الشجر وتقلب النبات، ثم يرسم رجالاً ونساءً يغلي الشباب فيهم غليانه من قوة وعافية، وحب وصبابة، وتغلي فيهم أفكار أخرى. . . وهم جميعاً في هيئة المسرعين إلى مرقص؛ وهم جميعاً من المجددين. . .
ثم يرسم يا بني في آخرهم (على بعدٍ منهم) عمك العجوز (ن)، يرسمه كما تراه، منحل القوة، منحني الصلب، مرعشاً متزلزلاً متضعضعاً؛ وقد زعزعته الريح، وضربه البرد، وخنقته السحب؛ وله وجه عليه ذبول الدنيا، ينبئ أن دمه قد وضع من جسمه في برادة، والكون كله من حوله ومن فوقه أسباب روماتزم. . .
ثم يصوره وقد وقف هناك ساهماً كئيباً، رافعاً رأسه ينظر إلى السماء.
قال المحدث: وضحكنا جميعاً ثم قال الأستاذ (م): لعمري إن هذه الحياة الآدمية كالآلة صاحبها مهندسها؛ فأن صلحت واستقامت فمن علمه بها وحياطته لها، وان فسدت واختلت فمن عبثه فيها وإهماله إياها، وليس على الطبيعة في ذلك سبيل لائمة.
والشيخ الضعيف ليس في هذه الدنيا إلا الصورة الهزلية لمفاسد شبابه وضعفه ولينه ودعته تظهرها الدنيا ليسخر من يسخر ويتعظ من يتعظ.
قال (ن): أكذلك هو يا أستاذ؟
قال الأستاذ. بل هي الصورة الجدية من هذه الحياة الباطلة التي دأبها ألا تصرح عن حقيقتها إلا في الآخر، فتظهرها الدنيا ليُجل الحقيقة من يجلها. وليس إلا بهذه الطريقة يعرف من خراب الصورة خراب المعنى.
قال العجوز (ن): آه من إجلال الشيخوخة واحترام الناس إياها! إنهم يرونه احتراماً للشيخ والشيخ لا يراه إلا تعزية.
وما الأشياخ الهرمي إلا جنازات قبل وقتها لا توحي إلى الناس شيئاً غير وحي الجنازة من
مهابة وخشوع.
قال الأستاذ: إنما أنت دائماً في حديث نفسك مع نفسك، ولو كنت نهراً يا مستنقع لما كان في لغتك هذه الأحرف من البعوض.
قال العجوز الظريف: إن هذا ليس من كلام الفلسفة التي نتنازعها بيننا ترد على وارد عليك، ولكنه كلام القانون الذي لك وحدك أن تتكلم به أيها القاضي.
قال (م): صرح وبين فما فهمنا شيئاً
قال العجوز: هذا كلام قلته قديماً في حادثة عجيبة. فقد رفعت إلى ذات يوم قضية شيخ هرم كان قد سرق دَجاجة؛ وتوسمته فإذا هو من أذكى الناس، وإذا هو يجل عن موضعه من التهمة، ولكن صح عندي أنه قد سرق وقامت البينة عليه ووجب الحكم، فقلت له: أيها الشيخ ما تستحي وأنت شائب أن تكون لصا؟
قال: يا سيدي القاضي كأنك تقول لي ما تستحي أن تجوع؟
فورد على من جوابه ما حيرني فقلت له: وإذا جعت أما تستحي أن تسرق؟
قال يا سيدي القاضي كأنك تقول لي: وإذا جعت أما تستحي أن تأكل؟
فكانت هذه أشد علي فقلت له: وإذا أكلت أما تأكل إلا حراماً؟
فقال: يا سيدي القاضي إنك إذا نظرت إلى محتاجاً لا أجد شيئاً، لم ترني سارقاً حين وجدت شيئاً.
فأفحمني الرجل على جهله وسذاجته، وقلت في نفسي لو سرق أفلاطون لكان مثل هذا؟ فتركت الكلام بالفلسفة وتكلمت بالقانون الذي لا يملك الرجل معه قولاً يراجعني به، فقلت: ولكنك جئت إلى هذه المحكمة بالسرقة فلا تذهب من هذه المحكمة إلا بالحبس سنتين.
قال محدثنا: وأرمضني هذا العجوز الثرثار وملأ صدري إذ ما برح يديرني وأديره عن (كاترينا ومرغريت)، ورأيت كل شيء قد هرم فيه إلا لسانه، فحملني الضجر والطيش على أن قلت له: وهب القضية كانت هي قضية (كاترينا) وقد رفعت إليك متهمة، أفكنت قائلاً لها: جئت بالمحكمة بالسرقة فلا تذهبين من المحكمة إلا بالحبس سنتين؟
وجرت الكلمة على لساني وما ألقيت لها بالاً ولا عرفت لها خطرا، فاكفهرَّ القاضي العجوز وتربد وجهه غضباً وقال: يا بغيض! أحسبتني كنت قائلاً لها: جئت إلى المحكمة بالسرقة
فلا تذهبين من المحكمة إلا بالقاضي. . .؟
وغضب الأستاذ (م) وقال: ويحك أهذا من أدبكم الجديد الذي تأدبتم به على أساتذة منهم الفجرة الذين يكذبون الأنبياء ولا يؤمنون إلا بدين الغريزة ويسوغونكم مذاهب الحمير والبغال في حرية الدم. . .؟ أما إني لا أعلم أنكم نشأتم على حرية الرأي ولكن الكلمة بين اثنين لا تكون حرةً كل الحرية إلا وهي أحياناً سفيهة كل السفاهة كهذه القولة التي نطقت بها.
لقد كان الناس في زمننا الماضي أناساً على حدة، وكانت الآداب حالاتٍ عقليةً ثابتةً لا تتغير ولا يجوز أن تتغير، وكان الأستاذ الكافر بينه وبين نفسه لا يكون مع تلاميذه إلا كالمومس تجهد في أن تربي بنتها على غير طريقتها.
قال الحدث: فلججت وذهبت أعتذر، ولكن العجوز (ن) قطع علي وأنشأ يقول وقد انفجر غيظه: لقد تمت في هؤلاء صنعةُ حرية الفكر كما تمت من قبل في ذلك الواعظ المعلم القديم الذي حدثوا عنه أنه كان يقص على الناس في المسجد كل أربعاء فيعلمهم أمور دينهم ويعظهم ويحذرهم ويذكرهم الله وجنته وناره؛ قالوا فاحتبس عليهم في بعض الأيام وطال انتظارهم له، فبينما هم كذلك إذ جاءهم رسول فقال: يقول لكم أبو كعب: انصرفوا فأني قد أصبحت مخموراً. . . . . .
هذا القاص المخمور هو عند هؤلاء السخفاء إمام في مذهب حرية الفكر، وفضيلته عندهم إنه صريح غير منافق. . . وكان يكون هذا قولاً في إمام المسجد لولا أنه إمام المسجد؛ غير أن حرية الفكر تبنى دائماً في كل ما تبنى على غير الأصل، وعندها أن المنطق الذي موضوعه ما يجب، ليس بالمنطق الصحيح إذ لا يجب شيء مادام مذهبها الإطلاق والحرية.
كل مفتون من هؤلاء يتوهم أن العالم لا بد أن يمر من تفكيره كما مر من إرادة الخالق، وأنه لا بد له أن يحكم على الأشياء ولو بكلمة سخيفة تجعله يحكم، ولا بد أن يقول (كن) وإن لم يكن إلا جهله. ومذهبه الأخلاقي: اطلب أنت القوة للمجموع أما أنا فألتمس لنفسي المنفعة واللذة. ويحسبون أنهم يحملون المجتمع؛ فأنهم ليحملونه ولكن على طريق البراغيث في جناح النسر.
قال (م): وكيف ذلك؟
قال: زعموا أن طائفة من البراغيث اتصلت بجناح نسر عظيم واستمرأته ورتعت فيه، فصابرها النسر زمناً ثم تأذى بها وأراد أن يرميها عنه فطفق يخفق بجناحيه يريد نفضها، فقالت له البراغيث: أيها النسر الأحمق! أما تعلم أننا في جناحيك لنحملك في الجو. . .؟
أما أساتذة هذه الحرية الدينية الفكرية الأدبية، فقد قال الحكماء: إن بعرةً من البَعر كانت معلمة في مدرسة قال (م): وكيف ذلك؟
قال: زعموا أن بعرة كبش كانت معلمة في مدرسة الحصى، فألفت لتلاميذها كتاباً أحكمته وأطالت له الفكرة، وبلغت فيه جهدَ ما تقدر عليه لتظهر عبقريتها الجبارة؛ فكان الباب الأكبر فيه أن الجبل خرافة من الخرافات، لا يسوغ في العقل الحر إلا هذا، ولا يصح غير هذا في المنطق. قالت: والبرهان على ذلك أنهم يزعمون أن الجبل شيء عظيم، يكون في قدر الكبش الكبير ألف ألفِ مرة؛ فإذا كان الجبل في قدر الكبش ألف ألفِ مرة فكيف يمكن أن يبغره الكبش. . .؟
قال الأستاذ (م): هذا منطق جديد سديد لولا أنه منطق بعرة.
قال (ن): وكل قديم له عندهم جديد، فكلمة (رجل) قد تخنثت، وكلمة (شاب) قد تأنثت، وكلمة (عفيفة) قد تدنست، وكلمة (حياء) قد تنجست. والزمن الجديد ألا يعرف الطالب في هذا العام ماذا تكون أخلاقه في العام القادم. . . والحياة الجديدة أن تتقن الغش أكثر مما تتقن العمل. . . والذمة الجديدة أن مال غيرك لا يسمى مالاً إلا حين يصيرك في يدك. . . والصدق الجديد أن تكذب مائة مرة، فعسى أن يصدق الناس منها مرة. . . ثم الإنسان الجديد، والحب الجديد، والمرأة الجديدة، والأدب الجديد، والدين الجديد، والأب الجديد، والابن الجديد؛ وما أدري وما لا أدري.
قال (السوبرمان): وتنطعوا في إخراج المخلوق الكامل بغير دينه وأخلاقه، فسخرت منهم الطبيعة، فلم تخرج إلا الناقص أفحش النقص، وتركتهم يعملون في النظرية وعملت هي الحقيقة.
قال محدثنا: ونهض العجوز (ن) وهو يقول: تباركت وتعاليت يا خالق هذا الخلق؛ لو فهموا عنك لفهموا الحكمة في إنك قد فتحت على العلم الجديد بالغازات السامة. . .
قال: ولما أنصرف العجوز، قلت للأستاذ (م): ولكن ما خبر (كاترينا ومرغريت) وسنة 1895؟
فقال: أيها الأبله، أما أدركت بعد أن العجوزين قد سخرا منك بأسلوب جديد. . . . . .؟
طنطا
مصطفى صادق الرافعي
ذكرى المولد الشريف
للشاعر المطبوع الأستاذ أحمد محرم
مِنْ هيبةٍ يُغضى القريض ويُطرق
…
ويميل فيك إلى السكوت المنطقُ
إيذن يَفِض هذا البيان فإنه
…
مما يُفيضُ بيانك المتدفّقُ
ما في النوابغِ من لبيبٍ حاذق
…
إلا وأنتَ ألبُ منه وأحذق
إن يلبس الشعرُ الجمال منوراً
…
عبقاً، فأنت جماله والرونق
والقولُ مستلَبُ المحاسن عاطلٌ
…
حتى يقولَ العبقريُّ المفلق
رُضتَ الأوابد لي أقودُ صعابها
…
ورضيتني، إني إذاً لموفق
هي مدحتي انطلقت إليكَ مشوقة
…
والسُبل تسطع، والمنازلُ تعبَق
أنت المجالُ الرحب تُعتصر القوى
…
فيهِ، وتمتحن العتاقُ السَّبق
(حسان) منبهرٌ و (كعب) عاجز
…
و (الشاعر الجعديُّ) عانٍ موثق
أطعمتهم فتنازعوا فيك المدى
…
وأبيت فانقلبوا وكلٌ مُخفق
لي عذرهم، ما أنت من عدة المنى
…
إلا وَراء مخيلةٍ ما تصدق
أنت احتملت الأمر تنصدع القوى
…
مما يشق على النفوس، وتصعق
وسننت للمتعسفين سبيلهم
…
متبلجاً سمحاً يضيءُ ويُشرق
يمشي الهدى فيه على يدك التي
…
هي للهدى عضدُ أبرُّ ومرفق
ذُعرت (قريش) هل يبدل دينها
…
رجلٌ ضعيف في العشيرة مُملق؟
لا المال ينصره، ولا هو إن دعا
…
خفق اللواءُ له، وخف الفيلق
ينهى عن الأصنام وهي بموضع
…
تمحي حواليه النفوس وتمحق
المال والعِرض الممنَع سورُه
…
والمجد والشرف الصميم المعرق
من وصفهِ الأسد الضواري تدعى
…
والخيل تصهل، والقواضب تبرق
الحقُ أقبل في لواءِ (إمامهِ)
…
والحقُ أولى أن يسود وأخلق
يرمى به سودَ الغياهب ساطعاً
…
تنجاب حول سناه أو تتشق
حارَ الظلام، فما يلوذ بجانبٍ
…
إلا يحيط به الضياءُ ويحدق
الوحي مطرودٌ، وبأس (محمد)
…
جارٍ إلى غاياته لا يُلحق
لا الضعف يأخذ من قواه ولا الواني
…
بأولئك الهممِ الدوائبِ يَعلق
بغى الأولى خذلوه من أنصاره
…
والبغي نصرٌ للهداة مُحقق
زعموا الأذى مما يفلُّ مضاَءه
…
فمضى البلاءُ به، وجد المصدق
يأوي إلى النَفر الضعاف وإنهم
…
لأشد منهم في النضال وأوثق
هم في حمى (الوحي المنزل) صخرة
…
تعيي الدُّهاةَ، وجذوة تتحرق
وهبوا لربهم النفوس كريمة
…
لا تُفتدى منه، ولا هي تعتق
المؤمنون الثابتون على الهدى
…
والأرض ترجف والشوامخ تخفق
رزقوا اليقين، فلا ذليلٌ ضارع
…
يطوى الجناحَ، ولا جبانٌ مشفق
جند النبيِّ، إذا تقدم أقبلوا
…
والموتُ يفزع، والمصارع تفرق
صدعوا بناَء الشركِ تحت لوائه
…
فهوى، وطار لواؤه يتمزق
إن الذي جعل الرسالة رحمةً
…
لم يرحم الدمِ في الغوايةِ يهرَق
بعث الرسول معلماً ومهذباً
…
يبني الحياةَ جديدةً يتأنق
يتخير الأخلاق ينظم حسنها
…
في كلّ ركنٍ قائم وُينسق
عفت الرسوم وأخلقت فأقامها
…
شماَء لا تعفو ولا هي تخلق
قدسية الأرجاء، ما برحابها
…
عنتٌ، ولا فيها مكان ضيق
تسع الممالك والشعوب بأسرها
…
وتفيض خيراً ما بقين وما بقوا
عرفت لحاجات العصور مكانها
…
فلكُل عصرٍ سؤلُهُ والمرفق
مَنعت مغالقها الشرورَ وما بها
…
للخير والمعروفِ بابٌ مُغلق
فيها لِدنيا العالمين مثابةٌ
…
لولا التباعد والهوى المتفرق
(المصلح الأعلى) أتمّ نظامها
…
فانظر أينقضه الغبيُّ الأخرق؟
أوفى على الدنيا، وملءُ فجاجها
…
بغي يزلزلها، وظلم موبق
والناس فوضى في البلاد يغرهم
…
دينٌ من الخبل المضل ملفق
النفس مغلقةٌ على أوهامها
…
والعقل مضطهدٌ يضامُ ويُرهق
سَجدوا لما صنعوا! فأين حلومهم؟
…
ولمن جباهٌ بالمهانةِ تُلصق؟
أهيَ التي رَفعوا وظنوا أنهم
…
قوم لهم فوق السماكِ مُحلق؟؟
من يدعي شرفَ الحياةِ لمعشرٍ
…
كفروا بمن يهبَ الحياةَ ويخُلق؟
إن تنب (مكةُ) بالرسول فما نبا
…
عزمٌ تهدُ بهِ الصعابُ وتُسحق
كذب الطغاة: أيُرجفون بقتله
…
والوحي سورٌ والملائك خندق؟؟
وَرَدَ (المدينةَ) زاخراً فجرى بها
…
آذيُهُ، وطما العُباب المغرق
بطلٌ توسَع في ميادين الوغى
…
لما تضَايق عن مداه المأزق
ساسَ الحوادثَ والنفوس، فتارة
…
يَقِصُ الرقاب، وتارةً يترفق
يدعو إلى الحسنى، فإن جمح الهوى
…
فالسيف مسنون الغرارِ مذلق
يرمي العوان بكلِّ أغلب باسلٍ
…
يهفو إلى غمراتها يتشوق
لَمسَ العروش فما يزال يهزها
…
ذعرٌ يطوف بها وهمٌ مقلق
صدعت قُوى الإسلام شامخ عزها
…
فإذا الملوك أذلة تتملق
وإذا الممالك ما يهلل مغربٌ
…
إلا استجاب له فكبر مشرقٍ
هذا تراث المسلمين، فبعضه
…
يُزجى علانيةً، وبعض يسرق
عجز الحماةُ، فنائمٌ متقلبٌ
…
فوق الحشيةِ، أو مغيظ مُحنق
عجزوا، فلا السلَب المباح كريمه
…
يحمى، ولا العاني المكبل يُطلق
القوم صمٌّ في السلاح، وقومه
…
مستصرخٌ يعوي، وآخرُ ينعق
إن كنت ذا حق فخذه بقوةٍ
…
الحق يخذله الضعيف فيزهق
لُغةُ السيوف تحل كل قضية
…
فدع الكلام لجاهل يتشدق
وَكُن اللبيب، فليس من كلماتها
…
شرعُ يداس، ولا نظامٌ يخرق
الخيل والرهج المثارُ حزوق
…
والنارُ والدمُ والبلاء المطبق
فتشت ما بين السطور فلم أجد
…
أن الأسود بصيدها تتصدق
أرأيت أبطالَ الكفاحِ وما جنى
…
أملُ بأجنحة الرياح معلق؟
لا يأس من نفحات ربك إنني
…
لأرى السنا خَللَ الدُجى يتألق
أحمد محرم
نشيد وطني
للأستاذ محمود الخفيف
مِصر يا أرض الفراعين الأولى
…
موطِنَ العِزةِ في فجرِ الزَّمنْ
أسلمي أنا نزعنا للعلا
…
مُذْ دعانا للعلا داعي الوطنْ
وَحيُ ماضينا جَلَا المستقبلا
فتبينا المكانَ الأوَّلا
وسئمنا في الحمى طولَ الوسَنْ
دَرَجتْ في ظِل وادينا الحياه
…
وبماضي عزمنا سارَ المثلْ
قل لمن يُزهى بمجدٍ أو بجاه
…
نحنُ أهلُ السَّبْق في المجدِ الأوَلْ
نحن أبناءُ الميامينِ الغُزاه
قد رفعنا اليومَ في مِصرَ الجباه
وتغنينا بألحان الأملْ
رُوحنا أعيتْ على الدهر الفناء
…
وطوت في صمتها طول الحقبْ
أبداً لن يفقد النيلُ الرجاء
…
أو يرى واديه سوَء المنقَلبْ
عادت الروحُ وإن طال الخفاء
فتطلعنا إلى أوج العَلاءْ
وطلبنا موضعاً فوق الشهبْ
سِرُّ وادينا وإن طال السكون
…
مستكنٌ فيه باقٌ مُدَّخَرْ
خالدٌ يطفو علىٍ غمر القرون
…
نجتليه اليومَ محمودَ الأثرْ
في غدٍ نُحيي به عهد الفنونْ
في حمى النيل كما كُنَّا نكون
نجتني من غرسنا أحلى الثمرْ
يا وَريد القلب في الوادي الخضيب
…
أنت يا من وهَبَ الوادي ثراه
سر، تدفق أيها النهرُ الحبيب
…
يا عباباً يُبهر الفكرَ مداه
يا جَدِيداً وَهوَ للدهرِ ضريبْ
يتجلىَّ فيك لي معنى عجيب
فطن القلبُ إليه فوعاه
أنت كالمصريّ في نزعته
…
زاخر بالخير فياض المعين
خالد تحكيه في فطرته
…
وادع تنساب في خفض ولين
حالم كابنك في رقته
ولقد تحكيه في غضبته
باعتكار ثم تصفو بعد حين
إيه يا رمز المعالي والخلود
…
قد شهدت المجد والدهر غلاء
وصحبت العزَّ في كل العهود
…
في هجير الحرب أو ظلِّ السلام
قِرَّ عيناً أيها النهرُ الودود
قد صحونا بعد أن طال الهجود
وجمعنا بين رأي واعتزام
قد أبينا ذلة المستضعفين
…
فوثبنا وثبة الأسْد الغضابْ
قد كرهنا البحر مسلوب السفين
…
وملِلناَ البرَّموهون الجناب
فتآخينا على ضوء اليقين
وهتفنا نصرةُ الأوطان دين
قد دعت مصرُ فما أحلى العذاب
لم ينل من عزمنا حرُّ الجهاد
…
لا ولن نخشى مع الحق الردى
قل لمن أعماه حقدٌ أو عناد
…
نحن بالأرواح أعْززْنا الفدى
لازم الجدُ خطانا والسداد
ولغير الحق لم نُلق القياد
أقبل الدهر علينا أو عدا
جنة الأرض رفعنا ذكرها
…
وملأنا باسمها سمْع الأمم
أوٍَلم ننشر لها دُستورَها
…
بالدَّم المسفوح من طيِّ العدم
بُغية النيل عرفنا مهرَها
فَلمحنا بعد حين فجَرها
وغداً نكشف عن مصرَ الَظلم
شَيِّع الليلَ فَقَدْ لاح الصباحْ
…
لم يَقِفْ يوماً على الدَّأْبِ الفَلَكْ
عَهدُنا عهدٌ جهاد وكفَاحْ
…
بهما كلُّ عصيٍّ يُمتلكْ
فامتلئ من كبرياءٍ وطماح
وأتجِهْ صوبَ السموات الفساح
يا ابن مِصْر فالعلا والمجد لك
محمود الخفيف
القصص
قصة أندلسية واقعية
محمد الصغير
للأستاذ علي الطنطاوي
قال:
كنت يومئذ صغيراً، لا أفقه شيئاً مما كان يجري في الخفاء، ولكني كنت أجد أبي رحمه الله يضطرب ويصفر لونه كلما عدت من المدرسة فتلوت عليه ما حفظت من (الكتاب المقدس)، وأخبرته بما تعلمت من اللغة الأسبانية، ثم يتركني ويمضي إلى غرفته التي كانت في أقصى الدار، والتي لم يكن يأذن لأحد بالدنو من بابها، فيلبث فيها ساعات طويلة، لا أدري ما يصنع فيها، ثم يخرج منها محمر العينين، كأنه قد بكى بكاء طويلاً، ويبقى أياماً ينظر إلي بلهفة وحزنٍ، ويحرك شفتيه فعلَ من يهم بالكلام، فإذا وقفت مصغياً إليه ولاني ظهره، وانصرف عني من غير أن يقول شيئاً - وكنت أجد أمي تشيعني كلما ذهبت إلى المدرسة حزينة دامعة العين، وتقبلني بشوق وحرقة، ثم لا تشبع مني فتدعوني فتقبلني مرة ثانية - ولا تفارقني إلا باكية، فأحس نهاري كله بحرارة دموعها على خدي، فأعجب من بكائها ولا أعرف له سبباً؛ ثم إذا عدت من المدرسة استقبلتني بلهفة واشتياق، كأني كنت غائباً عنها عشرة أعوام - وكنت أرى والديّ يبتعدان عني ويتكلمان همساً بلغة غير اللغة الأسبانية، ولا اعرفها ولا أفهمها، فإذا دنوت منهما قطعا الحديث وحولاه، وأخذا يتكلمان بالأسبانية فأعجب وأتألم وأذهب أظن في نفسي الظنون حتى إني لأحسب أني لست ابنهما، وإني لقيط جاءا به من الطريق فيبرح بي الألم فآوى إلى ركن في الدار منعزل فأبكي بكاء مراً - وتوالت علي الآلام فأورثتني مزاجاً خاصاً يختلف عن مزاج الأطفال الذين كانوا في مثل سني، فلم أكن أشاركهم في شيء من لعبهم ولهوهم، بل أعتزلهم وأذهب، فأجلس وحيداً أضع رأسي بين كفي، وأستغرق في تفكيري، أحاول أن أجد حلاً لهذه المشكلات. . . حتى يجذبني الخوري من قميصي لأذهب إلى الصلاة في الكنيسة. . .
وولدت أمي مرة؛ فلما بشرت أبي بأنها قد جاءت بصبي جميل، لم يبتهج ولم تلح على
شفتيه ابتسامة، ولكنه قام يجر رجله حزيناً ملتاعاً، فذهب إلى الخوري فدعاه ليعمد الطفل، وأقبل يمشي وراءه وهو مطرق برأسه إلى الأرض وعلى وجهه علائم الحزن المبرح واليأس القاتل، حتى جاء به إلى الدار ودخل به على أمي. . . فرأيت وجهها يشحب شحوباً هائلاً، وعينيها تشخصان، ورأيتها تدفع إليه الطفل خائفة حذرة. . . ثم تغمض عينيها، فحرت في تعليل هذه المظاهر، وازددت ألماً على ألمي. . حتى إذا كان ليلة عيد الفصح، وكانت غرناطة غارقة في العطر والنور، والحمراء تلألأ بالمشاعل والأضواء، والصلبان تومض على شرفاتها، ومآذنها، دعاني أبي في جوف الليل، وأهل الدار كلهم نيام، فقادني صامتاً إلى غرفته، إلى حرمه المقدس، فخفق قلبي خفوقاً شديداً، واضطربت، لكني تماسكت وتجلدت، فلما توسط بي الغرفة أحكم إغلاق الباب، وراح يبحث عن السراج، وبقيت واقفاً في الظلام لحظات كانت أطول علي من أعوام؛ ثم أشعل سراجاً صغيراً كان هناك، فتلفت حولي فرأيت الغرفة خالية ليس فيها شيء مما كنت أتوقع رؤيته من العجائب، وما فيها إلا بساط، وكتاب موضوع على رف، وسيف معلق بالجدار، فأجلسني على هذا البساط، ولبث صامتاً ينظر إلي نظرات غريبة، اجتمعت هي ورهبة المكان، وسكون الليل، فشعرت كأني انفصلت عن الدنيا التي تركتها وراء هذا الباب، وانتقلت إلى دنيا أخرى، لا أستطيع وصف ما أحسست به منها. . . ثم أخذ أبي يدي بيديه، بحنو وعطف وقال لي بصوت خافت:
- يا بني! إنك الآن في العاشرة من عمرك، وقد صرت رجلاً، وإني سأطلعك على السر الذي طالما كتمته عنك. فهل تستطيع أن تحتفظ به في صدرك، وتحبسه عن أمك وأهلك وأصحابك والناس أجمعين؟ إن إشارة منك واحدة إلى هذا السر تعرض جسم أبيك إلى عذاب الجلادين من رجال (ديوان التفتيش)
فلما سمعت اسم ديوان التفتيش ارتجفت من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي، وقد كنت صغيراً حقاً، ولكني أعرف ما هو ديوان التفتيش، وأرى ضحاياه كل يوم وأنا غاد إلى المدرسة، ورائح منها - فمن رجال يصلبون أو يحرقون، ومن نساء يعلقن من شعورهن حتى يمتن، أو تبقر بطونهن، فسكت ولم أجب،
- فقال لي أبي: مالك لا تجيب؟ أتستطيع أن تكتم ما سأقوله لك؟
- قلت له: نعم
- قال تكتمه حتى عن أمك وأقرب الناس إليك؟
- قلت: نعم
قال: - فأقترب مني. أرهف سمعك جيداً. فأني لا أقدر أن أرفع صوتي. أخشى أن تكون للحيطان آذان تسمعني فتشي بي إلى ديوان التفتيش فيحرقني حياً. . .
فاقتربت منه، وقلت له:
- إني مصغ يا أبت
فأشار إلى الكتاب الذي كان على الرف. وقال:
- أتعرف هذا الكتاب يا بني؟
- قلت لا
- قال هذا كتاب الله
- قلت الكتاب المقدس الذي جاء به يسوع ابن الله؟
فاضطرب وقال:
- كلا هذا هو القران الذي أنزله الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. على أفضل مخلوقاته وسيد أنبيائه، سيدنا محمد بن عبد الله النبي العربي صلى الله عليه وسلم.
ففتحت عيني من الدهشة ولم أكد أفهم شيئاً.
- قال: هذا كتاب الإسلام، الإسلام الذي بعث الله به محمداً إلى الناس كافة. . فظهر هناك. . . وراء البحار والبوادي. . في الصحراء البعيدة القاحلة. . . في مكة، في قوم بداة مختلفين مشركين جاهلين، فهداهم به إلى التوحيد وأعطاهم به الاتحاد والقوة والعلم والحضارة، فخرجوا يفتحون به المشرق والمغرب، حتى وصلوا إلى هذه الجزيرة أسبانيا، وكان ملكها جباراً عاتياً، وحكومتها ظالمة غاشمة، وشعبها مظلوماً فقيراً جاهلاً متأخراً، فقتلوا الملك الجبار، وأزالوا الحكومة الظالمة، وملكوا الأمر في أسبانيا، فعدلوا بين الناس وأحسنوا إليهم وأمنوهم على أرواحهم وأموالهم، ولبثوا فيها ثمانمائة سنة. . . ثمانمائة سنة جعلوها فيها أرقى وأجمل بلاد الدنيا
نعم يا بني نحن العرب المسلمين. . .
فلم أملك لساني من الدهشة والعجب والخوف، وصحت به:
- ماذا؟ نحن؟. . . العرب المسلمين
- قال: نعم يا بني. هذا هو السر الذي سأفضي به إليك. . . نعم نحن. . . نحن أصحاب هذه البلاد، نحن بنينا هذه القصور التي كانت لنا فصارت لعدونا؛ نحن رفعنا هذه المآذن التي كان يرن فيها صوت المؤذن، فصار يقرع فيها الناقوس؛ نحن أنشأنا هذه المساجد التي كان يقوم فيها المسلمون صفاً بين يدي الله، وأمامهم الأئمة يتلون في المحاريب كلام الله فصارت كنائس يقوم فيها القسس والرهبان يرتلون فيها الإنجيل. . .
نعم يا بني. . . نحن العرب المسلمين، لنا في كل بقعة من بقاع أسبانيا أثر، وتحت كل شبر منها رفات جد من أجدادنا، أو شهيد من شهدائنا. نعم. . . نحن بنينا هذه المدن، نحن أنشأنا هذه الجسور، نحن مهدنا هذه الطرق، نحن شققنا هذه الترع، نحن زرعنا هذه الأشجار. . .
ولكن منذ أربعين سنة. . . أسامع أنت؟ منذ أربعين سنة خدع الملك البائس، أبو عبد الله الصغير آخر ملكونا في هذه الديار بوعود الأسبان وعهودهم فسلمهم مفاتيح غرناطة، وأباحهم حمى أمته ومدافن أجداده، وأخذ طريقه إلى بر المغرب، ليموت هنالك وحيداً فريداً شريداً طريداً، وكانوا قد تعهدوا لنا بالحرية والعدل والاستقلال. فلما ملكوا خانوا عهودهم كلها، فأنشئوا ديوان التفتيش، فأدخلنا في النصرانية قسراً، وأجبرنا على ترك لغتنا إجباراً، وأخذ منا أولادنا لينشئهم على النصرانية. فذلك سر ما ترى من استخفائنا في العبادة، وحزننا على ما نرى من امتهان ديننا، وتكفير أولادنا.
أربعون سنة يا بني ونحن صابرون على هذا العذاب الذي لا تحمله جلاميد الصخر ننتظر فرج الله. لا نيأس لأن اليأس محرم في ديننا، دين القوة والصبر والجهاد.
هذا هو السر يا بني فأكتمه وأعلم أن حياة أبيك معلقة بشفتيك؛ ولست والله أخشى الموت، أو أكره لقاء الله، ولكني أحب أن أبقى حتى أعلمك لغتك ودينك، وأنقذك من ظلام الكفر إلى نور الأيمان. فقم الآن إلى فراشك يا بني.
صرت من بعد كلما رأيت شُرفُ الحمراء، أو مآذن غرناطة، تعروني هزة عنيفة، وأحس
بالشوق والحزن والبغض والحب يغمر فؤادي؛ وكثيراً ما ذهلت عن نفسي ساعات طويلة، فإذا تنبهت رأيتني أطوف بالحمراء وأعاتبها وأقول لها:
أيتها الحمراء. . . أيتها الحبيبة الهاجرة، أنسيت بناتك وأصحابك اللذين غذوك بأرواحهم ومهجهم، وسقوك دماءهم ودموعهم، فتجاهلت عهدهم وأنكرت ودهم. أنسيت الملوك الصيد الذين كانوا يجولون في أبهائك، ويتكئون على أساطينك، ويفيضون عليك ما شئت من المجد والجلال والأبهة والجمال، أولئك الأعزة الكرام الذين إن قالوا أصغت الدنيا، وأن أمروا لبى الدهر. أألفت النواقيس بعد الآذان، أرضيت بعد الأئمة بالرهبان!
ثم أخاف أن يسمعني بعض جواسيس الديوان، فأسرع الكرة إلى الدار لأحفظ درس العربية الذي كان يلقيه علي أبي، وكأني أراه الآن يأمرني أن أكتب له الحرف الأعجمي فيكتب لي حذاءه الحرف العربي، ويقول لي: هذه حروفنا، ويعلمني النطق بها ورسمها ثم يلقي عليّ درس الدين، ويعلمني الوضوء والصلاة لأقوم وراءه وهو يصلي خفية في هذه الغرفة الرهيبة
وكان الخوف من أن أزل فأفشي السر، لا يفارقه أبداً، وكان يمتحنني فيدس أمي إلي فتسألني:
- ماذا يعلمك أبوك؟
- فأقول: لا شيء
- فتقول: إن عندي نبا مما يعلمك، فلا تكتمه عني
- فأقول: إنه لا يعلمني شيئاً
حتى أتقنت العربية، وفهمت القرأن، وعرفت قواعد الدين، فعرفني بأخ له في الله، فكنا نجتمع نحن الثلاثة على عبادتنا وقرآننا واشتدت بعد ذلك قسوة ديوان التفتيش، وزاد في تنكيله بالبقية من العرب، فلم يكن يمضي يوم لا نرى فيه عشرين أو ثلاثين مصلوباً، أو محرقاً بالنار حياً؛ ولا يمضي يوم لا نسمع فيه بالمئات يعذبون أشد العذاب وأفظعه، فتقلع أظافرهم وهم يرون ذلك بأعينهم، ويسقون الماء حتى تنقطع أنفاسهم، وتكوى أرجلهم وجنوبهم بالنار، وتقطع أصابعهم وتشوى وتوضع في أفواههم ويجلدون حتى يتناثر لحمهم. . .
وأستمر ذلك مدة طويلة، فقال لي أبي ذات يوم: إني أحس يا بني كأن أجلي قد دنا، وإني لأهوى الشهادة على أيدي هؤلاء، لعل الله يرزقني الجنة، فأفوز فوزاً عظيما؛ ولم يبق لي مأرب في الدنيا بعد أن أخرجتك من ظلمة الكفر وحملتك الأمانة الكبرى التي كدت أهوى تحت أثقالها، فإذا أصابني أمر فأطع عمك هذا ولا تخالفه في شيء
ومرت على ذلك أيام. وكانت ليلة سوداء من ليالي السَّرار، وإذا بعمي هذا يدعوني ويأمرني أن أذهب معه، فقد يسر الله لنا سبيل الفرار إلى عدوة المغرب، بلد المسلمين؛ فأقول له: وأبي وأمي؟. . .
فيعنف علي ويشدني من يدي، ويقول لي: ألم يأمرك أبوك بطاعتي؟
فأمضي معه صاغراً كارهاً، حتى إذا ابتعدنا عن المدينة وشملنا الظلام، قال لي:
- أصبر يا بني. . . فقد كتب الله لوالديك المؤمنين السعادة على يد ديوان التفتيش. . . .
(دمشق)
علي الطنطاوي
من أسخلوس
لايوس وأوديب
(درامتان مفقودتان)
للأستاذ دريني خشبة
مقدمة: كانت محنة بيت لايوس ملك طيبة، من أعمال بووطيه إحدى مقاطعات هيلاس، مرتعاً خصيبا لأخيلة شعراء اليونان، وقد اتخذوا منها مادة خالدة لمآسيهم، وكتب فيها اسخيلوس ثلاثا من أروع مآسيه هي لايوس، أوديبوس، سبعة ضد طيبة. وقد فقدت الدرامتان الأوليان مع الأسف الشديد، وبقيت الثالثة التي تنم بأسلوبها الرائع عما كانت عليه أختاها من الكمال والسمو. ومما يعزينا من فقدتينك الدرامتين ما وصل إلينا من آثار سوفوكليس؛ فقد ساهم هو الأخر في تخليد تلك المآسي وأبقت غير الأيام على درامتيه القويتين (أوديبوس الملك) و (أوديبوس في كولونوس) ولما كنا لم نسغ تقديم الدرامة الباقية من ثلاثية إسخيلوس وهي (سبعة ضد طيبة) دون التعريف بالدرامتين اللتين تقدمتاها فقد آثرنا تلخيص هاتين الدرامتين عن مصادر محترمة موثوق بها على أن نلخص الدرامة الباقية بعد ذلك.
- 1 -
تزوج لايوس ملك طيبة من الأميرة الجميلة جوكاستا، ومضت سنون والملكة لا تنجب؛ فكان عقمها يشجي الملك، ويكدر صفو حياته؛ وكانت هي أيضاً تحس بما يحس زوجها من مرارة الحياة بلا ولد، وإقفار القصر من بلبل غرد يملؤه موسيقى ويعمر ما أجدب روحي المليكين، ويربط قلبيهما برباطه المقدس، الذي لا ينفصم.
فكان الملك وقتاً ما شقيا وكانت الملكة وقتا ما شقية
- 2 -
ثم أخذها المخاض فجأة، وتحقق الأمل المنشود فوضعته غلاماً زكياً مشرق الوجه مفتر الثغر وضاح الجبين. يقبض كفيه الصغيرتين فكأنما يقبض بهما على نواصي المشرقين والمغربين!
وبدا للملك أن يرسل رسله إلى دلفي يستنبئون كهنة أبوللو عما سيكون من شأن الغلام، وما يضمره له الغيب في صفحته
وا أسفاه! لقد عاد الرسل من دلفي بأشأم نبوءة!!
(إذا عاش هذا الغلام فأنه يقتل أباه، ويتزوج من أمه، ويجر على شعبه شقاء ما ينتهي حتى تفنى ذريته!!)
يا للهول! لقد سمع الملك إلى النبوءة؛ وكأنما انطفأت في عينه شمس السعادة المشرقة، وكأنما ران على قلبه من الهم ما يضنيه، فما يدري ماذا يصنع!؟
أما الملكة، فيالها من شقية مرَزَّأة! لقد أحست، مذ عرفت النبوءة، كأنما قد ولدته أفعوانا أرقم، كهذه التنانين الخرافية التي تمتلئ بها أساطير قومها!. . .
- 3 -
وأسقط في يد الملك، ثم أعتزم أن يقتل الغلام، فعسى أن تبدله الآلهة خيراً منه:(إن نبوءات دلفي لا تكذب ولا تطيش، ومادام هذا الولد سيقتلني إذ عاش، فأني قاتله، ومجنب أمه الفضيحة، وشعبي الرزايا والأشجان!)
ودعا إليه واحداً من خدمه المخلصين فأسر إليه بكلمات. . . وأحتمل الخادم الغلام ومضى به إلى البرية ليذبحه. . .
ونظر الرجل في وجه الطفل فرأى البراءة والطهارة والنقاء، ورأى عينين صافيتان تطل منهما السماء بما فيها من آلهة. . . كأنما تأمره ألا يفعل!. . .
ورأى شفتين رقيقتين كأنما تكلمانه بلغة علوية في ألفاظ كالنسيم الحلو لا تبين، ولكن تغمغم. . . ولا تسمع ولكن تفهم. . . تسترحمانه!
ورأى أذنين ترتعشان كالدينارين، كأنما تقولان له:(أيها الرجل لقد سمعنا ما اسر إليك الملك فحذار أن تقتل هذا الطفل صاحبنا!. . .)
ثم نظر الرجل في السماء فرأى سحاباً رقيقاً ممزقاً تصبغه الشمس بأرجوان خفيف كالدم المطلول، فيجفل قلبه، وتراع نفسه ويقسم ألا يقتل الولد!
ولكن ماذا يقول للملك؟ إذن: (لأربط من عقبيه في هذا الفرع الغليظ من الشجرة، ولأتركه للآلهة تصنع به ما تشاء. . . فإذا حق عليه القتل، سعت إليه وحوش البرية أو عقبان
السماء فاغتذت به. . . وإلا، فليحي حياته التي تريدها الآلهة. . . وليكن بعد ذلك ما يكون!)
- 4 -
وبكى الطفل، وملأ البرية بصراخه المحزن، ورددت الآكام ومشارف الجبال عويله المؤلم، ثم مر به راع كان يتفقد أحد نعاجه الضالة فرثى له، وتقدم فحل الرباط عن عقبيه، وشدهه أن يجدهما متورمين مما ألم بهما، فسماه (أوديبوس!)
وأرتحل به إلى كورنثه، فرآه معه من نم عنه إلى الملك الذي كانت امرأته عقيما لا تلد، فحبب إلى يوليبوس أن يرى الطفل عسى أن يتخذه ولداً. فلما أحضر أليه أنس في عينيه بريقاً عجيباً وفي جبينه لآلاء قويا، وفي روحه الصغيرة روحا كبيراً يكاد يملأ الأكوان. . . فقال للملكة:(إن لم يكن هذا الطفل ابن ملك، فما أحسبه خلق إلا ليكون ملكا. . . ألا نتخذه ولي عهد؟)
وشب أوديبوس، أو أوديب، وأحبه الملك، وغمرته الملكة بإعزازها، وكان هو يهتف بالملك (أي أبي) وبالملكة (يا أمي!) وهو لا يعرف مما أخفياه عنه شيئاً!
- 5 -
أما لايوس، ملك طيبة، فأنه تنفس الصعداء لما حسب من قتل الطفل، وتنفست الملكة الصعداء كذلك. . . أما الأقدار، فما برحت تسخر منهما، وتضحك ملء أشداقها عليهما. . . وما برحت كذلك تعد العدة للمستقبل الرهيب!
- 6 -
وترعرع أوديبوس، ونشأ مفتول العضل هرقلي الصدر، قويم الأخلاق، فيه نخوة الملك، ورفعة العرش، إلى كرم أرومة وطيب محتد.
وحُم القضاء. . . وأقيم في القصر الملكي حفل فخم، دعي إليه سادات طيبة وشبابها. . . وقدمت الآكال والأشربات. . . وققهت أباريق الخمر في الكؤوس. . . وفي الرؤوس، وذهبت أشوابها بوقار الشباب فتحرش بعضهم بأوديب، الذي لم يكن ممن تأسر الخمر لبه، فرده أوديب في حزم، وفي أدب؛ ولكن الشاب خاشن ولي العهد، ثم لمزه، وهو لا يدري ما
يقول، لمزةً نبهت غافل أوديب؛ ذلك أنه عيره بأصله المجهول. . .
(أصلي المجهول؟ ماذا يقول هذا المعتوه؟ مجهول كيف؟ أولست ابن بوليبوس ملك كورنثه؟ أوليست هذه الملكة الجليلة أمي؟ بلى؟! لقد كنت أحس دائماً أنني لا استنشق هواء الأبوة في هذا القصر!. . . ويلاه! السر العجيب. . . السر العجيب. . .)
وأنطلق المسكين إلى مخدعه يبكي وينتحب. . . وانطلقت الملكة في إثره ترفه عنه وتواسيه، وتحلف له بالأيمان المغلظة أنه أبنها. . . وأنها أمه. . . ولكن. . . هيهات! فلم يكن أوديب من البله والغفلة بحيث ينخدع بهذه الأيمان التي لا تصدر عن إخلاص الأم الحقيقة، ولا يشف عن صدقها جب الأمهات الذي يدل على نفسه. . .
(لا! بل أنا أوديب التاعس! أنا أوديب المسكين الذي لا يعرف له أماً، ولا يدري له أباً. . . الوداع أيها القيصر المملوء بالخداع. . . الوداع أيها الملك الذي أكرمتني كأنني ابنك. . . اغفري لي أيتها الملكة التي أحبتني كأنني أبنها. . . سأنطلق. . . سأهيم على وجهي في القفار والفلوات. . . لا بد أن أعرف. . . لا بد أن أعرف من أنا. . . من أبي. . . من أمي. . . الوداع. . . الوداع. . .)
وأنطلق المسكين لا يلوي على شيء. . . غير مزود من هذا الملك العريض والسلطان الواسع إلا بسيفه. . . حتى إذا بلغ أفق طيبة، وقف على ربوة عالية يلقي على ملاعب الصبي ومراتع الشباب نظرة باكية. . . ثم مضى. . .
- 8 -
كانت الشكوك القاتلة تعصف بنفس أوديب، وكان يحاول أن ينسى كلمة الشاب المفتون الذي لمزه. . . ولكن عبثاً حاول ذلك. . . وكان يجهد فيما بينه وبين نفسه أن يفسر تلك النظرات الصارمة التي تبادلها ضيوف القصر بعد أن قال الشاب قالته، ولكنها كانت تعتاص بالمعاني السود في نفسه، وتثير في أعماقه ألواناً من الريب تغلي بدمه في رأسه. . .
وذكر أمه - أو الملكة - وهي تحاول أن تتغفله، وذكر سمات الخداع في ألفاظها، فوقر في نفسه أنه لا بد ابن أبوين آخرين غير بوليبوس وزوجه.
(إذن. . . إلى دلفي! لأذهب إلى دلفي! لأستوح كهنة أبوللو، فعندهم الخبر اليقين)
وهام على وجهه حتى كان في دلفي، وحتى وقف في هيكل أبوللو يبكي ويستنبئ الكهنة!
وساد المعبد صمت رهيب، وانعقدت في أرجائه سحابة داكنة من بخور العنبر، ثم انقدحت ثمة شرارة هائلة هي التي تسبق كلمات الآلة دائما. . . وإذا بصوت مذبوح يتهدج قائلاً:
(ويح لك يا أوديب! أهو أنت؟ اذهب أيها التعس، فقد قضي أن تقتل أباك، وتتزوج من أمك، وتجر التعاسة على شعبك. . .)
وصمت الصوت، ومضى أوديب لطيته. . . أو لغير طيته!
(لها بقية)
دريني خشبه
البريد الأدبي
المباحث المصرية والعلم الحديث
صدرت نشرة خاصة بمحاضرة ألقاها الأستاذ بلاكمان في جامعة ليفربول عن (قيمة المباحث المصرية في العالم الحديث)؛ وفيها يبسط التجارب الأولى التي قام بها الحكماء المصريون في الرياضة والفلك، وينوه بحقيقة تاريخية هامة فطن إليها الفراعنة وهي أنه من الخطر أن يسمح لدولة أجنبية أن تحتل فلسطين. ويقول الأستاذ في رسالته إن دراسة الاقتصاديات المصرية في عصر البطالسة تفيد العالم الحديث، وأنه يمكن أن نلاحظ أن مثل هذه الظروف كانت موجودة بمصر منذ الأسرة الثامنة عشرة، وأن المهندس الحديث يستطيع أن يفيد من دراسة الآثار المصرية القديمة، ولا سيما الأهرام، وما تدلي به من نظريات هندسية بارعة في شؤون الزوايا والمخروطات، وفي شؤون الزخارف البديعة التي تناسب أبنيتها. وإذا كان الذوق الحديث يتطلب التناسق بين الأبنية والزخارف، فأنه لم تحرز أمة في التأريخ براعة المصريين القدماء في إتقان هذا التناسق.
ويرى الأستاذ بلاكمان أيضاً أن المصريين كان لهم أثر كبير في نمو الحضارة الغربية، وذلك بتأثيرهم المباشر أو غير المباشر على الحضارة اليونانية، وأن حكمة المصريين كانت ذات اثر قوي في صوغ تعاليم (العهد القديم) بل كانت ذات اثر في صوغ التعاليم النصرانية ذاتها.
كشف جديد لصحراء الأهرام
وفق الأستاذ سليم بك حسن إلى كشف جديد بصحراء الأهرام، وهو مقبرة كاهن من كهنة الأسرة الخامسة اسمه (نخت كا) كان رئيس للمحفوظات الملكية وأمينا على مخازن الملك. وتقع المصطبة التي وجدت بها مقبرته جنوب مصطبة الأمير (جونوم بات)، وهي مبنية من الحجارة الجيرية، ولها مدخل يفتح إلى جهة الشرق، ويفضي إلى بهو ذي أعمدة من الحجر؛ وفي الحائط الجنوبي للبهو نافذة يدخل منها الضوء إلى المكان.
وفي الطرف الجنوبي الغربي مدخل يفضي إلى حجرة زينت بنقوش ورسوم تمثل الحياة اليومية حينذاك.
وهناك بابان وهميان نقشت عليهما تعاويذ وصيغ معروفة
ومن خلف هذين البابين عثر الكاشف على بئر وجدت بعد تفريغها منتهية إلى حجرة صغيرة منحوتة في الصخر، وفي هذه الحجرة عثر على تابوت من الصخر أيضاً فيه الهيكل العظمي للكاهن (نخت كا) ملفوفاً بالذهب.
وقد عثر في هذه المقبرة على 15 آنية من النحاس بينها طست وإبريق لا يختلفان عما يصنع منهما الآن، وكذلك عثر على أطباق ومعدات للأكل موضوعة على شكل مائدة استعداداً لتناول الطعام عندما يبعث صاحب المقبرة، كما عثر بالقرب من هذه المائدة على عظام الثيران التي نحرت وأعدت للطعام.
وعلى جدران المقبرة نقوش تمثل الحياة المصرية، فمنها ما يمثل جوقات رقص وموسيقى، وفي مقدمة الآلات الموسيقية القيثارة والصفارة وإلى جانب هذه النقوش الفنية ما يمثل نوعاً من أنواع التحتية عند قدماء المصريين وهي التحتية الخاصة بقدامى القرابين إلى الكاهن الأكبر، فقد كان كل منهم يتقدم نحو الكاهن وهو يجر بيمناه الثور في حين أنه يلتفت إلى المكان ويضع يسراه على صدره بحيث تلمس الأصابع أعلى الكتف.
إلى زميلنا المهذب صاحب (المكشوف)
شوهت - سامحك الله - في ذهني صورة جميلة كانت للمكشوف. فقد اعتقدت - وكنت على وشك أن أعلن هذا الاعتقاد - أن مجلة (العصبة) في سان باولو، وجريدة (المكشوف) في بيروت، تكتبان اليوم فصلاً قيماً في تأريخ الأدب العربي الحديث؛ وأن العصبة الأندلسية الكريمة التي تصدر تلك المجلة في المهجر، وعصبة العشرة التي تحرر هذه الجريدة في الموطن، إنما تجريان على تقاليد لبنان العربي فتتمان ما بدأ به آل اليازجي وآل البستاني وأضرابهم من رجال الفكر والترجمة والصحافة والتمثيل الذين عاونوا مصر على إحياء هذه النهضة؛ وأن هؤلاء الأدباء الأوفياء إنما هم حجة العربية والعروبة على هذا الأدب الدخيل الذي يستمد وجوده من فينيقية القديمة وفرنسا الجديدة ثم يزعم للأغرار أنه أدب لبنان!
نعم كنت أعتقد في المكشوف ما أعتقد في العصبة حتى قرأت في عدده الأخير مقالاً وجهته إليّ فزعزع في نفسي أساس هذه العقيدة!
ما رأيك في رجل تكلمه في موضوع عام في الأدب فيقول لك: إنك شتمتني فأنا أشتمك؟!
إن كنت تقول إن هذا الرجل لا يوجد في الناس فتعال إذن أسألك: كيف فهمت من مقال (النقد المزيف) أنه رد عليه فقلت ما نصه: (يرد الأستاذ الزيات في رسالته علينا ولا يسمينا مخافة أن يرمي بالجمود حين يحمل على دعاة الجديد والقائلين بأدب الحياة فيعمد إلى اللف والدوران والتلميح. . .) ثم قالت بعد ذلك: (يقول صاحب الرسالة ردا على الحملة التي نحملها على أدب الألفاظ وشعر البكاء المتكلف والرثاء الكاذب. . . (إن هذا النقد إما أن ينبعث من مكامن الحقد فيرمي إلى التجريح، وأما أن ينطلق من مواضع الغرور فيسعى إلى الهدم) ثم رتبت على هذا الفهم أو الوهم ما سوغه لك أدبك. إن كنت تقرأ ما في السطور كما يقرأ الناس فالأمر إذن لمنطق الناس، وإن كنت تقرأ ما بين السطور فالأمر لك وحدك. وما حيلة المنطق في (دون كيتشوت) الذي يريد أن يبني بطولته على معارك الوهم؟ على أنني كنت أحب أن ترعى جانب الأدباء الذين يعاونونك في تحرير المكشوف فتربأ بهم عن هذا الموضع الذي ارتضيته لنفسك. أما حملتك الهوجاء على الأستاذ الرافعي فهو أقدر الناس على ردها عليك إن شاء.
عدد الطلاب الذين تقدموا هذه السنة للامتحانات العامة
بلغ عدد الطلاب والطالبات الذين تقدموا من المدارس المصرية للامتحانات العامة: (البكالوريا، والابتدائية، وكفاءة التعليم الأولى، والمعلمات الراقية) في السنة المكتبية الحالية 23 ، 208 فالذين تقدموا لامتحان شهادة الدراسة الثانوية قسم ثان 5 ، 445 طالباً، منهم 2 ، 155 بالقسم الأدبي، و3 ، 290 بالقسم العلمي. والذين تقدموا لامتحان شهادة الدراسة الابتدائية قد بلغ عددهم 16 ، 339. وعدد الذين تقدموا لامتحان شهادة كفاءة التعليم الأولى 1 ، 364منهم 935 كفاءة المعلمين و429 كفاءة معلمات
وبلغ عدد الطالبات اللائي تقدمن لامتحان شهادة المعلمات الأولية الراقية 60 طالبة منهم 15 بالتعليم العام و17 بقسم التدبير المنزلي و15 بقسم رياض الأطفال والرسم و13 بقسم تخصيص تربية العميان.
أزفالد شبنجلر
نعت إلينا أنباء ألمانيا الأخيرة الكاتب والفيلسوف الاجتماعي الألماني أزفالد شبنجلر توفي
فجأة في مدينة ميونيخ بالسكتة القلبية في السادسة والخمسين من عمره؛ وكان قبل أن يخوض ميدان الكتابة الحرة أستاذاً في إحدى المدارس الثانوية ولكنه في سنة 1911هجر التعليم، ونزل ميدان الصحافة والكتابة الحرة وهو في عنفوان شبابه، واشتهر بكتاباته في الموضوعات الاجتماعية والثقافية، بيد أنه لم يبلغ الذروة في عالم الكتابة يومئذ؛ وإنما بلغ شبنجلر ذروة الشهرة والنفوذ كمفكر وكاتب مبتكر بعد الحرب الكبرى حين اصدر كتابه الشهير:(انحلال الغرب) الذي طبع مرات عديدة في وقت قصير وترجم إلى معظم اللغات الحية.
وقد كان صدور هذا الكتاب حادثاً أدبياً وفكرياً عظيماً، بل يعتبر أعظم حادث فكري وقع في ألمانيا بعد الحرب. وفيه يدرس شبنجلر قوانين النمو والانحلال في التأريخ، ويشرح التطورات التاريخية بطريق الدرس المقارن للعلوم الطبيعية وأصول الحيوان والنبات، ويتناول في بحثه كل ما يتصل بمصير الإنسان وطالعه، سواء من ناحية الدولة أو المجتمع. ويعتقد شبنجلر أنه استطاع بهذا العرض أن يطلع مواطنيه على الحلقة التي يستأنف منها التأريخ سيره، وعلى واجبات المستقبل. وقد أحرز كتاب شبنجلر من الوجهة الأدبية والاجتماعية نجاحاً عظيماً، ولكنه أعتبر سقيما من الناحية العلمية، ذلك أن شبنجلر لم يكن أستاذاً في كل الموضوعات التي تناولها والأصول العلمية التي أعتمد عليها، وهو مشحون بالأخطاء من هذه الناحية؛ بيد أنه من ناحية العرض الاجتماعي يعتبر قطعة رائعة من الدعاية القومية، ويبسط شبنجلر آراءه بقوة وعنف وبساطة؛ ومن ثم كان النجاح الباهر الذي أحرزه كتابه، والأثر العظيم الذي أحدثته آراؤه في الجيل الألماني المعاصر.
مصادرة كتاب عن البلاط النمسوي
من أنباء النمسا الأخيرة أن الحكومة النمسوية قررت مصادرة كتاب صدر أخيراً بالألمانية وعنوانه (لما كنت أرشيدوقاً) ومنعه من التداول في النمسا؛ وهذا الكتاب عبارة عن مذكرات البلاط النمسوي القيصري بقلم ليوبولد فلفلينج، وهو الأسم الشعبي للأرشيدوق ليوبولد سالفاتور أحد أمراء آل هبسبرج السابقين، ومن أبناء عمومة القيصر السابق، وقد عاش هذا الأمير حيناً في البلاط النمسوي، ولكنه كان من الأمراء الثائرين عليه وعلى سياسته ورسومه، فلم يمض غير قليل حتى أبعد عنه، وخاض مدى حين حياة مغامرات
متواصلة؛ وتوفي في العام الماضي في فينا فقيراً مجهولاً وهو يقص في كتابه المذكور كثيراً من أحوال البلاط النمسوي وأسراره وحوادثه مدى ثلاثين عاماً، وقد سبق أن نشر بعض فصول كتابه في كبريات الصحف فأثارت يومئذ كثيراً من الاحتجاج والتعليق، لأن منها ما يتعلق ببعض الشخصيات الحية، ولهذا رأت الحكومة أن تمنع تداوله.
وقد تكرر منع الحكومة النمسوية في العهد الأخير لمؤلفات ومذكرات تتعلق بالبلاط النمسوي السابق وبأسراره ومثالبه؛ وهذا ما يفسره بعضهم بأن ذلك يرجع إلى ميول الحكومة الملكية، وإلى حرصها على استبقاء سمعة الملوكية النمسوية بعيدة عن التأثر بهذه الذكريات والقصص المثيرة.
ذكرى مخترع شهير
أحتفل أخيراً في ألمانيا بذكرى عالم مخترع هو أوتوفون جريكه، وهو أول من استطاع أن يطبق نظرية الضغط الهوائي بصورة عملية؛ وذلك لمناسبة مرور مائة وخمسين عاماً على وفاته وكان مولده سنة 1602 في مجد بورج؛ ودرس القانون والعلوم الطبيعية دراسة حسنة، وظهر أثناء الحرب الثلاثينية (حرب الثلاثين عاماً) وأشترك في عقد مفاوضات الصلح، ثم عين بعد ذلك حاكماً لمدينة مجد بورج؛ ولكنه لم ينس طوال حياته أن يشتغل بالعلوم والتجارب الطبيعية؛ وقد استطاع لأول مرة أن يجري أول تجارب في الطبيعة العملية، وكان ميدان بحثه في الهواء وما هيته ومؤثراته؛ فاستطاع بعد تجارب عديدة أن يصل إلى نظرية ضغط الهواء؛ ففي سنة 1654، نظم في مدينة ريجنسبرج أمام القيصر فرديناند الثالث تجربة عملية من هذا النوع، وخلاصتها أنه أتى بنصفي كرة من النحاس قطر كل منهما 36 سنتمتراً، وأطبقهما على بعضهما، وأستخرج منهما الهواء بواسطة مضخة صغيرة؛ ثم رتب أن يجر كل منهما ثمانية من الخيل في اتجاه معاكس، فلم تستطع الخيل أن تنزع نصفي الكرة من بعضهما؛ وكانت هذه أول تجربة عملية ناجحة أثبتت بها قوة الضغط الهوائي، وحاول فرن جريكه بعد ذلك أن يطبق تجاربه على صنه الآلات ولكنه لم يوفق في محاولته، وكان التوفيق في استخدام ضغط الهواء لصنع الآلات من نصيب مخترع إنكليزي يدعى توماس نيوكومن، وذلك في أوائل القرن الثامن عشر.
من هنا ومن هناك
أشهر كتب الخلاصات الحديثة.
كان مؤلفو العرب يعنون عناية فائقة بوضع كتب الخلاصات للعلوم والفنون والآداب؛ وكانت كتبهم تكبر وتكبر حتى تغدو موسوعات ضخمة تسعف القارئ بما يحتاج إليه من المعارف العامة والنبذ الخاطفة من كل علم وفن؛ ولعل كتاب الأغاني هو أول موسوعة عربية من نوعها. ومن الموسوعات العربية أيضاً كتاب نهاية الأرب للنويري، وصبح الأعشى للقلقشندي ولسان العرب لابن منظور المصري، والعقد الفريد لابن عبد ربه ومسالك الأمصار، وتاريخ بغداد. . . الخ، وقد أقتبس الغرب هذه الطريقة الموسوعية عن أسلافنا العرب، فوضع ديدرو موسوعته الفرنسية، ثم كان للإنجليز موسوعتهم كذلك، ونحسب أن الموسوعة الإيطالية الحديثة التي اشترك في وضعها الطاغية موسوليني هي أكبر موسوعات العالم قاطبة، وإن تكن لا تفضل الموسوعة البريطانية في الدقة وتوخي الحقيقة فيما حفلت به من سائر المعارف العالمية، ولكن هذه الموسوعات غالية الثمن غالباً؛ ولا يستطيع الأفراد إلا الأقلون منهم اقتناءها لهذا السبب، فثمن الموسوعة البريطانية الرخيصة مثلاً (الطبعة الرابعة عشرة) خمسة وعشرون جنيهاً أو أكثر، إذا دفع الثمن على أقساط؛ وثمن الطبعة الغالية أكثر من خمسة وسبعين جنيهاً مصرياً. وقد وضعت شركة الكتب الإنجليزية دائرة معارف للأعلام على طريقة وفيات الأعيان لابن خلكان وجعلت ثمنها أربع جنيهات.
لذلك راجت كتب الخلاصات في أوربا عامة، وإنجلترا خاصة، وكان
الأديب الإنجليزي الكبير هـ. ج. ولز هو المبتدع لهذه الطريقة
الطريفة، وذلك حين وضع كتابه الجميل (خلاصة تأريخ العالم)،
يستعرض فيه تأريخ الحياة في هذه الدنيا منذ بدء الخليقة إلى اليوم،
فأنت تقرأ فيه لمحة من كل علم، وطرفة من كل فن، وخطفة من كل
أدب، وينتقل وتر من الجيولوجيا إلى الانثروبولوجيا، إلى البيولوجيا،
إلى التأريخ، إلى الآداب، إلى الفنون، إلى العلوم، إلى الحركات الفعالة
التي تناولت الأمم بالهدم والبناء. . . . وكل ذلك بأسلوب طلي، وروح
وثاب، وعبارة مشرقة غير مملولة. ولا يكاد القارئ يلتمس شيئا في
خلاصة ولز هذه إلا وجدها، وهذه مهارة تحمد للمؤلف، والخلاصة
على نفاستها رخيصة الثمن جدا بحيث يستطيع القارئ العادي اقتناءها
دون أن يرهق حبيبه.
وقد وضع ولز خلاصه ثانية لا تقل عن قيمتها عن خلاصته الأولى، ولا تزيد في ثمنها عليها، تلك هي كتابة القيم (الإنسان، عمله، ثروته، سعادته)، ويعرض فيه لطائفة رائعة من فنون العمل والحياة لا تكمل ثقافة الإنسان إلا إذا وعاها.
وقد ألف الكاتب الشاعر الإنجليزي (جون درنكووتر) خلاصته في آداب العالم، وهي برغم ما فيها من الشوائب، وما يعتور بحوثها من القصور المعيب أحياناً، خلاصة قيمة بما حفلت به من تأريخ الأدب العالمي منذ فجر التاريخ إلى اليوم في كل أمة. . . إلا الشرق! وإن يكن قد تناول آداب الشرق القديمة بفصول مشوهة مبتورة، وإن يكن أيضاً قد خص الأدب الإنجليزي بأكبر نصيب من خلاصته!
أما الخلاصة الأدبية القيمة حقاً فهي تلك التي كتبها الأديب المؤرخ الأمريكي الشهير برتن راسكو والتي سماها (جبابرة الأدب أو - أعاظم كتاب العالم)، وقد أختار لها برتن راسكو أربعين أديباً وشاعراً من أكبر أدباء التأريخ وشعرائه، بدأهم بهوميروس وختمهم بجورج مور، ثم ختم الخلاصة بلمحة عن الأدب العالمي في الخمسين سنة الأخيرة. وبرغم هؤلاء الأربعين أديباً، فأنك لا تكاد تذكر أديباً أو كاتباً في كل عصور التأريخ إلا وجدت المؤلف حام حوله، وأعطاك لمحة عما يهمك جداً من فنه وطريقته وأشهر مؤلفاته، ومع ذاك فثمن كتابه زهيد جداً.
لذلك أنصرف الناس عن الموسوعات لغلائها ولاشتمالها على موضوعات لا تهم غالبيتهم إلى الخلاصات لرخص ثمنها ولتركزها في باب بعينه كما في خلاصة الفن وخلاصة الموسيقى.
بيكون بين النقص والكمال
يغلو بعض مؤرخي الأدب الإنجليزي فيدعى أنه لا يوجد منذ أرسططاليس إلى فرنسيس بيكون فيلسوف مثل بيكون! ومع اعترافنا بما كان لهذا الرجل من الأثر الكبير في الذهن الإنجليزي في عصر النهضة فأننا لا نفضله على كثيرين من أبطالها ولا سيما هارفي وكبلر وغاليلو. وقد اشتهر بيكون بتفضيله التجربة في العلوم على الاستدلالات المنطقية العقيمة وأكثر المؤرخين على أنه ليس مبتدع تلك النظرية، فقد سبقه إليها العرب، ثم أقتبسها عنهم غير بيكون من علماء النهضة. وكان بيكون معروفاً دائماً بالشذوذ الغريب حتى إنه كان يؤلف أحسن كتبه باللاتينية وذلك لعدم إيمانه بالإنجليزية في ذلك العصر!!
على أن الذي يعنينا في هذه اللمحة عن بيكون هو خلقه الذي أنحدر إلى الحضيض الأسفل من اللؤم والضعة. قال بوب (بيكون فيلسوفنا المحترم! هو أعظم بني الإنسان وأعقلهم، كما أنه أخسهم وألأمهم!!) ولنذالة بيكون قصة مشجية تتلخص فيما يلي:
عندما عاد بيكون من باريس كان أبوه قد مات، وكان أخوه الأكبر قد استولى على جميع التركة بحكم التقاليد الإنجليزية البالية التي كانت سائدة وقتئذ في ذلك الشعب المحافظ العتيق. والتحق بيكون بوظيفة في أحد الفنادق ليعيش، ثم أكب على دراسة القانون حتى نال إجازة الحقوق فأنخرط في سلك القضاء فأبدى نبوغاً عظيماً وعبقرية فذة. وكان اللورد بيرلي يعرف ما لهذا القانوني الشاب من خطر، فشرع يقيم في سبيله العراقيل حتى لا يبذ أبنه روبرت سيسيل الذي كانت له مطامح وآمال في أكبر المناصب القضائية في إنجلترا، فلما شغرت وظيفة (الأفوكاتو العمومي) رشح لها بيكون بعبقريته ورسوخ قدمه في القانون، ثم روبرت سيسل بحسبه ونسبه وضلع أبيه - اللورد بيرلي - في الحكومة ومنزلته السامية لدى الملكة اليزابث، وكانت هذه المؤهلات كلها (!) كفيلة بتعيينه في المنصب واطراح بيكون
وكان (ايرل اسكس) يعجب ببيكون ويميل إلى تعيينه، فلما ضاعت مجهوداته عبثا عز عليه أن يقتل اليأس نفس الشاب النابغة، فحدب عليه وواساه مواساة طيبة، ثم وهب له أرضاً واسعة تغل له غلة كبيرة، وقصرا من أفخم قصور لندن على نهر التاميز!!
ودار الزمن دورته، وساءت الأحوال بين الملكة وبين ايرل أسكس، وقدم للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى، فانتدبت الملكة أعز أصدقاء الأيرل، فرنسيس بيكون ليكون عضوا في
الهيئة التي تتولى الدفاع عنها. . . فماذا جرى؟! لقد كان بيكون أشد المستشارين حماسةً للملكة ضد صديقه الذي حدب عليه، وأبعد عنه شبح الفاقة، برغم ما كان يبدو من براءة الأيرل، وبرغم ما كان يبدو من ميل بقية المستشارين إلى تبرئته. . .
ولم يكتف بيكون بهذا الموقف الشاذ اللئيم، بل قدم مذكرة مسهبة بإدانة صديقه، ثم طلب في نهايتها الحكم عليه بالإعدام! وكافأته الملكة على حماسته، فرفعته إلى أعلى المناصب، وأغدقت عليه أرفع الألقاب، حتى غدا (لورد بيكون!)
ولما كتب بيكون كتابه في الأخلاق عقد فيه فصلاً من أحط ما عرفت البشرية عن (الحب والزواج والعزوبة) وذكر فيه أن الحب هو علاقة جنسية خالصة، وغريزة شهوية وضيعة، وأن المرأة بذلك إن هي إلا متعة للرجل وأنها مطيته إلى اللذة الحيوانية الطارئة. . . الخ. . . فلما تقدم إلى ليدي هاتون يطلب يدها لم تستح هذه المرأة المثقفة أن تصفعه في وجهه بهذه الكلمة الخالدة (ليذهب الفيلسوف البهيم إلى غابة قريبة فلينتق له بهيمة تكون مطيته إلى لذة طارئة ثم ليلقنها فلسفته!)
ودار الزمان دورته مرة ثانية! وأخذت الألسن تلوك إشاعات مخزية عن رشا يأخذها النائب العمومي (وكان هو بيكون في هذه الآونة) واضطر مجلس العموم إلى أن يثور طالباً محاكمته أمامه. . . فلما مثل الرجل وشرع الأعضاء يقذفونه بالتهمة تلو التهمة، لم يسعه إلا أن يعترف، ولم يسعه إلا أن يبكي. . . والتمس من المجلس أن يعامله برحمة. . . وحكم عليه بغرامة هائلة قدرت بأربعين ألف جنيه، ثم بالسجن المؤبد. . . ولكنه لم يحبس غير ليلة واحدة، ثم عفت عنه الملكة!!
هذه لمحة عن أخلاق الرجل الذي وضع كتاباً في الأخلاق ذم فيه أخلاق نبينا!!!
وهذا هو الرجل الذي يخلط بعض مؤرخي الآداب فيدعي أنه كتب كثيراً من الدرامات التي تعزى إلى شاكسبير!!
ترجمة القرآن
لا ندري إذا كان على إمارة المسلمين في زماننا هذا رجل مثل المأمون فماذا عساه كان صانعاً بمن يقولون بعدم جواز ترجمة معاني القرآن بعدما أقرها أكثر العلماء؟
ماذا كان يصنع المأمون بالأستاذ محمد سليمان بعد الذي صنعه بالإمام الكريم ابن حنبل في
فتنة خلق القران؟!
لقد كنت أود لو أن الأستاذ محمد سليمان يجيد الإنجليزية إذن لأرسلت نسخة من ترجمة جورج سيل أو الاسكندر روس أو غيرهما ليقرأ بنفسه ما جاء فيها من الشطط في ترجمة الآيات. وهو لو علم أن المسلمين، غير العرب، في مشارق الأرض ومغاربها يتلون كتاب الله في هذه التراجم، ويكاد يصبأ بعضهم لما يلحظه من الضعف والسخف فيها، لهتف حضرته مع الهاتفين بضرورة ترجمة معاني القرآن. . .
هافلوك أليس
ذكرنا في العدد الماضي من (الرسالة) كلمة عن إباحيين من إباحي الأدباء الإنجليز هما لورانس وجيمس جويس، وقد فاتنا أن نشير إلى العلاقة بين مذهبهما ومذهب المنحطين مثل أوسكار ويلد وإضرابه. ونذكر في هذا العدد العالم الكبير هافلوك أليس لا على أنه إباحي مثل لورانس أو مثل جويس، وإن دعا هو الأخر إلى التنعم بلذائذ الحياة من ذهنية وحسية وعدم كبت الغرائز والتفريج عنها. . . ولكن بالوسائل المشروعة.
وهافلوك أليس عالم في التناسليات، ولكنه بكل أسف ليس أديباً، ولكن الأدباء في إنجلترا يصلون بينه وبين جمهورهم لأنهم متأثرون به.
ولأليس ضريب آخر هو برتراندسل سنتكلم عنه في العدد القادم.
(د. خ)
الكتب
بغداد أو المدينة المدورة
في عهد الخلافة العباسية
للأستاذ إبراهيم الواعظ
كنت في صيف العام الماضي مصطافاً في سوريا ولبنان ولم يمنعني هذا الاصطياف من تتبع أعداد (الرسالة) وقراءتها، وكنت قرأت في العدد (111) منها مقالة تحت عنوان (أغراض الاستشراق) بتوقيع أحد كتاب الرسالة للأستاذ (محمد روحي فيصل) كان قد كتبها للأستاذ الكبير (محمد كرد علي) على أثر كلمة نشرها الثاني في العدد (108) من الرسالة بمناسبة نشر كتاب (المقنع في رسم مصاحف الأمصار مع كتاب النقط) لأبي عمر بن عثمان بن سعيد الداني، وامتدح بها علماء المشرقيات لعنايتهم بكتب الإسلام، وانحنى باللائمة على خاصة أهله لأنهم ساهون لاهون، واستنهض بها همم علماء الأزهر وقادة الثقافة في الأقطار الإسلامية لأحياء السلف الصالح.
وكنت قد هممت أن أكتب كلمة ولكني وجدت في كلمتي الأستاذ (محمد كرد علي) اللتين نشرتا في العدد 114و115من الرسالة ما يكفيني مؤونة الكتابة والرد.
هذا وقد سنحت لي الفرصة الآن بمناسبة كتاب طبع ببغداد في الآونة الأخيرة لأقول كلمة في هذا الموضوع.
إنني أتفق تمام الاتفاق مع الأستاذ (روحي فيصل) فيما كتبه من علماء المشرقيات من ناحية، وأختلف معه تمام الاختلاف من ناحية أخرى: أتفق معه على أن بين هؤلاء العلماء من كان قصده من الاستشراق هدم كيان الدين الإسلامي من جهة، والتبشير بطريقتهم من الجهة الأخرى. ولا جدال أن مثل هذه الفئة من علماء المشرقيات مضرة تمام الضرر، وجرثومة فتاكة يجدر بكل مسلم أن يسعى لمحقها بشتى الوسائل.
على إننا إذا ما صرحنا برأينا في هذه الفئة لا يسعنا أن نغمط حقوق الفئة الأخرى من هؤلاء العلماء، لأن الغمط في مثل هذا المقام تجاوز على الحق والحقيقة معاً.
إننا مهما حاولنا أن ننكر ما لهذه الفئة من فضل على الإسلام والعرب فالواقع يكذبنا
ويدحض هذه الإنكار. نظرة بسيطة نرسلها إلى الآثار القيمة والأسفار العظيمة التي اعتنت بطبعها وإخراجها تلكم الفئة تدلنا على أنه لولا الجهود الجبارة التي قام بها هؤلاء العلماء لما أمكننا أن نعلم شيئاً عن الآثار المهمة ككتاب (الطبقات الكبرى) لابن سعد، وهو الكتاب الفريد الذي يعد الآن من أكبر أمهات الكتب من جهة، والمأخذ الوحيد للقضايا الهامة في التأريخ الإسلامي من جهة أخرى. وقل مثل ذلك عن بقية الآثار العظيمة التي نشروها.
هذا كتاب الأنساب (للسمعاني) لولا هممهم لما طبع ولأصبح في زوايا الإهمال؛ لقد طبع هذا الكتاب في لندن طبعة شمسية (فوتوغرافية) ولا يخفى ما تكلف هذه الطريقة للنشر من النفقات والجهود. وهناك كتاب (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) للأمام الأشعري. فلولا همة الأستاذ (ريتر) المشتشرق الألماني والمبادرة بطبعه في الآستانة لكان نصيبه التلف في الخزانات. ولا ننس ما لطبعة (ليدن) في (هولانده) من الفضل الأكبر في طبع أمهات الكتب التاريخية والأدبية واللغوية وغيرها، كتاريخ الطبري، واليعقوبي، وتجارب الأمم لابن مسكويه، وتاريخ الصابي، والعيون والحدائق، والمسالك والممالك لابن حوقل، والأصطخري، وكتاب التنبيه والأشراف للمسعودي، والأعلاق النفيسة لابن رسته، وكتاب مراصد الإطلاع لعبد المؤمن، وغيرها من الكتب المهمة التي لم تحضرني أسماؤها. على أن مطابع لندن، وباريس وليبزج ورومه وغوتنفن وغريفزولد لا تقل خدمة عن بقية المطابع التي قامت بقسطها من الأعمال الجبارة في إخراج هذا التراث الثمين الخالد ولا يفوتنا أن الكثير من هذه الكتب لم تكن مطبوعة في المطابع العربية إلا النزر القليل منها.
إذن لولا هذه الجهود العظيمة الموجهة إلى خدمة العلم والأدب خاصة، لما أمكننا أن نتوصل إلى مشاهدة هذه الآثار اللهم إلا إذا تجشمنا مصاعب السفر ومصائبه، وفتشنا عنها في زوايا المكاتب في سائر الأقطار الأوربية والشرقية.
لم تقف أعمال هؤلاء العلماء عند حد الإخراج بالطبع ونشر الآثار وإنما انصرف إلى التحقيق والدرس، وأخيراً إلى التأليف؛ ذلك التأليف المنتج والمستند إلى الحقائق التاريخية. فمن هؤلاء الرجال العاملين المستشرق الإنجليزي الأستاذ الكبير (ليسترنج) فإنه كتب كتاباً عن (بغداد) في عهد الخلافة العباسية ضمنه معلومات تاريخية منقطعة النظير لم يسبقه إليها سابق، ولم يلحقه في تحقيقها لاحق. والذي يجيل طرفه في قائمة المآخذ والمصادر
التي أستسقى منها المؤلف وألف كتابه يعلم قيمة هذا التأليف ومزيته التاريخية. وهذه حلقة أخرى نسجلها لهذه الفئة الصالحة في علماء المشرقيات.
وبعد، فإن الذي حدا بي لكتابة هذه الكلمة هو قيام أحد شبان العراق المخلصين الأستاذ بشير يوسف فرنسيس بترجمة هذا الكتاب ترجمة صالحة قيمة. وإني بدوري أكبره على اهتمامه، وأهنئه على هذا العمل الشاق، وأتوسل - كما توسل من قبل الأستاذ الكبير (محمد علي كردي) - إلى سادتنا العلماء أن يأخذوا باليمين آثار السلف الصالح يحمونها، ويخدمون بها الأمة الإسلامية خاصة، والعربية عامة.
وأخيراً أتمنى للمترجم بشير يوسف توفيقاً وللمترجم رواجاً
(بغداد)
إبراهيم الواعظ المحامي
إصلاح خطأ المحدثين
بقلم برهان الدين محمد الداغستاني
ذكرت في مقال عن أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي (عددي الرسالة 98و99) أن لأبي سليمان كتاباً باسم (إصلاح غلط المحدثين)، أورد فيه قرابة مائة وثلاثين حديثاً، يرويها أكثر المحدثين ملحونة أو محرفة، أصلحها وبين الصواب فيها؛ وقلت في الحاشية إن منه نسخة قيمة في دار الكتب المصرية مكتوبة بخط محمد محمود التركزي الشنقيطي تحت رقم (1510) حديث، وقد قام صديقي السيد عزت العطار سكرتير لجنة الشبيبة السورية بالقاهرة بنشر هذا الكتاب فجاء صورة صحيحة لنسخة العلامة الشنقيطي المحفوظة في دار الكتب المصرية.
ولأبي سليمان الخطابي مكانة عظيمة بين رجال الحديث الذين كتبوا في فقه أو غريبه، وتتجلى منزلته في كلتا الناحيتين في كتابيه و (غريب الحديث) الذي لا يزال حبيس دور الكتب إلى الآن. والظاهر أنه بعد فراغه من كتابيه السالفين أراد أن يجمع في كتاب على حدة الكلمات التي يغلظ فيها المحدثون والرواة، فجمع هذه الجمل في كتاب (إصلاح خطأ المحدثين) ولكنه لم يضع لهذه المجموعة اسماً خاصاً، بل اكتفى بقوله في المقدمة:(هذه ألفاظ من الحديث يرويها أكثر الناس ملحوظة، أصلحناها وأخبرنا بصوابها، وفيها حروف تحتمل وجوها اخترنا منها أبينها وأوضحها، والله الموفق للصواب لا شريك له)
ثم جاء بعد ذلك المؤرخون، فسماه بعضهم (إصلاح غلط المحدثين) وآخرون (إصلاح خطأ المحدثين)، واقتصر غير هؤلاء وأولئك على تسمية إصلاح الغلط أو إصلاح الخطأ.
وجاء دور دار الكتب المصرية، فسمته في فهرسها بإصلاح الألفاظ الحديثة التي يرويها أكثر الناس ملحونة ومحرفة، وهذا الاسم مع طوله وخروجه على المألوف في الأسماء لم أجد من ذكره من المؤرخين. كذلك أحله منظمو الفهارس فيها غير محله، فوضعوه في فهرس الحديث وحقه أن يوضع في فهرس اللغة العربية فلعل أولى الشأن في دار الكتب يولون هذه الملاحظات ما تستحق من الاعتبار فيصححون اسم الكتاب ويردونه إلى حظيرته في فهرس اللغة والله سبحانه أسأل السداد والتوفيق.