المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 154 - بتاريخ: 15 - 06 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٥٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 154

- بتاريخ: 15 - 06 - 1936

ص: -1

‌محنة فلسطين

أيها المسلمون!

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

نهضتْ فلسطين تحلُّ العقدةَ التي عُقدت لها بين السيف، والمكر والذهب.

عقدةٌ سياسية خبيثة، فيها لذلك الشعب الحر قتلٌ، وتخريبٌ، وفقر.

عقدةُ الحكم الذي يحكم بثلاثة أساليب: الوعدِ الكذب، والفَناء البطيء، ومطامع اليهود المتوحشة.

أيها المسلمون! ليست هذه محنة فلسطين، ولكنها محنة الإسلام؛ يريدون ألاَّ يثبت شخصيته العزيزة الحرة.

كل قرش يُدفع الآن لفلسطين، يذهب إلى هناك ليجاهد هو أيضاً.

أولئك إخواننا المجاهدون؛ ومعنى ذلك أن أخلاقنا هي حلفاؤهم في هذا الجهاد.

أولئك إخواننا المنكوبون؛ ومعنى ذلك أنهم نكبتهم امتحان لضمائرنا نحن المسلمين جميعاً.

أولئك إخواننا المضطهدون؛ ومعنى ذلك أن السياسة التي أذلتهم تسألنا نحن: هل عندنا إقرارٌ للذل؟

ماذا تكون نكبة الأخ إلا أن تكون اسماً آخر لمروءة سائر اخوته أو مذلتهم؟

أيها المسلمون! كل قرش يدفع لفلسطين يذهب إلى هناك ليفرض على السياسة احترام الشعور الإسلامي.

ابتلوهم باليهود يحملون في دمائهم حقيقتين ثابتتين من ذل الماضي وتشريد الحاضر.

ويحملون في قلوبهم نقمتين طاغيتين: إحداهما من ذهبهم والأخرى من رذائلهم.

ويخبئون في أدمغتهم فكرتين خبيثتين: أن يكون العرب أقلية، ثم أن يكونوا بعد ذلك خدم اليهود.

في أنفسهم الحقد، وفي خيالهم الجنون، وفي عقولهم المكر، وفي أيديهم الذهب الذي اصبح لئيما لأنه في أيديهم.

أيها المسلمون! كل قرش يدفع لفلسطين يذهب إلى هناك ليتكلم كلمة ترد إلى هؤلاء العقل.

ابتَلوْهم باليهود يمرون بينهم مرور الدنانير بالربا الفاحش في أيدي الفقراء.

ص: 1

كل مائة يهودي على مذهب القوم يجب أن تكون في سنة واحدة مائة وسبعين. . .

حساب خبيث يبدأ بشيء من العقل، ولا ينتهي أبداً وفيه شيء من العقل.

والسياسة وراء اليهود، واليهود وراء خيالهم الديني، وخيالهم الديني هو طرد الحقيقة المسلمة.

أيها المسلمون! كل قرش يدفع لفلسطين يذهب إلى هناك ليثبت الحقيقة التي يريدون طردها.

يقول اليهود: إنهم شعب مضطهد في جميع بلاد العالم، ويزعمون أن من حقهم أن يعيشوا أحراراً في فلسطين، كأنها ليست من جميع بلاد العالم. . .

وقد صنعوا للإنجليز أسطولا عظيما لا يسبح في البحار ولكن في الخزائن. . .

وأراد الإنجليز أن يطمئنوا في فلسطين إلى شعب لم يتعود قط أن يقول: أنا

ولكن لماذا كنستم كل أمة من أرضها بمكنسة أيها اليهود؟

أجهلتم الإسلام؟ الإسلام قوة كتلك التي توجد الأنياب والمخالب في كل أسد.

قوة تخرج سلاحها بنفسها لأن مخلوقها عزيز لم يوجد ليُؤكل ولم يخلق ليذل

قوة تجعل الصوت نفسه حين يزمجر كأنه يعلن الأسدية العزيزة إلى الجهات الأربع

قوة وراءها قلب مشتعل كالبركان تتحول فيه كل قطرة دم، إلى شرارة دم

ولئن كانت الحوافر تهيئ مخلوقاتها ليركبها الراكب، إن المخالب والأنياب تهيئ مخلوقاتها لمعنى آخر.

لو سألت ما الإسلام في معناه الاجتماعي؟ لسألت: كم عدد المسلمين؟

فأن قيل ثلاثمائة مليون، قلت: فالإسلام هو الفكرة التي يجب أن يكون لها ثلاثمائة مليون قوة

أيجوع إخوانكم أيها المسلمون وتشبعون؟ إن هذا الشبع ذنب يعاقب الله عليه

والغني اليوم في الأغنياء الممسكين عن إخوانهم، هو وصف الأغنياء باللؤم لا بالغنى

كل ما يبذله المسلمون لفلسطين يدل دلالات كثيرة، أقلها سياسة المقاومة

كل أسلافكم أيها المسلمون يفتحون الممالك، فافتحوا أنتم أيديكم. . .

كانوا يرمون بأنفسهم في سبيل الله غير مكترثين، فارموا أنتم في سبيل الحق بالدنانير

ص: 2

والدراهم

لماذا كانت القبلة في الإسلام إلا لتقتاد الوجوه كلها أن تتحول إلى الجهة الواحدة؟

لماذا ارتفعت المآذن إلا ليعتاد المسلمون رفع الصوت في الحق؟

أيها المسلمون! كونوا هناك. كونوا هناك مع إخوانكم بمعنى من المعاني

لو صام العالم الإسلامي كله يوماً واحداً وبذل نفقات هذا اليوم الواحد لفلسطين لأغناها

لو صام المسلمون يوماً واحداً لإعانة فلسطين لقال النبي مفاخراً الأنبياء: هذه أمتي!

لو صام المسلمون جميعاً يوماً واحداً لفلسطين لقال اليهود اليوم ما قاله آباؤهم من قبل إن فيها قوم جبارين. . .

أيها المسلمون! هذا موطن يزيد فيه معنى المال المبذول فيكون شيئاً سماوياً

كل قرش يبذله المسلم لفلسطين يتكلم يوم الحساب يقول: يا رب أنا إيمان فلان!

ص: 3

‌في النقد الأدبي أيضاً

إلى أخي طه حسين

للأستاذ أحمد أمين

عرضت في مقالي السابق لضعف النقد الأدبي في مصر، وخاصة في السنوات الأخيرة، وذكرت أن رقي النقد لم يساير رقي الأدب، فقد كان الإنتاج الأدبي قليلاً، وكان النقد يؤدي مهمته في هذا القليل ويعرف جمهور القراء به، ويبين مزاياه وعيوبه، وتختلف أنظار النقاد فيه، ويعرضون له من وجوهه المختلفة، وفي كل ذلك فائدة للأدب وتبصرة للقراء؛ ثم كثر الإنتاج وارتقى، وقل النقد وضعف، واكتفى جمهور النقاد بنقد الكتاب من فهرسه ومقدمته. واليوم أزيد هذا الرأي شرحاً وبيانا، وحجة وبرهاناً.

في كل عام يخرج هيكل وطه والعقاد والزيات والمازني وزكي مبارك وغيرهم كتباً عدة، ويخرج الشعراء قصائد كثيرة، ويخرج مؤلفو الروايات روايات تعد بالعشرات، ولكن قلب الصحف والمجلات لترى نقدها نقداً صحيحاً فقل أن تعثر عليه. هذا أقرب كتاب إلينا وهو كتاب (محمد) لتوفيق الحكيم. هو من غير شك عمل جديد في بابه من حيث وضعه للسيرة النبوية في قصة؛ ولكن أين النقد الذي قوبل به الكتاب؟ وأين ما كان من البحث حول قيمة ما فيه من فن، وهل هذا العمل في فائدة التأريخ والأدب أم لا؟ وهل من الخير أن نشجعه أم لا؟ ثم هل هو صور محمدا (ص) صورة صحيحة أم لا؟ نعم أنه اعتمد في كل ما نقله على عبارات السيرة، ولكنه أختار أجزاء وحذف أجزاء، وألف بين هذه الأجزاء، وهذا التأليف بين أجزاء معينة وترك غيرها يجعل الصورة ذات ألوان خاصة يسأل عنها المؤلف كما يسأل عن كتاب كتبه بنفسه وعبر عنه بعبارته.

لم نجد شيئاً كثيراً من ذلك؛ ومر الكتاب بسلام. وأظن أنه لو ظهر من نحو عشر سنين لكان له شأن أخر، ولنال من النقد ما يستحقه. وليس يعنينا أن المؤلف يغضب من النقد أو لا يغضب، فالنقد ليس من حق المؤلف وحده، وإنما هو حق الناس جميعاً وحق الأدب والتاريخ.

وهل أتاك نبأ ما كان منذ شهرين، إذ نشر شاب في الإسكندرية رسالة في (الحديث)، تعرض فيها للرواية والرواة، ونقد بعض المحدثين، وطعن بعض الأسانيد، فأجتمع مجلس

ص: 4

الوزراء وقرر مصادرة الرسالة؟ مع أن المعتزلة منذ ألف سنة قد أنكروا أكثر الأحاديث إلا ما أجمع الرواة على صحته، ولم يكفرهم من أجل هذا أحد، ولم يصادر كتبهم من أجل هذا أحد. ومنذ أكثر من ألف سنة حكى الشافعي في كتابه (الأم) حكاية قوم من المسلمين أنكروا حجية الأحاديث بتاتاً، ولم يشنع عليهم أحد، ولم يقل بكفرهم أحد، وجادلهم المجادلون في هدوء وثبات كما يجادل المؤمن المؤمن. ومنذ عشرين سنة على ما أذكر، كان ينشر المرحوم الدكتور صدقي في (مجلة المنار) مقالات ضافية متتابعة يدعو فيها إلى الرجوع إلى القران وحده، وينقد الرجوع إلى الحديث، ورد عليه جماعة من العلماء، وطال الأخذ والرد والدفاع والهجوم، ولم يجتمع إذ ذاك مجلس الوزراء ويقرر مصادرة المنار كما أجتمع وقرر هذه الأيام. ألا يدل هذا وأمثلته على أننا أصبحنا أضيق صدراً وأقل حرية؟ ومن الغريب أن أحداً لم يحرك لهذا ساكناً ولم يفه ببنت شفة! ولو وقع هذا الحادث من عشر سنين لقام له الكتاب الأحرار وقعدوا، ودافعوا ونقدوا وهذه لجنة التأليف تصدر كل حين كتاباً بل كتيباً، وتهديها إلى الأدباء والصحف والمجلات، ثم تنتظر من يقومها وينتقدها ويبين مزاياها وعيوبها، ويشرح للجنة رأيه في مسلكها وفيما تخرجه من الكتب، ويرشدها إلى وجهة قد تكون خيراً من وجهتها، فلا تجد إلا القليل النادر والنتف القصيرة التي لا تجزئ وسبب هذا أننا لا ننظر إلى النقد النظر الذي يستحقه من الإجلال والإكبار؛ فمنا من ينظر إلى النقد على أنه إعلان عن الكتاب؛ ومنا من ينظر إليه على أنه مجاملة لصديق أو تحية لصاحب أو استغلال لموقف؛ وقليل جداً من ينظر إليه على انه ميزان دقيق كميزان الذهب يوزن به النتاج الأدبي وزناً محكماً فلا يفوته شيء. وقد أجاد العرب كل الإجادة في تسمية هذا المنحى الأدبي (نقدا) أخذا من نقد الصيرفي الدراهم والدنانير ليعرف جيدها من زائفها.

وقد أدى هذا النظر إلى الصحف والمجلات وكثيراً من الكتاب عدوا هذا العمل عملا ثانوياً يضاف إلى أعمالهم الأساسية، فهم معذورون إن ثقلوا بالأعمال وكان نقد الكتب أحدها فلم يولوها العناية اللائقة بها، ولم يمنحوها ما يجب لها من وقت ودرس وتمحيص. وقد أدركت هذا الواجب الجرائد والمجلات الأجنبية التي تحترم نفسها فاختارت كتاباً من خيرة الكتاب لا عمل لديهم إلا النقد، ويقرؤون الكتب والقصائد والقصص ونحوها ويدرسونها

ص: 5

درساً عميقاً، ثم يظهرون القراء على نتيجة جهدهم ومدى درسهم وقصارى بحثهم.

وشيء آخر كان له دخل كبير في رقي النقد الأوربي وضعف النقد العربي، وأعني به (التخصص)؛ وهذا ظاهر في المجلات الأوربية وكتابها. فأما المجلات فتخصصت، فمجلة للجغرافية خاصة، ومجلة للاجتماع، ومجلة للأخلاق، ومجلة للقصص، ومجلة للسياسة، ومجلة للثقافة العامة. فإذا ألف كتاباً في الجغرافيا أو الاجتماع أو الأخلاق فالمجلة الخاصة بذلك تنقده؛ وإذا هي نقدته عن خبرة تامة بالموضوع وتخصص فيه. وبهذا يفخر المؤلف بأن مجلة كذا مدحت كتابه وأثنت عليه، لأن المدح صدر من واسع الاطلاع عميق البحث يحترم نفسه وقراءه. وأما الكتاب فيشعرون هذا الشعور نفسه، فلا يتعرض ناقد لكتاب ليس من موضوعه الخاص وإن كان مثقفاً فيه ثقافة عامة. فإذا عرض على أديب كتاب في علم النفس أحترم نفسه وقراءه فلم يكتب فيه، وعد ذلك كأديب ينقد رياضيا، أو شاعر ينقد فلكيا، وأنه مهزلة لا يصح أن يقع فيها، وأن الشأن في المعارف كالشأن في الطب، فكما لا يصح أن يداوي طبيب عيون مرضاً باطنياً ولا طبيب الأذن مرض اللثة، فكذلك لا ينقد أديب تاريخياً ولا قصصي جغرافياً؛ إلا إذا تعرض للكتاب من ناحية الأسلوب. بل هم سائرون إلى أكثر من ذلك فيريدون أن يتخصص الأدباء في فروع الأدب نفسه فلا ينقد قصصي كاتب رسائل، ولا ناقد الرسائل والمقالات قصصاً.

إن شئت فانتقل بعد معي إلى الحال عندنا. هل يتعفف أكثر النقاد عن أن ينقدوا ما ليس من اختصاصهم؟ فالكاتب الأدبي عندنا يرى أنه يستطيع أن ينقد في يوم واحد كتاباً عن تاريخ نابليون، وكتاباً عن جزيرة العرب، وديوان شعر. وهو يرى أنه يستطيع أن ينقد كل شيء فلا يأتي بشيء. ومن أجل هذا قدر الناس أكثر النقد العربي بما يستحقه فقط. فمدح المجلة والصحيفة للكتاب لا يدل على شيء وراء هذه العبارة، ولا يدل على أن للكتاب قيمة ذاتية. ولا يستطيع مؤلف عربي أن يتقدم إلى هيئة محترمة ببحوثه ليقول إن مجلة كذا العربية قرظتها وقالت فيها كذا. كما يفعل من يتقدم بمؤلف كتب بلغة أوربية فيستدل على قيمة عمله بأن مجلة كذا نشرته، ومجلة كذا قرظته.

ثم الناقد الحق قاض عادل. والقاضي العادل لا يقضي حتى يدرس قضيته من جميع نواحيها فلا تفوته جزئية منها؛ وهو عالم بالقانون وبالمواد التي تتصل بقضيته محيط بها؛

ص: 6

وهو ماهر في تطبيق المواد على قضيته محكم تطبيقها، وكذلك الناقد والقاضي الذي لا يرجع إلى قانون إلا قانون العدالة المطلقة مخطئ؛ والقاضي الذي يحكم ذوقه وحده مخطئ، والقاضي الذي يدخل الشخصيات في قضيته مخطئ؛ وكذلك الناقد. وكل ما هناك من فرق أن القاضي يحكم وفق قانون موضوع، والناقد الأدبي يحكم وفق قانون لم توضع كل أحكامه ولم تعرف كل مصادره؛ وذلك راجع إلى الفرق بين طبيعة القوانين العلمية والوضعية وقوانين الذوق؛ ولكن على كل حال لا يصح للأديب أن يصدر حكمه بناء على أنه يستحسن أو يستهجن فقط، وإلا كان في استطاعة كل من أمسك القلم أن ينقد. إن كل فرع من فروع الأدب من قصة وشعر ونثر فني له قوانين تبين رقيه وانحطاطه؛ وكل عنصر من عناصر الأدب من خيال وعاطفة ونحوهما له مقاييس تقاس بها درجة قوته وضعفه؛ وكل ما في الأمر أن بعض هذه القوانين عرفت واستكشفت، وبعضها غامض في دور الاستكشاف. ويجب على الناقد أن يرجع إلى هذه الأسس في صدور أحكامه كما يرجع القاضي إلى قانونه؛ وهذا يسلمنا إلى القول بأن الناقد الحق يجب أن يكون مثقفاً ثقافة واسعة عميقة، وأن يبني حكمه على علل معقولة كما يبني القاضي حكمه على (حيثيات) واضحة، ولسنا ننكر أن الأديب يعتمد في حكمه على ذوقه وشعوره بالجمال والقبح، ولكن لا يعد هذا الذوق راقياً إلا إذا أسس على علم واسع ومعرفة بقوانين الأدب.

وهكذا ضرب لا يزال ينقصنا منه الشيء الكثير؛ فأكثر أحكامنا على النتاج الأدبي أحكام مجردة لا تعلل بعلل مقنعة، ولا يرجع فيها إلى قوانين ثابتة، وبذلك تفقد قيمتها ويقل احترامها.

لقد قال قائلون إنك تعيب النقد العربي ولا تنقد، وتعيب قلة الجرأة ولا تجرؤ، وتدعي قلة النقد ولا تبني في بنائه الذي تنشده حجراً.

قد يكون هذا صحيحا ولكن هل من العيب أن يشرح المريض مرضاً عاماً أصيب به هو وغيره؟ وهل من الشر أن يرفع صوته بالشكوى من كان هو وغيره سبب الشكوى؟ وهل يحجر على الإنسان أن يقول إن هذا ليس بجميل إلا إذا كان جميلاً، وليس بعادل إلا إذا كان عدلاً، وليس أبيض ولا أسود إلا إذا كان هو أبيض أو أسود؟ إن مطالبة الإنسان ألا ينقد إلا إذا كمل، وألا يعيب إلا إذا خلا من العيب يحقن في نفوس الناس آراءهم وقد تكون

ص: 7

صالحة، ويسلبهم الحرية وقد يكون في حريتهم العلاج. على أن المريض قد يكون اصدق في وصف المرض من الصحيح، والجاني قد يصور الجناية بأحسن مما يصورها البريء.

أما بعد، فقد شرحت وجهة نظري في بعض وجوه العيب في النقد العربي من ناحيتها العامة. فأن أراد أخي طه أن يحورها من عمومها إلى شخصيتها، وينقل المسألة من النقد الأدبي إلى النقد السياسي، ويجعل الأمر يدور حول أنا وأنت ونقدت ولم تنقد، وكتبت ولم تكتب، وبئست ونعمت، وشقيت وسعدت، لم أجاره في ذلك، ووقفت حيث أنا إلا أن يعود إلى أساس النظرية، ويقرع حجة بحجة، وبرهاناً ببرهان؛ فأني إذن أساجله القول في ذلك حتى ينجلي الحق ويظهر الصواب. والسلام عليك من أخ يضمر لك من الحب والوفاء ما تضمر له.

أحمد أمين

ص: 8

‌شخصية غامضة في التاريخ الأندلسي

للأستاذ محمد عبد الله عنان

شخصية غامضة وحادث غامض في التاريخ الأندلسي، في عصر الفتح، تقدم عنهما الرواية النصرانية كثيراً من التفاصيل الغامضة المتناقضة، وتمر عليها الرواية الإسلامية بالصمت؛ ومازال البحث الحديث مترددا في شأنهما.

أما هذه الشخصية الغامضة فهي شخصية ذلك الزعيم المسلم أو النصراني طبقاً لبعض الروايات، الذي تسميه الرواية الفرنجية (منوزا) أو (مونز)، والذي كان يتولى حكم بعض الأقاليم الشمالية في عهد عبد الرحمن الغافقي أمير الأندلس؛ وأما الحادث أو الحوادث الغامضة التي ترتبط باسم هذا الزعيم، فهي مخالفته للدوق أودو أمير اكوتين الفرنجي، وزواجه من ابنته الأميرة لامبجيا التي اشتهرت برائع حسنها، ومشاريعه الغامضة التي نظمها مع الدوق، والتي انتهت بخروجه على حكومة الأندلس، ثم هزيمته ومقتله، وأسر زوجته الحسناء لامبجيا.

وسنحاول في هذا البحث أن نعرف من هو (منوزا) صاحب هذه الشخصية الغامضة. ولقد كنت أعتقد، كما يعتقد كثير من الباحثين في التاريخ الأندلسي أن (منوزا) أو مونز إنما هو تحريف لاسم (ابن أبي نسعة) العربي، وهو عثمان ابن أبي نسعة الخثعمي الذي تولى إمارة الأندلس في سنة 110هـ (728م)؛ وقد سرت على هذا الرأي فعلاً فيما كتبته عن تاريخ هذه الفترة في الفصل الذي خصصته لموقعة بلاط الشهداء في كتابي (مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام)؛ ولكني اليوم أصبحت اشك في صحة هذا الرأي، وفي أن منوزا وابن أبي نسعة هما مسميان لشخص واحد.

وتتفق الروايات النصرانية - ومنها الروايات المعاصرة - على هيكل الحوادث التي ترتبط باسم منوزا من تاريخ أسبانيا المسلمة؛ ومعظمها على أن منوزا كان زعيماً مسلماً، يحكم بعض ولايات البرنيه وسبتمانيا فيما وراء البرنيه باسم حكومة الأندلس؛ وكان ذلك حوالي سنة 725 - 730م؛ وكان الدوق أودو أمير اكوتين الفرنجي في ذلك الوقت يتلمس كل وسيلة لحماية مملكته من غزوات العرب؛ وكان العرب قد غزوا أراضيه مراراً قبل ذلك وأثخنوا فيها؛ وكان جل همه أن يتقرب من حكومة الأندلس أو يجمع الحلفاء من حوله

ص: 9

لمقاومتها، فلما تولى (منوزا) حكم الولايات الشمالية، وهي التي تجاور إمارة اكوتين من الشرق والجنوب، سعى الدوق إلى التفاهم معه؛ وكان منوزا كما تصفه الروايات زعيما قوي المراس، كثير الأطماع نافذ الهيبة في هاتيك الوهاد؛ ولم يكن على اتفاق مع حكومة الأندلس؛ ذلك لأنه كان من أقطاب البربر الذين عبروا إلى الأندلس مع طارق بن زياد؛ ونحن نعرف أن البربر كانوا على خلاف دائم مع العرب، يحقدون عليهم لأنهم استأثروا دونهم بمغانم الفتح والرياسة. فإذا صح أن (منوزا) كان زعيماً بربرياً كما تصفه الروايات الفرنجية المعاصرة، فيكون من المشكوك فيه إذا أن يكون (منوزا) هو عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، الذي تولى إمارة الأندلس كما قدمنا. ذلك أن عثمان كان زعيماً عربياً، ينتسب إلى خثعم إحدى البطون العربية العريقة هذا إلى أن الرواية العربية تقدم إلينا عن مصيره رواية أخرى غير تلك التي تقدمها إلينا الرواية النصرانية عن مصير منوزا، فهي تقول لنا إن أبي نسعة ولي الأندلس في شعبان سنة 110 (سنة 728م) واستمرت ولايته خمسة أشهر أو ستة أشهر، ثم عزل وأنصرف إلى القيروان وان فمات بها. أما منوز فقد مات محارباً ومات قتيلاً كما سنرى.

وعلى أي حال فقد تفاهم أمير كوتين ومنوزا؛ وقوت المصاهرة بينهما أواصر الصداقة والتحالف؛ ذلك أنه كانت للدوق ابنة رائعة الحسن تدعى لامبجيا (أو منينا أو نوميرانا على قول بعض الروايات) فرآها منوزا أثناء رحلاته (أو غاراته) في اكوتين وهام بها حباً. تقول الرواية: (وكانت لامبجيا أجمل امرأة في عصرها، كما كان منوزا أقبح رجل في عصره، وكانت نصرانية متعصبة، ولكن أطماع الوالد غلبت على كل شيء فأرتضى مصاهرة الزعيم المسلم). ويصف جيبون مؤرخ الدولة الرومانية هذا التحالف، وتلك المصاهرة في قوله:(أرتضى منوزا الزعيم البربري محالفة دوق اكوتين، وأسلم أودو لباعث المصلحة الخاصة أو العامة، ابنته الحسناء، لقبلات الملحد الأفريقي وعناقه).

وتحيط الرواية النصرانية شخصيا لامبجيا بكثير من الغموض أيضاً، وتختلف في ظروف زواجها من الزعيم المسلم، فتقول مثلا: إن منوزا أسر لامبجيا في إحدى غاراته على أراضي اكوتين، ثم هام بها حباً وتزوجها، وحمل بنفوذها وتأثيرها على محالفة أبيها الدوق، ومناوأة حكومة الأندلس؛ وأنه تزوجها طوعا كما تقدم، وتقول أيضاً إن ابنة دوق

ص: 10

اكوتين التي تزوجها (منوزا) لم تكن لامبجيا، وإنما كانت أختها (منينا) التي كانت من قبل زوجة لفرويلا القوطي أمير أوسترياس، وتقول غير ذلك من الأنباء والتفاصيل التي يقع معظمها في حيز الأساطير ونمى أمر من هذا التحالف إلى حكومة الأندلس، فلم تقره، وارتابت في أمره؛ وأبدى منوزا من ضروب التمرد والاستثارة ما حملها على اعتزام تأديبه وتحطيمه؛ وكان أمير الأندلس يومئذ عبد الرحمن الغافقي أعظم ولاة الأندلس، فبعث لتأديب الخارج حملة قوية بقيادة ابن زيان، فامتنع منوزا بمواقعه الجبلية، وتحصن في عاصمة إقليمه (مدينة الباب) الواقعة على منحدر البرنيه، وكان يضن أنه يستطيع أن يتحدى الجيش الإسلامي، وأن يعتصم بالصخر كما أعتصم به الزعيم القوطي بلاجيوس؛ ولكنه كان مخطئاً في تقديره؛ فقد نفذ ابن زيان بجيشه إلى مدينة الباب، وحصر الثائر في عاصمته، ففر منها إلى شعب الجبال الداخلية؛ فطارده ابن زيان من صخرة إلى صخرة، حتى أخذ وقتل مدافعاً عن نفسه؛ وتحطمت أطماعه ومشروعاته (113هـ - 731م) وأسرت زوجه الحسناء لامبجيا، وأرسل بها أمير الأندلس إلى بلاد الشام فاستقبلاها الخليفة (هشام) بحفاوة وإكرام، وتزوجت هنالك من أمير مسلم لا تذكر لنا الرواية اسمه.

والرواية العربية تمر على هذه الحوادث كلها بالصمت، ولا تذكر لنا أي تفصيل أو لمحة تلقي الضياء على شخصية منوزا؛ بيد أن ابن عذاري المراكشي ينقل إلينا أيضاً نصاً يستوقف النظر في حديثه عن ولاية أمير الأندلس الهيثم بن عبيد الكلابي إذ يقول:(وهو الذي غزا منوسة) فهل تكون (منوسة) هي الافرنجية المحرفة (منوزا) أو بعبارة أخرى هل تنصرف هذه الكلمة إلى الشخص أو تنصرف إلى المكان؟ يرى دوزي أنها تنصرف إلى الشخص، وأن أبن عذاري يقصد هنا (منوزا) صاحب المأساة التي أتينا عليها.

أما نحن فنرى بالعكس أن الكلمة هنا تنصرف إلى المكان، وأنه لا علاقة بين كلمة (منوسة) وبين الزعيم (منوزا)، ذلك أن الرواية العربية لم تعتد أن تعبر عن غزو الأشخاص بهذه الصورة، وإنما تتحدث دائماً عن غزو المكان، هذا إلى أن الحديث هنا يتعلق بغزوات معروفة في الرواية الإسلامية قام بها أمير الأندلس الهيثم بن عبيد الكلابي الذي تولى إمارة الأندلس في أوائل سنة 111هـ (729م)؛ فقد عبر الهيثم جبال البرنيه غازياً؛ وأخترق ولاية سبتمانيا، ثم وادي الرون، وغزا ليون (لودون)، وماسون، وشالون

ص: 11

الواقعة على نهر الساؤون، واستولى على أوتون وبون، وعاث في أراضي برجونيه الجنوبية؛ والمرجح لدينا أن مدينة (ماسون) التي غزاها الهيثم، إنما هي (منوسة) التي يذكرها ابن عذارى، حرفت بالعربية بطريق التقديم والتأخير في الأحرف.

هذا، وهنالك رواية نصرانية أوردها ماريانا المؤرخ الأسباني الكبير؛ فقد ذكر أن (منوزا) كان نصرانياً، أختاره المسلمون لحكم المنطقة الواقعة في غرب البرنيه، ولكنه كان صارماً شديد الوطأة يسوم النصارى سوء الخف؛ وأنه كان للدون بلاجيوس زعيم جليقة القوطي أخت بارعة الحسن، شغف بها منوزا حباً؛ ولكن بلاجيوس لم يوافق على زواجها منه، فاحتال منوزا، وبعثه في مهمة إلى قرطبة؛ وأسر الأميرة أثناء غيبته وتزوج منها قسراً. فأسر بلاجيوس وأخته هذه الإهانة، ولبثا يرقبان الفرص، حتى استطاعت الأميرة فراراً من أسرها، وسارت مع أخيها إلى جبال جليقة حيث أعتصم بلاجيوس مع أنصارهن وأعلن الخروج والثورة. فأخطر منوزا حكومة قرطبة؛ فأرسلت حملة لتأديب الثائر بقيادة (علقمة)؛ ولكن بلاجيوس استطاع مع أنصاره القلائل أن يعتصم بشعب الجبال. فارتد المسلمون منهزمين، وقتل علقمة؛ وارتاع منوزا لفوز خصمه، وخشي انتقام مواطنيه، فحاول الفرار إلى الجنوب، ولكن وقع في يد شرذمة من الفلاحين النصارى فقتلته؛ ويضع سريانا تاريخ هذه الحوادث في سنة 718م.

ولكن رواية ماريانا هذه ظاهرة الضعف؛ أولاً لأنه ليس بمعقول أن تعهد حكومة الأندلس المسلمة بحكم ولاية من ولاياتها إلى زعيم نصراني؛ وثانياً لأن هذه الرواية تخالف في مجموع تفاصيلها كل ما كتبته الرواية المعاصرة عن شخصية منوزا، وعن مصاهرته لدوق أكوتين؛ وثالثاً لأن تاريخ هذه الحوادث متأخر عن التاريخ الذي يعينه ماريانا بنحو عشرة أعوام.

وعنئذ يبقى أمامنا فرض واحد يمكن التعويل عليه في تعيين شخصية منوزا. فهو زعيم مسلم بلا ريب؛ ولكنه شخص آخر غير (ابن أبي نسعة) أمير الأندلس كما أوضحنا. ومن المعقول جداً، أن يكون، كما تصفه الرواية النصرانية المعاصرة، من زعماء البربر الذين دخلوا الأندلس وقت الفتح؛ وقد حرفت الرواية الفرنجية اسمه إلى هذا الوضع، وهنالك في ظروف الأندلس عقب الفتح، وفي عوامل الخصومة التي نشبت بين العرب والبربر، وفي

ص: 12

تنازعهما المستمر على مناصب الرياسة والحكم، ما يؤيد انتماء منوزا إلى البربر؛ وعلى ضوء هذا الفرض وحده نستطيع أن نفهم موقف منوزا وتصرفاته في محالفة دوق أكوتين ومصاهرته وفي محاولته الخروج على حكومة الأندلس، تحقيقاً لأطماع جاشت بها نفسه، ونزولاً على عوامل الخصومة التي يضطرم بها البربر نحو العرب.

محمد عبد الله عنان.

ص: 13

‌الصفات المحسودة

للأستاذ عبد الرحمن شكري

قال شوبنهور: إن حسد المرء للشيء يكون على قدر يأسه من نيل مثله؛ وهذا اليأس سبب أساسي من أسباب الحسد، فقد يحسد صاحب الضياع والعمارات والسيارات، ولكن حاسده قلما يقصده بحسد كحسده لصاحب العقل الرجيح الأصيل الذي يستمد من العبقرية الموروثة صفاتها. فالأول قد يحسد في فترات غير متصلة، لأن الحاسد يرجو أن ينال الخير على يديه مما لديه، أو يرجو الخير من جاهه ووساطته لدى من تنفع شفاعته عنده. فالخير يرجى في التحبب إلى الغنى والخضوع له والمهابة عند طلعته؛ وهذه أمور قد تكون ظواهر تستر حسدا، ولكن المرء إذا روض نفسه عليها واعتادها عاد بعضها حقيقة في نفسه يخالطها أو لا يخالطها النفاق. ومما يعين في تحويلها إلى حقيقة أن المرء مأخوذ بوسائل الحياة، منهوم بها من مال وعقار وجاه، فهو يعدها أسباب الحياة الأولية أكثر مما يعد العبقرية من أسباب الحياة؛ ولا يجل الناس عقلاً بلا مال قدر ما يجلون مالاً بلا عقل. فالموهوبات المادية لا يحسدها المرء قدر حسد الموهوبات العقلية، لأنه يرجو الخير عند الأولى بالتحبب إلى صاحبها، ولأنه يهابها، والهيبة والإجلال تتغلب على الحسد للمرء المهيب. أما الثانية فإذا كانت استعداداً موروثاً من صفات العبقرية لا يجلبه التعليم ولا تخلقه التربية، لم يكن للمحروم أمل في نيلها؛ وهذا اليأس منها منشأ الغيظ والمقت والحقد والحسد. ولعل النفس تزكى نفسها بأن المرء المحسود لم ينل الاستعداد الموروث بجد واجتهاد وعمل فهو لا فضل له فيه، وهذه مغالطة، فان الاجتهاد والجد والعمل صفات منشؤها استعداد موروث آخر.

ولا يحسد المرء المال الموروث قدر حسده العقل الموروث، لأن المال الموروث يوجد مثله في السوق، وقد ينال الصعلوك مثله وأكثر منه فيغنى بعد فقر. فالأمل في كسبه موجود دائماً حتى وإن بعدت وسائل نيله؛ وإذا وجد الأمل لطف من عدواء الحسد. أما الاستعداد العقلي الموروث فلا يناله أحد بالاجتهاد والعمل كما ينال العلم المكتسب الذي هو شيء آخر، فليس عند المحروم أمل في نيل صفات العبقرية الموروثة مهما كان أمله عظيما في نيل العلم المكتسب، فتراه يحسد على الاستعداد العقلي الموروث أكثر من حسده على

ص: 14

الضياع والعقار، وأكثر من حسده على العلم المكتسب؛ وهو لا يحسد على الضياع والعقار والمال إلا إذا يئس من بلوغ الخير عند صاحبها، أو إذا يئس من بلوغ مثلها بالجد والاجتهاد، أو بالنصب والاحتيال؛ وهو لا يحسد على العلم المكتسب إلا إذا حرم صفات الجلد والمثابرة والقدرة التي ينال بها العلم المكتسب. فاليأس هو أساس الغيظ والحقد والحسد في كل حالة من الحالات الثلاث ومما يحير الألباب أن ترى أنساناً فقيراً لا حول له يحسد على صفات العبقرية التي هي فيه أو التي يحسبها الحاسد من صفاته أكثر من حسد الحاسد للغني صاحب المال والجاه، فيحار الباحث المفكر في تعليل هذا التفاوت في الحسد؛ وكان المعقول في رأيه أن يكون مقدار الحسد على عكس ما يرى لأن الناس تتقاتل على الذهب والفضة، ولكن إذا عرف الباحث ما ذكر من نشأة الحسد وسببه زالت حيرته وزال عجبه.

ولعل لهذا الانقلاب في مقادير الحسد الذي يقصد به صاحب المال وصاحب العقل الموروث سبباً آخر، وهو أن وسائل القهر والدفاع والانتقام متوفرة عند صاحب المال وهي أمور يخشاها الحاسد، والخوف منها يلطف من غلواء حسده لصاحب المال والجاه خشية أن يصيبه من قدرة الغنى أو صاحب الجاه ومن انتقامه وبطشه ما يؤذيه فيردعه الجبن عن الحسد. فترى أن الرهبة من وسائل البطش عند صاحب المال والجاه تعمل أيضاً عمل الرغبة في الاستفادة من التحبب إليه، وكلتاهما تضعف الحسد في نفس الحسود.

ومظاهر العقل المكتسب لا ينالها من حسد الحاسد قدر ما ينال مظاهر العقل الموروث، فالعلم الذي ينال بالاجتهاد وهو من مظاهر العقل المكتسب الذي لا يستطيع كل مثابر أن يناله، أما العبقرية في شتى مظاهرها فلا ينالها المحروم بالجد والاجتهاد، ويأسه منها واقع لا محالة؛ وهذا اليأس هو منشأ غيظ المحروم ومنها ومنشأ حسده، ولا يردعه عن كيد الحسد خوف البطش، لأن العبقري قلما تتوافر لديه أسباب البطش توافرها عند صاحب الجاه والمال. فالجبن الذي يحذر الحاسد من بطش المحسود إذا كان ذا مال وجاه يتطلب في نفس الحسود ما يزكيه وما يداوي ألمه وما يغالط النفس عنه كي لا تعتريها الذلة والاحتقار من أجله بأن يتحول الجبن استطالة وكيداً لصاحب العبقرية الذي فقد وسائل البطش أو لمن خيلت فيه صفات العبقرية.

ص: 15

ومن أجل ذلك ترى أن المرء قد يؤلف كتاباً في الجبر أو الحساب أو الهندسة أو غيرها من العلوم فيروج ويقرأ في شتى المدارس وينشر مؤلفه منه طبعة بعد طبعة حتى يثرى بسببه ويقتني العقار والضياع ويحصل من أجله على مال كثير فلا يصيبه من حسد الحساد قدر ما يصيب فقيراً من ذوي الفنون أو الفكر الأصيل إذا لمحت فيه مظاهر العبقرية أو خيلت فيه لأن العبقرية استعداد موروث لا أمل للمحروم في نيله، واليأس منشأ الغيظ والحسد. أما صاحب العلم المكتسب الذي يؤلف كتاباً يغتني من أجله فقدرته قدرة مكتسبة يستطيع كل إنسان أن ينال مثلها إذا انصرف إلى وسائل نيلها وخصص نفسه لها، فلا يأس يدعو إلى الغيظ والحسد الشديد؛ وإن كان يصيب صاحب العلم المكتسب حسد عليه فحسد الكسول الذي يستطيع بلوغ العلم المكتسب ولا يتخذ العدة لبلوغه، وهذا حسد كسول مثل صاحبه الحسود. وإذا كان ذا نقص عقلي يمنع من بلوغ العلم المكتسب فالحسد في هذه الحالة على العقل الموروث الذي نقص حظه منه.

وعلى هذا القياس ترى في الفنون أستاذ الصنعة الذي حرم العبقرية واكتسب الصنعة بالجد والاجتهاد، لا يحسد قدر ما يحسد الفنان الذي يرى الناس فيه مظاهرة العبقرية؛ فترى الأول ذا جاه وأصدقاء ومال ولا يحسد على كل هذه النعم قدر ما يحسد الثاني. ومما يزيد الحنق والحقد على ذوي العبقرية في شتى مظاهرها العلمية والفنية أنهم أناس ذوو نظرات جديدة خاصة، والناس من أجل كسلهم الفكري ومن أجل خوفهم من الجديد المجهول غير المألوف يرون صلاح الحياة وضمانها في الاستمساك بالمألوف، حتى ترغمهم العدوى شيئاً فشيئاً على الأخذ بما لم يكن مألوفاً لديهم. ومما يزيد في خوفهم شطط أهل الشطط؛ وهذه الأسباب إذا عللت جانبا من جوانب الحنق والحقد فأنها لم تعلل كل جانب، ولم تعلل الحسد الذي ينشأ من الرغبة في شيء حال اليأس دونه. وكثيراً ما يختفي الحسد وراء ستار فيحسب شيئاً آخر غير الحسد.

وكثيراً ما يحسب فضيلة من الفضائل لأنه يستتر بستار الفضائل ويتخذها لباساً كي يخفي قبح نفسه، وكي يكون أبلغ في الكيد لأنه يبيح كل ضعة. والحسد ليس من صفات المحرومين وحدهم، فإن من الموهوبين من هو شديد الحسد. ومنشأ الحسد في الموهوبين الرغبة في التفرد بكل إجادة. والعبقري الموهوب قد يحسد إذا يئس من حيازة شيء جليل

ص: 16

أصيل وإن كان عنده مثله. فالرغبة في حيازة كل فضل، واليأس من تحقيق تلك الرغبة، ينشئان الحسد في صدره كما ينشأ في صدر المحروم.

وقلما يحسد أشباه العامة ذا العبقرية قدر حسد العلماء أو المتعلمين أو الحفاظ المجتهدين له، فمن أخذ بنصيب من العلم قل أو كثر أحس فقدانه العقل الموروث إذا كان قد حرم صفاته فييأس منها مهما غالط نفسه وادعاها لها. فالمغالطة والحنق الناشئ من اليأس قد يتفق وجودهما في وقت واحد. والعامة إذا أبغضوا ذوي العبقرية كان بغضهم بسبب جلب العبقريين لغير المألوف من المعاني في بعض الأحايين وبسبب قلة فهم العامة، وما ينشأ عنها من الغيظ والخوف والمقت، فيستثمر الحسود المتعلم هذه الصفات فيهم كوسائل لإشباع حسده؛ وقد يستثمرها كي يصرف نفوسهم عن أن يحسدوه على جاه أو مال أو كي يزكي نفسه بمعاونتهم فيما يحس من ضعف وجبن نشأ من اليأس والعجز عن الأمر المحسود الذي لا يستطاع نيله لأنه استعداد موروث.

عبد الرحمن شكري

ص: 17

‌هل الأمريكيون مصريو الأصل؟

بقلم إبراهيم إبراهيم يوسف

مصر تكتشف أمريكا - رسالة أهل مصر - أقدم حل لمشكلة

العاطلين - أقدم بعثة في التاريخ - أول جامعة متنقلة - رحلة

يتممها أحفاد الأحفاد

تقدم لنا العلوم بين آن وآن حقائق كنا نجهلها كل الجهل عن أثر قدماء المصريين في بناء المدنيات. ولشد ما كنا نعجب حينما تنبثق من قبور أجدادنا الأقدمين أشعة من النور تبهر العقول قبل الأبصار، فترينا أن المدنيات التي قامت في العالم مدينة في كثير أو قليل لمنتجات عقول سكان مصر الأقدمين. واليوم نقف وبقية العالم في ذهول وحيرة إزاء تلك الاكتشافات العديدة التي قام بها علماء العاديات وغيرهم في البلاد الأمريكية، والتي تثبت أن أول من أستوطن أمريكا هم المصريون. كذلك ثبت لبعض علماء الأجناس أن المصريين كانوا نواة لبعض فصائل من البشر. ولما كان بعض هذه الحقائق يستند إلى وثائق أثرية وآثار طبيعية يرجع عهد البعض منها إلى ما قبل التاريخ، فعلينا أن نلم إجمالا بالتطورات التي حدت بقدماء المصريين أن يسلكوا ذلك السبيل.

يحزم كثير من علماء التاريخ القديم بأنه كان لمصر مدنية تفوق في تقدمها وازدهارها وشيوعها كل ما عداها من المدنيات. ومن الطبيعي أن هذه المدنية لم تكن إلا نتاجا لسابق جهود تمت خلال عشرات المئات من السنين واصل فيها شعب النيل الفكر والعمل مدفوعا بقوة روحانية يستمدها من مثله الأعلى الذي نصبه لنفسه، والماثل في تهذيب الطبيعة لتجميل الحياة.

ولا عجب أن تكون العظمة طابع تفكيره، وهو الذي إلى على نفسه أن يهذب الطبيعة ويجمل الحياة، إذ لا شيء أعظم من الطبيعة أو اشمل للحياة من الحياة. ولو أن هذا الشعب لم يتصدر لأعظم حلم عرفه التاريخ (وستمر بك تفاصيله)، ولم يبذل جهود الجبابرة لتحقيقه، ثم لم يظفر ببغيته منه، لما كان أهلا لرسالته.

وكان المصريون بما لهم من عقول رياضية قد تحققوا أن هنالك بلادا شاسعة غنية

ص: 18

بخيراتها، زاخرة بثروتها الطبيعية، لا زالت بكرا. فسعوا إليها اليهود ليؤدوا رسالتهم فيها؛ وكانت تلك البلاد هي التي أطلق عليها فيما بعد اسم (أمريكا). وكان العلماء في مصر قدروا إذ ذاك موضع أمريكا تقديراً لا خطأ فيه، بدليل أن المصريين في ترحالهم إلى تلك البلاد لم يضلوا الطريق في الوصول إليها، ولم تبتلعهم صحاري ومجاهل آسيا. كذلك لم يغوهم بلد كالهند لوثيق معرفتهم إن الثروة الطبيعية في أمريكا أوفر منها في الهند وأعظم وكانت المدنية المصرية وصلت إلى حد عرفت فيه مشكلة البطالة، وتكاثر في البلاد عدد العاطلين من العمال والمفكرين. ولم يك ذلك إلا نتاجا لسوء نظام الطبقات السائد إذ ذاك. وخشيت الطبقة الحاكمة أن يتصدى العاطلون لنظام الحكم والنظام الاجتماعي، فأوعزت إلى العلماء بالدعاية لفكرة استغلال أغنى بقاع العالم: أمريكا. وكان الضيق قد حل بالعاطلين من أبناء مصر فتقبلوا الفكرة ونظموا جموعهم وأستقر قرارهم على الرحيل إلى بلاد الأمل والرجاء، وانتظم في سلك هذه الرحلة العمال والفلاحون والعلماء والفنانون - كل بعدته وأداته. ولم تكن هذه الحملة قاصرة على جحافل من رجال أشداء، بل كل الشيوخ والنساء والبنات والبنون ضمن عناصرها. وهذه الحملة أو البعثة الجامعة إلى الدنيا الجديدة كانت أشبه ما تكون بأمة كاملة تحمل في نفسها كل عوامل الحياة ووسائلها. وليس من المحتمل اليوم أن يجود التاريخ ببعثة تماثلها من حيث التكوين أو العظمة أو الغرض. ولا بد لتنظيم هذه الرحلة والسهر على إنجاحها من عقول راجحة قد يصعب علينا اليوم تصور جبروتها وعتوها. وكان على الجحافل التي تنزح يومياً عن أرض النيل - وكلهم من العاطلين - أن تعمل منذ الساعة الأولى من الرحلة على الإنتاج، كل فيما أختص به. ولم يكن أساس حياتهم الجديدة حب الذات، كما كان الحال في مصر، بل كان التفاني في التضحية لخدمة المجموع رائد الكل، فحل تعاون الجماعات محل الاستئثار، وغلبت الأخوة بين الجميع على فوارق الطبقات، وتمتع هؤلاء الرحل بحرية لم يعرفوا لها نظيرا على ضفاف النيل. وكان صدق حبهم وخالص نيتهم في تحقيق حلمهم العظيم يغريهم بالتمادي في التضحية. ولا يمكننا اليوم ونحن في القرن العشرين وطرق المواصلات ميسورة وعديدة وأغلب البلاد مأهولة وعامرة، تقدير المشاق التي عاناها أجدادنا في اجتياز تلك البقاع. ويرجع تذليل كل صعاب انتابتهم إلى الذهن المتقد وقوة الساعد والإيمان بصدق

ص: 19

الرسالة. ولا شك أن العزيمة واطمئنان النفس كانت تتملك تلك الجماعات من الناس منذ بدء الرحلة التي قاموا بها، فاخترقوا صحراء سينا إلى فلسطين فسوريا فتركيا فالعراق فبلاد الكرد فإيران فالتركستان فشمال الهند، ومنها إلى سهول وصحاري سيبريا الشاسعة حتى ظهر لهم البحر. ولقد قاومت هذه الجماعات الجوع والعطش والقيظ والبرد والحيوانات المفترسة والطيور الجارحة والمتوحشين من الهمج وتغلبت عليها جميعاً بل لقد اجتازت مناطق لم يكن للبشرية فيها من أثر. ولما ان وصلوا إلى أبعد نقطة من شرق آسيا أخذوا يصنعون الفلك الذي أجتاز بهم البوغاز المعروف باسم (طريق بيرنج) حتى وصلوا إلى شبه جزيرة ألسكا.

ويقول الأستاذ الدكتور هردليكا مدرس علم الأجناس في معهد سميث سونيان بأمريكا: (إن الطارقين الأولين للدنيا الجديدة اتخذوا جزيرة كودياك قاعدة لهمم وجعلوها مركز اتصال بين من تخلفوا منهم في آسيا ومن تقدموا منهم في أمريكا؛ وهؤلاء اجتازوا ألسكا ونزحوا إلى كولمبيا البريطانية فولايات واشنجطن وأوريجون وكاليفورنيا الواقعة على المحيط الهادئ. ولم يجد المصريون رواد أمريكا آدمياً واحداً أو أثر لآدمي، ولكنهم وجدوا حيوانات مردة متوحشة يعلوها الشعر الكثيف المتهدل. ومن هذه الحيوانات المامونت والفيلة العاتية وغيرها مما كان يجتاز الأحراج والبراري في تلك الأرض البكر).

ويسلم الباحثون بأن (رواد أمريكا الأول كانوا على جنب عظيم من الشجاعة والأقدام والمخاطرة)(وأنهم انقسموا إلى فريقين: فالفريق الأول ذهب إلى الشرق، والفريق الآخر اتخذ طريقه إلى جانب مجرى الأنهار الكبرى حتى وصل هؤلاء المصريون إلى المحيط الأطلنطي. وهكذا قطعوا ثلاثة آلاف من الأميال على أقل تقدير). ويميل العلامة الأستاذ بنيت عضو المعهد الأمريكي للمباحث الخاصة بالهنود الحمر إلى (أن المصريين لم يقفوا عند الشاطئ بل ركبوا البحر حتى بلغوا الجزر المترامية في المحيط والمعروفة اليوم باسم جزائر الهند الغربية). ويتفق علماء الآثار الأمريكيون في القول بأن (الفريق الآخر الذي سار جنوباً أخترق بلاد المكسيك وأواسط أمريكا وإحراج استموس في بناما. ثم تدرجوا إلى مجاهل أمريكا الجنوبية). ومن أمد قريب رحل جماعة من علماء الأمريكان إلى بوليفيا لعلهم يقفون على أثر للجماعات الرحل التي تقدمت التاريخ، (هؤلاء الرحل الذين قدموا من

ص: 20

وادي النيل قبل أن يقدم أمريكا بأجيال عدة قبائل الآنكاس) على حد تعبيرهم. وسرعان ما وقفت هذه البعثة في عملها، فقد جاء في تقرير الأستاذ بنيت:(إننا وجدنا حول بحيرات تيتيكاكا في بوليفيا آثار مدنيات يرجع تاريخها إلى ما قبل عصر الأنكاس). وجاء في هذا التقرير (وعلى مقربة من البحيرات وجدنا خرائب متفرقة. ولما أن انكشفت عنها الأتربة ظهرت خمسة أبنية كانت على ما يظن معاهد دينية) ولا زالت هذه البعثة مستمرة في أبحاثها. والاعتقاد السائد بين أفرادها أنها سوف توفق إلى اكتشاف مبانٍ ومدافن أخرى يرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ.

كذلك وفق الأستاذ هردليكا إلى اكتشاف في كوبا يؤيد وجود اتصال ثقافي ومدني بين الشعوب القديمة والشعوب الشمالية في جزيرة كودياك وقبائل ماياس في أمريكا. ومن المسلم به (أن جميع السكان الشماليين ومن بينهم الأسكيمو هم من سلالات العنصر الذي نزح إلى البلاد الأمريكية عند بدء تعميرها). ولما أن وجد الدكتور هردليكا جمجمة في إحدى حفريات جزيرة كودياك مال إلى رأيه كثير من العلماء وهو (أن تلك الجمجمة هي صلة الوصل بين جميع الأجناس البشرية التي عمرت أمريكا). وهي جمجمة لرئيس قبيلة كما يزعم الدكتور هردليكا، ويضيف إلى زعمه هذا أن أتباع هذا الزعيم اقتطعوا من لحمه حياً والتهموه التهاماً لفرط إعجابهم بكفاءته وفضائله. وهذه العادة كانت متبعة إذ كان يأكل الأتباع سيدهم وهو حي. وكذلك يفعلون مع زعيم أعدائهم اعتقاداً منهم أن مميزاته ومقدرته سوف تتقلص فيهم بعد أكل لحمه. وقد وجدت في جمجمة هذا الزعيم عين صناعية صنعت من سن الفيل وجعلت الحدقة حجراً كريماً. وكانت قبائل الاستكن والماياس تصنع مثل ذلك أبان ازدهار حضارتهما. وكان الدكتور بنيت أمضى عدة أسابيع في أبحاثه بمدينة بيناردل ريو من أعمال جزيرة كوبا فوجد فيما عثر عليه مائتي ملعقة من المحار وكثير من المطارق الحجرية والأواني المنزلية المصنوعة من الخشب وغيرها من الأدوات التي تتمثل فيها البساطة والفطرة. كذلك وجد في هذه المدينة جمجمة يرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ. ويرى فيها الدكتور بنيت حلقة الاتصال بين الهنود الحمر الأول وسكان جزائر الأناتيل، وقد ثبت له كما ثبت لغيره من قبل أن موطن الأباء الأول للهنود الحمر من سكان أمريكا هو وادي النيل.

ص: 21

ومما لا شك فيه أن رحلة العاطلين المصريين هذه إلى أمريكا وكوبا وجزائر الهند الغربية دامت بضع مئات من السنين. وأن عدداً من الأطفال ولدوا أثناء السفر وشبوا وعاشوا وماتوا على بعد عشرات المئات من الأميال من الموضع الذي أبصروا فيه لأول مرة نور العالم من دون أن يصلوا إلى أرض الأمل والرجاء، فورث الأبناء الرسالة وأخذوا على عاتقهم تحقيقها.

وليس باستطاعة أحفاد الأحفاد بناء مدينة في أمريكا تشبه كل الشبه المدنية التي أقامها المصريون على ضفاف النيل مع أنهم لم يحظوا بالعيش في مصر يوماً لغز قط، فقد كان هؤلاء الرحل من بدء ترحالهم إلى الدنيا الجديدة يعدون العدة لتوفير أسباب إتمام المرحلة التالية. فان وجدوا الأرض خصبة والماء ميسوراً زرعوا الغلال والفاكهة والخضر والزهور وحملوا معهم ما أرادوه ميرة لهم في سفرهم. وكما أن بعضهم كان ينسج الصوف والكتان وغيرهما ملابس وأردية وخياماً، كان البعض الآخر من أصحاب الحرف يلقن الصبية صناعته. وكانت تعقد قبل مسير كل يوم في الصباح من أيام الإقامة حلقات يدرس فيها العلماء علمهم ويقدم فيها الفنانون تجاربهم. وكان لكل علم وفن دراسات وحلقات وفصول أولية وإعدادية عالية. فكانت كل أنواع الثقافات المعروفة في ضفاف وادي النيل تقدم دون تمييز إلى كل الأفراد. وهكذا عرفوا كيف يضعون بين حياة الفطرة وحياة أحفادهم سداً منيعاً. ولما كان لكل فرد في القافلة حق تلقن العلم ودرس الفن الذي يميل إليه أصبح الجميع أحرار الفكر أحرار العمل، خاصة وقد تخلصوا من سلطة رجال الدين. وكان على طلبة الأمس أن يعلموا صبية وبنات اليوم. وهكذا احتفظ بمستوى الثقافة.

وقد وجه السؤال التالي إلى بعض الهيئات:

إذا كان حقاً أن المصريين عرفوا موضع أمريكا الجغرافي وعلموا بتفوق ثروتها الطبيعية، فلم لم يركبوا البحر إليها مباشرة من شواطئ البحر الأحمر؟

وما أيسر الجواب على ذلك. إن المسافر في البحر خاصة في تلك السفن القديمة العهد؛ كان مضطراً إلى هجر صناعته وعدم مزاولته لها ولكثير من دعائم الثقافة وأسس المدنية. وكيف يزال في السفينة فلاحة الأرض وزراعتها، ونحن نعلم أن المدنية المصرية كان أساسها في الزراعة؟ وإذا كان هذا حال الفلاح فكيف يكون حال أولاده وأحفاده. كذلك

ص: 22

تدريس العلوم والفنون أثناء سفر السفينة بعيد الاحتمال، فلا يرجى للناشئ أن يقف على مدنية جديدة عليه أن يبينها من أساسها في أرض جديدة. والأمر الثاني كيف يجوز لهؤلاء العاطلين وهم جماعات عدة أن يحصلوا على المواد الغذائية لمدد طويلة قد تربو على العام؟

ولو أن المصريين الأقدمين ركبوا البحر إلى أمريكا لما وصلوا إلى الدنيا الجديدة ولما وجدنا هنالك أهراماً وتماثيل ومباني تماثل ما نراه على ضفاف النيل للعهود القديمة. أما وقد أنشأوا مدنية جديدة في أرض بكر، وأدوا رسالتهم على الوجه الأكمل فأولى بنا أن نقتبس من روح نظام مجتمعهم الذي مكنهم من تحقيق أكبر حلم عرف في التاريخ.

إبراهيم إبراهيم يوسف.

ص: 23

‌للتاريخ السياسي

5 -

اليوم السابع من مارس

ضربة مسرحية في برلين

للدكتور يوسف هيكل

أما مسيو فان زيلاند، فقد ألقى خطاباً مرتب العبارة أنيق الأسلوب مؤثراً، وقد مس في خطابه شعور كل من سمعه. . وقال إنه لا يوجد بلاد فيها الخوف أشد مما هو في بلجيكا، وأن هذه البلاد الصغيرة لا تملك ما يطمئنها على سلامتها غير معاهدة لوكارنو. . . وقد أعتدي على حق بلجيكا التي تحترم المعاهدات والجيران اعتداء لا مبرر له. . . فبلجيكا لم تكن عضواً في المعاهدة الفرنسية الروسية التي أتخذها الهر هتلر حجة لتمزيق لوكارنو. ولا ينبغي أن تتوقف قيمة الإمضاء على معاهدة على قيمة قوى الذي وقع على تلك المعاهدة. . .

وبعد ظهر يوم الاثنين الموافق 16 مارس أجتمع مجلس العصبة اجتماعاً خاصاً ثم اجتماعاً سرياً داما مدى أربع ساعات، ودام البحث خلال ذلك عن الجواب الواجب إرساله إلى الحكومة الألمانية، وعن الأصول الواجب إتباعها للوصول إلى القرار الذي يصدره المجلس. وبعد نقاش طويل تقرر إرسال برقية إلى الهر هتلر يخبره فيها بأن الألمانية الحق في الاشتراك في مناقشة المجلس لطلب فرنسا وبلجيكا على قدم المساواة مع بقية الدول؛ ولا اعتبار لأصوات دول لوكارنو الثلاثة في تقرير التصويت الإجماعي. أما فيما يتعلق بالشرط الثاني فليس من اختصاص المجلس إعطاء التأكيد الذي تطلبه الحكومة الألمانية.

وقرأ مسيو فلاندان طلب حكومة فرنسا وبلجيكا الذي تقولان فيه بأن على مجلس العصبة أن يقرر بأن ألمانيا قد اعتدت على ميثاق لوكارنو ومعاهدة فرساي، وأن يقف فوراً دول لوكارنو على القرار - وبعد نقاش قصير فضت الجلسة.

وقبل أن تجيب حكومة برلين على برقية مجلس العصبة، أرسلت صباح الثلاثاء 17 مارس إلى حكومة لندن، بواسطة سفيرها في برلين برقية تقول فيها بأن الحكومة الألمانية تأمل من حكومة جلالته بذل جهودها، في الظروف الحالية، للمفاوضة على المنهاج الألماني

ص: 24

في الوقت المناسب مع الدول ذات الشأن فيه. فأسرع مستر ايدن في أخذ رأي ممثلي فرنسا وبلجيكا ثم أجاب حكومة برلين قائلاً: (إن حكومة جلالته باذلة كل جهدها للوصول إلى حل سلمي مرض للمشاكل الحالية. وأن الحكومة البريطانية تؤكد بأن (اقتراحات المستشار) ستناقش في الوقت المناسب كغيرها من اقتراحات ذات الشان في الموضوع)

وفي اليوم عينه اجتمع مجلس العصبة في الساعة الثالثة والنصف وعقد جلسة سرية حسب اقتراح رئيسه ليسمع تصريحاً من ممثل بريطانيا. وقد أطلع مستر ايدن المجلس على برقية حكومة برلين وجوابه عليها. وبعد جدال عنيف حول الموضوع تقرر أن برقية الحكومة الألمانية لا تعد جواباً على برقية المجلس، وأن على المجلس فتح المناقشة حول طلب فرنسا وبلجيكا. وقد حض ممثلا فرنسا وبلجيكا على النقاش الفوري، وأخذ مسيو فلاندان يتكلم بحدة عن ضياع الوقت دون الوصول إلى نتيجة.

وبينا هم كذلك إذ سلمت برقية إلى مستر ايدن، تفيد بأن الحكومة الألمانية قد قررت إرسال مبعوث إلى لندن. وبعد بضع دقائق (تلفن) سفير ألمانيا في لندن إلى رئيس المجلس ليقفه على الخبر. وعلى ذلك انفضت الجلسة ليقوم الممثلون باستشاراتهم الخاصة.

وفي نفس اليوم عقدت الجلسة ثانية وكانت سرية أيضاً. ودار الحديث حول تأجيل المناقشة العامة حتى وصول ممثل بريطانيا، فعارض مسيو زيلاند في ذلك، وأخبر مسيو فلاندان المجلس بأنه يجب أن يؤخذ القرار صباح الخميس، لأنه سيغادر لندن إلى باريس في ذلك التاريخ. وهكذا تقرر أخيراً افتتاح الجلسة العمومية والبحث في دعوى فرنسا وبلجيكا، وكان ذلك في الساعة الخامسة والنصف.

وتكلم في هذا الاجتماع ممثلو تركيا وروسيا وشيلي. وكان أهم ما جاء في الخطب انتقادات الرفيق لتفينوف الشديدة والصريحة لانتهاك ألمانيا ميثاق لوكارنو. وقرأ جملاً من كتاب (كفاحي) توضح أن ألمانيا كانت مصرة على احتلال أراضي الرين عسكرياً وتسليحها لتتمكن من نشر نفوذها على أوربا جميعها وتابع مجلس العصبة اجتماعه في اليوم التالي، وتكلم جميع ممثلي الدول عدا الرئيس وممثل بلاد (الإيكوادور) بسبب مرضه، وأهم الخطب كانت خطب مستر ايدن والسنيور جراندي والكلونيل بيك أما الهر ريبنتروب فلم يصل في الوقت المحدد، ولذلك ألقي خطابه يوم الخميس 19 مارس.

ص: 25

وبعد أن أبان مستر ايدن أن ألمانيا هدمت معاهدة لوكارنو بعملها في 7 مارس قال: (إن واجباتنا ليست فقط التصريح بأن اعتداء قد حصل، بل يجب أن نضع نصب أعيننا غايتنا السامية، ألا وهي الاحتفاظ بالسلام، وإقامة حسن التفاهم بين أمم أوربا على أساس متين ودائم. ماذا كان مقصد لوكارنو؟ لقد كان لها مقصدان: أولهما الاحتفاظ بالسلام، وثانيهما خلق ثقة دولية بتأمين السلام في غربي أوربا. وإنني أصرح بأن موضوعنا اليوم هو هاتان النقطتان. . واستمر يقول بأن الحالة الراهنة التي تولدت عن أعمال 7 مارس حرجة جداً، غير إن هذه الحالة تحتوي على شيئين مهمين يجب لفت النظر إليهما:

أولهما: أن تمزيق لوكارنو لم يحمل معه أي تهديد عدائي، ولا يوجب العمل الفوري الذي توجبه معاهدة لوكارنو في بعض الظروف.

ثانيهما: مهما تكن الحالة خطرة فأنها أوجدت فرصة سانحة لتوليد حسن التفاهم وبناء العلاقات الدولية على معاهدات يحترمها الجميع ويود بقاءها. . .

أما الأمر الأول الذي لفت مستر ايدن إليه النظر فيخالف نص معاهدة لوكارنو الذي يقول بأن احتلال أراضي الرين يعد عملاً عدائياً، ولدول لوكارنو الحق في اتخاذ إجراءات عاجلة فعالة. وأما النقطة الثانية فلا يستطيع مستر ايدن تأكيدها، إذ هو لا يستطيع ضمان محافظة ألمانيا على المعاهدات التي ستعقد معها. ألا يمكن لحكومة النازي أن تقوم بعد سنين بعين العمل الذي قامت به في 7 مارس بحجة أن المعاهدة التي وقعتها لم تعد تسير مع رغائب الأمة فلا قيمة لها، وأن الحكومة الألمانية في حل منها!

واجتمع مجلس العصبة صباح الخميس الموافق 19 مارس لسماع خطاب الهر فون ريبنتروب واتخاذ القرار. وفي بادئ الأمر عقد اجتماع خاص طلب فيه ممثل الهر هتلر ترك فاصل من الوقت بين نهاية خطابه وأخذ القرار للتفكير. فصرح مسيو فلاندان حالاً، وبدون تردد، بأنه يعضد هذا الاقتراح. وفي الساعة العاشرة والنصف عقد الاجتماع العام. وأومأ الرئيس إلى الهر ريبنتروب، فقام وقرأ خطابه بالألمانية (مع أن اللغتين الرسميتين في عصبة الأمم هما الفرنسية والإنجليزية)، وبصوت هادئ ودون إشارة مدة نصف ساعة، ولم يأت في دفاعه ببراهين جديدة تبرر أعمال 7 مارس، بل كان الدفاع مبنياً على أن حكومة فرنسا اعتدت على لوكارنو بعقدها مع الروسيا ميثاقاً آخر؛ وأعاد تأكيد الهر هتلر

ص: 26

بأن الحكومة الألمانية تود السلام.

وبعد أن ترجم الخطاب إلى الفرنسية والإنجليزية، انفضت الجلسة ليجيل الأعضاء الفكر فيه.

وعندما اجتمع أعضاء المجلس في الساعة الثالثة والنصف ألقى الرئيس بروسي كلمته كممثل لحكومة أستراليا، وأخبر بأنه سيصوت مع طلب فرنسا وبلجيكا.

ثم جرى التصويت على القرار - وهذا نصه: (إن مجلس عصبة الأمم، حسب دعوى وفرنسا وبلجيكا، المقدمة إليه في 8 مارس 1936، يرى بأن الحكومة الألمانية قد خالفت المادة 43 من معاهدة فرساي بإرسالها في 7مارس سنة 1936 قوى حربية إلى الإقليم غير المسلح، والمنوه عنه في المادة 42 والمواد التالية من تلك المعاهدة وفي معاهدة لوكارنو، وإقامتها فيه. انه يخبر السكرتير العام حسب نص البند 2 من المادة 4 من معاهدة لوكارنو لكي يرسل قرار المجلس هذا حالاً إلى الدول الموقعة على تلك المعاهدة)

وقد أخبر الرئيس بأن لجميع الممثلين حق التصويت، غير أن أصوات المتخاصمين لا تعد لمعرفة ما إذا كان التصويت بالإجماع.

وكان جواب ممثلي الدول إيجابياً (نعم). أما جواب ممثل الهر هتلر فكان (لا). ولم تكن حكومة اكوادور ممثلة في هذا الاجتماع؛ ولقد تغيب عن التصويت ممثلي شيلي.

وهكذا أخذ القرار بمخالفة أعمال 7 مارس لمعاهدتي فرساي ولوكارنو بالإجماع؛ وانتهت بذلك الدورة 91 غير العادية لمجلس العصبة.

يوسف هيكل

ص: 27

‌بعض أبطال النقد وأثرهم في نهضة الآداب الأوربية

عندما قرأت مقال الأستاذ صاحب (الرسالة) في فوضى النقد في مصر، ثم قرأت في الأسبوع التالي مقال الأستاذ أحمد أمين، بدا لي أن أقدم للقراء طائفة من النقاد الأوربيون كان لهم أكبر الأثر في نهضة الآداب كل في مملكته. وقد اشترك هؤلاء في فضيلة واحدة جعلت لكتابتهم قيمتها، تلك الفضيلة هي أنهم لم يقيموا من أنفسهم قضاة يصدرون أحكامهم على الأدباء، ولا اتخذوا من أنفسهم شتامين سبابين، يخرجون عن موضوع النقد إلى الخوض في الأعراض وانتقاص الشاعر أو الكاتب بكل ما يضع من قدره، ويحط في أعين القراء من شأنه. . . بل هم كانوا يعرضون بضاعة الأدباء على القراء ويعينونهم على تقديرها بالنقد والتحليل، ويلفتون أنظارهم إلى ما فيها من جمال أو قبح، ثم يتركونهم يصدرون أحكامهم من تلقاء أنفسهم. وأحسب أن لو أتبعت هذه الطريقة في مصر لعادت على الأدب والأدباء بأكبر النفع، ولا سيما إذا لم تقحم السياسة والإحن والتعصب في المسائل الأدبية التي ينبغي أن تظل بريئة خالصة لوجه الحق والأدب.

أما هؤلاء النقاد الأوربيون فهم: لسنج الألماني، وسانت بيف الفرنسي، وبلنسكي الروسي، ثم كولردج، وشارل لامب، وهازلت، وأرنولد الإنجليز.

1 -

لسنج

كانت أوربا كلها إلى ما قبل القرن الثامن عشر تعير ألمانيا بالإفلاس الأدبي، وكانت ألمانيا تنظر إلى خصيمتها فرنسا نظرة كلها حسد وكلها غيرة، وإن كان هذا الحسد وتلك الغيرة لم يمنعاها من أن تكون التلميذة المؤدبة المعترفة بالجميل لفرنسا، ذلك لانتشار الأدب الفرنسي بين الألمان في ذلك الوقت انتشارا كان يأخذ السبل على كل الآداب الأوربية، فما يستطيع أحدها النفاذ إلى ألمانيا، بما في ذلك الأدب الإنجليزي الذي كان بطبعه أقرب إلى ذوق الألمان. فلما ولد جوتهولد إفرايم لسنج سنة 1729 دقت البشائر في ألمانيا كلها، وأخذ الكابوس الذي كان يجثم على صدرها ينظر إلى هذا الطفل ويعد العدة للرحيل!

قضى لسنج أيامه الأولى متنقلاً بين لينبرج وبرلين؛ وكان أبواه قد نذراه للكنيسة، لما كان للرهبان في تلك الآونة من عظيم الشأن في ألمانيا؛ ومن هنا كان الصراع الهائل في نفس الشاب بين ميوله الأدبية الفطرية وبين التزمت الديني في الفكر الذي يقسر عليه رجال

ص: 28

الدين عادة. فصبأ من تلقاء نفسه، واحترف الأدب.

وكان لسنج يبغض الأدب الفرنسي ويبغض الأدباء الفرنسيين وفي مقدمتهم فولتير؛ وأكبر الظن أنه كان يصدر عن عصبية ووطنية صارخة لما كان بين الدولتين من منافسات وثارات. ولم يبرح يكتب ويكتب، ولم يبرح المسرح يجتذبه إليه، فعكف أول الأمر ينقد الدرامات الفرنسية التي كانت تكتسح المسرح الألماني، ويظهر الناس على ما فيها من ليونة لا تتفق والقوة التي تنشدها ألمانيا. ولم يقف عند الكتابة في الصحف والمجلات، بل ألف كتابه القيم (تاريخ المسرح) وأصدره سنة 1750، وهو كتاب خطير حسن يلفت فيه لسنج أنظار قومه بشدة إلى روائع المسرح الإغريقي، ويقفهم به على أحسن ما جادت به قرائح إسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدز وأرسطوفان. ثم يدعوهم به إلى الأيمان باليونان والكفر بفرنسا. وكان هذا الكتاب أول محاولة صادقة لإحياء الدراما الكلاسيكية، وقد هرع إليه أدباء ألمانيا فتخذوا منه إنجيلا يبشر بأدب جديد؛ وافتتن به جوته فبشر به؛ وجعله شيللر ناموسه الأكبر إلى أدب المجد والخلود.

وكان لسنج يعجب أيما إعجاب بشكسبير، فدأب على الدعوة له في ألمانيا حتى أفلح أخيراً في صرف الشباب الألماني إليه. وقد حفظ له الإنكليز هذا الجميل فنقلوا إلى لغتهم كل ما كان يكتب ويؤلف.

وقد تمت هزيمة الاتجاه الفرنسي في ألمانيا حينما أصدر لسنج مأساته الخالدة (الآنسة سارة سامبسون) سنة 1755 التي كانت بحق أولى ثمار الأدب القومي الألماني المستقل. وبعد هذه الدرامة فرغ لسنج للنقد فأرشد ألمانيا كلها لما فيه خيرها ولما فيه صلاح نهضتها.

وفي سنة 1766 أصدر لسنج قصته البارعة (لاوكون) التي أتفق كل مؤرخي الآداب على أنها أعظم نتاج أدبي صدر في القرن الثامن عشر بطوله. والقصة تدور على حوادث النبي الطراودي لاوكون الذي وعظ قومه آلا يقربوا الحصان الخشبي وألا يدخلوه إلى مدينتهم لأنه سيكون شراً عليهم. ولقد لخصت (الرسالة) هذه الحادثة في باب القصص في آخر حروب طراودة. وبحسب هذه القصة أن يقول فيها جوته: (يجب أن نرتد طفرة إلى ميعة الشباب وحرارته كي ندرك حقيقة الأثر العميق الذي تركه فينا لسنج بقصته العبقرية (لاوكون) الذي انتشلتنا من صفوف المتفرجين التاعسين البلداء إلى صفوف المفكرين

ص: 29

المنتجين العظماء!) وقد عرض لسنج في ثنايا القصة إلى ضروب من النقد الحر المعتدل البعيد من الصلف جعلتها قانونا عاما لهذا الفن الذي هب أدباؤنا اليوم يشكون مر الشكوى من المتطفلين عليه بغير الحق.

2 -

سانت بيف (1804 - 1869)

لا يستغني طالب الأدب الفرنسي عن كتاب (أحاديث الاثنين) لسانت بيف؛ بل نبالغ إذا جزمنا أنه لا غناء لمتأدب في أي أمة عن هذا الكتاب الذي لا يعدله كتاب في النقد الأدبي في العالم. ولم يكن لورد مورلي مبالغاً حين قال إن من شاء استيعاب الأدب الفرنسي كله فحسبه أحاديث الاثنين لسانت بيف، فهي ذوق وذخيرة وعدالة ومفتاح ذهبي لكل من يستغلق عليه شيء من هذا الأدب الحافل.

وقد عرض سانت بيف لطائفة كبيرة من الأدباء الإنجليز والإغريق في أحاديثه، فحلل آدابهم وعرضهم على قرائه عرضاً علمياً شائقاً شهد بعدالته وسموه كبار النقاد الإنجليز أنفسهم، وإن يكن قد قدح في طريقة الناقد الإنجليزي الكبير صموئيل جونسون التي عرض بها لجمهرة من الشعراء في كتابه (حياة الشعراء ولم يكن سانت بيف متعسفاً في هذا القدح، بل كان صائب الرأي فيه إلى حد بعيد؛ ويكفي أن تعلم أن كتاب جونسون هو مجموعة مقدمات لدواوين الشعراء كان يطلب منه تقديمها إلى القراء بها، فكان لا يعني فيها إلا بإبراز محاسن الشاعر وإلا كبار من شأنه غاضاً الطرف عن عيوبه يكفي أن تعرف هذا لتتفق مع بيف في إقلاله من شأن جونسون وكما قدح بيف في طريقة جونسون في نقد الآداب، فكذلك لم ترضه طريقة مواطنه الكبير بوالو (لأنه كان ينظر إلى الأديب نظرة سطحية، ثم سرعان ما يصدر حكمه عليه؛ والناقد العادل ينبغي أن يستعرض حياة الأديب وعصره وبيئته وظروفه فيشرحها للقراء شرحاً مسهباً ثم يدعهم يصدرون أحكامهم؛ فليس من وظيفة الناقد أن يكون قاضياً. . .)

وأحاديث الاثنين فصول ممتعة كان يحررها بيف في إحدى المجلات الدورية ثم جمعها وأصدرها في عدة مجلدات وأردفها بكتابه الرائع في النقد والأدب والفلسفة وقد تناول فيه الحركة الذهنية برمتها في عهد لويس الرابع عشر.

3 -

بلنسكي (1811 - 1847)

ص: 30

يرجع تاريخ النقد الأدبي في روسيا إلى عهد الشاعر العظيم بوشكين (1799 - 1837) وذلك للفصول الممتعة القوية التي كان يوالي نشرها في المجلة الروسية (الرسول الأوربي) ينقد فيها الشعر والشعراء منذ فجر النهضة الروسية إلى زمنه. وقد أثارت هذه الفصول حماسة الشباب ولفتتهم إلى درر الآداب العالمية، وربت فيهم ذوقاً خالصاً شفافاً يزن بالنظرة الواحدة قيم الأدب بنوعيه في ذلك العصر من شعر ونثر. وقد استجاب لفصول بوشكين زعماء الشباب من أدباء روسيا واجتذبت بعض أمراء البيت القيصري وفي مقدمتهم الأمير الأديب فيازيمسكي الذي نزل إلى ميدان النقد بقلمه - على نهج بوشكين - في مجلة (كارامزين)(1808 - 1878) - وانتظمت حركة النقد على صدى سانت بيف حين دخل عنصر الاحتراف في الصحافة الروسية وقطعت شوطاً كبيراً على يد الصحافي القدير بولفوي. الذي لفت إليه الأنظار بفصوله الضافية في نقد الأدب والحياة والتقاليد الروسية، وإن أغضب الفئة الرجعية التي لا تخلو منها أمة ما. . .

بيد أن هذه الحركة المباركة لم تبلغ أوجها إلا حين تسلمها فتاها الأكبر فخر أدباء روسيا بلنسكي، الذي وثب من وسط وضيع وأسرة فقيرة وتعليم ناقص مبتور، فاستطاع أن يتسم أسمى ذروة بين مواطنيه، وأن يرسم الخطط لما ينبغي أن يكون عليه الأدب والاجتماع في روسيا جميعاً. وكأننا به قد تسلم تراث أسلافه بوشكين ولرمونتوث وجوجول ليغربله ويسقط ما فيه من نفايات، كيما يخلق منه قادة الأدب العالمي الجديد: جوتشريف وهرزن ودستوئفسكي وتولستوي وشيخوف وجوركي. وبحسبك أن تعلم أن الأربعة الأول قد تتلمذوا على بلنسكي، ورضعوا لبانه ودرجوا في حجره، وثقفوا عنه فلسفة هجل وجيته، وطرائف شاكسبير وروائع الأدب الفرنسي، وآمنوا عن سبيله، بأن الفن للحياة، وليس الفن للفن.

ولشد ما كانت روسيا تشبه مصر اليوم من الوجهة الأدبية، فكان فيها معسكران كبيران ينزع أحدهما إلى التجديد والأخذ عن الغرب، وتسموا باسم (الثائرين) وكان على رأسهم بلنسكي يعاونه ويشد أزره الناقد المحاضر الكبير يوسف لوما يستر، ويساعدهما الأديب الثقة والناقد المحقق هرزن، أما المعسكر الآخر فهم فئة السلافيين وكانوا يتعصبون لروسيا القديمة تعصباً أعمى، وكان أدباؤهم ينقدون معسكر الثائرين نقداً كله شعوذة وكله رمي بالكفر المروق من الدين والوطنية.

ص: 31

وقد أخذ الأستاذ بركنر الألماني في كتابه (تاريخ الآداب الروسية) على بلنسكي وإضرابه من النقاد الروسيين ما كانوا يحيدون به أحياناً عن قوانين النقد التي وضعها سانت بيف ولسنج وأرنولد، وقال إنهم حين كانوا يفعلون ذلك كان يجيء نقدهم سطحياً قليل الغناء، وقد رد الأستاذ بارنج في كتابه (خلاصة الأدب الروسي) على هذا المأخذ بأن بلنسكي ومدرسته كانت تنشد قبل كل شيء خلق وأدب قومي روسي بكل معنى الكلمة ينافس الآداب الأوربية التي كانت تطغي على روسيا نفسها فتجذب إليها جمهور القراء الروسيين. . . لذلك كان يضطر أحياناً إلى منازلة خصومه بأشد من أسلحتهم في المهاترة والثلب!

4 -

كولردج وشارل لامب

لو أن كولردج (1772 - 1834) قصر جهوده على النقد دون النظم لأفاد الأدب الإنجليزي أكثر مما أفاده بشعره، وأن يكن له في هذا الميدان جهده المشكور. ولقد كانت طريقته في النقد مثل طريقة مواطنه وصديقه شارل لامب (1775 - 1834) وإن أختص الأول بعرض أدب شاكسبير أكثر من أي شيء آخر. وكل النقاد الحديثين في إنجلترا يحترمون آراءه في شاعرهم الأكبر ويعتمدون عليها. وشارل لامب هو صاحب النظرية العجيبة في نقد الآداب والتي تتلخص في (وجوب اعتماد الناقد على ذوقه كحاسة سادسة لا على عقله فقط في نقد الأدب!) وهو يشرك الروح في النقد، ويطلب من الشاعر أن يغني ويصور، ويبكي ويتألم، لا أن ينظم حقائق هذه الدنيا فيكون شعره جافا ثقيلا على القلب. فالروح عند شارل للشعر، والعقل للعلم. وقد كان لامب يثير شغف القراء وإعجابهم بفصوله التي كان ينشرها في بإمضاء (إيليا)؛ ولولا أثرته ومدحه لذاته في هذه الفصول لرفعته إلى أسمى مراتب النقاد.

5 -

هازلت (1778 - 1830)

لا تقل مكانة وليم هازلت في النقد عن مكانة سانت بيف؛ ويعده الإنجليز واضع أسس النقد الأدبي الحديث في إنجلترا، وهم يقبلون على قراءته إلى اليوم كما يقبل الفرنسيون على قراءة سانت بيف، وكما يقبل الألمان على لسنج، والروس على بلنسكي. ويذكر هازلت أن سبب شغفه بالأدب والنقد خاصة هو لقاؤه الأول بكولردج الذي كان صديق أبيه. وكان

ص: 32

يزوره في منزله كأعز ضيف عليه. ولقد حاول هازلت مرة أن يهجر الأدب إلى الفنون، وشغف فعلاً بالتصوير والرسم ولكنه فشل، فحطم ريشته وامتشق براعته، وكان ذلك من حسن حظ الأدب.

وما كاد هازلت ينشر فصوله الأولى في النقد في إحدى المجلات حتى استرعى انتباه الدوائر الأدبية العليا. وحتى دعته مؤسسة رسل لإلقاء بضع محاضرات في (نشوء وترقي الفلسفة الحديثة)، ثم في (الشعر والشعراء الإنجليز) و (كتاب الكوميدي الإنجليز)، و (عصر إليزابيث). ودعته صحيفة المورنتج كرونكل لتحرير قسم النقد المسرحي فيها. وأخذ بعد ذلك ينشر فصوله عن (الدائرة المستديرة) في صحف التيمس والتشامبيون والأجزامنينر، واتصل بمجلة لندن فنشر فيها حديث المائدة وبحثه القيم عن (روح العصر). وغير ذلك من الموضوعات الشائقة. وقد شهد البروفيسير سينتسبري - ولم يغل - بأن فصول هازلت في النقد قد فاقت غيرها في جميع الأمم، ولم يستثن سانت بيف - ولولا ما كان من إعجاب هازلت بنابليون لعبده الإنجليز ولقدسوه تقديساً.

6 -

مانيو أرنولد (1822 - 1888)

أرنولد من شعراء العصر الفكتوري المجيدين، ولكنه خدم الأدب الإنجليزي بكتابه القيم (فصول في النقد أكثر مما خدمه بشعره؛ ويكاد أرنولد يتفق وهازلت في طريقته في نقد الآداب، غير أنه يمتاز من هازلت بأنه يخلق من القارئ نفسه ناقداً للموضوع أو الأديب الذي ينقده، فما يكاد أحد يتلو فصولاً من كتابه حتى يحس من نفسه القدرة على النقد، كأنما قد تقمصه أرنولد! وهذا ما أفاض في شرحه الأستاذ هربرت بول في كتابه عن أرنولد؛ ولولا تشكك أرنولد وكثرة حيرته، وهما عيبان يبدوان كثيراً في فصوله، لما قل في مرتبته عن هازلت وعن سانت بيف.

وبعد فهذه لمحات خاطفة لمادتنا نقاد الآداب عن زملائهم (!) في بعض الأمم الأوربية، نرجو أن يهتموا بدراستهم في المراجع التي أشرنا إليها ثم ينقدوا بعد ذلك ما يشاءون.

(د. خ)

ص: 33

‌ضوء جديد على ناحية من الأدب العربي

اشتغال العرب بالأدب المقارن أو ما يدعوه الفرنجة في

كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر

لفيلسوف العرب أبي الوليد بن رشد

(تابع المنشور في العدد الماضي)

- تلخيص وتحليل -

للأستاذ خليل هنداوي

أما غاية صناعة الشعر فلم تخرج عن غاية الفلسفة لأن المؤلف والمترجم فيلسوفان يقيسان كل شيء، ويقدرانه بحسب فائدته الخلقية، وهما يريدان من الشعر أن يكون عاملاً على تهذيب الأخلاق حاثاً على التخلق بالآداب السامية (وهذا هو الشعر المدرسي قبل أن ينحت الفن أثلته، وينخر غرسته) لأن الفن قد ضرب بهذه السدود، وحطمها أي تحطيم. والشعر الفني - عند العرب - في اعتقادي - يغشى على الشعر المدرسي لأن أكثره شعر لا يدل على أن أصحابه كانوا يتورعون فيه. ولعل هذا هو ما دعا أبا نصر الفارابي إلى الحملة على هذا النوع من الشعر الفني بقوله:(إن أكثر شعر العرب في النهيم والكريه؛ وذلك أن النوع الذي يسمونه النسيب إنما هو حث على الفسوق؛ ولذلك ينبغي أن يتجنبه الولدان ويؤدبون من أشعارهم بما يحث فيه على الشجاعة والكرم، فانه ليس تحث العرب في أشعارها من الفضائل على سوى هاتين القضيتين وإن كانت ليس تتكلم فيهما على طريق الحث عليهما، وإنما تتكلم فيهما على طريق الفخر، لأن أكثر شعرهم من شعر المطابقة الذي يصفون به الجمادات كثيراً والحيوانات والنبات. وأما اليونانيون فلم يكونوا يقولون أكثر ذلك شعراً إلا وهو موجه نحو الفضيلة والكف عن الرذيلة، وما يفيد أدباً من الآداب أو معرفة من المعارف) وقد بحث في العلل المولدة للشعر، فكان تعليله الأول إلى الفلسفة أدنى منه إلى الشعر. وقد بنى هذه العلل على ميل الإنسان إلى محاكاة الأشياء. وقد تكون - عندي - هذه المحاكاة علة صادقة مبنية على التحليل النفسي، لأن الشاعر أقرب الناس إلى

ص: 34

فهم الطبيعة والعمل على تحسينها وإكمالها (لأنه يلتذ بالتشبيه للأشياء التي قد أحسها وبالمحاكاة لها ليلتذ بإحساسها) فما اصدق هذا الإحساس وما أبعده في تعليل العلل المولدة للشعر. إن الشاعر يأتي الطبيعة ويستجليها ويستنطقها ويبث فيها الحياة، ليجعل فيها القدرة على مشاركته في بهجته. وجاء تعليله الثاني تعليلا طبيعيا، نشأ في الإنسان لالتذاذه بالطبع بالوزن والألحان. . . وهو في هذا لا يرى في الوزن والألحان كل الشعر إن لم تنطو هذه الألحان على محاكاة الطبيعة؛ ثم يذهب في اختلاف طبائع الأمم، فأن الأمم التي تغلب الأخلاق عليها تميل إلى مديح الأفعال الجميلة، والعكس بالعكس. ولا بد من ملاءمة الأوزان والألحان للمعاني؛ فرب وزن يناسب غرضاً ولا يناسب غرضاً آخر. وعملهما فيه هو أنها تعد النفس لقبول خيال الشيء الذي يقصد تخيله. وثمة علل كثيرة للشعر، (وإنما المحاكاة هي العمود والأس في هذه الصناعة، لأن الالتذاذ ليس يكون بذكر الشيء المقصود ذكره دون أن يحاكى. ولذلك لا يلتذ الإنسان بالنظر إلى صور الأشياء الموجودة أنفسها، ويلتذ بمحاكاتها وتصورها بالأصباغ والألوان؛ ولذلك استعمل الإنسان صناعة الزواقة والتصوير. وهل كانت غاية المديح مثلاً إلا محاكاة الناس من قبل عاداتهم الجميلة وأمثالهم الحسنة واعتقاداتهم البعيدة؟ ولعل أرسطو كان أكثر إنصافاً لرسالة الشعر منه لرسالة الخطابة (فقد أعترف لها بأنها ليست مبنية على الاحتجاج والمناظرة، وبخاصة صناعة المديح، وبذلك ليس يستعمل المديح صناعة النفاق كما تستعملها الخطابة) وبهذا أحسن إلى الشعر؛ وهل المادح يمدح إلا عن اعتقاد. . . . . وأساء إلى الخطابة - ولكن النفاق قد يدخل الشعر كما يدخل الخطابة، وقد يبرأ الشعر منه كما تبرأ الخطابة منه بحسب قوة الاعتقاد وصدقه عند الشاعر والخطيب.

صناعة المديح وأجزاؤها

قد أسهب ابن رشد في هذا الباب ما شاء له الإسهاب، لأنه يراه أكثر انطباقاً على محاكاة الأخلاق الفاضلة. والفلسفة تكره المحاكاة لمجرد المحاكاة إلا أن يكون من ورائها غرض أو معنى شريف من معاني التهذيب. وقد تصدى لعلة في الشعر لا تزال فاشية في شعرنا، هي علة (الاستطراد) في القصيدة الواحدة، (ويشبه أن يكون جميع الشعراء لا يتحفظون بهذا بل ينتقلون من شيء إلى شيء، ولا يلزمون غرضاً واحداً بعينه ما عدا (هوميروس) في

ص: 35

اليونان.

وأنت تجد هذا كثيراً ما يعرض في أشعار العرب والمحدثين وبخاصة عند المدح، أعني أنه إذا عن لهم شيء ما من أسباب الممدوح مثل سيف أو قوس اشتغلوا بمحاكاته وأضربوا عن ذكر الممدوح. وبالجملة فيجب أن تكون الصناعة تتشبه بالطبيعة، أعني أن تكون إنما تفعل جميع ما تفعله من أجل غرض واحد وغاية واحدة، وإذا كان كذلك فواجب أن يكون التشبيه والمحاكاة لواحد ومقصوداً به غرض واحد، وأن يكون لأجزائه عظم محدود، وأن يكون فيها مبدأ ووسط وآخر، وأن يكون الوسط أفضلها.

أما تعريفه للمحاكاة من حيث الخلق والإبداع فهو تعريف تم عن إحساس عال بالشعر، فليس الشعر يعتمد على التخييل بدون نظام، ولا على تصوير الأشياء التي لا تجول في الذهن. (لأن المحاكاة التي تكون بالأمور المخترعة الكاذبة ليست من أفعال الشاعر - وهي التي تسمى أمثالاً وقصصاً مثل ما في كتاب كليلة ودمنة. لكن الشاعر إنما يتكلم في الأمور الموجودة أو الممكنة الوجود؛ وأما الذين يعملون الأمثال والقصص فان عملهم غير عمل الشعراء وإن كانوا قد يعملون تلك الأمثال والأحاديث المخترعة بكلام موزون. فالفاعل للأمثال المخترعة والقصص إنما يخترع أشخاصاً ليس لها وجود أصلاً ويضع لها أسماء؛ وأما الشاعر فإنما يضع أسماء لأشياء موجودة. . . ولذلك كانت صناعة الشعر أقرب إلى الفلسفة من صناعة اختراع الأمثال) وقد أبى ذهن أرسطو إلا أن يعطف على الشعر ويجعل رسالته مشتقة من رسالة الفلسفة. وإذا نصر الفيلسوف رسالة الشعر وخصها بفضله قد رام - لقاء هذا الفضل أن يضيق عليها حدودها، (فهو يرى أن الأشياء غير الموجودة يجب ألا توضع وتخترع لها أسماء في صناعة المديح، مثل وصفهم الجود شخصاً ثم يضعون أفعالاً له ويحاكونها ويطنبون في مدحه. فهذا النوع من التخييل وإن كان قد ينتفع به فليس ينبغي أن يعتمد في صناعة المديح لأنه ليس مما يوافق جميع الطباع بل قد يضحك منه ويزدريه كثير من الناس.)، وقد يكون اعتقاده على حق لو كان ينطق عن غير الشعر. لأن الشعر لا منصرف له عن خلقه لكثير من أنواع التخيل، (ومن جيد ما في هذا الباب للعرب - وإن لم يكن على طريق الحث على الفضيلة) قول الأعشى:

لعمري لقد لاحت عيونٌ نواظر

إلى ضوء نار باليفاع تحرَّق

ص: 36

تُشب لمقرورين يصطليانها

وبات على النار الندى والمحلَّق

رضيعي لبان ثدي أم تحالفا

بأسحمَ داج عوضُ لا نتفرق

وهو يريد من كل هذا أن ينزه رسالة الشعر عن النفاق وكذب التخيل والاختلاق. (إذ لا ينبغي للشاعر أن يأوي إلى ما يدعى نفاقاً فان ذلك إنما يستعمله المموهون من الشعراء، أعني الذين يرون أنهم شعراء وليسوا بشعراء؛ وأما الشعراء بالحقيقة فلا يستعملونه إلا عندما يريدون أن يقابلوا به استعمال شعراء الزور له، وأما إذا قابلوا الشعراء المجيدين فلا يستعملونه أصلاً. . على أن كثيراً من الأقاويل الشعرية تكون جودتها في المحاكاة البسيطة)

وقد تكون المحاكاة بسيطة مجردة، وقد تكون مركبة تأتي بطريقة المقابلة. إذا أراد أن يحاكي السعادة وأهلها أبتدأ أولاً بمحاكاة الشقاوة وأهلها ثم أنتقل إلى محاكاة أهل السعادة، والمحاكاة الأولى هي الغالبة على شعر العرب

كقول أبي الطيب:

كم زورة لك في الأعراب خافية

أدهى - وقد رقدوا - من زورة الذيب

فهذا البيت من نوع المحاكاة الأولى

وقوله:

أزورهم وسواد الليل يشفع لي

وأنثني وبياض الصبحُ يغري بي

فهذا من نوع المحاكاة الثانية المبنية على طريقة المقابلة

ولقد تكون المحاكاة وليدة الانفعالات النفسية كانفعالات الخوف والرحمة والحزن، وهي تكون بذكر المصائب والرزايا النازلة بالناس. ويجب على الشاعر أن يلزم في تخيلاته ومحاكاته الأشياء التي جرت العادة باستعمالها في التشبيه، وألا يتعدى في ذلك طريقة الشعر.

أما هذه المحاكاة فهي عنده على أنواع. منها محاكاة لأشياء محسوسة بأشياء محسوسة من شأنها أن توقع الشك لمن ينظر إليها؛ وكلما كانت هذه المتوهمات أقرب إلى وقوع الشك كانت أتم تشبيهاً. وجل تشبيهات العرب راجعة إلى هذا الموضع. وكلما كانت أبعد من وقوع الشك كانت أنقص تشبيهاً. وهذه المحاكاة البعيدة التي يجب أن تطرح كقول امرئ القيس في الفرس:

ص: 37

(كأنها هراوة منوال)

ومنها محاكاة لأمور معنوية بأشياء محسوسة كقولهم في المنة إنها طوق العنق، وفي الإحسان أنه قيد. وهذا كثير في شعر العرب كقول أبي الطيب:

(ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا)

أو قول امرئ القيس:

(بمنجرد قيد الأوابد هيكل)

وما كان من هذه أيضاً غير مناسب ولا شبيه فينبغي أن يطرح؛ وهذا كثيراً ما يوجد في أشعار المحدثين وبخاصة في شعر أبي تمام كقوله: (لا تسقني ماء الملام) فأن الماء غير مناسب للملام. وكما أن البعيد يجب طرحه كذلك ينبغي أن يكون التشبيه بالجنس الموجود مطرحاً أيضاً، وأن يكون التشبيه بالأشياء الفاضلة.

ومنها المحاكاة التي تقع بالتذكر كأن يرى الإنسان خط إنسان فيتذكره إن كان حياً أو ميتاً، وهذا موجود في أشعار العرب بكثرة كقول متمم بن نويرة:

وقالوا أتبكي كل قبر رأيته

لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك

فقلت لهم أن الأسى يبعث الأسى

دعوني! فهذا كله قبر مالك

وكقول المجنون:

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى

فهيج أحزان الفؤاد وما يدري

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما

أطار بليلى صبراً كان في صدري

وكقول الخنساء:

يذكرني طلوع الشمس صخراً

وأذكره لكل غروب شمس

وهذا النوع كثير في شعر العرب، ومنه تذكر الأحبة بالديار والأطلال. ويقرب من هذا الموضع ما جرت به عادة العرب من تذكر الأحبة بالخيال وإقامته مقام المتخيل كما قال شاعرهم:

وأني لأستغشي وما بي نعسة

لعل خيالاً منك يلقى خياليا

وأخرج من بين البيوت لعلني

أحدث عنك النفس في السر خاليا

وتصرف العرب فيه كثير

ص: 38

ومنها الذي يستعمله السوفسطائيون من الشعراء وهو الغلو الكاذب، وهو كثير في أشعار العرب والمحدثين كقول النابغة يصف ضربة سيف:

تقدُ السلوقيّ المضاعف نسجه

وتوقد بالصفَّاح نار الحباحب

وهذا كله كذب

(له بقية)

خليل هنداوي

ص: 39

‌من الأدب الإنكليزي

برسي شلي

-

بقلم خليل جمعه الطوال

لشلي فكرةٌ متوقدةٌ، وعاطفةٌ ذائبةٌ، بل قلب يجيش بالوجدان الحي، ونبع يتفجر بالشعور الصادق، فقد كان شاعراً من أفذاذ الشعراء مشبوب المخيلة، وكاتباً متضلعاً من الكتابة، نظم وكان لا يزال في غضارة الصبى، عديد القصائد التي ما زلنا نطالعها، فندرس فيها مثال الحياة الأعلى، وكمال النفس الأسمى، ونمق كثير المقالات التي ما زالت، ونحن نتصفحها، تحدث في مشاعرنا ضروباً شتى من التأثير والانفعال، فلا عجب إذا كتب لشعر الخلود والبقاء، وسجل لاسمه صفحة حافلةً بجليل الأثر في سجل الزمن وتاريخ الأدباء.

توفي شلي، وكان لا يزال من العمر في مقتبله، وقد أقبل الأدباء على أشعاره يتدارسونها، وهرع النقاد إلى عيوبه وسقطاته يستقصونها، فما كان لأولئك وإن أعياهم الدرس أن يبلغوا شأو غايته، ولا لهؤلاء وإن أعماهم التغرض أن يضعوا من مقدار عظمته. لقد اختلفت فيه المذاهب وتناحرت عليه الآراء، فمنهم من نسى أو تناسى وفاته الباكرة وحياته القصيرة، وراح يبحث في أشعاره عن آية القدر وأعجوبة الزمن، فلما لم يجدها تناوله بألسنة حداد ودحضه بشتى الأحكام الجائرة، بعد أن خضَّل جدثه بوابل من المثالب الجارفة، التي يترفع عنها الأدباء وتنبو عن سماعها آذان الحكماء، وبعد أن نال من سمعته وحط من مكانته ما شاءت له رغائبه وسولت له أهواءه.

وتمثل لهذا النفر من الرجال الذين أعماهم التغرضُ الممقوت (بوليم هزلت) ولوليم هذا مكانة في الأدب، مرموقة بالأنظار، محفوفة بالاحترام والوقار، وخليقة بعدم التحامل السفيه، وبالأعراض عن التشيع الكريه، ومنهم من أسدل على هفواته - وجل من لا يهفو - ستر الجهل وقناع التجاهل تشيعاً للرجل لا للحق، وراح ينشد آياته البينات، ويتغنى بأشعاره النيرات، كتوماس أرنولد، وكان من معاصريه ومناصريه. وهكذا فقد كانوا فيه جميعاً بين القائل من كرامته لم يسلم من الإسراف والتحذلق، أو مطنبٍ في مدحه لم يسلم من آفة الغلو والإغراق.

ص: 40

وكم نود لو أن لنا من صائب النظر في مهنة النقد ما نعمد به إلى مؤلفاته - وهي خير ما بقي لنا من آثاره التي تترجم عن آرائه، ونتبين بين غثها وسمينها مقدار عبقريته، وحقيقة نفسيته، بعد أن بقي طيلة هذه المدة مجهول الهوية مكتوم الطوية، ونرجع بذلك فيصل الحكم إلى نصابه، وحسام الحقيقة إلى قرابه.

أما وليس لنا من قدرة النقد ما أسلفنا، فلا أقل من أن نعرض لحياته الطافحة بالألغاز والمبهمات جهد المستطاع وغاية الميسور آملين فيما نقرره أن نبلغ جدة الصواب.

مولده وأخلاقه

ولد برسي شلي في الرابع من شهر أغسطس لعام 1792، وقضى طفولته في لندن تعصف به الهموم والأحزان، وتنتاشه مخالب البؤس والأشجان، وذلك لما كان يلقاه من فقر والده ونكد طالعه، وكان - على ما يصفه لنا السير توماس هوج في كتابه - سري الخُلق سوي الحلق ذا عينين نجلاوين، هزيل الجسم أزهره، ناتئ المفاصل كبيرها، جعدي شعر الرأس قصيره، وضاء البشرة، جميل الأنف، مليح الفم، أمرد باسر الوجه، تعلو غضون حاجبيه المقطبين من شدة ما تجرعه من كأس الحياة المريرة سحابةٌ من الحزن، ولذا كان يكره دور الملاهي وينفر من الحانات. ويروى أنه كان بالغاً من الطول حد التحدب، ومن الجمال درجة التأنت، حتى أن منظره ليملك القلب ويستهوي الخاطر. وكان دائماً يحدب على المستضعفين ويرفق بالفقراء والمساكين، ويصبر على كيد أعدائه الظالمين.

شلي والمعري

جاء شلي فكأنما كان مجيئه ريحاً هادئة أذكت سعير تلك النار التي قدح المعري بزناده شرارها، وتعهد بآرائه ضرامها، والتي لا تزال تحدث ثورة في الرأي واضطراباً في العقيدة. جاء شلي، وكان ذلك الصوت الذي أهاب به المعري في ربوع بغداد، وبطاح سورية، وأرز لبنان - البلاد التي اختلف إليها المعري في أسفاره - لما يتلاش، فرجع في بلاد الغرب دوى صداه، الذي امتد من جبال (بنسين) في إنكلترا، إلى جبال الألب في إيطاليا، والذي انفجر في (ورنهام) - محل مولد شلي - فسار منها إلى مدينة روما، ثم تلاشى بين أمواج خليج (بيزا) المصطخبة.

ص: 41

لقد كان كلاهما روحاً سابحة في عالم الخيال، ونفساً تضطرب بين أنواء الشك واليقين. بل كان كلاهما ثورة شعواء على العرف والعادات والتقاليد، ومن أشد الناس سخرية بالدين، وزراية بما اطمأن إليه الخلق من إثابة الصالحين.

لقد كان شلي ملحداً لا يؤمن بالوحدانية، ولا بالحساب، كما كان المعري يسخر من وعيد الآخرة والثواب؛ وهل لغير الشك أن يملي على المعري قوله

لو جاَء من أهل البلى مخبر

سألت عن قوم وأرخت

هل فاز بالجنة عمالها؟؟

وهل ثوى في النار (نوبنخت)

أو قوله:

زعموا إنني سأرجع شرخاً

كيف بي كيف بي وذاك التماسي

وأزور الجنان أحبر فيها

بعد طول الهمود في الأرماس؟

أم هل كان شلي في كتابه الذي أرسله إلى (جون جسبورن) من بيزا عام 1822، والذي جاءت فيه هذه العبارات الآتية

، ;

أي: (إنه لمن الخرافة ومحض السفسطة، أن نعتقد بأن الإنسان الذي يقضي ستين عاماً من الحياة المريرة سيذهب (بعد موته) ليقضي ستين مليوناً من السنين وهو يشتوى حياً بنيران جهنم المؤلمة) هل هذا إلا صورة عن المعري في قوله:

أموتٌ ثم حشر ثم نشر

حديث خرافة يا أمَ عمرو؟

أو عن قوله:

خذ المرآة واستعرض نجوماً

تمر بمطعم الأرى المشور

تدل على الحمام بغير شك

ولكن لا تدل على النشور

وهل لغير روح أبي العلاء في قوله:

تحطمنا الأيام حتى كأننا

زجاج ولكن لا يعاد له سبك

وقوله:

لو كان جسمك متروكاً بهيئته

- بعد التلاف - طمعنا في تلافيه

أن تملي على شلي قصيدة الخالدة التي ينكر في بعض أبياتها لا نشور الأجسام فحسب، بل

ص: 42

بقاء الروح أيضاً. إذ يقول:

(إن روح الإنسان تتلاشى داخل قلبه وهو في القبر كما يخبو نور مصباح طمر في باطن الأرض ضمن زجاجته. أما جوهر الخلود الذي ينير بسماتنا بشعاع الأمل، فانه يتبدد ويتشعث في عالم الأزلية: واللانهاية.)

ولم نذهب بعيداً في المقابلة والاستدلال ونظرة واحدة إلى رسالة شلي التي نشرها عام 1811 تحت عنوان ضرورة الإلحاد فطرد من جامعة اكسفورد بسببها، ترينا بأنها ليست إلا نسخة عن (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، لا تختلف عنها إلا في اللغة والأسلوب!

لقد أنكر كلاهما كثيراً من العقائد والمذاهب، فنالا من مرارة النقد ولاذع التقريع ما لم تكسر الأيام من حدته.

أضف إلى اشتراكهما في الرأي والعقيدة ائتلافهما في المزاج وفي نوع المعيشة الزاهدة الوادعة، وترفعهما عن إيذاء الغير وإسرافها في عمل البر. وكل ما يختلفان فيه - إن صح هذا الادعاء - هو أن المعري يعترف بالوحدانية وينكر البعث بينا شلي ينكر البعث والوحدانية.

شلي وبيرون

لا نكاد نمر بصفحة من حياة شلي إلا ويتردد فيها ذكر اللورد (بيرون) فقد كان رئده وصديقه، ومن الذين شهدوا إحراق جثته على خليج بيزا، فلا ندحة لنا عن أن نعرض لسيرتهما معاً ولو بشيء من الإيجاز.

لقد كان كلاهما من شعراء العصر الفكتوري المجيدين، ومن دعاة الحركة الابتداعية المبرزين، عاشا من الزمن فترة واحدة، إلا أنهما لم يجريا في حلبة واحدة من ميادين الشعر والأدب، فيعرف أي الاثنين محرز قصب السبق فيها؛ فبينا نرى شلي ينزع في قصائده، نزعة أبي العلاء المعري، ويسير وإياه على غرار واحد في الحكم والهوى، وفي التمرد على البيئة والتقاليد، نرى أن اللورد بيرون في قصائده يتفق مع أمرؤ القيس في أشعاره ولا سيما في معلقته الشهيرة.

فقد كان كل منهما في جميع ما يكتب إنما يعبر قبل كل شيء عن عواطفه الخاصة، ويسرد

ص: 43

ما كان في حياته الماجنة من ضروب العبث والاستهتار، ومن لذعات الغزل الفاحش والافتخار. حتى قيل في بيرون:(إن حياته كانت محور نظمه، وقصائده فيها أحسن شعره) فشخصيته كأمير وابن أسرة عريقة في المجد والحسب تظهر في أشعاره، ظهور شخصية أمرؤ القيس كملك وابن ملك، وكشاب مسترسل في الشهوات والملذات في معلقته.

وهناك فرق آخر بين شلي وبيرون: ذلك أن شلي كان يعتمد في نظمه على التصورات الخيالة: بينا كان بيرون يعتمد على ذوب عاطفته وإدراكه للأمور العقلية ولعل ما بينهما من هذه الاختلافات يعزى إلى تباين طريقة معيشتهما، ناهيك ما للوراثة من كبير الأثر، فقد نشأ بيرون تحت ظلال المتعة الوارفة، وهو يتقلب على فراش السعادة والرخاء، ويرتشف سلاف الخمر ورحيق الهناء. فأنكب على الملاهي والمنكرات، وتمرغ في حمأة الدعارة والموبقات؛ حتى لقد كان يقاد من أهوائه بشعرة، ويلبي لشهوته كل دعوة. وهكذا ترعرع دون أن يصطدم من الأيام بما يفثأ من جذوة جنونه المتوقد، أو يفل من شباة نفسه المتحفزة، حتى ولا وجد من الأهل يداً صارمة حكيمة تقسو عليه وتكبح من جماح شهواته الثائرة، وحياته الماجنة، بينما نشأ شلي وهو يقاسي من شظف العيش ألواناً، ومن الأهل ذلاً وهواناً، ومن التعس أنواعاً واشكالاً، ثم أصطدم من الأيام الكاسرة بما تشيب له النواصي وتهتز لهوله الجبال والرواسي. فشحنت المصاعب قلبه بتيار الثورة، وبذرت المصائب في صدره بذور التمرد.

شعره وديوانه:

لم يكن شلي بالشاعر الذي يترقب هبوب العاطفة الشاعرية فينتضحها في قالب من السبك اللفظي، وحسن الأداء، يذكى بهما الحس، ويرهف السمع، ويجعل صدر القارئ أو السامع يجيش بتلك الحماسة التي اعتلج بها فؤاده وانمات لها قلبه، بل كان كثيراً ما يعتسف النظم على غير استعداد من عواطفه، ويستكره خياله استكراهاً، على أن يملي عليه قصيدة شعرية توائم رغبته وإرادته، ولكنها لا تشبع حسه وخياله، فكانت تجئ ملتوية المعنى ملتاثة التعبير، لا شيء فيها من ابتكار الفكرة، وجمال العاطفة. ولقد كان معظم أشعاره التي نظمها في ميعة الصبى وشرخ الشباب تدور في جملتها حول محور من الخيال الفسل والمعنى المبتذل، ولم يبلغ من الشعر درجة تثير كامن العواطف إلا في ضرب واحد من

ص: 44

ضروبه، أعني به باب الغناء ولئن كان من أبطال هذا الباب وفرسانه، فأنه لم يبلغ ذروة المشاعر العليا فيه إلا في قصيدتين غنائيتين فقط، وهما: ملكة الجنيات وبروميتس غير المحدود

أما الأولى - ملكة الجنيات - فقد نظمها عام 1813 وهي تحمل بين أسطرها جراثيم الثورة والتمرد على جميع النظم الدينية والمدنية؛ إذ كان لا يراها إلا سداً منيعاً يحول دون تحقيق مثل الحياة الأعلى. وقد تنبأ فيها عن ذلك العصر الذهبي الذي يتكئ على اشرف الفضائل وأسمى المبادئ، ودعا الناس إليه بقوة، بعد أن حثهم على أن يهدموا جميع ما يعترض طريقهم من التقاليد القديمة والعادات الذميمة.

أما الثانية، بروميتس غير المحدود فقد وضع لحمتها في إنكلترا ونسج بردتها في روما بعد هجرته إليها بسنوات قلائل. وهي غرة قصائده؛ وأعملها في إذكاء الحس، وصقل العواطف، واستثارة كامل الشعور.

(للبحث بقية)

خليل جمعه الطوال

ص: 45

‌الحياة الأدبية في المغرب الأقصى

للأستاذ ع. ك

أما وقد قرأت في مجلة (الرسالة) الغراء مقالين: أحدهما عن (الحياة الأدبية في دمشق) بقلم الأستاذ علي الطنطاوي، والثانية عن الحياة الأدبية في بغداد بقلم عبد الوهاب الأمين، ورأيت من صاحبيهما التبرم والتشكي من ضعف الحياة الأدبية كل في بلده ومن تصوير مظاهر الضعف في هاته الحياة التي كادت تزري بتقدم البلاد من النواحي الأخرى؛ أما وقد قرأت هذا فيحسن بي أن أضم صوتي إلى أخوي الدمشقي والبغدادي، فأكتب كلمة عن الحياة الأدبية في المغرب ليعرف الأخوان والقراء أيضاً أن المغرب قد أغترف غرفة مما غرفت منه دمشق وبغداد، وأن المغرب شريك القطرين العربيين في هذا الضعف المزري بهما

إذا نظرنا إلى المغرب الحديث وأنعمنا النظر في ناحية من نواحيه المهمة، تلك هي الناحية الفكرية والعلمية، وأردنا أن نسير غورها بمسبار لنعرف مدى ما بلغته من الرقي والانحطاط، من القوة أو الضعف، من النهوض أو الجمود، إذا أنعمنا النظر في هاته الناحية استطعنا أن نخرج بنتيجة لا ترضي. . . تلك النتيجة هي في - صراحة - أن المغرب الأقصى يتخبط في ديجور من الجهل قاتم، وفي بساطة فكر مفرطة، وفي خمود وجمود لم يسبق لهما مثيل في عصوره التاريخية. إذا تساءلنا هل هنالك حركة فكرية أو علمية تسود المغرب الأقصى حتى يجنى من ورائها ما يزيح به هاته الظلمة التي تغمره من أقصاه إلى أقصاه وحتى تكون حداً فاصلاً بين هاته (الفترة) وبين الحياة العلمية المترقبة وذهبنا، نلتمس الجواب عن هذا السؤال بالنظر في المغرب والبحث عن مظاهر هاته الحركة حتى وصلنا إلى مهد حركاته العلمية في عصوره السالفة إلى (كلية القرويين) التي أنجبت فطاحل علماء المغرب، استطعنا أن نخرج بالنتيجة الآتية وهي: إن هاته الحركة التي نبتغي البحث عنها وعن مظاهرها هي شيء لم يوجد حتى الآن، بل هي حلم لذيذ يطرق أفكارنا كطيف الخيال، غير أن هنالك شبه حركة علمية تغذيها كلية القرويين ونظامها الجديد ولكن. . على حال مشوهة لا ترضي ولن ترضي - إذا بقيت الحال كما نرى - فإذا ما أطلقنا عليها (حركة علمية) فقد عرضنا أنفسنا لظلم الحقيقة والتاريخ.

ص: 46

هذه كلمة مجملة أبنا فيها ضعف الحياة العلمية في المغرب وقدمناها بين يدي كلمتنا عن الحياة الأدبية لنعرف السبب الرئيسي لضعف الحياة الأدبية المغربية والعنصر الوحيد الذي يكون هذا الضعف ويمده بسبب منه. . . وإذا بحثنا عن الحياة الأدبية المغربية، أعني وسط الأديب المغربي لنرى هل وسط راق أم منحط. . وهل هناك ما يسمى بالحياة الأدبية حقا، لأم نجد أحسن حالاً من الحياة العلمية، بل نجدها أضعف منها وأحط بكثير؛ ولم نجد هنالك ما يطلق عليه هذا الاسم ويسمى بالحياة الأدبية. فهذه ناحية تنقص المغرب من جملة النواحي التي تنقصه وتزري به وتظهره في العالم العربي أشل. . ننظر إلى العالم العربي ونقيس المغرب بجانبه فيظهر لنا البون الشاسع بين حياته الأدبية وحياة العالم العربي، فهذه المطابع الشرقية تظهر علينا من حين لآخر بعشرات الكتب الجديدة الأدبية والعلمية بأقلام أدباء شرقيين وخاصة في مصر، فأين هي آثار المطابع المغربية من ذاك؟ وأين هي المجهودات الأدبية للأدباء المغاربة أمام مجهود الشرقيين على العموم والمصريين على خصوص؟!. . وهذا العالم العربي يطلع علينا كل يوم بمئات الصحف والمجلات الأدبية والعلمية ويظهر فيها من المقدرة على البحث الأدبي والإنتاج العلمي ما ينبئنا بقوة حياته الأدبية وبلوغها أوج الكمال، فأين هي الصحف والمجلات المغربية الأدبية؟ وأين هو إنتاج المغاربة الأدبي وبحثهم العلمي؟ وهذه الأندية الأدبية في الشرق تخرج لنا كل يوم محاضرات قيمة تغذي بها أفكار الناشئين وتكون فيهم روحاً أدبية تعينهم على مضاعفة جهودهم حتى يبلغوا المستوى اللائق بأمتهم، فأين هي الأندية الأدبية المغربية وأين هي آثارها نحو الناشئة المغربية. .؟

إنا لنبحث عن عوامل التكوين هاته الحياة الأدبية المنشودة في الكتب والمجلات والأندية فلا نجد آثراً لهذه العوامل نفسها، فما هو سبب هذا الضعف في حياتنا الأدبية. . .؟؟ إذا بحثنا عن السبب في ضعف هاته الحياة بل في اضمحلالها لم نجده ينحصر في سبب واحد أو اثنين، ولكنها أسباب تتراكم من بحث عنها وقلب بين جوانبها وسنذكر أهمها في هذه الكلمة.

1 -

ضعف التعليم

هذه ناحية مهمة وسبب قوي، بل سبب رئيسي لضعف الحياة الأدبية في المغرب؛ فالتعليم

ص: 47

هو قوام كل حياة، وإذا بحثت في الشعب المغربي وأحصيت مقدار المتعلمين وجدت عددهم لا يزيد على خمسة في الألف من شعب عدد سكانه يربو على خمسة ملايين. وهذا القدر الضئيل من المتعلمين يرجع إلى عدم وجود المدارس الكافية في أنحاء الشعب المغربي. أما مدارس الحكومة فهي على قلتها لا تضمن للمتعلم أي مستقبل ولا توجه نظره لأية جهة، فضلاً عن عدم اعتنائها باللغة العربية وعلومها. فلم يبق بين أيدينا سوى كلية القرويين التي يتكفل برنامجها الجديد بتخريج أدباء بل أساتذة في الأدب العربي - وهم الذين تخرجوا في القسم العالي الأدبي - وهؤلاء يمكن أن نعلق عليهم الأمل في بعث حركة أدبية في المغرب، لولا ما ينقص هذا القسم من عدم وجود أساتذة أكفاء يقومون بالمهمة التي نيطت بهم.

إذن فأين هو الوسط الذي تنمو فيه هاته الحياة الأدبية وتزدهر؟ إذا لم يكن وسط المتعلمين فأي وسط؟؟

2 -

الصحافة

من عوامل بعث الحركات الأدبية، بل جميع الحركات، الصحافة. ومن البر بالأدب أن ألا ننسى فضل الصحافة عليه وعملها في بعث الحياة الأدبية في الأقطار العربية. فهذه مصر زعيمة الشرق العربي تتخذ الصحافة أداة لترويج سوق الأدب ونفاقه، فإليها يرجع الفضل الكبير في نقل نتائج الحركة الأدبية المصرية إلى الأقطار الشرقية الأخرى. فلننظر في الحياة الأدبية المغربية، ولنر حظها من الصحافة، وعمل هذه الأخرى في تكوينها وبعثها.

المغرب الأقصى من جملة الشعوب التي لم تحظ لحد الآن بصحيفة - أدبية وعلمية - سوى جريدة (السعادة) لسان الحكومة الرسمي وناشرة أخبارها ومقرراتها. ويرجع هذا الفقر الصحفي في المغرب إلى القانون الجائر الذي وضع للصحافة بالمغرب، إن صح لنا أن نسميه قانوناً. وقد أنشئت صحف في منطقة النفوذ الأسباني فطوردت في منطقة النفوذ الفرنسي. نعم هنالك مجلة علمية تصدر شهرياً في تطوان باسم (المغرب الجديد) فعليها نعلق آمالنا في بعث الحياة الأدبية في المغرب. أما (مجلة المغرب) التي تصدر شهرياً في رباط الفتح، فليس يعنيها من الناحية الأدبية والعلمية شيء، وإنما يهمها - الخبز والتعليم - على حد تعبيرها. فإذا علمنا هذا الفقر الذي يعانيه المغرب من الصحف والمجلات،

ص: 48

استطعنا أن ندرك بسهولة سبباً من الأسباب القوية في خمود الحركة الأدبية في المغرب. أما ما نسمع فيه الحين بعد الحين من طنطنة أدبية فيرجع الفضل فيه إلى الصحف الشرقية، ولمجلة (الرسالة) الحظ الأوفر في ذلك.

3 -

المشارع الأدبية

لسنا نعني بالمشارع الأدبية سوى تلك الحفلات التي يقيمها جماعة من الأدباء لتكون مسرحاً لمباراتهم الأدبية وحافزاً لهم على القول والكتابة؛ وهي من دواعي النشاط الأدبي والإنتاج الفكري ورثها العرب الخلف عن سلفهم الذين كانوا يقيمون أسواقاً سنوية لقرض الشعر وإنشاده، فقد حدثنا الرواة كثيراً عن أسواق العرب في الجاهلية وما أنشد فيها من شعر وأدب. ولقد اتبع هذه السنة أدباء العربية اليوم فأخذوا يقيمون الحفلات المتوالية لبعث الحركة الأدبية وإحيائها؛ فهم بينما يحتفلون بالعلماء الأحياء الذين قطعوا مفازة كبيرة في الجهاد العلمي، إذا بهم يحتفلون بالأموات تقديراً لمجهوداتهم الأدبية أو العلمية أو غيرها. وفي هذه الحفلات الأدبية ترى ألسن الشعراء والخطباء تتنافس في جيد القول، وكفى بها فائدة للحياة الأدبية.

وإذا نظرنا إلى المغرب الأقصى وأردنا أن نعرف ما يؤديه لحياته الأدبية من ناحية هذه المشارع لم نجد له أي عمل في ذلك، وهذا ما سبب لحياته الأدبية هذا الضعف وهذا الجمود، وأوقعه في هذه الأزمة الأدبية التي يعانيها ويذوق من أجلها الأمرين. نعم حاول بعض الأدباء أن يخطوا بالمغرب خطوة في هذا السبيل فكان من آثارهم حفلة ذكرى الأربعين لخالد الذكر (أحمد شوقي بك) وحفلة الذكرى الألفية لأبي الطيب المتنبي (أقيمت بفاس في 25 رمضان الفارط) وهي خطوة حميدة في هذا الباب كان لها أثر أدبي جميل. غير إن هذا العمل الضئيل الذي قام به هؤلاء الأدباء لا يكفي في بعث الحركة الأدبية وإيقاظها، إذ هو لم يعد حفلتين كانت أولاهما منذ ثلاث سنين أو تزيد، وأخراهما في هذه السنة؛ وإنما الذي نتطلب أن تكون هنالك حفلات أدبية منظمة يتكفل بها أدباء مغاربة حتى يستطيعوا أن يكونوا حياة أدبية وأن يبعثوها من مرقدها، وقد حاول طلبة القرويين مراراً أن ينشئوا جمعية أدبية علمية يكون من أهم أغراضها تأسيس نادٍ لهذه الغاية فلم يظفروا بذلك من الحكومة.

ص: 49

4 -

البخل على الأدب

وهذا سبب آخر قد يكون وصمة في جبين الحياة الأدبية المغربية ومانعاً من الموانع التي تعوقها عن التقدم وتدفعها نحو الضعف والجمود، ذلكم السبب هو البخل على الأدب، أعني عدم وجود الناشرين لهذا الأدب الذي نود أن يبعث. فمن دواعي النشاط الأدبي أن يجد الأديب الذي يقف قسطاً من حياته على تأليف كتاب أدبي أو نظم ديوان شعر ناشراً يبرز مجهوداته إلى الوجود ويخرجها إلى الناس ليعرف مقدار عمله، ويكون ذلك مشجعاً له على المضي في سبيله والمغاربة - مع شديد الأسف - ليس فيهم من يشفق على هذه الحياة الأدبية، وينظر إليها بعين العطف والحنان فيقف قسطا من ماله على نشر الكتب الأدبية والدواوين الشعرية، أو يقدم جائزة - مثلاً - لمن يؤلف كتاباً في الأدب، مع أن فيهم الأغنياء الذين يستهلكون ثروتهم في شهواتهم فقط. وكما لا يوجد أفراد من هذا النوع في الوسط الغربي لا توجد هناك شركات تجعل موضوع تجارتها نشر الكتب الأدبية المغربية. ولست أدري لذلك من سبب سوى عدم الإشفاق على الأدب المغربي. أما لو وجد الناشرون لبرز شطر من الأدب المغربي المخبوء، ولتكونت حركة أدبية في المغرب، فلعل السبب الوحيد الذي يدعو الشعراء المغاربة لعدم نشر دواوينهم هو فقدان هاته المساعدة المادية. فهذا شاعر الشباب الأستاذ محمد علال الفاسي يود أن ينشر ديوانه (روض الملك) ولكن أين هو الناشر؟

هذه جملة الأسباب التي تعين على ضعف الحياة الأدبية في المغرب أجملنا القول فيها أجمالاً، لنعلل فقط هذا الضعف المزري بحياتنا الأدبية، وليظهر للقارئ السبب الداعي لخمود الحركة الأدبية في المغرب. . .

(فاس - المغرب الأقصى)

ع. ك

ص: 50

‌دراسات أدبية

في الأدب الإيطالي الحديث

بقلم محمد أمين حسونه

- 5 -

حنة فيفانتي وروايتها عن مصر

تعد حنة فيفانتي أستاذة في الخيال الواضح والأسلوب الرفيع، وقد بدأت حياتها في إنجلترا، ولم تر وطنها - إيطاليا - إلا في الثانية عشرة من عمرها عندما نزحت من إنجلترا لتتعلم فن الغناء. ففي هذه السن المبكرة تتلمذت لطائفة من رجال الأدب وفي مقدمتهم كاردوتشي، ونشرت ديوانا من الشعر الغنائي (ليريكا) يفيض بالعواطف الذاتية والخيال الراقي، فلم يلبث نجمها أن تألق في سماء الأدب الحديث

والواقع أن غنى اللغة الإيطالية خطر عليها من بعض الوجوه، فأن طبيعة هذه اللغة تساعد على التمادي في الوصف والاستغراق في الخيال. ولما كان كتاب هذا العصر في إيطاليا أميل إلى التأنق في موسيقية اللغة، وإلى المزاج الفني الصريح، فأن أسلوب فيفانتي الخلاب وجد البيئة التي ينمو فيها، وانطلق في الجو الحالم مرددا العواطف المشبعة بعناصر الجمال. ففي روايات هذه الشاعرة نجد صفة نادرة الوجود عن كتاب الجيل المعاصر، تلك هي غريزة الجمال. والإنسان يشعر لدى مطالعته روايتها بأن الطبيعة في فنها تجاوزت منطقة الجلال؛ وكما يفوق الناس بعضهم بعضاً في المواهب وقوة الإدراك السامية، وتمييز الألوان والأصوات، فأن لفيفانتي قدرة على هتك أسرار الطبيعة وإبرازها في إطار فني جذاب.

ولما كان أسلوبها الروائي ليس من النوع التحليلي فالنتيجة هي أن الشخصيات الثانوية في روايتها أغزر حياة وتأثيراً من البطل نفسه، كما في رواية الغجرية ويمكن تقسيم أبطالها إلى قسمين: الفريق الأول وهم الأبطال الأقوياء الذين يتمتعون بالحياة إلى أبعد حد، مع استفادتهم من ضعف الآخرين؛ والفريق الثاني الفقراء الذين يحنون رؤوسهم أمام قسوة الحياة ذاكرين أنه من فعل القدر.

ص: 51

وحنة فيفانتي صديقة وفية لمصر، ويرجع تاريخ هذه الصداقة إلى يوم آزرت الوفد المصري وهو واقف بباب مؤتمر الصلح في باريس. وكانت من أخلص أصدقاء المغفور له سعد زغلول باشا، وطالما أيدته في صحف بلادها؛ ولا عجب أن توحي إليها هذه الصداقة وتثمر فيها الضيافة التي لاقتها في وادي النيل كتابة رواية (أرض كيلوباترا التي بدأتها بالرحيل إلى مصر، إذ تقول:

حقاً إنني أحلم حلماً جميلاً من تلكم الأحلام الذهبية المترامية الأطراف؛ فعندما يستيقظ الإنسان في الصباح، ويحاول أن يقربها إلى ذهنه تفر أشباحها بعيدة عنه، ولا تلبث أن تختفي في وادي النسيان. برهة وجيزة أستيقظ بعدها فإذا بي في صحراء ليبيا، فوق بعير يجوب في الصحراء متجهاً نحو قبر الملك الشاب توت عنخ آمون. يقود زمامه إعرابي طويل القامة، عريض الهامة، وتتفتح عيناي عن هذه الصحراء الذهبية، فإذا بسرب من الفلاحات المصريات يرتدين أردية سوداء، وفوق رؤوسهن جرار الماء، وعندما أقترب منهن يحدقن في بعيونهن الدعجاء، قائلات:(سعيدة نهارك لبن)

واستطردت الكاتبة في وصف مشاهد الصحراء وأسواق القاهرة، إلى أن أتت على مقابلتها للمرحوم زغلول باشا فقالت:(وفي غداة يوم وصولي إلى القاهرة قصدت إلى بيت (الرئيس الجليل) الذي استقبلني واقفاً خلف مكتبه، وعلى رأسه ذلك الطربوش الأحمر الذي لا يرفعه المصريون للتحية، بل يبقونه فوق رؤوسهم كرمز للوقار. ويبدو لي الرئيس كما كنت أعرفه في باريس منذ سنوات؛ فلا العظمة ولا الاضطهاد، ولا النفي ولا الهتاف باسمه في الشوارع، استطاع أن يغير هذه الهامة الطويلة، ويضعف من ضياء عينيه الوقادتين. وكانت تقف إلى جانبه (صفية زغلول) التي حيتني باشة مبتسمة. ودار الحديث بيننا بالفرنسية إذ أنها لغة الأجانب الرسمية في مصر، ولأن البحث في الإنجليزية أمر بغيض إلى قلوب المصريين، وما إن بلغته تحية أصدقائه من كتاب إيطاليا وصحفييها الذين أحاطوا قضية بلاده بعطفهم حتى قال:

- إنك كنت صديقة هذه البلاد، وقد أعطيتها محبتك قبل أن تريها؛ فها هي ذي أمامك! اذهبي إلى أي مكان تشائين، عسى أن تتكشف لك نفسية هؤلاء الفلاحين المساكين، فهي نفسية نبيلة شريفة لكنها مجهولة.

ص: 52

وعندما ودعته ختم حديثه معي بأن قال:

- عودي إلينا مرة ثانية، ولا تحسبي أن هذه آخر زياراتك، وعدينا بذلك.

وغادرت منزل الزعيم الوطني ووجهتي مصر العليا عن طريق النيل، لأشاهد الأقصر بحدائقها الغناء، وطيبة ذات المائة باب، وكوم امبو بلدة المعابد، وفيلي جوهرة مصر المكنونة.

هانحن أولاء في أسوان (مدينة الشلالات) التي يقصدها المسلولون طلباً للشفاء، ويأتيها المكروبون عسى أن يفرجوا عن قلوبهم الحزينة أساها وبلواها. هنا حيث الإقامة في بقعة هادئة عميقة، تكتنفها الصحاري من كل جانب، يجد الإيمان الصحيح طريقه إلى السماء.

الله أكبر، الله أكبر! أدعية حارة صادرة عن قلوب عامرة بالإيمان، يرددها العرب في كل آن، فيترجع صداها على شفاهنا المتبتلة بالتسبيح، على حين يتوجه أبناء الصحراء شطر مكة، وهم جاثون على الرمال، ويرددون أسم الله في تقوى وخشوع

أشرف على النيل ومياهه التي ينعكس عليها نور السماء الأزرق، وعلى منظر الصخور التي تتراءى عن بعد كوحوش كاسرة، راقدة تحت أقدام (اخنوم) إله الشلالات.

وأخذ القارب ينساب بنا بين الجزر كالأفعى، وترى الشمس تسقط رويداً رويداً عن الشفق، فتلتهب السماء، ويتغير لون الماء من سائل فضي إلى سبيكة من الذهب الإبريز، ثم تنحدر الشمس ككرة من نار، والسماء تحترق فيقع ظلها المتورد الناري على صفحة المياه حتى حسبنا أنفسنا نسير في بحر من دماء.

هانحن أولاء أمام قصر أنس الوجود، أمام فيلي، جوهرة مصر المكنونة، ودرتها الساطعة، عروس النيل وريحانته؛ إيه أيتها الجزيرة الصامتة الحزينة! أيتها الجوهرة الميتة، يا زهرة اللوتس، يا جزيرة السحر ومهبط الجمال، أيتها الجزيرة التي يتربع فوق صدرك آخر معبد فرعوني، لقد غمرتك المياه فغرقت وتواريت، ورحت ضحية قحط الأرض وجوع الرجال!

والرواية مشجعة بأمثال هذه الصور الوصفية، وتحت ستار شفاف من الحنين إلى الماضي، والإشادة بمجد الفراعنة، والتفاؤل بالمستقبل.

بابيني

وجيوفاني بابيني من أغرب الشخصيات في الأدب الإيطالي الحديث، وقد اشتغل بالنقد

ص: 53

قبل أن يصبح روائياً؛ على أن الانتقال من النقد إلى الأدب، والمسرح، أو الرواية أمر مألوف في إيطاليا.

قبل الحرب العظمى كان بابيني ألمع شخصية في سماء الأدب، ومحور الحياة الفكرية في الأوساط الإيطالية؛ وقد ظفر بهذه الشهرة إثر المقالات النقدية العنيفة التي كان ينشرها بعنوان (التدمير)، والدراسات الفلسفية التي تحدى - شوبنهاور ونيتشه وهيجل، وأساتذة مدرسة الفلسفة الألمانية. ثم بفضل المجلات الأدبية العديدة التي كان يصدرها لثلاثين ما خلت، أي في الوقت كانت الشبيبة الإيطالية تتلهف على اتهام كل ما يقدمه إليها من ألوان الثقافة الحديثة، فوجدوا ضالتهم بابيني، ومجدوا من شانه. ولكن شباب هذا الجيل سرعان ما حولوا اتجاههم الأدبي عن فنه، إذا أنهم لم يجدوا شيئاً يتعلمونه في كتبه سوى فلسفة جامدة، وفن جاف مضطرب، وتبشير بأساليب الكثلكة مع الرجوع إلى أحضان الكنيسة.

وتعد أقوى روايات بابيني على الإطلاق (مذكرات الله) التي تحدث فيها عن خلق العالم ونشأته، فرواية (الرجل الذي انتهى)، وقد رسم بين سطورها حياة المتاعب والآلام التي تنتاب طبقة المفكرين الذين يقضون نصف أعمارهم بين بطون الكتب، والنصف الآخر في ظلال الفلسفة والنظريات السفسطائية.

(البقية في العدد القادم)

محمد أمين حسونة

ص: 54

‌يا ليل!

للأستاذ فخري أبو السعود

يا ليلُ هل لك دوني صاحبٌ ثقةٌ

مُغلٍ لقدرك صافي الود في الناس؟

أغليت سَاعَكَ حتى بِتُ راعيها

رَعي الشحيحَ كريم الدرَ والماس

أغليت ساعك غيري من يبذرُها

مثرثراً بين أصحابٍ وجُلاس

وصُنتُ آنكِ لا أُمسي أُضيِّعها

وقد صفت - بين سِفرٍ لي وقرطاس

لكنَّ في ملكوتِ الحسن منتجعي

إذا دَجَوتَ وإسرائي وتعساسي

في ملك حسنك ممتداً ومنبسطاً

أَحَبُّ مسرى لمرتادٍ وجَواسِ

تدعو فآتي أُغِذُّ السيرَ تلبيةً

ما بين دَوح رطيب الغصن مياس

راوي الأزاهر والأوراق ما برحت

عليه آثارُ هامي المزنِ رجاسِ

تتلو صفوفٌ صفوفاً منه ماثلة

كأنها في الدجى أشباح أحراس

أو فوق شط أتيِّ الموج مرسلة

أمواجُه حُلو أصداءٍ وأنفاس

سالت عذوبتُهُ سيلاً وَرِقَتُّه

من مائه الملح أو من صخره الجاسي

يهتزُّ فيه شعاعُ النجم مؤتلقاً

وآنة ضوءُ بدرٍ سابغٌ كاس

كم طالعتني المعاني فيك سافرة

وأسلست لي القوافي أيَّ إسلاس

فرداً وحيداً أوافي ملك حسنك قد

زهدتُ عندك في صحب وأحلاس

في وحدتي وسكون الكون لي رطبٌ

ووحشتي في الدجى يا ليلُ إيناسي

لا بل خدينيَ آمالي وعاطفتي

أيانَ سرتُ وأفكاري وإحساسي

وما جلوتَ لعيني من حُلاك ومن

أُفُقٍ ونجمٍ وأزهارٍ وأغراس

حديث هاتيك أشهى لي وأعذبُ لي

يا ليلُ من قول جهالٍ وأكياس

للنفسِ ثُمَّ حديثٌ كم تبُثُّ به

من ذكريات وتأميل وإيجاس

نجواك يا ليل كم تُذْكى بها همماً

وكم تجدِّدُ من عزم ومن باسِ

تُحيي بها أنت آمالاً وترفعها

عما بِذا العيشِ من قبح وأرجاس

حتى أؤوبَ - ذا آن الإيابُ - كمن

قد آب من موكِبٍ أو غُرِّ أعراس

مُمَتَّعَ اللبّ والعينين رَاويهَا

مُنَزَّهَ النفس عن هم وعن ياس

ص: 55

ما دام لي مُلكُ هذا الحسن مطرداً

فما فؤادي على ما فات بالآسي

ولستُ أغبط من يا ليل قد جهلوا

لديك فتنةَ أمساءٍ وأغلاس

فخري أبو السعود

ص: 56

‌يا فلسطين.

. .!

آفاقكِ الحمرُ انتشت راياتها

قد أقسمت ألا تُظلُّ ذليلا

ثوري ولو فرش الذين طغوا على

طرق الجهاد أسنةً ونصولا

// لا بأس إن نضحت دماً جنباتها

فاليوم لا يغدو دمٌ مطلولا

إيهٍ فلسطين اغضبي وتحرري

ضاعت حقوقك بين قالَ وقيلا

مدي القلوب على الظُّبى وتبسمي

تجدي على تلك الحدود فلولا

أمهلت ظالمك العتلَّ وما درى

أن التهامس يستحيل صليلا

إيه فلسطين المجاهدة اثبتي

فالظلم مرتعه يكون وبيلا

هاهم بنوك لووا أعنَّات الردى

وأتوك لا يرضون منك بديلا

يتزاحفون إلى اللهيب كأنهم

ظمأى وقد عدوا اللهيب النيلا

فلوا حديد الظالمين بمثله

وبدونه لن تبلغي المأمولا

لا مجد إلا حيث يشتجر القنا

فتشيده مجداً أشم أثيلا

في كل ناحية شهيد خالد

هو من ينادي: لا نريد دخيلا

قم يا شهيد القوم واخطب في الورى

أصبحت حياً مذ غدوت قتيلا

جبل المكبّر طال نومك فانتبه

قم واسمع التكبير والتهليلا

فكأنما الفاروق دوَّى صوته

فجلا لنا الدنيا وهز الجيلا

جبل المكبر لن تلين قناتنا

ما لم نحط فوقك البستيلا

أبو سلمى

ص: 57

‌العلم

مهداة إلى زعيم الشباب فخري بك البارودي

بقلم عز الدين العطار

أيُّهذا الخفَّاق رَفرِفْ على الده

ر وتِهْ في العَلاءِ زهواً وحُسنا

الفضاءُ الرحيبُ مِحرابُك الزَّا

هِرُ فأخفُق وأترعِ الجو لحنا

صورة أنت للربوع الغوالي

غلْغلت في الإطار داراً ومغنى

وطني أجتليه في رمزكَ السم

ح وألْقى الرَّفاق خدناً فخدنا

يا تراب الشامِ يا عبقَ الخل

د ويا نفْحة تُناسمُ عدنا

في ثراك القدسيّ يثوى الميامي

نُ فيختالُ طيْلساناً وَرُدْنا

مَلأُوا الكون بالهداية والنو

رِ وزانوا مغْناهُ علماً وفناً

طلعوا في دُجى الزمانِ شموساً

هي أبهى من الضياءِ وأغنى

الشبابُ الشبابُ ريْحانَةُ الخُل

د وبأسٌ على المدى ليس يفنى

عزمات كأنها وهج الشم

سِ تجوسُ السماَء صحناً فصحنا

تتفرَّى الدياجرُ السُّحمُ عنْها

ويغيبُ الدجى ارتعاداً وجُبنا

ابْسمي يا ثغورُ قد أشرقَ الفج

رُ ومحَّى السَّنا قتَاماً ودَجْنا

وَثبَ الحَق وَثْبةَ الأسد القا

حِم يفْري الفلاةَ ضرْباً وطعنا

تتهاوى من شِدْقهِ زأُرَةُ الهو

لِ فلا تملكُ الطَّرائد أمنا

رَجفت من صِيالِهِ ثورَةُ الري

ح وَريع الأنامُ إنساً وجنَّا

الصحارى تشققت عن ليوثٍ

آدَميِّين زَعزعوا الموت سكْنا

عزفوا عن مناعم العيشةِ الرَّغْ

دِ وَعُّبوا الحياةَ رَنقاً وأَجْنا

عسلُ الذُّلُ يشبه العلْقم المُر

وصابُ العُلى من المزْن أهْنا

ليس يسمو إلى الخلود غبيُّ

عاشَ في رِبقةِ الإسارِ مُعَنى

يحسَبُ العز في المهانةِ والعا

بِ وَيعنو للخصم إما تجنى

يا صحابي سيرُوا إلى المجد صفاً

والْبسوا الحرم في الحياة مَجِنَّا

وتعالوا نردْ سبيلَ المعالي

ونُعِدْ ماضياً من النجم أسنى

ص: 58

اذكروا أنكم سلائلُ صِيد

أترعوا الأرض والسموات يُمْنا

غمروا الناسَ بالمحبةِ والرِّف

ق ونقَّوهمُ مقالاً وظنا

طاولوا الشهب من قِراع العوالي

وبنوْا للفخار في الزُّهر حِصنا

ملكوا في البيان ناصيةَ القو

لِ وصالوا يومَ التنافُرِ لُسْنا

كَفنٌ أنْتَ بالشهيدِ رفيقٌ

تترامَى عليه لَهْفاً وحزنا

رُبَّ قلْبٍ على خُفُوقِكَ وَقْفٍ

كلما رفَّ بَنْدُكَ الحُلْوُ حَنَّا

تامَهُ طيفُكُ الحبيبُ فنادا

كَ وناجَى بِكَ العُلَى وتَغَنَّى

لكَ هَذِي الأرواحُ منا حلالٌ

فادْعها تسبِقِ الغمائمَ جَفنا

نحنُ يومَ البلاءِ رمْزُ التفادي

إنْ دعانا داعي الجهادِ أجبنا

بنفوسٍ لم تستكِنْ للوَادِي

وجُسُومٍ لم تَعْرِفِ الدهرَ وهنا

تتنزَّى كأنها النارُ وقداً

وترامَى يومَ الهزاهِزِ مُزْنا

تتمشى للمجْدِ عطشَى إلى المَوْ

ت ولو عبَّتِ الخِضِمَّات دنَّا

قَدْ وهبنا لك النفوس لتحيا

ليس منا من يَخْبأُ النفسَ ضَنَّا

أنت منا الهَوَى وأنتَ الأماني

كلَّ رُوحٍ تَرَى بِكَ المُتَمْنَّى

دمشق

عز الدين العطار

ص: 59

‌الرغام

بقلم إلياس قنصل

اغنم العمرَ فهو أضغاث وهمٍ

تتلاشى بسرعةِ الأحلامِ

وترشفْ كؤوسه قبل أن تق

ضي عليها زعازعُ الأيامِ

خُلِقَ المرءُ لا يلقي على أس

مى اللذاذاتِ حِلّةً من ظلام

ثم يخشى الدنوَّ منها، ويدعو

خوفهُ نفرةٌ من الأجرام

بل ليستقطر المسرَّة حتى

من قتاد الهموم والآلام

ويبثَّ الفتون فيما يراه

حوله من تجهم وقتام

أنت في ميعةِ الشباب وهذا ال

عهدُ، عهد المراح، عهد الغرام

وهو يدعوك فانتبه وتنعم

بالجمال المجسم البسام

إن ثغري أحلى من الأمل العذْ

ب وأشهى من بابليّ المدام

تبعثُ القبلةُ الطويلةُ. . . منه

كلَّ خافٍ من الأمانيِّ سام

وعلى جسميَ الرشيق تجلّت

آيةُ الله في بديع انتظام

هيكل من هياكل السحر تروي

ضمة من كلِّ قلب ظام

فرنا الشاعرُ الحزين إليها

بحنانٍ ولوعةٍ واعتصام

طاوياً في فؤاده حسرات

دغدغتْ ما يضمه من كلام

أنتِ لا تمنحين قلباً محبَّاً

وأنا لستُ أرتضي بالرغام!

عاصمة الأرجنتين

الياس قنصل

ص: 60

‌القصص

قصة المفاتيح

للقصصي الروسي مكسيم جوركي

(هذه القصة تكشف عن شخصية هذا الكاتب العظيم، وتؤرخ

فترة قاسية من حياته، فضلا على أنها تصور حياة طائفة من

الناس أغفل كثير من أدباء الغرب تصويرها)

كان ثلاثتنا: (زيومكا كارجوزا) و (أنا) و (ميشكا) عمالقة بلحى طويلة وعيون واسعة لها زرقة الماء، نبتسم دائماً بثغور فرحة، ويخيل لمن يرانا أننا نترنح من الخمر أبدا. وكنا نأوي إلى بناء قديم خارج المدينة، يكاد من فرط قدمه أن ينقض، ولا يعرف غير الله لم سمي بمصنع الزجاج، ولعل ذلك لعدم وجود لوح زجاجي سليم به. وكنا نتقبل أي شيء دون أن يكون لنا شيء من الخيار، وكنا نكنس ساحات البيوت وننظف الغبار، وننبش المقابر وأكوام القمامة، ونهدم البيوت القديمة، ونقطع الأسوار. وقد حاولنا مرة أن نبني زريبة للعمالقة، إلا أننا فشلنا في ذلك. وكان زيومكا يسعى دائماً للقيام بواجبه، ويتشكك في معرفتنا ببناء زريبة للعمالقة. ولهذا فقد أحظر بنفسه ظهر يوم وكنا في غفوة كل المسامير وقطعتين من الخشب ومنشارا، وكان ذلك كله لصاحب عمل كنا نعمل عنده، وقد طردنا من أجل تلك الفعلة. ولما كنا لا نملك شيئاً يمكن سلبه منا لم يطالبنا بتعويض عن الأضرار التي لحقته بسببنا؛ وكنا في كفاف من العيش؛ وكنا غير راضين بما قسم لنا - وهو أمر طبيعي في مثل هذه الحالة، وتطور هذا الشعور بفعل الزمن فأصبح كراهية لكل ما يحيط بنا. وجرنا ذلك إلى أعمال تهديدية توقعنا تحت طائلة قانون العقوبات. والواقع إننا عشنا في ألم. غير مبالين بالحياة، مرغمين على البحث عن عمل وليس لنا من مظهر الحياة المادي سوى تجاوب ضعيف.

وكنا قد تقابلنا في ملجأ لمن لا مأوى لهم قبل أربعة عشر يوماً من الحادث الذي سأقصه عليك لأنه شائق في نظري؛ وصرنا بعد يومين أو ثلاثة من تعارفنا أصدقاء نسير معاً إلى كل مكان، ويفضي كل منا لصاحبيه بأمله وأغراضه. ويشاطر بعضنا بعضاً كل شيء؛

ص: 61

وبالاختصار عقدنا اتفاقا لا نص له على أن نكافح سواسية مدافعين ومهاجمين الحياة التي ناصبتنا العداء

وفي النهار كنا نبحث بجد عن عمل، في قطع الأحجار، أو الهدم أو الحفر أو النقل، وعندما تتهيأ لنا فرصة مثل هذه كنا نعمل بجد ونشاط.

ولما كان لكل منا غرض أسمى من وضع مواسير المجاري أو تنظيفها - وهو من اشق الأعمال - فقد سئمنا العمل فيها بعد يومين. ثم أخذ زيومكا يتشكك في ضرورة الحياة.

ستصير هذه مجاري لأي شيء؟ للقاذورات؟ أليس في وسع الإنسان أن يلقي بها أمام داره؟ كلا هذا لا يصح فأنها تثير رائحة كريهة. هكذا! القاذورات تثير رائحة كريهة. أعمال عظيمة من أجل أشياء تافهة! فلو أن أنساناً قذف مثلاً بخيارة مخللة، غير كبيرة الحجم، فماذا تبعث هذه من رائحة؟ إنها تبقى يوماً. . . ثم تختفي. . . - تتعفن! لا، ولكن إذا قذف بجثة آدمي إلى موضع فيه الشمس فإنها تتعفن حقاً.، إلا أن ذلك عمل منكر!)

مثل هذه الأحاديث كانت تفت في عضدنا وتقلل رغبتنا في العمل. وكان ذلك يفيدنا كل الفائدة عندما نعمل بأجرٍ يومي في الأعمال الجزئية. فقد كنا نتقاضى أجرنا دائماً قبل أن نتمم ما عهد إلينا به من عمل. وذهبنا مرة إلى مقاول وطلبنا منه أن نعمل في عمل، إلا أنه طردنا وهددنا أن سوف يضطرنا بمعونة الشرطة إلى إتمام العمل الذي أنقدنا أجرنا عليه من قبل. وكنا نجيبه بأنه لا طاقة لنا على العمل وبطوننا خاوية. وتشبثنا مطالبين بالعمل. وكنا نحصل عليه في أغلب الأحيان.

كان ذلك خطأ منا، ولكن لا نكران في أنه كان مفيدا لنا. ولم يكن في وسعنا أن نصلح شيئاً من نظام الحياة الذي فسد، حتى أصبح القيام بعمل والانتفاع به ضدين.

وكان زيومكا في كل مرة يتولى المفاوضة مع أصحاب العمل، وكان يقوم بها بمهارة ولباقة، وكان يبرهن على صحة مطالبه بهدوء الرجل المهدود القوي الذي يرزح تحت عبء الأعمال التي لا طاقة له بها.

وكان ميشكا يقف صامتا إلى جانبه، ويحمله بعينيه ويبتسم ابتسامة الرضا والسرور، كما لو أنه كان في نيته أن يقول شيئاً ولكن خار عزمه. وكان يندر أن يتحدث، فإذا ما ثمل أخذ في الكلام كمن يلقي خطاباً. ثم ناداه مبتسماً:

ص: 62

(أخي!) وكانت شفتاه ترتجفان عجبا، وبقي صوته محتبسا في حلقه، وبدا يسعل ليستر خجله، ثم أمسك رقبته بيده

وقال زيومكا، ولم يطق صبراً:(ما بالك؟)

فقال له: (أخي! إننا نعيش كالكلاب، بل أتعس منها. . ولم ذلك؟ لا أحد يدري! ولكن لا بد من أن الله عز وجل أراد ذلك، فكل شيء يسير بإرادته. أليس كذلك يا أخي؟ نعم هو كذلك. ولذا أقول إن ما نلقاه نحن التعساء هو العدل. أليس ذلك تفكيراً صحيحاً؟ وعلى ذلك أفلا يمكن أن تتحسن حالنا؟ يجب أن نرتضي حظنا صابرين. . . أليس كذلك؟)

ولكن زيومكا أجاب على أسئلة زميله المتعددة المثيرة للخواطر بكلمة مختصرة: (يا قليل العقل!)

فانكمش ميشكا وقد عرف خطأه، وابتسم خجلا وبرقت عيناه المنتفختان من الخمر وسكت. ثم قال فجأة: آه، لو أن لنا (خنزيراً).

وكنا ذات يوم نتسكع في السوق نبتغي عملاً، فاصدمنا بامرأة عجوز ضامرة قصيرة ذات وجه كثير التجاعيد؛ وكان رأسها يهتز فوق عنقها. وعلى أنفها منظار كبير محاط بإطار غليظ من الفضة، يتأرجح يمنة ويسرة فتعمل يد العجوز لتثبيته في موضعه. أخذت تحدق فينا النظر؛ وقد وجهنا إليها أنظارنا طامعين في حديثها.

وسألتنا: أليس لكم عمل؟ أتبحثون عن عمل؟

ولما أجابها زيومكا في احترام بالإيجاب، قالت:(حسناً! عندي حمام قديم أريد هدمه. كما أريد أن تنظف النافورة. . . فكم من الأجر تطلبون؟)

فرد عليها زيومكا في احترام أيضاً قائلاً: (يجب أولاً يا سيدتي المحترمة أن يرى الإنسان حجم الحمام، وكذلك النافورة، فلكل نافورة شكلها الخاص، إذ منها ما هو عميق جداً و. . .)

وطلبت منا العجوز أن نرى النافورة. ولم تمض ساعة حتى كنا نعمل مجدين بالمناشير والمعاول في هدم الحمام. فلما انتهينا من عملية الهدم هذه وتنظيف النافورة تقاضينا مبلغاً قدره خمسة روبلات وهو الأجر الذي اتفقنا عليه. وكان الحمام مقاماً في ركن مهجور من الحديقة، وعلى مقربة منه كوخ خشبي تظلله أغصان شجر الكرز. وقد رأينا ونحن نهدم بناء الحمام العجوز جالسة في ذلك الكوخ عاكفة على قراءة كتاب كبير وضعته على

ص: 63

ركبتيها. . . وكانت من وقت لآخر ترمينا بنظراتها الحادة، وكان الكتاب يهتز فوق ركبتيها فيلمع القفل الفضي للكتاب.

ليس بين الأعمال أسهل من التخريب والهدم. وقد استفرغنا جهدنا وسط سحابة من الغبار. وكنا نعطس ونسعل ونمخط ونفرك أعيننا حين قد سقط الحمام وتناثرت أجزاؤه، فقد كان عتيقاً ناخراً كصاحبته.

(هيه يا شباب، فنجيبها: واحد، اثنان، ثلاثة، هوب!) هكذا كان زيومكا يصدر أوامره. وهكذا تساقطت كتل البناء الواحدة تلو الأخرى.

وتساءل ميشكا وهو مطرق الرأس مستنداً إلى الفأس مجففاً عرق جبينه: ما عساه يكون هذا الكتاب؟ أنه لكتاب ضخم! ولن يكون الإنجيل إذ هذا أضخم منه)

وسأله زيومكا مستفسراً: (وماذا يهمك من ذلك؟)

(يهمني؟ كلا! إنني أميل لاستماع من يقرأ الكتب. . . أعني الكتب الدينية. وكان في قريتنا جندي أسمه أفريكان يقرأ كثيراً في الإصحاح، وكذلك وكان وقع ذلك في أذني كالموسيقى - ما أجمل ذلك!)

وسأله زيومكا وهو يشعل لفافة التبغ: والآن؟)

- لاشيء. لقد كان جميلاً، على رغم أن الإنسان لا يفقهه. إنه لكلام جميل. . . وقد لا يسمع الإنسان كلاماً مثله في الشارع. نعم إن الإنسان لا يعرف له معنى، ولكنه يشعره بأن ذلك له صلة بالروح.

وهزئ زيومكا منه قائلاً: هذا ما لا أفهمه، إن الإنسان ليرى فيك من جديد غباء الحذاء القديم.

فأجاب الأخر قائلاً: (إنني واثق من أنك تميل إلى السباب)

(كيف السبيل إلى مخاطبة مثل هذا الحمار؟ إنه لا يفقه شيئاً غير ذلك: هيا، أعمل معولك هنا - أنتبه. . . هوب)

وتقوض بناء الحمام شيئاً فشيئاً وكثرت الأنقاض، وقد أحيطت بغمامة من الغبار كست أوراق الأشجار القريبة

وبدأ ميشكا ثانية: هذا الكتاب محلى بالفضة)

ص: 64

ورفع زيومكا رأسه، وصوب نظره إلى الكوخ. وقال في اقتضاب:

- (هو كذلك على الغالب)

- (إنه لا شك الإنجيل)

- (ليكن ذلك. وماذا يهمك من أمره؟)

- (لاشيء!)

- (لا شيء هذه ملء جيوبي. ولكن إذا كنت تريد أن تستمع إلى ما في الإنجيل فاذهب إلى العجوز وقل لها: أقرئي لي يا سيدتي المحترمة شيئاً من الإنجيل، إنه لا سبيل لنا غير ذلك؛ إننا لا نذهب إلى الكنيسة لأن أبداننا قذرة وملابسنا بالية، إلا أن لنا روحاً كبقية الناس. . . هيا أذهب).

- (هل أذهب حقاً؟)

- (نعم، أذهب)

وقذف ميشكا بمعوله وأصلح ثيابه ومسح الأقذار عن وجهه بكمه، وقال زيومكا في نفسه وابتسامة السخرية على فمه:(ستركلك برجلها كأحقر دب) غير أنه تلهف على متابعة خطوات صاحبه بالنظر، وسار هذا بخطى ثقيلة وابتسامة الخجل والهدوء مطبوعة على وجهه، ورفعت العجوز رأسها وصوبت نظرها إلى ذلك المتسكع القادم إليها، وكانت الشمس تضيء زجاج منظارها وإطاره الفضي فيومض

ولم تركله برجلها برغم أن زيومكا تنبأ بذلك، وكان حفيف الشجر يحول دون سماع ما تحدث به ميشكا إلى صاحبة المنزل، ولكنا رأيناه يخر فجأة أمام قدميها ويجلس على الأرض حتى يكاد أنفه يمس الكتاب، وكان وجهه يدل على الهدوء والرزانة، وقد رأيناه وهو يحاول ما استطاع أن ينفخ في لحيته ليبعد عنه الغبار، وأخيراً أستقر في مجلسه ومد عنقه ووجه نظره إلى يد العجوز التي أخذت تقلب صفحات الكتاب صفحة صفحة.

(أنظر إليه فهو كالكلب غير المهذب! له الآن أن يستريح. فهل نذهب نحن كذلك؟ وماذا نعمل هنا وحدنا، وهو يجلس هادئاً بينما نحن نعمل من أجله وننهك قوانا. هيا، سر إلى الأمام).

وبعد دقيقتين جلسنا إلى جواره واحدا عن يمينه والآخر عن يساره، ولم تنبس العجوز

ص: 65

بكلمة ساعة قدومنا، ولكنها كانت تحدق فينا وتقلب صفحات الكتاب كمن يبحث عن شيء بعينه، وكانت السماء صافية تشيع السرور في النفس، وكان النسيم العليل يهب من وقت لآخر مداعباً أوراق الشجر، وانساب من هذا وذاك سحر إلى قلوبنا التي كانت تتهيأ للمحبة والسلام، وبدأ يستيقض فينا الإحساس بأشياء غامضة مجهولة إلا أنها قريبة منا، وأخذت أرواحنا تتحرر من الأدناس

(بولص، خادم المسيح)

بهذا رن صوت العجوز، وكانت ترتعش وقد هدها الكبر، غير أنها كانت خاشعة، ورسم مشيكا الصليب، وأخذ زيومكا يتحرك من جنب إلى جنب ليجد مكاناً في الأرض مريحاً، وكانت العجوز ترمقه بعينيها دون أن تمسك عن القراءة.

(البقية في العدد القادم)

أ. أ. ي

ص: 66

‌من أسخيلوس

لايوس وأوديب

(درامتان مفقودتان)

بقية المنشور في العدد الماضي

للأستاذ دريني خشبة

- 9 -

(ويلاه! لقد جئت أستجلي الحقيقة فضاعفوا الغموض في نفسي! أبي من هذا الذي أقتله، وأمي من تلك التي أتزوج منها، وأي شعب هو ذاك الذي أتعسه وأشقيه؟ أتكون الملكة صادقة وأكون ابن يوليبوس حقاً؟! أتكون زلة لسان من هذا العربيد أرسلها وهو لا يدري ما هي؟ إذن لأبعد في الأرض فأنا لا أطيق أن أراني أقتل يوليبوس، أبي، إن كان حقاً أبي. . . وأنا لا أطيق أن أراني زوجاً لأمي الملكة. . . إن كانت حقاً أمي!. . .)

وذهب المسكين لا يلوي على شيء، يأوي إلى الكهوف والغيران إذا جنه الليل، ويغتذي بقليل من البندق أو الجوز أو التين إذا ألح عليه الجوع، ويبل غلته من الجداول والغدران.

- 10 -

وبينا هو يطوي الفيافي والقفار، إذا به يصل إلى ملتقى طرق ثلاث، وإذا به يصل ثمة في الوقت الذي يصل ملأ كريم إلى المكان نفسه، وقبل أن يعرف أوديب أي الطرق الثلاث يسلك إذا رجل طوال يبدو عليه ملامحه أنه جندي أو قائد، يأمره بصوت خشن أجش أن ينتحي ناحية حتى يمر الركب. وكانت لهجة الرجل من الجفاف والغلظة بحيث لم يحتملها أوديب، فرفض أن يتزحزح خطوة واحدة، بل زاد فاعترض طريق الركب كأنما يتحدى رجاله جميعاً. وكيف يراد من أوديب الناشئ في بيت ملك كورنثه والذي أعدته الأيام لتولي زمام الملك أن يصدع بأمر رجل عابر طريق، مهما كان الرجل من حول ومن طول؟ إذن ليلتحم أوديب مع كل هؤلاء القوم في عراك عنيف، وليكن من الأمر ما يكون!

وصاح الرجل مرة أخرى، وأرغى من الغضب وأزبد. . . ولكن أوديب وقف مكانه كأنما

ص: 67

سمر فيه؛ وأخذ يحدج القائد بعينين تقدحان الشرر، وتنفثان الموت الزؤام!

ولم يستطع القائد إلا أن يمتشق سيفه وينقض على أوديب كالصاعقة. . . ولكنه سقط على الثرى قبل أن يصل إليه جثة هامدة! (خذها ضربة من أوديب!!)

وذهلوا الجنود حينما شهدوا قائدهم معفرا بالتراب. . . فتكاثروا على أوديبوس. . . ولكنه صرعهم واحدا واحد بضربات كأنها سنا برق يومض خلل السحاب في يوم عاصف:

ثم نزل من المركبة التي كانت تنهب الطريق في إثر الجنود رجلٌ مسن قد وخط الشيب رأسه؛ وأقترب من أوديب وهو يهدج كالبعير الأبلق، ثم أخذ يحذره من الموت الذي يتربص به. . . (أنت شاب يا بني والحياة حلوة جميلة، وبرد الموت لا يخلق بعنفوانك. . . فانتح ناحية، ولا تركب رأسك، ولا تحسب أنك تقدر علي كما قدرت على هؤلاء. . .) وكان الشيخ يهز في يمينه سيفاً كالمنية. . . ولكن أوديب تبسم من قوله ضاحكا. . . وأعجله بضربة قدت رأسه وأضلاعه. . . وغادرته عند حيد الجبل جزر السباع. . .

وا أسفاه!. . لقد قتل أوديب والده!! ونفذ ثلث القضاء! فمتى ينفذ شطراه الآخران؟!

- 11 -

سلطت على مدينة طيبة هولة رائعة ما برحت تغتال أهلها وتعيث فيها فسادا، وكلما لقيت أحد عرضت عليه حجياً، فأن فسرها وقدر على تأويلها خلت سبيله، وإن لم يستطع غالته وأغتذت به. . . وقد عز على لايوس الملك ألا يقوى أحد على هذه الهولة فيخلص طيبة منها، ويربح من شرها العباد. فلما لم يستطع أحد يفسر حجياها أعتزم أن يذهب إلى دلفي مستخفياً في رهط من جنده، عسى أن يؤول له الكهنة ذلك الطلسم وينقذ شعبه من ذلك البلاء المبين!

وكأنما سعى لايوس إلى حتفه بظلفه! فقد لقيه ولده أوديبوس وقتله ومن معه على ما وصفنا!

- 12 -

وقبل أن يبلغ أوديب طيبة، كان خبر مقتل الملك وجنوده قد ذاع فيها، ولكن من كان أولئك القتلة؟ فلم يكن أحد يدري. . . إشاعات فحسب! فقائل إن الهولة هي التي أدركتهم

ص: 68

وصرعتهم جميعاً؛ وقائل إن عصابة من قطاع الطرق أحدقت بهم وذبحتهم وهم نائمون. . . . . .

وكان أوديب قد سار في طريق طويلة شاقة انتهت به إلى طيبة. فلما كان ثمة لقيه واحد من الأهالي أنس إليه، وتبسط معه وذكر له خبر تلك الهولة الفظيعة التي قتلت ربع سكان طيبة:(وإذا لم يرح المدينة منها أحد، فقد تقتلنا جميعاً!! وهي تعرض على من تلقاه حجياً يا صاح، فأن عرفها وأدرك تأويلها خلت سبيله. . . وإلا. . . فهي لا بد فاتكة به مهما كان سلاحه، ومهما كانت قوته!! وهاهي ذي قد فتكت وحدها بالملك وجنده في طريقه إلى دلفي. . . وقد أجمعت المدينة على أن من يخلصها من ذلك الشر المستطير فإنها ترفعه إلى العرش فيكون ملكا على طيبة الخالدة، ثم يحظى بالملكة الايم فتكون زوجة له!!)

- 13 -

وكان أوديب قد زهد في حياة التشرد التي شقى بها بعد مغادرته كورنثه، فصمم على أن يلقى الهولة. . . فإما قتلها وفاز بعرش طيبة وبيد الملكة. . . وبحياة ناعمة مخفرجة، وإما قتلته فأراحته من شظف العيش ولؤم الزمان.

ودله صاحبه على مكانها. . . فذهب إليها وبيده جزاره. . . أظمأ ما يكون إلى دم حار وسم زعاف!. . .

وقالت له: (مكانك أيها القادم! أفتني في مخلوق غريب إذا أنبلج الصبح درج على أربع، فإذا أنتصف النهار مشى على رجلين، فإذا أرخى الليل سدوله سار على ثلاث! قل! فأن لم تستطع، فودع الحياة)

وعبس أوديب عبسة قصيرة، وقال:(أيتها الهولة! أهذه حجياك!! إذن أسمعي وعي! ذلك المخلوق هو الإنسان من غير ريب! أليس يحبو على أربع إذ هو طفل، فإذا شب سار على رجلين، فإذا بلغ من الكبر عتياً توكأ على عصا، فكانت له رجل ثالثة؟!)

وما كاد يتم قولته حتى أربد وجه الهولة، وحتى انثنت تأخذ طريقها إلى البحر لتغيب في أحشائه، ولكن أوديب الذي ملأه انتصاره بحل اللغز عجباً وكبرياء. . . انقض عليها وخوض صدرها بجرازه. . . وتركها على الشاطئ جثة خامدة!

- 14 -

ص: 69

وفرحت طيبة بمخلصها العظيم، ومنقذها الكريم، ورفعت أوديب إلى عرشها، ووضعت على ناصيته تاجها، ووهبت له يد الملكة فتزوجها!

وا أسفاه!

لقد تزوج أوديب أمه! وتم الشطر الثاني من النبوءة الصارمة، وأولدها ابنها أربعة أبناء أشقياء، ولدين وابنتين، كأشباح الأسى والردى، والتعاسة والمنون!!

- 15 -

وحكم أوديب فعدل، واطمأنت إلى رحمته قلوب العباد، وتقدمت طيبة واستقامت أمورها، وبلغت من الأيد والقوة مبلغاً لم تكن تحلم به. . .

غير أن النبوءة تأبى إلا أن تتم، ولا بد أن ترث ذرية أوديب التعاسة عن أوديب. ذلك إن طاعوناً أجتاح طيبة، فكان الناس يموتون بالمئين! وكلت حيلة الأطباء، فأرسل الملك من يستنبئ كهنة أبوللو في دلفي عسى أن ترفع الآلهة غضبها بكشف هذا البلاء عن بلده الأمين! وعاد رسل الملك يقولون:(يقول أبوللو ابحثوا عن قاتل لايوس وانتصفوا للملك منه. . . يرفع عنكم ذلك الطاعون!)

قاتل لايوس!! إذن يجمع أوديب شرطة طيبة، ورجال القضاء فيها، ويجري تحقيق دقيق ينتهي بالحقيقة المؤلمة. . .

(يا للخزي!! إذن أنت هو ابني يا أوديب! أنا أمك! أنا أمك! يا للعار)

وتنطلق الملكة إلى غرفتها الخاصة فتنتحر: وقبل أن تفعل ترسل وراء الخادم الذي كان قد أخذ الطفل ليقتله فيحضر! ويعترف بكل ما كان!

- 16 -

أما أوديب، فانه لا يستطيع أن ينظر إلى أمه. . . بل يجن جنونه، ويتناول دبوساً فيسمل به عينيه، وينطلق إلى البرية على غير هدى، فتتبعه أبنته أنتيجونى، تقوده إلى غاب كولونوس حيث تأوي ربات الذعر فيغتلنه. . .

وينكشف الطاعون عن طيبة

ويقتتل ابنا أوديب على العرش، فيقتل بعضهما بعضاً، وتتم المأساة!. . . . . . . . . . . .

ص: 70

دريني خشبة

ص: 71

‌البريد الأدبي

مكسيم جوركي

وافتنا الأنباء الأخيرة بنعي مكسيم جوركي شيخ الأدب الروسي المعاصر. توفي بعد مرض طويل مضن في نحو الثامنة والستين من عمره. وبوفاة جوركي يختتم ثبت أكابر الكتاب الثوريين الذين مهدوا بكتاباتهم للثورة الاجتماعية الروسية الكبرى أعني الثورة البلشفية، وسيادة الطبقات العاملة، مثل ليون تولستوي، والبرنس كورباتكين. وكان مولد جوركي ببلدة (نجني نفجرود) من أعمال الفولجا في سنة 1868، ومن أسرة عاملة فقيرة، وأسمه الحقيقي ألكسي مكسينوفتش بتشكوف؛ ومات أبوه وهو طفل فكفلته جدته لأمه؛ ولم يتلق لفقره تربية، بل أضطر منذ حداثته أن يعمل ليعيش؛ فالتحق في التاسعة من عمره بخدمة محل لصنع الأحذية. ولبث يتنقل من عمل إلى عمل، وهو يعاني شظف البؤس، ولا يكاد يثبت في عمل ما، لأنه كان منذ حداثته يبدي مللاً مستمراً ونزوعاً إلى الثورة. وكان الفتى ألكسي مع ذلك يختلس الأوقات للقراءة والاهتمام بشؤون السياسة والثورة. وفي سنة 1892، استطاع جوركي أن يخرج كتابه الأول (ما كان شودرا)، وفيه صور قصصية مؤثرة؛ وفي العام التالي أخرج كتابه (شلكاش) على مثل كتابه الأول فصادف نجاحاً كبيراً. وتبوأ الفتى (جوركي) مكانته كأديب وكاتب يحسب حسابه؛ وفي ذلك الحين أيضاً قبض على جوركي لما بدا في كتاباته من النزعة الثورية وأودع السجن، ومرض فيه حتى كاد يموت؛ ولكنه ما كاد يخرج حتى عاد إلى الكتابة؛ وأخذ يطوف أرجاء روسيا متصلاً بزعماء المجاهدين والكتاب الثوريين. وفي سنة 1900 أخرج جوركي قصته الكبيرة (توما جوردييف)، فلقيت نجاحاً كبيراً. واتصل منذ أواخر القرن الماضي بفلادمير إلتش أو (لنين) زعيم الثورة البلشفية المستقبلة وصحبه؛ واشتغل بالصحافة الثورية؛ واستمر مع ذلك في إخراج كتبه؛ وكانت معظم كتبه في ذلك الحين قصصاً ثورية تمثل بؤس الطبقات العاملة التي عرفها وعانى ويلاتها صغيرا؛ وفي ذلك يصل جوركي إلى ذروة فنه؛ بيد أنه لم يتمكن قط من وصف المجتمع الرفيع بمثل هذه البراعة؛ وكان ذلك وقفاً على أقطاب درسوا الحياة الرفيعة مثل ليون تولستوي. وأحسن ما يصف جوركي تلك الشخصيات الناقمة التي تخرج على النظم والأغلال الاجتماعية المفروضة، وهي في الواقع شخصية

ص: 72

جوركي ذاته.

وعرف جوركي ظلام السجن أكثر من مرة؛ ولكنه كان في كل مرة يخرج أقوى نفساً وأثبت عزماً على الكفاح. وفي سنة 1906 سافر إلى أمريكا موفداً من الجمعيات الثورية الروسية ليدعو إلى قضية الحرية الروسية. ولكنه لم يلق النجاح المرغوب، لما عرف أن السيدة التي ترافقه هي صاحبته وليست زوجته؛ وقام أيضاً بالتجوال في ألمانيا وفرنسا ليدعو ضد القرض الذي كانت تحاول القيصرية عقده، وهو ينذر بأن الشعب الروسي لن يدفعه؛ ولكن مساعيه خابت وعقدت روسيا هذا القرض في فرنسا قبيل الحرب؛ ومع ذلك فقد صحت نبوءته، وجاءت الحكومة البلشفية فأعلنت إلغاء ديون القيصرية كلها.

وعاد جوركي إلى روسيا قبيل الحرب وأسس مجلة أدبية ثورية؛ ثم كانت الحرب، فتفرق زعماء الثورة في كل مكان، ولبث جوركي في روسيا، حتى كانت الثورة البلشفية، فظهر عندئذ في طليعة زعماء الثورة؛ وقربه لينين. وكان جوركي يحترم الرجل الذي حطم طغيان القياصرة، وحقق سيادة الطبقات العاملة، أعني لينين، ويذهب في هذا الاحترام إلى حد التقديس والعبادة. وغدا جوركي من أقطاب النظام الجديد، وغدا لسانه وزعيمه الأدبي؛ وأغدقت عليه الحكومة البلشفية رعايتها. ومنذ نحو عشرين عاماً يقود جوركي الحركة الأدبية الحديثة في روسيا، ويغذيها بروحه الثوري المضطرم

وأخرج جوركي في تلك الفترة عدة كتب رائعة: منها (الشريدون) و (ذكريات الشباب) و (المتفرج) و (كوموفالوف)، وهو أعظم كتبه؛ و (الأعماق السفلى) وهي قطعة مسرحية قوية؛ وغيرها.

والخلاصة أن جوركي يعتبر من أعظم زعماء الأدب الروسي المعاصر. وقد نوه البرنس كوروباتكن في كتابه عن الأدب الروسي بعبقرية جوركي الأدبية والفلسفية

(ع)

جوركي أديب الصعاليك

كتبنا كلمة في هذا الباب من أبواب (الرسالة) منذ أسبوعين عن حياة جوركي؛ وها قد لفظ أديب الشيوعية الكبير آخر أنفاسه في الأسبوع الثاني من هذا الشهر (9 يونيه سنة 1936)

ص: 73

من أثر التدرن الذي كان يشكو منه دائماً والذي سافر من أجله إلى إيطاليا يستشفي منه، ولكن ما زال به حتى قضى عليه في النهاية. وقد ذكرنا أن جوركي عمل في حداثته عند خباز، ونذكر اليوم أن هذا الخباز كان اسمه (راماس) من مدينة قازان، وأنه كان ذا أثر كبير في توجيه مكسيم جوركي، فقد كان يعمل ليلاً في مخبزه اتقاء لشبهة جواسيس القيصر، ثم يبث في عماله روح الانتفاض على ظلم القيصرية بما كان يلقيه عليهم من أحاديث ملتهبة، وبما كان يقرئهم من كتب ويثقفهم به من معلومات. وكان الفتى جوركي أشد العمال تعلقاً براماس، وكان يلتهم كتبه التهاماً حتى حدثوا عنه أنه كان يقضي نصف أوقات راحته ونومه مكباً على كتب راماس! ولما علق جوركي الأدب ومهر في الخطابة توجه إلى بطرسبرج ودعا الشعب إلى مطالبة القيصر بالدستور، ثم جمع عدداً كبيراً من العمال وتوجه بهم إلى قصر القيصر في مظاهرة صاخبة وهتفوا بحياة الدستور، وما هي إلا لحظة حتى حصدتهم نيران البنادق والمدافع من كل صوب، ونجا جوركي بأعجوبة. ولكنه قبض عليه وحوكم أمام محاكمة عسكرية فقضت عليه بالسجن لمدة سنة وعلى الزعيم الآخر (الأسقف جابون) بسنة مثلها (1905)

وكان جوركي يستشفي في إيطاليا حينما هبت الثورة في روسيا فعاد إليها ليلقى لينين وليكون هو وتروتسكي أشد أعوانه وأكبر مؤيديه، وإن يكن جوركي كان يأخذ على طاغية روسيا وزعيمها الأكبر أخذه الناس بالشدة وسوقهم إلى نظمه بالعنف، وكان يصارحه بعدم رضاه عن هذه الطرق التعسفية في بث مبادئ الثورة مع علمه أن معنى معارضة لينين الشنق والقتل بالرصاص. والعجيب أن عطف جوركي هذا لم يستمر طويلاً. فقد حدث بعد موت لينين أن أختلف ستالين وتروتسكي من أجل تنفيذ مبادئ الثورة تنفيذاً حرفيا فكان من رأي تروتسكي أخذ الفلاحين بالعنف وإخضاعهم بالقوة لتعاليم لينين، ولكن ستالين أبى ورأى في الطفرة تمهيداً لثورة الفلاحين ففضل التدرج معهم في جذبهم إلى حظيرة هذه التعاليم. واشتد الخلف بين أقطاب الشيوعية، وملك ستالين زمام الأمور، وفر تروتسكي خارج روسيا، ولحق به جوركي؛ ولكن جوركي عاد إلى روسيا بعد ذلك فشهد بعينه صدق نظر ستالين، فرجع عن رأيه لما رأى من استقرار الأمور، وعاد إلى سالف تشجيعه للاتحاد السوفيتي فعينه في لجنته التنفيذية.

ص: 74

وجوركي من اشد الملحدين الذين عرفهم التاريخ فهو يقول أن المعبود الذي تعنو له الجباه إن هو إلا خرافة، وهو مصدر الخرافات! وتلك جرأة على الله سبحانه وتعالى من هذا الرجل الذي خبله البؤس وذهب بوجدانه العوز في أكبر شطر من حياته. ويكاد يكون الفيلسوف برجسون أشد أعداء جوركي، فبرجسون روحي بطبعه، والناس في فرنسا يصدقونه في كل شيء حتى لو ادعى النبوة، ولم يدافع أحد من الفلاسفة عن وجود الله في عصرنا الحديث بمثل ما دافع برجسون، وإليه وحده يرجع الفضل في هزيمة داروين وجوركي، وإن جوركي ما يزال منتصرا بقوة الحديد والنار داخل روسيا.

وإلى جوركي يعود الفضل فيما لصق بالثورة الشيوعية من تهم الإباحية وما إليها، لأنه هو نفسه ما كان يتورع أن يظهر أمام الملأ في أعمر ميادين موسكو وبطرسبرج (ليننجراد) محاطاً بعشيقاته و (محظياته!). وقصته (الاعتراف) هي نموذج خبيث من أدب المنحطين تبذ قصص لورانس وجويس وبلزك، وفيها يذكر حديثاً غير محتشم لغادة من الساقطات تدعوه إلى نفسها لترزق منه غلاماً. وفي ذلك شبه من قصة لورانس التي أشرنا إليها مرة في هذا الباب (عشيق لادي شاترلي). وتلك القصة ثالثة ثلاث ألفها إذ هو في إيطاليا والاثنتان هما (الأم) و (الصيف) ونرجئ الكلام عن بقية قصصه وكتبه ومجلاته إلى نبذة أخرى.

د. خ

في المباراة الأدبية

اجتمعت لجنة المباريات الخاصة بموضوع (أثر الحافز الشخصي في التطور الإصلاحي والاجتماعي والوسائل العلمية لتوجيه الرأي العام) التي يرأسها معالي الأستاذ مكرم عبيد باشا فنظرت في البحوث المقدمة إليها وقررت:

1 -

منح الجائزة الأولى وقدرها مائة جنيه للأستاذ عباس حافظ الموظف بوزارة الداخلية.

2 -

منح الجائزة الثانية وقدرها خمسون جنيها للأديب جميل خانكي.

3 -

منح الجائزة الثالثة وقدرها 25 جنيهاً للآنسة زينب الحكيم الحائزة لدبلوم فروبل العليا بلندن.

ص: 75

4 -

منح الجائزة الرابعة وقدرها 25 جنيهاً للأستاذ حسن مظهر المحرر بمجلة الطائف المصورة.

وقد رأت اللجنة أن تتقدم إلى صاحب الدولة وزير الداخلية ليسمح بمنح هذه الجوائز برغم انقضاء الموعد المحدد لها.

بين السياسة والأدب

تولى الحكم أخيراً سياسيان عظيمان، هما في الوقت نفسه أديبان كبيران، وهما مسيو ليون بلوم الزعيم الاشتراكي الفرنسي الذي فاز حزبه في الانتخابات الفرنسية الأخيرة، وانتهى بأن تولى زعيمه الحكم؛ ثم السنيور مانويل ازانادياز، الذي أنتخب أخيراً رئيساً للجمهورية الأسبانية؛ فكلاهما أديب كبير، وله مؤلفات تتبوأ مكانها الأدبي. ولنلاحظ أولاً أن مسيو ليون بلوم فوق كونه اشتراكياً، هو يهودي؛ وهذه أول مرة يتولى فيها الحكم في فرنسا يهودي منذ وزارة مسيو كايو الذي تولى الرياسة قبل الحرب. وكان مسيو بلوم منذ أواخر القرن الماضي صحفياً وناقداً، ففي سنة 1897، كان يتولى تحرير (المجلة البيضاء)، وكان يعرف يومئذ بنقده اللاذع؛ ثم تخلى عن تحرير هذه المجلة إلى الكاتب الشهير (أندريه جيد). ثم تحول إلى الكتابة السياسية منذ حملة تيار السياسة، وكانت مقالاته في جريدة (البوبولير) حتى العهد الأخير تثير أعظم الاهتمام في دوائر السياسة.

وأما المسيو ازانا رئيس جمهورية أسبانيا الجديد فهو مؤلف ذو شهرة واسعة وله عدة كتب في السياسة والأدب نذكر منها: (دراسات عن السياسة الفرنسية الحديثة)، و (ترجمة جوان فالير) وهو كتاب نال به الجائزة القومية الوطنية؛ و (الكتابة والقول) و (في الحكم وفي المعارضة)، ثم رسالة أدبية عن (دون كيشوتي)، وقطعة مسرحية عنوانها، (التاج) هذا ما عدا روايات القصص ومقالات عديدة.

كتاب جديد لهافلوك أليس

صدر أخيراً كتاب النقادة الإنكليزي الشهير هافلوك أليس عنوانه: (مسائل عصرنا) والذين يتتبعون حياة هافلوك أليس وكتاباته يعرفون أنه أعظم المفكرين والنقدة في عصرنا؛ وقد بلغ اليوم عهد الشيخوخة، ولكنه ما زال قوي النشاط، قوي الأثر في الشباب المتأدب؛

ص: 76

وقد كانت كتاباته من أكبر العوامل في الترويج للأدب الجنسي الحديث، وهو الأدب الذي كان يرفضه المجتمع الإنكليزي من قبل. ويشتمل كتاب هافلوك أليس الجديد على مائة موضوع من الموضوعات التي سبق أن عالجها في ظروف ومناسبات مختلفة، وهذه بعضها:(ما هو المجرم. بديل الحرب. مسألة الثورات. التربية في العالم المتطور. الحاجة إلى سماء جديدة. مسألة التعقيم الإصلاحي) وغيرها

ومع أن معظم هذه الموضوعات قد كتب من قبل، فأن الكتاب يطبعه طابع واضح من الجدة، ويبدو تعمق الكاتب وبعد نظره في معالجات موضوعه، حتى أن القارئ ليشعر بأن كثيراً مما تنبأ به هافلوك أليس في كتاباته عن التطورات الاجتماعية يقع اليوم في العالم بالفعل.

ص: 77

‌العالم المسرحي والسينمائي

بنكنوت

فيلم شركة لونس على شاشة سينما تريومف

لناقد (الرسالة) الفني

تدفع الأثرة الكثير من المصريين إلى الجمع بين صناعات متعددة، وهذا في عقيدتهم وسيلة من وسائل الشهرة وارتفاع الذكر في حين أن العالم يسير عكس هذه الفكرة، فهو يعمل على توزيع الأعمال حتى يستطيع الفرد أن يتخصص في ناحية واحدة، والتخصص سبيل الإتقان والتبريز

ولقد نقدنا في فلم شارلي شابلن (العصر الحديث) قيام صاحبه بجميع الأعمال الفنية؛ وها نحن اليوم نعود فنكرر قولنا، في رأينا أن زميلنا الأستاذ أحمد جلال يستحق اللوم الكثير لتقليده شارلي، وجمعه بين مهمة تأليف الرواية وكتابة السيناريو وإدارة الفلم وإخراجه ثم تمثيله. ونحن إذا التمسنا الأعذار لشارلي لإعداده الفلم الواحد خمس سنوات، فإن الأمر على العكس من ذلك مع جلال الذي يرهقه العمل الصحفي إلى جانب عمله السينمائي. ولو أنه وزع العمل واكتفى بمهمة واحدة أو اثنتين فربما تلافى الكثير من الأخطاء التي أفسدت الفلم ونزلت به إلى مستوى لا نحبه ولا نرضاه لفلم مصري.

إن مخرجي الأفلام المصرية يستغلون النظارة من المصريين أسوأ استغلال بعرضهم مثل هذه الأفلام التي تنقصها العوامل الفنية التي تتوفر في الأفلام الأمريكية والإنجليزية. ولو أن هذه الأفلام تشبع عواطف المصريين، وتصور ميولهم ونفسياتهم، لما وجدنا مصرياً واحدا يقبل على هذه الألاعيب الصبيانية، ولأحس يومئذ المخرجون أن القومية وحدها ليست كافية لأن تجتذب النظارة إلى دور السينما

وإذا كان الجمهور يقبل على هذه الأفلام، فهو إنما يقوم بواجبه حيال هذه الصناعة الجديدة، وتشجيعاً لأهل الفن من أبناء بلاده، وعسى أن يجد فيما تعرض ما يعبر عن عواطفه. على أن هذا الاستغلال سينكشف يوماً، وسيعرف المصريون أنهم يسيئون إلى أنفسهم وإلى الفن، إذ يقبلون على هذه الأفلام؛ ويومئذ يدرك المخرجون مبلغ الهوة الساحقة التي حفروها بينهم

ص: 78

وبين رواد السينما. ولا أظن هذا اليوم بات بعيدا.

أن أول أسباب لنجاح الفلم أن تكون القصة التي تعرض للنظارة صالحة للسينما؛ ويشترط فيها الفن، والصناعة، وعلم النفس، وغيرها من الشروط التي يجب أن تتوفر في كل عمل فني، ولهذا فأن الشركات الأجنبية تنتقي خيرة القصص العالمية وتقتبسها للسينما، وتدفع من أجل ذلك ألوف الجنيهات، أما في مصر، فأن الشركات تستغني عن المؤلف الأديب، ولا تحفل كثيراً بموضوع القصة، ولهذا فأنك لا تجد بين أكثر الأفلام التي عرضت موضوعاً سامياً ولا قصة رائعة ذات جمال وفن.

ملخص قصة الفلم

سلمى، امرأة مبتذلة، يعود زوجها فجأة فيجدها مع عشيق لها فيطردها من بيته؛ وتخرج لتعيش في الأندية الليلية، ويلتقي بها نجيب مفتش البوليس فيتزوجها وينجب منها طفلة

ويدخل شوكت يوما إلى مكتب نجيب فيراه يضع أوراقاً مالية في مكتبه، ويدعو شوكت نجيباً لقضاء السهرة في النادي، وهنالك نجد شوكت يخسر كل نقوده ويأخذ نجيب مكانه، وينتهز شوكت الفرصة ويسرع إلى بيت صديقه ليسرق الأوراق المالية. وإذ هو في محاولته يعود نجيب ويخاف شوكت أن يضبطه متلبساً بالجريمة فيسرع إلى مخدع الزوجة، ويدخل نجيب فيظن أن زوجته تخونه ويصوب مسدسه إلى شوكت ولكن هذا يفلح في إسقاط المسدس من يده!؟ وتريد سلمى أن تنتقم من شوكت فتطلق عليه الرصاص ولكنها تصيب زوجها.

ويحكم على الزوجة بالسجن ثلاث سنوات، وفي هذه المدة يتعرف شوكت إلى إحدى فتيات الشوارع فيتخذها عشيقة له، ويعدها لتكون شريكة له ووسيلته إلى السرقة والاحتيال. وتخرج سلمى من السجن وتعمل خادمة عند هذه العشيقة فتعرف سرهما وتحبط تدبيراتهما. ويوفق شوكت إلى اغتصاب آلاف الجنيهات من مكتب مدير إحدى الشركات (وكأن المدير لا يضع نقوده في المصارف!) ولكن سلمى ترشد البوليس إلى السارق. ويجئ نجيب ليقبض على شوكت، وإذ يحاول هذا الهرب مهدداً نجيباً بالمسدس تطلق سلمى النار على شوكت.

يرى القارئ أن الموضوع الذي عالجه الفلم تافه لا يحتاج إلى كل هذا الحشو والتطويل

ص: 79

والتعقيد والالتجاء إلى الأمور غير المعقولة التي أغفلناها في تلخيصنا لقصة الفلم، وهذا مما يدل على جهل كاتب القصة بالحياة والخلق المصري. فأين الرجل الذي لا يثور لمرأى عاشق زوجته في بيته؟ وأين الأندية الليلية التي يصحب فيها الرجال زوجاتهم ويلعبون الميسر مع الساقطات أمامهن؟! وأين الرجل الذي لا تأخذه الريبة ولا الشكوك من وجود صديقه في بيته أثناء غيبته؟ ومدير الشركة الذي يولول ويكاد يتملكه الجنون لأن سيدة أغمى عليها في مكتبه، ثم هذه الطريقة المضحكة التي تتعرف بها عشيقة شوكت إلى تاجر الأقطان ومفتش البوليس الذي لا يعرف كيف يتقي شر المجرمين ولا يعرف كيف يستخدم مسدسه. . . هذه الأشياء تبين بجلاء جهل الكاتب بعلم النفس وبالحياة المصرية.

وقد تقوم الفكرة التي تقوم عليها القصة مما لا يصل إليه النقد، كما صرح بعض الزملاء، ولكن العلاج وما يحيط بالقصة من حواش وجو ملئ بالأقذار والأدران مما لا ترتاح إليه النفس، أما تصوير الشخصيات فضعيف مضطرب، وفي بعضها نزول عن المستوى الذي يليق أن يعرض على الجمهور، والذي لا يتسق مع بقية الشخصيات ولا مع موضوع القصة، مثل العشيق الأبله الذي يفتتح به أول مناظر الفلم، أو مثل شخصية الخادم (البلدي) ومسلكه مع مخدوميه، والفتاة السارقة عندما أخذها شوكت إلى بيته لأول مرة، وكذلك شخصية سلوى فيها كثير من الإبهام الذي لا يرتاح إليه النظارة.

والحوار لا بأس به؛ غير أنه في كثير من المواقف يشبه الحوار المسرحي، كما أن هناك إسفافاً في الأحاديث بين شوكت وسلوى وبين الخادم البلدي ومخدومه، وبين شوكت والفتاة السارقة. وقد يقول المؤلف أنه يحاول أن يرسم صورة واقعية، ولكن الفن أسمى من هذا الواقع، ثم أن الواقع في حد ذاته لا قيمة له إلا إذا صقلته وأعدته يد مفتن ماهر.

التمثيل والتصوير

والتمثيل ضعيف، وكثير من المواقف انقلبت إلى مواقف مسرحية، ولو أن المدير الفني كان همه الأول قيادة الممثلين لعاد ذلك بالخير على الفلم؛ وإنني من رأي صديقي الأستاذ أحمد بدرخان في أن للسيدة آسيا مواهب لو استغلت كما يجب لبرزت وعلا نجمها، وهي جديرة بأن تسمى (ماي وست) مصر، ولكنها مع الأسف لم تظهر في فلم يلائمها، ولم تعمل مع مدير فني يستطيع أن يبرز مواهبها، وإن ظهورها الدائم مع ماري كويني ومع جلال

ص: 80

مما يجعل التشابه كثيراً في حركاتها وتمثيلها؛ ونحن ننصح لها أن تبدل الشخصيات التي تعمل معها بين قصة وأخرى، فللوجوه الجديدة أثر وأي اثر في نفوس النظارة

أما تمثيل الآنسة ماري كويني، فماذا أقول! إنها كانت تضحك في أغلب أجزاء دورها ضحكا يتردد صداه، حتى إنني لأذكر إنها كانت تضحك ضحكاً متشابهاً يبعث السأم إلى النفس، وتمثيل الرشيدي (نجيب) مسرحي أكثر منه سينمائياً، أما جلال (شوكت) فكان يقوم بمغامراته كأنه لا يحفل بأحد وإذ هو يتسور حاجز الحديقة كأنه يقوم بلعبة في وضح النهار لا يخشى رقيباً.

كان المصور ينتقل في بساطة لا أثر للفن فيها مما يدل على أن كاتب السيناريو والمدير الفني لم يحافظا على الجو السينمائي. وكان يخرقان القواعد، فهما يجهلان متى يجب أن يصور المنظر عن قرب أو عن بعد، وكيف ينتقلان من منظر إلى آخر. وعندي أن هذا أثر الحشو والتطويل. هذا وإنك لا تجد في الفلم زوايا معبرة، ولكن الضوء والصوت في هذا الفلم جعلاه يفوق ما سبق أن قدمته إلينا السيدة آسيا من أفلام.

والشيء الوحيد الذي نذكره في الفيلم هو أنه طوله الذي تستطيع وبكل بساطة أن تحذف منه أكثر من الثلث دون أن تتأثر القصة لاتشعر أثناء عرضه بالملل والسأم اللذين كنت تحسهما أثناء عرض الأفلام السابقة لشركة (لوتس)، وإن أحسست بثورة على المؤلف والمدير الفني.

يوسف

ص: 81