المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 155 - بتاريخ: 22 - 06 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٥٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 155

- بتاريخ: 22 - 06 - 1936

ص: -1

‌يا شباب العرب!

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

يقولون إن في شباب العرب شيخوخةَ الهِمَم والعزائم؛ فالشبانُ يمتدُّون في حياة الأمم وهم ينكمشون

وإن اللهوَ قد خفَّ بهم حتى ثقلت عليهم حياةُ الجد، فأهملوا الممكنات فرجعت لهم كالمستحيلات

وإن الهزلَ قد هونَّ عليهم كلَّ صعبةٍ فاختصروها؛ فإذا هزءوا بالعدو في كلمة فكأنما هزموه في معركة. . .

وإن الشاب منهم يكون رجلاً تاماً، ورجولةُ جسمه تحتجُّ على طفولة أعماله

ويقولون إن الأمر العظيم عند شباب العرب ألا يحملوا أبداً تَبِعَة أمر عظيم

ويزعمون أن هذا الشبابَ قد تمت الأُلفةُ بينه وبين أغلاطه، فحياته حياة هذه الأغلاط فيه

وأَنه أَبرعُ مقلِّد للغرب في الرذائل خاصة؛ وبهذا جعله الغربُ كالحيوان محصوراً في طعامه وشرابه ولذاته

ويزعمون أن الزجاجةَ من الخمر تعمل في هذا الشرق المسكين عملَ جندي أجنبي فاتح. . .

ويتواصَونْ بأن أوَل السياسة في استعباد أمم الشرق، أن يترك لهم الاستقلالُ التام في حرية الرذيلة. . .

ويقولون إنه لابد في الشرق من آلتين للتخريب: قوة أوربا، ورذائل أوربا

يا شبابَ العرب! مَن غيركم يكذّب ما يقولون ويزعمون على هذا الشرق المسكين؟

من غير الشباب يضع القوةَ بازاء هذا الضعف الذي وصفوه لتكون جواباً عليه؟

من غيركم يجعل النفوس قوانين صارمة، تكون المادةُ الأولى فيها: قَدَرْنا لأننا أردنا؟

ألا إن المعركة بيننا وبين الاستعمار معركة نفسية، إن لم يُقتل فيها الهزل قتل فيها الواجب!

والحقائق التي بيننا وبين هذا الاستعمار إنما يكون فيكم أنتم بحثُها التحليلي، تكْذِبُ أو تَصْدق.

ص: 1

الشبابُ هو القوة؛ فالشمسُ لا تملأُ النهارَ في آخره كما تملؤه في أوله

وفي الشباب نوعٌ من الحياة تظهر كلمةُ الموت عنده كأنها أُختُ كلمة النوم

وللشباب طبيعةٌ أولُ إدراكها الثقةُ بالبقاء، فأول صفاتها الإصرار على العزم

وفي الشباب تصنع كل شجرة من أشجار الحياة أثمارها؛ وبعد ذلك لا تصنع الأشجارُ كلها إلا خشبا. . .

يا شباب العرب: اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزاً، وإما أن تموتوا

أَنقذوا فضائلنا من رذائل هذه المدنية الأوربيةُ تنقذوا استقلالنا بعد ذلك، وتنقذوه بذلك.

إن هذا الشرق حين يدعو أليه الغرب (يدعو لَمَن ضَرُّه أقربُ من نفعه لَبْئسَ الموْلى ولبئس العَشير)

لبئس المولى إذا جاء بقوته وقوانينه، ولبئس العَشيرُ إذا جاء برذائله وأطماعه.

أيها الشرقي! إن الدينار الأجنبي فيه رصاصةٌ مخبوءة، وحقوقُنا مقتولةٌ بهذه الدنانير.

أيها الشرقي! لا يقول لك الأجنبي إلا ما قال الشيطان: (وما كان لي عليكم من سلطانٍ إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي)

يا شباب العرب! لم يكن العسيرُ يعسر على أسلافكم الأولين، كأن في يدهم مفاتيح من العناصر يفتحون بها.

أتريدون معرفة السر؟ السرُّ أنهم ارتفعوا فوق ضعف المخلوق، فصاروا عملاً من أعمال الخالق

غلبوا على الدنيا لما غلبوا في أنفسهم معنى الفقر، ومعنى الخوف، والمعنى الأرضي

وعلَّمهم الدينُ كيف يعيشون باللذات السماوية التي وضعت في كل قلب عظمتَه وكبرياءَه

واخترعهم الأيمانُ اختراعاً نفسيّاً علامتُه المسجَّلة على كل منهم هذه الكلمة: لا يَذِل

حين يكون الفقر قلةَ المال، يفتقر أكثر الناس، وتنخذل القوة الإنسانية، وتهلك المواهب

ولكن حين يكون فقرَ العمل الطيب، يستطيع كل إنسان أن يغتنى، وتنبعث القوة، وتعمل كل موهبة

وحين يكون الخوف من نقص هذه الحياة وآلامها، تفسّر كلمة الخوف مائة رذيلة غير الخوف

ص: 2

ولكن حين يكون من نقص الحياة الآخرة وعذابها، تصبح الكلمةُ قانونَ الفضائل أجمع

هكذا اخترع الدين إنسانَه الكبير النفس الذي لا يقال فيه: انهزمت نفسُه

يا شباب العرب! كانت حكمةُ العرب التي يعملون عليها: أُطلُب الموت تُوهب لك الحياة

والنفس إذا لم تخش الموت كانت غريزةُ الكفاح أولَ غرائزها تَعْمَل

وللكفاح غريزة تجعل الحياة كلها نصراً إذ لا تكون الفكرةُ معها إلا فكرةً مقاتلة

غريزة الكفاح يا شباب هي التي جعلت الأسدَ لا يُسَمَّن كما تسمَّن الشاة للذبح

وإذا انكسرت يوماً فالحجر الصَّلْدُ إذا تَرَضرَضتْ منه قطعة كانت دليلاً يكشف للعين أن جميعه حجر صلد

يا شباب العرب! إن كلمة (حقّي) لا تحيا في السياسة إلا إذا وضع قائُلها حياتَه فيها

فالقوةَ القوةَ يا شباب! القوة التي تقتل أول ما تقتل فكرةَ الترف والتخنث

القوة الفاضلة المتسامية التي تضع للأنصار في كلمة (نعم) معنى نعم

القوة الصارمة النفَّاذة التي تضع للأعداء في كلمة (لا) معنى لا

يا شباب العرب! اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزاً، وإما أن تموتوا.

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 3

‌في النقد

إلى الأستاذ أحمد أمين

من الأستاذ توفيق الحكيم

يا صديقي العزيز! حقيقة أذكر بعد قراءة فصلك الأخير في (الرسالة) أنك كنت عازماً على نقد كتابي (محمد)، فما الذي منعك؟ وأذكر أيضاً أنك أفضيت إلى بخوفك من أن يسئ رجال الدين فهم مرادك فأضارّ أنا بذلك؛ وهى عاطفة نبيلة حمدتها لك. على أني فيما أذكر أيضاً قد شجعتك على المضي في نقدك وهو في جملته لا يؤيدني. بل إني قد وافقتك عليه معجباً بفراستك مقدراً لبراعتك في الوقوع من فورك على المواطن التي يجوز فيها النقد والكلام. فأنت ترى أن المؤلف لم يغضب، بل ابتسم واغتبط ليقظة الناقد. في الواقع أنى لست أومن كثيراً بتلك الأسطورة التي تروى عن غضب المؤلفين. واسمح لي أن أتكلم بلسانهم فأقول إن هذا الغضب لا يجد سبيلاً إلى نفس الكاتب إلا إذا شعر من ناقده بعزوف عن الحق والجد، ونزوع إلى الحط من القدر مبطن بسوء القصد. فالناقد الذي يحترم شخصي ويهدم عملي لا يغضبني. لأني أعلم أن الأديب لا يهمه النقد. فهو كائن ممتاز لا يُهدم، ولا يقبض إلا بأذنه، ولا يقضى عليه إلا بإرادته. إن الأديب لا يموت مقتولاً، بل يموت منتحراً. ومع ذلك فأني لا أحب للمؤلفين أن يغضبوا على أي حال، فان الغضب علامة الضعف الآدمي، ولا شئ في الوجود أقوى من الابتسامة. ولكن من ذا الذي أعطى القدرة على الابتسام الصافي الجميل في كل موقف وفي كل حين؟ أهو الجبار وحده؟ ألا ترى معي أن الجبروت إنما هو الصفاء؟ (إذا أردت أن تسلك طريق السلام الدائم، فابسم للقدر إذا بطش بك، ولا تبطش بأحد) تلك كلمة لعمر الخيام، جعلتها في رأس كتابي (من الشرق) الذي لم أكتب منه في سنوات ثلاث أكثر من ثلاثة فصول. وانك لتعجب إذا قلت لك إن هذا البطء أو هذا العجز مرجعه علة واحدة قد انكشفت لبصيرتي آخر الأمر: عدم استكمال تلك الصفة العليا التي يرتديها بعض رهبان الفكر كما تُرتدى المسوح: الصفاء

إن كنت من رأيي في كل هذا فإن لي عندك حاجة: أن تنشر معي تلك الابتسامة بين الأدباء، فأن الأدب شئ جميل؛ هو جنة لا صخب فيها؛ وهو معبد لا تدخله الأحقاد. إن أعجب ظاهرة في أدبنا أنه لا توجد فيه صداقات عظيمة جديرة أن يتحدث عنها تاريخ

ص: 4

الأدب؛ تلك الصداقات التي نراها في آداب الحضارات الكبرى قد أنتجت من الرسائل والأخبار والآثار ما لا يقوم بمال. ما الذي يعوزنا نحن؟ أهو شيء في الخلق؟ أم هو ضعف في النفس؟ أم هو نقص في الثقافة؟ لست أعلم. إنما الذي أعلمه أن الصداقة الخالصة بين رجال الأدب والفكر هي أظهر دليل على نضوج هذا الأدب وهذا الفكر

وبعد، فأني أرجو أن تقبل أطيب التحية من المخلص.

توفيق الحكيم

ص: 5

‌في النقد

للدكتور محمد حسين هيكل بك

عزيزي الأستاذ الزيات:

أثرت في أعداد (الرسالة) الأخيرة حواراً طريفاُ حول (النقد) بمقالك الذي نشرته في عددها الذي صدر في 18 مايو الماضي، والذي عقب عليه الأستاذان أحمد أمين وطه حسين. وإنني أغبطك كصحفي لما صادف موضوعاً أثرته من هذا النجاح. وأي نجاح أكبر من أن يدخل حلبة الحوار صديقان من كبار كتاب مصر وأدبائها، فيقلبان من المواضيع في (النقد) ما كان ركد، ويشيران إلى مواضع ضعف في كتابنا وأدبائنا، شيوخاً وناشئين، ويصفان علة ركود النقد مع يقظة الأدب؛ ويدعوانني بذلك للاشتراك في حديث بعد العهد بيني وبينه؛ وما كنت أظنني أعود من بعد أليه

ولم يكن انصرافي عن النقد عن إيثار للسلامة، أو مداراة للجمهور، أو اندفاع في تيار هذا الجمهور بعد أن كنت أريد جذبه إلى تياري. كلا! وإنما كان انصرافي عن النقد وعن ألوان غيره من الكتابة أنني أيقنت أن فيما أنا بسبيله اليوم من مباحث في سيرة النبي العربي وفي عصره ما هو أجدى على القراء وعلى الغرض الذي أرجو للجماعة الإنسانية أن تبلغه مما كنت بسبيله من قبل. ولست أريد الآن أن أصف كيف حدث هذا التطور في نفسي فذلك أمر يطول بيانه. وإنما ذكرت منه ما ذكرت لأبين به السبب الذي انصرفت من أجله عن النقد وما يتصل به. وما أحسب منصفاً إلا أن ما يستنفده البحث في السيرة والاتصال بعصرها وبيئتها من وقت وجهد كاف ليشغل الباحث عن غيره من الأمور؛ هذا ولو أنه كان منقطعاً لهذا البحث. ما بالك إذا شغل بالصحافة وبغير الصحافة من شؤون لا تدع له فرصة التنقل من قراءة إلى قراءة، وتدبر كل ما يقرأ تدبراً يسمح له بنقده وتقديره نقداً عادلاً وتقديراً نزيهاً؟

ولست أريد بهذا الذي قدمت أن أعتذر عن انصرافي عن النقد ورغبتي عنه. فأنا أرى هذا الانصراف طبيعياً في شأني وشأن كثيرين غيري ممن عنوا بالنقد وتوفروا عليه منذ عشرين أو خمس وعشرين سنة مضت؛ أي في بدء حياتهم في الكتابة والأدب. وهو طبيعي إلى حد لا يجوز معه توجه اللوم إلينا. فأكثر الكتاب يبدءون حياتهم في الكتابة بالنقد

ص: 6

ثم ينصرفون عنه. هذا شأنهم في أوربا اليوم. وذلك كان شأنهم في غير أوربا من قبل. وهذا شأنهم لأنهم يقرءون يومئذ وهم شبان ليستزيدوا من العلم، وهم ينقدون ليمحصوا هذا العلم، وهم يفتنون في النقد ليكونوا لأنفسهم ملكة التقدير. لعلهم لا يفعلون ذلك متعمدين. لكن ذلك هو الواقع في أمرهم؛ فشأنهم في ذلك شأن الشجر، وشأن كل كائن حي أول نشأته، هو يمتص من الغذاء كل ما حصل عليه أو اتصل به، وهو يصفي هذا الغذاء ويتمثله لينمو بالبقية الصالحة منه للنمو، وهو يفرز ما ينقده ولا يسيغه؛ فإذا بلغ حد النمو قل ما يتناوله من الغذاء، ودقق في اختيار هذا الغذاء القليل الذي يتناوله، لأنه يكون في شغل عن النقد والتمحيص والإفراز بالإثمار والإنتاج، وإن استنفد بأثماره وإنتاجه قوته حتى ينتهي من ذلك إلى استنفاد حياته

فالنقد الذي يبدأ به الناشئون من الكتاب والأدباء حياتهم هو هذا التمثل للغذاء الذي يتناولونه، وهم يعرضون هذا النقد على الجمهور ليسمعوا حكم الجمهور على نقدهم، وليطمئنوا إلى أنهم أحسنوا التمثل. والجمهور يطرب لما يراه من آثارهم طربه لترعرع الناشئ وفتوة شبابه. فإذا انقضت هذه الفترة من الحياة مال الكاتب أو الأديب مع سجيته، واختار الطريق الإيجابي الذي يسلكه في إنتاجه. وقد يتفق هذا الطريق وماضي حياته الأدبية، وقد يكون اتجاهاً جديداً في هذه الحياة يحسبه بعضهم منقضاً لها بينما هو أثر محتوم من آثارها، لم يكن لصاحبه مفر من الاتجاه فيه ما دام سليم المنطق حسن التقدير

صحيح أن من الكتاب من يجعل النقد رسالته الأدبية طيلة حياته، وقد تتصل سائر آثاره بالنقد ولو بمقدار. ولقد كان من هؤلاء في فرنسا عدد غير قليل أمثال سانت بيف وجول لمتر. لكن هؤلاء إنما جعلوا النقد رسالتهم في الأدب غير مكتفين بما يظهر من الكتب في عصرهم. وهم قد جعلوا النقد رسالتهم على أنه لون من ألوان التصوير لتاريخ الحياة الأدبية في عصرهم وفيما سبقهم من العصور. فهم في عصر النضوج أدنى إلى المؤرخين منهم إلى النقاد. وما كتبه سانت بيف عن القرن السابع عشر وعن (بور رويال) لا يطلق عليه عنوان النقد بمعنى النقد المعروف للآثار الفنية بمقدار ما هو تحليل تاريخي دقيق لصورة من صور الأدب وأسباب نشوئها، وما تأثرت به في نموها وحياتها. ولهذا السبب تختلف آثار هؤلاء النقاد في أيام النضوج عنها في أيام النمو ونشاط تمثل الحياة. نقدهم أيام

ص: 7

النضوج أثر كامل لحياتهم ونضوجهم. أما نقدهم حين النمو ونشاط التمثل فشأنه شأن النقد حين يتناوله غيرهم من الشبان؛ هو تناول لمواد الحياة العقلية والأدبية وهضم وتمحيص إياها، وتمثل للصالح منها، وإفراز لزيفها

وكلنا يعرف طائفة من كبار الكتاب في فرنسا وفي غير فرنسا بدءوا حياتهم بالنقد، ثم انصرفوا عنه لغيره من ألوان الأدب. ويكفي أن يذكر الإنسان أناتول فرانس وبول بورجيه وهما من أعلام أدبها القصصي في القرنين التاسع عشر والعشرين ليقدر أن الكاتب كثيراً ما ينصرف بعد فترة من حياته إلى ما يحسبه رسالته الصحيحة في الحياة بعد أن يكون قد استقى بالنقد من رحيق الحياة صنوفاً وألواناً. وهؤلاء قد حمد الناس لهم ما اختصوا بالكتابة فيه، ولم يطالبهم أحد بالعودة إلى ميدان النقد. ولو أنهم عادوا إلى هذا الميدان لعادوا مؤرخين ولم يعودوا نقادا على طريقة الشبان الناشئين.

لهبوليت تين الفيلسوف الفرنسي الكبير في القرن الماضي ثلاثة مجلدات في النقد والأدب، تناول فيها طائفة من معاصريه من الفلاسفة والكتاب تناولاً دقيقاً غاية الدقة، بديعاً غاية الإبداع. وهي مع ذلك ثمرات شبابه، فلما تقدمت به السن شغل بكتابة تاريخ فرنسا وبوضع كتب في الفلسفة والأدب ككتابه عن الذكاء، وكتابه عن تاريخ الأدب الإنجليزي. ولقد وضع كتاباً فريداً جعل عنوانه (مذكرات عن باريس) هو آية في التهكم اللاذع بحياة عصره، والنقد لطرائق أهل فرنسا في مختلف ألوان حياتهم. وكم تمنى كتاب أن لو سلك تين هذا المسلك ووضع على هذا النحو كثيرا من الكتب. لكن أحدا لم يوجه أليه اللوم لأنه آثر الفلسفة أو التاريخ، علماً من هؤلاء الكتاب بأن الفلسفة وبأن التاريخ هما جوهر الرسالة التي هيأ القدر ذهن هبوليت تين لأدائها في الحياة

ماذا بعد هذه المقدمات؟. . . نتيجتها الطبيعية أنه إذا وجب أن يوجه اللوم عن فتور النقد في هذه الآونة من حياتنا العقلية والأدبية، فإنما يوجه إلى شباب هذا العصر الذين لا يجدون من أنفسهم إقداماً على تمثل الآثار الأدبية وتمحيصها بنقدها، وإشراك الجمهور بذلك في الحياة الأدبية، وحمل الشيوخ الذين ينتجون على تحري الغاية من الاجادة؛ ثقة منهم بذوق الشباب، وحرصاً منهم على تقديم الغذاء الصالح لجمهور القراء. أما والشباب لا ينقد فمعنى هذا أنه لا يقرأ، وأنه إذا قرأ لا يمحص، وأنه إذا محص لا يثور فينقد. وقيمة الحياة

ص: 8

الثورة بالحياة، فهذه الثورة هي وحدها وسيلة التطور الهادئ. أما حيث لا تكون الثورة، فالركود والجمود، وهذا الذي يشكو منه الأستاذ أحمد أمين، والذي يوجه اللوم من أجله إلى رجال قطعوا مرحلة النقد إلى مرحلة غيرها لعلها خير منها ولعلها شر منها

وإذا وجهنا اللوم إلى الشباب فجدير بنا أن نوجه اللوم إلى الذين يتولون تهذيب الشباب وإلى الذين يتولون تثقيفه. والساسة يتولون تهذيب الشباب والأساتذة المعلمون يتولون تثقيفه. أي هؤلاء أجدر بأن يوجه اللوم اليه؟ لقد أصبح شبابنا لا يعنى بنقد أثر أدبي لأن نقد الأثر الأدبي قد يدل على علو الكعب في العلم أو في الثقافة أو في التهذيب. ولكن ما قيمة ذلك في مصر اليوم؟!. . أهو يجر مالاً؟! أهو يجر جاهاً؟! أهو يجر احتراماً وتقديراً؟! سل الشباب عن ذلك يجيبوك إنما يجر المال شئ آخر غير العلم أو الثقافة أو التهذيب. والمال اليوم هو الذي يجر الجاه والاحترام والتقدير. ذلك رأى الشباب أو كثرته مع الشيء الكثير من الأسف. لذلك توجه الشباب إلى أقرب الموارد إلى المال وإلى الاستكثار منه، فبعد بذلك عن العلم وعن الثقافة وعن التهذيب، وبعد بمن كان مهذباً أو مثقفاً من الشبان عن النقد الذي يريد الأستاذ أحمد أمين أن يراه فتياً قوياً ناهضاً

بعد بهؤلاء الشبان عن النقد واصطناعه، لأن النقد أول شروطه الحرية، الحرية العقلية والحرية العلمية والحرية الأدبية؛ فهو لا يعرف الصداقة، ولا يعرف الإكبار والاجلال، ولا يعرف المجاملة والمداجاة؛ وهي فضائل يجب أن يتحلى بها الشباب في كل أمر وفي كل عصر؛ ويجب أن يتحلى بها الناس جميعاً وإن وجب أن تكون في الشباب أكثر وضوحاً وظهوراً. أفتريد هذا الشاب الناشئ أن ينقد كتاباً لهيكل أو لطه حسين أو لأحمد أمين أو للعقاد أو المازني أو لغيرهم ممن شئت، وهؤلاء قد يكونون وسيلته إلى الوظيفة وإلى مال الوظيفة وجاهها وما لها في أعين الناس من احترام وتقدير؟ لذلك آثر الشباب الراحة وجرى وراء الدعة وتعلم المداجاة والرياء حتى في العلم والأدب. والراحة سم الشباب القتال. والدعة والمداجاة مرضان لا يقلان عن الراحة فتكاً بالشباب. فإذا اجتمعت هذه الأدواء فتكت بحرية الشباب وحالت بينه وبين نقد الآثار الأدبية لقعودهما به عن الأيمان بالثورة. وهذا سبب العلة وموضع الداء.

فليلتمس الأستاذ أحمد أمين شباباً حراً يؤمن بالثورة وأنا ضمين له بعودة النقد إلى نهضته

ص: 9

وفتوته. أما هؤلاء الشيوخ الذين يتوجه لهم بالنقد فقد رغبوا إلى لون من الأدب غير النقد. لم يبق منهم إلا صديقي وصديقه الدكتور طه حسين الحريص على أن يبقى مع الشباب حرصه على أن يكون في طليعة الشيوخ. ليلتمس الأستاذ أحمد أمين هؤلاء الشبان، فان لم يجدهم فليلق التبعة عن ركود النقد على الذين يتولون تهذيبهم والذين يتولون تثقيفهم من الساسة والمعلمين. عند ذلك تنكشف له العلة فيما أصاب النقد من ركود، وعند ذلك يكون أدنى إلى الإنصاف إذ يلقي التبعة على من يجب أن تكون عليهم التبعة.

محمد حسين هيكل

ص: 10

‌ذات الثوب الأرجواني

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

- 2 -

(ملاحظة - الكلام ليس شخصياً وكل ما فيه متخيل ولا حقيقة لذات الثوب الأرجواني)

لم يكن العزم أن أكتب هذا الفصل ولكن (الرسالة) - جزاها الله خيراً - أبت إلا أن تستزيدني فوضعت الرقم (1) تحت عنوان الفصل السابق، فصار لابد أن أكتب الثاني - أو اللاحق - وإلا عدني القراء مقصراً أو مغالطاً أو فاتراً، وأنا أقصر في الأغلب عن غاية أو دونها؛ وقد تغريني طبيعة الحياة أو مطالب الدنيا بالمغالطة، ولكنى والله لست بفاتر - والعياذ بالله! - وأنى لحريص في العادة على هدوء المظهر واتزان الأعصاب، ولكن في جوفي ناراً (أحر نار الجحيم أبردها) كما يقول المتنبي رحمه الله وكان في عوننا - فقد كان يجيد المبالغة. وما أظن بذات الثوب الأرجواني إلا أنها تحس ناري هذه وتجد لفحها وإن كان بيني وبينها بعدان: بعد طريق وبعد منال. وإذا لم يكن هذا هكذا فسلها بالله لماذا تلبسه لي!. . . أليست تلبسه لأنها تعلم أنه حبيب إلي!. . . ومن أدرها وأنا لم أقله بلساني ولم أفض إلى أحد بسر قلبي؟. . . وما أحسب أحداً سيزعم أنها رأت في مشابه من ثيران أسبانيا فهي تخايلني لتهيجني بهذا اللون؟. . . ومما يدل على العمد في لبس هذا الثوب أنها تبدو ضاحكة مشرقة المحيا في كل ما تكتسي خلافه، فإذا ارتدت الأرجواني قطبت وزوت ما بين عينيها وتكلفت التجهم الشديد. وليس في الثوب أو لونه أو تفصيله أو حسن انسجامه على بدنها الرخص ما يدعو إلى الانقباض. وإن في كثرة لبسها له لدليلاً على الرضى عنه، ولو كانت تشعر بشيء من الضيق للبسه لما أكثرت من ارتدائه، ولكنها على عادة جنسها تفعل الشيء تبغي به رضى رجل معين ثم تذهب تغالط وتدعي غير ذلك، ومن هنا هذا العبوس التي لا تحسنه. وإني لأعرف أنها قرأت بعض كتبي فقد رأيت معها (خيوط العنكبوت) - عرفته من غلافه وما عليه من الرسم، ولكنى أظنها لم تقرأ ديواني لأنه قديم جداً ولأنه نفد من زمن طويل، ولو قرأته لو وجدت فيه هذا البيت:

لا يحسن التعبيس أبلجُ واضح

ضحك الجمال بوجهه وأضاءا

ولكانت خليقة أن تكف بعد ذلك عن عبوس لا تتقنه؛ ولشد ما أتمنى أن أعود إلى النظم

ص: 11

ولكن هيهات، فما تحركني الحياة كما كانت تفعل، ولو كان شئ يردني إلى الشعر لردني هذا الثوب. . أأقول الثوب؟. يا للمغالطة. أتراني لو رأيت الثوب منشوراً في الشرفة ولم تكن هي فيه أكنت أحفله أو أباليه؟. كلام فارغ!. ويحسن بي أن أدع الثوب وأن أكف عن ذكره فما أعرف له - بمجرده - قيمة. وإنها لجميلة في الأبيض والأخضر والأزرق والبنفسجي والوردي، وفي الطويل والقصير، وفي الخفيف والكثيف، وفي المباذل والهلاهل. ولكنى أحب أن أجرب سلطاني عليها فأزعم أن الأرجواني هو الثوب الأثير عندي. ثم إن صورة المرأة في اللحظة التي تقع فيها من قلب الرجل هي التي تعلق بذهنه وتظل حاضرة ماثلة لا تبرحه ولا تني تجور على غيرها من الصور ولو كانت أبرع وأفتن. وهذا فيما أعتقد - تعليل ما أراده من استبداد هذا الثوب الأرجواني بنفسي وخواطري، فلتلبس ما شاءت غيره ولتطمئن على حسنها فلن تكون إلا جميلة ساحرة

وأحسب أن اتزاني المألوف قد خدعها أول الأمر، وأن ابتسامتي التي أرسمها على وجهي - بالألوان - هي التي حيرتها فما هكذا يكون المحب الولهان والعاشق المدنف فيما تصف الكتب والروايات التي لاشك أنها قرأتها، وأين مظاهر الصبابة وآيات الوجد ودلائل الخبل الذي يورثه الحب؟ أين الدموع الغزار التي لا تفتأ تفيض بها الجفون القريحة حتى يصبح المرء في بركة من العبرات؟؟ أين السهد الطويل الذي يترك الوجه مصفراً والجسم مطحوناً مهدوداً؟؟ وأين الزفرات الحرى والشهقات العميقة التي تخرج من أخمص القدم؟. . لا يا ستي. . لست من هذا الطراز وما أراك إلا مثلي تحسنين أن تضبطي عواطفك كما يضبط المهندسون فيضان هذا النيل العظيم بالسدود والخزانات الضخمة؛ ثم إن الحب جميل لا شئ فيه يوجب الحزن والكآبة، وهو يملأ النفس حياة لا موتاً، وينضر الروح ولا يذبلها، وهو سبب عمران هذا الكون فكيف تخرب من جرائه نفس إنسان؟ وهو مبعث الوحي ومصدر الإلهام وسبب الإنتاج على العموم، فكيف يجئ بالانقباض والعقم؟. . لا يا ستي. . أقول لك مرة أخرى اضحكي. . اضحكي واتركي هذا القطوب الذي لا يوائم الجمال والصحة

ولم أر قط كمشيتها في المشي. . . فيها دبة القوي الشاعر بقوته أو المعتز بها؛ وقد تبد لي أحياناً كأنها تدب كما يدب الصبي حين يذهب عنك مغيظاً محنقاً. . ولا داعي لغضبها أو

ص: 12

حنقها. . . وأين هذا الداعي وهي واقفة وحدها في الشرفة تطل منها على الطريق؟ لا بد أن يكون الداعي شيئاً في رأسها أو في نفسها هو الذي يحملها على هذه اللفتة السريعة العنيفة التي لا مسوغ لها مما حولها، إذ كان لا شئ حولها إلا الهواء وإلا هالة هذا الحسن. . . وليتني أستطيع أن أنفذ إلى موضع التفكير أو الإحساس فأطلع على هذا الباعث الخفي! فليس أفتن ولا أسحر من حركات النفس فيما وراء الوعي. وأكبر الظن أنها هي لا تعرف ماذا يلفتها أحياناً على هذا النحو العنيف وإن كانت تحسب نفسها عارفة مدركة. ولو أنك قلت لها إن لفتتها هذه فيها عنف وسألتها عن علته لأنكرت ولكان الأرجح أن يسوءها منك ذلك

على أنى لا أحب أن يتوهم القارئ أن مشيتها عنيفة أو أن فيها ما يعاب - حاشا لله - وإن لها لخ طرة تجعل أهون حركة لها رقصاً. ومن النساء من تمشى بثدييها كأنما تدفعهما أمامها. ومنهن التي تتخلع وتتعوج وتتقصع - تكلفاً أو طباعاً - كأنما لا يمسكها شئ، أو التي تطول وتقصر في مشيتها والتي، تلوح بذراعيها فتزيدهما طولاً - إلى آخر ذلك إن كان له آخر - ولكن ذات الثوب الأرجواني حين تبرز لي في الشرفة صباحاً - على سبيل التحية - وهى لا تزال في منامتها، تنساب كالماء الرقراق، فليس خطوها خطواً وإنما هو تموج. وإني لأراها ماشية من هذا البعد فأذكر بيتاً لابن الرومي هو قوله في وصف صانع الرقاق:

ما بين رؤبتها في كفه كرة

وبين رؤيتها قوراء كالقمر

إلا بمقدار ما تنداح دائرة

في لجة الماء يلقى فيه بالحجر

ولا رقاق هناك ولا حجر ولا ماء تنداح فيه الدوائر، ولست أذكر البيت لأن هذا وقت الصباح أي وقت الشعور بالجوع، وإنما أذكره لأني أحس - بعيني وبقلبي معاً - أن حركة المشي تبعث في جسمها اللين اضطراباً خفيفاً كاضطراب الماء حين يصافحه النسيم الوانى؛ ويخيل إلى أن جسمها كله - حين تخطو - تتعاقب على بشرته الرقيقة موجات في إثر موجات تطير العقل وتزدهف اللب. ولا أدري أهذا خيال أم هو الحقيقة، ولكن الذي أدريه أنه بعض ما للمرأة من سحر. فقد ترى رجلا قده أعدل من قد المرأة ولكن مشيته لا يكون فيها هذا التموج، ولا يمكن أن تحدث الحركة في جسمه - أو جلده - مثل هذا

ص: 13

الاختلاج الخفيف الذي هو بعض سحر المرأة. واللين من خصائص الأنوثة - والنعومة والرقة والطراوة أيضاً - وليس أقبح ولا أبعث على النفور من المرأة المسترجلة كما ليس أقبح ولا أدعى إلى الزراية من رجل تغلب عليه صفات الأنوثة، وتخطئ فيه مظاهر الرجولة ومعانيها

وفتاتي تنهض مثلي في البكرة المطلولة - أو أنا هكذا أتخيلها - خفيفة غير متثاقلة - فأنها شئ صغير دقيق يخيل إلي أن في وسعي أن أطويها وآكلها بعظامها - وتدفع باب الشرفة فأنتبه على الصوت - وتقف حاسرة الرأس متهدلة الشعر - وهل يغطى مثل هذا الشعر الذهبي؟ - عارية الذراعين، ثم تتهادى إلى الحافة وتطوي ذراعيها عليها وتدير عينها في مجالي الحياة التي طلع عليها يوم جديد. فتبارك الله خالق هذا الوجه الصابح ومرقرق كل هذه الغضارة والنضارة فيه!. وما أكثر ما وقعت على عيني عينها وأنا أحدق فيها من حيث أحسبها لا تراني! ولشد ما أشعر، حين يحدث ذلك، بفتنة هذا اللحظ، وما أصبحت على وجهها مرة إلا أحسست أن من حقي أن أستقبل يومي بصدر منشرح وقلب مستبشر مطمئن، وما رأيتها إلا كان ظهورها إيذاناً لي بالاضطرام والفورة، فيكون حسبي بعد ذلك أن أعالج نفسي حتى أردها إلى السكون وأفئ بها إلى الهدوء؛ وليس هيناً أن ترغم اليد المرتعشة على الثبات، والأعصابَ المضطربةَ على الاتزان، والعين المحملقة الزائغة على الفتور المألوف، والقلب الذي يعلو ويهبط كأنه لعبة (اليويو) على العود إلى انتظام الدق واعتدال الخفق؛ والساقين المتخاذلتين على الصلابة والتماسك، والنار التي تندلع في الأحشاء على الخمود. . . كلا ليس هذا بالهين. . ولكني رضت نفسي على القدرة عليه، فلإرادتي الحكم لا لشعوري وعواطفي؛ وعسير جداً أن يبدو على وجهي شئ مما يضطرب به جناني ويجيش به صدري؛ وإن جوفي ليكون كالبركان الفائر أو البحر الهائج، وتنظر إلى وجهي وتسمع كلامي وتتأمل حركاتي وإشاراتي فلا يخالجك شك في أني أفرغ الناس قلباً وأخلاهم بالاً، ولم لا؟. . . إن ما يدور في نفسي شئ يعنيني وحدي وليس من حق غيري أن يحيط به ويطلع عليه فانه سري؛ ولا من الرجولة أن أعرضه على الناس كأني ألتمس العون أو العطف منهم. وماذا يبقى لي مما يسعني أن أقول إنه (لي وحدي) إذا كنت أبيح الناس ما في صدري وأشركهم في أمري؟. . ولست أستثقل أو أستسخف شيئاً كقول

ص: 14

الشاعر - وأظنه أبا فراس -

فيا حسرتا! من لي بخل موافق

أقول بشجوي مرة ويقول

فان هذا ضعف وحماقة. والقول بالشجو يفضح ولا يجدي؛ وإذا كان في البث ترفيه، فان الانتصار على النفس أجل وأكرم وأكبر متعة أيضاً؛ والبث ثرثرة تليق بالمرأة ولا تليق بالرجل. وماذا ينفعك أن يعرف صاحبك أنك تحب أو تكره، أو أنك غاضب ساخط أو راض مغتبط؟. . . ماذا يستطيع أن يصنع لك؟. لا شئ!. وأجدى من ذلك عليك أن تعالج أنت نفسك وأن تردها على مكروهها - إذا احتاج الأمر - وأن تحتفظ باعتدال المزاج وهدوء التفكير واستقامة النظر ودقة الوزن وحسن التقدير. ومن كان لا يملك نفسه فأحر به ألا يملك غيره. والحب حرب بينك وبين المرأة، فاحرص على أن يبقى زمامك في يدك وإلا ركبت منك جواداً مسرجاً ملجماً تركضه حيث تشاء هي وحدها. وليس أطغى من المرأة إذا صار في يدها زمام الرجل.

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 15

‌تراثنا العربي القديم ما يجب لتنظيم إحيائه

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كان تراث العربية حتى أوائل القرن الماضي لا يزال مغموراً محجوباً في ظلمات المكتبات والمجموعات الخاصة؛ وكانت المطابع قد ظهرت في أوربا منذ أواخر القرن الخامس عشر، وطبعت في رومه بعد ذلك بنحو قرن بعض الكتب والوثائق العربية، منها: مختصر كتاب (نزهة المشتاق) للشريف الإدريسي (سنة 1598)؛ وفي القرن السابع عشر طبعت في مدينة لندن التي ما زالت منذ أربعة قرون مركزاً هاماً لنشر الآثار العربية، عدة مراجع عربية تاريخية، منها:(تاريخ المسلمين) لابن العميد (المكين)(1625)، وكتاب (عجائب المقدور في أخبار تيمور)، لابن عربشاه (سنة 1636)، وكتاب مختصر تاريخ الدول لابن العبري (1663)، وظهرت هذه الكتب بالعربية لأول مرة مقرونة بتراجم لاتينية كانت منذ ظهورها مستقى خصباً لمؤرخي الغرب

ولم يظهر في أوربا حتى أوائل القرن التاسع عشر من الكتب العربية سوى طائفة قليلة من الكتب قد لا تعدو عشرات؛ وإلى أواخر القرن الثامن عشر لم تكن مصر قد عرفت المطبعة العربية؛ وقد عرفتها لأول مرة في سنة 1798، حينما وفد نابليون على رأس حملته الفرنسية، وحمل معه مطبعة عربية كاملة استعلمت بالقاهرة لطبع البيانات والأوامر التي كانت تصدرها القيادة العليا ويصدرها الديوان الفرنسي لأهل مصر؛ وكان في مقدمة الكتب التي أصدرتها هذه المطبعة كتاب عن محاكمة سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر يضم خلاصة التحقيقات والإجراءات بالعربية والتركية والفرنسية، وذلك سنة 1800

ولما بدأ محمد علي في تنفيذ برنامجه الإصلاحي لم تفته هذه الناحية الهامة من تعضيد الحركة الفكرية والثقافية، فأنشأ في سنة 1821 مطبعة بولاق الأميرية، وعني بإعدادها وتجهيزها عناية عظيمة، فكانت أول وأعظم صرح للطباعة العربية في الشرق؛ ولم تقتصر مطبعة بولاق على إخراج الجريدة الرسمية (الوقائع) التي أنشئت بعد ذلك ببضعة أعوام، وإخراج الوثائق والمنشورات الرسمية، بل أعدت منذ إنشائها لإخراج الكتب العربية، فطبعت فيها لأول عهدها عدة من الكتب التي ترجمها بعض أعضاء البعثات العلمية في مختلف العلوم والفنون التي درسوها، فكانت باكورة أعالها في نشر الكتب

ص: 16

العربية

على أن مطبعة بولاق لم تقف عند هذا الحد المتواضع في إخراج الكتب العربية؛ وكانت المطابع العربية الأوربية، ولا سيما في ليدن وباريس، قد نشطت منذ أوائل القرن التاسع عشر لإخراج طائفة كبيرة من الآثار العربية النفيسة على يد جماعة من أعلام المستشرقين، فاتجهت الأنظار في مصر إلى العناية بهذه المهمة؛ ونشطت مطبعة بولاق إلى إحياء التراث الإسلامي بهمة فائقة؛ وعكفت طوال القرن التاسع عشر على نشر الموسوعات والآثار العربية الجليلة، وأسدت في ذلك أعظم الخدمات للآداب العربية والثقافة الإسلامية؛ ونظرة واحدة إلى ثبت الآثار الحافلة التي أصدرتها مطبعة بولاق تدل على فداحة المهمة التي اضطلعت بها، وإلى مدى التوفيق الباهر الذي حققته في إنجازها

وإلى جانب مطبعة بولاق، قامت مطابع أهلية كثيرة، ونشطت أيضاً إلى إخراج الكتب العربية؛ وقد كان ميداناً جديداً يغرى بالكسب، فأقبل الكثيرون على استثماره؛ وأخرجت هذه المطابع الأهلية، إلى جانب بولاق، مئات من الكتب والآثار العربية الضخمة في كل أنواع العلوم والفنون، وأعادت طبع كثير مما نشرته بولاق في طبعات رخيصة يسهل اقتناؤها، وساهمت بذلك مساهمة قيمة في إحياء الآداب العربية ونشرها

وهذا ما نريد أن نعرض إليه في هذا المقال؛ فقد انقطعت مطبعة بولاق منذ أوائل هذا القرن عن نشر الآثار العربية القديمة، وحلت محلها في ذلك دار الكتب المصرية؛ ولكن دار الكتب تقوم في هذا السبيل بمجهود بطئ جداً، أما المطابع ودور النشر الأهلية فما زالت على نشاطها القديم في إخراج الموسوعات والآثار العربية، ومنها كثير لم ينشر من قبل؛ ومن المحقق أنها ما زالت تؤدى بذلك خدمات قيمة لإحياء الآداب العربية

ولكن هذا النشاط إذا لم كان يحمد من بعض الوجوه، فانه يثير اليوم كثيراً من وجوه الاعتراض والمؤاخذة، وإذا كان قد ترك في الماضي حراً طليقاً من كل قيد؛ فإن الظروف تقضى اليوم بضبطه وتنظيمه وتوجيهه بطريقة تحقق الغاية منه

بدأ هذا النشاط في أواخر القرن الماضي، والحركة الأدبية والثقافية في مستهل نهضتها، فكان هذا النشاط في بعث الكتب العربية وإحيائها بالنشر والتداول من عوامل تعضيدها وتغذيتها، ولم يكن من المستحسن يومئذ أن يعرض هذا النشاط لشيء من القيود التي يمكن

ص: 17

أن تؤثر في سيره ونمائه، وذلك رغم ما كان يعتوره من اوجه النقص سواء في اختيار الكتب التي يراد نشرها، أو في الصور المزرية التي كانت تنشر بها؛ ورق اصفر رديء، وطباعة حقيرة، وأخطاء علمية ومطبعية لا حصر لها

أما ألان فقد تغيرت الظروف تغيراً واضحاً، وازدهرت الحركة الفكرية ازدهاراً عظيماً، وظفرت بمصر بطائفة كبيرة من المعاهد والمنشآت العلمية الراقية، وغصت بالشباب المتعلم، وأضحى مما لا يلائم ذوق العصر وأحواله، بل مما يضر بسير الحركة الفكرية ذاتها، أن يترك أمر نشر تراثنا العربي القديم فوضى دون ضابط ودون إشراف

فهناك موسوعات وآثار قيمة سبق نشرها في طبعات جيدة وأضحت نادرة لقدم عهدها، وهناك بدار الكتب المصرية مئات الآثار المخطوطة التي لم تنشر من قبل؛ وهذه جميعاً يقوم على نسخها ونشرها جماعة من الناشرين المحترفين العاطلين من كل مؤهلات علمية أو أدبية، والذين لا هم لهم سوى الكسب الوفير، فيخرجونها في نفس الأثواب والصور المزرية التي ألفناها منذ القرن الماضي، ويتقاضون فيها أثماناً فاحشة لا مبرر لها، منتهزين فرصة ندرتها إن كانت مما نشر، أو ظهورها لأول مرة إن كانت مما لم ينشر من قبل

وقد اتسع نطاق هذه الحركة في العهد الأخير اتساعا واضحاً؛ وألفى الناشرون المحترفون فبها سوقاً رابحة؛ فكثر تهجمهم على الآثار النفيسة مخطوطة وغير مخطوطة؛ وأخذوا ينشرونها في استهتار وجرأة، ممسوخة مشوهة، مشحونة بالأخطاء الشائنة لا يتكلفون في إخراجها سوى الطباعة الرديئة؛ ثم يبيعونها بأثمان فاحشة، كأنهم هم الذين ألفوها وأجهدوا أنفسهم في وضعها وكتابتها

ولا يخفي ما لهذا النشر المشوه لآثارنا القديمة من نتائج سيئة، فهو يخلو من كل ضمانة أو غاية علمية أو أدبية، ولا تحدوه سوى روح الكسب المجرد؛ ومن ثم كانت الصور المثيرة المزرية التي تصدر بها أجل آثارنا الأدبية، والتي كثيراً ما تصد الشباب المتعلم عن تناولها؛ وهو من جهة أخرى عامل كبير في إحجام علمائنا وأدبائنا عن المساهمة في هذا المجهود مع رغبة الكثيرين منهم في القيام على نشر بعض الآثار القديمة التي توفروا على دراستها وتحقيقها؛ ذلك لأن جهودهم العلمية الغالية، وحرصهم على نشر هذه الآثار في أثواب مقبولة لائقة، وما ينفقونه في هذا السبيل من الجهد والمال؛ كل ذلك يقعد بهم عن

ص: 18

مجاراة هذا النشاط التجاري المحض، العاري عن كل درس وتحقيق

ونحن نعرف ما يتكبده العلماء المستشرقون من الجهود الفادحة في إخراج آثارنا القديمة، والتوفر على دراستها وتحقيقها والتعليق عليها بدقة تثير الإعجاب، وإخراجها دائما في أثواب أنيقة محترمة

ولهذا كله نرى أن الوقت قد حان لتعنى السلطات المختصة بالعمل على مراقبة حركة إحياء الآثار العربية القديمة، وتوجيهها وتنظيمها تنظيما يتفق مع ما لتراثنا القديم من كرامة علمية، ويلائم في نفس الوقت حاجات العصر وذوقه وروحه. ويلوح لنا أن دار الكتب المصرية، وهى وريثة بولاق في الاضطلاع بإحياء الآداب العربية، هي أول سلطة أدبية يمكن أن تضطلع بمثل هذا الإشراف العلمي. ذلك أنها هي مستودع تلك الآثار الجليلة المخطوطة التي ترنو إليها أنظار الناشرين المحترفين من كل صوب، فيقبلون عليها بالنسخ المحرف، والنشر المشوه، لا يتكلفون في ذلك شيئا، ولا يصدهم قيد أو إشراف؛ وقد تكون هذه الآثار مما حصلت دار الكتب من الخارج بالتصوير، وأنفقت في سبيله كثيرا من الجهد والمال

ونحن لا نطلب أن تقوم دار الكتب بمنع النسخ والنشر؛ ولكننا نطلب إليها فقط أن تقوم بالإشراف عليها أشرافا فعلياً، وأن تضع لذلك نظاماً يكفل تحققها من وجود بعض الضمانات العلمية والمالية في الناشرين أنفسهم، فإذا لم تتوفر الضمانات العلمية - وهى غالباً غير متوفرة - اشترط أن يقوم بالإشراف على النشر شخص تتوفر فيه مثل هذه الضمانات. ويجب أن تمتد هذه الرقابة حتى صدور الكتاب، وأن يراعى صدوره في ثوب لائق، وأن يحدد ثمنه بعد صدوره بنسبة معقولة من تكاليفه؛ ويصح أن تتولى دار الكتب الإشراف العلي على الكتاب ذاته لقاء أجر معين، ويصح لها أن ترفض التصريح بالنسخ والنشر إذا لم تتوفر مثل هذه الضمانات؛ ويجب على أي حال أن يشمل هذا الإشراف كل أثر مخطوط ينشر في مصر، سواء استنسخ من دار الكتب ذاتها، أو من أي مكتبة أخرى عامة أو خاصة، في الداخل أو الخارج، لأن الغرض هو الإشراف العلمي على حركة إحياء الآداب العربية في مصر، ويجب أن يكون هذا الإشراف كاملاً شاملاً

ويمكن من جهة أخرى أن تتعاون المعاهد العلمية مع دار الكتب في هذه المهمة، فتشترك

ص: 19

الجامعة المصرية والأزهر في تنظيم هذا الإشراف

هذا ولا بأس أن تفرض الحكومة ضريبة معينة على نسخ الكتب المخطوطة التي لم تنشر من قبل، وعلى نشرها إذا كان النشر لغاية تجارية؛ وتقدر هذه الضريبة بحسب حجم الكتاب أو أهميته؛ ويعفى العلماء من أدائها في جميع الأحوال؛ ويرصد دخلها لتوسيع حركة إحياء الآداب العربية التي تقوم بها دار الكتب

إن الحق في نشر آثارنا القديمة ملك للدولة، وهي الأمينة عليها؛ وإذا كان مما يرغب فيه دائما أن يشجع الإقدام على نشر هذه الآثار، فان مما يرغب فيه أيضاً ألا يكون هذا النشر بضاعة مبتذلة يستثمرها الجهلاء لغايات تجارة محضة، وألا يحاط بكل الضمانات المعقولة التي تكفل تحقيقه على الوجه اللائق المرضى

هذه ملاحظات واعتبارات حان الوقت لبحثها، وقد أصبح من واجب السلطات المختصة أن تنشط لحماية تراثنا الأدبي من تلك الفوضى المثيرة، وأن تعمل لصونه من ذلك الابتذال الشائن، وأن تقوم أخيراً على تنظيم نشره، وتوجيهه بطرق موقرة مستنيرة

محمد عبد الله عنان

ص: 20

‌من مسرات الحياة

للأستاذ عبد الرحمن شكري

قال ابن خفاجة الأندلسي الشاعر:

وشأن مثلي أن يُرَى خالياً

بنفسه يبحث عن نفسه

وكنت كلما قرأت هذا البيت أعجب كيف لم ينظم قائله شعراً كثيراً في بحث ميول النفس وأحاسيسها وتعليلها وتحليلها، وقد ذكر في بيته هذا أن من شأنه أن يخلو بنفسه يبحث عن نفسه. ومن كان هذا شأنه فَحَص النفس الإنسانية على اختلاف تربتها، وهذا عمل العمر وأكثر من العمر؛ وهو أيضاً لذة متجددة، وإن أدى البحث إلى ما يؤدي إليه بحث قاع الجب أو قاع البحر وما فيه من در ولؤلؤ ومرجان وغابات بحرية وأعشاب وأحياء تقتتل ويفنى بعضها في بعض ووحوش بحرية غريبة مجهولة، وجيف ورمم، وكنوز ثمينة في بقايا السفن الغائرة؛ فهكذا قاع النفس أيضاً لدى من يسبر غورها ويغوص في أعماقها. وسطح النفس أيضاً مثل سطح البحر، لج وخرير، وشمس تتلألأ أشعتها، ونسيم عليل، ومنظر بهيج هادئ، أو عواصف وأعاصير، ومرأى رائع جليل. وإذا كانت بعض مظاهر النفس تبعث الرهبة، فان بعض بواطنها أدعى إلى الرهبة، ولكن من الرهبة ما يستصحب المسرة، كالرهبة التي يحسها المرء وهو يستطلع الأمر الغريب الرائع المخوف المجهول؛ ومن أجل ما تستصحب من المسرة نشأ حب الاستطلاع لما يستدعي المخاطرة من مستطلعه

ولعل ابن خفاجة في بحثه النفس كان ينظر إليها نظرة المستريح في ظل الشجرة يفكر فيما حوله وكأنه لا يفكر، فان في مثل حالة هذا المستريح تفكيراً كلا تفكير، وبحثاً كلا بحث، فهو تفكير يقنع فيه المرفه نفسه بالنظر إلى المرئيات وألوانها وأجزائها من غير أن يعني نفسه بالبحث عن سرها خشية أن تضيع لذة الراحة والدعة؛ فشأنه شأن المسحور لا حراك له، وفكره أيضاً لا حراك له، ويخيل إليه في مثل هذه الحال كأن الدهر قد أوقف دورته واستراح، وكأنما يخشى أن يفك عنه الحراك سحر التأمل ولذته المطلقة التي لا تتقيد بتقصي الأسرار والمسببات، ولا هي مثل لذة المخاطر الذي يرى في مشقة استطلاع الغريب المخوف مسرة كما أوضحنا

ص: 21

على أن من الميسور أن ندرك ابن خفاجة في حالة أخرى من حالات بحث النفس، وهى الحالة التي يغوص المفكر على العويص الغائر من أسرارها، ويحس لذة في غوصه تملأ جوانب نفسه حتى تشغله عن لذة التعبير عما يراه في بحثه تعبيراً فنياً، فأني لا أحسب ابن خفاجة رأى أن تتبع حركات النفس وخطراتها وأحاسيسها في شعره غير لائق بشعره إذ أي شئ ألصق بالقريض من النفس وأحوالها وميولها وخطراتها، فالشعر هو لغة النفس وموسيقاها، ومقر كنوزها وحكمتها وأسرارها

ولكن للبحث في النفس مسرات مختلفة، قد تفترق وقد يتصل بعضها وينال في وقت واحد، فمسرة فيما يجلبه التعبير الفني عن أحاسيس النفس من ارتياح الفنان الصانع في صنعه، ومسرة أخرى فيما تجلبه مشاهدة أطوار النفس والتأمل في أحوالها من الارتياح كارتياح مشاهد القصة التمثيلية في تتبع روعة فن القصة كما يبرزه الممثل

وهذا الارتياح غير ارتياح المسحور المأخوذ بما يره من المنظر الطبيعي أو الصورة الفنية النادرة، وارتياح المسحور هذا هو أيضاً مسرة أخرى في التأمل في النفس البشرية

ولكل مسرة من هذه المسرات الثلاث قيمة في الحياة، وكل منها تعين المرء على تحمل متاعب الحياة وآلامها، بل إنها لتعين اليائس بما فيها من لذة فن البحث والتقصي على تحمل ما يحس من يأس من النفس البشرية إذا لم يستطع غير اليأس منها. وكل إنسان له نصيب من هذه المسرات الثلاث، فكل فنان، وكل إنسان يعبر عما يراه في أعماق النفس تعبيراً فنياً، إما في ثنايا ما يسلي به نفسه في خلوته من الأغاني والأناشيد، وإما فيما يفوه به من الأمثال العامية أو غير العامية، وإما في آهاته وأناته وأمانيه، وإما في ثنايا قصصه ونكاته وفكاهاته، وفي مجالسه ومباذله، وفيما يقول في سخطه وحزنه وسروره، أو في نثره وشعره إن كان ناثراً أو شاعراً، أو في أدوات الفنون الأخرى من نحت أو تصوير أو موسيقى

وكما أن كل إنسان ينال نصيباً من لذة الفنان المعبر عن النفس تعبيراً فنياً، فكل إنسان ينال أيضاً نصيباً من مسرة المشاهد لقصة الحياة والنفس التي تمثل أمامه، وكل نفس تحاول أن تحول كل ما يمر بها من الحوادث إلى قصة وفن وإن لم يفطن أكثر الناس إلى هذه المحاولة في أنفسهم. وكلما اضطر الإنسان إلى الخروج عن نشوة المتأمل المشاهد لفن

ص: 22

قصة الحياة والنزول إلى ميدان الألم الممض والأحزان، أدى واجبه من ألم الحياة وأحزانها مما لا مفر منه، ورجع بأسرع ما يستطيع إلى موقف المعبر عن الحياة والنفس، أو إلى موقف المشاهد لقصتها، حتى إنه ليحول أو يحاول أن يحول آلامه وأحزانه إلى قصة وفن وأن لم يشعر بتلك المحاولة من نفسه، لأنها في كثير من الأحوال محاولة طبيعية لا تعتمد فيها ولا تصنع، وإن كانت أحياناً تستلزم عملاً ظاهراً يلفت المرء إلى مجراها من نفسه كما يكون شأنها عند الفنانين

وإذا لم يستطع المرء أن يسرع في التنقل من موقف المؤدي واجبه المفروض من آلام الحياة وأحزانها إلى مواقفه الأخرى التي ذكرت حاول أن يجمع بين الأمرين في وقت واحد بأن يقف من آلامه التي يعانيها موقف الممثل من آلام الشخص الذي يمثله في القصة، فيجمع وقتئذ في نفسه نفسين، كما يجمع الممثل بين نفسه ونفس من يمثل، سواء أكان هامليت أو الملك لير أو عطيل الخ

وترى المرء وهو في هذه الحال وفي دموع حزنه معنى آخر مع ما فيها من الحزن والأم

وإذا لم تستطع النفس أن تقف موقف الممثل من آلامها وشجونها التجأت إلى موقف المسحور المأخوذ بصور الحياة ومناظر النفس سواء أكانت بهجة أو غير بهجة، وُقل إنها تسحر بها في بعض الحالات كما تسحر بمناظر الجلال والروعة من مناظر الطبيعة الهائلة. وهذا أيضاً تحول من النفس والتجاء طبيعي لا تعمد فيه فهو قلما يحس، وكلما كان نصيب المرء أوفر من ملكات التحول والالتجاء، أو قل التهرب والنجاة من حوادث الحياة، كانت سيطرته على آلام الحياة أعظم، لأن هذا التحول إنما هو وسيلة من وسائل مكافحة آلام الحياة لا يحتاج المرء إليها إلا بعد الوسائل الأخرى

ومن المشاهد أن النفوس عند وقوفها موقف الممثل من آلامها وحوادث أيامها تختلف في منحاها، فنفوس يكون موقفها أشبه بموقف ممثل الجد، ونفوس موقفها أشبه بموقف ممثل الهزل، والأولى قلما يفطن الناس إلى موقفها التمثيلي، والثانية قد يفطن الناس إلى موقفها التمثيلي لبعد ما بين حقيقة حالها وهزلها. ولعل فطنة الناس إلى موقفها التمثيلي تكون في الحالتين بمقدار قلة إتقانها لدورها أكثر مما يكون لميل موقفها إلى الجد أو الهزل؛ والمرء في هذا الموقف النفساني التمثيلي هو باحث متفهم لدوره دارس له كنا يتفهم الممثل دوره و

ص: 23

يدرسه حتى ولو كان ممن يجيدون التمثيل بالسليقة من غير طول عناء في التفهم والدرس؛ ومسرته إذن متصلة بمسرات البحث في النفس والحياة

ولعل قائلاً يقول إن بحث النفس بحث معاد مملول يجلب السأم، وإن النفس كالتاريخ الذي يعيد نفسه؛ لكن النفس إذا أعادت تاريخاً من تواريخها لم تعده بالنص، وقد يأتي التاريخ مع الأسباب والمسببات القديمة بحوادث جديدة تستدعى التأمل وربط المسببات بالأسباب، وهذا ليس بالأمر الهين ولا هو بالأمر المعاد المملول، ثم إن تحت ما هو معاد مملول من أطوار النفس وأسبابها أسباباً أخرى لا يصل إليها التقصي، وأعماقاً يعجز الغائص عن سبر غورها وفيها مجال واسع لحب الاستطلاع الغريب حتى يأتي الموت فيسدل ستاره على لعب الحياة القدس إلا إذا مل المرء البحث من اليأس والعجز عن بلوغ غور النفس لا من العرفان

والإنسان في رحلة الحياة كالمسافر الجواب للأقطار؛ وترى بين ذوي الأسفار من يتعجب من كل أمر، ومن يضحك من كل شيء؛ ومنهم من يتأفف من كل أمر، ومن يسخر من كل شيء؛ ومنهم من يتحمل أشد مشقة من شغفه باستطلاع الغريب أثناء أسفاره. والناس أيضاً في رحلة الحياة الدنيا يختلفون في أهوائهم؛ ومنهم من يتحمل أيضاً أشد مشقة وأمض ألم من شغفه باستطلاع الغريب مما تأتي به الأيام والليالي أو ما يراه في بحث النفوس البشرية. ومن ذوى الأسفار في أقطار الأرض من يحكم على قوم بحالة واحدة رآها في احدهم، شأنه شأن الإنسان في رحلة الحياة الدنيا يحكم على النفوس بحالة واحدة يحولها إلى قاعدة ونظرية عامة. وذوو الأسفار في الأقطار كالإنسان في رحلة الحياة قد يتعجب ويستغرب الطبيعي المألوف من عادات الناس أو أحوال نفوسهم وأخلاقهم لأن الإنسان ذو خيال يتوقع به أن يرى الناس على ما يود من أخلاقهم وعاداتهم وعلى ما يسره ويرضيه وينفعه منها، فإذا اطلع على المألوف مما لا يود منها فاجأه مفاجأة غير المألوف، وهذا من أثر أنانيته التي تغالط نفسه مغالطات مختلفة، فمرة تغالطه حتى يتوقع من أخلاق الناس الحسن النافع له، ومرة تغالطه حتى يتوقع السيئ الذي يتباهى بالخلو منه، وقد لا يكون ذلك الحسن ولا ذلك السيئ من خصال أو عادات الذين ينعتهم، ولكنه يرجو النفع لنفسه في الحالين إما بتوقع الحسن منهم كي يستفيد، وإما بتوقع السيئ كي يعلو بمنزلة نفسه عنهم،

ص: 24

فليس كل بحث في النفس مصيباً، فالناس في بحث النفوس كالعميان في القصة وقد تلمسوا الفيل من نواح وأطراف مختلفة، فقال أحدهم وقد لمس ساقه إن الفيل كالدعامة المستديرة؛ وقال آخر وقد لمس سنه إنه كالعصا الغليظة؛ وقال ثالث وقد لمس أذنه إنه كالمروحة؛ وأدى بهم الغيظ والغضب لما حسبوه حقاً إلى التقاتل كما يتقاتل الناس غضباً لما يحسبونه حقاً في الحياة. ولعل لذة المفاجأة المتجددة والتي تنفي الملل عن الإنسان تعوضه من ألم الحسرة، على أن الحياة والنفوس لا تأتى له بكل ما يرتضى ويشاء

عبد الرحمن شكري

ص: 25

‌أعلام الإسلام

سَعيد بنُ المسَيّب

بقلم السيد ناجي الطنطاوي

اسمه ونسبه ومولده

هو أبو محمد، سعيد بن المسيّب بن حزْن أبى وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب القرشيّ المخزوميّ التابعيّ المدنيّ

وأبوه المسيّب وجده حزْن صحابيان أسلما يوم فتح مكة. والمسيّب بفتح الياء وكسرها، والفتح هو المشهور، ومذهب أهل المدينة الكسر. وقد روى عنه أنه كان يقول بكسرها ويقول: سيّب الله من يسيّب أبي

وأمه أم سعيد بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السُّلمي. وحدث سعيد بن المسيب أن جده حزناً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما أسمك؟ قال: أنا حزن، قال: بل أنت سهل. قال: يا رسول الله؛ اسم سماني به أبواي فعرفت به في الناس. قال: فسكت عنه النبي عليه السلام. وكان سعيد بن المسيّب يقول: مازلنا نعرف الحزونة فينا أهل البيت

أما تاريخ ولادته فقد اختلف فيه المؤرخون، وتنحصر رواياتهم بين سنة 13 هجرية (بعد استخلاف عمر بن الخطاب بسنتين) وسنة 21 هجرية (قبل موت عمر بسنتين)، والمرجح أنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، أي سنة 13 هجرية لأن أكثر الروايات تؤيدها ويؤيدها قوله: ولدت لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب.

واختلف المؤرخون أيضاً في إدراكه عمر، فقد روى ابن سعد عن سعيد أنه قال: سمعت من عمر كلمة ما أبقى أحد حي سمعها غيري: كان عمر حين رأى الكعبة قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام.

وعنه أيضاً أنه قال: سمعت عمر بن الخطاب على هذا المنبر يقول: عسى أن يكون بعدى أقوام يكذبون بالرجم. يقولون لا نجده في كتاب الله، لولا أن أزيد في كتاب الله ما ليس فيه، لكتبت أنه حق، قد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم أبو بكر ورَجمت. أما بكثْير بن الأشج فيروي أن سعيد بن المسيّب سئل هل أدركت عمر فقال؟ لا.

ص: 26

ويقول الإمام مالك: لم يدرك عمر، ولكن لما كبر أكب على المسألة عن شأنه وأمره. ويقول ابن معين: رأى سعيد عمر وكان صغيراً ابن ثماني سنين، وهل يحفظ ابن ثماني سنين شيئاً؟

شيوخه وتلاميذه

أخذ سعيد بن المسيّب علمه عن أبى هريرة - وكان زوج ابنته - وجل روايته المسندة عنه. وسمع من عمر وعثمان وعلى. وسمع من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم: عائشة وأم سلمة. وكان يقال: ابن المسيّب رواية عمر، قال الليث: لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته، وروي عن أبى ذر، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، ومعاوية، وسعد بن وقاص، وخولة بنت حكيم، وغيرهم.

وروى عنه جماعة من أعلام التابعين منهم عمر بن عبد العزيز ومحمد بن شهاب الزهري، وعمرو بن دينار، وقتادة، وابنه محمد، وأبو الزناد، وعطاء بن أبى رباح، ومحمد الباقر، ويحي بن سعيد الأنصاري، وغيرهم كثير.

علمه وأقوال العلماء فيه

قال سعيد: ما بقى أحد أعلم بكل قضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر مني. (قال الراوي إبراهيم ابن سعد عن أبيه) وأحسبه قال وعثمان ومعاوية.

وقال يزيد بن مالك: كنت عند سعيد فحدثني بحديث فقلت له: من حدثك بهذا؟ فقال يا أخا أهل الشام خذ ولا تسأل فأنا لا نأخذ إلا عن الثقات.

وقال مالك: بلغني أن سعيد بن المسيّب قال: إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد

وقال قدامة بن موسى الجمحي: كان سعيد بن المسيّب يفتي وأصحاب رسول الله صلى الله عليه أحياء

وقالوا: كان سعيد جامعاً، ثقة، كثير الحديث، ثبتاً، فقيهاً، مفتياً، مأموناً، ورعاً، عالياً، رفيعاً

وقال محمد بن يحيى بن حبّان: كان رأس من بالمدينة في دهره، المقدّم عليهم في الفتوى سعيد بن المسيّب، وكان يقال: هو فقيه الفقهاء

ص: 27

وقال مكحول: سعيد بن المسيّب عالم العلماء. وقال أيضاً:

ما حدثتكم به فهو عن سعيد بن المسيّب والشّعبي

وعن ابن أبي الحويرث أنه شهد محمد بن جبير يستفتي سعيد ابن المسيّب

وقال علىّ بن الحسين: سعيد بن المسيّب أعلم الناس بما تقدّمه من الآثار وأثقفهم في زمانه

وقال ميمون بن مهران: أتيت المدينة فسألت عن أفقه أهلها فدفعت إلى سعيد بن المسيّب فسألته

وقال شهاب بن عنّاد: حججت، فأتينا المدينة فسألنا عن أعلم أهلها، فقالوا سعيد بن المسيّب

وكان عبد الله بن عمر إذا سئل عن الشيء يشكل عليه قال: سلوا سعيد بن المسيّب فانه قد جالس الصالحين

وقال يحيى بن سعيد: أدركت الناس يهابون الكتب، ولو كنا نكتب يومئذ لكتبنا من علم سعيد ورأيه شيئاً كثيراً

وقال قتادة: ما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه، وقال أبو حاتم: هو أثبت التابعين في أبى هريرة

وقال الزهري: العلماء أربعة: ابن المسيّب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام

وقال القاسم بن محمد: هو سيدنا وأعلمنا، وقال ابن عمر: هو والله أحد التقنين، وقال ابن شهاب: قال لي عبد الله بن ثعلبة ابن أبى صعيران: كنت تريد هذا، يعنى الفقه، فعليك بهذا الشيخ سعيد بن المسيّب

وقال مكحول: طفت الأرض كلها في طلب العلم، فما لقيت أعلم منه. وقال سليمان بن موسى: كان أفقه التابعين

وقال يحيى بن معين: مرسلات بن المسيّب أحب إليّ من مرسلات الحسن

وقال أبو طالب: قلت لأحمد بن حنبل: سعيد بن المسيّب؟ فقال: ومن مثل سعيد؟ ثقة من أهل الخير. فقلت له: سعيد عن عمر حجة؟ قال: هو عندنا حجة، قد رأى عمر وسمع منه، وإذا لم يقبل سعيد عن عمر، فمن يقبل؟

وقال أحمد: مرسلات سعيد صحاح، لا نرى أصح من مرسلاته. وقال ابن المديني: لا أعلم

ص: 28

في التابعين أوسع علماً من سعيد ابن المسيّب

قال: وإذا قال سعيد مضت السنة فحسبك به، قال هو عندي أجل التابعين

وقال الشافعي: إرسال بن المسيّب عندنا حسن

وقال مالك: بلغني أن عبد الله بن عمر، كان يرسل إلى ابن المسيّب، يسأله عن بعض شأن عمر وأمره

وقال قتادة: كان الحسن إذا أشكل عليه شئ كتب إلى سعيد بن المسيّب

وقال العجلي: كان رجلاً صالحاً فقيهاً

وقال أبو زرعة: مدني قرشي ثقة إمام

وقال ابن حبان في الثقات: كان من سادات التابعين فقهاً وديناً وورعاً وعبادة وفضلاً، وكان أفقه أهل الحجاز

وقال الجاحظ: كان أبو بكر رضى الله عنه أنسب هذه الأمة، ثم عمر، ثم جبير بن مطعم، ثم سعيد بن المسيّب، ثم محمد بن سعيد ابن المسيّب.

منزلة عند الخلفاء والولاة

قال مالك بن أنس: كان عمر بن عبد العزيز لا يقضى بقضاء حتى يسأل سعيد بن المسيب، فأرسل إليه أنساناً يسأله، فدعاه فجاء، فقال عمر: أخطأ الرسول، إنما أرسلناه يسألك في مجلسك وقال أيضاً: كان عمر بن عبد العزيز يقول: ما كان بالمدينة عالم إلا يأتيني بعلمه. وأوتي بما عند سعيد بن المسيّب.

تعبيره الرؤيا

قال محمد بن عمر: كان سعيد بن المسيّب من أعبر الناس للرؤيا، وكان أخذ ذلك عن أسماء بنت أبى بكر، وأخذت أسماء عن أبيها

وقال عمر بن حبيب بن قليع: كنت جالساً عند سعيد بن المسيّب يوماً، وقد ضاقت علىّ الأشياء ورهقني دين، فجلست إلى ابن المسيّب ما أدرى أين أذهب، فجاءه رجل فقال: يا أبا محمد إني رأيت رؤيا. قال مل هي؟ قال: رأيت كأني أخذت عبد الملك بن مروان، فأضجعته إلى الأرض، ثم بطحته فأوتدت في ظهره أربعة أوتاد. قال: ما أنت رأيتها. قال:

ص: 29

بلى أنا رأيتها. قال: لا أخبرك أو تخبرني. قال: ابن الزبير رآها وهو بعثني إليك. قال: لئن صدقت رؤياه قتله عبد الملك بن مروان، وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة. قال: فدخلت إلى عبد الملك بن مروان بالشام فأخبرته بذلك عن سعيد بن المسيّب فسرّه، وسألني عن سعيد وعن حاله فأخبرته، وأمر لي بقضاء ديني وأصبت منه خيراً

وقال رجل: رأيت كأنّ عبد الملك بن مروان يبول في قبلة مسجد النبي أربع مرار، فذكرت ذلك لسعيد بن المسيّب، فقال: إن صدقت رؤياك قام من صلبه أربعة خلفاء.

وقال شريك بن أبى نمر: قلت لابن المسيّب رأيت في النوم كأن أسناني سقطت في يدي ثم دفنتها. فقال ابن المسيّب: إن صدقت رؤياك، دفنت أسنانك من أهل بيتك.

وقال رجل لابن المسيّب: إنني أبول في يدي. فقال اتق الله، فان تحتك ذات محرم، فنظر فإذا امرأة بينها وبينه رضاع وجاءه آخر فقال: يا أبا محمد إني أرى كأني أبول في أصل زيتونه. قال: انظر من تحتك، تحتك ذات محرم، فنظر فإذا امرأة لا يحل له نكاحها.

وقال له رجل: إني رأيت حمامة وقعت على المنارة، منارة المسجد، فقال: اذبح اذبح. فقال: ذبحت. قال: مات ابن أمّ صلاء، فما برح حتى جاءه الخبر أنه مات.

وقال رجل من فهْم لابن المسيّب إنه يرى في النوم كأنه يخوض النار، فقال: إن صدقت رؤياك لا تموت حتى تركب البحر، وتموت قتلاً. فركب البحر فأشفى على الهلكة، وقتل يوم قُدَ يد بالسيف.

وقال الحصين بن عبيد الله بن نوفل: طلبت الولد فلم يولد لي، فقلت لابن المسيّب: إني أرى أنه طرح في حجري بيض. فقال ابن المسيّب: الدجاج اعجمى، فاطلب سبباً إلى العجم. قال: فتسرّيت فولد لي، وكان لا يولد لي.

وكان سعيد بن المسيّب يقول للرجل إذا رأى الرؤيا وقصها عليه: خيراً رأيت. وقال ابن المسيّب: التمر في النوم رزق على كل حال، والرطب في زمانه رزق.

وقال أيضاً: آخر الرؤيا أربعون سنة، يعنى في تأويلها

وقال أيضاً: الكبل في النوم ثبات في الدين.

وقال له رجل: يا أبا محمد، إني رأيت كأني جالس في الظلّ فقمت إلى الشمس. فقال ابن المسيّب: والله لئن صدقت رؤياك لتخرجنّ من الإسلام. فقال: يا أبا محمد، إني أرني

ص: 30

أخرجت حتى أدخلت الشمس فخسلت، فقال: تكره على الكفر. قال: فخرج في زمان عبد الملك بن مروان فأسر فأكره على الكفر، ثم قدم المدينة، وكان يخبر بهذا

(يتبع)

ناجي الطنطاوي

ص: 31

‌ضوء جديد على ناحية من الأدب العربي

اشتغال العرب بالأدب المقارن أو ما يدعوه الفرجنة

في كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر

لفيلسوف العرب أبى الوليد بن رشد

(تابع المنشور في العدد الماضي)

تلخيص وتحليل

للأستاذ خليل هنداوي

ومنه قول المتنبي:

عدوك مذموم بكل لسان

ولو كان من أعدائك القمران

لو الفلك الدوار أبغضتَ سيرَه

لعوّقه شيء عن الدوران

وهذا كثير موجود في أشعار العرب، ولا نجد في الكتاب العزيز منه شيئاً، إذ كان يتنزل من هذا الجنس من القول، أعني الشعر، منزلة الكلام السوفسطائي من البرهان؛ ولكن قد يوجد للمطبوع من الشعراء منه شيء محمود كقول المتنبي:

وأنى اهتدى هذا الرسولُ بأرضه

وما سكنت مذ مر فيها القساطل

ومن أي ماء كان يسقي جياده؟

ولم تصف من مزج الدماء المناهل

وقوله:

لبسن الوشى لا مُتَجملات

ولكن كي يصن به الجمالا

وضفَّرن الغدائر لا لحسن=ولكن خفن في الشعر الضلالا

وههنا موضع آخر مشهور من مواضع المحاكاة يستعمله العرب وهو إقامة الجمادات مقام الناطقين في مخاطبتهم ومراجعتهم إذا كانت فيها أحوال تدل على النطق، كقول الشاعر:

وأجهشت للتوباد لما رأيتهُ

وكبر للرحمن حين رآني

فقلت له: أين الذين عهدتهم

حواليك في أمن وخفض زمان

فقال: مضوا واستودعوني بلادهم

ومن ذا الذي يبقى على الحدثان

ص: 32

ومن هذا الباب مخاطبتهم الديار والأطلال ومجاوبتها لهم كقول ذي الرمة:

وأسقيه حتى كاد مما أبثه

تكلمني أحجاره وملاعبه

وقول عنترة

أعياك رسم الدار لم يتكلم

حتى تكلم كالأصم الأعجم

يا دار عبلة بالجواء تكلمي

وعمي صباحا دار عبلة واسلمي

وذكر أرسطو أن هوميروس كان يعتمد هذا النوع كثيراً

وإجادة القصص الشعري والبلوغ فيه إلى غاية التمام أن يكون متى بلغ الشاعر من وصف الشيء أو القضية الواقعة التي يصفها مبلغاً يرى السامعين له كأنه محسوس ومنظور إليه وهو كثير في شعر الفحول، لكن إنما يوجد هذا النحو من التخييل للعرب إما في أفعال غير عفيفة، وإما فيما القصد منه مطابقة التخييل فقط. مثال الأول قول أمرىء القيس:

سموت إليها بعد ما نام أهلها

سمو حباب الماء حالاً على حال

فقالت: سباك الله إنك فأضحي

ألست ترى السمار والناس أحوالي

فقلت: يمين الله أبرح قاعداً

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

ومثال الثاني قول ذي الرمة يصف النار:

وسقط كعين الديك عاودت صحبتي

أباها، وهيأنا لموقعها وكرا

فقلت لها ارفعها إليك وأحيها

بروحك واقتته لها قته قدرا

وظاهر لها من يابس الشخت واستعن

عليها الصبا واجعل يديك لها سترا

والمتنبي أفضل من يوجد له هذا الصنف من التخييل، ولذلك يحكى عنه أنه كان لا يريد أن يصف الوقائع التي لم يشهدها مع سيف الدولة، على أن تعديد كل مواضع المحاكاة مما يطول، وإنما أشار أرسطو بذلك إلى كثرتها واختلاف الأمم فيها.

نقد المحاكاة

أراد بهذا الباب أن يبدي المعايب التي يجب على الأديب أن يجتنبها لأنها من عيوب الإنشاء. واستشهد على ذلك بهوميروس فقد كان يعمل صدراً يسيراً ثم يتخلص إلى ما يريد محاكاته من غير أن يأتي في ذلك بشيء لم يُعتد لكن ما قد اعتيد، فأن غير المُعتاد مُنكر. ولعله دل بذلك على مظهر من مظاهر البساطة التي يزداد بها الكلام روعة وتسلسلاً. فكلما

ص: 33

كان الكلام بسيطاً ممتنعاً كان أذهب في البلاغة وأبعد في الروعة. ولعل ابن رشد أراد أن يجد مغمزاً في الشعراء الذين يحيدون عن غرضهم الموصوف إلى أغراض مختلفة ليست من الموضوع في شيء كالنسيب والغزل المتكلف البالي، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً. ثم يرى أن يكون التركيب على المشهور عندهم سهلاً عند النطق، وهو عند العرب الفصاحة. وأما أنواع المحاكاة غير المقبولة فعد أشهرها:

منها أن يحاكى بغير ممكن بل ممتنع، وهو الذهاب في أغراب الصورة حتى لا تطابق الواقع وغير الواقع، كقول ابن المعتز يصف القمر في تنقصه:

أنظر إليه كزورق من فضة

قد أثقلته حمولة من عنبر

وإن هذا لممتع.

ومنها تحريف المحاكاة عن موضعها كما يعرض للمصور أن يزيد في الصورة عضواً ليس فيها، أو يصوره في غير مكانه؛ وقريب منه قول بعض المحدثين يصف الفرس:

وعلى أذنيه أذن ثالث من سنان السمهري الأزرق ومنها محاكاة الناطقين بأشياء غير ناطقة، وذلك أن الصدق في هذه المحاكاة يكون قليلاً والكذب كثيراً، إلا أن يشبه من الناطق صفة مشتركة للناطق وغير الناطق كتشبيه العرب النساء بالظباء وببقر الوحش

ومنها أن يشبه الشيء بشبيه ضده أو بضد نفسه، كقول العرب (سقيمة الجفون) في الحسنة الغاضة النظر، فان هذا ضد الصفة الحسنة، وإنما آنس بذلك العادة ومنها أن يأتي بالأسماء التي تدل على المتضادين. ومنها أن يترك الشاعر المحاكاة الشعرية، وينتقل إلى الإقناع والأقوال التصديقية، وبخاصة متى كان القول هجيناً قليل الإقناع كقول امرئ القيس يعتذر عن جبنه:

وما جبنت خيلي ولكن تذكرت

مرابطها من بَرْبعيص ومسيرا

وقد يحسن هذا الصنف إذا كان حسن الإقناع أو صادقا كقول الآخر:

الله يعلم ما تركت قتالهم

حتى رموا فرسي بأشقر مزبد

وعلمت أني إن أقاتل واحدا

أُقتل، ولا ينكي عدوي مشهدي

فصددت عنهم والأحبة فيهم

طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد

فهذا القول إنما حسن لصدقه، لأن التغيير الذي فيه يسير، ولذلك قال القائل: يا معشر

ص: 34

العرب لقد حسنتم كل شيء حتى الفرار وأما أمثلة المحاكاة المبنية على التوبيخات فهي غير موجودة عندنا، إذ كان شعراؤنا لم تتميز لهم هذه الأشياء ولا شعروا بها. ولا أدرى ما يريد ابن رشد بهذه التوبيخات، فان كانت الاعتذاريات فللأدب العربي طائفة منها قد تكون قليلة، ولكنها رائعة لطيفة المأخذ. وكفي باعتذاريات النابغة دليلاً؛ ومن يجحد ما للمتنبي والبحتري من لطيف الاعتذار والتوبيخ، والعتاب؟ ثم ينتقل ابن رشد إلى بحث صناعة الأشعار القصصية، ويريد بها حوادث التاريخ فيقول: إن محاكاة هذا النوع من الوجود قليل في لسان العرب (وكأنه يعترف ضمنا بوجود أنواع منه) وهوميروس هو أبرز من عندهم. ومن جيد ما في هذا المعنى للعرب قول الأسود بن يعفر:

ماذا أؤمل بعد آل محرق؟

تركوا منازلهم، وبعد أياد

أرض الخورنق والسدير وبارق

والقصر ذي الشرفات من سنداد

نزلوا بأنقرة يسيل عليهم

ماء الفرات يجيء من أطواد

جرت الرياح على محل ديارهم

فكأنهم كانوا على ميعاد

فأرى النعيم وكل ما يُلهى به

يوماً يصير إلى بلىً ونفاد

وقد تدل هذه الأبيات الخالية من الروح القصصية على أن ابن رشد لم يتفهم جيداً ما أراد أرسطو بصناعة الأشعار القصصية. ذلك لأنه لم يتأت له أن يقف على هذه الصناعة ويعرف مناهجها. ولأن تكون هذه الأبيات إلى باب العبر أحق من إلحاقها بباب القصص. وما أكثر ما تتردد هذه النغمة في شعر العرب؟ وهى نغمة شاذة عن الألحان القصصية، لأن الشاعر فيها يستلهم عاطفته؛ والقصة لا يغني فيها استلهام العاطفة وحدها. وكأن ابن رشد أراد أن يستنفذ حكمه كمؤرخ فاستطرد وقال: وقد أثنى أرسطو على هوميروس. وكل ذلك خاص بهم وغير موجود مثالهُ عندنا. إما لأن ذلك الذي ذكرت غير مشترك للأكثر من الأمم، وإما لأنه عرض للعرب في هذه الأشياء أمر خارج عن الطبع وهو أبين!

(البقية في العدد القادم)

خليل هنداوي

ص: 35

‌من الأدب الإنكليزي

2 -

برسي شلي -

بقلم خليل جمعة الطوال

كان بروميتس هذا - كما تحدثنا عنه الأساطير الإغريقية - شخصاً سولت له نفسه الشريرة أن يسرق من السماء قليلاً من النار، ولما استجاب للتجربة وارتكب جريمة السرقة، غضب عليه إله أولمب زيوس وهو عظيم آلهة اليونان وابن الآلهة (كرونس) والآلهة فيا وشقيق نبتون. وكان من جراء غضبه عليه أن فصله عن زوجه آسيا وأمر بشد وثاقه وتقييده إلى صخرة عظيمة، حيث كانت العقبان تأتي في كل يوم وتذيقه سوء فعلته وشر صنيعه بمخالبها المحددة ومناقيرها القوية. ثم ما لبث (زيوس) أن رجع عن غضبه لأسباب عديدة، وأمر بحل وثاقه وبإرجاع آسيا إليه ثانية. وهكذا امتزجت روح المحبة في الإنسان بروح المحبة في الطبيعة، وتلخص كلاهما من الفناء الذي استحقاه بسبب جريمة بروميتس

تناول شلي هذه الأسطورة فوضعها في قالب شعري، وكان قد تناولها من قبله وليم ورودزورث، إلا أنه بينا يمتاز سبك وليم بما فيه من التحليل المنطقي وعمق الفكر الفلسفي. يمتاز شلي باتساع أفق الدائرة التي يسرح فيها خياله.

ولعل قصيدة بروميتس هذه هي خيرُ القصائد من نوعها التي تمثل لنا فكرة هدى البشرية بعد ضلالها. كانت شائعة عند اليونان وكثيراً ما ضمنها الشعراء أشعارهم، ناهيك بما فيها من الكيانات والاستعارات ومن التشابيه والمجازات التي رمى بها الشاعر من وراء ستر كثيف إلى أغراض بعيدة تجنباً لما كانت تلاقيه حرية الأفكار في العصر الفكتوري من الإرهاق والإذلال. وفي عام 1817 نظم قصيدة ثورة الإسلام استفز فيها الشعور من ذلك السبات الذي تسرب إليها عن طريق ما مُنيت به الأفكار الثورية من الإخفاق، تلك الأفكار التي كان يُعلق عليها تحقيق مثله الأسمى، والتي كان ينظر من ورائها إلى ذلك العصر الذهبي الذي كونه له خياله. تطالع هذه القصيدة فتشعر بتيار ألفاظها السحرية، وبنبرات مقاطعها النارية، تجرى في مفاصلك بشدة وعُنف؛ وما ذلك إلا لأنه قد نظمها وعواطفه تنماث في قلبه من شدة تأثر حسه وثوب خياله.

ص: 36

وفي عام 1815 طرق شلي باب الأساطير لا اعتقاداً منه بصحتها بل ليرفه عن نفسه من جد الدرس، وليدفع عنها سأم الحياة. ونذكر له من أمثلة هذا الشعر قصيدتين غنائيتين هما غاية في الإبداع وحسن الأداء وهما: القبرة والغيوم

ومن قصائده الغنائية الأخرى: أبولو، إلى النيل، نابولي، هيلين، الريح الغربية، الثور، المتجولون في العالم، الوقت، ثم هيلاس التي تمثل لنا يقظة اليونان وثورتهم على الأتراك واستقلالهم.

وعندما توفي صديقه كيتس عام 1821 نظم في رثائه قصيدة عامرة الأبيات، ملأها بزفرات قلبه وفلذات كبده من شدة ما ناله من الحزن لفقده، ولا يحسب من يقرأها إلا أن شلي كان صنبوراً من الدمع لا ينضب معينه على صديقه.

الدرامة

وقد حاول أن يؤلف درامة يصف فيها أحوال المجتمع ونظمه وعادات البيئة وطبقاتها، فوضع لأول مرة رواية سنسي ثم رواية ريشارد الثاني، إلا أن محاولته هذه باءت بالفشل وارتدت بالأخفاق، ولا سيما إذا قيست بأولى محاولات شكسبير ونجاحها

ومع كثرة ما لشلي من الأشعار الغنائية، فلا نكاد نجد له قصيدة واحدة تجمع إلى رقة العاطفة وقوة الخيال انتظام الفكرة وابتكار المعنى. ونستطيع أن نقول خلاصة لهذا الموضوع: إن خير ما نظمه شلي ظهر في ست السنوات الأخيرة من حياته

أما القالب الذي كان يستوعب أفكاره وأخيلته ففي غاية السبك والإبداع، بل كثيراً ما يُقوم من خياله المستكره الفسل، ومن عواطفه النافرة المستعصية. ولقد شهد له بجمال الأسلوب وروعته وليم وردزورث بقوله:(كان شلي خيرنا أسلوباً وأكثرنا ملاءمة بين موسيقى اللفظ وجمال المعنى). وشعره إلى جانب ذلك لا يكتظ بالكلمات اللاتينية التي يكتظ بها شعر ملتون وغيره. هو أبعد الشعراء عن الأساليب الكلاسيكية، وعن استعمال حوشي الكلام وغريب الألفاظ ومهجور التراكيب وأكثرهم جنوحاً إلى سهولة الأداء وإلى الألفاظ الجميلة المخارج والموسيقية الجرس، يتناولها فيجعل منها مع المعنى لحناً موسيقياً بديعاً.

وقد جمع معظم أشعاره في ديوان عنوانه ظهرت الطبعة الأولى منه سنة 1819 فنفدت لسنتها لما كان لها من الرواج. ثم ظهرت طبعته الثانية عام 1821 حاوية لقصيدته الشهيرة

ص: 37

أَلستور، وهى ترجمة دقيقة الوصف لحياته وعواطفه التي كانت تختلج في قلبه إذ يصف فيها مقدار ما يلقاه كل شاعر حر أمام نبوغه من العقبات الكأداء التي تفل من عزيمته وتحط من شاعريته. فهي صورة جلية نتعرف منها خبايا نفسه ومنبع شاعريته. وقد ضمن هذه الطبعة دفاعه عن الشعراء والشعر ضد مهاجمة (توماس بيكوك) أتى فيه على تعريف الشعر وتاريخه وفائدته في اجتثاث سوءات المجتمع وتشذيب النفوس وصقل الذوق، بعد أن فند آراء بيكوك بلهجة يملؤها الحماس ونبرات تصحبها الثورة.

وفي شلي يقول المؤرخ المشهور والكاتب المأثور ماكولي: (لم أر في حديث الشعراء من تقرأ أشعاره فتعلق بجملتها بشغاف قلبك إلا شلي. أما والله لقد جمع بين جزالة السلف ورقة الخلف، وتعمد الإجادة فأصاب شاكلتها وبلغ غايتها، في حين أنه قصر دونها شعراء كثيرون من أترابه.) ومهما يكن في هذه الشهادة من الغلو والإسراف، فليس لنا سبيل إلى دفعها ودحضها، ذلك لأن شلي قد توفي وهو في سن الثلاثين قبل أن تنضج مواهبه

شلي والحركة الابتداعية:

ترجع هذه الحركة في تاريخها إلى تلك البذرة التي بذرها السير فرنسيس باكون (1561 - 1626) حين أهاب في الأدباء منادياً بأن نظم الحضارة الأرستقراطية تفسد عاطفة الأدب الصالحة، وتبهم عبارة البلاغة الواضح، وأن ليس لهم إلا الخروج عليها واقتفاء أثر الطبيعة في جميع أغراض الأدب نظماً ونثراً، بل وفي أنظمة الحياة الاجتماعية والسياسية، إذ هي وحدها منبع جميع مشاعر الأديب الحسية ومُسْتفَز ملكاته الخيالية: وإذ كان بيكون غارس بذرة هذه الحركة، فقد كان جان جاك روسو هو الذي تعهد تربتها، وترعرعت في عصره غرستها، حتى آتت أكلها على يد وليم وردزورث ورفاقه، وهم كيتس، ووسلي، وبيرون، وشيلي. وجميعهم يعنى بجمال الأسلوب قبل الفكرة، ويعتمد على الخيال أكثر من الحقيقة، ويهتم في البحث عن أصول الأشياء واستجلاء غوامضها، لا في ذاتها، بل في الطبيعة على اعتبار أنها أجزاء منها، وهم يجعلون موضوع دراستهم الرجل العادي لا الأرستقراطي، ويمارسون الأدب على أنه من وسائل إصلاح المجتمع واجتثاث سوءاته لا على أنه فنّ قائم بذاته لا علاقة له بالهيئة الاجتماعية. وعلى هذا القياس فان درجة الشاعر تعظم في نظرهم بمقدار ما يكون لأشعاره من الإصلاح ومن بليغ الأثر في توجيه دفة

ص: 38

الهيئة نحو هذا الإصلاح وتحويل الرأي العام إلى قبوله لا بمقدار ما تثيره من الشعور وتجلبه من عوامل اللذة الروحية المجردة. ويكره شلي من الشاعر خاصة أن يلجأ إلى بحوث عالجها الشعراء من قبله، إذ لا يرى إلى ذلك من ضرورة مطلقة لا سيما والطبيعة دائمة التحول والاستمرار

(البقية في العدد القادم)

خليل جمعة الطوال

ص: 39

‌دراسات أدبية

في الأدب الإيطالي الحديث

تتمة

بقلم محمد أمين حسونة

وقد ذكر بابيني أن هذه الرواية هي قصة جيل كامل. والواقع أننا لا نلمس فيها سوى أثر الآلام التي يشكو منها جيل المثقفين من المرضى النورستانيين، الذين تتسلط عليهم الأفكار السوداء، فوقف تقدمهم الفكري دون الخلق والإبداع. وقد حاول بابيني في هذه الرواية أن يطبق أصول الفلسفة العملية (البراجماتزم)، وأن يخلط الجد بالهزل ليخرج لنا الحقائق الفاجعة، والسخريات المرة اللاذعة.

أما كتابه الذي أصدره في غضون الأعوام الأخيرة بعنوان (جوج) ففيه ينقد بقسوة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والدينية ناقماً على الثقافات التي تقود العالم إلى الدمار والخراب ما خلا الثقافة اللاتينية، فهو يزعم أن في استطاعتها وحدها أن تنقذ العالم من الويلات التي يتردى في أعماقها.

والواقع بابيني إنما يستقى فنه من تيار سابق لتفكير بيراندللو. والفرق بينهما أن بيراندللو استطاع أن يتخلص من آثار العقل الخصب، وأن يخلع على أبطاله ظلاً من روح الفكاهة والمرح. أما بابيني فلفرط استغراقه في الفلسفة تراه يطبع رواياته بهذا الطابع الجاف الذي يباعد بينه وبين تفكير الجيل.

وفي الوقت الذي بدأ الناس يميلون إلى الروح الهادئة في الفن القصصي وإلى الشخصيات التي تمثل التضحية أو الإخلاص أو المثل الأعلى، يلجأ بابيني إلى غمر قصصه بالنظريات الفلسفية، تاركاً للقراء حرية تفسيرها في ضوء الحوادث. ولذا نلمح أن معظم أبطاله يعيشون في جو مظلم، ويقاومون أعاصير الحياة عن طريق المذاهب العقلية.

ولعل في حياة بابيني الأدبية عظة بالغة، فهو يحارب الشعراء لأنهم في نظره بلهاء كالأطفال، وقد اتخذ لنفسه منذ نشأته صفة المجادل الذي يحاول مناقشة آراء خصومه عن طريق هدم مجدهم الأدبي تمهيداً لتشييد صرحه فوق أنقاضه، لكنه لم يهدم في النهاية سوى

ص: 40

نفسه، حتى إن فلسفته أوشكت أن تموت في أذهان القراء.

المدرسة الإقليمية

وقبل التحدث عن أثر المدرسة الإقليمية في الأدب الإيطالي الحديث يحسن بنا أن نتحدث عن خصائصها ومميزاتها، فهي تلتمس أسلوبها في فن جيوفاني فرجا وتميل بعض الشيء إلى الرواية الهادئة التي تقوم على ذكريات خاصة خالية من روح التكلف، وإلى الحياة الفطرية الساذجة، والعودة إلى أحضان الطبيعة مع إحياء الطابع القومي الخاص في الأدب الإيطالي الحديث.

وإذا اعتبرنا أن المذاهب الأدبية في إيطاليا تقوم على الوجدانيات المبالغ فيها، والخيال الشعري، والوطنية المتأججة، أمكننا أن نوازن بين الفن الروائي القديم وبين الفن الذي ابتدعه فرجا؛ فهو يقوم على الحس والمشاهدة الملموسة مع تصوير العادات والأخلاق والحوادث التاريخية البارزة.

وربما كان فن المدرسة الإقليمية يمت بأقوى الصلات إلى اسكندر ديماس، وأسلوبها الكتابي إلى جورج صاند التي سبق أن قضت فجر شبابها في ربوع إيطاليا، وكان لجو البندقية الشعري أثر بليغ في روحها الغنائية.

لقد نشأ (فرجا) في مدينة كتانيا بجزيرة صقلية، وطوف بأنحاء إيطاليا بقصد التبشير بفنه الجديد، وتكوين جمعيات أدبية في كل من فلورنسا وميلانو. وقد ساعده على ذلك أن عصره كان يسوده الهدوء الطبيعي وفتور القلاقل السياسية. ومن السهل أن نلتمس في روايات فرجا ظل الحياة الصقلية فهي مسرح فنه ومهبط وحيه. وقد رسم لنا في بعض رواياته الفذة (كالإرادة السيئة) طغيان حكومات عهد الإقطاع على صقلية وأساليب جمعية المافيا الإجرامية التي ظلت تبسط سطوتها على الجزيرة زهاء ثمانية قرون. وكان رائده في كل ما يسرده من الوقائع الإخلاص والشعور المرهف. فرواياته من هذه الناحية ليست ذات قيمة أدبية فحسب، بل يمكن اعتبارها من الوجهة التاريخية وثائق مشرفة للحياة الاجتماعية والسياسية وللأخلاق والعادات في الريف الإيطالي.

وعلى الرغم من أن هذه الرواية لا مغزى لها، فإننا نلمح بين سطورها أثار العقلية الإيطالية الخصبة، ووصف الحروب الاستقلالية والمعارك البحرية في الادرياتيك، وأخلاق

ص: 41

الطبقة الدنيا، ومواقف غرامية مفجعة، ونظريات أخلاقية ونفسية،

وتحليل دقيق لأفراد أسرة فقيرة تحترف صيد الأسماك، ظلت تكافح في الحياة وتقاوم الحظ السئ الذي لازمها زهاء نصف قرن لقد كان فرجا يردد العواطف الصادقة في فنه والحقائق القاسية، وليس مذهبه في الأدب سوى رد فعل لمدرسة كاردوتشي، وعلى رغم أن هذا الكاتب العظيم كان أميل إلى الصمت وإلى التحفظ في الكلام نراه متدفقاً كالسيل في رواياته حتى كتب نيفا وثلاثين رواية طويلة وعشرات الأقاصيص. وقد وصفه النقادة رويناس بقوله:(كان ينفر من الشهرة، ولكن الشهرة سعت إليه من حيث لا يدري. وكان شعاره دائماً: فني هو مجدي، وكتبي تراثي في نظر الأجيال)

ومن كتاب المدرسة الإقليمية الذين اشتهروا خارج بلادهم عن طريق ترجمة أعمالهم الأدبية إلى اللغات الحية الكاتب الروائي ماريو بوتشي. ففي مؤلفاته نجد الجو الهادئ الحزين، وبالأخص في حياة الريف. وهذه الصبغة التي تعطي رواياته طابعها الخاص تبين عبء الألم واليأس المنبعث منها. وقد حاول بوتشي في بعض رواياته (كالعبريون) أن ينجو من الجو المظلم الذي يخلع على أبطاله ظلاً من الكآبة، ولكن ما اتصف به من الركود والتأثرات النفسية والتعلق بأهداب الخيال وغرامه بتصوير القسس والفلاحين والجنود جعله بمعزل عن كتاب الجيل المعاصر. والواقع أنه ليس في فن هذا الكاتب أي أثر للعنف أو الاندفاع، إنما نحس من الأعماق أننا أمام شخصيات ابتدعها المؤلف في هدوء ودقة، كما كان أهل وطنه يصنعون الدمى الخشبية بمجهود شاق في القرون الوسطى.

وكان توتزي أقوى كتاب هذه المدرسة على الإطلاق، ولكن الموت عاجله وهو في قمة مجده. وإذا حكمنا على تراثه الفني أمكننا أن نقول إنه أخرج أعظم روايات الأدب الحديث. وفي فنه تتجلى روح البساطة والسير بأبطاله في طريقهم الطبيعي، ورسم مظاهر الانحطاط الإنساني بأسلوب مؤثر. ومن أشهر رواياته (الصلبان الثلاثة) وهى قصة ثلاثة أخوة يدرس بعضهم أخلاق بعض، وتتغلب الغريزة والأنانية والجشع على أعمالهم، وينتهون أخيرا إلى موت غير شريف، ولا يبقى من آثارهم سوى صلبان سود ثلاثة في المقبرة.

ولعل شيكونياني هو الكاتب الوحيد الذي يرتفع بفنه فوق مستوى المدرسة الإقليمية مما

ص: 42

يذكرنا بالمدرسة التوسكانية التي ظهرت آثارها في القرن التاسع عشر. ويخيل إليك وأنت تطالع الصور الفذة التي يرسمها في قصصه أنك تسير في شوارع فلورنسا. وتعد روايته (فيليا) من أحسن الروايات التي ظهرت بعد الحرب العظمى. فالروح الواقعية التي رسم بها المؤلف شخصية بطلته على أنها فتاة من عامة الشعب محبة لنفسها، مجردة عن الضمير، تجر إلى الهاوية جميع الذين يلتفون حولها، من أروع حالات التصوير الإحساسي والتغلغل في أعماق النفس البشرية.

أما بور جيزي مؤلف رواية (روبي) فهو من المؤلفين الذين توفروا على دراسة النظريات النفسانية الجديدة. وفي هذه الرواية ما يعطينا صورة واضحة من فنه، فهي تحليل دقيق لنفسية رجل أناني مجرد من العواطف الإنسانية، معذب بالشكوك والأوهام، ليس في مكنته مقاومة أعاصير الحياة، فيقذف بنفسه في التيار الذي يبعده شيئاً فشيئاً عن حقيقة الحياة إلى أن تدفعه المصادفة السيئة إلى الانتحار. (فروبي) كما يرسمه المؤلف رجل لا شباب فيه ولا عاطفة؛ وهو لا يعرف الأخلاق، وغير قادر على أن يحب حتى نفسه. وعلى الرغم من تراخيه وكسله يحلم بأن يصل إلى شئ، وأن الصفتين الأساسيتين في خلقه هما ضعف الإرادة ورغبته الدائمة في تحليل عواطفه؛ وهذا التحليل هو الذي يشل روح حركته، ويفقده توازنه، ويقلب في نظره المقاييس الصحيحة للحياة؛ فمرة يحاول أن ينسى نفسه في غمار الحرب ولكن دون حماسة، ومرة يتزوج من امرأة دون أن يشعر بميل إليها؛ وهو معتقد أنه تزوج زواجاً صالحا ً إنما هي المصادفة التي قادته إلى هذه المرأة وجعلته يقترن بها ثم يقتلها. ولكن الواقع أنه تركها تموت كمداً من سوء معاملته؛ وقد صور له الوهم انه قتلها مع أن الشجاعة لا تؤاتيه لقتل حشرة حقيرة.

أدب المستقبل

أسس هذه المدرسة بونتمبلي مؤلف رواية (امرأة أحلامي) وكان الغرض منها مقاومة التحليل المادي في القصة، ومناهضة أساليب المدرسة الإقليمية؛ ويمكن أن نعتبر عصرها عصر النفور من الزخرف اللفظي، وتنمية النزعة الخيالية، والتبشير بالأدب الرمزي. ويعد أمبرتوفراكيا من أدباء هذه المدرسة، وقد كانت وفاته في غضون عام 1930 ضربة أليمة في نفوس الجيل الجديد، إذ كان دائم العطف على أدباء الشباب، باذلاً جهده في تنمية الملكة

ص: 43

الأدبية وإظهار المواهب المدفونة فيهم، وبسبب ذلك أنشأ مجلة (سوق الأدب) لنشر رسالتهم والدعوة إلى الالتفاف حول (أدب المستقبل).

ومنذ سنوات قلائل تزعم مارينتي هذه الحركة، وأخذ ينشر أفكاره في مجلته (الشعر)، وتدور دعوته حول التطلع إلى المستقبل، وقطع الروابط الوشيجة التي تربطنا بالماضي؛ فالمتاحف في نظره كدور المرضى، والافتخار بمجد الجدود وآثارهم دليل العجز منا عن مجاراتهم والتفوق عليهم. ولما كان من الصعب أن نحكم على القيمة الفنية لأدب مارينتي، فأن هذا لا يمنعنا من الجهر بأن (أسلوبه التلغرافي) وجد البيئة الصالحة التي ينمو فيها خارج ايطاليا، حيث يقبل الفرنسيون على اعتناق كل فكرة أدبية طريفة.

محمد أمين حسونة

ص: 44

‌الدكتور محمد إقبال

فلسفته

معالم الاتفاق والاختلاف بينه وبين فلاسفة الغرب

للسيد أبو النصر أحمد الحسنى الهندي

إن من نابذ الأديان العداء في العصر الحاضر هو الطبيب النمساوي الفيلسوف سيجموند فرويد صاحب المذهب الخاص في علم النفس التحليلي وقد توفي حديثاً، فهو قد رأى في حقيقة أعمال الإنسان، بل في جميع حركاته وسكناته رأياً غريباً، وهو أن أساسها العاطفة الجنسية، وأن الولد يولد وعنده تلك العاطفة، وأن جميع خواطر الإنسان وهواجسه من الطفولة إلى الشيخوخة ترجع إليها. وعلى هذا فالإنسان عند سيجموند فرويد مجسم الشهوانية وكتلة العاطفة الجنسية، ولا حقيقة عنده للأمور المعنوية الأخلاقية البحتة التي كثيراً ما طمحت إليها نفس الإنسان لتتسم فيها ذروة الشرف، ولا لنظم الروحانية المجردة عن تلك العاطفة مثل الأديان، ولا لأمثالها التي طالما تطلعت إليها روحه فلم يأل جهداً في حيازة كمالها. فهكذا جرد فرويد الإنسانية من أوصافها المميزة، وحطها من مراتبها الروحانية السنية، والدرجات الأخلاقية والمعنوية الرفيعة، إلى حضيض الحيوانية والهمجية.

قرر فرويد أن الدين عبارة عن وهم محض خُلق من المهيجات والدوافع المرفوضة في نفسية البشر، لتجد تلك المهيجات والدوافع في دائرة الدين حرية العمل غير المسدود؛ وأن العقائد والمذاهب الدينية ليست إلا نظريات الطبيعة الابتدائية التي سعى بها الإنسان لإنقاذ الحقيقة من قبحها العنصري، ولجعلها شيئاً أقرب إلى رغبة القلب من غير أن تسمح بذلك حقائق الحياة. ومبنى هذا القرار هو نظريته التي أتى بها في علم النفس التحليلي، وخلاصة تلك النظرية هي أننا حينما نقوّم بيئتنا ونرتب ما حولنا نتعرض للمهيجات والدوافع المختلفة الكثيرة فنرد عليها. وعملية هذا الرد إذا تكررت كثيراً تتحول إلى العادة فتصبح نظاماً للرد أكثر ثباتاً مما لم يتكرر؛ ثم هي تتقدم بالاستمرار في التعقيد، وذلك لأننا عند الرد نقبل بعض تلك المهيجات ونهضمها، ونرفض الأخرى التي لا توافق نظام ردنا

ص: 45

الثابت، فتتراجع إلى منطقة من العقل مسماة (بالمنطقة اللاشعورية)، أو (منطقة ما تحت الشعور)، وتبقى فيها حتى تجد فرصة سانحة للانتقام من الذات المركزية والهجوم عليها، وحينئذ تقدر أن تغير خططنا للعمل، وتفسد أفكارنا، وتشيد أحلامنا وأوهامنا، أو تجرنا إلى تصورات سيرتنا الأولى التي كنا تركناها طوع سنة الارتقاء على مسافة شاسعة، فالدين عند فرويد مخلوق هذه المهيجات والدوافع المرفوضة، وثمرة اقتحامها الذات المركزية.

يخالف الدكتور إقبال هذا الرأي السقيم أشد المخالفة؛ وقد وضح ذلك في محاضرة ألقاها بجامعة هندية، إذ قال: (إن من تجرد الشيطانية عن سلطة الألوهية أن قام فرويد وأنصاره بخدمة للدين تفوق التقدير؛ إنني لا أستطيع أن أمتنع عن القول بأن النظرية الأساسية في علم النفس الجديد هذا لا تظهر لي مؤيدة بدليل قطعي حاسم. فلو كانت مهيجاتنا ودوافعنا المتشردة تهاجمنا في الحلم أو في الأوقات الأخرى التي لسنا فيها في حالتنا الأصلية، فلا يتأتى من ذلك الهجوم أنها تبقى مسجونة في مكان يشبه مكان سقط المتاع وراء ذاتنا الطبيعية. إن هجوم هذه المهيجات والدوافع المكبوتة على منطقة ذاتنا الطبيعية يفضي أكثر إلى تبيين أن لنظام ردنا العادي تمزقا وقيتاً من أن يثبت وجودها الدائمي في زاوية مظلمة من العقل (أما القول بأن العقائد والمذاهب الدينية ليست إلا نظريات الطبيعة الابتدائية التي سعى بها الإنسان لإنقاذ الحقيقة من قبحها العنصري ولجعلها شيئاً أقرب إلى القلب من غير أن تسمح بذلك حقائق الحياة، فلا أنكر أن هناك أدياناً وأمثالا من الفن تحث الإنسان على الهروب من حقائق الحياة وتساعده عليه، ولكن الذي أريد أن أقول هو إنه لا يصدق على جميع الأديان. فلا نزاع في أن للمذاهب والعقائد مضامين تتعلق بما وراء الطبيعة، ولكنه أيضاً بين أنها ليست تفسير مدلولات الاختبار الذي هو موضوع بحث العلوم الطبيعية. إن الدين غير علم الطبيعة، وعلم الكيمياء اللذين يشرحان الطبيعة بقانون السبب والمسبب، إنما الدين يقصد التعبير عن منطقة الاختبار الإنساني الذي يختلف عن غيره تمام الاختلاف - الاختبار الديني - الذي لا يمكن أن تحول مدلولاته إلى مدلولات أي علم آخر. وفي الحق إنه يجب علينا أن نقول في إنصاف الدين إنه أصر على ضرورة الاختبار المعين في الحياة الدينية قبل أن يعرف ذلك العلم بكثير. فالخصام بين الدين والعلم ليس بقائم على أن لأحدهما وجوداً والثاني لا وجود له، بل على الاختبار المعين. فكلاهما يقصدان الاختبار

ص: 46

المعين كنقطة الافتراق بينهما، وعلى هذا فالخصام المفروض بينهما ناشئ عن سوء الفهم وهو أن كلا منهما يعبر عن مدلولات الاختبار الواحد. إننا ننسى أن الدين يتوخى الوصول إلى المضمون الحقيقي لنوع خاص من الاختبار الإنساني).

(ولا يمكن أن نفسر مضمون الشعور الديني بنسبته إلى عملية العاطفة الجنسية. فأن الشعورين - الجنسي والديني - في الغالب متخاصمان أو على الأقل في أوصافهما المميزة، وفي غرضيهما وفي نوع السيرة التي ينتجها كل منهما يختلفان كل الاختلاف. والحق أننا في حالة العاطفة الدينية نعلم الحقيقة الواقعية بمفهوم أنها خارجة عن دائرة شخصيتنا الضيقة، وللشدة التي تهز بها تلك العاطفة الدينية أعماق وجودنا تلوح للعالم بعلم النفس أنها ثمرة (منطقة ما تحت الشعور). إن في كل علم يوجد عنصر العاطفة، ويزداد موضوع العلم وينقص في قيمة موضوعيته على حسب الزيادة والنقص في شدة تلك العاطفة. فان الشيء الذي يقدر أن يهز جميع شخصيتنا هزاً شديداً أكثر حقيقة لنا.

صنف في ألمانيا الدكتور آسوالد اشبنجلر أحد كبار الفلاسفة المعاصرين كتاباً اسمه (انحطاط الغرب) ونشره بعد الحرب العظمى مباشرة، فلقي مع اشتماله على أدق الأفكار الفلسفية إقبالا عظيما حيث بيع من الطبعة الأولى مائة ألف نسخة. في هذا الكتاب سعى اشبنجلر لدحض الفكرة السائدة من القرن الماضي إلى الآن وهي أن الحضارة الغربية الحاضرة ثمرة التقدم المسلسل، وأن مصيرها في المستقبل أيضاً التقدم المستمر كالخط اللامتناهي، وأتى بنظرية وهى أن المدنية الإنسانية ليست هي التقدم المسلسل ولا المستمر كالخط اللامتناهي بل هي عبارة عن سلسلة حلقات المدنيات المختلفة كل حلقة فيها مستقلة في روحها عن الأخرى تمثل دور الثقافة والحضارة ثم تموت. ولا اتصال بين تلك الحلقات بتاتاً. وعليه فلكل مدنية عند اشبنجلر طريق خاص للنظر إلى الأشياء والعالم وعر الملتمس لأبناء مدنية أخرى.

لإثبات هذه النظرية استقصى اشبنجلر في كتابه (انحطاط الغرب) مدنيات العالم بحذافيرها فخصص بابين كبيرين للمدنية العربية يرى إقبال أنهما يكونان جزءاً ذا أهمية عظمى لتاريخ آسيا الثقافي. غير أن ما جاء فيهما عن الإسلام هو، في رأي اقبال، مبني على سوء الإدراك لطبع الإسلام كالحركة الدينية، وللتحول الثقافي العظيم الذي أتى به الإسلام في

ص: 47

العالم. قال في محاضرة ألقاها في جامعة هندية: (إن اشبنجلر في اجتهاده لإثبات نظريته يسوق جيشاً عرمرماً من الحوادث والتراجم كالشواهد ليبين أن روح المدنية الأوربية مضادة لروح المدنية اليونانية واللاتينية، وأن تضاد روح المدنية الأوربية هذا ناشئ عن طبع الذكاء الأوربي الخاص وليس عن أي الهام قد تكون استلهمته من الثقافة الإسلامية التي هي عنده (ماجية) في النوع والروح تماماً. إنني قد سعيت في محاضرتي السابقة لأثبت لكم أن تضاد روح العالم الحاضر هذا لروح المدنية اليونانية واللاتينية هو في الحقيقة ناجم عن ثورة الإسلام ضد الفكر اليوناني؛ وظاهر أن هذا الرأي لا يمكن أن يقبله اشبنجلر، فإنه لو قيل إن تضاد روح الثقافة الحاضرة للمدنية اليونانية واللاتينية ناتج عن استلهامها ذلك من الثقافة التي سبقتها مباشرة، لانهارت نظريته من أساسها، لأنه قد قرر فيها أن كل مدنية منفردة مستقلة لا اتصال بينها وبين ما قبلها وما بعدها. لذلك أخشى أن يكون جهد اشبنجلر لتأسيس نظريته هذه قد أفسد نظره في الإسلام كالحركة الثقافية إفسادا تاماً).

(يريد اشبنجار (بالثقافة الماجية) الثقافة العمة المشتركة بين ما يسميه اشبنجلر (مجموعة الأديان الماجية) وهي عنده الديانة اليهودية، والكلدانية القديمة، والمسيحية القديمة، والزرادشتية والإسلام. فلا أنكر أن الغشاء الماجي نبت على الإسلام ولكن مهمتي في هذه المحاضرة كما كانت في محاضراتي السابقة هي حماية صورة صحيحة لروح الإسلام الخالصة المجردة عن غشائها الماجي الذي في رأيي أضل اشبنجلر. إن جهل اشبنجلر للفكر الإسلامي في مسألة الزمان، وكذلك جهله للطريق الذي به ظهرت الأنانية في الاختبار الديني الإسلامي كالمركز الحر للتجربة، مدهش. فبدلا من أن يستفيد ويستنير من تاريخ الفكر الإسلامي وتجاربه هو يفضل أن يؤسس حكمه على عقائد العامة في بداية الزمان ونهايته. فكروا هنيهة! في رجل ذي علم غزير كالجبل الشامخ وهو يستمد لإثبات الجبر المزعوم في الإسلام من المقولات والأمثال العامة الشرقية مثل (قوس الوقت) أو (لكل شيء وقت). إنني على كل حال قد بينت لكم في محاضراتي السابقة أصل فكرة الزمن في الإسلام وتقدمها كما شرحت لكم الأنانية الإنسانية كالقوة المطلقة، وأعتقد أنه وافي بالغرض؛ وأما انتقاد آراء اشبنجلر في الإسلام وفي الثقافة التي نجمت عنه انتقاداً

ص: 48

وافياً فظاهر أنه يحتاج إلى مجلد ضخم. غير أني زيادة على ما قلت أحب أن أقدم إليكم ملاحظة أخرى عامة)

يقول اشبنجلر (إن لب تعليم الأنبياء ماجي. فهناك إله واحد - سواء أيقال له يهوذا، أم اهورامزدا، أم مردوك بعل، وهو الأصل للخير. وأما الآلهة الأخرى فجميعها إما عَجَزة أو شريرة، وضُم إلى هذه العقيدة الأمل في ظهور المسيح الذي كان أكثر وضوحاً في النبي ايشائيا ولكن ذلك الأمل ظهر في القرون بعده في كل مكان تحت ضغط الضرورة الباطنية بالشدة. وهذا الفكر فكر أساسي في الدين الماجي لأنه يشمل من دون النزاع تصور حرب العالم التاريخية بين الخير والشر مع سيادة قوة الشر في الأوقات المتوسطة وفوز الخير في الآخر في يوم القيامة.) لو أريد تطبيق هذه الصورة لتعليم الأنبياء على الإسلام فهو يحرفه تحريفاً تاماً، فان الفرق الهام بينهما هو أن الرجل الماجي يقبل وجود الآلة الباطلة وان لم يعبدها، بينما الإسلام ينكر نفس وجودها إنكاراً تاماً. واشبنجلر يعجز في هذا الخصوص عن أن يقدر القيمة الثقافية لفكرة ختم النبوة في الإسلام حق قدرها. نعم مما لا شك فيه أن صفة واحدة مميزة في الثقافة الماجية هي موقف الأمل الأبدي، هي الانتظار المستمر لمجيء أولاد زرادشت غير المولودين، أو المسيح، أو بارقليط الإنجيل الرابع، ولكني قد بينت لكم في محاضراتي السابقة الطريق الذي يجب لطالب الإسلام أن يسلكه في البحث عن المعنى الثقافي لفكرة ختم النبوة في الإسلام. وزيادة عليه أقول إنه يمكن أن تعتبر هذه الفكرة علاجا نفسياً للموقف الماجي للأمل المستمر الذي يفضي إلى تقديم صورة كاذبة للتاريخ. لذلك لما رأى ابن خلدون أنه قد ظهرت في الإسلام تحت أثر الفكر الماجي فكرة - ظهور المهدى - التي تشبهها على الأقل في نتائجها النفسية، وأنها تخالف نظره في التاريخ محقها بالانتقاد محقاً تاماً)

السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي

ص: 49

‌موسم الإسكندرية

الحول قد حال

للأستاذ فخري أبو السعود

حُيّيت يا بحرُ إن الحول قد حالا

فاستقْبل اليوم أَسراباً وأَرْسالا

تسعى إليك من البلدانِ ظامئةً

إِلى الجمال على شطَّيك قد جالا

وللضياء على عطفيك مؤتلقاً

وللنسيم على الآذِيِّ مختالاً

ومُلْك شمس على الآفاق مُنبسطٍ

تعلِيه يوماً فيوماً كلما دالا

ومُزْبِدٍ فيك أشهى للنواظر من

حباَبِ كأْسٍ علا في الكأْسِ جِريْالا

ودافِقٍ ترتوي الأرواح حائمةً

به وينقع للأجسام صلصالا

وناعس الرملِ قد مرَّت به حِقَبٌ

عدادَه وسيطوي بعدُ أجيالا

وهائج اللج يغزو الشطَّ مجتهدا

لا يأْتلى عنه إدباراً وإقبالا

دَوْماً يحاول أمراً ليس يبلغُهُ

وما يزال لما يبغيه محتالا

إذا تكسَّر من صخْر إلى حجر

شهدت في كلِّ صوبٍ منه شلالا

يشنُّ حرباً على الخلجان عاتية

دوماً ويعدو على الشطآن صوَّالا

يشن حرباً ويهدي من نسائمه

خير التحايا كريم الفعلِ مفضالا

إذا النسيم تعالى من جوانبه

معطَّر الثوب أرداناً وأذيالا

حسبت روضاً وراَء اللُّج ذا أرَج

حيَّا أزاهرَهُ الوسميُّ هطَّالا

هذا النسيم بقلبي مُنبتٌ زَهَراً

وباعثٌ فيه عرْفاً كلما مالا

هذى المحاسنُ كم يبعثن في خلَدِي

من ذكرياتٍ وكم يحيين آمالا

يُفْسحن عمر الفتى مهما أطاف بها

حتى تكون بها الساعاتُ آجالا

جَمعتَ عندك آي الحسن قاطبةً

وطبت يا بحر أسحاراً وآصالا

إن كنت لم تجلُ حُوراً فيك عارية

كما روَى قِدْما وما خالا

فكم على جانبيك اليوم منِ فتَنٍ

لم تحو أسطورةٌ منهن أمثالا

غِيدٌ بِلُجِّكَ أَو بالرَّملِ سارحةٌ

رَفَلْنَ في الحسن أعطافاً وأوصالا

هذى كنوزٌ على شطَّيك مزريةٌ

بما تُزَوِّدُ غوَّاصاً وَلأَّلا

ص: 50

كنوزٌ حسنٍ إذا أصفى مَوَدَّته

فَدَع كنوزاً لقارُونٍ وأموالا

الطرفُ منهنُّ مُثر مسرفٌ بذَخا

والقلبُ يندُب إعساراً وإقلالا

وكلما خاضَ طرْفي أنْعماً وحُلًى

تجشمَ القلب أوجاعاً وأهوالا

سبحانَ من أرْسلَ الأحداق في طلَقٍ

وحمَّل القلبَ في الأَضلاع أغلالا

يا من عرضتُم فغادرتُم جوانحنا

حرّى وقد نال منها الشوقُ ما نالا

بالرغمِ منِّى أن تمضوا على عجَل

ولا يكونَ وَدادٌ بيننا طالا

تمَّتْ لديكَ صِفاتُ الحُسْنِ واختلطت

لديك يا بحرُ أشتاتاً وأشكالا

فلا كشطِّكَ للألباب مُنْتجَعٌ

ولا كأُفْقِكَ من وَحيٍ لمن قالا

ص: 51

‌من أحسن ما قيل في (موسم الشعر)

في قريتي

للأستاذ أحمد الكاشف

جمعت في العيد حولي سائر الآل

وملتقى الآل حولي كل آمالي

أباً دعوني ومالي فيهمُ ولد

ولست للقوم غير العم والخال

كأنني وهم في الدار مطلع

منهم على أمم شتى وأجيال

أعدهم لغد والمقبلين غداً

في هذه الأرض أجنادي وأبطالي

ما أحسن الشمل أرعاه وأشهده

لأمهات وآباء وأطفال

فلا أرى فرقة في الدهر قاطعة

لمطمئن وخفاق وجوال

ولا يصاب هديل في أليفته

ولا الغضنفر في غيل وأشبال

أقمت في الريف لا أشقى بطاغية

من الرجال ولا لاهٍ وختال

وعشت بالرطب من بقل وفاكهة

فيما ملكتُ وماءٍ فيه سلسال

أحرم اللحم لي زاداً وأحسبه

طعام مفترس في القفر مغتال

وقد أقاتل للحىّ المسالم من

طير ومن حيوان كلَّ قتال

لو كان للنبت إحساس رأفت به

وبت للنبت أيضاً غير أكال

كأنما قريتي ما دمت ساكنها

ولايةٌ وكأني العمدة الوالي

أطلت فيها اعتزال العالمين ولي

بكل ناحية همي وأشغالي

لقيت في عشرة الجهال عاطفة

لم ألقها في رجال غير جهال

ولم أجد من وضيع الذكر خامله

ما ساءني من رفيع الذكر مختال

حملت أثقال قومي وهي فادحة

عنهم وما شعروا يوماً بأثقالي

وهان شأنيَ حتى ليس يذكرني

من استعان بأقوالي وأَعمَالي

وما حرصت على عينيي وعافيتي

حرصي على الود في حل وترحال

وما أبالي ونفسي في سلامتها

طولَ اعتلالي بأعصابي وأوصالي

ومحنة لا عزاء أن أرى بلداً

سوى بلاديَ أولى بي وأوفى لي

لو كان ما أغفلوا منى وما تركوا

يعنيهمُ لم يطل تركي وإغفالي

ص: 52

ولو بُليتُ بجبارين ما بلغوا

مدى الأحبة من قهري وإذلالي

أريد حرية الوادي السليب وبي

منه جراحي وآلامي وأغلالي

والدهر يجعلني حيناً ويمهلني

حيناً وسيانَ إِعجالى وإِمهالي

ولو بلغت من الآجال غايتها

لما انتفعت بأعمار وآجال

شعري استوى فيه عاصيه وطيعه

كما استوى فيه إكثاري وإقلالي

وما أفاد غناءٌ فوق رابية

ولا أفاد بكاءٌ فوق أطلال

وقد تبينت ما في الناس زهدني

وكان في الزهد إعزازي وإِجلالي

ولست يوماً لموجود بمحترس

ولا على رد مفقود بمحتال

ولو أتى بالنعيم الدهر ملء يدي

لم يأت إلا لأعلالي وإِملالي

ولست أسأل عن حقي وقيمته

ولو تولاه ميزاني ومكيالي

إن لم يكن ليَ ديوان وحاشية

يوماً فحسبي محاريثي وأنوالي

ألست ممن دعا الأحزاب فأتلفت

وردت الأمر من حال إلى حال

كفى من القوم بالزلفى رجوعهمُ

إلى الذي فيه كانوا أمس عذالي

أرى المودة بالقنطار بينهمُ

ولم أفز بينهم منها بمثقال

ولم أزل بينهم للخصم متقيا

دخائلا هي في ذهني وفي بالي

أخشى على رسلهم نياته وهم

منه أمام جلاميد وأدغال

وما تزال كما كانت سياسته

يدور فيها بألوان وأشكال

وموضع النِّد أرجو عنده لهم

لا موضع الصيد من أنياب رئبال

حق المصير تولوه بشملهمُ

وهْو الكفيل بتغيير وإبدال

إن لم يجئ يومهم بالخير أجمعه

ففي غد كل إتمام وإِكمال

والجو ينذر من نار بعاصفة

حرباً وفي الأرض إنذار بزلزال

وقد يكون لهم من ضيقهم فرج

كما تدافع أهوال بأهوال

يا فتية الشعر هذا اليوم موسمكم

ومهرجان البيان القيم الغالي

أمانة الشعر أديتم ولم تجدوا

ما تستحقون من عطف وإقبال

وحسبكم أن فيه أخوة لكم

من أغنياء وأرباب وأقيال

ص: 53

تجاهدون بأذهان وأفئدة

وترجعون بلا جاه ولا مال

وتملكون من الدنيا سرائرها

ولا تحلون منها الموضع العالي

وما يتاح لكم في الأرض متسع

كما يتاح لعرف ودجال

قالوا أنقذ الشعر بعد (الشاعرين) ولم

يأنس بغيرهما بميدانه الخالي

ولست وحدي لم في مصر بعدهما

فمصر ملأى بأشباهي وأمثالي

أيشغلَنَّهُمُ ركب مضى وثوى

عما أمامهمُ والمقبل التالي

إن لم ير الحي بعد الميت منزلة

منهم فلا خير في المحزون والسالي

وإن كل بناء لا يصير إلى

أبناء بانيه لهو الدارس البالي

خير من البلد الخصب المباح حمى

صعب الجوانب من جدب وإمحال

والملك بالجند والحصن المحيط به

لا بالحقول ونهر فيه سيال

أحمد الكاشف

ص: 54

‌أوبة الطيار

للأستاذ أحمد رامى

في سكون الماء والبحر ساجٍ

والسحاب الصبير في الجو سار

كنت أرنو إلى الغروب وأروي

ناظري من صُبابة الأنوار

فإِذا بي ألقى دخاناً ولا غي

م وريحاً وليس من أعصار

فتبينت استشف جبين ال

أفق من بين هذه الأستار

فإِذا هي جماعة من بنات ال

ريح تطوى الفضاء عبر البحار

يتلاحقن ماضيات ويهوي

ن هُوِيِّ النسور للأوكار

يا حداة الرياح ماذا لقيتم

من ركوب الأهوال والأخطار

كم جزعتم من الرياح السوافي

وسهرتم مع النجوم المراري

وصبرتم على المخاوف ترجو

ن رضاء المهيمن الجبار

رفع الناس عنده درجات

في مقام الجلال والإكبار

وقضى أَمره فأرسل سربا

منكمُ في مسابح الأطيار

أَيها الطائر المحلق في الج

وسلام عليك فوق المطار

سهرت أَعين ورفت قلوب

تسأل الله رحمة الأقدار

تتمنى لك السلامة في مس

راك ليلا وغادياً بالنهار

تسأل الريح هل أَلمت خفافا

بجناحيك أَو أَطافت ضوار

تسأل البرق هل أَضاء لك الأف

ق وأَنجاك من مهاوي العثار

تسأل الفجر أَين طالعك اليو

م وأَين السبيل في الأبكار

تسأل الليل هل أَصاخ لنجوا

ك حنيناً إلى ربوع الديار

هذه مصر فانزل الدار أَهلا

ناعماً في القلوب والأبصار

وأَولاء الشباب حولك في مص

ر يحيُّون أَوبة الطيار

طار سرب منهم يخف إلى الغا

دي ويهدي إليه إِكليل غار

وسرى في ركابه يتهادى

في جلال العلا وعز الفخار

وجرى النيل بين شطين يختا

ل خلال النخيل والأشجار

ص: 55

وأَبو الهول في الفلا كاد يقعى

ثم يرنو إِليه بالأنظار

مشهد يبعث السمو إِلى النف

س ويدعو إِلى الأماني الكبار

فانهضوا أُمة تتوق إِلى المج

د وتبغي منازل الأحرار

أحمد رامي

ص: 56

‌القصَص

قصة المفاتيح

للقصصي الروسي مكسيم جوركى

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

وكان زيومكا أثناء ذلك، وهو الملحد الحقيقي، يتثاءب عالياً، فنظر إليه صديقه نظرة احتقار ثم اطرق برأسه؛ وحدقت العجوز بنظرها في زيومكا دون أن تمسك عن القراءة، فخجل من ذلك ومسح أنفه وأدار عينيه ليرى نتيجة تثاؤبه فلم تكن إلا تأوهاً خاشعاً.

ومضت دقائق هادئة إذ كان لصوت القارئة المرتل أثر في الطمأنينة:

(إن غضب الرب ينزل من السماء على كل غير رباني. . و. .) وصرخت القارئة فجأة في وجه زيومكا: (أتريد. . .؟)

فأجاب في استكانة: (أنا. . . أنا. . . لاشيء! تابعي القراءة؛ إنني أستمع)

فسألته العجوز غضبى: (لماذا تلمس القفل بيديك القذرتين؟)

- (إنه ليهمني. . . إن صنعه جميل جداً. . . إنني أفهمه، كنت قبلاً صانع مفاتيح، وأردت أن أجسه. . .)

وقالت العجوز: (انتبهوا، ماذا قرأت لكم؟)

وقال زيومكا: (إنني أستطيع أن أعيده. . . إنني أفهم)

وقالت العجوز: والآن؟

- (لقد كنت ترتلين تعاليم الدين، وتذكرين عدم الإيمان بالرب. المسألة في غاية البساطة، فكل شيء من ذلك حقيقي. لقد كان ذلك يحز في قلبي.)

ونظرت العجوز إلينا وهزت رأسها وقالت:

(إنكم مفقودون. . . كالحجارة. . . ارجعوا ثانية إلى عملكم)

وقال ميشكا وعلى فمه ابتسامة المعترف بذنبه: (يظهر إنها غضبى)

وحك زيومكا رأسه وتثاءب والتفت إلى العجوز دون أن يراها وسار في طريقه وأطرق مفكراً: (إن قفل الكتاب من الفضة) وسرت في وجهه قشعريرة

ص: 57

وقضينا الليل في الحديقة إلى جانب أنقاض الحمام الذي هدمناه عن آخره في ذلك اليوم. وفي ظهر اليوم التالي أتممنا تنظيف النافورة، وقد ازدادت قذارتنا وتبللنا بالماء، وانتظرنا أمام باب المنزل في انتظار أجرنا، وكنا نتحدث عن غذاء وعشاء دسمين نتناولهما قريباً؛ ولم يكن لواحد منا أي رغبة في الحديث عن شيء غير ذلك.

وفرغ صبر زيومكا وقال بصوت أجش: والآن أين استقرت يا ترى هذه الغول الشمطاء؟ لقد هلكت!

وقال ميشكا وقد هز رأسه معاتباً صديقه:

(لقد بدأ يسب من جديد. ولماذا يسب يا ترى؟ هذه العجوز امرأة طيبة تخاف الله، وهو يسبها - هذا هو خلق الرجال!)

وابتسم زيومكا وقال له إنه شديد الحساسية نحو ذلك الطائر الشارد، تلك العجوز. . . هذه. . .

وقضى ظهور العجوز على هذا الحديث الطريف. وتقدمت إلينا وأخرجت النقود وقالت في احتقار: (هاهي ذي نقودكم فخذوها وارحلوا من هنا. كنت أريد أن أعطيكم أخشاب الحمام فتقطعوها قطعا صغيرة، ولكنكم لستم أهلا لذلك)

وأخذنا نقودنا صامتين وذهبنا ولم نحظ بشرف تقطيع أخشاب الحمام إلى قطع صغيرة للوقود

وقال زيومكا وقد خرجنا من باب الحديقة: أيها البشع العتيق أنظر إلى هذه! ألا أستحقها يا قبيح الوجه؟ الآن يمكنك أن تسبح باسم ذلك الكتاب.

وأدخل يمينه في جيبه وأخرجها بقطعتين من المعدن اللامع وأرانا إياهما كمن كتب له النصر

وجمد ميشكا في موقفه، واشرأب عنقه ليرى ما في يدي زيومكا. وسأله حائراً:(هل خلعت القفل؟)

- (هذا ما فعلته! إنه من الفضة الجيدة. ويمكن لأي إنسان أن يحتاج إليها. وهى تساوى على الأقل روبلا)

- (هيه، وما دمت قد فعلت ذلك فارمها بعيداً عني! يا للخجل!)

ص: 58

- (سأفعل ذلك)

وتابعنا السير في صمت. وقال ميشكا مفكراً في الأمر. تمت بمهارة، انتزعها ببساطة. ثم قال:(نعم لقد كان كتابا جميلا وستحقد العجوز علينا)

وقال زيومكا هازئاً: (إنها لن تسترجعنا مرة أخرى لتقدم لنا ثناءها)

- (وبكم تبيعها؟)

- (بتسعة أعشار الروبل - هذا أقل ثمن، لا أقل من ذلك فلسا. إنني أخسر فيها. أنظر لقد انقصف لي ظفر)

وقال ميشكا في خجل: (بعني إياها)

- (أإياك أبيعها؟ أتريد أن تجعل منها أزراراً لقميصك؟ أنظر! إنها تكفي لعمل زوج جميل من الأزرار - وهى تليق بك على ثيابك الخلقة)

ثم أخذ ميشكا يستعطفه: (كلا إنني جاد غير هازل. بعني إياها

- (اشترها، كم تدفع؟)

- (خذ ما تشاء، ما هو القدر الذي أحصل عليه من شركتي في العمل؟)

- (روبل واحد وعشرون كوبكا)

- (وكم تريد أن تأخذ فيها؟)

- (يا مغفل! ماذا تريد أن تفعل بها؟)

- (بعن إياها. أرجو ذلك)

وانتهت عملية البيع في النهاية، وأصبح القفل ملكا لميشكا بعد أن دفع تسعين كوبكا

ووقف ميشكا في مكانه وقلب القطعتين في يده وحدق فيهما. ونصحه زيومكا هازئاً بأن قال: (علقهما في انفك؟)

وأجاب ميشكا جادا: (ولم ذلك؟ إنني لا أريدهما. سأرجعهما إلى العجوز وأقول لها: هاك يا سيدتي العزيزة المحترمة. لقد أخذناهما سهوا معنا، فأرجعيهما إلى ما كانا عليه

- ولكنك انتزعتهما فكيف إصلاحهما؟)

وسأله زيومكا وقد فتح فاه: (أتريد حقاً أن تحملهما إليها يا شيطان؟)

- (نعم ولم لا؟ أنظر إن مثل هذا الكتاب يجب أن يبقى كما هو. ولا يجوز للإنسان أن

ص: 59

ينزع منه قطعة. وسوف تغضب العجوز وتحزن. . . وسوف تموت عما قريب. هذا ما أردت. فانتظر لحظة يا أخي فسأعود سريعاً)

وقبل أن نتمكن من إيقافه اختفي وانعطف بخطوات سريعة وقال زيومكا في غضب وهو يفكر في أثر هذه الواقعة ونتائجها المحتملة: (ما أضعف هذا الرجل وما أكثر تغفيله؟)

ثم أخذ يؤكد لي في كل جملة خطأه

ولكن الآن انتهى كل شئ. لقد أوقعنا في الشرك. ولعله الآن جالس متكئ أمام العجوز. وقد لا يغيب عنها أن تستنجد بالشرطة)

(هذا مثل مما يتوقعه الإنسان من مصاحبة هذا الوغد. إنه حقا يدخل الشخص إلى السجن من أجل شئ تافه. هذا الكلب! هل رأيت رجلاً له مثل هذه النفس الدنيئة، ينبغي أن يُلقي بأصدقائه إلى التهلكة، يا إلهي! أهذا هو جيل اليوم؟ هيا بنا، لم هذا الانتظار؟ أتريد أن تبقى هنا؟ انتظر إن شئت، ليخطفك عفريت من الجن أنت وكل الأوغاد من أمثالك. ذلك الوغد! ألا تريد أن تذهب معى؟ هيا)

ووكزني زيومكا في جانبي وسبني ومضى لسبيله

وكنت أريد أن أعرف ماذا جرى لميشكا عند صاحبة آخر عمل قمنا به. فذهب ثانية إلى ذلك المنزل، وكنت أعتقد أن لا خطر في ذلك، وأن السوء لا يمسني من جراء هذا. ولم يخب ظني، ووصلت المنزل وأخذت أنظر من خلال الحواجز وقد رأيت وسمعت ما يلي:

كانت العجوز جالسة على سلم المنزل ممسكة بقطعتي القفل الفضي بيدها وهى تنظر إلى ميشكا من خلال منظارها بدقة كما لو كانت تريد أن تتغلغل في صميمه. وكان لعينيها الحادتين بريق قوى. وقد ارتسمت على طرف فمها ابتسامة خفيفة رخوة تحاول إخفاءها: هي ابتسامة المغفرة.

وتبين من خلف العجوز ثلاثة رؤوس: امرأتان إحداهما شديدة حمرة الوجه وعلى رأسها منديل زاهي الألوان، والثانية عوراء، وقد وقفت خلف رجل عريض المنكبين وإمارات وجهه تدل على أنه يريد أن يقول:

(أسرع من هنا يا صديقي! أسرع بقدر ما يمكن)

وكان ميشكا يتحدث في ارتباك:

ص: 60

(لقد كان كتاباً عظيما!! إنهما نذلان! أما أنا فقد كنت أذكر ربى. هذا هو الحق. وهذا ما يجب قوله. إننا تعساء ورجال سوء أنذال - ثم كنت أعود فأفكر في المرأة العجوز الطاعنة في السن. ولربما كان سرورها الوحيد في كتابها هذا - ذلك ما ظننته. وأردت أن أهيء للعجوز المتدينة سروراً وأن أرد إليها أشياءها: وقد اكتسبنا بحمد الله شيئاً نقتات به. فالوداع يا أخوتي. إنني أريد الذهاب الآن)

واستوقفته العجوز وقالت له: (انتظر! هل عرفت ما قرأته لك البارحة؟)

(أنا؟ أَنَّى لي ذلك؟ إنني استمعت إليك ولكن أي استماع؟ فهل لآذاننا قدرة على استماع كلام الرب؟ إننا لا نفهم مثل ذلك.)

وقالت العجوز: (أهكذا؟ ألا تنتظر لحظة أخرى؟) وتململ ميشكا وأخذ كالدب يضرب الأرض برجليه. فان مثل هذا الحديث لا طاقة له به.

- (هل لي أن أقرأ لك شيئاً قليلاً؟)

- (. . . . . ولكن صديقَّي ينتظران.)

- (دعهما ينتظران، إنك رجل طيب. دعهما يسيران حيث شاءا.) وقال ميشكا بصوت خافت: (حسناً.)

- (إنك لن تسير معهما بعد الآن؟ أليس كذلك؟)

- (لا.)

- (هذا هو الصواب. إنك طفل كبير على رغم مالك من لحية تنزل إلى وسطك! هل أنت متزوج)

- (بل أعزب. إن زوجتي توفيت.)

- (ولم تشرب الخمر؟ أنك تشرب طبعاً؟)

- (نعم.)

- (ولماذا؟)

قال ميشكا متضجراً: (ولماذا أشرب الخمر؟ لتغفيلي. إنني مغفل ولهذا أشرب. ولو كان للإنسان عقل لم جرؤ على تحطيم نفسه بيده.)

- (إنك على حق.) فاعمل على أن تكون عاقلاً. حسن من سيرتك وأصلح من أمورك.

ص: 61

اذهب إلى الكنيسة واستمع إلى كلام الرب ففيه كل الحكمة.)

وتأوه ميشكا وقال: (سأفعل)

- (هل لي أن أقرأ لك شيئاً؟)

- (نعم، تفضلي)

وأتت العجوز بالإنجيل، وقلبت صفحاته، وبدأ صوتها يدوي، ورمى ميشكا برأسه إلى الوراء، وحك بيده ذراعه اليسرى (وهل تظن أيها الإنسان أن في وسعك التهرب من حكم الرب؟)

وقاطعها ميشكا وكأنه يجهش بالبكاء: (سيدتي المحترمة، دعيني أذهب، أرجو ذلك محبة في الله، سآتي مرة أخرى عن طيب خاطر واستمع. أما الآن فأني جائع جدا. إننا لم نتبلغ منذ أمس.

ودقت العجوز صدرها، وقالت:(أذهب! ابتعد!) ورن صوتها المزعج في الفضاء، واندفع ميشكا مسرعا نحو الباب بعد أن قال لها:

(أشكرك شكرا جزيلاً أيضا)

وتمتمت العجوز تقول: أرواح مغلقة! قلوب غلف كالحجارة!

وبعد نصف ساعة جلسنا في المطعم، وشربنا الشاي وأكلنا الخبز الأبيض، وقال ميشكا وهو يبتسم إليّ بعينه التي تشبه عيون الأطفال سذاجة وفرحا:(كنت أشعر كأن حمى قد انسابت في جسمي، وقد وقفت هنالك وفكرت في القول: أي ربى لم جئت إلى هنا؟ إنه العذاب! وبدأت هي الحديث: هل هؤلاء آدميون! إننا نريد أن نكون شرفاء معهم ونهيئ لهم ما توحي به ضمائرنا، إلا أنهم يفكرون في غير ذلك: يفكرون في متاعهم. فقلت لها: يا سيدتي المحترمة، هذا هو قفلك أرده إليك ولا تغضبي. . . ولكنها قالت: انتظر، ابق هنا، أذكر لي أولاً لم أحضرته؟ وبدأت تخزني بكلماتها، ولقد سئمت كثرة أسئلتها. . . هذه هي الحقيقة)

وتابع الابتسام الهادئ المريح

واهتاج زيومكا وقال له جادا:

(أولى لك يا صديقي أن تموت! وإلا التهمك في الغد الذباب من فرط سخف أفكارك)

- (إنك تتحدث بغباء دائماً. تعال، نريد أن نشرب كأساً على المسألة الستار). وشربنا كأساً

ص: 62

على نهاية هذه الحادثة العجيبة.

عن الألمانية ا. ا. ي

ص: 63

‌درامة من أسخيلوس

سبعة ضد طيبة

(الدرامة الثالثة الباقية من مأساة أوديب)

للأستاذ دريني خشبة

خلاصة الدرامتين المفقودتين: ولد لملك طيبة الملك لايوس طفل جميل قالت النبوءة إنه إن عاش فسيقتل أباه ويتزوج أمه ويجر البلاء على شعبه فأرسله الملك مع واحد من خدمه ليقتله ويتخلص بهذا من شره، ولكن الخادم خشي عقاب السماء إذا قتل الطفل فعلقه من عقبيه في شجرة وعاد إلى المدينة. ومر راعي غنم بذلك المكان فأحزنه بكاء الطفل فأخذه وذهب به إلى ملك كورنثه الذي فرح به لعقم زوجته وجعله ولياً لعهده وسماه أوديبوس (أي ذا القدمين المتورمتين). وكبر أوديب وأقيمت حفلة راقصة في القصر وثمل المدعوون وحدث أن أحدهم اصطدم في نشوة السكر بأوديب فلمزه في أصله وأنه ليس ابن ملك كورنثه، فثار أوديب وأظلمت الدنيا في عينيه وترك من توه قصر الملك وهام على وجهه في البلاد باحثاً عن والديه الحقيقيين.

ولقي ركباً ملكياً في طريقه إلى دلفي فأمره القائد أن ينتحي ناحية حتى يمر الموكب ولكنه أبى والتحم مع الجماعة في معركة فقتلهم جميعاً وفيهم ملك طيبة - وبذلك تحقق شطر النبوءة الأول لأنة قتل أباه - ثم سار إلى أن بلغ طيبة فوجد قومها في حيرة من مقتل الملك ومن هولة بحرية فتكت بأهل المدينة لأنهم لم يستطيعوا تفسير حجياها، وسمع أوديب أن مجلس المدينة قرر أن من يخلص الناس من هذه الهولة فانه يصبح ملكا عليهم ويتزوج الملكة الأرمل، فذهب من فوره فلقيها وحل حجياها وقتلها وصار ملكا على طبية وتزوج الملكة التي هي أمه وهو لا يعلم - وبذلك تحقق شطر النبوءة الثاني - وحدث وباء في طيبة فتك بأهلها فتكا ذريعاً وقالت النبوة إن الوباء لا يرتفع عن حتى يقتل قاتل الملك لايوس. . . وأمر الملك بتحقيق مقتل سلفه فثبت عنده أنه هو القاتل وأنه ابن لايوس هذا وأنه تزوج أمه ونسل منها ولدين وفتاتين فجن جنونه وسمل عينيه وهام على وجهه إلى الغابة لتقتله ربات الذعر جزاء له. . . أما ابناه فقد اقتتلا على العرش واستنجد أكبرهما

ص: 64

بالأرجيف أعداء طيبة فثار الشعب عليه. . . وفي المعركة التقى الإخوان فقتل أحدهما الآخر وبذلك تحقق الشطر الأخير من النبوة. . .

- 1 -

اختلف الإخوان، إتيوكليس، وبولينيسيز، بعد مقتل أبيهما من أجل العرش، ثم اتفقا على أن يحكم كل منهما سنة، واتفقا على أن يحكم إتيوكليس، الأخ الأكبر قبل أخيه. فلما حال الحول وأراد بولينيسيز ارتقاء العرش بدوره، أبى أخوه؛ وألب عليه الشعب، وأوغر صدور مجلس طيبة بما لفق على أخيه من المفتريات. واضطر بولينيسيز إلى ركوب الأسنة، لما لم ير له حيلة إلا ركوبها!

- 2 -

ولاذ بملك آرجوس، أدراستوس، فحل به أهلاً ونزل عنده سهلاً، واتفق الملك على أن يزوج الأمير ابنته، عل أن يرسل جيشه العرموم على طبية لإذلالها، يقوده سبعة من أشد قواده وعلم أتيوكليز بما دبر أخوه فهاج هائجه، وانطلق إلى شعبه يدلهم على خيانة بولينيسيز، ويقدم لهم دليلاً جديداً (على هذا المارق الذي لفظه وطنه فلاذ بأعدائه يشترى الملك بالعبودية، والتاج بالقيد الذي يعده لبلاده، وسعادته الوضيعة بشقاء طبية بأسرها. . .)

- 3 -

(إتيوكليز يحرض الجند على الأسوار)

- (يا أبناء طيبة! أيها القدميون الشجعان! يا ذادة الوطن! الساعة خطيرة فانتبهوا، وإياكم وسنة من النوم تأخذكم والعدو محدق بكم. إنه أن يكن نصر فمن الآلهة التي ترعاكم؛ فان تكن الأخرى، وحاشا أن تكون، فأنني، أنا إتيوكليز ابن أوديبوس الشقي، أنا الرجل ملء الأفواه وملء الأسماع، سأكون عرضة لحقنكم وسخطكم، لأنني لم أستطع الدفاع عن ذماركم فلم أستحق محبتكم. وقانا الله عاقبة السوء، ودفع عن طيبة هذا البلاء. يا أبناء الوطن! إن كل نَفَس يتردد فوق تلك الأرض المقدسة حري بأن يشترك في الجهاد الأكبر، شيبكم وشبابكم، كبيركم وصغيركم، قويكم وضعيفكم، كل ينفخ في أخيه من روح الوطن، وكل تتدفق في عروقه دماء النخوة حارة ترد بسواعدكم الغزاة العتاة المعتدين!. . . قد جدت

ص: 65

الحرب بكم فجدوا، ألا فافزعوا إلى أسلحتكم فردوا بها عادية الأشرار عن وطنكم وعن آلهتكم، وعن أطفالكم، وأمهاتكم اللائي أرضعنكم لتكونوا بعون السماء الكماة الحماة اللهاذم الصيد الصناديد! اذكروا ما بعد النصر من عز وفخر، واذكروا ما بعد الهزيمة من عار ودمار ومذلة وأَسار!! لقد حدث واعظكم وصفي آلهتكم تيريزبازس، قال: إن قادة الأرجيف قد اعتزموا الكبسة ليلتهم هذه، فمن لطيبة يا أبناءها غيركم!! هلموا!! تبوأوا مواقف للقتال في كل شبر من أرضكم، وقفوا بالمرصاد لعدوكم، وسدوا الثغور فأنها مفاتح بلادكم، واستلئموا في حديدكم ولا ينالُن منكم غرة فتذهب ريحكم، وخذوهم من فوق حصونكم، ولا تهولنكم كثرتكم فالسماء معكم، والآلهة من خلفكم. . . . . .)

- 4 -

(يدخل رسول)

- (حيّا الله مولاي الملك! الأخبار يا مولاي! لقد شهدت بعينيْ رأسي! الأرجيف يا مولاي في سبعة جيوش جرارة، يقود كل جيش كميٌّ صنديد. لقد ذبحوا قرابينهم من كل عجل جسد وثور سمين، وغمسوا أيديهم في الدماء، ثم تقاسموا ليجعلن عاليَ طيبة الخالدة سافلها أو ليهلكن دونها. . . وكانوا يا مولاي يرمقونها بعيون تقدح الشرر إذْ هم يأخذون مواثقهم، وكانت شفاههم تتلمظ تحناناً ليوم النصر، وفي قلوبهم نار تسعر! وقد عجلت إليك يا مولاي وإنهم ليعبئون صفوفهم، ويأخذون أهبتهم، فخذوا عدتكم واثقفوهم قبل أن يقفوكم، ولتكن طيبة كلها يداً واحدة، وإن لنا لَلْكَرّةَ بمعونة السماء. . .

(يخرج الرسول)

- (يا زيوس العظيم! يا مولاي! يا رب هذا البلد! احمه من الأعداء، ولا تسلطهم عليه فيغتصبوا حريته، ويهدروا كرامته! كن في عون عبادك من ذراري قدموس! إنهم يخبتون لك ويصلون من أجلك!)

- 5 -

ويشرف الطيبيات من أعلى الأسوار، فيرين إلى جحافل الأعداء محدقة بمدينتهم فيتفزّعنْ فرقاً، ويتغنين بالآم الوطن، ويرسلن أنشودة طويلة مبللة بالدموع من أجل طيبة، ويهتفن

ص: 66

بالآلهة أن تنقذهن من ذل السبي وهوان الأسار، فما يسمعهن إتيوكليز حتى يهرع إليهن

- (ألا خَبّرْن أيتها المخلوقات اللائى لا يتحملكن قلب ولا يُسر برؤيتكن طرف! أبمثل هذه الأصوات المنكرة تدفعهن عن طيبة بلاء الأعداء!؟ أبهذا الصراخ وذاك العويل تكشفن الغمة عن الوطن الحزين!؟ تالله إنكن عليه بهذا العواء الذي يقذف الرعب في قلوب الجند! أتحببن أن تُحبَسْن ورجالكن في عقور دوركن، وتكن بذاك قد دفعتن عن البلاد غائلة العدو المحدق بنا جميعاً! مالكن تهرولن هنا وهناك باكيات منتحبات؟ إنكن إذن بلاء هذا الوطن وشقاؤه، ولَسْتُن أهله بل أعداءه! إنكفئن إذن وخلين بين الرجال وبين واجبهم الأسمى من مجالدة الأرجيف، والذود عن بيضة الوطن! إنكفئْن! لاسعت بكن قدم؟!)

- يا حفيد لايوس العظيم! إن قلوبنا لتنخلع من ضوضاء هذا الجيش اللجب المحيط بنا؟!)

- (أذن خبّرْن يا نساء طيبة! أإذا أحيط بالسفينة في البحر اللجي ترك الربان سكانها وفزع إلى السارية لينجو من الغرق؟!)

- (بل نحن قد فزعنا إلى هياكل الآلهة أن تحفظنا من الأسار، وصلينا في كل معبد من أجل رجالنا وأطفالنا!)

- (بل صلين للآلهة أن تقي أسوار المدينة، وأن تنصر أبطالنا على خصومنا! اهتفن بأبنائكن أن ادفعوا عن أوطانكم، ولا تسمحوا لعدوكم أن يجوس خلال هذه المدينة! إنهم وحدهم يقدمون القرابين من أرواحهم لهذه الديار! أما انتن فقرن في بيوتكن، ولا تلقين الرعب في قلوب أبنائكن!! لقد كدتن تفعمنها جبناً وترهقن سواعدهم ضعفاً وخوراً!)

- (ويلاه! إن العدو يأخذ المدينة من أساسها! اسمع!)

(أصوات شديدة وقرقعة)

- (أجل! وإن للمدينة لأبناءً كراماً، وإنها لقعقعة سلاحهم تبيد صفوف الأعداء!)

- (بل هم الأعداء يجرعون أبناءنا غصص الموت!)

- (غصص موت تبيدكن جميعا! أُصمتن!)

- (أنت سبب هذا البلاء! كل هذا من أجل لباناتك! أنت جلبتهم على طيبة بالخيل والرَّجْل!!)

- (يازيوس الجبار! أي شياطين بثثت في نفوس النساء؟)

ص: 67

- (النساء التاعسات مثل رجالك الذين أشقيتهم!)

- (أصمْتن يا شقاء الوطن! لقد أزعجتن جنودنا بأصواتكن!)

- (نصمت! آه! لنصمت بأمر الملك)

- (يا آلهة الأولمب رفقاً بطيبة! تقبلي صلواتنا من أجل هذا الوطن! إني لن آلُو جهدا في تخير ستة من شجعان قادتنا يدفعون قادتهم السبع. . . باركي يا سماء وانصري يا آلهة)

(يخرج إتيوكليز)

- 6 -

ويهوج الخورس بأناشيد يترجمن بها عن الفزع الذي يروعهن من هذه الحرب، ثم يصلين من أجل طيبة، ويدعين الآلهة، ويحضر إليهن رسول ممن شهد المعارك فما يوشك يصف ما حدث عند البوابة من الطعن والضرب، والتكبكب والانهزام، والهجوم والارتداد، حتى يجيء إتيوكليز فينفي كلام الرسول، ويخبر أن القائد الطيبي فلانا قد دحرهم، ومزق صفوفهم وخضد بأجناده شوكتهم. فإذا حدث الرسول عما كان من نزال وقتال عند البوابة الثانية رد إتيوكليز فبالغ في شجاعة الطيبين ثمة، وما أبدوا من صمود للهجمة، وصبر في موقف الموت. . . وهكذا. . . فإذا بلغ الكلام عما كان عند البوابة السابعة وذكر الرسول أن بولينيسيز نفسه هو قائد الأرجيف في تلك الجهة امتقع وجه إتيوكليز واربد جبينه، وانعقدت فوقه سحائب من الهم والفكر، ثم تلجلج لسانه بكلمة طويلة عن مصائر هذه الأسرة الشقية التاعسة، وانطلق ليدافع عن البوابة السابعة ضد أخيه بنفسه. غير مصغ إلى تحذير الخورس إياه. ولا حافل بإمارات السوء التي كانت ترقص أشباحها في الميدان.

- 7 -

ويتغنى المنشدات، فيذكرن الأحداث القدامى التي تنبأ بها الكهنة في دلفي عن أوديب طفل لايوس، ويوجسْنَ خيفةً أن يتم اليوم الفصل الأخير من المأساة.

وما يكدن يفرغن من تغنيهن حتى يدخل إليهن رسول يزف إليهن بشرى نجاة طيبة وسلامتها!

- (نجاة طيبة؟ هل انتصرت جيوشنا يا صاح؟)

ص: 68

- (كلا، ولكن انتهى كل شئ! لقد قُتِلا؟)

- (قتلا! من لعمركَ أيها الرسول!)

- (هدئن من روعكن يا سيدات! إتيوكليز وبولينيسيز! لقد قتل كل منهما أخاه، ووضعت الحرب أوزارها!

وتكاد الفتاتان المنكودتان: أنتيجونى وإسمنيه، ابنتا أوديب تصقعان لهذا الخبر، فهما أختا الأميرين المتحاربين، والبقية الباقية من هذه الذرية الشقية، وسيتألف من شقوتهما أسود فصل في المأساة.

- 8 -

وترثي الفتاتان أخويهما رثاء باكياً حزيناً، وما تكادان تفرغان حتى يدخل القائد العام لجيوش طيبة فيقول:

- (قضي الأمر وانكشفت عن طيبة غمة الحرب التي جناها عليها المارق الأثيم. . . وسنفرغ الآن للاحتفاء بدفن إتيوكليز، حبيب الوطن؛ وصفي الآلهة، وبطل الأبطال. . . ستقف طيبة كلها عند قبره لتذرف عليه دموع المحبة والإخلاص والحزن. . . أما الشقي بولينيسيز، فستنبذ جثته بالعراء، جزر السباع وكل نسر قشعم. . . ستنوشه كلاب البرية بعد أن يجيف وينتن، جزاء له على مروقه من حظيرة الوطن، وعقابا له على لواذه بأعداء طيبة، وسوقه جيوشهم عليها يقتلون أبنائها ويطفئون جذوة الحياة فيها. . . لن يبكي عليه أحد. . . ولن يوقره أحد. . . ولن تؤدى له طقوس الموت لأنه لا يستحقها، ولن يصب أحد على ترابه خمراً. . . اللئيم المنبوذ. . . بهذا قضى عليه مجلس طيبة الأعلى، فليذق بغض ما قدمت يداه!!)

وما يكاد يفرغ حتى تثور ثائرة انتيجوني حزناً على أخيها وتقول:

- (ماذا أيها القائد؟ لن تقام الطقوس الدينية لأخي! وسينبذ بالعراء تنوشه الكلاب البرية وذؤبانها؟ هاها!. . . أنت تحلم ورجالك أعضاء مجلس طيبة يحلمون! بل أنا. . . أنا الفتاة العاجزة أنتيجوني. . . أخت هذين التاعسين، وابنة ذينك الأبوين البائسين. . . سأقوم لأخي بكل ما أباه عليه مجلسكم الموقر. . . سأدفنه وسأهيل التراب على جسمانه، وسأضرب بقراركم عرض الأفق! ولتفعل قوتكم بضعفي بعد ذلك ما تشاء!

ص: 69

- (أنصح لك يا فتاة أن تدعي لمجلس الأمة مصير هذه المسئلة!)

- (بل أنا أنصح لمجلس الأمة ألا يأمر بما ليس في مستطاعه!)

- (أحذرك، فهنا شعب نجا الساعة فقط من أهوال الحرب، وهو لذلك لا يعرف الرحمة!)

- (ليكونوا غير رحماء؟ ولكن لابد مما ليس منه بد! سيدفن أخي برغم الجميع!)

- (وكيف؟ إنك تتحدين الدينة بأجمعها! انها تكرهه!)

- (لقد لقي حسابه من السماء، فلم يعد لأهل الأرض حساب معه!)

- (ولكنه عرض الوطن للبوار قبل كل شيء!)

- (لقد أساء التصرف فيما لم يكن له فيه يدان! وسأدفنه وحسبكم مني هذا. . . كفى. كفى!!)

- (أنت حرة. . . تفعلين ما تشائين. . . ولكنى سأمنع الدفن بالقوة!)

ويتغنى المنشدات، ويصلى الجميع للآلهة

دريني خشبة

ص: 70

‌من هنا ومن هناك

سافو وليلى الأخيلية

لعل ليلى الأخيلية من بين شاعرات العرب هي أشبه الشاعرات بسافو

شاعرة الإغريق منذ خمسة وعشرين قرناً. فأشعار ليلى تفيض بالحب،

ويحس منشدها اللوعة، وتجرى في أبياتها الصبابة؛ وكل هذه مزايا

أشعار سافو. ولسافو بين الإغريق مكانة عالية لا يدانيها إلا هوميروس

بين الرجال. وهى ثالثة ثلاثة بين شعرائهم الغنائيين: أولهم ألكيوس،

وثانيهم أنكريون وقد امتاز ألكيوس بأشعار الحماسة والوطنية؛ وامتاز

أنكريون بقصائده التي تشبه قصائدنا العربية في الوصف والبث والبكاء

والحكمة. أما سافو فتمتاز بالغزل والنسيب والتشبيب، وقد تختلف من

ليلى الأخيلية بالغزل الصارخ الذي لا تعرفه البدويات الرعابيب. وفي

نسيب سافو ثورة متأججة من نشدان اللذة في الحب، فهي لا تعرف

هذا الهوى العذري الذي نعرفه في ليلى. هذا وإن لم يثبت التاريخ أن

سافو كانت (عشيقة) يوماً ما؛ ومن يدرى؟

والإغريق مولعون بأشعار سافو، وكانوا يرددونها على كؤوس الخمر، لأنها أمتع أغانيهم الخمرية سئل صولون المشترع:(افرض أنك تموت الآن يا صولون. فماذا كنت تشتهي قبل موتك؟)؛ فقال: (أغنية من سافو أرددها ثم أموت!!)

سيف الدولة وميسيناس

قال الثعالبي في تيمة الد هر: (إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك، بعد الخلفاء، مثل ما اجتمع بباب سيف الدولة من الشعراء المفلقين!)

وميسيناس في التاريخ الروماني يشبه سيف الدولة في التاريخ العربي، من حيث الميول الأدبية عند كل منهما واجتذاب الشعراء والأدباء بالمنح والعطايا الجزيلة. كان المتنبي

ص: 71

شاعر سيف الدولة الفحل، وكان كُشاجم الشاعر الرقيق أحد خدمه، وأبو الفرج الببغاء وصافة الحروب أحد كتبته ومواليه، والسري الرّفّاء والواوي من شعرائه، وكان ابن عمه أبو فراس من بطانته، وكان سيف الدولة مع ذلك الشاعر الفحل والنقادة البارع؛ وربما - لو فرغ للشعر - فاق هؤلاء جميعاً. ويعزون له شعراً لا نعرف في الشعر العربي كثيراً مما يشبهه رقة ودقة. يذكرون أنه خاف على إحدى جواريه فحجزها في إحدى قلاعه، وقال في ذلك:

راقبتني العيون فيك، فأشفق

ت ولم أخل قط من إشفاق!

ورأيت العدو يحسدني في

ك مجدّاً بأنفسِ الأعلاق

فتمنيت أن تكوني بعيداً

والذي بيننا من الود باق

رب هجر يكون من خوف هجرٍ

وفراقٍ يكون خوف فراق

وقال يصف قوس قزح:

وساقٍ صبوح للصبوح دعوته

فقام وفي أجفانه سِنة الغمض

يطوف بكاسات العقار كأنجم

فمن بين منقض علينا ومنفض

وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفاً

على الجودُ كنا، والحواشي على الأرض

يطرزها قوس السحاب بأصفر

على أحمر، في أخضر، إثر مبيض

كأذيال خود أقبلت في غلائل

مصبَّغة، والبعض أقصر من بعض

والذي يعنينا من عقد المقارنة بين سيف الدولة العربي وميسيناس الروماني هو الوصول إلى أبى الطيب عن طريق سيف الدولة، وهوراس عن طريق ميسيناس. فلقد كان أبو الطيب المتنبي خاملاً حتى اتصل بسيف الدولة فنبه؛ وكان فقيراً فأعطاه سيف الدولة حتى اغتنى. وكان أبو الطيب يحب سيف الدولة بقدر ما يشعر له كما كان يقول الثعالبي؛ وكذلك كان هوراس الشاعر الروماني الكبير من ميسيناس الروماني الكبير

كان ميسيناس كبير مستشاري أكتافيوس (تلك الشخصية الفذة التي تدور حولها وقائع الفصل الأخير من درامة الجمهورية الرومانية، والذي ثأر من بروتس وشيعته قتلة قيصر، وتخلص بلباقة من شراك كليوبطره، والذي منحه مجلس الشيوخ لقب (أوغسطس) أي المعظم؛ ولقب برنسبس أي المجلى أو أعظم أعضاء مجلس الشيوخ، والذي صار فيما بعد

ص: 72

ذلك طاغية رومة وامبراطورها العظيم)، وقد استطاع ميسيناس أن يكون موضع الثقة من الطاغية حتى أصبح مطلق اليد في شؤون الإمبراطورية، وأصبح فضلاً عن ذلك أكبر شخصية في الدولة يزيدها التفاف الشعراء ومحبة الأدباء بهجة ورواء وتألقاً

عرف الشاعر فرجيل هوراس وسمع إليه فأعجب به وضمه إلى جماعة الشعراء الرومانيين المسماة ثم وصله بحاشية ميسيناس فأغرم به المستشار وأغدق عليه النعم وصحبه معه في حروب الدولة وحضر موقعة أكتيوم التي وصفها هوراس ووصف غيرها من الحروب الرومانية كما وصف أبو الطيب حروب سيف الدولة

وقد كان هوراس كما كان أبو الطيب يصبو إلى الحكم في ظل الدولة، فلما انتصر الرومانيون بقيادة أكتافيوس في أكتيوم رأى ميسيناس أن يكافئ شاعره مكافأة تتناسب وقدمه العالية عنده، فأقطعه إقطاعية واسعة في الأراضي السابيّة (وسط إيطاليا) قريباً من روما، وهو ما لم ينله أبو الطيب لا من سيف الدولة ولا من المعتضد، ولا من إمام الآبقين أبي المسك كافور!! والذي يقرأ ديوان هوراس يلفته اسم ميسيناس في أكثر صحائفه كما يلفت القارئ اسم الدولة في ديوان أبى الطيب

وسنعود إلى شعر هوراس في عدد آخر؛ ولكن لا يفوتنا هنا أن نشير إلى براعة ميسيناس في نقد الآداب وتمييز غثها من سمينها؛ ثم إلى براعته في الخطابة ومقدرته الهائلة في التأثير على الجماهير. ولقد كان يفضل هوراس على فرجيل ويعتبره شاعر الرومان المعبر عن خلجاتهم، والناطق بلسان الطبيعة في جميع أنحاء الإمبراطورية. أما فرجيل فكان يعده شاعراً أسطورياً لأنه نسج على منوال هوميروس.

أوسكار ويلد وبرنرد شو

يعتبر أوسكار ويلد زعيم المنحطين في الأدب الإنكليزي، وهو قد نسج في أدبه على طريقة بلزاك وجوتييه من حيث نشدان اللذة الجنسية، ولكنه غلا حتى أجاز الشذوذ في تحقيق هذه اللذة، وقصته (صورة دوريان جراي) آية في الشذوذ. وكما نسج في أدبه على طريقة بلزاك وجوتييه فقد نسج في فنه على مبادئ جون رسكن التي تدعو إلى محاربة الآلات ليرقى الفن وتقول بإخضاع الحياة للفن لا الفن للحياة، وهى مبادئ خطيرة ما تزال بكل أسف تلقى لها أنصاراً كثيرين في سائر الأقطار. وقد كان لأدب أوسكار ويلد ولفنه في

ص: 73

إنجلترا ثمرة مرة، ولكنها مشتهاة، فقد غنى على عوده كثيرون من رجال المدرسة الحديثة أمثال لورانس وجويس وألدوس هكسلى ورسل، وإن لم يكن بعضهم ينهج في قصصه من حيث الأدب الجنسي نهجاً علمياً قد لا ينافي الأخلاق وإن عظم أثره في تكييف سلوك الشباب. وبرنردشو هو نقيض ويلد في كل شئ، إذ يكاد شو يكون صوفياً في نظرته للأدب، في حين ينظر ويلد للأدب نظرة مادية كنظرة الأباحيين إلى تمثال من المرمر لامرأة غاوية خليعة تثير التشهي وتعمل لتحقيقه. وشو يدعو إلى حفظ الجسم بالاعتدال في كل من شهوة البطن والفرج، وقد يحتم الصوم لتحقيق مذهبه، وقد امتنع عن أكل الأطعمة الحيوانية وتناول الأدوية لهذا السبب. وهاهو ذا يتمتع بكمال الصحة في شيخوخته النشيطة الدائبة التي ما تنى، على حين أغمض الموت جفني ويلد في غصص من الأمراض والتهدم الجسماني. . . وشو محتشم في كوميدياته، يثير الضحك بتعرية حقائق الأخلاق؛ أما ويلد فمهرج، يتبع في ملاهيه طريقة أرسطوفان الإغريقي الذي لا يرى بأساً من إظهار حمار على المسرح وإلباس رجل لبوس امرأة. ويتفق شو وويلد في ذكائهما النادر ومنشئهما الايرلندي، وفي أنهما خدما المسرح الإنجليزي خدمة لم تكن تقوم قائمته بدونهما.

(د. خ)

ص: 74

‌البريد الأدبي

جلبرت تشسترتون

في الأنباء الأخيرة أن الكتب الإنكليزي الشهير جلبرت كايث تشسترتون. قد توفي في منزله الريفي في بيكونزفيلد في الخامس عشر من شهر يونيه الجاري. وتشسترتون كاتب وأديب من النوع العام أو النوع (الأنسيكلوبيدى). فهو صحفي، وفنان، وشاعر، وروائي، وكاتب مرح، ومؤرخ، وناقد، وسائح؛ وقد تبوأ مكانته في الأدب الإنكليزي المعاصر منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وكان مولده في شهر مايو سنة 1874 في كامدن هل من أعمال كنسنجتون، وتلقى تربيته في مدرسة سانت بول، ولكنه التحق بعد الفراغ منها بمدرسة (ملايد) الشهيرة ليدرس الفنون، ولما غادر مقاعد الدرس بدأ الحياة أدبياً ناقداً ينقد الكتب الفنية في بعض المجلات الشهيرة مثل (بوكمان) و (سبيكر) وغيرهما، ويشتغل في نفس الوقت في إحدى دور النشر ليكسب قوته. ومنذ سنة 1900 يستقر تشسترتون في حياته الأدبية ويتخذها مهنة ومرتزقاً؛ وظهر بسرعة في ميدان الصحافة، وتولى التحرير والنقد في كثير من كبريات الصحف مثل (الديلى نيوز) و (البال مال) و (الديلى هرالد) و (الورلد) و (الفور تنيتلى) وغيرها، وأخذ في نفس الوقت يخرج طائفة من الكتب الأدبية المختلفة، نذكر منها (الفارس المتوحش) وهو مجموعة شعرية؛ وترجمة نقدية للشاعر بروننج و (الاثنا عشر نموذجاً) و (نابليون صاحب نوتنهام)(سنة1904)، و (نادي السلع المدهشة)(سنة 1905) وترجمة الروائي دكنز (سنة 1906) و (الأرثوذكسية)(سنة 1908) و (السخافات الرائعة)(سنة 1908) وتاريخ الأدب الفكتوري (سنة 1913) و (السحر) وهى قطع مسرحية؛ وديوان شعر (1915)، ومختصر تاريخ إنكلترا (سنة 1917) و (خرافات الطلاق)(1920) و (الرجل الخالد)(1925)(وليم كوبيث)(1925) و (محاكمة الدكتور جونسون) وهى قطعة مسرحية (1927) والفصول الكاثوليكية وغيرها.

وتشسترتون كاتب وافر الإنتاج والطرفة، معاً يذهب في التحرر من الآراء والنظريات المقررة إلى أقصى حد، وقد تأثر كثيراً بنظريات صديقه الحميم المؤرخ هلير بلوك في التشكك؛ وهو ذو فراسة قوية في تفهم العوامل الاجتماعية وتكييفها، وقد اعتنق تشسترتون

ص: 75

الكثلكة في سنة 1922، وسجل بذلك تمسكه (بالأرثوذكسية) في سائر المناحي؛ في الأدب والسياسة والاجتماع وغيرها؛ ومن رأيه أن الإرادة البشرية هي مبعث كل الأعمال والتصرفات، ولا بأس من أن يحيي المجتمع من الأنظمة القديمة ما يناسبه.

وقد أنشأ تشسترتون منذ أعوام مجلة أدبية اجتماعية باسم أعنى أسبوعية جلبرت تشسترتون مرموزا إليه بالحرفين الأولين من اسمه

(ع)

جلبرت كنت تشسترتون أيضاً

توفي هذا الشاعر النقادة الصحافي الإنكليزي الكبير فاندك بموته صرح منيف من صروح الأدب الإنجليزي المعاصر.

نشأ نشأة متوسطة، ولم تعترضه ظروف قاسية كالتي تعترض لذاته من الأدباء عادة، ولذا عاش حياة كلها مرح، وقضى عمره الغنى الحافل في خدمة الأدب في جميع وجوهه، ومال منذ حداثته إلى قرض الشعر فنظم قصائد متواضعة ثم اشتد باعه فنظم القصائد الرائعة التي مكنت له في عالم الأدب، ورفعت اسمه فوق أسماء الأدباء. وكل عارف بالشعر الإنجليزي لا ينسى قصيدتي تشسترتون (نابليون نوتنج هل)، و (الفندق الطائر).

وتشسترتون يشبه رديارد كبلنج في شدة حبه للإمبراطورية، ويشبه درنكووتر في تفانيه لخدمة اللغة الإنكليزية والأدب الإنكليزي بيد أن قيمة تشسترتون كأديب عظيم لا ترجع إلى أشعاره، ولكن إلى كتاباته في نقد الأدب والحياة والاجتماع. فلقد جال جولات واسعة في أمريكا وفلسطين فنقد كل مرافق الحياة في الأولى في مجلد ضخم، ثم كتب تاريخاً حافلاً للحروب الصليبية ضمنه موجزا لتاريخ فلسطين. وقد آمن بعد تجواله في هذه الأقطار بوجوب استقلال الفلاحين وتدريبهم على حياة التعاون فيما بينهم بما ينفعهم، ولم ينس أن ينصح بمثل ذلك للإنجليز أنفسهم عندما كتب تاريخه المفيد

وبالرغم مما يدعيه هذا الكاتب الإنجليزي من كرهه لطرائق السفسطائيين الإغريق فانه لم يكن سفسطائي أكبر منه في إنجلترا ولا في العالم أجمع في العصر الذي نعيش فيه. وكان معروفاً عنه أنه متى ما رأى رأياً ولو كان خطلاً في خطل فانه ما يني عن سنده بالحجج

ص: 76

وإقامه بالبراهين، وإن تكن حججه وبراهينه دائماً أوهى من خيوط العنكبوت، ولكن قارئه برغم ذلك يكب عليه إكباباً عجيباً، ويشغفه منه هذا الترقرق في سوق حججه، وذاك البيان السهل، والأسلوب الأخاذ، والعبارة الطلية الهينة التي يغطى بها ضعف براهينه. وكان بطبعه هذا ميالاً إلى المبالغة والتهويل، ولذا كان يقع في التناقض دائماً. واليك مثلاً من تناقضه العجيب في فصل عقده عن (استقامة الرأي)، قال:

(لا ينشأ الجنون من إدمان التفكير، ولكن من التعقل (!!) فقلما يصاب الشعراء بالخبل، في حين يأفن لاعبو الشطرنج وتنتهي حياتهم إلى العته. والرياضيون والصيارفة كذلك طالما يصيبهم الجنون أو على الأقل اللوثة، في حين يحيا الفنانون حياة سليمةً برغم أنهم دائماً يعملون قرائحهم ويبتدعون ويخلقون. وأنا بقولي هذا لا أناقض المنطق ولا أهاجم المناطقة، ولكني أقرر أن الشر كل الشر في المنطق والمناطقة. . لا في التفكير. . .)

وقد ساق درنكووتر في خلاصته عن الأدب أمثالاً أخرى عن تناقض تشسترتون (ص 916) نحيل إليها القارئ

والذي سيخلد من كتابات تشسترتون هي فصوله الممتعة في نقد الأدب والأدباء؛ وسيبقى كتابه عن (دكنز) ثروة عظيمة للمتأدبين بالأدب الإنكليزي.

(د. خ)

جريدة إنكليزية لتأييد القضية الحبشية

تلقينا الأعداد الأولى من جريدة أسبوعية تصدر في لندن بعنوان (التيمس الجديدة وأخبار الحبشة) & وعنوانها يدل على موضوعها وغايتها فقد أنشئت أخيراً للدفاع عن القضية الحبشية أمام الرأي العام الإنكليزي والأوربى، واقناعه بفظاعة الاعتداء الإيطالي، وتتولى تحرير الجريدة المذكورة السيدة سلفيا بنكهرست؛ وقد صدرت عددها الأخير بصورة الإمبراطور هيلاسلاسي، ومقال للدكتور مارتن وزير الحبشة في لندن عنوانه (انتظروا وتأملوا بينما يعمل القتل عمله)، وفيه يحمل على المبدأ السياسي القائل بالانتظار والتأمل، لأنه هو الذي أودى بحياة الحبشة، ولو قامت عصبة الأمم المتحدة بعمل حاسم لاستطاعت وقف الاعتداء الإيطالي في الوقت المناسب، وفيه تفاصيل عن مقدم الآمبراطور، ومقال

ص: 77

عنونه (يجب أن ننقذ الحبشة) بقلم مستر هوكن، ونبذ وأخبار أخرى عن الحبشة قبل الحرب الإيطالية وبعدها

مباراة أدبية عالمية

تنظم جمعية التاريخ الجديدة في نيويورك، في الخريف القادم، مباراة أدبية علمية؛ وقد اختارت للكتابة موضوعاً دولياً عاماً هو (كيف تستطيع شعوب العالم أن تحقق نزع السلاح العام؟) وهذه المباراة مفتوحة لكل شخص من الجنسين، ومن أي الأمم، ومن أي المهن أو الثقافات؛ وستوزع على الفائزين جوائز قدرها خمسة آلاف دولار (نحو ألف جنيه)

وقد تأسست جمعية التاريخ الجديدة في نيويورك منذ سبعة أعوام، ونظمت قبل ذلك عدة مباراة أدبية عامة وصدرت لها جوائز مالية حسنة، وهي تعنى قبل كل شيء بتعرف آراء الشباب والجيل الجديد. ومن أغراضها أنها تدعو إلى إنشاء مجتمع أخوى عام من شعوب الأرض كلها، وتدعو إلى نزع السلاح، ومؤاخاة الدول، وعمل تشريع دولي إنساني عام.

وترسل الرسائل في المباراة المذكورة إلى جمعية التاريخ الجديد بنيويورك: ، 132 ، ،

موسم الشعر

في الساعة السادسة من مساء الأحد 14 يونيو سنة 1936 أقام (جماعة الشعراء) في دار جمعية الشبان المسلمين حفلة (موسم الشعر) رأسها صاحب المعالي العرابي باشا، وافتتحها الأستاذ أنطوان الجميل بك، وتكلم عنها الأستاذ محمد الهراوي افندي؛ وكان الشعراء قد أخذوا مجالسهم من المنصة وعليهم قداسة من جلال الشعر أشاعت في نظراتهم وحركاتهم دلائل الفخر والعزة. افتتحت الحفلة بكلام الله فخنست لإعجازه الخالد شياطين الشعراء، ثم قام الأستاذ الجميل بك فألقى كلمة رائعة رفعت رأس النثر في حضرة الشعر، وتتابع بعده الشعراء فألقى كل قصيدته على منهاج معين، وكان الجمهور شديد الحساسية للصور البيانية، والمعاني المبتكرة، والأغراض الجديدة، والإلقاء الجيد، وجملة شعراء الموسم كانوا سبعة عشر شاعرا، فرغوا من قصائدهم في ساعة ونصف، وهم الأساتذة:

ص: 78

إبراهيم ناجى، أحمد رامى، أحمد الزين، أحمد الكاشف، أحمد محرم، أحمد نسيم، حسن القاياتي، حسين شفيق المصري، زكي مبارك، سيد إبراهيم، عزيز بشاي، كامل كيلاني، محمد الأسمر، محمد الهراوي، محمد الههياوى، محمد عزيز رفعت، محمود رمزي نظيم، السيدة منيرة توفيق.

وموسم الشعر أمنية من أماني الأستاذ الهراوي ظل يرصد لها الأهبة ثلاث سنين. ففي ربيع سنة 1933 تألف بسعيه وبسعي إخوانه (جماعة موسم الشعر) كما تتألف المجامع الأدبية، ونشرت على الناس بياناً جعلت فيه وسائلها قرض الشعر الفصيح، ووضع البحوث في الأدب، وإلقاء المحاضرات في الموسم؛ وحددت فيه أغراضها بإقامة موسم عام للشعر العربي في القاهرة، و (العمل للاحتفاظ في الشعر العربي بقوة الأسلوب ووضوحه، والجري على ما تقتضيه ضوابط اللغة من الصحة وما تتطلبه خصائص البيان من بعد الأسلوب عما يضعفه أو يفنيه في غيره أو يقطع صلة حاضره بماضيه، وتقريب ما بين الشعر العربي وغيره مع المحافظة على السنن العربي والعمل لتنوع أغراضه وفنونه، وأخيلته ومعانيه، وإبراز الحياة الحاضرة والمدنية القويمة في صورها الصحيحة، والمحافظة في الشعر على الذوق العربي مع مماشاته لحاجات العصر وروحه، وتوجيه الشعراء إلى القيام بحاجة العامة والتلاميذ من الشعر في أغانيهم وأناشيدهم، وحفز مواهب الشعراء إلى تهيئة السبل لظهورها والانتفاع بها، وخدمة اللغة العربية ونشر آدابها وتقويم ملكاتها وتنمية ثروتها من الألفاظ والمعاني والأخيلة، وتوثيق الصلات الأدبية بين مصر والأقطار العربية الأخرى)

وقلنا يوم قرأنا هذا البيان إن (الرسالة) تؤيد هذه الأغراض السامية من غير تحفظ، وتدخر غبطتها بها وتصفيقها لها ليوم التنفيذ، فان صوغ الأماني ووضع الأنظمة وإذاعة العزم شيء، وتجويد العمل وتنفيذ الفكرة وتحقيق الغرض شيء آخر.

فإذا قرأت هذا ثم علمت أن الموسم ذا الغرض الضخم أُختصر في حفلة واحدة؛ وأن هذه الحفلة التي أقيمت بعد ثلاث سنين كانت مما يمكن أن يقام في كل أسبوع، وأن ما قيل فيها كان كله من الشعر المطبوع على غرار واحد، وأن أكثر هذا الشعر مما أنشد من قبل في الحفلات ونشر في الصحف، وأن في هذا الأكثر مالا يليق إلقاؤه في هذا الحفل، ندمت على

ص: 79

أن أسرفت في التصفيق، وعلمت أن الشعراء يساعدون الزمن بكسلهم على إخماد الشعر. ولكن الأستاذين الهراوي والأسمر يقولان بعد ثلاثة أحوال ما قاله فند مولى عائشة بنت سعد:(تعست العجلة).

على أن البدء في كل عمل صعب، وجمع الشعراء على أمر واحد شاق، والخطوة الأولى على كل حال نصف الطريق.

جماعة البعث والتجديد

تكونت من بعض أبناء الجامعة المصرية جماعة أدبية باسم (جماعة البعث والتجديد). وأغراضها كما يأتي:

1 -

بعث الأدب العربي القديم ودراسته دراسات مستفيضة، ليستسيغه الجمهور ويقبل على كنوزه الغوالي.

2 -

خلق أدب جديد يمثل نزعاتنا النفسية، وخوالجنا الروحية، ومثلنا الاجتماعية. فيه حياة فوارة، وخيال دقيق، وفن عالمي بكر.

3 -

النقد النزيه الحر.

4 -

إذاعة أروع ما ابتكرته القرائح العالمية، شرقية وغربية عن طريق التعريف والتلخيص والترجمة.

5 -

رفع مستوى القارئ العادي إلى استساغة الجمال والأسلوب الفني.

6 -

تنظيم مهرجان شعري لشعراء الشباب وإلقاء سلسلة من محاضرات ومناظرات وقراءات

7 -

لسان حال الجماعة (مجلة الشباب) والاتصال بها يومياً من السادسة إلى السابعة مساء شخصياً أو بالمراسلة بعنوان (مجلة الشباب بميدان سوارس رقم 3 بمصر

والجماعة ترحب بكل من يحب الانتماء إليها للعمل بمبادئها من أدباء الشباب الموهوبين وأديباته الموهوبات من أبناء الجامعة المصرية

أما (مهرجان الشعر) فعام لشعراء الشباب جميعاً وسيعلن عن نظامه وموعده فيما بعد، والاتصال بشأنه بعامر محمد بحيرى أفندي بإدارة مجلة الشباب

تدهور التعليم العالي في ألمانيا

ص: 80

من الحقائق المعروفة أن الحركة الفكرية والتعليمية في ألمانيا قد اضمحلت في ظل الحكم الهتلري؛ فقد طاردت الحكومة الهتلرية أكابر الكتاب الذين لا يتفقون معها في الرأي السياسي وسيطرت على الصحافة وصفدتها بأغلال جعلت منها أداة حكومية للدعاية، وغيرت برامج التعليم لتتفق مع غاياتها السياسية، وبسطت نفوذها على الجامعات حتى جعلت منها منابر للدعوة النازية وهكذا

وقد اطلعنا أخيراً في بعض الصحف الكبرى على إحصاء يدل إلى أي مدى سحيق تدهورت الحركة التعليمية في ألمانيا في ظل الحكم النازي خلاصته أن طلبة الجامعة الألمانية بلغ عددهم في العام الدراسي الحالي نصف ما كانوا في صيف سنة 1933، وهى السنة التي تولى فيها هتلر الحكم، فقد كانوا يومئذ 14000 (أربعة عشر ألفاً)، وعددهم في هذا العام 7934 فقط؛ ولم يدخل الجامعات الألمانية في أوائل العام الدراسي المنقضي من الطلبة الجدد سوى سبعة آلاف، وكان عدد طلبة الجامعات والمدارس العالية في ألمانيا سنة 1933، 116000 طالب، فنزلوا هذا العام إلى 77 ألفاً فقط؛ وكانت الجامعات الصغيرة أشد تأثراً بهذا النقص الفادح، وهذه الأرقام تنطق بنفسها، وتدل دلالة واضحة على مبلغ التدهور الذي أصاب الحركة الفكرية في ألمانيا في عهد الهتلريين.

وهذه النتيجة تعتبر من جهة أخرى طبيعية منطقية في ألمانيا الهتلرية؛ ذلك أن نظرية الهتلريين في التربية تميل إلى الإسبارطية القديمة، وتؤثر التربية العسكرية والرياضية على أي نوع آخر من التربية، وتؤثر الأجسام القوية على العقول الراجحة، وعلى الرؤوس المستنيرة.

على أنه مهما كان من رأي الهتلريين ونظرياتهم في التربية، فان هذه النتيجة التي انتهت إليها ألمانيا في مثل هذا العهد القصير ليست مما يشهد للنظم الجديدة، وليست مما يدعم عظمة الأمم.

جمعية هندية للمباحث الإسلامية

تقوم في بومباي (الهند) منذ ثلاثة أعوام هيئة علمية إسلامية تسمى (جماعة البحث الإسلامي)؛ وهى هيئة علمية محضة غير طائفية وغير حزبية يشرف على تعضيدها أكابر

ص: 81

الزعماء والأمراء المسلمين، وتضم جماعة من أعظم المفكرين المسلمين في الهند وفي أوربا، وقد صدر أخيراً تقريرها السنوي الثالث وفيه أنها تعنى بنشر البحوث العلمية الخالصة، وإنها قد عملت لهذه الغاية بإصدار كتب خمسة، وأنها تعنى الآن بنشر طائفة اخرى، ومن ذلك ترجمة هندية لكتاب (تاريخي فيروز شاهي) من الفارسية. وترجمة لمقدمة ابن خلدون من العربية، وكتاب عن مذهب الشيعة؛ وتعنى هذه الجمعية العلمية بنشر المباحث الإسلامية الرفيعة في الهند.

ص: 82

‌أدبي

مجلة شهرية أدبية تظهر مؤقتاً مرة في كل ثلاثة شهور لصاحبها ومحررها الدكتور الشاعر أحمد زكى أبو شادي، وبين يدينا الآن العدد الأول منها وهو باقة من شتيت الزهر النضير تفتحت عنه قريحة هذا الشاعر الواثق بجهده المخلص لفنه، و (أدبي) مجلة للقراء لا للكتاب والشعراء؛ فهي خاصة بقلم صاحبها (وما يدور حول آثاره من تعليق ونقاش ومساجلة للزملاء الأدباء)، والدكتور أبو شادي مهما قال في إنتاجه النقد، قوة عاملة مؤثرة، وقريحة خصيبة مثمرة، وصوت عال من أصوات النهضة الأدبية لا يزال أينما حل يدعو وينبه

كانت القاهرة تضطرب بالجدل الأدبي العنيف، فرحل عنها فتولاها شئ من الخمول والصمت، وكانت الإسكندرية تضيق بالحياة الأدبية؛ فلما حل بها اعتراها نشاط أدبي عجيب لم تشهده منذ حين. نعتقد أن لو كان الدكتور أبو شادي صرف جهده المثابر في غير الأدب العقوق لكان له بين أقرانه شأن وأي شأن.

ص: 83