الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 156
- بتاريخ: 29 - 06 - 1936
أروع أيام سعد
لعل يوم الجمعة التاسع عشر من هذا الشهر كان أروع أيام سعد!
انتصر فيه وهو رفاتٌ وفكرة وذكرى على الحقد الذي طالما نبح
المجد، وعلى السلطان الذي طالما قهر الزعامة.
كانت روعة أيامه الغر التي أسفرت عنها ليالي مالطا وسيشيل وجبل طارق من شخصيته التي طاولت العروش، وعزيمته التي صاولت الجيوش، وبلاغته التي عاجزت القدر؛ أما يوم نقل الرفات إلى الضريح الرسمي فكانت روعته من الفكرة التي ثبتت على الاضطهاد وغلبت على الاستبداد وظهرت على الإفك ظهور الدين على الشرك بالإيمان والإخلاص والتضحية. وسر الجلالة العظمى في سعد أنه كان وهو حي يمثل كبرياء الشعب، ثم اصبح وهو ميت يمثل سلطان الأمة. كان يمثل كبرياء الشعب لأنه خرج منه ونبغ فيه، فكان حجة له على كبرائه الذين كانوا يتأبهون عنه، ويلمزونه بالضعة، وينبزونه بالفلاحة؛ ثم عاد يمثل سلطان الأمة لأن جهاده الباسل بها ولها جعل اسمه رمزاً للاستقلال وعلماً على الدستور وعنواناً على الديمقراطية. فمظاهر الفرح المستطير، أو الحزن المُرمض، أو العزة المستطيلة، التي أعلنها الشعب يوم خرج من معتقله أو رجع من منفاه، ويوم الاحتفال بوفاته أو بنقل رفاته، كانت مظاهر صادقة لعواطفه المتحدة، صدرت عنه بدافع من نفسه وباعث من شعوره، لأن سعداً لم يعدْ رجلاً محدود الوجود بذاته ومميزاته ورغائبه، وإنما أصبح معنى مقدساً من معاني الشمول يختصر في نفسه خصائص جنسه، ويجمع قلبه أمانيَّ شعبه؛ فهو علم يخفق بالأمل، ومنارة تشع بالهداية، ورسول من رسل القيادة الذين يبعثهم الله إلى الناس في متاهة السُبل وضلالة النفوس فيكونون رمزاً لرجاء الإنسان في الله، ومثالاً لرحمة الله بالإنسان.
كانت النفس المصرية في ذلك اليوم المشهود على حال عجيبة من شتى الأحاسيس ومختلف العواطف: سرور مَزْهُوٌّ بفوز الإرادة القومية واستطاعتها بعد تسع سنين أن تصحح خطأً فادحاً من أخطاء الغرور الجاهل، وحزنٌ دخيل هادئ لاحتجاب الشعاع وقد غام الأفق واستعجم المسلك، ثم شماتة حانقة تصيح بالجبابرة الضعاف من أفواه الطرق ومنافذ البيوت، وعلى أطوره الشوارع وسُوح الميادين: أنا الأمة! أنا الإرادة الأولى، وأنا
الكلمة الأخيرة!
وكان في موكب الرفات المنتصر قوم يمشون، وجوههم إلى الأرض، وأفكارهم إلى الوراء، يقولون في أنفسهم: استعنا على كبْت هذا المجد الثائر بقوة السلطان وضجة البرلمان وثورة الخزانة، فإذا كل أولئك معناه هَوَج العاصفة، ورهج الغبار، وسرف المطر؛ وإذا الشمس من فوق أولئك لا تزال ساطعة الشعاع دائبة الارتفاع لا يرتقى إليها صخب، ولا يعلق بها قَتَم! أن الموت نفسه قد إنخزلت عنه قواه فلم يستطع طمسه في عين الوجود ولا محوه من سمع الزمن. لا يزال ملء الحاضر وعدة المستقبل، ومن العناء الباطل أن يحاول الجبروت مهما طغى أن يدخله في الماضي. هؤلاء هم الجند الذين طالما أكرهناهم على أن يطاردوه في الأقاليم، ويحاصروه في العواصم، ويصادروه في الأندية، ويضايقوه في المنازل، ويحولوا بينه وبين الشعب، قد انقلبوا - بأي معجزة لا أدري - فصاروا زينة لمجدة وقوة لوفده وحرساً لمبدئه!
وكان بازاء الباشا المفكر طالب صادق الحدس ألمعي الفراسة، لا يزال على وجهه الأبلج أثر من عِصِيّ الشرطة وبنادق الجند، فرأى بين الحي المستذل الضارع، وبين الميت المتجبر الشامخ، عبرة من عبر الدهر. وحكمة من حكَم القدر؛ فهبَّ يصوغ من هذا المعنى هتافاً له ولرفاقه: ولكنه تذكر أن الوطني لا يحقد ولا يشمت ولا ينتقم، فاكتفي أن يقول للزعيم الرجيم في نفسه: لقد أدركت بعد الأوان أن المجد خير من الحطام، وأن الشعب أبقى من الحكومة! لقد بلغت كل عالٍ غير المجد، وربحت كل نفيس غير الشرف!
ذلك سعد مثال الزعامة الحق يا نواب الأمة! كان في مماته كما كان في حياته موضع القداسة منها وموطن الرجاء فيها، لأنه أول مصري حكمها بأمرها، وساسها برأيها، ونقلها من نظام القطيع إلى نظام الشورى، وحول خزانتها من المتاع الخاص إلى المتاع المشترك، وجعل العلاقة بين الأمة والحكومة (علاقة الجندي بالقائد، لا علاقة الطائر بالصائد).
كان سعد من الشعب وظل طول عمره مع الشعب. تجبر، ولكن على طغيان الثورة؛ وتكبر، ولكن على صلف المحتد. أما علينا وعلى أمثالنا من سواد الناس فكان كالأخ العطوف والوالد الحدب.
بهذه السيرة المجيدة في الحياة يقتدي أصحابه البررة؛ وبهذه العقلية السليمة في الحكم يسير
خليفته إلى الفوز؛ وبهذه الصفحة المشرقة في التاريخ يضع سعد للخاصة دستور الزعامة، ويضرب للعامة مثل البطولة؛ وبهذه المنزلة الفريدة التي نزلها من شعبه يتولد في النفوس الشابة الرغيبة طموح العظمة، فيسعون لها بالحق، ويتنافسون فيها بالكفاية.
هاتان سبيلان واضحتا المعالم بيّنتا الحدود في سياسة الأمة. أدت أولاهما بسعد إلى حياة الموت، وأسرعت أخراهما بفلان إلى موت الحياة! فهل لأكياس الناس بينهما خيار؟
احمد حسَن الزيات
ذات الثوب الأرجواني
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(تنبيه - كل ما هو مكتوب هنا متخيل. وأنا يوافقني ويلائم مزاجي أن أجعل الكتابة على لساني)
- 3 -
سألني صاحبي وهو يجلس: (إلى أين إن شاء الله؟) قلت: (يا صاحبي العجلة من الشيطان. اجلس أولاً، وتناول - ثانياً - شيئاً، ثم سل ما بدا لك بعد ذلك. على أني أستطيع أن أريح فؤادك القلق، فأقول لك أنا ذاهبون إلى القناطر الخيرية؛ فهل ارتاح قلبك يا مولاي؟)
فصاح بي وهو يخرج السيجارة: (القناطر؟. . . ماذا أخطرها ببالك؟. . . وماذا تصنع هناك في هذا الحر؟. . . شيء غريب!)
قلت: (يا أخي إنك تفاجأ بالخبر فتستغربه، أما أنا فقد أطلت التفكير في الأمر، وعرضت لي آراء شتى نفيتها واحدا بعد واحد، حتى استقر رأيي أخيرا على القناطر)
قال: (ولكن الجو حار الآن. . . الساعة العاشرة، وسنشتوي هناك؛ وأين يمكن أن نجد طعاماً أو شراباً؟) قلت: (لعلك تظن أن القناطر صحراء سيناء. . . ومع ذلك لا تخف أن تجوع، فقد أعددت لمعدتك كل ما تحتاج إليه من طعام و. . .)
قال: (ولكني رأيت السيارة ونظرت فيها فلم أجد شيئاً، وأخشى أن تكون - كعادتك - معتمداً على أنها مدينة عظيمة مقصودة من الناس، ثم نذهب فلا نجد شيئاً)
قلت: (بل ستجد كل شئ. والآن دعنا من حديث المعدة واسمع: إذا رأيت مني ما تنكر، أعني ما يخالف المألوف من عاداتي فرجائي إليك أن تذكر قول الشاعر:
إن من ساءه الزمان بشيء
…
لحقيق إذن بأن يتسلى
(فهل أنت لبيب تكفيه الإشارة أم لا بد أن. . .؟)
وفي هذه اللحظة أقبلت الفتاة - أم تراني لم أخبر القارئ أن فتاة كانت ستقبل؟؟ على كل حال. . . المهم أنه - أعني القارئ - قد عرف أن فتاة قد أقبلت، ولا شك أنه استنتج من قولي هذا أنها وسيمة - ولا أبالغ فأقول جميلة - وأن الموعد كان مرتباً من قبل. ونظر صديقي إليها ثم إليّ وهز رأسه ووقف استعداداً لاستقبالها وتحيتها. وكان وجهه كالطماطم
- أعني أحمر جداً - وليس هذا لونه في العادة، وإن كان صحيح الجسم، معافى البدن، حسن اللون والشارة؛ ولكنه شديد الحياء. فقلت للفتاة:(زوزو. . . هذا صديقي الذي حدثتك عنه؛ وفي وسعك أن تعديه صديقاً لك أيضاً. . هل جاءت ليلى؟؟)
قالت وهي تناوله يدها: (نعم. . . وهي تنتظر في الخارج) قلت: (ولماذا لم تدخل؟. . هل أذهب وأدعوها؟) قالت: (كلا. أن معها الأشياء. . . . والأفضل أن نذهب الآن)
ومضينا إلى القناطر على مهل، وكانت السيارة جديدة، ولا بد أن أقتصد في السرعة حتى تلين وتكتسب آلاتها المرونة الأزمة وإلا فسدت وخربت بسرعة وقصر عمرها. وكانت زوزو وليلى تنظران إلى السيارات الأخرى التي تخطف إلى جانبنا وتتركنا وراءها فتتحسران. وكانت زوزو لا تفتأ تقول لي:(ألا يمكن أن ندرك هذه السيارة؟) وتشير إلى واحدة من السيارات الكثيرة التي كانت تمرق كالسهم، فأقول:(بالطبع نستطيع، ولكن الثمن باهظ. ثم إن العجلة من الشيطان؛ وقد كنت قبل مجيئك ألقي درساً إلى هذا الصديق في وجوب التريث وتحاشي العجلة. والظاهر أنك لست خيراً منه ولا أقل حاجة إلى مثل هذه الدروس التي أعطيها للناس مجاناً)
فتصيح بي: (دروس إيه وعجلة إيه؟؟. كلام فارغ!! كيف تترك هذه السيارات تسبقنا، مع أن سيارتك جديدة وجميلة؟) فأقول: (أشكرك - بالنيابة عن السيارة. ولو كان لها لسان لأسمعتك المطرب المعجب من آيات شكرها وتقديرها لهذا الثناء الجميل، ولكنها كما تعلمين خرساء بكماء لا تحسن إلا أن تجري)
فتقاطعني معترضة: (تجري؟؟ تقول تجري؟؟ إنها تزحف!! ألا ترى كيف سبقنا كل الناس؟. . هل تريد أن نصل إلى القناطر غداً؟)
فأتوكل على الله وأجازف بمستقبل السيارة وأعذر في سري الشبان الذين يكونون مع الفتيات فينطلقون كالقنابل فتتحطم سياراتهم، وقد يلقون هم حتوفهم؛ فأن وجود فتاة مع السائق يغريه بإهمال ما يشير به العقل والحكمة. وقد أركبت فتيات كثيرات فلم أر منهن واحدة ترتاح إلى البطء، وأحسب السبب أن السرعة مظهر من مظاهر القوة وأن السبق غلبة، والمرأة تعجب بالرجل القوي السابق، ولا تعجب بالرجل الضعيف الواني، وهي لا تدخل في حسابها أن هذه سيارة وأن المعول عليها لا على الرجل، وأن الذنب يكون ذنبها
إذا قصرت وكانت بطيئة أو ضعيفة. وإنما كل ما تفكر فيه وتعنى به أن معها رجلاً، وأن رجلها هذا ينبغي أن يكون الأقوى والأبرز والأسرع والأبرع، إلى آخر ذلك. وهو عندها مسئول عن السيارة التي لم يصنعها. ولعل منطقها أنه اشترى سيارة، فلماذا لم يشتر سيارة قوية سريعة؟؟ وقد يكون قليل المال ولكن هذا لا ينهض عذراً له، إذ لماذا يكون قليل المال؟؟ وقد تكون السرعة بغيضة إليه، ولكن الأمر يرجع إلى تقديرها هي لا إلى تقديره، ولا إلى ما يؤثر وما يكره. وإذا كان لا بد أن يتوخى ما يشير به مزاجه، فلماذا يستصحب امرأة؟؟
من أجل هذا اضطررت أن أسرع على خلاف ما يقضي به الواجب والحزم وإلا ساء رأي صاحبتي فيّ، ومن الذي يسره أن يسوء رأي المرأة فيه؟؟ ولا سيما امرأة تكون معه ويكون همه في هذه اللحظة على الأقل أن يرضيها. . وأدركنا بضع سيارات سبقناها ففرحت واشرق وجهها وانبسطت أسارير محياها وكثر ضحكها - بل ضحكهما - بعد التقطيب والوجوم والاعتراض وصارت كلما مرقنا بجانب سيارة تصفق وتصيح (هيه!!) على سبيل الإعجاب بالسيارة التي هي فيها - أي الإعجاب بنفسها، فان إعجاب المرأة بشيء يكون لها مظهر لإعجابها بنفسها هي - والشماتة بالمسبوق والتعيير له والتحدي أيضاً؛ والمرأة إذا أعجبت برجل جعلت وكدها أن تتحدى الرجال به على صور شتى بعضها أخفي من بعض. وما أكثر ما يكون استمرار إعجابها به رهناً باستمرار فوزه على الأقران وغلبته لهم فيما تورطه فيه.
وبلغنا القناطر بعد نصف ساعة؛ وكانت هذه أول مرة تراها فيها فأقبلت علي تسألني عن كل ما تأخذه العين هناك وجعلت أنا أحيلها على صديقي لا تفزع للسير ومآزقه في هذا الزحام الشديد حتى صرنا عند أول البساتين، وكانت الإحالة على صديقي تغضبها لتوهمها أن ذلك مبعثه الملل أو الأعراض، ولا ملل ولا إعراض منى وإنما هي مشاغل الطريق؛ غير أن المرأة قل أن تقدر ذلك لأن خواطرها كلها دائرة حول نفسها وشخصها، وهي تفسر كل شيء بأنه صادر عن حب أو كره، وعن رغبة أو زهد، وعن إقبال أو انصراف وإعراض، وعن ارتياح أو ملل وسآمة.
وقال لي صاحبي ونحن ندخل البساتين والفتاتان أمامنا: (والآن قل لي ماذا ساءك من
زمانك ويوشك أن يخرج بك عن طورك؟)
قلت: (يا أخي إني شاكر لك - وأنت تعلم صدقي - هذه العناية بالاطمئنان على، ولكنى لو أفضيت إليك بهذا السر لما بقيت له لذة تخفف آلمه. انتظر حتى يفتر كل شيء - الألم واللذة جميعاً - فلا يعدو الكلام حينئذ أن يكون حديثاً عن شيء مضى ولا يكاد يعنيني)
فهز رأسه ومضى عنى إلى الفتاتين.
وظللت طوال النهار أضحك وألعب وأثب وأجري وآكل وأشرب وأرسلت نفسي على سجيتها - وإن كان ينقضي أن أعرف أن الخفة من سجاياي - وخلعت ثوب الاحتشام ورحت أكلم من لا أعرف وادعوا إلى طعامنا كل من يمر بنا - رجلاً كان أو امرأة أو طفلاً - وأبدأ بالحديث من لم أر وجهه إلا في ذلك اليوم، وأخطف الكرة ممن يتقاذفونها، وأجر رجلَ هذا، وأشد أذنَ ذاك، وأفعل ما يفعل الأطفال عادة إذا شجعتهم فأنسوا منك الارتياح إلى عبثهم، حتى ضج صاحبي وضاق صدره ولم يعد يطيق هذا الخلق العظيم الذي حف بنا واندمج فينا وشاركني وشاركته في اللعب والضحك والجري. فركبنا زورقاً صغيراً؛ لكن هذا لم ينجه ولم يمنع أن أمضى فيما وطنت النفس عليه في ذلك اليوم، فقد كان هناك زوارق أخرى فصرت أدنو بالقارب منها حتى أحاذيها، ثم أروح أعابث من فيها، فنفذ صبر صديقي وأمر النوتي أن ينأى بنا عن الخلق جميعاً فاستلقيت على ظهري وأغمضت عيني تظاهرت بالنوم.
ولكنى لم أنم، وإنما كنت أحدث نفسي وأسألها عن جدوى هذا الذي صنعت؟ أتراه أنساني شيئاً أو أذهلني عما بي؟؟ ولم يسعني إلا أن أعترف بأن كل ما صنعت كان عبثاً. فقد كانت ذات الثوب الأرجواني ماثلة أبداً أمام ناظري لا تبرحه ولا تفتر صورتها التي تلازمني، وكنت أراها في كل من أرى ما تأخذه العين، فأنا حين أنظر إلى واحدة من هاتين الفتاتين لا أراها وإنما أرى ذات الثوب الأرجواني، ويفتنني منظر فأقول لمن معي:(انظروا. . . ما أبدع هذا) ويكون الذي يفتنني منه ذات الثوب الأرجواني التي تبدو لي في إطار من هذا المنظر. ولما ركبنا الزورق كان يخيل إلى أنها سابحة في الماء كعرائس البحر، وما سمعت ضحكة ناعمة إلا قلت لنفسي لعل ضحكتها أرق وأسحر.
وأعجب من هذا أنى كنت أجدني وأنا أضاحك الناس وأحدثهم وألاعبهم وأسابقهم أفكر فيها
وأسأل نفسي عنها - وكان حسبي ما أنا فيه مما يستغرق جهد النفس - وأقول - في سري وبيني وبين نفسي - هل أنت تحبها؟؟ أواثقٌ أنت أن هذا هو الحب. . فتجيبني النفس أن نعم لاشك في ذلك، فأكر عليها معترضاً على هذا التأكيد وأقول: ولكنك لا تعرفها. . لا تعرف حتى اسمها. . وما رأيتها إلا عن بعد فماذا تحب منها. . لا تستطيع أن تدعي أنك واجد فيها غير صورة جسمية هي التي تتراءى لك من هذا البعد. ولعلها لو دنت قليلاً لطالعك منها ما لا ترتاح إليه، فالأرجح أنك تحب منها صورة ألفتها أنت من الألوان التي استعرتها منها. ولا شك أنك زدت هذه الألوان قوة وأضفت إليها من خيالك. ولو أنك كنت مصورا وحاولت أن ترسم لها صورة من ذاكرتك لما استطعت أن تثبت شيئاً من ملامحها، ولجاء الرسم لمخلوق من مخلوقات خيالك أنت، وإن كان لا يخلو من شبه بذات الثوب الأرجواني. فحتى الصورة المادية - أو الجسمية - التي تبدو لك ليست ثابتة ولا مقررة في نفسك، لأن الصور لا تثبت خطوطها وألوانها على مثل هذا البعد. ومن السهل أن تُعَفي علها وتمحوها صور أخرى تكون أثبت لأنها تكون أقرب فأقدر على التأثير وأنفذ بسبب القرب إلى أعماق النفس والاستقرار فيها. ولو أن صورة ذات الثوب الأرجواني كانت عميقة الأثر في نفسك ومنقوشة بألوانها وخطوطها المميزة لها على صدرك، أكنت تظن أن في وسعك أن تتسلى كما تتسلى الآن بهذه الفتاة أو تلك ممن تعرف؟؟ أكان يمكن أن ترتاح إلى وجود غيرها وإن كنت تزعم أنك تتسلى؟؟ لا يا صاحبي!. . وحسبك أن تسأل نفسك بأي شيء تذكرها. . ماذا في نفسك منها غير صورتها في النافذة كما تستطيع أن تراها على بعد ثلاثين مترا!؟ لو كنت كلمتها رأيت ابتسامتها ونظرة عينيها ومنطق وجهها وتعبير محياها، وكنت تكون إذ ترق وتحنو، وحين يسرها شئ، وعندما تبدو عليها اللهفة أو الجزع أو الاضطراب، والزهد في شيء والرغبة في آخر، وحينما تتدلل أو تسخو، وإذ تضحك أو تتجهم!! لو كنت رأيت شيئًا من ذلك لامكن أن تقول انك عرفتها وأحببتها، ولكان لحبك لها غذاءٌ ومددٌ من ذكريات هذه الحالات المختلفة. . أما الآن فبماذا يتغذى حبك؟؟ على أي شيء يعيش؟؟ بأي شيء تذكرها إذا غابت عنك. . . بصورة هي أشد غموضاً من الرسم الفوتوغرافي وأخفى منه تعبيرا؟؟ وهي مثلك. . . أتزعم أنها توليك عناية واهتماما، وأنها تفكر فيك، وأنها لا تفتأ تنظر إليك؟ فما يدريك أن هذا ليس من باب
التطلع ومن قبيل الاستغراب أو إطاعة لرغبة نشأت في الوقوف على حالات غريبة تبدو من شخص يستحق عناية على كل حال لسبب من الأسباب التي تدعو إلى العناية؟؟ هه؟؟ وهبها - جدلا - أحبتك كما تظن أنك تحبها فان شأنها كشأنك!. . ولعلكما لو تلاقيتما لكره كل منكما صاحبه، أو نفر منه، على الأقل، أو إذا شئت، لفتر ما يجد من الحب، إذ كان لا أساس له إلا الصور الغامضة التي ينقصها البيان والتأثير الذاتي المباشر. . ويظهر أنها مثلك واسعة الخيال. . وشبابها هو عذرها إذا جمح خيالها. . فإنها غريرة ساذجة لا تعرف الدنيا. وأكبر الظن أنها لم تجرب الحب فهي لهذا شديدة الحنين إليه. ولكن أنت؟. أنت؟. أنت المجرب الذي عرف المرأة ودرس وخبر كل ما يسع الرجل أن يخبر. . كيف يمكن أن تخدع نفسك وتغلط على هذا النحو في فهم شعورك؟ إن هذا منك مضحك!
وقد اعترضت على نفسي وأبيت أن أسايرها إلى حيث تريد فأني أعرفها خبيثة شديدة المغالطة، وقلت لها:(كيف تزعمين يا نفسي أن لا شيء عندي من الذكريات أغذي بها حبها؟ ألم تسمعني صوتها في ضحكة فضية؟ (واها لهذا الرنين) أليست تبدو - أكثر الوقت - في الثوب الأرجواني الذي تعرف أني أحبه؟ أتسألين يا نفس كيف عرفتْ أنى أحب هذا الثوب؟. قبحك الله!. وما شأنك أنت؟. أعرف أنها تعرف والسلام! وأنا على يقين من أنها تعرف. وبيني وبينها لغة لا تحتاج إلى الكلام ولا إلى النظر. . . لغة أفهمها وتفهمها وإن كان كلانا معرضاً عن صاحبه، لأنها ذكية - مثلي ولا فخر - فهي تدرك أنى حين أكف عن النظر إليها، يلتفت قلبي إليها، وإن كانت عيني قد تحولت عنها لسبب غير إرادة النفس وهوى الفؤاد. . ولا يخفى عليها أني حين أنظر إلى ترام عابر أو سيارة تخطف في الطريق أو زمرة مارة، فأني إنما افعل ذلك لأني أخاف عليها من الناس أن يلهجوا بنا. وليبقى حبي وحبها كنزاً لا يعرف سرَّه غيرُنا. . ولا يشاركنا فيه - بالعلم - ثالثٌ. ولست أكلمها - هذا صحيح - ولا أنا أشير إليها، لأني أعرف أنها تعرف أن الإشارة تحصيل حاصل. وما ثلاثون مترا ًبيننا؟؟ إن قلبها كتاب مفتوح؛ وهل تستطيع الزهرة الأرجة أن تكتم الشذى؟؟. نعم إنها حريصة كيسة، ولكنى مع ذلك أعرف حين أراها مقطبة عابسة أن قلبها يضحك وإن كانت نظرتها صارمة الجد. . ولقد بدت منها إشارات تعمدت ألا أفهمها - لا لأني لم أفهم بل لأني خفت أن تكون قد صدرت عنها عفواً وعلى غير عمد، فأكون قد
تسرعت وأسأت التأويل. ولا أقول ما هذه الإشارات فأني حريص على الاستئثار بها والانفراد دون خلق الله بمعرفتها. وما أكثر ما أذكر من حالاتها حين تكون وحدها وحين يكون معها غيرها. . وهل أنسى أنها حين تغضب عليّ لبلادتي وبطئ فهمي تذهب فتلبس ثوباً غير الأرجوانى؟؟ هل أنسى كيف تلف على شعرها شريطاً وتترك خصلة الوطفاء مرسلة على جانبي محياها الصابح يبعث بها النسيم فتهز رأسها لتردها وتصلح منها وتسويها؟؟. هل أنسى كيف تجلس وفي يدها الكتاب - على ركبتها - وظهرها إلي وهي مع ذلك تراني وتعرف أنى أنظر إليها ومعجب بها ومتلهف على نظرة منها؟؟ هل أنسى كيف تكايدني وتهيجني وتثير نفسي لتمتحن حبي وترى ماذا يكون من اثر ذلك في نفسي؟؟ وما أعذب مكايدتها وأحلاها!!. وما أجهلها بي إذا كانت تظن أن شيئاً من ذلك يثيرني ويغضبني! فان في وسعي - دائماً - أن أضع نفسي في مكان الغير، وأن أتصور ما يُعْقَلُ أن يصدر عنه وأن اقدر البواعث على ما يبدر منه فاعذره في الأغلب. . والحق أقول إني أراها مقصرة في مكايدتي لا مسرفة. ولا أنكر أنه يعز علي أن تغيب عن عيني، ولكني أنا مضطر أن أغيب عنها وأنقطع عن النظر إليها، وعزائي أنى لا أنعم بأكثر من مرآها وأنها لم تهبني أكثر من منظرها من بعيد، وأنها لم تولني ما أتحسر على فقده إذا فقدته؛ وما دام هذا هكذا فأني أستطيع أن أراها بعين الخيال كما أراها بعيني التي في رأسي. ولو أني كنت مكانها لعرفت كيف أكايدها، فلتحمد الله الذي خلقني رجلاً ولم يخلقني امرأة.
ولو شئت لعذبتها ولكنى أثر الترفق - بطبعي - وإن كنت لخبرتي بالطبيعة البشرية من أعرق الناس بوسائل التعذيب. وأنا أسأل نفسي دائماً (لماذا أعذبها وأنا أحبها؟، وبماذا تستحق التعذيب وهي لو وسعها أن ترضيني لأرضتني؟ لاشك فلي ذلك، وصحيح أنه يسعها أكثر مما تبدي ولكني لا أحب أن أعجل باللوم. . ومن يدري؟. لقد علمتني حياتي أن اليأس سخافة، وأن العجلة من الشيطان، كما أقول لصديقي، وأن طول البال ينيل الأمل، كما يقول المثل العامي، وأن الغضب حماقة، وأن العتاب عبث، وهو في النهاية يفتر الحب، وأنا أحب هذه الأرجوانية الثوب وأحب أن يطول حبها لي، لأني أعرف من نفسي أن حبي لا يفتر وإن كان في وسعي - بفضل رياضتي لنفسي - أن أستر ناره بالرماد. كلا لن أكايدها وسأصبر عليها وأُملي لها وأمهلها لأرى ما يكون منها ولأختبر مبلغ حبها فأني
على الرغم من الحب أوثر أن أقدّر لرجلي قبل الخطو موضعها. فإذا رأيت منها ما يطمئن خرجت عن هذا التحفظ الثقيل عليها وعليَّ أيضاً وإلا فأني قادر على خنق هذا الحب ولو كلفني تقليع أحشائي من جذورها.
في هذا كنت أفكر، وبهذا كنت أناجى نفسي، وأنا ألاعب هذه الفتاة وتلك وأضاحكهما وأسابقهما وأُسخط صديقي على بترك الاحتشام الذي ألفه منى حتى صار يستغرب منى الابتسام، وليس أعجب من اشتغال النفس بأمرين في وقت واحد. ولكنى لا أكتب مقالاً في علم النفس وإنما أسوق حكاية وأصف حالة فيحسن أن أقتصر على ذلك.
وقد عدت من القناطر بغير ما كنت أرجو أن أفوز به. نعم لهوتُ وضحكت وبدوت لمن لا يعرفني كأسعد ما يكون إنسان. ومن ذا الذي يمكن أن يسمع ضحكتي ويرى وثبي وقفزي ويرتاب في أنى سعيد موفق؟؟ ولكن صديقي كان يعلم أن في صدري شيئاً أكتمه، وأن ما انطوى عليه ليس مما يهون حمله، وإلا لما التمست التلهي ونشدت التعزي، غير أنه كان على هذا يجهل - ومن أين يعرف؟ - أن في جوفي ناراً مضطرمة من القلق والشك والحيرة والاضطراب وقد خرجت من الحوار الذي دار بيني وبين نفسي بالشك وباعتقاد أنى جاهل ما في ضمير الفؤاد - أو على الأقل أن الأمر فيه نظر كبير فالحق أن معرفة النفس أشق المعارف وأعسرها مطلباً. .
إبراهيم عبد القادر المازني
حلم الدولة اليهودية والوطن القومي اليهودي
لمؤرخ كبير
مضى اليوم أكثر من شهرين مذ بدأت فلسطين ثورتها القومية المضطرمة؛ وقد حسب الاستعمار يوم نشوبها أنه أمام حركة تذمر عادية يسهل قمعها بالوسائل المعتادة فإذا به أمام ثورة قومية عامة، وعزم راسخ على النضال، ومعركة حياة أو موت من شعب يؤثر السقوط في ميدان الكفاح الشريف، على الإعدام البطيء المنظم.
ولقد بسطت (الرسالة) قضية فلسطين في مقال سابق، بين فيه كاتبه مبلغ ما ترزح تحته هذه الأمة الصغيرة الباسلة من صنوف الاستعباد المرهق، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، سواء من جانب السياسة البريطانية التي قضت باختيار فلسطين منزلاً للوطن القومي اليهودي أو من جانب الصهيونية التي تعمل لتوطيد دعائم هذا الوطن اليهودي بكل ما وسعت من وسائل الضغط المالي والثقافي متمتعة في جهودها برعاية السياسة البريطانية ومؤازرتها.
وإذا كنا لا نستطيع الآن أن نتنبأ بما تفيده السياسة البريطانية من هذا الدرس، أو بما تزمع أن تتخذه من الخطط الجديدة في المستقبل نحو فلسطين، فأنا نستطيع من جهة أخرى أن نقول إن هذه الفورة العنيفة التي قامت بها فلسطين سيكون لها أثرها العميق في صدع أركان الوطن القومي اليهودي، وفي التدليل على ما في صياغته وتكوينه من أوجه الخيال والعوامل المصطنعة التي تتعارض مع الحقائق التاريخية والعلمية.
إن إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، هو الخطوة العملية الأولى في برنامج الصهيونية الحديثة؛ وهو التمهيد لإنشاء الدولة اليهودية التي هي غاية الصهيونية الحقيقية؛ واليهودية تحلم بإنشاء هذا الوطن القومي وتعمل له منذ أكثر من قرن؛ ولكن برنامج اليهودية النهائي لإنشاء الوطن القومي لم يوضع إلا في أواخر القرن الماضي، حيث بدأ زعماء اليهودية يجمعون المال لإنشاء المستعمرات في فلسطين ويبذلون جهودهم لدى الباب العالي، وحيث أذاع تيودور هرتسل، رسول الصهيونية الحديثة وروحها المضطرم، رسالته الشهيرة عن الدولة اليهودية: وهرتسل كاتب وصحفي يهودي نمسوي، ظهر في أواخر القرن الماضي في فينا بكتاباته الملتهبة في سبيل القضية اليهودية، فالفت صيحته أفقاً
صالحاً لأن معظم الدول الأوربية كانت تجيش يومئذ بعوامل الخصومة السامية، وتلقى اليهودية الاضطهاد المنظم في كل مكان. وفي كتاب (الدولة اليهودية) يعرض هرتسل فكرة الوطن القومي عرضا قوياً، ويرى أن يتخذ هذا الوطن صورة دولة يهودية في فلسطين تكون تحت سيادة الباب العالي، وتؤدى له الجزية، وتكون البقاع المقدسة منطقة مستقلة ذات نظام خاص؛ فصادفت الدعوة نجاحاً عظيما بين أقطاب اليهودية في أنحاء العالم كله، وانتظمت الحركة تحت لواء هرتسل وزعامته. وفي أغسطس سنة 1897، عقد مؤتمر يهودي عام في بازل (سويسرا) برياسة هرتسل، ووضع فيه برنامج الصهيونية الرسمي، وعرفت غاياتها ووسائلها على النحو الآتي:
(تسعى الصهيونية لتحقق للشعب اليهودي إنشاء وطن قومي في فلسطين يتمتع بالضمانات التي يقررها القانون العام، ويرى المؤتمر أن يتذرع بالوسائل الآتية لتحقيق هذه الغاية:
(1)
أن يشجع استعمار فلسطين بواسطة الزراع والعمال والصناع.
(2)
أن ينظم العالم اليهودي بأسره وأن يحشد في الجماعات المحلية أو العامة طبقا لقوانين البلاد المختلفة.
(3)
أن تقوى لدى اليهود عواطف الكرامة القومية والاعتزاز بالجنس.
(4)
أن تبذل المساعي اللازمة للحصول على التصريحات الرسمية الضرورية لتحقيق غاية الصهيونية.
هذا هو هيكل الصهيونية وبرنامجها العملي؛ وقد تطورت ظروف العالم السياسية منذ عصر هرتسل ومؤتمر بازل، واستطاعت الصهيونية بعد جهود ومحاولات عديدة أن تلقى فرصتها في الحرب الكبرى، وأن تظفر بتحقيق الشطر الأول من برنامجها بإنشاء الوطن القومي في فلسطين، ولكن لا تحت سيادة الباب العإلي، وانما تحت السيادة البريطانية، وذلك بمقتضى عهد بلفور الذي قطعته الحكومة البريطانية على نفسها في نوفمبر سنة 1917.
وقد مضى على قيام الوطن القومي اليهودي في فلسطين زهاء تسعة عشر عاماً، وأصبح في ظل الانتداب البريطاني، وطبقاً لنصوص الانتداب ذاته، من الوجهة الدولية، نظاماً شرعياً معترفاً به من جميع الدول الكبرى؛ وفي هذه الفترة بذلت اليهودية جهوداً جبارة
لإقامة هذا الصرح القومي الذي تحلم به منذ الآماد، فتدفقت الهجرة اليهودية إلى فلسطين حتى أصبح عدد اليهود فبها زهاء نصف مليون، وأقيمت المستعمرات والمشاريع اليهودية الضخمة في جميع أنحاء البلاد، وأنشئت مدينة تل أبيب لتكون عاصمة الوطن الجديد، وأقيمة جامعة عبرية لتعمل لأحياء التراث اليهودي الروحي والفكري؛ وعلى الجملة فقد استطاعت اليهودية أن تحقق في فلسطين كثيراً من المظاهر المادية والاقتصادية والاجتماعية للوطن القومي اليهودي.
ولكن هذه المظاهر على ضخامتها وقوتها تبدو اليوم ضئيلة واهنة أمام ثورة الشعب الذي يقام هذا الوطن في أرضه، وعلى أنقاض حقوقه وموارده؛ فاليوم يهاجم الوطن اليهودي، ويطعن من كل صوب، وتقوض مستعمراته ومنشآته، وتعطل جميع مرافقه ومصالحه، وتشل جميع حركاته ومعاملاته، ويكاد يغدو في حالة حصار مطبق؛ كل ذلك تحت بصر القوى الاستعمارية التي هرعت إلى فلسطين لحمايته. وقد شعرت الصهيونية من قبل غير مرة بخطر الفورات القومية الفلسطينية على صرحها، ولكنها لم تكن تتصور أن الخطر قد يبلغ هذا المدى من الروعة، أو أن هذه الأمة العربية الصغيرة يمكن أن تضطلع بمثل هذا الكفاح الشاق الجلد؛ وإذا لم يكن ثمة ريب في أن القوى الاستعمارية الغاشمة ستتغلب في النهاية على الكفاح القومي الباسل، فانه لا ريب أيضاً في الوطن القومي اليهودي سيخرج من المعركة مثخناً بالجراح، وقد وهنت قواه المادية والمعنوية، وزادت شكوك الصهيونية وهواجسها نحو المستقبل الغامض.
والواقع أن فكرة الوطن القومي اليهودي لم تكن بنت القرن التاسع عشر فقط، ولكنها ترجع إلى أقدم العصور؛ فمذ حطمت مملكة أورشليم اليهودية منذ نحو ألفي عام، وشتت اليهود في أنحاء الأرض، تحلم اليهودية بالعود إلى أرض إسرائيل؛ ومع أن الجماعات اليهودية قد استقرت في الأراضي التي استوطنتها مدى القرون، غير أنها لم تندمج قط في الشعوب التي عاشت بين ظهرانيها، ولبثت تكون دائماً مجتمعات مستقلة. وترجع اليهودية تلك الظاهرة إلى نظم الاضطهاد والعزلة التي كانت تفرض على اليهود، وحرمانهم من الحقوق السياسية والمدنية طوال القرون، حتى أنهم كانوا يرغمون على السكن والاحتشاد في أماكن خاصة تسمى (الجيتوّ). ولكن الحقيقة أن اليهودية هي التي اختارت لنفسها هذه العزلة،
وهذا الاستقلال الخالد عند الشعوب التي استقرت فيها. ذلك أن اليهودية كانت وما زالت تعتبر دائماً أن الدين هو جامعة الجنس بين اليهود، وأن اليهودية هي ملاذ الشعب اليهودي أينما حل، وبعبارة أخرى إن الدين والجنسية بالنسبة لليهود هما وحدة لا تتجزأ. وهذا هو الخطأ الخالد الذي وقعت فيه اليهودية، والذي أثار عليها في كل العصور ريب الشعوب وحقدها، والذي هو في الواقع أكبر عامل في تحريك الخصومة السامية. وهذا هو الأساس الخاطئ الذي تبنى عليه فكرة الوطن القومي الذي يجتمع فيه اليهود من جميع الجنسيات واللغات.
وقد فطن إلى هذا الخطأ الذي هو عنوان التعصب الخالد بعض أقطاب اليهودية، وحاولوا أن يدعوا إلى فصل الدين عن الجنسية، وإلى تشبه اليهود بسائر الشعوب في اعتبار الدين مسألة روحية محضة لا علاقة لها بالجنسية؛ دعا إلى ذلك الفيلسوف الألماني اليهودي موسى مندلزون في القرن الثامن عشر، ورأي أن تتخذ القومية اليهودية صبغة محلية، فينعدو اليهود من أبناء البلد الذي استوطنوه مع احتفاظهم بتراثهم الروحي؛ وآزر مندلزون في هذه الدعوة بعض أكابر المفكرين الألمان من غير اليهود مثل الكاتب الشهير لسنج وغيره؛ ولكن هذه القومية المعتدلة التي أملى بها جو التسامح الذي نعمت به اليهودية يومئذ لم تلق كبير تأييد، ولم يطل أمدها، واستمرت الفكرة الدينية القديمة على قوتها وحدتها.
والوطن القومي اليهودي يقوم كما قدمنا على نفس هذا الأساس، أي على جامعة الدين؛ وهذه أكبر نقط الضعف المعنوي في بنائه، فالقوميات والشعوب الحديثة لا تقام باسم الدين؛ ولم يبق الدين في بلد من بلاد العالم المتمدين أساساً للدولة؛ ثم إن هذا الضعف المعنوي في الوطن اليهودي يتخذ مظاهره المادية، ففي فلسطين يجتمع الآن يهود من جميع الجنسيات والثقافات واللغات والنزعات السياسية، ومن المحقق أن العمل الإجماعي المتناسق بين هذه العقليات والبيئات المتباينة صعب التحقيق. والواقع أن معظم اليهود المهاجرين يفدون على فلسطين لبواعث اقتصادية قبل كل شئ، ولكي يحققوا لأنفسهم بعض وسائل العيش التي يفتقدونها في بلادهم الأصيلة؛ ومنهم من يفد قراراً من الاضطهاد الذي يفرض عليه؛ وهنا نستطيع أن نقول إن الوطن القومي الحديث كان وليد الخصومة السامية (حركة العداء ضد اليهود) أكثر من أي عامل آخر؛ وهذا أيضاً عامل مصطنع في بنائه؛ وإذا كان الوطن
القومي قد أحرز في فلسطيني شيئاً من النجاح والتوسع من حيث الاحتشاد والاستثمار الاقتصادي، فذلك يرجع قبل كل شيء إلى الأموال الطائلة التي تستثمرها الرأسمالية اليهودية؛ والرأسمالية لا تعرف وطناً ولا ديناً، ولا تعرف إلا الفوائد والمغانم المادية.
والخلاصة أن الوطن القومي اليهودي يقوم على عوامل وأسس مصطنعة يكشف الزمن عن ضعفها شيئا فشيئا؛ والزمن وحده كفيل بأن يبين لليهودية أن مشروع الوطن القومي والدولة اليهودية إنما هو حلم عظيم جاشت به أذهان بعض المتعصبين من أقطاب اليهودية ومفكريها، وأنه لا يمكن أن يعتبر بوضعه الحاضر أكثر من مشروع اقتصادي تؤيده الحراب البريطانية، فكل ما يحرزه من نجاح أو يصيبه من فشل يرجع إلى قواعد الاقتصاد العادية دون غيرها؛ وما جامعة الدين التي تستظل بها اليهودية، إلا طلاء السياسة، وهي أضعف من أن تقيم في عصرنا دولة أو وطنا.
مؤرخ
حادثة فلسطين
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . لئن كانت حادثة الحبشة فضيحة القرن العشرين، فان حادثة فلسطين - إن تمت - فضيحة الدهر، وعار يلحق كل من يقول: أنا إنسان. . .
بيد أن الحبشة إن غلبت بملايينها وسلاحها وجيوشها، فان هذا الشعب الأعزل الذي لا يبلغ المليون الواحد لن يغلب على أرضه أبداً، لأن وراءه سبعين مليوناً من العرب، إن وراءه أربعمائة مليون من المسلمين، إن وراءه ألف معركة منها أجنادين واليرموك وحطّين، إن وراءه القرآن الذي يقول عن اليهود:(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ واَلمْسكَنَةُ وبَاءُوا بِغَضَبٍ منَ الله) صدق الله العظيم؛ وكذبوا. . . إن الذليل لا يعز، والمسكين لا يملك، والمغضوب عليه لا يفلح أبداً!
إن حادثة فلسطين لو تدبرها العقل، وفهمها على وجهها لما رآها إلا. . . (جريمة): أبطالها طائفة من اللصوص، وشرذمة من الحرّاس، لصوص يتسورّون الدار ليطردوا صاحبها، ويحتلوها ويشردّوا أهلها، وحراس يعينون اللص على المالك وينصرون على الحق الباطل. . .
ولكن الجريمة لن تتمّ: إن الأسد في العرين، وربّ الدار يعرف كيف يحمى الدار. . . فيا أحفاد كعب بن الأشرف، وسلاّم بن أبى الُحقيق، وعصماء وأبى عَفْك، نحن أبناء محمد بن سلمة، وعبد الله بن عتيك، وعُمَير بن عدىّ، وسالم بن عمير. . . فإذا أغنى عن أجدادكم - إذا هم كانوا أجدادكم حقاً - إذا أغنى عنهم مالهم، أو دفعت عنهم حصونهم، أو نفعهم حلفائهم، وما حزّبوا علينا من أحزاب، أغنى ذلك عنكم:
(هوَ الذي أَخْرَجَ الّذينَ كَفَرُوا منْ دِيارِهمْ لأوّلِ الحشْرِ مَا ظَنَنْتمْ أَنْ يَخرُجُوا وظَنّوا أَنّهُمْ ما نِعَتُهُمْ حُصُونُهم من الله. فأَتَاهُمُ الله منْ حيثُ لم يحتسبِوا وَقَذَف في قلوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبون بُيُوتهم بأيديهم وأَيدي المؤمنين. فاعْتَبروا يا أُولي الأبْصار)
ولئن اشتدت اليوم المصيبة وعظم الخطب، فقد كانا يومئذ أشد وأعظم، يوم قامت أوربة كلها على قدم وساق، ثم سارت إلينا بقضها وقضيضها، يحدوها التعصب الأعمى، وتسوقها عصا البغضاء والحقد والعداوة الدينية، فأفسدت البلاد وعاثت في الحرم، حتى إذا ظنت
أنها قد ملكت وتمكنت، وبنت فأسست، وباضت وفرّخت؛ جاءها رجل واحد فحطم جيوشها في حطين، ثم ردّهم على أعقابهم خاسرين، ثم أخرجهم منها مذءومين مدحورين.
أفعيينا بأوربة كلها، وعجزنا عنها حتى نعجز عن حفنة من شذ إذ الآفاق ونفايات الأمم وعباد الدرهم والدينار؟ أم قد جفّ الدم الذي روّى عروق صلاح الدين، وماتت الأمة التي أخرجته، وعقمت النساء فلا يلدن شبيهه؟ إن كل مسلم اليوم في فلسطين صلاحُ الدين، وكل بقعة فيها حطين!
ضربت عليهم الذلة والمسكنة: فالذهب في صناديقهم والنظام جمعياتهم، والريّ والخصب في أرضهم، والسلاح في أيديهم، والإنكليز من ورائهم، ثم لا يثبتون ساعة واحدة لهؤلاء العزل الفقراء. . . ولا يقدرون أن يقفوا في وجوههم، ويرتجفون إذا سمعوا ذكر أسمائهم:(إِذَا رأَيتَهُمْ تُعجِبُكَ أَجْسَامُهمْ وإِنْ يَقُولوا تَسْمَعْ لقولِهمْ كأَنَّهُمْ خشبٌ مُسَنَّدَة يَحْسَبُون كلَّ صَيْحَةٍ علَيهِمْ) أهؤلاء الذين لا يستطيعون أن يمشوا في الطرقات وحراب إنكلترا تحميهم، يستطيعون بعدُ أن يمسوا سدنة المسجد الأقصى وسادة فلسطين، ويملكوها - وحدهم - رغم أنف المسلمين أجمعين؟ ولو نفخ عليهم المسلمون أربعمائة مليون نفخة لطيروهم، ولو مالوا عليهم لطحنوهم، ولوبصقوا عليهم لأغرقوهم، ولو صرخوا فيهم لقتلوهم؟
أهؤلاء الذين ما عرفهم التاريخ إلا مغلوبين، يتحرشون بمن لم يعرفهم التاريخ إلا غالبين منصورين، ومن حكموا الدنيا فكانوا نعم الحاكمين، وعلموا العالم فكانوا خير معلمين؟
إن معهم وعداً، وإن معنا لوعداً: معهم وعد بلفور. ومنا وعد الله: (وَعَدَ الله الذينَ آمنوا منكم وعملوا الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرضِ كما اسْتَخْلَفَ الّذينَ من قَبْلِهمْ، وَلَيُمَكِّنَنّ لَهُمْ دينَهُم الذي ارتضى لَهُمْ، وليُبدلنَّهم من بعدِ خَوْفِهمْ أَمنا) ولكنّ الله يمتحن إيماننا وصبرنا واتحادنا وتعاوننا، وينظر أنجاهد في سبيله بأموالنا وأنفسنا، وننصر إخواننا ونكون في توادنا وتراحمنا كالجسد الواحد، إذا تألم عضو منه تداعت له سائر الأعضاء بالحمىّ والسهر، أم قد فرقت بيننا السياسة، وباعدت بيننا الغير، ومزقتنا الأهواء والمطامع، فأمسينا ننام في القاهرة ودمشق وبغداد على فرش الريش والديباج، وإخواننا على شعفات جبال نابلس والقدس لا يغمض لهم جفن، ونأكل الشواء والحلواء وإخواننا هناك قد لا يجدون ما يقوم بأودهم من الخبز، ونبذر المال نقذف به إلى أوروبة ثمناً لهنات هينات، فيصنعون منه
مدافع تحصد إخواننا حصداً، وبنادق تمزق صدورهم تمزيقاً، وإخواننا لا يجدون ثمن الحاجات الضروريات، ونلهو ونلعب آمنين مطمئنين، وإخواننا في فلسطين قائمون على حد السيف، بين النار والحديد؟
فيا إخواننا في مصر والشام والعراق والحجاز والمغرب، ويا إخواننا في الهند والصين وأينما بلغت مقالتي هذه. . .
إن الله جل وعز يقول: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) فهل أنتم مؤمنون مسلمون بجوارحكم وقلوبكم، مخلصون لله في أسراركم وإعلانكم؟ أم أنتم مسلمون بالنسب والاسم وسجل الدولة، لا تعرفون إلا أنفسكم، لا تبالون إلا بلذاتكم، ولا تنظرون إلى أبعد من أنوفكم؟
إذا كنتم مسلمين حقاً، مؤمنين صدقاً، تريدون أن ينصركم الله فانصروا فلسطين ما استطعتم، انزعوا المال من أفواه عيالكم، وأعناق بناتكم، لتشتروا به حياة إخوانكم في فلسطين، اسهروا الليالي تتسقطون أخبارها، وتعلمون علمها، أمسكوا عن لهوكم وأفراحكم فلا تنفرج لكم سنّ حتى تنفرج أزمتها، اجعلوا قضية فلسطين، قضية كل واحد منكم. . .
أما أنتم يا إخواننا في فلسطين:
فاصبروا وصابروا (وَلا تَهِنوا وَلا تَحْزنوا وَأنتم الأَعلَون إِنْ كُنتم مؤمنين. إِن يَمْسَسْكم قَرْحٌ فقد مسّ القومَ قَرْحٌ مثلُه، وَتلك الأيام نداوِلُها بَيْنَ الناس، وَليعْلَم الله الّذينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ منكم شُهَدَاء، وَالله لا يحبُّ الظالمين، وَلِيَمحِّصَ الّذين آمنوا وَيمْحَقَ الكافرين. أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تدْخُلُوا الجَّنَة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الّذينَ جاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعلم الصابرين)
أما بعد، فان حادثة فلسطين - إن هي تمت - فضيحة الدهر، وعار الإنسانية. . . ولكنها لن تتم بحول الله وقوته ثم بقوة للمسلين. . .
علي الطنطاوي
حماية الطالحين
بحث علمي اجتماعي
للأستاذ إسماعيل مظهر
في أواسط القرن التاسع عشر أصابت العلم هزة من تلك الهزات العنيفة التي تغير مجرى الفكر، وتقلب آيات العلم بعد أن يخيل إلى الناس أن المعرفة قد قامت على قواعدها الرسيسة، رأساً على عقب. ففي سنة 1859 نشر العلامة شارلز روبرت دروين كتابه (أصل الأنواع) فأقام الحجة البالغة على أن الأنواع تنشأ في الطبيعة بعضها منظور عن بعض على مر عصور متطاولة، وأن نشوء الحياة من فوق الأرض موغل في القدم.
ولقد أقام دروين نظريته على ثلاث قواعد أولية، هي التناحر على البقاء، والانتخاب الطبيعي، وبقاء الأصلح. أما التناحر على البقاء فاصطلاح مجازى يؤدى في أوسع مدلولاته معنيين: فأما أنه يدل على العلاقة القائمة بين الأنواع الحية العائشة في بيئة ما، إذا ما اتجهت الأسباب العاملة على بقاء نوع إلى إبادة آخر أو إفنائه، وإما أنه يدل على الجهد الذي يبذله الأحياء في سبيل الحصول على مقومات الحياة، كمقاومة العوامل والمؤثرات المفنية للأفراد أو المبيدة للأنواع. أما الانتخاب الطبيعي فمحصله أنه يبقى من أفراد الأنواع أو السلالات أقدرها على الحياة في بيئة ما وأن تفنى غير القادرة منها على البقاء. ولما كانت القدرة على البقاء وتخليف المِثْل، إنما ترجع إلى صفات حيوية تتأصل في الأحياء، ونشأ بالانتخاب الطبيعي تدريجياً على مر الأزمان سلالات وأنواع جديدة ممتازة بصفات معينة ثابتة. وقصد باصطلاح بقاء الأصلح أن الأحياء تتكاثر بنسبة رياضية. أي بنسبة 16: 8: 4: 2 وهكذا؛ فإذا لم يهلك معظم نتاجها بعوارض طبيعية ضاقت الأرض عن أن تسع الأحياء. ولذا لا يبقى من الأحياء إلا أصلحها أو أقدرها على البقاء ومقاومة العوارض. وما (بقاء الأصلح) في الواقع إلا اصطلاح يراد به إيضاح عمل الانتخاب الطبيعي المقتضى أن الأحياء التي هي أكثر صلاحية للبقاء في بيئة طبيعية تظل حية لتنتج أمثالها، في حين يفنى غير الصالح منها على هذه القواعد الثلاث شرع دروين مذهبه الذي اتجاه العلم الطبيعي برمته في أواسط القرن الماضي. أما الذين اكبوا على دراسة الاجتماعيات فقد تساءلوا: إذا كانت سنة الطبيعية الثابتة تقضى، لخير النوع وبقائه
واحتفاظه بمستوى خاص من الحيوية والقدرة على مجالدة الأعاصير والأعداء، بأن يفنى الطالح من نتاجه وألا يبقى إلا الصالح، فان المدنية الحديثة بما تحوط به الطالحين من أسباب الحماية من الهلاك والفناء، إنما تقاوم سنة الطبيعة الثابتة، تلك السنة التي تقضى بأحد أمرين: فأما هلاك يصيب الطالحين ليفوز الصالحون بتخليف النسل فيحتفظ النوع بحيويته وبمثله العليا من حيث القوة والجهد، وإما فساد يصيب طبيعة النوع بلا بقاء على الطالحين الذين يورثونه كل الصفات التي يدركها الاحيائيون بين الأطلح والأصلح.
ولنضرب لذلك مثلاً نقتطعه من حالاتنا الاجتماعية. فلقد استطاع الفلاح المصري أن يقاوم ثلاثة أشياء، تسلط واحد منها على شعب غلت يد الطبيعة عن تزويده بمزايا الانتخاب الطبيعي، كافية للقضاء عليه: فساد الحكومات، والأمراض والحروب، فلقد توالت على هذا الفلاح دورات من استبداد الحكومات منذ عهد الفراعنة إلى الآن، لا يروى تاريخ أية أمة من الأمم لها شبيهاً. وازدياد عدد السكان في مصر إلى عشرين مليوناً في عصر من العصور إلى ثلاثة ملايين في عصر محمد علي، دليل قاطع على عظم ما عانى هذا الشعب من عوامل الإفناء وبرهان على ما فيه من حيوية استمدها من البيئة الطبيعية ومن حالاته المعاشية التي ظلت متروكة لحكم الطبيعة فيه الآلاف من السنين. وليس لي هنا أن أتكلم في الأمراض التي سكنت جسم هذا الفلاح منذ أقدم العصور وأخصها (البلهارسيا) وقد استدل على وجودها بالموميات المحنطة من أقدم العصور: أما الحروب فيكفي أن تعرف أن الجيش المصري حارب في خمس وأربعين وقعة تحت لواء قائدنا العظيم إبراهيم وحده في فترة لا تزيد على ثلاثين عاماً. فما بالك بالعصور التي هدمت فيها الإمبراطورية المصرية ثم بنيت على أكتاف هذا الفلاح منذ ستة آلاف خَلون من الأعوام؟
هذه الظاهرة تحملنا على أن نتساءل ما هو السر الذي جعل هذا الفلاح على ما في أسباب حياته من عوامل الإفناء يصمد لعوادي الدهر والطبيعة فلا ينقرض ولا يبيد، بل تراه اليوم وقد خرج من معارك التناحر على البقاء منصوراً، وعلى ضفاف نيله المقدس سبعة عشر مليوناً يفلحون أرض مصر ويتطلعون إلى أسمى المثل التي أوجدها التصور الديمقراطي الحديث؟
قد يتفق أن يقول بعض الذين لا يقوون على وصل أسلوب التفكير العلمي بأسلوب التفكير
الاستقرائي إن ذلك راجع إلى صفات خص بها الشعب المصري دون غيره من شعوب الأرض التي عاصرته. وقد يكون في هذا الكلام بعض الحق، فان للصفات الخلقية التي تتصف بها بعض الشعوب أثر في ذلك. ولكن إذا نظرنا في الآمر من الواجهة الطبيعية الصرف ألفينا أن السبب راجع إلى أن هذا الشعب قد ترك للطبيعة معرضاً لعواملها خاضعاً لقوانينها الحديدية منذ أبعد العصور. وظلت الطبيعة تتولى إنساله بالانتخاب الطبيعي فتفنى غير القادر منها على البقاء، وتبقى في حلبتها الصالحين للبقاء، فاستطاعت بذلك أن تحفظ على هذا الشعب قدراً من الحيوية ظل ثابتاً على مدار العصور. وقد نرى هذا الفلاح اليوم بسحنته السفعاء وجسمه النحاسي، فما تقرأ فيه من آية إِلاّ آية الطبيعة خطت على ملامحه الهادئة؛ أمّا وداعة أخلاقه وصبره واحتماله وحدة نظراته وذكائه الموروث، فتحملك لأول وهلة إذا ما نظرتَ إليه أن تقول: هو ذا ابن من أبناء الطبيعة لم يَدْخلْ في فطرته بعد شيء من تزوير المدينة.
ولاشك عندي في أن تزوير المدينة لابد من أن يدرك فلاحنا بعد عهد قصير. فقد علت الصيحة في هذا العصر بوجوب النظر في ترقية الفلاح اجتماعيا. أما إذا كان الذين يصيحون هذه الصيحة لا يقصدون بها إلاّ أن يخرج الفلاح من تلك البيئة التي نشأ فيها إلى بيئة مزورة ندعوها المدينة، بأن نغل يد الطبيعة عن أن تدرك منه أغراضها الانتخابية، وأن تعمل على حماية أولئك الذين كتبت عليهم الطبيعة آية الفناء بأسباب اصطناعية، فان ذلك سوف يكون أول عهد الفلاح بفقدانه الحيوية التي استمدها من الطبيعة على مدار العصور وعلى تتالي الأحقاب. ولم أدرس بعد كيف نستطيع أن نحمي فلاحنا من مفاسد المدينة التي تقضى بأبعاده عن حكم الطبيعة فيه، وإنما أقول إن كل إصلاح اجتماعي لا يعوض على الفلاح ما سوف يسلب من فعل الطبيعة، إصلاح هو إلى الفساد أقرب شيء.
ولقد بحث هذا المشكل الاجتماعي فحول من معاصري الاجتماعيين، وزكىَّ بحوثهم فئة من كبار الأخصائيين في أوروبا وأمريكا، ولقد بان لهم بأجلى دليل أن الحماية المصطنعة التي حَدّ بها العلم من فعل الطبيعة في الطالحين، أي غير القادرين على البقاء في البيئة الطبيعة، لولا تلك الحماية، سبب من اكبر الأسباب التي ولدت ما يظهر على أكثر شعوب الأرض من مظاهر الهرم والضعف الحيوي، حتى لقد لجأت ألمانيا وغيرها من ولايات أمريكا
المتحدة والجزر البريطانية التي تعقر طبقات خاصة من المجرمين والمعتوهين والفاسدين توصلا إلى طريقة عملية يعوضون بها على الأحياء شيئاً مما فقدت بالحماية المصطنعة من فعل الطبيعة والخضوع لسنتها الثابتة.
من هذه البحوث بحث ألقاه لورد (دوصن في الجمعية الطبية بمدينة يورك نشر بعنوان (الطب والتقدم الاجتماعي) تساءل فيه عما إذا كانت النزعة التي تنزع بنا إلى حماية كل الأطفال الذين يولدون من قضاء الطبيعة فيهم، مهما كانوا طالحين غير قادرين على البقاء بغير حماية فعلية، أمراً مناقضاً لما تنشد من ارتقاء السلالات البشرية وخيرها في مستقبل العصور. ففي خلال ستين عاماً انخفضت نسبة الوفيات بين الأطفال من 156 في الألف إلى 60 في الألف، ونزلت في الأطفال الذين هم فوق الخامسة من 68 إلى 18، وزاد عدد السكان في خلال هذه (الفترة 1870 - 1934) خمسين في المائة عما كان قبلا.
على أننا نستطيع أن ندرس الظواهر التي تنشأ عن مثل هذه الحالات، إذا رجعنا إلى أنوع أخرى تعيشنا في الطبيعة. فقد نرى أن الأنواع الأخرى، غير النوع البشرى، وغير الأنواع الداجنة التي يكثرها الإنسان لأغراض له فيها، تحتفظ بنسبة ثابتة في الأعقاب، أي في تخليف النسل، وأنه كلما أخذت نسبتها في الزيادة العددية سلطت عليها الطبيعة عوامل تردها إلى النسبة التي لا تسمح بأكثر منها، فقد لحظ أن ازدياد عدد نوع من الأنواع يصحبه دائما ظهور أمرين: إما زيادة في عدد الأنواع المفترسة، وإما ازدياد في الأمراض. وفي هذه الحالة لا يبقى من أفراد الأنواع إلا أقدرها على البقاء وأصلحها لأعقاب نسل يرث ما فيها من صفات تمكن النوع من الاحتفاظ بذاته، فإذا صدت الطبيعة عن أن تقضي في نوع بحكمها هذا، ترتب على هذا انحطاط يظهر في أعقاب هذا النوع.
والمثل على هذا عديدة، نقتصر على ذكر مثالين منها، فقد حدث أن حاول أهل سويسرا أن يحموا نسل حيوان يكثر في جبالهم يدعى (الشموا) وهو فصيلة من قيمة تجارية، فأسروا عدداً منه في داخل مكان متسع أحيط بكل أنواع الحماية، وبخاصة من الذئاب التي هي أنكى أعداء هذا الحيوان. فكانت النتيجة المحتومة أن ظهر في هذا النسل المأسور صفات انحطاطية بينه، وكثر فيه عدد الأفراد المهزولة الضعيفة، وبدت عليه كل علامات الانحلال الحيوي، حتى أضطر المربون في النهاية أن يدخلوا إلى مكان الأسر عدداً محدوداً من
الذئاب المفترسة، فوجدت هذه الذئاب في الأفراد المنحطة فرائس يسهل اقتناصها؛ وبعد قليل استعادت البقية الباقية كل الصفات المثالية التي يمتاز بها النوع في مرابيه الطبيعية أما في زيلاندا الجديدة فقد تكررت هذه الظاهرة بينها، والمعروف أن هذه الجزر من أمثل بقاع الأرض مناخاً وطبيعة لتربية الأنعام خاصة، وذوات الثدي عامة، ذلك بأنها خالية من الحيوانات المفترسة خلواً تاماً. فلما استوطنها الايقوسيون حسن لديهم أن يدخلوا إليها عدداً من الغزال الأحمر الذي يعيش في جبالهم العليا، فكانت لهذا الحيوان أمثل مباءة، فتكاثر واكتنز لحماً، ولكن بان لهم بعد قليل من الزمن أن النوع الذي جلب من أثيوبيا مملوء حيوية، محتفظ بأسمى الصفات التي يتسم بها في مرابيته، قد ظهرت بينه أنواع انحرفت عن صفات النوع المثالية. فكانت أضعف بنية وأقل مقدرة على العدو، وقد شوه منظرها الخارجي بصفات لم يكن لها من وجود في أسلافها، أما الدواء فكان إدخال عدد من الذئاب المفترسة القوية إلى الجزر، كانت عدة الطبيعة في القضاء على الطالحين من نسل هذا الحيوان، فاستردت البقية الصالحة، بعد فناء غيرها، كل الصفات الحيوية التي يتصف بها هذا النوع في مرابيه.
أمام هذه الحقائق أخذ المصلحون يفكرون في تلك الوسائل التي يحاول بها دعاة المدنية والإنسانية أن يصلوا امن طريقها إلى حماية كل الأطفال الذين يولدون، أليس في الإفراط في اللجوء إلى هذه الوسائل معاندة للطبيعة بأن نكثر من نسل أناس يتصفون بالضعف الأدبي والعقلي والطبيعي؛ مثلنا في ذلك مثل أولئك الذين أرادوا أن يغالبوا الطبيعة في تربية الشموا والغزال الأحمر؟
وحجة الذين يميلون إلى الأخذ بالميول الإنسانية في مثل هذه البحوث العلمية، أن نسبة الزيادة في عدد السكان آخذة في التناقص شيئاً بعد شئ، وقد تقف عند حد خاص بعد زمن وجيز؛ فلا سبب للانزعاج والتشاؤم؛ غير أن هؤلاء تغيب عنهم حقيقة رئيسية، هي أن نسبة زيادة عدد السكان إن كانت قد أخذت في النقص، فانه نقص معكوس الآية، ففي منتصف القرن التاسع عشر كان التجار وأصحاب الحرف الفنية من ذوى الأسر العديدة الأفراد، في حين أن كبر أسرات رجال الدين كان مضرب المثل، فإذا وعينا أن متوسط عدد أفراد الأسرة في أمة تريد الاحتفاظ بكيانها لا ينبغي أن يقل عن أربعة أنفس، ذاكرين
أن هنالك أسراً قد تظل عقيماً، وأخرى تصاب بالثكل، وعلمنا أن عدد الأسرة في طبقتي الأطباء ورجال الدين لا يزيد عن اثنين، علمنا أن اطراد النقص في عدد السكان إنما هو اطراد عكسي. ذلك بأن هذه النسبة تقيد الطبيعية من ناحيتين: الأولى أعقاب النسل بالنسبة للطبيعة؛ والثانية عدم تزويد الطبيعة بمادة للانتخاب، إذ تغربل الناتج لتبقى على الأصلح هذه هي الحالات التي يقع تحت سلطانها إنسان القرن العشرين، فهل من سبيل إلى اتقائها؟ يقول لورد (دوصن) إن اتقاءها مرهون على شرطين: الأول نشر المعلومات التي تتعلق بضبط النسل: والثاني التعقير الاختياري. أما الشرط الأول، وهو شرط قد تحقق منه شطر عظيم بذيوع الوسائل التي تضبط النسل، فان عليه اعتراضاً ذا خطر عظيم، هو أن الذين يجنحون إلى ضبط النسل إنما هم أولئك الذين تعتبرهم زهرة المجتمع الإنساني من أصحاب العقول الراجحة والمزايا الفذة، في حين أن غيرهم من الطبقات الدنيا والطالحين يتناسلون جهد ما تبلغ استطاعتهم. وفي ذلك مشكل هو بذاته أنكى من حماية غير القادرين على البقاء بالطرق الاصطناعية. فان قلة نسل الأولين وازدياد نسل الآخرين مفسدة سوف تسرع ببعض الجماعات إلى درجة من الانحطاط يخشاها المصلحون، أما التعقير الاختياري فلا يعقل أن يكون دواء ناجعاً. ذلك بأن التعقير تشويه طبيعي لا يرضى به إلا أقلية من الناس لا يعتد بهم إذا قيسوا إلى مجموع الأمة.
ولست أرى أن في هذين الأمرين منجى من الأخطار التي تحيق بالجماعات في هذا الزمان، ولا بد للمفكرين الذين يرغبون في خير الإنسانية، ويودون أن يحتفظ النوع الإنساني بصفاته الرئيسية، أن يقعوا على علاجات أخرى تكون ناجعة في التعويض عن فعل الطبيعة في الانتخاب مع فرض الحماية على المواليد أيا كانوا ومن أي طابع خرجوا إلى هذه الدنيا.
إسماعيل مظهر
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
اَلحصانة واليهودي الأفاَّق
- 2 -
كانت كشوف بستور وكوخ قد شاعت في الناس فثاروا لها جنوناً، فكان لا هم لهم إلا بها، ولا حديث إلا فيها، فلما لما جاء عام 1883 انقلب متشنيكوف من باحث طبيعي إلى صائد مكروب؛ وكان قد خاصم رجال السلطة في جامعة أودسّا، فترك الجامعة وذهب إلى جزيرة صقلية، وصحب معه زوجته أُلجا وأخوتها؛ فلما حلوا جميعاً بها اتخذوا لأنفسهم فيها منزلاً صغيراً ذا طابق واحد يطل على المياه اللازوردية لشاطئ كلَبرية، وفي حجرة الجلوس هيأ متشنيكوف لنفسه معملاً مرتجَلاً. وأوحت إليه نفسه بأن الشيء الرائج عندئذ في العلوم هو علم المكروب، فأخذ يحلم الأحلام ويأمل الآمال عن كشوف خطيرة لمكروبات جديدة يكتشفها، وكان يلذّ له العمل أيضاً فيها لذةً صدق، ولكنه لم يكن يدرى من طرائقها الخدّاعة شيئاً، بل قل أنه لم يكن رأي مكروبة واحدة؛ وطال تجواله في حجرة الجلوس هذه يشرح لألجا نظريات علم الحياة تارة، أو هو يدرس نجوم البحر واسفنجياته تارة، أو هو يحكى الحكايات لأخوة أُلجا وأخواتها، واختصاراً كان يفعل كل شيء لا يمُتُّ بصلة إلى تلك الأبحاث المجيدة التي قام بها كوخ وبستور.
وذات يوم أخذ يدرس كيف تهضم الاسفنجيات ونجوم البحر أطعمتها، وكان قبل ذلك عثر في داخل هذه الأحياء على خلايا غريبة هي بعض أجسام هذه الاحياء، ولكنها مع ذلك تدور فيها دوران الحر الطليق، وكانت هذه الخلايا الأفاقة التائهة تسبح في مجاريها كما تسبح الخلايا الأشهر المعروفة بالأميبا تضرب ببعض جسمها الرخو قُدُما في سائل الجسم، فإذا برز منه ما يشبه اللسان جرّ ما تخلف من الجسم وراءه.
وجلس متشينيكوف من بيته في غرفة الجلوس، وقعد إلى المنضدة وجاء بعلقات من نجوم البحر، وأدخل في أجسامها شيئاً من صبغة الكرمين وجاهد في إدخالها جهاد الرجل الذي لا تستطيع يداه مجاراة عقله، وضاق بهذه التجربة صدره للذي عانته أصابعه الثقيلة في
أجرائها، وكانت تلك فكرة بارعة من بنات أفكاره الحسان، لأن هذا العَلَق شفّاف كالزجاج، فكان في استطاعة صاحبنا أن يتتبع بعدسته ما يجرى فيه، ونظر فوجد تلك الخلايا الأفّاقة الطليقة تسبح إلى حبّات صبغته، فإذا بلغتها التهمتها التهاماً، ففرح وطَرِب، وخال متشنيكوف إلى تلك الساعة أنه يدرس كيف يهضم نجم البحر طعامه؛ ولكن طافت في حواشي فكره أشباح من أفكار جديدة يتضاءل إلى جانبها موضوع الهضم تضاؤلاً كبيراً، أفكار رائعة مبهمة لا تتصل بمبحَث الهضم من قريب أو بعيد.
وفي الغد ذهبت أُ لجا بالأطفال إلى السرك يشهدون ألعاب قردة بارعة التمثيل؛ وبقى متشنيكوف حيث هو من غرفة الجلوس وعلى وجهه لحية كلحية القديسين؛ وقد أخذ بشدّ شعراتها شداً؛ وقد أخذ نجم البحر في مائة بوعائه. ولكن لا يرى منه شيئاً. وفي ساعة قصيرة جرى له مثل الذي جرى للقديس بولص وهو في طريقه إلى دمشق لما شعّ في وجهه ذلك النور الباغت فأعماه. نعم في ساعة قليلة، في دقيقة قصيرة، في ومضة برق، أو لحظة عين نزل الوحي على متشنيكوف فتغّير بغتة مجرى حياته.
(إن هذه الخلايا الأّفاقة التوّاهة في أجسام نجوم البحر تأكل الطعام وتلتهم حبّات الصبغة - إذن هي لا بد تأكل المكروبات أيضاً. وفي أجسامنا نحن، وفي دمائنا نحن، لا بد أن كراتنا البيضاء هي التي تلتهم الجراثيم فتحمينا من غوازيها. . إن هذه الكرات البيضاء هي سبب حصانتنا من العدوى. . . إنها هي هي التي تقي الجنس البشرىّ من فناء سريع تحمله إليه أجناس البشلاّت).
وهكذا، بدون أي دليل، وبدون محاولة أي تجربة، قفز متشنيكوف هذه القفزة الكبرى من هضم نجم البحر إلى أدواء الإنسان.
كتب في مذكراته: (وبغتةً وجدت نفسي قد انقلبتُ عالِمَ أمراض وهذا انقلاب كبير لا يَعْدِلهُ إلاّ انقلاب زمّار إلى فلكيّ. وكتب (وأحسست أن هذه الفكرة ستتمخض عن أمر كبير الخطورة، فاضطربت نفسي واهتاجت فأخذت أغدو في الغرفة وأروح حتى لَذَهبت إلى شاطئ البحر أستجمع فكرى). وكتب: (وقلت لنفسي لو صّحت هذه النظرية إذن لتوقعت إذا أنا أدخلت فِلقة خشب في نجم البحر أن تتجمع هذه الخلايا الأفّاقة حول الفلقة دفعاً للسوء الطارئ.) وذكر بهذا أن الرجل تدخل في إصبعه الشوكة فينسى أن ينتزعها فلا
تلبث أن تتجمع حولها المِدّة والقيح وما هما إلا طوائف من الخلايا البيضاء التي تطوف في دم الإنسان. ذكر هذا بهذا فهرول إلى الحديقة التي وراء بيته، إلى شجيرة ورد كان ذوقها وزخرفها من أجل أخوة أُولجا ليحتفلوا بها في عيد الميلاد، وانتزع منها بعض شوكها، وعاد بالشوكات إلى معمله، وما هو بالمعمل، وشكها جميعاً في جسم أحد نجوم البحر وكان شفافاً كالماء.
وما طلع فجر الغد حتى استيقظ وقد امتلأ قلبه بكل أمل بعيد، ولم يتمهل بعد يقظته طويلاً حتى عرف أن ظنه أصاب، وأن خيال الأمس أصبح حقيقة اليوم. نظر إلى شوكات الورد فوجد طوائف عدة من تلك الخلايا الأفاقة التائهة قد ازدحمت حولها وأخذت تتماوج في كثرتها وبطئ حركتها. وكان فيما رأي الكفاية لإقناعه بأنه وجد تفسيراً للحصانة من جميع الأمراض، وعادته في الطفرة إلى الاستنتاجات السرية معروفة مشهورة. وخرج في هذا الصباح يخبر مشاهير أساتذة أوربا بالذي وجده، وكانوا اجتمعوا اتفاقاً بمدينة مسينا على القرب منه، وقال لهم:(هذا هو السبب الذي من أجله يصمد الإنسان لغائلة المكروبات). وانطلق لسانه حديداً فصيحاً يشرح لهم كيف حاولت خلاياه التواهة أن تأكل الشوك أكلا لما، واستطاع أن يريهم تلك التجربة الجميلة مصداقا لدعواه فصدقه العلماء، حتى ذلك العالم الجليل المخوف الأستاذ الدكتور فرشو آمن به وقد كان سَخِر بكوخ لما أتاه. ومن هذا اليوم دخل متشنيكوف في زمرة صُياد المكروب.
- 3 -
ثم ترك أُلجا والأطفال وراءه يعيشون وحدهم على قدر ما يستطيعون، وذهب إلى فينّا ليعلن من فوق منبرها أن الإنسان حصين من الجراثيم لأن بدمه كريات بيضاء تائهة عملُها بلعُ هذه الجراثيم. وذهب تواً إلى معمل صديقه القديم الأستاذ كِلاوُسْ وكان عالم حيوان، وكان يجهل من أمر المكروب بقدر ما جَهِل متشنيكوف، كذلك اُعِجب بالذي سمعه وقال لصديقه الضيف. (انه ليسرني ويشرفني كثيراً أن تنشر نظريتك في مجلتي)
فقال متشنيكوف: (ولكن لابد لي من اسم علمي لهذه الخلايا التي تلتقم المكروبات، أعني اسماً اغريقياً، فأي الأسماء تقترح؟)
فرفع الأستاذ يده إلى رأسه يحكّها، وحكّ الجهابذة العلماء رؤوسهم معه، ونظروا المعاجم ثم
أخبروه أخيراً: (أن الكلمة المثْلى هي فجوسه ومعناها بالإغريقية الخلية الملتهمة فهي إذن ضالتكَ التي تنْشُد)
فشكرهم متشنيكوف، وأخذ هذه الكلمة وعلقها في أعلى ساريته، ثم حل القلاع ومخر بسفينة بحار حياته المضطربة، وهذه الكلمة دينيه، وبهذه الكلمة يفسر كل شئ، وهي صرخته في حربه وفي سلمه، وهي أداة عيشه وآلة رزقه. وصدّقني أو كذّب لقد كان لهذه الكلمة نصيب كبير في حفزنا إلى الدراسة ما هي الحصانة. ومن هذه الساعة أخذ متشنيكوف يبشر بالفجوسات ويذيع من أمرها كل جميل، ويدفع عنها مقالة السوء، وأجرى عليها أبحاثاً لها خطرها، وعادى في سبيلها، ولاشك أنه بذلك أدّى نصيبه في إحداث الحرب العالمية الكبرى حرب عام 1914 بما عكّرت حملاته الشديدة ما بين فرنسا وألمانيا من مودّة لم تكن كثيرة الصفاء أبداً.
وذهب من فينا إلى أوديسا، وهناك ألقى خطاباً عظيما في (القوات العلاجية للكائن الحي)، فدهش أطباء هذا البلد مما قال وأُعجبوا به إعجاباً كبيراً، فقد كان إلقاؤه غاية في الإبداع، وحرارة قلبه لا تدع للسامع شكا في إخلاصه، ولكن لا يوجد في السجلات ما يفهم منه المطالع أنه أخبر جمهره الأطباء بهذا البلد أنه لم يكن رأي إلى هذا العهد كرة دموية بيضاء واحدة تلتهم مكروبة واحدة من مكروبات الوباء. إن الناس جميعاً - ومنهم الأطباء العلماء - لا تقع أبصارهم على كلبين يتشاجران حتى تستوقفهم تلك الحرب الصغيرة فيتجمعون حولها ارواء للطبيعة وانتظاراً لعلم من تكون له الغلبة، وكذلك الحال في أمر متشنيكوف فان حكاية تلك الحروب الطاحنة الدائمة المتواصلة بين الفجوسات الجريئة الباسلة، وهي تنهض إلى الثغور تدفع غزوة تلك المكروبات العادية القاتلة، تلك الحكاية أثارت شوق الناس فأرهفت آذانهم لاستماع، وفتحت قلوبهم لاقتناع.
ولكن متشنيكوف عرف أنه لابد له من البحث عن حقائق ذات بال تقوم دليلاً على الذي يقول؛ ولم يطل به الزمن حتى وجدها بيّنة كالشمس رائقة كالبلور، وذلك في براغيث الماء.
ومضت عليه فترة من الزمن نسى فيها الخطابة، وعكف فيها على صيد هذه البراغيث من البرك ومرابي الأسماك. وكان اختيارا عبقرياً أوحى إليه به لا شكّ شيطانه، فهذه البراغيث
كانت كعَلَق نجوم البحر شفافة، فاستطاع بعدسته أن يرى ما يجرى في داخلها، وأخذ يبحث في جَلَد شديد عن داء يكون في هذه البراغيث، وجاءه صبرٌ نادر على غير انتظار، فعَمِل طويلاً، وبحث كما يبحث البحّاثة القُحّ وقليلاً ما كانة.
لعلك أيها القارئ أدركت من تاريخ المكروبات هذا أن الباحث كثيراً ما يعتزم البحث عن شيء فيبدأ بحثه فلا يلبث به طويلا حتى تقوده الطريق إلى أمور غير التي طلبها أولاً على أن هذا لم يكن من قِسمة صاحبنا؛ فانه أخذ يرقب هذه البراغيث تضرب في حياتها العادية ضرباً غير ذي غاية ولانهاية.
فلم يلبث أن رآها من خَلَل عدسته تبتلع بزور خمائر فيها خطر على حياتها. وكانت بزوراً حادة كالأبر. فلما بلغت إلى ما يشبه المعدة من البرغوث نفذت فيه وأخذت تسير انزلاقاً في جسمه. هنا رأي متشنيكوف ما خصّته الأقدار برؤيته. هنا نظر ما أتحفته الحظوظ الطبية بنظرته: سارت خلايا البرغوث الأفّاقة التوّاهة: تلك الفَجُوسات التي تقي الجسم شرّ الدخيل، سارت نافرة إلى تلك البزور الفاتكة العادية، فتجمعت حولها، وحلّقت عليها. فأذابتها، وأكلتها أكلا، وهضمتها هضما. . . ومما زاد نظريته ثبوتاً، أن بعض البراغيث كانت تتخاذل فَجُوساتها أحياناً عن النفْر إلى العدوّ الغازي، فكانت بزور تلك الخمائر تستقر في جسم البرغوث فتتنفس عن خمائر حية ناشطة تتكاثر تكاثراً ذريعاً فتسمم البرغوث فتقتله ثم هي تأكله أطلّ متشنيكوف من خلال عدسته على هذه المعارك الجميلة تدور رحاها في هذه الميادين الصغيرة فعرف أولَ عارفِ سرّاً من أسرار الطبيعة خبأته عن الناس زماناً طويلاً، عرف كيف تدفع بعض الخلائق عن نفسها غائلةً لو قعدت عنها لكانت قاتلة. وقد كان صادقاً في الذي رآه، وقد كان بارعاً موّفقاً في الطريق الذي سلكه، فأنىّ يخطر على بال امرئٍ أن يبحث عن علّة الحصانة في مخلوق غريب بعيد كل البعد عن أذهان الناس كبرغوث الماء.
وقنع بالذي وجده من بحثه، وآمن كل الإيمان بنظريته فلم يتابع دراسة تلك المعارك التي كان يقضى كوُخ السنوات العديدة لو أنه اتفق له منها ما اتفق لمتشنيكوف. وأخيراً نشر مقالة نمّت عن علم جم وفضل كثير قال فيها: (إن حصانة براغيث الماء ترجع إلى فُجَوساتها، وهي مَثَل للأسلوب الطبيعي في الوقاية من الوباء. . . فان بزرة الخميرة إذا لم
تتلقها خلايا الجسم التوّاهة الدفّاعة فتبتلعها عند نفاذها في الجسم، استطاعت تلك البزرة أن تنبت الخميرة واستطاعت هذه أن تتكاثر وأن تفرز سماً لا يصد خلايا الجسم المدافعة فحسب، بل يقتلها ويذيبها كما يذوب الملح في الماء)
(يتبع)
أحمد زكي
أعلام الإسلام
2 -
سَعِيد بنُ المسَيّب
للأستاذ ناجي الطنطاوي
ضربه وحبسه
قال عبد الله بن جعفر وغيره: استعمل عبد الله بن الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير فقال سعيد بن المسيب: لا: حتى يجتمع الناس، فضربه ستين سوطاً، فصاح به سعيد والسياط تأخذه: والله ما ربعت على كتاب الله، يقول الله: أنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، وإنك تزوجت الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، وما هي إلاّ ليالٍ فاصنع ما بدا لك، فسوف يأتيك ما تكره. فما مكث إلا يسيراً حتى قتل ابن الزبير. وروى أن ابن الزبير لما بلغه ضرب ابن المسيب كتب إلى جابر يلومه ويقول: ما لنا ولسعيد؟ دعه.
وقال يحيى بن سعيد: كتب والي المدينة إلى عبد الملك بن مروان: إن أهل المدينة قد أطبقوا على البيعة للوليد وسليمان إلا سعيد بن المسيب. فكتب أن اعرضه على السيف، فان مضى وإلا فاجلده خمسين جلدة، وطف به أسواق المدينة. فلما قدم الكتاب على الوالي، دخل سليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله، على سعيد بن المسيب، فقالوا: إنا قد جئناك في أمر: قد قدم فيك كتاب من عبد الله بن مروان إن لم تبايع ضربت عنقك، ونحن نعرض عليك خصالاً ثلاثاً، فاعطنا إحداهن، فان الوالي قد قبل منك أن يقرأ عليك الكتاب فلا تقل (لا) ولا (نعم)، قال: فيقول الناس بايع سعيد بن المسيب؛ ما أنا بفاعل. (قال): وكان إذا قال: لا، لم يطيقوا عليه أن يقول نعم. قال: مضت واحدة وبقيت اثنتان. قالوا فتجلس في بيتك فلا تخرج إلى الصلاة أياماً، فانه يقبل منك إذا طلبت في مجلسك فلم يجدك. قال: وأنا أسمع الأذان فوق أذنيّ: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح؟ ما أنا بفعل. مضت اثنتان وبقيت واحدة. قالوا: فانتقل من مجلسك إلى غيره، فانه يرسل إلى مجلسك فان لم يجدك أمسك عنك. قال: فرقاً لمخلوق؟ ما أنا بمتقدم لذلك شبراً ولا متأخراً شبراً. فخرجوا وخرج إلى الصلاة، صلاة الظهر، فجلس في مجلسه الذي كان
يجلس فيه، فلما صلى الوالي بعث إليه فأتى به، فقال: أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تبايع ضربنا عنقك، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين فلما رآه لا يجيب أخرج إلى السدة فمدّت عنقه وسلْت عليه السيوف، فلما رآه قد مضى أمر به فجرّد، فإذا عليه تبّان شعر فقال: لو علمت أني لا أقتل ما اشتهرت بهذا التبّان، فضربه خمسين سوطاً ثم طاف به أسواق المدينة، فلما ردّه والناس منصرفون من صلاة العصر قال: إن هذه لوجوه ما نظرت أليها منذ أربعين سنة.
وروي أن سعيداً لما جردّ ليضرب، قالت له امرأة: إنّ هذا لمقام الخزي، فقال لها سعيد: من مقام الخزي فررنا.
وقال قتادة: أتيت سعيد بن المسيّب، وقد ألبس تبّان شعر وأقيم في الشمس فقلت لقائدي: أدنني منه فأدناني منه، فجعلت أسأله خوفاً من أن يفوتني وهو يجيبني حسبة والناس يتعجبون.
وقال عبد الله بن يزيد الهذلي: دخلت على سعيد بن المسيّب السجن، فإذا هو قد ذبحت لهُ شاة، فجعل الإهاب على ظهره، ثم جعلوا له بعد ذلك قضباً رطباً، وكان كلما نظر إلى عضديه قال: اللهم انصرني من هشام.
وقال أسلم أبو أمية مولى بنى مخزوم وكان ثقة: صنعت ابنة سعيد بن المسيّب طعاماً كثيراً حين حبس، فبعثت به اليه، فلما جاء الطعام دعاني سعيد فقال: اذهب إلى ابنتي فقل لها: لا تعودي لمثل هذا أبدا، فهذه حاجة هشام بن إسماعيل، يريد أن يذهب مالي فأحتاج إلى ما في أيديهم وأنا لا أدرى ما أحبس، فانظري إلى القوت الذي كنت آكل في بيتي فابعثي إلي به، فكانت تبعث إليه بذلك، وكان يصوم الدهر.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيّب إنه كان إذا أراد الرجل أن يجالسه قال: إنهم قد جلدوني، ومنعوا الناس أن يجالسوني.
وقال عبد الله بن جعفر وغيره: كتب هشام بن إسماعيل إلى عبد الملك بن مروان يخبره بخلاف سعيد بعد أن وضعه في السجن وما كان من أمره، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع به ويقول: سعيد كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه، وأنا لنعلم ما عند سعيد شقاق ولا خلاف.
وقال الواقدي: كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان فيه سيئ الرأي، فدعا سعيد ابنه ومواليه فقال: أن هذا الرجل يوقَف للناس أوقد وُقف فلا يتعرض له أحد، ولا يؤذه بكلمة، فأنا سنترك ذلك لله وللرحم، فان كان ما علمت لسيء النظر لنفسه فأما كلامه فلا أكلمه أبداً!
وقال عمران: كان لسعيد بن المسيب في بيت المال بضعة وثلاثون ألفاً عطاؤه، فكان يدعى إليها فيأبى ويقول: لا حاجة لي فيها حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان!
معاملة للخلفاء والولاة
قال على بن زيد: قيل لسعيد بن المسيب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك، ولا يحركك، ولا يؤذيك؟ قال: والله لا أدرى إلا أنه دخل ذات يوم مع أبنه المسجد، فصلى صلاة، فجعل لا يتم ركوعها ولا سجودها، فأخذت كفاً من حصى فحصبته به، زعم أن الحجاج قال:
مازلت بعد ذلك أحسن الصلاة.
وقال عمران بن عبد الله بن طلحة بن خلف الخزاعيّ: حجّ عبد الملك بن مروان، فلما قدم المدينة فوقف على باب المسجد، أرسل إلى سعيد بن المسيب رجلاً يدعوه ولا يحركه؛ قال: فأتاه الرسول وقال: أمير المؤمنين واقف بالباب يريد أن يكلمك، فقال ما لأمير المؤمنين إلى حاجة، وما لي إليه حاجة، وإن حاجته إلى لغير مقضية! قال: فرجع الرسول إليه ليه فأخبره فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال له سعيد ما قال له أولاً. فقال له الرسول: لولا أنه تقدم إلي فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك. يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك تقول له مثل هذه المقالة؟: فقال: إن كان يريد أن يصنع بي خيراً فهو لك، وان كان غير ذلك فلا أحل حبوتي حتى يقضي ما هو قاض. فأتاه فأخبره فقال: رحم الله أبا محمد، أبى إلا صلابة.
وقال عمرو بن عاصم: لما استخلف الوليد بن عبد الملك، قدم المدينة فدخل المسجد فرأى شيخاً قد اجتمع الناس عليه، فقال: من هذا؟ فقالوا سعيد بن المسيّب؛ فلما جلس أرسل إليه فأتاه الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين: فقال: لعلك أخطأت بأسمى أو لعله أرسلك إلى غيري! قال: فأتاه الرسول فأخبره، فغضب وهمّ به، قال: وفي الناس يومئذ بقية، فأقبل عليه جلساؤه فقالوا: يا أمير المؤمنين فقيه أهل المدينة، وشيخ قريش، وصديق أبيك، لم يطمع ملك قبلك أن يأتيه. قال: فما زالوا حتى أضرب عنه.
وقال ميمون بن مهران: قدم عبد الملك بن مروان المدينة، فامتنعت منه القائلة واستيقظ، فقال لحاجبه: أنظر هل في المسجد أحد من حداثنا من أهل المدينة؟ فخرج فإذا سعيد بن المسيّب في حلقة له، فقام حيث ينظر إليه، ثم غمزه وأشار إليه بإصبعه ثم ولي؛ فلم يتحرك سعيد ولم يتبعه. فقال: ما أراه فطن، فجاء فدنا منه ثم غمزه وأشار إليه وقال: ألم ترني أشير إليك؟ قال: وما حاجتك؟ قال: استيقظ أمير المؤمنين، فقال: أنظر في المسجد أحد من حداثي، فأجب أمير المؤمنين، فقال: أرسلك إلي؟ قال: لا، ولكن قال فانظر بعض حداثنا من أهل المدينة، فلم أر أحداً أهيأ منك. فقال سعيد: اذهب فأعلمه أنى لست من حداثه! فخرج الحاجب وهو يقول: ما أرى هذا الشيخ إلاّ مجنوناً! فأتى عبد الملك فقال له: ما وجدت في المسجد إلا شيخاً أشرت إليه فلم يقم، فقلت له إن أمير المؤمنين قال أنظر هل ترى في المسجد أحداً من حداثي فقال: إني لست من حداث أمير المؤمنين. وقال لي: أعلمه، فقال عبد الملك: ذاك سعيد بن المسيّب، فدعه.
وقال هشام بن عروة: لما تزوج الحجاج، وهو أمير المدينة بنت عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، أتى رجل سعيد بن المسيّب فذكر له ذلك، فقال: أني لأرجو ألا يجمع الله بينهما، ولقد دعا داع بذلك وابتهل؛ وعسى الله؛ فان أباها لم يزوجها إلا الدراهم، فلما بلغ ذلك عبد الملك بن مروان أبرد البريد إلي الحجاج وكتب إليه يغلظ له ويقصر به ويذكر تجاوزه وقدره، ويقسم بالله لئن هو مسّها ليقطعنّ أحب أعضائه اليه، ويأمره بتسويغ أبيها المهر، وبتعجيل فراقها، ففعل فما بقى أحد إلاّ سره ذلك.
وقال المطلب بن السائب: كنت جالساً مع سعيد بن المسيب في السوق فمرّ بريد لبني مروان، فقال له سعيد: من رسل بني مروان أنت؟ قال: نعم. قال: كيف تركت بني مروان؟ قال: بخير. قال: تركتهم يجيعون الناس ويشبعون الكلاب! فاشرأبّ الرسول، فقمت إليه فلم أزل ارجيه حتى انطلق فقلت لسعيد: يغفر الله لك، تشيط بدمك؟ فقال: أسكت يا أحيمق! فو الله لا يسلمني الله ما أخذت بحقوقه.
وقال صالح بن كيسان: حجّ الوليد بن عبد الملك، فلما دخل المدينة غدا إلى المسجد بنظر إلى بنائه، فأخرج الناس منه، فما ترك فيه أحد، وبقى سعيد بن المسيّب ما يجترئ أحد من الحرس أن يخرجه! وما عليه إلا ربطتان ما تساويان إلا خمسة دراهم مصلاه. فقيل له لو
قمت، قال: والله لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه. قيل: فلو سلّمت على أمير المؤمنين. قال: والله لا أقوم إليه! قال عمر بن عبد العزيز فجعلت أعدل بالوليد في ناحية المسجد رجاء ألا يرى سعيداً حتى يقوم، فحانت من الوليد نظرة إلى القبلة فقال: من ذلك الجالس؟ أهو الشيخ سعيد بن المسيّب؟ فجعل عمر يقول: نعم يا أمير المؤمنين، ومِن حاله، ومِن حاله، ولو علم بمكانك لقام فسلم عليك، وهو ضعيف البصر. قال الوليد: قد علمت حاله، ونحن نأتيه فنسلم عليه فدار في المسجد حتى وقف على القبر، ثم أقبل حتى وقف على سعيد فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فو الله ما تحرك سعيد ولا قام! فقال: بخير والحمد لله يا أمير المؤمنين. قال الوليد: خير والحمد لله. فانصرف وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس. فقلت: أجل يا أمير المؤمنين.
رفضه أخذ العطاء
قال عمران بن عبد الله: كان سعيد بن المسيب لا يقبل من أحد شيئاً لا ديناراً ولا درهماً ولا شيئاً، وربما عرض عليه ألا شربة فيعرض فليس يشرب من شراب أحد منهم.
وقال العجلي وغيره: كان لا يقبل جوائز السلطان، وله أربع مائة دينار يتّجر فيها بالزيت وغيره.
(يتبع)
ناجي الطنطاوي
ضوء جديد على ناحية من الأدب العربي
اشتغال العرب بالأدب المقارَن أو ما يدعوه الفرنجة
في كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر لفيلسوف العرب
أبي الوليد بن رشد
(تتمة المنشور في العدد الماضي)
- تلخيص وتحليل -
للأستاذ خليل هنداوي
بحث فني في التخيلات والمعاني والألفاظ والأجزاء
وقد بحث في ما هية الأوزان، فجعل من المعاني والتخيلات ما تناسبه الأوزان الطويلة ومنها ما تناسبه القصيرة؛ وربما كان الوزن مناسباً للمعنى غير مناسب للتخيل، وربما كان الأمر بالعكس، وربما كان غير مناسب لكليهما. على أن أمثلة هذه مما يعسر وجدوه في أشعار العرب إذ تكون غير موجودة فيها، إذ أعارفهم قليلة القدر، وألفاظ الشعر يجب أن تؤلف من الأسماء المبتذلة ومن الأسماءٍ الأخر يعنى المنقولة الغريبة المغيرة واللغوية، لأنه متى تعرى الشعر كله من الألفاظ الحقيقية كان رمزاً ولغزاً.
ويجب أن يكون الشاعر حيث يريد الإيضاح وألا يخرج إلى حد الرمز كما لا يفرط في الأسماء المبتذلةٍ فيخرج عن طريقة الشعر إلى الكلام المتعارف. وأما موافقة الألفاظ بعضها لبعض في المقدار، ومعادلة المعاني بعضها لبعض، وموازنتها، فأمر يجب أن يكون عاماً ومشتركاً لجميع الألفاظ. وقد يستدل على أن القول الشعري هو المغير أنه إذا غير القول الحقيقي سمي شعراً وقولاً شعرياً ووجد له فعل الشعر، مثال ذلك قول القائل:
ولما قضينا من مِنًى كلَّ حاجة
…
ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
…
وسالت بأعناق المطيِّ الأباطح
وإنما صار هذا شعراً من قبيل أنه استعمل بيته الأخير بدل قوله (تحدثنا ومشينا)، وكذلك
قوله: (بعيدة مهوى القرط)، إنما صار شعراً لأنه استعمله بدل قوله:(طويلة العنق) وكذلك قول الآخر:
يا دار أين ظباؤك اللعس،
…
قد كان لي في إنسها أُنس
إنما صار شعراً لأنه أقام الدار مقام الناطق وأبدل لفظ النساء بالظباء، وأتى بموافقة الأنس والأُنس. وأنت إذا تأملت الأشعار المحركة وجدتها بهذه الحال، وما عدا هذه التغييرات فليس فيه من معنى الشاعرية إلا الوزن فقط، والتغييرات إنما تكون بجميع الأنواع التي تسمى عندنا مجازاً، والفاضل من هذه الأشياء أن يستعمل من كل واحد منها ما هو أبين وأظهر وأنبه، وهذا لا يوجد إلا في النادر من الشعراء لأنه دليل المهارة.
وقد أتى المترجم على نموذج من نماذج قصائد المديح، يريد أن يحلل الأجزاء التي تتركب منها القصيدة، فأرجع تأليفها - عند العرب - إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول الذي يجرى عندهم مجرى الصدر في الخطبة كذكر الديار والتغزل، والجزء المبنى على المديح، والجزء الذي يجرى مجرى الخاتمة في الخطبة. وهذا إما دعاء للممدوح أو تقريظ للشعر الذي قاله. والجزء الأول أشهر من هذا الآخر، ولذلك يسمون الانتقال إلى الثاني استطراداً، وربما أتوا بالجزء الثاني دون الجزء الأول كقول أبى تمام:(لهان علينا أن نقول ونفعلا)
أو قول أبى الطيب: (لكل امرئ من دهره ما تعوّدا) ويرى خير المدائح المدائح التي يوجد فيها التركيب أي ذكر الفضائل والأشياء المحزنة المخوفة والمرققة. . . وكأني بابن رشد لم يفصل هذه الأشياء لأن العرب لا يمزجون الأشياء المحزنة المخوفة والمرققة بمدائحهم. . . وإنما هي من صفات الشعر اليوناني (وبخاصة الأوميروسي). ثم أنتقل إلى ذاكرة الخرافة، والخرافة تكاد تغلب على الأشعار اليونانية. . . ولكن أرسطو يرى أن الخرافة ينبغي أن يكون مخرجها مخرج ما يقع تحت البصر، لأنه إذا كانت الخرافة مشكوكاً فيها لم تفعل الفعل المقصود بها، وذلك أن ما لا يصدقه المرء فهو لا يفزع منه ولا يشفق له، وفي هذا سر عميق من أسرار الإبداع، إذ ليس الشاعر من أغرب وأعجب، وليس الشعر بالشعر الأذهب في الغرابة والتخيل البعيد عن الصدق كما يذهب إليه بعض الشعراء. والشاعر الموهوب قد يتناول ما بين يديك، ويدخل في عالم نفسك، ثم يحدثك بما تعرفه وتحسب انك لا تعرفه. . . لأنه أدرك بتعمقه وتأمله أشياء منك لم تدركها بنظراتك
السطحية.
ثم عرض للأشياء التي يجب أن تمدح في الممدوح محللاً إياها تحليل الفيلسوف الذي لا يسمح بعبث في الفضيلة، ولا بتلاعب في الحقيقة. هو يريد من الشعراء أن يتبعوا هذه الحقيقة، وأن يبرزوا من الممدوح الصفات التي يتحلى بها. . . وإنما تمدح العادات الخيرة والفاضلة، والعادات اللائقة بالممدوح والصالحة له، وذلك أن العادات التي تليق بالمرأة ليست تليق بالرجل. وأن تكون مما يشابهه وأن تكون معتدلة متوسطة بين الأطراف، ثم لا يورد الشاعر في شعره من المحاكاة الخارجية عن القول إلا بقدر ما يتحمله المخاطبون من ذلك حتى لا ينسب إلى الغلو والخروج عن طريقة الشعر. وكما أن المصور الحاذق يصور الشيء بحسب ما هو عليه في الوجود حتى إنهم قد يصورون الغضاب والكسالى مع أنها صفات إنسانية، كذلك يجب أن يكون الشاعر في محاكاته يصور كل شيء بحسب ما هو عليه حتى يحاكى الأخلاق وأحوال النفس ومن هذا النوع من التخيل قول أبي الطيب يصف رسول الروم الواصل إلى سيف الدولة:
أتاك يكاد الرأس يحجز عنقَه
…
وتنقد تحت الذعر منه المفاصل
يقوم تقويم السماطَيْن مشيَه
…
إليك إذا ما عوَّجته الأفاكل
ينتهي أبن رشد من مقارناته، ويذكر أن شذوذ العرب في كثير من هذه القوانين الشعرية. ويقول مع أبي نصر الفارابي:(وأنت تعلم من هذا أن ما شعر به أهل لساننا من القوانين الشعرية هو نزر يسير) وفي الحق يتبين لنا هذا الشذوذ كثيراً عند دراستنا للشعر العربي دراسة نقدية كما يتصورها أبن رشد، وذلك عائد إلى جهل العرب لهذه القوانين، وإما إلى أن هذه القوانين لم تلائم طباعهم. وهذا القول أرجح عندي لأن الأمة لا يمكنها أن تخلق لشعرها قوانين قبل أن يكون لها شعر!!! وأن شعرها الذي نسوقه هو الذي يخلق قوانين نقدها! إلا إذا أرادت أن تحاكي أمثلة سواها، وأن تقبل التأثر بقوانين غيرها. . . وإننا لن نغلو في التشيع لهذه القوانين لأننا نراها قوانين إذا أفادت مرة فقد لا تفيد كثيراً. . . والعبقرية في الشعر تستلهم نفسها ولا تستلهم قوانين. ولكن ذها لا يصرفنا عن القول بأن هنالك قوانين إذا لم يحترمها الشاعر عاد عليه ذلك بالفساد. وإنما أبلغ سقراط حين شبه الشاعر بالمصور، فليس المصور ذلك الذي يمنح صور الأشياء، أو يخلق أشياء غريبة لا
تناسق فيها ولا فكرة. وليس الشاعر بالذي يعطّل نظام الطبيعة الشامل، ويعكس ألوان الأشياء بتخيله المضطرب!!! إنما المصور من يساعد الطبيعة على إبداعها وتزيينها، والشاعر هو من يكون أميناً على ما يتمثل له في الحياة. . .
وقد تكون قوانين سقراط في الشعر - صارمة قاسية لأنه يطلب من الشعر ما يطلبه من الفلسفة، اعتصام بالفضيلة، واستمساك بالحقيقة. .! وقد يخرج عن هذه الحدود لأنه لا يطيق القيود، وقد يرضى بأن يهذب نفسه ولكنه لا يرضى بأن يفادى بحريته. . . جناح الفن دائما خفاق يبتغى السمو والعلو، وويل للفن إذا استعان بجناحه على الانحدار بدلاً من الارتفاع، لأن روعة الفن في ارتفاعه لا في انحداره!
وقد كان يبتغى لمثل هذه القوانين الشعرية أن تثير ضجة في الشعر العربي لأنها مقاييس غريبة، منطقية في النقد، ولكنها مرت هادئة كمر السحاب، لا لأن الأدباء لم يفقهوها، وقد قرّبها ابن رشد من الإفهام بعد أن عرّبها وأعربها بالنماذج والأمثلة العربية، ولكن أهل البيان العربي، وجدوا أن الأدب العربي الطافح بما يخالف هذه القوانين، يستحيل عليه أن يحطم ماضيه وأن ينهج طريقاً جديداً يخطه بأيدي هذه القوانين الجديدة التي لا تلائم البيان العربي!!!
(دير الزور)
خليل هنداوي
الحياة الأدبية في تونس
للأستاذ محمد الحليوي
(يجب أن يصف أدباء كل قطر من الأقطار الحياة الأدبية في
قطرهم، ومبلغ قوتها وضعفها. . . . . . لنتعاون جميعا على
علاجها ومداواتها. . . .)
علي الطنطاوي
(الرسالة 136)
الكلام عن الحياة الأدبية في تونس يشمل الكلام عنها من ناحيتين مختلفتين. فان كان المراد بالحياة الأدبية كثرة المشتغلين بالأدب، والمهتمين بالحديث عن رجاله، والمقبلين على مجالسه ونواديه، والمطالعين لكتبه ومجلاته، ففي تونس حياة أدبية لا بأس بها. والظاهرة البارزة في الأوساط المثقفة هي حب الأدب، والتطلع إلى كل ما يمت إليه بصلة. فالشاب التونسي يصرف هواه وجل نشاطه ومجهوده في الاشتغال بالأدب ولواحقه؛ ومجالس الشيوخ والكبراء يغلب عليها الحديث عن الأدب والأدباء، والميل إلى المطارحات الأدبية، والمساجلات الشعرية؛ وكل فكرة جديدة، أو خبر أدبي، أو كتاب ناجح تجد له صداه في كل الأوساط المتعلمة.
ولكننا إذا أردنا بالحياة الأدبية الإنتاج الأدبي والمجهود الفردي لخدمة الأدب بواسطة التأليف والنشر، فتونس ليس لها حياة أدبية تليق بمكانتها التاريخية ومركزها الجغرافي في أفريقية الشمالية. وإنه ليعي الباحث أن يدل دلالة واضحة ملموسة على القسط الذي ساهمت به تونس في تكوين هاتة النهضة الأدبية المعاصرة في الشرق العربي، وأن يبين أن للأدب التونسي ناحية خاصة تميزه، ومعالم معروفة لا يمكن أن ينكرها مُنكر، أو يتجاهلها متجاهل.
وها نحن أولاء نستعرض بعض مظاهر الحياة الأدبية في تونس، ونقول فيها كلمة الحق، وإن كان من الحقائق ما هو مؤلم.
الشعر في تونس
هنالك في تونس شعراء كثيرون، ودواوين شعرية مطبوعة كديوان (خزنه دار)، وديوان سعيد أبو بكر، وديوان مصطفى آغه، ومجموعة للأدب التونسي المعاصر في أربعة أجزاء جمعها زين العابدين السنوسي صاحب مجلة (العالم الأدبي)، وترجم فيها لما يزيد على ثلاثين شاعراً، وأنتخب من شعرهم منتخبات مطولة. ولكن الشعر التونسي في مجموعه لم يبلغ من القوة والابتكار والاستقلال الفكري والمميزات الفردية، وظهور الشخصيات القوية، ما يجعله يقوى على تحمل المقارنة بالشعر العالي أو ينعت بالأدب الرفيع. ومن سوء حظ تونس أن الفرد الوحيد الذي استطاع أن يعلو بشعره إلى مكانة الشعر الراقي ويضاهي به أنبغ شعراء العرب والغرب قد مات في العام الماضي في ريعان الشباب؛ وبكته تونس في حفلة رائعة اشترك فيها كثير من أدباء الأقطار العربية.
والشعر التونسي المعاصر يسيطر عليه تقريباً الشعراء الشيوخ وهم الذين يخصون فنون الشعر القديمة بجل عنايتهم؛ وشعراء الشباب يغلب على شعرهم الميل إلى التجديد في المعاني والأغراض وحتى الأوزان والأساليب، ولكن الذي يعاب عليهم هو غلبة تفكير الجرائد ومواضيعها على أدبهم، وفقر شعرهم من المعاني القوية والصور الشعرية، واحتياجهم إلى الثقافة العامة القائمة على سعة الاطلاع والإحاطة بتاريخ الحركات الأدبية والفكرية في مختلف العصور؛ ويعاب عليهم أيضاً هذا النوع من الأدب الباكي الذليل، فلا يكاد أحدهم يشدو في نظم الشعر حتى تراه ينظم في البؤس وتوابعه، ويتشاءم من كل شيء في الحياة؛ فنحن نقبل هذا النوع من الكهول والشيوخ الذين دخلوا معركة الحياة وتمرسوا بآفاتها، ولكننا نرفضه من الشباب، لأن الشباب أمل وعزيمة وحب للكفاح والغلبة.
الحياة الكتابية
فنون الكتابة كثيرة، فأية كتابة عندنا وأي كتّاب؟ نقول في الجواب إنه يوجد عندنا الكاتب الاجتماعي والمؤرخ والصحفي. . . فقد نشر في تونس في هاته السنوات الأخيرة كتب بعضها في التاريخ ككتب الأستاذة حسن حسين عبد الوهاب، وعثمان الكعاك، وأحمد توفيق المدني؛ وبعضها في الأدب والاجتماع، ككتاب أبو القاسم الشابي عن الخيال الشعري، وكتاب الطاهر الحداد عن المرأة، وكتاب محمد المرزوقي عن مسائل من الفن والجمال.
وهناك خمس صحف أسبوعية، وجريدتان يوميتان، ومجلة أدبية لم يستطع صاحبها أن ينفخ فيها الحياة، فهي تحتضر منذ سنوات! وعدا ذلك فليس في تونس من يمثل تمثيلا مشرفاً أدب القصة والمسرح، وأدب الأطفال، والأدب القومي؛ وكذلك الناحية النقدية والعلمية في الأدب. وتاريخ تونس لما يكتبْ.
فصفة الكاتب عنيت بها ما يفهم من لفظها أجمالاً وإطلاقا، أما إذا عنينا بالكاتب رجلاً له نظريات خاصة، وأفكار فردية، يخصص حياته لنشرها والدفاع عنها حتى تنتصر، كلفه ذلك الدفاع ما كلفه، فهذا عزيز في الناحية الأدبية. فإذا قلنا مثلاً إن طه حسين كاتب، فليس معنى ذلك في مذهب العقل والتاريخ أنه يجيد رصف اُلجمل وتأليف الكتب، وإنما معناه أنه رجل يفرض فكرته على الناس فرضاً، ويكتب ما يراه حقاً وإن خالف ما رآه غيره، ولا يضيره أن يوجه قُراءه بغير ما ألفوا سماعه، ويصدمهم بآراء ليست هي آراءهم التي اقتنعوا بها؛ وبعبارة أشمل يرفعهم اليه، ويبعثهم على التفكير والتأمل واعدة النظر فيما ناموا عليه من المبادئ والحقائق؛ وما يزال بهم حتى يكوّن من أنصاره فكرته ومخالفيها مدرسة تنشر تعاليمها وتصادم تعاليم خصومها. فهذا هو الكاتب الذي يحي الأدب ويجدد الأدب، وبهذا وحده يكون الكاتب مثقف عقول، ومغذي عواطف، وقائد أفكار.
أما في تونس فالقارئ هو الذي يقود الكاتب. فعلى الصحفي أن يصلح ما يحب الرأي العام أن يصلح، ويجتنب ما يغضبه ويبهجه. وعلى الكاتب أن يكتب ما يريد قراؤه، وأن يتناول من المواضيع ما يسمحون له بتناوله؛ وحذارِ أن يكون له رأي خاص يخالف رأيهم - وإذا كتب في نقد الأدب القديم فالواجب أن تكون كتابته تقديساً لأصحاب ذلك الأدب، وكلمة الإلحاد وما اشتق منها ما تزال رائجة الاستعمال تُلصق بكل من يظهر نوعاً من الاستقلال الفكري في الأدب؛ وجمهور القراء لم يحسن إلى الآن التفريق بين ما هو أدبي وما هو دينى، فكلّ أديب يقول بالتجديد الأدبي فهو متهم في عقيدته. فكانت نتيجة هذه الحالة فقر أدبنا من الكتاب ومن كثير من فنون الكتابة.
معاهد الثقافة والمؤسسات
وأول مسؤول عن ركود الأدب في تونس هي معاهده الثقافية ومؤسساته الأدبية، فانتشار الأدب لا يكون إلا بكثرة القراء، وعلى قدر نصيبهم من المعرفة والفهم يكون إقبالهم على
تتبع الحركة الأدبية وتقويتها بشراء كتبها ومجلاتها. ونحن نريد أن ينتشر الأدب وتقرأ كتبه ونشراته، لأننا في حاجة إلى تقويم العقلية التونسية وتثقيف ذهن سائر الطبقات، وتصحيح المقاييس التي نقيس بها كل شأن من شؤون الحياة؛ وليس شيء كالأدب يحي ميت الهمم ويبعث خامل العزائم ويشذب شاذ الغرائز؛ وكل مدينة قامت في التاريخ كانت منبعثة من نهضة أدبية أو مصاحبة لها.
فما هو نصيب معاهدنا في هذا العمل وماذا نرجو منها؟ أما المدارس الابتدائية فلا رجاء في أبنائها لأن المعلومات العربية التي يخرجون بها من هاته المدارس لا تؤهلهم لقراءة الكتب الجدية ومطالعة الصحف الراقية، وهم حين يغادرون المدرسة يرجعون إلى أشغال آبائهم في القرى والبوادي، وليس لهم من الثقافة إلا ذلك النزر القليل الذي يمكنهم بعض التمكن من قراءة رسالة أو كتاب عامي سخيف من تلك الكتب المملوءة بالخرافات ولأوهام.
أما المعاهد الثانوية والعالية فهناك جامع الزيتونة الأعظم والمدرسة الصادقية والمدرسة العليا للآداب واللغة العربية. فأما جامع الزيتونة فهو حصن العربية الأشم، وهو بمثابة الأزهر بمصر، وخريجوه هم صفوة العلماء والحكام والقضاة والعدول، وهم من الطبقة الوحيدة ذات الثقافة العربية المحصنة؛ وأما المدرسة الصادقية ومدرسة اللغة والآداب العربية، فأن الدراسة تقع في هما باللسانين، وربما غلبت فيهما الثقافة الفرنسية على العربية خصوصاً من ناحية الترجمة والعلوم الرياضية، ومن هاتين المدرستين تخرج جلُّ كبار موظفي الإدارة الفرنسية ومترجميها، وعن طريقهما سافرت البعثات العلمية التي تتكون اليوم منها نخبة طيبة من الأطباء والمحامين والمهندسين، ولكن أطباءنا ومحامينا قلما يكتبون أو يؤلفون بالعربية. وكم كنا نود لو إن دكاترتنا كانوا كدكاترة مصر الذين قامت على سواعد أكثرهم نهضة مصر الأدبية والعلمية.
أما المؤسسات الأدبية فهناك الجمعية الخلدونية، وهي اقدم المؤسسات التونسية، ثم جمعية قدماء تلامذة المدرسة الصادقية، وأخيراً جمعية الكتاب والمؤلفين - فأما الخلدونية وقدماء الصادقية فأغلب نشاطهما منصرفٌ إلى تنظيم المسامرات الأدبية والعلمية، وإقامة الحفلات لأحياء ذكرى نوابغ الأمة العربية في القديم والحديث؛ وأما جمعية المؤلفين والكتاب التونسيين فأنها افتتحت أعمالها بإقامة حفلة ذكرى الشاعر العبقري المرحوم أبى القاسم
الشابي. ثم لم تفعل بعدها شيئاً إلى الآن خصوصاً وقد علقت عليها آمال ضخام في انتشال البلاد من هذا الركود الأدبي بتوحيد جهود أدبائه وتسهيل نشر كتبهم بواسطة القروض التي تسبقها والدعاية التي تقوم بها للمؤلفات.
أسباب ركود الأدب
إذن فأسباب ركود الأدب كثيرة، ولكن يمكن تلخيصها في سببين:
الأول: قلة القراء في الأواسط الشعبية نظراً للأُمية الغالبة على السواد. ثم جهل كثير من الشباب لغته القومية أو نزارة معارفه التي لا تسمح له بالاستفادة من الأدب والصحف الجدية.
الثاني: عدم وجود من يأخذ بيد الأديب إذا هو أراد أن ينتج وينشر، فطبقة القراء القليلة تزهد في كل عمل تونسي، ولا تُقبل على تأليف تونسي، كما تقبل على التأليف المصرية والشامية، والصحف اليومية لا تقوم بأي مجهود لاستكتاب الأدباء، وحمل القراء على المطلعة الأدبية، وإذا نشرت شيئاً من الأدب فالأغلب أن يكون من الأدب السهل الرخيص.
والخلاصة أن الأدب في تونس لا يعدو كونه هواية من الهوايات، ولا يوجد الأديب المحترف، وإن وُجد الصحافي. والمؤلف يقاسي الأمرين من فقدان الناشر والقارئ. وليس هناك من المشجعات للأديب ما يجعله دائب الإنتاج والعمل.
فلا مكافآت، ولا جوائز، ولا مجاملات لنشر آرائه، ولا حرية لمن أراد أن يفكر باستقلال؛ والأصوات التي ارتفعت في تونس وترقّب منها كلُ مخلص أن تكون في يوم من الأيام داويهً في العلم العربي خفتت وصمتت لتكاتف هاته العوامل عليها.
رجاء
على أنه لا يسعني أن أختم هاته الكلمة دون أن أنوه بما يبديه؟ الشباب التونسي في هاته المدة الأخيرة من النشاط والحيوية. فهنالك جمعيات للشبيبة لا زالت توالى الجهود في إقامة الحفلات المختلفة وإلقاء المسامرات في مختلف المواضيع، ونشر النشرات التي يرى القارئ من خلال سطورها هاته القلوب الفتية التي تتقد إيماناً بمستقبل الأمة التونسية، وحباً لأدبها ولغتها القومية. وإنه وإن كان نشاط هاته الجمعيات مقصوراً على العواصم وفي
أواسط مخصوصة، فأنا لنرجو أن توفق إلى تعميم هاته الحياة في كامل البلاد بكل وسائل النشر والدعوة؛ فان الأمة التونسية لفي أشد الحاجة إلى حيوية شبابها وعزيمته الصادقة وإيمانه القوي باسترداد مجد تونس الزاهر وعصرها الذهبي.
(راداس - تونس)
محمد الحليوي
من الأدب الإنكليزي
3 -
برسي شلي -
بقلم خليل جمعة الطوال
تعريفه للشعر والشاعر
لِشلي نظرية في الشعر طويلة لا يتسع مقالنا هذا لاستيعابها بكاملها، نقتطف منها إحاطة بالموضوع من جميع نواحيه ما يأتي: ليس الشعر بالحدث الطارئ الجديد على عواطفنا ولا من صفاتنا المكتسبة بطوال التمرسن والمران، بل هو فينا غريزة فطرية كغريزة الجوع والنوم والكلام والألم، وليس ما نبديه من الحركات المبهمة والإشارات الغامضة، أو ما نفوه به من الكلام وتجيش به صدورنا من العواطف المضطرمة إلا أنواعاً من الشعر في أدنى مواضعه وأضيق حدوده. ولولا ما فينا من عواطف الشعر الهائجة الكامنة والثائرة ألوا دعة، لما كنا نكتئب ونفرح لأوهى الصدمات وأدنى المؤثرات.
وليس الشعر بعلم من العلوم التطبيقية كالهندسة والكيمياء وكالفلك والكهرباء وإلى ما هنالك من العلوم التي تعتمد على التجربة ولا تثبت إلا بالبرهان، بل هو فن من الفنون الجميلة - وهي الرسم والموسيقى والرقص والغناء والشعر والبناء - التي تعنى بظواهر الأشياء وأشكالها دون باطنها، وبجمالها وأعراضها دون جوهرها: وما الإنسان إلا كآلة موسيقية تتعاقب عليها شتى الانفعالات الداخلية والمؤثرات الخارجية: فتتجاوب أوتارها لكل منها بنغمة خاصة تختلف عن سالفتها في الدرجة لا في النوع.
لقد كان الإنسان في بدء أطواره يُقلد مختلف الظواهر الطبيعية بحركاته وساكناته، فكان كل من هزيم الرعد، وهزيز الريح، وزمزمة النار، وخرير المياه، وحفيف الأشجار، وقد غردت فوقها الأطيار الجميلة الألوان والشجية الألحان، يحدث في نفسه انفعالات داخلية عديدة، وشحنات كهربائية عنيفة، لا يرى لها مخرجاً إلا في فنّ من الفنون الجميلة، ولكن الناس ليسوا سواءَ في الاستجابة لهذه المؤثرات، فهم وإن تشابهوا في نوع احساساتهم إلا أن فيهم البليد الشعور، وفيهم السريع الانفعال، وهذا الأخير هو ما نسميه اصطلاحاً بالشاعر.
والشعرُ يتكئ على الخيال كما يتكئ على الحقيقة، ويعتمد على اللغة بمقدار ما يعتمد على الموسيقى والغناء. وليست هذه الأشياء في مجموعها إلا من مكونات الشاعر الأولية، وبمقدار حظه منها يكون حظه من الشاعرية.
على أن أسمى مظاهر الشعر وأبينها هي تلك العواطف والانفعالات المنضوحة في وعاء من الكلام الموزون المقفى؛ ذلك لأن جمال اللغة وموسيقى الألفاظ، أقرب إلى الخيال وأعمل في إذكاء النفس وإرهاف الحس من التصوير والبناء، ونغمة الآلة والرقص والغناء. ولكن هذه المفاضلة تحصر الشعر في دائرة ضيقة، لا تتسع لاستيعاب ذلك الخيال المشبوب وتلك العاطفة الوثابة اللذين لا يجدان لهما من منفذ آخر عدا الشعر المقفى إلا بالتلحين وبالحركات. ومن هنا كان تفرع الرقص والغناء عن الشعر الذي هو الأساس.
الشعر هو تلك المرآة التي تنعكس عنها شتى الانفعالات النفسية التي يجيش بها الصدر وينماث لها القلب؛ وبمقدار ما يكون لهذه المرأة من دقة الصنعة والإتقان يكون للشاعر من جودة الفن وغايته في الإبداع والإحسان.
ولعل ضرورة الوزن والقافية للشعر إنما جاءت من ضرورة الرقص والموسيقى للغناء. فأنت لا تكاد تنبس ولو ببيت من الشعر إلا وتختار لا لقائه أجود التوقيع، وتقرنه بأشرات قد تكون في الغالب مبهمة، إلا أنها مع كل ذلك تدل على عاطفة كانت مكبوتة فظهرت، وكانت هادئة فاضطربت.
الشعر هو صورة الحياة في حقيقتها الأزلية والشاعر هو تلك الريشة التي تظهر بواسطتها هذه الصورة والشاعرية هي القدرة على إبرازها في أجمل ألوانها وأزهارها وأشكالها.
الشعر هو الألمُ والسرورُ، هو الكآبة والحبور، والشاعر هو ذلك الذي تضطرب نفسُه بين موجات الحزن ونغمات الفرح. بل هو ذلك الشعاع الذي يصقلَ النفسَ ويرهف الحس ويهذبُ الشعور.
الشعرُ يهذب الأفرادَ والدرامة تُصلح سوأت المجتمع، ولهذا أحسن تاسو الإيطالي إذ قال: ليس من مبدع إلاّ الله والشاعر، وليس من مدنية إلا بالدرامة.
ثورة شلي الفكرية
لقد تمرد شلي على الهيئة الاجتماعية وخرج على جميع نظمها وتقاليدها الدينية والمدنية،
فانثال على الدولة والكنيسة بحملة متطرفة شعواء، نقضت ما كان لهما في نفوس الناس من الجلال والاحترام، وكان يعلق كبير الأمل في التخلص منهما، وفي تحقيق مثله الأسمى على تلك الأفكار الثورية التي تلقحت بها عقول الناس من كتابات فولتير وروسو ومنتسكيو، والتي كظمت مدة ثم انفجرت بالثورة الفرنسية، ولكن للشد ما أسف إذ رأي ما منيت به أفكار الثوار من الإخفاق.
ولما اندلعت نيران الثورة في أسبانيا ونابولي وأثينا ثانية بدت له - في عالم الخيال - بارقة أمل جديدة في تحقيق مثله الأسمى، فاخذ يتغنى بهمة الثوار ويستفز حميتهم بشتى القصائد الرائعة كقصيدة (نابلي) وقصيدة (هيلاس) ولكن الثورة اشتدت ووضعت أوزارها، دون أن تحقق له غرضاً من أغراضه التي مات وهو مُصر عليها برغم ما لقيه من قوة السلطة وصدمة الحوادث.
فكرة شلي عن الله
يرى شلي أن فكرة الإنسان عن وجود الله تشوه جماله كما يشوه الزجاج الملون منظر الأجسام التي من ورائه. وأنها فكرة خاطئة تتناقض ومبادئ العدل والإنسانية العليا. ويقول إن الله لم يخلقنا لكي يبعث بنا في الآخرة أو يجزي شرورنا بمثلها لأنه رحيم لا حد لرحمته، ولأن الانتقام من صفات الإنسان وليس من صفاته فهو والحالة هذه يشبه عمر الخيام إذ يقول:
إذا كنت تجزى الذنب مني بمثله
…
فما الفرق ما بيني وبينك يا ربي
ويستأنف في قوله إلى أن ليس لله كيان مستقل بذاته بل هو متمثل في جميع مظاهر الكون وكائناته من إنسان وحيوان. فليس ما نشعر به في عواطفنا من عوامل الخير والفضيلة والإحسان والشفقة أو ما نشاهده في الدودة التي تعيش في باطن الأرض من المحبة والاطمئنان إلا من مظاهر ذلك الإله العادل.
لقد تصور شلي في الإنسان أسمى ما يمكننا تصوره، وراح يعرض هذه الصورة الجديدة على معاصريه المتزمتين بلسان عي؟ وخلق سرى، بل بيد جذاء وكنانة جوفاء إلا من ذخيرة الأيمان بدعوته. ولذا فلا عجب إذا وقرت دونه آذانهم، بعد أن أذاقوه من لاذع النقد ومر التقريع شأن ما يلقاه أصاحب البدع في كل جمهور متزمت.
وفي عام 1811 نشر رسالة مطولة: عنوانها (حاجتنا إلى الإلحاد) دعا فيها جميع الأستاذة إلى الإلحاد أو إلى تفنيد آرائه ودحضها بالمناقشة، ولكنهم ألقوا بدعوته دبر آذانهم ثم طردوه من الجامعة هو و (السير توماس جفرسن) المتشرع المشهور لأنه استجاب لدعوته واعتنق جميع مبادئه.
وفي عام 1858 ألف (توماس جفرسن) كتاباً عظيماً عن صديقه شيلي أكسبه شهرة واسعة في الأوساط الأدبية، وقد نشره تحت عنوان وهو يتضمن حياة شلي وتعاليمه مذيلة بشروح عظيمة لا نعثر عليها في غيره.
آراء الأدباء في شيلي
يقول روبرت براوننج: لقد هاجم شيلي مبادئ المجتمع العظيمة دون أن يتحقق صحيحها من فاسدها، وغثها من سمينها، ونسب إلى الكنيسة والحكومة الشيء الكثير، مما يزري بشأنهما ويحط من مقامهما في أعين الناس. ولقد كان في حملته التي شنها على العرف والعادات، وعلى الشرائع والديانات، يُقاد بتهور العاطفة لا بتمحيص العقل، وبنشوة الشباب لا برصانة الفكرة؛ وكان يلقى بأحكامه جزافاً قبل أن يعمل فيها مشرط العقل وقبل أن يعرضها على محك الاختبار.
ويقول سوينبرن: إن إعجابي بشيلي عظيم لا ينتهي، وما ذاك إلا لفرط محبته الواسعة لجميع المخلوقات، تلك المحبة التي تقرن اسمه بالمسيح ما دام في الكون فقراء ومساكين. لقد درس آراء أفلاطون - ولا سيما في ثناياها بأسمى ما عرفه من المثل العليا، تلك المُثل التي صرف في تحقيقها ريق العمر وزهرة الشباب فما أفلح.
ويقول أرنولد: ثلاثة ينبغي تقديسهم: بوذا لتضحيته، والمسيح لمحبته، وشلي لإنسانيته.
ويقول بيكوك: مهما يكن من الحاد شيلي فآني أرى فيه مثال الدين الصحيح لإقباله على عمل البر وحدبه على الفقراء. فقد شهدته مرة وقد ابتاع من أحد المتاجر مجهراً، فما لبث أن أودعته لساعته عند تاجر آخر وأخذ مقابله قليلاً من المال، ورأيته يركض بعد ذلك بخطوات فسيحة لينقذ بائساً رآه في وهده الشقاء. وكانت تلك الكمية صبابة ما بقى لديه من المال.
حياته وزواجه:
دخل شيلي مدرسة أثن عام 1804، وكان لا يزال في الثانية عشرة من العمر، ثم تركها والتحق بجامعة اكسفورد حيث طُرد منها عام 1811 بسبب رسالته الإلحادية. وفي شهر يونيه من السنة نفسها تزوج (هاريت وستبروك) وارتحل إلى بلدة (كزوِك) هرباً من تعنت والده، وهناك التقى (بسوثي) أحد شعراء إقليم البحيرات البارزين. ثم أخذ يتعاطى مهنة الصحافة مع (وليم فودوين) السياسي الشهير فتشرب منه روح السياسة. وفي عام 1812 سافر إلى أيرلندا ودبلن حيث أخذ يؤلب الناس على الكنيسة الرومانية، فاستجاب له خلق كثير وأعرض عنه الباقون.
وفي سنة 1813 ولدت له هاريت صبية دعاها (لانث).
ثم ارتحل إلى أدنبرة ألقى هناك عصا التسيار مدة من الزمن، كان يستجم فيها ويعد العدة لحملة جديدة يحمل بها على الدين والمجتمع معاً. وفي مسهل عام 1814 برزت هذه الحملة الجديدة في رسالته التي نشرها تحت عنوان (تفنيد وحدانية الله وفي العاشر من شهر ديسمبر اضطرب حبل مودته مع زوجه هاريت، فطلقها وتزوج من عشيقته ماري ولستونكرافت ابنة الصحافي الكبير فودوين، وبعدها سافر إلى سويسرا ثم إلى فرنسا، وفي أثناء غيابه ولدت منه زوجه الأولى هاريت صبياً دعته شارل بيش، وما أن رجع من رحلته هذه إلا وقد توفي جده بيش شيلي فورث عنه أموالاً طائلة.
وفي عام 1816 ولدت له زوجه مارى ولداً سماه وليم شلي إلا انه لم يُعمر طويلاً بل توفي بعد عامين من ولادته، وفي شهر أبريل التقى بكيتس لأول مرة، وكانت قد اشتدت روابط الصداقة بينه وبين اللورد بيرون.
وفي العاشر من شهر ديسمبر ألقت (هاريت بنفسها في اليم وما أخرجت من الماء إلا وهي جثة هامدة. وهكذا أصبحت مارى ولستونكرافت زوجته الشرعية).
وفي عام 1817 سافر إلى إيطاليا وأقام هناك، وكانت محكمة شانسري قد حرمته من حضانة ولديه من زوجته الأولى (هاريت). وفي ايطاليا تفرغ شلي لقرض الشعر ولدراسة الآداب دراسة جدية.
وفي الثامن من شهر يوليو لعام 1822 بينما كان يسبح في خليج بيزا لقيه اليم بموجة عظيمة كان فيها حتفه إذ ألقته على الشاطئ جثة هامدة. ثم أحرقت جثته فوق رمال ذلك
الشاطئ على مشهد من صديقه اللورد بيرون ووضع رماده في قبر أُعدَّ له في روما. وكان قد أوصى في حياته بالا ينقش على ضريحه إلا تاريخ ولادته ويوم وفاته والكلمة الآتية: ومعناها غير مغرور.
وفي بعض المصادر نجد أنه أوصى بنقش هاتين الكلمتين لا الأولى وهما قلب القلوب ولعل الأولى أقرب إلى الصواب.
وهكذا طوت الأيام تلك الصفحة المجيدة المملوءة بجليل المآثر والحافلة بعظيم الأعمال.
(شرق الأردن)
خليل جمعة الطوال
فاز سعد!
للأستاذ عباس محمد العقاد
عرف النفيَ حياة ومماتا
…
وأصاب النصر روحا ورفاتا
كلما أقصوه عن دار له
…
رده الشعب إليها واستماتا
كيف يجزيه افتياتا وهو مَن
…
كان لا يرضى على الشعب افتياتا
أصبحت دارك مثواك فلا
…
تخش بعد اليوم يا سعد شتاتا
حبّذا الخلد ثماراً للذي
…
غرس المجد ونَمَّاه نباتا
كل أرض للمصلى مسجد
…
غير أن الكعبة الكبرى مقام
هكذا قبرك مرفوع الذرى
…
في جوار البيت أو سفح الأمام
أرض مصر حيث أمسيت بها
…
فبنو مصر حجيج وزحام
غير أن الذكر يبغي منسكا
…
مثلما يبغيه حج واستلام
فالق في قبرك خلداً كلما
…
مرّ عام تبعته ألف عام
اعبر القاهرة اليوم كما
…
كنت تلقاها جموعا ونظاما
ساعة في أرضها عابرة
…
بين آباد طوال تترامى
ساعة من عالم الفردوس لا
…
تشبه الساعات بدءاً وختاما
كل من شاهدها زِيدَ بها
…
من معانيك جلالاً ودواما
قل لهم أبلغ ما قلت لهم
…
أيها الواعظ صمتاً وكلاما
جرّدوا الأسياف من أغمادها
…
ذاك يوم النصر لا يوم الحداد
ارفعوا الرايات في آفاقها
…
أين يوم الموت من يوم المعاد؟
لا يلاقي الخلد بالخزن ولا
…
يكتسي الفتح بجلباب السواد
ذاك يوم ما تمناه العدى
…
بل تمناه ولاء ووداد
فانفضوا الحزن بعيداً واهتفوا:
…
فاز سعد وهو في القبر رماد
الفراعين الأولى أجليتهم
…
لتمنوا لو أجازوك الطريق
أنت أضفيت على أوطانهم
…
سعة، وهي من الأسر مضيق
أنت أيقظت لهم تاريخهم
…
وهو في نومته لا يستفيق
فضلك اللاحق أحيا فضلهم
…
فاستوى منه طريف وعريق
آية في الحق لا ينسخها
…
في مدى الدهر عدو أو صديق
يا بني مصر اجعلوا نقلته
…
رمز أحياء وعزم ومضاء
وانظروه كيف حالت دونه
…
غِيَرُ شتى، وما حال القضاء
المعيقون تنحوا جانبا
…
آخر الأمر، وسعد في البناء
كل ذي حق سيعطى حقه،
…
ليس للمجد من الخلد نجاء
كل ما عارض سعيا باقيا
…
عَرَض فان وزور ورياء
ترمز الشمس إلى نقلته
…
بسفور غالب بعد حجاب
صرعت ليلين صبحاً فروت
…
عن حضور ناصع بعد غياب
هو أيضا قد طوى ليل الردى
…
وطوى ليل الغواشي والكذاب
في السموات وفي الأرض له
…
أثر ينبئ عن يوم المآب
أثر الفجر إذا إنجاب لنا
…
عن ضحاه،، بعد لأي وغِلاب
دان يا سعد لك الذكر بما
…
شيد الباني وما خط الزبور
قدر نادى فلبته على
…
موعد الذكرى صخور وسطور
أَنا بان لك في ملك النهي
…
منزلاً يبقى ولا تبقى الصخور
من أسانيدك أساس له
…
ومن الحق له حسن ونور
إن أنل شأوك فيه إِنني
…
بالذي شيَّدت منه لفخور
فتية الوادي بسعد فاقتدوا
…
إِن تخيرتم له خير وفاء
أذكروه بالذي يعمله
…
منكم العامل في غير وناء
واذكروه بالذي امتاز به
…
من مزاياه الأبيَّات الوضاء
هكذا يخلد سعد بينكم
…
بتماثيل حياة ورواء
كل ما يعظم من أعمالكم
…
هو تخليد لذكرى العظماء
كل بيت فيه سعد ماثل
للأستاذ علي الجارم
اكشفوا الترب عن الكنز الدفين
…
وارفعوا الستر عن الصبح المبين
وابعثوه عسجداً مؤتلقاً
…
زاد في لألائه طوال السنين
واجتلوه درة ساطعة
…
صدفُ الدهر بِشَرْواها ضنين
وانتضوا من غمده سيف وغى
…
كان إن صال يقد الدارعين
وقناة جل من ثقفها
…
للحفاظ المر والعزم المكين
لوت الدهر على باطلة
…
وهي كالحق صفاة لا تلين
هزمت جيش الأباطيل فما
…
غادرت غير جريح أو طعين
كتب الله على عاملها
…
إِنما الخلد جزاء العاملين
جدث ضم سناء وسني
…
ومُصاص الطهر في دنيا ودين
طاعة الأملاك فيه امتزجت
…
في السموات بعز المالكين
فتشوا في الترب عن عزمته
…
وعن الأقدام والرأي الرصين
واخفضوا أبصاركم في هيبة
…
إن رأت أبصاركم نور اليقين
واخشعوا بالصمت في محرابه
…
أفصح الألسن صمت الخاشعين
وانتحوا من قبره ناحية
…
واحذروا أن تزحموا الروح الأمين
وحناناً بضريح طالما
…
صقلته قبلات الطائفين
وجثت مصر به خاشعة
…
تذرف الدمع على خير البنين
صيحة قدسية إن سكتت
…
فلها في مصر رجع ورنين
وعرين حل فيه ضيغم
…
رحمة الله على ليث العرين
ومضاء عرفت مصر به
…
إن للحق يميناً لا تمين
لا أرى قبراً ولكني أرى
…
صفحة من صفحات الخالدين
أو أراه قصب المجد الذي
…
دونه ينفق جهد السابقين
أو أراه علماً في فدفد
…
لمعت أضواؤه للحائرين
أو أراه روضة إن نفحت
…
خجل الورد وأغضى الياسمين
أو أراه دوحة وارفة
…
نشرت أفياءها للاجئين
أو أراه قلب مصر نابضاً
…
بمنى تمحو من القلب الأنين
نقلوا التابوت تحتفُّ به
…
رحمات من شمال ويمين
ذاك بعث حييت مصر به
…
من جديد تلك عقبى الصابرين
هل علمتم أن من واريتم
…
في حنايا كل مصر دفين
ما لسعد حفرة واحدة
…
هو ملء القلب ملء لأرَضين
كل بيت فيه سعد ماثل
…
في إطار من حنان وحنين
بسمة الآمال في بسمته
…
وانبلاج الحق في ضوء الجبين
هو للأبناء عم وأب
…
وهو للآباء خل وخدين
كان سعد علماً منفرداً
…
هل يرى للشمس في الأفق تنين
إن أم المجد مقلاة فكم
…
سوفت بين جنين وجنين
تبخل الدنيا بآساد الشرى
…
أيها الدنيا إلى كم تبخلين
أنت قد أَنجبت سعداً بطلاً
…
وقليل مثله من تلدين
قاد للمجد مناجيد الحمى
…
كلهم أروع منبتُّ القرين
تقرأ الأقدام في صفحته
…
مثلما تقرأ خط الكاتبين
كلما مرت به عاصفة
…
زعزع مرت على طود ركين
تقرع الأقدار منه عزمة
…
أنفت صخرتها أن تستكين
حُشُدٌ حول الرئيس (المصطفى)
…
نبعة الإخلاص والخلق المتين
وجدت مصر به وأحدها
…
رب فرد بألوف ومئين
ومن الناس نضار خالص
…
ومن الناس غثاء وغرين
ومن الناس أسود خدر
…
ومن الناس ذباب ذو طنين
وضعت مصر به آمالها
…
فاستقرت منه في حصن حصين
مسح الدمعة من أجفانها
…
ومحا من لوعة القلب الحزين
أيها الربان أَبحر آمناً
…
وثق الركب بربان السفين
كل ما حولك رهو هادئ
…
والبقيات على الله المعين
لاحت الفرصة في إِبانها
…
إنها لا ترتجي في كل حين
فتقدم بطلاً جم المنى
…
أنت بالنصر حريٌّ وقمين
صدق الله تعالى وعده
…
إنما الفوز ثواب المخلصين
علي الجارم
القصَص
قصة مصرية
الأعمى. . .
بقلم محمود البدوي
تمر ترعة الكامل بقرية (س) وهي قرية صغيرة من قرى الصعيد، فتشطرها شطرين غير متساويين، فقد جارت على الجانب الأيسر بقدر ما أضفت على الأيمن، فاتسع هذا واستفاض حتى أصبحت منازله وبساتينه ونخيله وأعنابه لا يحدها البصر ولا تحصرها العين، واستدق ذاك واستطال حتى قامت منازله الصغيرة على شط الترعة ذليلة منكسرة واجمة، تشكو إلى الله ظلم الطبيعة بعد أن شكت جور الإنسان الذي خلفها سوداء قذرة تمرح فيها الحشرات من كل لون وجنس.
وإذا استقبلت القرية وأنت قادم على جسرها الطويل، بصرت أول ما تبصر بمنزل صغير من هذه المنازل بنى بالطوب الأسود، وخط جواره بستان، ليس فيه سوى نخلتين! مالت إحداهما على الترعة، حتى غرقت فروعها في الماء، وسمقت الأخرى في الجو، حتى ناطحت بسعفها السماء، ولا تدر النخلتان ثمراً الآن، ولا يرجى منهما شيء في المستقبل، فقد جف عودهما وذهب شبابهما. وتقيم في هذا المنزل منذ أكثر من تسعة أعوام أرملة في الخمسين، وهي امرأة دمثة الطبع - على خلاف العجائز من مثيلاتها - ناحلة الجسم معروقة العظم واهية البناء، تستريح في بيتها معظم العام، حتى يهل رمضان، فإذا هل، خرجت في الهزيع الأول من كل ليلة حاملة على ذراعها صفيحة قديمة تطوف بها على منازل القرويين، وهي تنقر نقراً خفيفاً، وتغنى بأغنية قديمة، قل من يدرك معناها ومبناها من سكان القرية! على أنهم كانوا يهبون من مضاجعهم عندما يصافح سمعهم إيقاعها وغناؤها ويبسطون موائد السحور، وان كان الليل لم ينتصف بعد!! وهذا العمل الضئيل لا يجلب لها في الغالب رزق شهرين أو ثلاثة، فكيف تقتات باقي العام؟ وكيف تعيش؟ هذا هو السؤال! على أن الذين انحدروا من الريف، يعرفون تمام المعرفة أن هناك الملايين من أمثالها يضعون دائماً أيديهم على بطونهم ليحفظوا بذلك التوازن الاجتماعي لتخمة الأغنياء.
مثل هذه الأيم السواد الأعظم من الفلاحين الذين لا يعرفون وخير لهم أن لا يعرفوا، أنهم أتعس المخلوقات البشرية في الدنيا جمعاء. إنهم مخلوقات ذليلة تاعسة، لصقوا بالأرض حتى أكلتهم الأرض، وأفنوا عصارة حياتهم فيها حتى استنفذت قوتهم واستفرغت جهدهم. ولو رأيتهم وهم عائدون من الحقول مع مغرب الشمس، والصفرة الباهتة تعلو وجوههم، والغبار القذر يملأ أعينهم ويسد أنوفهم، لعلمت أنهم أتعس الناس في الناس، وأشق الطبقات العاملة على الإطلاق. إنهم مخلوقات مريضة فقدت بهجة الحياة ونعيمها واستسلمت صاغرة للمرض والفناء.
ويسكن مع هذا الأيم أعمى في الثلاثين من عمره، وهو شاب أسمر فارع ضليع الجسم مفتول العضل وثيق التركيب، وهو المؤذن لمسجد القرية منذ أن شب عن الطوق وانخرط في عداد الرجال. على أن الذي جمع بين هذه الأيم العجوز وهذا الأعمى الشاب، لم يكن قرابة ولا نسبا، وأن كان القرويون يسمون العجوز (أم سيد) وسيد هو الأعمى؛ وكانت المرأة تمتعض وتهتاج لهذه التسمية في أول الأمر، وهي التي لا (سيد) لها، ثم ما لبثت أن استراحت لها على مرور الزمن فقر هائجها وسكن، حتى تعمدت ألا تدفع هذا القول بما يكذبه، وهي المتيقنة بأن الجدل في أمثال هذه الأمور غير مجد في الواقع.
فمن الذي يقف في وجه التيار الجارف؟ ومن الذي يمكنه ن يمنع ألسنة الناس الطويلة جداً إلى حلوقها؟ لا أحد على التحقيق.
على أن المنزل لم يكن للعجوز والشاب في الحقيقة، وإنما هو لرجل ملاح يعمل في النيل ويقضي فيه العام كله. ولا يهبط القرية إلا زمن التحاريق، فإذا جاء، بات في سفينته، فقد ألف الرجل النيل، ونسى منزله على توالي السنين.
وكان المسجد الذي يؤذن فيه الأعمى في طرف القرية الشمالي، ولكي يبلغه لا بد له أن يجتاز الترعة وعليها جسر ضيق، يجوزه المبصر وهو راجف حذر، فكيف بالأعمى، ثم يدور بعد ذلك في دروب وينعطف في منعطفات، ويجتز بساتين من النخيل يكثر فيها الحسك والشوك، وعلى الرغم من هذا كله، فان الرجل كان يبلغ المسجد وكأنه المبصر الحديد البصر، فلا يضل ولا يتباطأ في سيره؛ ولا يعتمد على الحائط، ولا يستند إلى الجدار، وشد ما تعجب لذلك وتدهش! على أنك متى ما سمعت القرويين وهم يقولون إن
الرجل يبصر بقلبه ذهب عنك العجب كله.
وإذا طلع الفجر على القرية، وهي غارقة في سبات عميق، وكل شيء فيها ساكن هاجع، فلا نأمة ولا حركة، اللهم إلا سامقات النخيل وهي تترنح مع النسيم الواني، وسيقان الزرع وهي تتمايل مع الريح الرخاء، طلع الأعمى إلى سطح المسجد، وانطلق يؤذن في صوت حلو النبرات عذب الرنين، ينفذ إلى كل قلب، ويهفو إلى كل أذن، ومن الذي يسمعه وهو يقول:(حي على الصلاة!) فيتأخر بعد ذلك عن الصلاة؟ لقد كان صوته ليناً شجياً يرن في سكون الليل جميل اللحن عذب الرنين، فيهب له القرويون من مضاجعهم، ويخفون إلى المسجد خاشعين صامتين.
وكان الرجل محبوباً من أهل القرية جميعاً إلا النساء والأطفال. أما النساء فيكرهنه لأنه يزجرهن عن بئر المسجد، ويمنعهن من ملء الجرار منها بقسوة وغلظة، حتى ينقلب صوته الحنون عند محادثتهن إلى صوت أجش خشن مرعب أحياناً! والقرية لا تستغني عن ماء البئر خصوصاً زمن الفيضان عندما يصبح الماء عكراً نصفه طين. وكم تغفلنه مراراً، وهو الأعمى وهن النجل العيون! على أن سمعه المرهف دائماً كان يغيظهن أشد الغيظ!! فإذا أدلت إحداهن الدلو في البئر وحركت (الجبيذ)(البكرة)، وهو خشبي يحتاج للسقي بالزيت ليحبس صوته في جوفه، صر هذا، فيمد الأعمى قامته ويقول بصوت جاف:
(مين؟)
فيتركن الدلو والجرار ويرحن يصلصلن بالحلي، ويطرن على وجوههن هاربات، وقد تقع إحداهن على وجهها، فتخوض فيها الأخرى من فرط الرعب، ويقمن وجلات مذعورات ضاحكات أيضاً، على أن هذا لم ييئسهن من البئر اليأس كله، فهن يعلمن أنه يتروح بعد العشاء، فإذا بصرن به خارجاً من المسجد انطلقن إلى البئر وهن راجفات أيضاً. فشد ما كانت تخيفهن عصاه الغليظة وإن كانت لم تصافح إحداهن حتى الآن.
ومن هنا نشأت العداوة بينه وبينهن واشتدت مع الزمن أما الأطفال فكانوا كلما بصروا به على الجسر، وهو في طريقه إلى منزله، تقوده عصاه، وصدره إلى الأمام، وسمعه مرهف، ورأسه مستو، وقامته منتصبة، وخطواته ثابتة متزنة جروا وراءه يسبونه، وقد يحصبونه بالحصى أو يرمونه بالحجارة، وهو صامت باسم لا يلتفت إليهم ولا يكلم أحدا منهم، حتى
يقرب من بيته، وهنا يطلع عليهم كلب للجيران أسود ضخم يربض دائما على الجسر، فينطلق وراءهم حتى يشردهم في الدروب. وشد ما غاظ هذا الكلب الأطفال حتى تسمعهم يهمسون خوفا من أن يسمعهم الكلب (لولا هذا الكلب. . ابن الكلب. . لكان الأعمى. . .) وإن كانوا يقررون بينهم وبين أنفسهم أنه قلما كانت تصيب الرجل حصاة واحدة من كل ما يرمونه من حصى وحجر.
ولم يكن لهذه العداوة سبب ظاهر في الحقيقة، اللهم إلا الطبع الشرير الذي ينزع بالأطفال إلى السوء، ويجلب لهم أذى الضعفاء من الناس.
تأخر الأعمى مرة في المسجد حتى زحف الليل، وتكاثف الظلام واشتد، فسمع وهو راقد في ركن من أركان المسجد صوت الدلو في البئر، فاستوى على قدميه، ومشى على أطراف أصابعه كاتما أنفاسه، وصدره يضطرب، وجسمه كله يهتز، حتى جاز صحن المسجد، وتيامن إلى البئر، وقلبه واجف. وكان قد خفت صوت الدلو، ووضح صوت (الجبيذ) فقال لنفسه، لا بد أن امرأة تجذب الدلو الآن وهي مشتغلة به فلا تسمع خطوات قادم. . . ووقف برهة ثم صاح بصوت خشن:(مين؟)
فاستدارت المرأة وحملقت في الظلام. أواه. . . إنه سيد الأعمى على مدى ذراعين منها، ورمت الدلو وأذهلها الموقف المرعب عن إبداء حركة ما، فوقفت فاغرة فاها، ثم أسعفتها غريزة الهروب بعد ثوان، فولت هاربة، فسمع وقع أقدامها فجرى ورائها، وسمعه إلى خطاها، وجرت حتى جاوزت المسجد، وبودها لو تصيح بأعلى صوتها، ولكن من أين لها القوة على ذلك؟ وكيف يطاوعها الصوت؟ وعثرت قدمها بحجر في الطريق فكبت على وجهها مذعورة، وأنت عند ذلك أنة قوية، فجرى على الصوت وأهوى بيده العمياء ولمس كتفها، وكان قد بلغ منه الجهد فوقف يلهث ويده ممسكة بكتفها، ثم أنزل يده حتى قبض بعنف على رسغها، وقامت المرأة متراجعة، تود لو تفلت منه بكل ما تستطيع من قوة، ولكنه ضغط على يدها بشدة، وتحسس بيده الأخرى وجهها وقال في صوت متزن:
(جميلة. . .؟)
(. . . . . .)
ووقفت المرأة صامتة تهتز وترتجف
(لم لا تناديني لأملأ لك الجرة؟)
وقد رق صوته جداً، فدهشت من تطور حاله وصمتت
(لماذا؟)
فشجعها صوته اللين وأجابت
(إنك لا تسمح لأحد بالدنو من البئر. . . فكيف أناديك؟)
(ليس لواحدة أو اثنتين. . . وإنما عندما تجئن بالعشرات فتقطعن الحبل، وتمزقن الدلو، وتهشمن خشب الجبيذ. . . في البلد أكثر من أربع آبار قريبة، فلماذا تجئن إلى هنا دائماً. . .؟)
(لأن هذه أعذبها ماء. . .)
(هذا الماء العذب كثيراً ما ينزح. . .)
(النيل في فيضانه والماء كثير. . .)
(أجل. . . أ. . . أ. . . ولكن. . . أملأت الجرة؟)
(نصفها. .)
(سأكملها لك)
وانقلب إلى البئر، فمشت وراءه مطمئنة، وأدلى الدلو وهو يحس بعض الاضطراب، فأخذ يدير الجبيذ بسرعة ليملأ لها الجرة ويصرفها عنه، ويبعدها عن وحدته وسكونه.
وقال وهو يفرغ الدلو بصوت خافت لين المخارج:
(إذا جئت مرة أخرى. . . ناديني لأملأها لك)
(كتر خيرك)
وساعدها على حمل الجرة، وانطلقت بها إلى بيتها، ووقف ينصت إلى هزيم الريح القوية في الحقل البعيد.
وأخذت جميلة بعد هذه الليلة تتردد على البئر دون خوف أو وجل، كانت تجئ في كل يوم مرة، عند مطلع الفجر أو بعد أذان العشاء، لأن زوجها لا يسمح لها بالسير في طريق القرية إلا بعد أن ينام الناس، وتنقطع الرجل. . فهي فتاة في رونق صباها رائعة الحسن غضة العود وزوجها يخشى عليها العين! ولا يحب لها ملاقاة شبان القرية الذين يقفون على
رأس الطريق في ساعات معينة من النهار! وكانت تقابل سيد الأعمى في غالب الأوقات التي ترد فيها البئر، وكثيراً ما اترع لها الجرة، وأعانها على حملها، أو ملأ لها الحوض الصغير الذي على يمين البئر لتغسل وجهها ورجلها فبل الذهاب إلى بيتها، وكانت تطوى كميها إلى مرفقيها، وتحسر شالها عن شعرها، وترفع ثوبها إلى ساقيها وهي منحنية على الحوض تغتسل. كانت تفعل ذلك، دون خجل أو حياء لأن سيداً أعمى.
واستراح سيد الأعمى مرور الأيام لمحضَرها حتى أصبح يشعر في الأيام التي تتخلف فيها بالانقباض والوحشة. كان يحس، من أعماق نفسه، أن شيئاً ينقصه، شيئاً يستريح معه، وينشرح له صدره، وتنتشي حواسه، وتهدأ ثائرة أعصابه.
وكانت جميلة تدفعها غريزتها أول الأمر إلى الخوف منه واتقاء شره كرجل، بصر النظر عن كونه أعمى، ولكنها ما لبثت - بعد الانفراد معه مرة ومرات - أن استراحت واطمأنت ووثقت من عفته وخلقه، حتى كانت تخرج معه إلى حد المداعبة، كأن تخفي عكازته، أو تخلع الدلو، أو تقطع الحبل، أو ترشه بالماء، وكان يضحك لهذا حتى يرقص قلبه، ويلوح لها بعصاه مهددا. ً على أن هذا التآلف الذي أصبح بين سيد وجميلة، لم يشجع غيرها من النساء على القرب من البئر، لأنهن كن لا يعلمن بتغير حاله، وإن علمن لا يصدقن، ولم يكن هو يزجرهن عن البئر، ويمنعهن من ملء الجرار منها، لأنه كان يخاف على الماء فقط، بل لأن شيئاً خفياً في أعماق نفسه، كان يدفعه إلى النفور منهن وإبعادهن عن جوه. . . دافع باطني عجيب كان يخرجه عن هدوئه وسكونه، عندما يسمعهن يتحدثن على الماء أعذب حديث وأرقه، كان يرجف له ويضطرب، وهو الرجل وهن النساء. . .
شعور باطني غريب كان يحمله على فعل ذلك ولم يستطع تحليله ولا تعليله، وهو الجاهل الذي لم يذهب إلى المدرسة ولم يدرس علم النفس. لقد قضى الرجل حياته بعيداً عن جو المرأة فأخرجها عن دائرة تفكيره، بعد أن خرجت عن دائرة وجوده، ولم يعد يفكر فيها مطلقاً. . . لم يعد يفكر فيها، ولا يحن إلى لقياها، ولا يستريح لرفقتها.
وكان يتضايق حتى من وجود أم سيد معه في منزل واحد. . . وإن كان ينام بعيداً عنها، ولا يلاقيها إلا نادراً - غالباً في الأوقات التي كان يرجع فيها إلى البيت مبكراً ليتعشى - فكان يتذمر ويضطرب لمحضرها، وإن كان يعدها أُماً. كان يرتجف لوجودها معه، ويحس
بروحها تثور، لأنه ما كان يحب أن يتصورها جالسة أمامه ترقبه وهو يمضغ الطعام، ويقطع الخبز بأسنانه، وكان لا يعود لهدوئه وسكونه إلا بعد أن يتنفس الصعداء في قاعته.
ولما اعترضت جميلة طريقه أول مرة، كان يحمل معه عصاه ليضربها؛ ولكنه لما سمع صوتها عن قرب، ووقف عند رأسها، وأمسك بيده رسغها، وصافحته أنفاسها، تراجع، وأيقن أنه أمام مخلوق لا يستحق الضرب!
وأخذ بعد ذلك يترقب حضورها، ويتأخر في المسجد عامداً ليعينها على حمل الجرة، ويملأ أذنيه من صوتها.
(لها بقية)
محمود البدوي
البريد الأدبي
المؤتمر الدولي لنادى القلم
يعقد المؤتمر الدولي الرابع عشر لنوادي القلم في مدينة بوينس ايرس عاصمة الجمهورية الفضية (أمريكا الجنوبية) في شهر سبتمبر القادم، وتستمر دورة الانعقاد عشرة أيام من 3 سبتمبر إلى 13 سبتمبر منه. وقد أتخذ نادى القلم الأرجنتيني استعدادات عظيمة لعقد هذا المؤتمر، وسعى جهده لجمع أكبر عدد ممكن من مندوبي النوادي المختلفة في عاصمة الأرجنتين ولم يبخل في سبيل هذه الغاية بأنفاق آلاف الجنيهات لتسهيل سفر المندوبين من بلادهم النائية إلى أمريكا الجنوبية وإضافتهم مدة انعقاد المؤتمر؛ وقد استأجر لهذه الغاية باخرة خاصة تقوم من مياه البحر الأبيض بجميع المندوبين الرسميين في أوائل شهر أغسطس القادم، ثم تعيدهم إلى نفس المياه في أوائل شهر أكتوبر ومنها يتفرقون عائدين إلى بلادهم.
وسيشهد نادى القلم المصري هذا المؤتمر الكبير؛ وقد أختار لتمثيله أحد أعضائه الدكتور محمد عوض الأستاذ بالجامعة المصرية وقد سبق أن مثل حضرته نادى القلم المصري في مؤتمر القلم الذي انعقد في مدينة ادنبورج بايكوسيا في صيف سنة 1934.
وسيعنى المؤتمر ببحث جميع المسائل المتعلقة بالأدب والكتابة وحقوق التأليف وحرية القلم ومسائل النشر وما إليها؛ وتلقى فيه عدا ذلك عدة مباحث عالمية من بعض المندوبين. وسيلقى مندوب مصر ما يناسب المقام.
وهذه بعض المسائل التي سيعنى ببحثها المؤتمر:
(1)
مهمة الكاتب في المجتمع، وما يستطيع نادي القلم أن يفعل في ذلك السبيل.
(2)
نشر المؤلفات الأدبية وتبادلها بين مختلف البلدان، ومسألة التراجم، والعلاقة بين المؤلفين والمترجمين، والعلاقة بين المؤلفين والناشرين في الداخل والخارج
(3)
مسألة إعانة الكتاب المعسرين.
ومسائل كثيرة أخرى تهم الأدب والكتاب
تطور الفكرة التاريخية اليهودية
نشطت الخصومة السامية، أعنى حركة العداء ضد اليهود في الأعوام الأخيرة نشاطاً ظاهراً
وذلك لأسباب سياسية واجتماعية كثيرة لا محل لشرحها هنا. وقد أثارت هذه الحركة من جانبها نشاطاً كبيراً في التفكير اليهودي والآداب اليهودية؛ ومما يلاحظ بنوع خاص أنه قد صدرت في الأعوام الأخيرة عدة كتب جديدة عن تاريخ اليهود أشرنا إلى بعضها في فرص سابقة، وقد صدرت أخيراً ترجمة فرنسية لمختصر تاريخ اليهود الذي ألفه المؤرخ اليهودي الشهير سيمون دوبنوف بالروسية؛ وهذا التاريخ في الأصل ضخم جداً، ويقع في عشرة أجزاء كبيرة، ويعتبر من أمهات التواريخ اليهودية التي صدرت في العهد الأخير؛ وقد وضع سيمون دوبنوف لمؤلفه مختصرا في مجلد واحد هو الذي ترجم أخيرا إلى الفرنسية تحت عنوان (مختصر التاريخ اليهودي منذ نشأته حتى سنة 1934) ?
1943
وأهمية هذا المؤلف الجديد وما تقدمه في الأعوام الأخيرة عن تاريخ اليهودية ترجع إلى تحول النظرية التاريخية اليهودية، فقد كانت هذه النظرية تقوم من قبل على أسس دينية وينوه فيها دائما بما للشعب الإسرائيلي من مركز ديني ممتاز، وبما تذهب إليه التقاليد اليهودية القديمة من أن إسرائيل هو الوسيط بين الله والناس، وأنه الشعب المختار، إلى غير ذلك من المزاعم الدينية القديمة؛ أما هذه الكتب اليهودية الجديدة فقد كتبت من الناحية القومية، ولوحظ فيها أن اليهودية هي جامعة قومية لا دينية؛ ويرجع ذلك كما قدمنا إلى انتعاش الفكرة القومية اليهودية إزاء اشتداد الخصومة السامية، وما تلاقيه الصهيونية من المتاعب والمحن.
وكتاب دوبنوف برغم إيجازه قوي واضح، وقد ألم إلماما مدهشا بمواقف التاريخ اليهودي في مدى ألفي عام.
موسم سالزبورج الموسيقي
يقام في سالزبورج بالنمسا في كل صيف موسم فني عالمي للتمثيل والموسيقى. ومواسم سالزبورج شهيرة منذ أعوام طويلة؛ وسالزبورج هي موطن موتسارت، وما زالت بها أكاديمية موسيقية تحمل أسم الموسيقي العظيم. وسيكون موسم هذا الصيف الذي يعقد ما بين 25 يوليو و31 أغسطس من أبدع وأروع المواسم المسرحية والموسيقية التي عرفها العالم في الأعوام الأخيرة. ويكفي أن تعلم أن المشرف على تنظيم برامج هذا الموسم هو
أعظم الفنانين والموسيقيين المعاصرين: ماكس رينهارت، وارتورو توسكانينى، وبرونوفالتر، وفيلكس فون فاينجارتنر. وسيشمل البرنامج المسرحي تمثيل عدة من القطع العالمية الخالدة مثل (فيجارو) وموسيقاها لموتستارت. و (فيديليو) وموسيقاها لبتهوفن و (أقطاب الغناء في نورمبرج) لفاجنر؛ و (تريستان وايزولدا) وموسيقاها له أيضاً و (اريفوس وايزولدا) وموسيقاها لجوك. و (فالستاف) وموسيقاها لفردي. وسيقود الفرق الموسيقية توسكانيني وفالتر وفاينجارتنر. ويشمل البرنامج الموسيقي عدة حفلات موسيقية بديعة لموتستارت وبيتهوفن ولزث وشوبرت وباخ وستقام في نفس الوقت حفلات موسيقية دينية في الكاتدرائية الكبرى.
وتغص سالزبورج في مثل هذا الفصل بالوافدين عليها من جميع أنحاء العالم. ولكن الأنباء الأخيرة تدل على أن احتشاد الوافدين في هذا الفصل قد بلغ حداً لم تعرفه سالزبورج من أعوام بعيدة
عضو جديد في الأكاديمية الفرنسية
من أنباء باريس الأخيرة أن الأكاديمية الفرنسية قد استقبلت عضوا جديدا هو لوى جيليه، وقد انتخب في الكرسي الذي خلا بوفاة الكاتب الشهير البيربينار، وترجم سلفه في اجتماع حافل من أعضاء الأكاديمية طبقا للتقاليد المعتادة. والعضو الجديد من طراز خاص من المفكرين يندر أن يوجد بين أعضاء الأكاديمية، ذلك أن لوى جيليه رجل فن وناقد فني فقط، وهو منذ أعوام طويلة مدير لأحد المتاحف الباريزية. وقد اشتهر في العهد الأخير بعدة مؤلفات قيمة عن الفن وتاريخه منها (تاريخ التصوير في أوربا في القرن السابع عشر)(تاريخ الفنون في فرنسا) ، وغيرها، وهو من أشهر النقدة الفنيين في نوعه ينقد الصور والتماثيل الحديثة، ويكتب عن معارض الفنون رسائل قيمة.
جوائز أدبية
منحت جمعية النقدة الفرنسيين المؤلفة من جماعة من أعظم الكتاب والنقدة (جائزة النقد) السنوية إلى كاتبين كبيرين هما مسيو رنيه دومزنل، ومسيو مارسل تيبو؛ ولكل منهما في النقد مواقف مشهورة؛ وقد أمتاز مسيو دومزنل بنوع خاص بدراساته لبعض أكابر كتاب
الجيل المنصرم مثل موباسان وهيسمان وفلوبير. ومما يؤثر عنه أنه كان طبيباً بالمهنة فاستهواه النقد وتدرج فيه حتى اعتزل الطب؛ وأما مارسيل تيبو فهو المحرر النقدي (لمجلة باريس) الشهيرة.
ومنحت جائزة الأدب الشعبي إلى ترستان ريمى، وهو من كتاب (الصعاليك) والعوالم السفلى، وقد أشتهر بقصته (حي سان أنتوان) وله عدة قصص أخرى تدور حول حياة الطبقات الدنيا في باريس.
الاقتصاد وسيلة لتحقيق السلام
يعانى العالم أزمات سياسية واقتصادية لا نهاية لها؛ وتكاد النظم الاقتصادية في بعض الأمم العظيمة تنهار؛ وتر أمم عظيمة أخرى أن الحرب ربما كانت أفضل الوسائل للخروج من أزماتها ومتاعبها؛ ويكد معظم الحكومات والساسة للخروج من هذه المآزق، وقد نشر أخيراً أحد الكتاب الإنكليز كتاباً طريفاً يدلى فيه برأي غريب لإنقاذ الأمم من أزماتها؛ وعنوان هذا الكتاب (في وسع الأمم أن تعيش في أرضها) ومؤلفه هو المستر ولكوكس وهو عالم في الاقتصاد الزراعي، ويحاول المؤلف أن يرد في كتابه على السؤال الآتي:(ما هو أكبر عدد يمكن أن يعيش من منتجات فدان أو ميل مربع من الأرض الصالحة؟) ويرى مستر ولكوكس أن الجواب على هذا السؤال تتوقف عليه نتائج اقتصادية وسياسية خطيرة؛ وهذا هو ملخص رأيه:
(إن أنجع الوسائل لتحقيق السلام الدولي، وتقليل خطر الحرب إن لم يكن إلغاؤه، هو تحسين الإنتاج الزراعي إلى حد يمكن الأمم من أن تعيش في أرضها، وببعد عنها خطر الجوع أو الحرمان، وأن تستغني إذا اقتضى الحال عن الموارد الأجنبية وما يلزم للرفاهة والحياة الناعمة)
ولقد تنبأ العالم الاقتصادي ملتوس منذ أكثر من قرن بما سيعاني العالم من وفرة السكان ونادى بنظرية ضبط النسل؛ ولكن العالم في أنحاء كثيرة لم يصل في وفرة السكان إلى الحد الذي يدعو إلى القلق. بيد أن هناك أمماً قد وصلت في ذلك إلى حد مزعج مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا، ويرى مستر ولكوكس أن تقدم الإنتاج الزراعي هو خير علاج لهذه الأزمة.
والكتاب علمي في أسلوبه ومناحيه، ولكنه واضح بعيد عن ذلك التعقيد الفّني الذي يذهب بكثير من قيمة الشروح والبيانات القيمة.
إلى الأستاذ محمد عبد الله عنان
لما استطردتم في مقالكم القيم عن (البارون فون إوفنباخ) في الرسالة 141 إلى ذكر الماسونية وقلتم (إن لها أغراضاً خفية غير الأغراض الإنسانية التي تتظاهر بها، وإنها تعمل لغاية ثورية شاملة هي سحق الأديان والمعتقدات القائمة كلها، وإدماج الإنسانية كلها في نوع من التفكير الحر المطلق والمساواة الاجتماعية المطلقة) قرت عيون جمهرة القراء عندنا وعدوها لكم منقبة، وباتوا يرقبون عودة منكم إلى هذا الموضوع، لأن الناس لا يشكون من شيء عندنا ما يشكون من الماسونية. ولا يرون ظلماً ولا إلحاداً ولا رذيلة إلا وللماسونية صلة به، ذلك أن الماسونية عندنا ليست - على الأكثر - إلا شركات نفعية مؤلفة من أشخاص ليس لهم مبدأ معروف، ولا غاية نبيلة، ولكن مبدأهم ومنتاهم جلب النفع لأنفسهم ودرء الضرر عنها، ولو كان في ذلك ضرر المجتمع، وذهاب الفضيلة وهدم الدين؛ يتعاونون على الخير والشر، ويتناصرون على الحق والباطل، ويدوسون كل المقدسات في طريقهم إلى منفعتهم، فيدافع القاضي عن المجرم، ويتنكب سبيل العدل، ويخون المعلم منهم في الامتحان، فينجح المقصر، ويسقط المجتهد؛ وإذا خلت وظيفة لم يعين العالم الكفء القدير، ولكن يعين لها من له صلة بالماسونية التي يعتنقها من بيدهم أمر تعيينه، ولو كان جاهلاً، ولو كانت وظيفة رئيس المفتشين في وزارة المعارف، أو عضو الاستئناف في وزارة الحقانية، أو غير ذلك. . .
فهل هذه هي الماسونية؟ وهل يتفضل سيدي الأستاذ فيجلو لنا غامضها، ويكشف لنا خفيها، فيبين منشأها وأصلها ومبادئها، ويذكر لنا ما هي قيمتها اليوم في أوربا وفي بلدان الشرق الأدنى، وما هي علاقتها بالدين والوطنية في فصل تخطه يراعته البليغة؟
(دمشق)
(ع)
ديوان حافظ إبراهيم
قررت وزارة المعارف العمومية طبع ديوان الشاعر الخالد حافظ بك إبراهيم. وقد ندب معالي الوزير لهذا العمل الخطير صديقنا الأستاذ أحمد أمين، فكلفه أن يجمع أشعاره ثم يرتبها ويبوبها ويصححها ويشرحها ويقدم لها ويعلق عليها.
وهذه مأثرة جميلة لوزارة المعارف نرجو أن يساعدها على إتمامها كل من عنده اثر من آثار الشاعر العظيم مما لم ينشر في صحيفة أو يطبع في ديوان فيرسل صورة إلى الأستاذ الشارح خدمة للأدب وبراً بالأديب.
من هنا ومن هناك
آثار مصر القديمة منذ 650 سنة
ألف الأديب الرحالة المصري أبن فضل الله العمري كتابه الموسوعي العظيم (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) منذ خمسين وستمائة سنة (هـ) في عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وظل الكتاب مخبوءاً في زوايا الإهمال حتى أتيح بعثه على يد فقيد العروبة العامل الأستاذ أحمد زكى باشا سنة 1924، والكتاب ذخيرة ثمينة حقاً، وهو لا يقل في قيمته عن الموسوعات المصرية الثلاث الأخرى (صبح الأعشى، ونهاية الأرب، ولسان العرب).
ولعل أظرف فصل عقده المؤلف في كتابه (ج1) هو ذلك الفصل الذي يتكلم فيه عن آثار مصر القديمة، وما كان الناس يفترضونه من تاريخها، وما يعللون به تشييد تلك المباني الضخمة والهياكل العتيدة!
وقد وصف أبن فضل الله أهرام الجيزة فقال: (. . وهي أشكال لهبية، كأن كل هرم لهبة سراج، آخذة في أسفلها على التربيع مسلوبة في عمود الهواء، آخذة في الجو حتى إلى التثليث، لولا استدارة اُبلوج السكر (قمع السكر!) لشبهناها به، ويحتمل أن يكون هذا الشكل موضوعاً لبعض الكواكب لمناسبة اقتضته. .) وذكر قبل ذلك سبب بنائها قال:(قيل إنها هياكل للكواكب، وقيل قبور ومستودع مال وكتب، وقيل ملجأ من الطوفان، وهو أبعد ما قيل فيها!) ثم يعلل أنها لم تكن ملجأ للطوفان بأنه شاهد بعض الأهرام في مصر العليا مبنية من اللبن! وبعد أن يذكر بعض أقوال الشعراء في صفتها ينتقل إلى أبى الهول فيقول: (. . . وهو اسم لصنم يقارب الهرم الكبير، وفي وهدة منخفضة تقع دونه شرقاً بغرب.
لا يبين من فوق سطح الأرض إلا رأس ذلك الصنم وعنقه، أشبه شيء برأس راهب حبشي، عليه غفّارية؛ على وجهه صباغ أحمر إلى حُوّة، لم يحل على طول الأزمان وقديم الآباد، وهو كبير، لو كان شاخصاً كله لما قصر عن عشرين ذراعاً طوله في غاية مناسبة التخطيط!! يقال إنه طلسم يمنع الرمل عن المزدرع. . .).
ويسمى أبن فضل الله سلسلتي جبال العرب وليبيا (حائط العجوز!!) (وهو حائط يستدير بالديار المصرية ممتداً على جانب المزدرع بها كأنه جعل حاجزاً بين الرمل والمزدرع. .
).
ويقول. . . (إنه من بناء امرأة اسمها دلوك. . .)
ومع هذا لا يرى أبن فضل الله أن يتورط في ذكر الخرافات التي تقال في سبب بناء دلوك لهذا الحائط فيقول: (ويذكر في تلك الكتب - بسبب بناء العجوز له - خرافة لسنا نرضى ذكرها!!)
ويسمى المؤلف تمثالي ممنون بالقرب من وادي الملوك (شامة وطامة!!) ثم يصف البرابي فيبدع إبداعاً تاماً، وينتقل إلى الإسكندرية فيصف عمود السواري، والمنارة، والملعب الكبير وصفاً يدل على ذوقه الفني الدقيق!!
فلوبير وحديقة الكرمب
يعتبر جوستاف فلوبير (1821 - 1880) الوارث الأكبر للمدرسة الابتداعية في الأدب الفرنسي عامة، والوارث لبلزاك خاصة، وإن يكن هو من الكتاب الريالست، وإن يكن أيضاً يمتاز من بلزاك بطلاوة أسلوبه ونقاء عبارته وإشراق ديباجته، وعدم إسفافه. . . وهي مزايا لم يكن بلزاك يعرف شيئاً منها.
ويشبه فلوبير في شدة عنايته بأسلوب شاعرنا الجاهلي زهير أبن أبى سلمى المعروف بصاحب الحوليات. فلقد كان فلوبير يأرق الليالي الطوال من أجل لفظة واحدة؛ حتى إذا فاز بها، ثم مضى زمن يسير، رجع فحذفها من مقاله أو من كتابه، وقد يكون ذلك وقت الطبع، ومن هذه الموسيقى الحلوة التي اشتهرت بها كتبه لا سيما في (مدام بوفاري) و (سانت أنطوني وسلامبو).
وقد بلغ من شدة شغف فلوبير بتقرير الواقع في قصصه أنه كان يجشم نفسه الشاق والأهوال ليصف منظراً عارضاً في زاوية منسية من زوايا هذه القصص. من ذلك أنه أراد وصف مزرعة كرمب في ليلة مقمرة مقرورة. . . فترك القصة بحذافيرها، وانتظر حتى كان موسم الكرمب، ثم رحل إلى ضاحية اشتهرت بنوع جيد من هذا المحصول، وثمة تلبَّث حتى آذنت الليالي المقمرة. . .
ولكن صاحبة البدر طفق يتدلل ويتستر وراء السحب القاتمة. . وكان الشتاء القارس يعذبه ببرده ولياليه الطوال، وكان فلوبير ما يبرح واقفاً وسط المزرعة بقلمه وقرطاسه، منتظراً
إشراقة واحدة من حبيبه القمر ليصف فيها منظر أشعته الفضية على أوراق الكرمب.
ونال أمنيته بعد أن نال منه القمر كل أمانيه!!
روبرت أون والعمال
تنتقل مصر رويداً رويداً من الطور الزراعي الذي لا يتفق ومدنية هذا العصر إلى الطور الصناعي. . . طور المدنية والقوة والسيادة. وقد رأت إنجلترا مثل هذا الانتقال، ورأت فيه جملة ثورات اجتماعية كانت الاشتراكية أهمها جميعاً. والاشتراكية تعنى سعادة البشر ومكافحة الفقر، ومن هنا انضواء غالبية المفكرين تحت لوائها وسهرهم على تعميمها في كل مناحي الحياة حتى في دور العلم! ويعتبر روبرت أوِن (1771 - 1858) خالق الاشتراكية وواضع مبادئها بالعلم والعمل، بل هو الذي استحدث هذه الكلمة في النصف الأول من القرن التاسع عشر (1835). ومن العجيب أنه كان من أكبر غزالي القطن في منشستر، وله جملة ابتكارات في صناعة الغزل تعتبر أسُساً لتقدمها.
وكان أون يحب الاختلاط بالعمال، ودأب من كثب على دراسة أحوالهم ومعايشهم، وكان يروعه فقرهم وقذارتهم وعدم قيام رواتبهم الضئيلة بحوائجهم، فنذر، إذا واتاه الحظ، أن يحدث في حياتهم ثورة تطفر بهم إلى السعادة. . . وقد حققت الأيام مطامحه فأصبح من أغنياء منشستر، وذكر نذره فأنشأ مصانعه العظيمة في نيولانارك على أحد النظم وعلى أحسن القواعد الصحية، وكان أهم ما عمله لترقية العمال تحسين أجورهم وتقليل ساعات العمل (وكانت 12 ساعة فخفضها إلى عشر، ثم إلى ثمان)، وأنشأ لهم مساكن صحية، وحرّم العمل على صغار الأطفال (أقل من عشر سنوات)، وضمن التعليم الابتدائي بالمجان لأبنائهم، وأنشأ لعماله مستشفي بجوار المصنع جلب إليه أمهر الأطباء وأحدث الآلات الطبية، ووضع للطاعنين في السن منهم نظاماً يكفل لهم شيخوخة سعيدة.
ولم يكتف أوان باستخدام هذه النظم لرفاهية العمال في مصانعه فقط، بل عمل على تعميمها في المصانع الأخرى. . . ولذلك ثار في وجهه أصحاب هذه المصانع، وكان أكثرهم من اليهود، ممن لا هم لهم إلا امتصاص دماء الإنسانية وصهرها ثم تحويلها إلى ذهب! ولكن أون العظيم صمد لهم، وما زال بالشعب وبالعمال وبالحكومة حتى انتصرت مبادئه، وأصبح العامل الإنجليزي مدى قرن من الزمان أسعد ألف مرة من إخوانه في جميع الآفاق.
ولم يكن أون صاحب مصانع فحسب، بل كان كاتباً وخطيباً مفوهاً، ولذا كانت خطبه تسحر العمال وتبعث فيهم الشعور بالكرامة وتشيع في أعطافهم الكبرياء
اليوجنية الحديثة
اليوجنية أو علم تحسين النسل وهو علم حديث يرجع إلى سنة 1885 فقط، وموجده هو السير فرنسس جالتون المتوفى سنة 1911. وقد أوصى عند موته أن يرصد جزء كبير من دخله لإنشاء كرسي لهذا العلم في جامعة لندن؛ وقد اشتغل السير جالتون بعلوم الأحياء قبل أن يلتفت إلى هذا العلم.
ومن رأيه قصر التناسل على الفتاة العاقلة القوية ذات الفضائل من الناس لإيجاد جيل راق يقود البشرية مرحلة كبيرة إلى السوبرمان؛ وقد سمى هذه العملية من برنامجه ومن رأيه كذلك حرمان البلهاء والمرضى والمجرمين وأهل الرذائل من التناسل حتى لا يؤخروا موكب الإنسانية عن التقدم والرقى ويسمى هذه العملية
وسير جالتون يعنى عناية كبيرة بمذهب السلوكيين في السيكولوجية الحديثة، بل هو قد اتخذ من مباحثهم الطريفة نبراساً له في وضع الدعائم لهذا العلم الجديد.
(د. خ)
الكتب
البراجماتزم
الأستاذ يعقوب فام
أصدرته لجنة التأليف والترجمة والنشر
بقلم الأديب ت. الطويل
يقول الأستاذ الجليل أحمد أمين في المقدمة التي مهد بها لقصة الفلسفة اليونانية: (لا بد للأديب الحق من وقوف تام على علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجمال وبالجملة على فروع الفلسفة، فذلك يجعل نتاجه أقوم، وتفكيره أعمق، وأفقه أوسع، ومنابع تفكيره أغزر، ويحمله على أن يفلسف الأدب؛ ولا يتسنى ذلك إلا إذا أَدَّبنا له الفلسفة).
وقد أدب الأستاذ وزميله الفلسفة اليونانية فأحسنا تأديبها، والتزما في عرضها مسالك الأدب في الكشف عن خواطره في أسلوب يجمع بين السلاسة والرصانة. واستفرغا الوسع في العمل على رفعة القارئ إلى مستوى الكاتب. . . ثم أخرج الأستاذ يعقوب فام كتابه في (البراجماتزم) وسلك فيه مسلك العلماء في تبيان خواطرهم وعرض آرائهم. وتبسيط المعقد من أفكارهم. لم يقف حيث هو في ذروته ويمد يده إلى القراء ليرفعهم إليه ويعلو بهم إلى مستواه. بل هبط إليهم وتبسط معهم وأخذ يتألفهم ويترضاهم في إسراف - قد يدعو إلى الملل أحياناً - رغبة منه في اكتساب مرضاتهم عنه حتى يقبلوا اصطحابه إلى حيث يعيش. . فأنت تقرأ الكتاب فلا تحس وأنت ماض بين صفحاته إلا أن الأستاذ يعقوب مدرس يلقى على تلامذته الصغار درساً في الفلسفة، فهو مشفق عليهم من وعورة مسالكها وظلمة سراديبها ورحابة آفاقها، يعرضها عليهم فكرة بعد فكرة في تفصيل وإطناب، ولا يترك رأياً إلا دار حوله بعد الإسهاب في شرحه متوهماً أن بعض التلاميذ لا يزالون يعالجون الفهم فيستعصي عليهم، ولكنه يعود فيتذكر أنه يكتب كتاباً ستتناوله أيدي فئات من القراء تتفاوت في المدارك قوة وضعفاً، فيتعذر لقارئه عن الإطالة ويستأذنه في المضي إلى طريقه؛ ويعود سيرته الأولى موضحاً رأيه بأسلوب يمتاز بالسهولة والبساطة وإن لازمته الركاكة، ويسوق لتلامذته الأمثلة المستمدة من حياتهم اليومية، حتى إذا فرغ من شرحه عاد
فلخص ما أسلف فيه القول، ولم يبقى عليه بعد هذا إلا أن يضع لهم طائفة من الأسئلة يتناول بها آفاق الموضوع شأنه في ذلك شأن المدرسين الذين يضعون لتلامذتهم مصنفات تتناول برامج الدراسة المقررة. .!
والأستاذ أحمد أمين أديب عالم، ولكنه قد سلك مسلك الأدباء في الكتاب الذي صنفه بالاشتراك مع زميله الأستاذ زكى نجيب مؤثراً هذه الطريقة مقتنعاً بها راضياً عنها. وكذلك قل في الأستاذ يعقوب وإيثاره للطريقة التي أسلفنا الإشارة إليها الآن؛ وأكبر الظن عندي أنه لا يستطيع غيرها إن لم يكن مقتنعاً بها.
وأنه غير نادم على عجزه عن (تأديب) الفلسفة. لأنه لا يحترم الأدب ولا يكبر أهله. فالأديب رجل مُخَرِّف لا تعنيه إلا زخرفة اللفظ وبهرجة الأسلوب اللغوي. .! فان كان القارئ قد تملكه العجب لهذا التعبير فليسمع نَصَّ ما يقوله الأستاذ يعقوب فام ص 72:
(هل العقل الإنساني مرآة فقط ليس لها من عمل سوى أن تعكس الحقائق الخارجية دون تصرف أو تدخل من ناحية؟ أم هو كالفنان الذي يتناول قطعة الحجر ويصنع منها تمثالاً جميلاً منظماً متناسباً؟ أم هو لا هذا ولا ذاك وإنما يشبه الأديب الذي يخلق الأشخاص والحوادث والبيئة المحيطة بهذين خلقاً من العدم؟ (العفو!) على الإجابة عن هذا السؤال يتوقف الشيء الكثير. فلو قلنا إن العقل كالمرآة كنا من أتباع فلسفة الواقعيين؛ وإن قلنا إن العقل كالأديب يخلق الكون خلقاً، وإن الأشياء لا وجود لها في ذاتها وإنما وجودها يتوقف على العقل وحده كنا من أتباع الفكريين يزعمون أن الحقيقة هي عقل أو فكر وأن المادة شيء وهمي لا وجود له. وأما إن قلنا إن العقل يكيف الحقائق الخارجية كما أن. . . . . الخ).
هذه هي نظرية الأستاذ إلى الأدب وأهله. ولست أعرف في الأدب مذهباً يتيح لصاحبه أن يخلق من العدم أشخاصه وحوادثه وبيئته - إن كان في وسعه أن يفعل ذلك - والغريب أن يفرق الأستاذ الكريم بين الأدب والفن هذه التفرقة العجيبة التي لم أسمع بها على هذا النحو من قبل اليوم. ثم كيف يخلق الإنسان من العدم بيئة تعج بالحوادث والأشخاص؟ أبا لخيال؟ إن عجبك ليشتد وينمو حتى يملأ شعاب نفسك حين ترى الأستاذ يقول ص 83 ما نصه:
(هذا الشعور الخفي بالحق (عند المتصوفة) يقابل الخيال عند الرجل العادي. فالخيال ينتج
من التفاعل بين مجموعة الاختيارات التي جازها الفرد في حياته اليومية، ومن نشاطه بين أفراد نوعه، ومن الغرائز الموروثة. هذا التفاعل بين الاختبارات والدوافع الموروثة عند الفرد هو الذي ينتج الخيال. ومع أن النتيجة قد تكون واحدة إلا أن الفرق بين التصوف والخيال واضح، فالأخير مبنى على العقل والاختبار، والأول مبنى على القوة الخارقة للطبيعة التي تلقى بالمعارف إلى الإنسان إلقاء. الخيال إنما هو قفزة يقفزها الإنسان إلى الامام، والتصوف هو الاستسلام للاتصال الخفي بين الفرد وعالم الأرواح، أو الفرق بين الرجل العادي ذي الخيال الخصب، والرجل الصوفي هو هذا:
الأول منهما متصل بالحياة وبالاختبار وبنشاط الجسد من مشاهدة وحس بأنواعه. . .).
هذا هو الخيال عند الرجل العادي كما يفهمه الأستاذ يعقوب، أما الخيال عند الأديب كما قال، فهو توهم ما لا وجود له، وتصوير ما لم تره عين، وتسمع به أذن، ولم يدركه حس؛ هو نوع من الرجم بالغيب والحدس باللا معلوم! لا تقل إن الأديب في عرف الأستاذ رجل مجنون، فان المجنون لا يفعل في تصرفاته أكثر من أن يستعيد صوراً ذهنية عن مدركات حسية في شكل مبالغ فيه إلى حد يتجاوز حدود العقل ويتخطى نطاق العرف. فالمجنون أقرب إلى الحياة من الأديب في رأى الأستاذ. .! ولهذا ارتقى إلى ذهني الظن بأن الأستاذ غير نادم على أنه لم يكن أديباً. . كما أشرت إلى هذا قبلاً.
وأكبر الظن أن الأستاذ يعقوب قد اختلط عليه معنى الـ في الفلسفة ومعناها في الأدب. ففي الفلسفة يراد باللفظة (التصوريون) - وأنا أوثر هذه الترجمة على (الفكريين) التي يستعملها الأستاذ حتى لا يختلط معناها بالعقليين - وهم الذين يظنون أن الحقيقة فكر، وأن المادة لاوجود لها، كما أبان الأستاذ، ثم يراد بلفظة الـ في الأدب (المثاليين)، وهم الذين ينزعون إلى تصوير المثل العليا، والتحدث إلى الناس عما ينبغي أن يكون. فهي في الفلسفة مشتقة من أي فكرة أو صورة ذهنية. وهي في الأدب مشتقة من أي مثل أعلى. والأديب المثالي لا يخلق من العدم شيئاً، وإنما يدرس (الكائن) في هذه الدنيا فلا يعجبه ولا يروقه فَيَحِنّ إلى كمال يعوض هذا النقص، ويصور المثل الأعلى الذي يحقق ما ينبغي أن يكون. وهو في تصوره إنما يعتمد على المدركات الحسية في أرحب معانيها، وخياله لا يؤلف له الصور الحبيبة إلى النفس إلا بالاعتماد على ما يعرفه من مدركات الحس. فان
كان للمذهب التصوري وجاهته في الفلسفة فهو بمعناه الفلسفي هراء في عرف الأدب وأهْله.
على أن هذا الكلام لا يراد به الطعن في الطريقة التي سلكها الأستاذ يعقوب. فأن تأليف كتاب يتناول هذه الآفاق الرحيبة في الفلسفة وعلاجها على هذا النحو البسيط السهل الميسور لكل قارئ لمقدرة ومهارة تستحقان كل ثناء وإعجاب. فان كنت في شك من هذا فقارن ما كتبه الأستاذ بما يكتبه أغلب الذين ينقلون إلى الجمهور نظريات علم النفس، تَرَ العجز البيّن عن تمصير ما يكتبون حتى في نقل الأمثلة التي قرءوها في المراجع الأجنبية. . . أما الأستاذ يعقوب فهو يحدثك عن أحدث مذاهب الفلسفة وأقدمها فَتُحِسّ وكأن أصحابها مصريون تحسن فهمهم وتجيد تقديرهم ولا تجد بينك وبينهم هوة في فكرة أو روح. .!
وقد انتهي الأستاذ إلى هذا التوفيق بعد جهد كان أبرز آياته الاتئاد عند كل فكرة والإطناب في شرحها حتى يطمئن على سهولة فهمها ويسر إدراكها. على أن هذا الاتئاد وإن لازمه في (شرح) الكاتب منذ بدايته حتى نهايته، فان بعض الفصول التي أضافها الأستاذ توضيحاً للمذاهب أو تمهيداً لذكرها أحكاماً يشوبها الضعف أو نقصاً في استيفاء الموضوع. أو هكذا يخيل إلىّ. . . فتراه يكتب فصلاً يدلِّل فيه على أن الناس خاصتهم وعامتهم يتفلسفون وإن أنكر بعضهم أنه يتفلسف. .! ذلك لأنهم يعيشون في الدنيا ويضربون في زحمتها متأثرين بآراء قد تولت الفلسفة البحث فيها وانتهت منها إلى نظريات ومذاهب قد يعرفها طغام الناس. وهذا رأى غريب، لأن الفلسفة ليست (عناوين) من عرفها كان من حقه أن يكون فيلسوفاً، وإنما هي (بحث) يتناول الآفاق المجهولة في رحاب الحياة، هي (بحث) مجهول للناس يتناول ما تجهله العلوم وأهلها - ونهجها في ذلك توضيحه هذه الجملة: أنى وقف التفكير العلمي بدأ التفكير الفلسفي - فالناس عامتهم وخاصتهم لا يتفلسفون وإنما تبلغهم آراء يوحي بها الدين أو يمليها العرف - بما يؤلفه من مختلف العناصر - فيعملون بها ويسيرون على نهجها من غير تفكير في أمرها؛ فان تناولوها بالجدل حيناً فسرعان ما ينحرفون عنه مقتنعين ولو بلا شئ. وليس هذا شأن المتفلسفة في آي زمان أو مكان. . . أو ترى الأستاذ يكتب فصلاً ممتعاً يتناول فيه وظيفة العلم وطريقته في البحث ويلخص لك ما ينتهي إليه ويثبته في أرقام مسلسلة ليتيسر للقارئ معرفة الفوارق بينه وبين الفلسفة،
ولكنه ينسى أن يتحدث في هذا الفصل عن أولى الخواص التي لا يستطيع الإنسان في العصر الحديث أن يتصور العلم من دونها، وهي أن العلم يمتاز من سائر آفاق المعرفة الإنسانية في أنه (يبحث الشيء من حيث هو شئ) وليست تعنيه علاقة هذا الشيء بغيره من الناس. ولهذا كان العلماء آخر من يفكر في الإنسانية ويعطف عليها، لأن التفكير في صالحها يدخل في باب العاطفة، وبين العلم والعاطفة عداء مستحكم الحلقات. فمخترع الغازات السامة أو الغواصات أو الدبابات وما إليها عالم موفق قد تهيأت له أسباب النجاح في تطبيق نظريات العلم - وإن ساء فيه رأى المجتمع وجزع الناس لما أخترع - وإن قلت له إن عملك يشقي الناس أجابك على الفور:
أنا عالم، أبحث الشيء من حيث علاقته بذاته، ولا شأن لي بعد هذا بما تفضي إليه نتائج البحث وتطبيقها خيراً كان أو شرا).
على أن من العدل أن نقول إن قيمة الكتب لا يحددها اتفاق الرأي بين الكاتب والقارئ، وإن خلوها من المآخذ التي يتصورها الناقد لا يصلح أن يكون مقياساً للإعجاب بها والرضا عنها، لأن مدارك الناس في تفاوت، ثم إن خلوها من النقص محال.
وقد تثير هذه الكلمة في نفسك سؤالاً تطلب إلي فيه أن ألخص لك (البراجماتزم) ولكنى لن أجيبك إلى مطلبك إشفاقاً على نفسي من الاضطلاع بهذا العمل. وأمامك كتاب الأستاذ يعقوب فأقرأه تعلم أن لجنة التأليف والترجمة والنشر قد أنصفت في اختيار هذا الرجل للقيام بتأليف هذا الكتاب، فهو عالم يكثر الاطلاع، ويحسن الفهم، ويجيد العرض؛ ويحب أمريكا! ومن أقدر على الكلام في (البراجماتزم) من رجل تتوفر له هذه الصفات. .؟
ت. الطويل
ليسانسييه في الفلسفة