الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 157
- بتاريخ: 06 - 07 - 1936
في النقد أيضاً
عزيزي الدكتور هيكل بك:
كان للفصل الذي كتبته منذ أسابيع في (النقد المزيف) أثران مختلفان: اثر رضيته أنت فسميته نجاحا صحفيا، لأنه أثار حواراً طريفاً بين صديقين من كبار الكتاب في مصر فدعواك بما شققا منه إلى المشاركة فيه؛ واثر سخطته أنا فسميته مصاباً أدبيا، لأنه ألب عليَّ كثيراً من طوائش الأفهام في مصر وفي غير مصر؛ ففريق ظن أنني عنيته بهذا المقال، كأنه لمح في نفسه آثار تلك العيوب فاتهم ثم حكم ثم غضب لأنني قلت الواقع وقال الحق، ثم حاول بهذا الغضب أن يستفزني إلى المسافهة؛ وفريق زعم أنني غمطت مدارك الشباب فاستعجزتهم عن النقد، واستحمقتهم في تكلف ما لا يحسنون بحكم السن والدرس والطبيعة؛ ثم جعلوا رأيك في ذلك نقيض رأيي، ومضوا يتعززون به ويدافعون وليس منا هجوم، ويرافعون وليس بيننا قضية
الواقع أنني هاجمت نوعا من النقد فشا على بعض الأقلام الرخوة، يصور الحق بلون الباطل ليضحك، ويبرز الجميل في مظهر القبيح ليسيء؛ وهو ينبعث إما من مكامن الحقد فيرمي إلى التجريح، وأما من مواطن الغرور فيرمي إلى الهدم. وذلك الضرب من الهوى العابث يترفع عنه الشاب والشيخ، بدليل أن أحدهما إذا ملكته الحفيظة لجيله رمى به الآخر. على أنني حين قلت أن النقد المنطقي ملكة فنية أصيلة، وتربية أدبية طويلة، وثقافة علمية شاملة؛ وان الناقد بهذا الاعتبار يشارك المشترع في صدق التمييز، والفيلسوف في دقة الملاحظة، والقاضي في قوة الحكم، كان في نفسي - واعترف بذلك - أن الشيوخ في الغالب هم أصحاب هذا الفن وأرباب هذه الملكة. وأقول (في الغالب) لأني قرأت منذ سنين للأستاذين:(غريب) و (المصري) وهما من كتاب الشباب فصولا في النقد كانت موضع الإعجاب في (البلاغ). ولكنك تقول إن النقد ظاهرة من ظواهر الشبيبة تحدث دائماً في شرَّة العمر، حتى إذا انكسرت (مال الكاتب مع سجيته، واختار الطريق الإيجابي الذي يسلكه في إنتاجه)، كما وقع لك؛ ثم تخرج من ذلك إلى أن العلة في ركود النقد هي أن الشباب لا يقرأ، وإذا قرأ لا يمحص، وإذا محصلا يثور فينقد. وفي هذه الفكرة وحدها ينحصر الخلاف بيني وبينك.
أنا أفهم أنك تنصرف عن النقد إلى معالجة السيرة النبوية بهذا التحليل المنطقي البارع،
لأنه أجدى على الناس، وأعود على الأدب، وأجدر بالكاتب المرسل؛ ولكنني لا أفهم أن يكون انصرافك عن النقد نتيجة محتومة لانصراف الشباب عنك؛ لأن ذلك يناقض طبيعة النقد في ذاته، ولا يوائم فيما أظن قولك:(إن نقد الأثر الأدبي يدل على علو الكعب في العلم أو في الثقافة أو في التهذيب)
يخيل إليَّ أن منشأ هذا الخلاف أنك سميت التمرد نقداً، والنقد تحليل تاريخ وتعليل أدب؛ فان من أقوى خصائص الشباب ذلك الطموح الذي يولد القلق، والقلق الذي يخلق التمرد، والتمرد الذي يحدث الثورة. في هذا معنى الحياة ومعنى التطور ومعنى التكمل ومعنى التحرر، ولكن ليس فيه على الكثير الغالب معنى التمييز الذي يقتضي طول الخبرة، والتفضيل الذي يوجب شمول العلم، والحكم الذي يطلب نزاهة العقل.
إنك لا تستطيع أن تُخلص الشباب من سطوة الهوى وفتنة الغرور وغلبة العاطفة؛ وأولئك هن آفات النظر الفاحص والرأي المستقر؛ فالشاب يخضع في أحكامه لتأثير الساعة من قراءة أو صداقة أو استفزاز أو اشمئزاز أو إيحاء أو مرض؛ وهو في تسبيب هذه الأحكام يتعارض مع المعروف ويتناقض مع الواقع.
هذا كاتب شاب أعجلته ضرورات العيش عن استكمال العدة للكتابة، فهو يكتب بقوة المحاكاة، لا يحور إلى فن ولا يجري على مذهب؛ وهو بالطبع يفتقد الكلام المعرب والأسلوب المحكم والأدب الموروث، على حين يحفظ عن ظهر الغيب قواعد اللغة الأجنبية، ولا يجيز لنفسه أن يخطئ في صيغها المتعددة ولا في إملائها المعقد. وهذا أديب شاب ينتقدك أنت ويرميك بالرجعية وتمليق العامة، لأنك كتبت عن (محمد) بعد أن كتبت عن (روسو) و (شلي). وهذا مؤلف شاب له كتاب في نقد (حافظ) لم أقرأه بعد، كتب إلي يتهمني بأنني قصدته بمقالي لأنني كتبته على أثر ظهور كتابه. ويقول إنه يستطيع أن ينقد ما كتبته في الرواية المسرحية بأنه منقول عن الفرنسية. ودليله بالطبع أن هذا الموضوع لا مرجع له في أدب العرب، إذن فمن أين جاء؟ من اللغة الفرنسية التي أعلمها! ولو كنت أعلم الإنجليزية مثلاً لكان النقل عنها ولا شك، ما دام النقد في عرفه حكما من غير تعليل ودعوى من دون دليل. ولا أدري لم لم يقل إن كتابي في تاريخ الأدب العربي منقول عن العربية كذلك لأن مراجعه منها!
فهل يرى الدكتور في مثل هذا النقد أنه كما قال (تناول لمواد الحياة العقلية والأدبية وهضمها وتمحيصها وتمثّل الصالح منها ونفي الزائف عنها؟) أم الحق أن ركود الأدب وفوضى النقد لا يرجعان إلى الشّيب ولا إلى الشباب، وإنما يرجعان إلى تهريج الصحف وكسل الكتاب؟
احمد حسن الزيات
قصة الأيدي المتوضِئة.
. .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال راوي الخبر: ذهبت إلى المسجد لصلاة الجمعة؛ والمسجد يجمع الناس بقلوبهم ليخرج كل إنسان من دنيا ذاته، فلا يفكر أحد أنه أسمى من أحد؛ ولقد يكون إلى جانبك الصانع أو الأجير أو الفقير أو الجاهل، وأنت الرئيس أو العظيم أو الغني أو العالم، فتنظر إليه وإلى نفسك فتحس كأن خواطرك متوضئة متطهرة؛ وترى كلمة الكبرياء قد فقدت روحها، وكلمة التواضع قد وجدت روحها؛ وتشعر بالنفس المجتمعة قد نصبت الحرب للنفس المنفردة. ولو خطر لك شيء بخلاف ذلك رأيت الفقير إلى جانبك توبيخاً لك، ونظرت إليه ساكتاً وهو يتكلم في قلبك، وشعرت بالله من فوقكما، واستعلنت لك روح المسجد كأنها تهم بطردك، وخيل إليك أن الأرض ستلطم وجهك إذا سجدت، وأيقنت من ذات نفسك أن لست هناك في دنياك وليس صاحبك في دنياه، وإنما أنتما هناك في انسانية ميزانها بيد الله وحده؛ فلا تدري أيكما الذي يخفّ وأيكما الذي يثقل.
قال: والعجيب أن هذا الذي لا يجهله أحد من أهل الدين، يعرفه بعض علماء الدين على وجه آخر، فتراه في المسجد يمشي مختالاً، قد تحلى بحليته، وتكلّف لزهوه، فلبس الجبة تسع اثنين، وتطاول كأنه المئذنة، وتصدّر كأنه القِبلة، وانتفخ كأنه ممتلئ بالفروق بينه وبين الناس؛ وهو بعد كل هذا لو كشف الله تمويههُ لانكشف عن تاجر علم بعضُ شروطه على الفضيلة أن يأكل بها، فلا يجد دنيا ذاته إلا في المسجد، فهو نوع من كذب العالم الديني على دينه.
قال الراوي: وصعد الخطيب المنبر، وفي يده سيفه الخشبيُّ يتوكأ عليه؛ فما استقر في الذروة حتى خُيل إليَّ أن الرجل قد دخل في سر هذه الخشبة، فهو يبدو كالمريض تقيمه عصاه، وكالهرم يمسكه ما يتوكأ عليه؛ ونظرت فإذا هو كذب صريح على الإسلام والمسلمين، كهيئة سيفه الخشبي في كذبها على السيوف ومعدنها وأعمالها.
وتالله ما أدري كيف يستحلُّ عالم من علماء الدين الإسلامي في هذا العصر أن يخطب المسلمين خطبة جمعتهم وفي يده هذا السيف علامة الذل والضّعة والتراجع والانقلاب والأدبار والهزل والسخرية والفضيحة والإضحاك؛ ومتى كان الإسلام يأمر بنجْر السيوف
من الخشب ونحتها وتسويتها وإرهاف حدها الذي لا يقطع شيئاً، ثم وضعها في أيدي العلماء يعتلون بها ذُؤابة كل منبر لتتعلق بها العيون وتشهد فيها الرمز والعلامة، وتستوحى منها المعنوية الدينية التي يجب أن تتجسّم لتُرى؟
أفي سيفٍ من الخشب معنوية غير معنى الهزل والسخافة وبلاهة العقل وذلة الحياة ومسخ التاريخ الفاتح المنتصر، والرمز لخضوع الكلمة وصبيانية الإرادة؟
قال: وكان تمام الهزء بهذا السيف الخشبي الذي صنعته وزارة أوقاف المسلمين أنه في طول صَمْصَامة عمرو بن معد يكرب الزبيدي فارس الجاهلية والإسلام فكان إلى صدر الخطيب، ولولا أنه في يده لظهر مقبضه في صدر الرجل كأنه وسام من الخشب. . .
قال: وكان الخطيب إذا تكلّف وتصنّع وظهر منه أنه قد حَمِيَ وثار ثائرة - ارتجّ وغفل عن يده فتضطرب فيها قبضة السيف فتلكزه في صدره كأنما تذكره أن في يده خشبة. . . لا تصلح لهذه الحماسة.
قال: وخطب العالم على الناس، وكان سيفه الخشبي يخطب خطبة أخرى؛ فأما الأولى فهي محفوظة معروفة ولا تنتهي حتى ينتهي أثرها إذ هي كالقراءة لإقامة الصلاة، وكانت في عهدها الأول كالدرس لإقامة شأن من شؤون الاجتماع والسياسة، فبينها وبين حقيقتها الإسلامية مثل ما بين هذا السيف من الخشب وبين حقيقته الأولى. وأما الخطبة الثانية فقد عقلتُها أنا عن تلك الخشبة وكتبتها وهذه هي عبارتها:
ويحكم أيها المسلمون! لو كنتُ بقية من خشب سفينة نوح التي أنقذ فيها الجنس البشري لما كان لكم أن تضعوني هذا الموضع، وما جعلكم الله حيث أنتم إلا بعد أن جعلتموني حيث أنا، تكاد شرارة تذهب بي وبكم معاً لأن فيَّ وفيكم المادة الخشبية والمادة المتخشبة.
ويحكم! لو أنه كان لخطيبكم شيء من الكلام الناري المضطرم لما بقيت الخشبة في يده خشبة. وكيف يمتلئ الرجل إيماناً بإيمانه، وكيف يصعد المنبر ليقول كلمة الدين من الحق الغالب وكلمة الحياة من الحق الواجب - وهو كما ترونه قد انتهى من الذل إلى أن فقد السيف روحه في يده؟
أيها المسلمون! لن تفلحوا وهذا خطيبكم المتكلم فيكم إلا إذا أفلحتم وأنا سيفكم المدافع عنكم؛ أيها المسلمون غيِّروه وغيروني.
قال راوي الخبر: ولما قُضِيتْ الصلاة ماج الناس إذ انبعث فيهم جماعة من الشبان يصيحون بهم يستوقفونهم ليخطبوهم. ثم قام أحدهم فخطب فذكر فلسطين وما نزل بها، وتغيّر أحوال أهلها، ونكبتهم وجهادهم واختلال أمرهم؛ ثم استنجد واستعان ودعا الموسر والمخِفّ إلى البذل والتبرع وإقراض الله تعالى؛ وتقدم أصحابه بصناديق مختومة فطافوا بها على الناس يجمعون فيها القليل والأقل من دراهم هي في هذه الحال دراهم أصحابها وضمائرهم
قال: وكان إلى جانبي رجل قروي من هؤلاء الفلاحين الذين تعرف الخير في وجوههم والصبر في أجسامهم والقناعة في نفوسهم والفضل في سجاياهم، إذ امتزجت بهم روح الطبيعة الخصبة فتخرج من أرضهم زُروعاً ومن أنفسهم زروعاً أخرى - فقال لرجل كان معه: إن هذا الخطيب خطيب المسجد قد غشنا وهؤلاء الشبان قد فضحوه، فما ينبغي أن تكون خطبة المسلمين إلا في أخص أحوال المسلمين.
قال: ونبهني هذا الرجل الساذج إلى معنى دقيق في حكمة هذه المنابر الإسلامية؛ فما يريد الإسلام إلا أن تكون كمحطات الإذاعة يلتقط كل منبر أخبار الجهات الأخرى ويذيعها في صيغة الخطاب إلى الروح والعقل والقلب، فتكون خطبة الجمعة هي الكلمة الأسبوعية في سياسة الأسبوع أو مسألة الأسبوع؛ وبهذا لا يجيء الكلام على المنابر إلا حياً بحياة الوقت فيصبح الخطيب ينتظره الناس في كل جمعة انتظار الشيء الجديد؛ ومن ثم يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل
قال: وخيل إلي بعد هذا المعنى أن كل خطيب في هذه المساجد ناقص إلى النصف لأن السياسة تُكرهه أن يخلع إسلاميته الواسعة قبل صعوده المنبر وألاَّ يصعد إلا في إسلاميته الضيقة المحدودة بحدود الوعظ الذي هو مع ذلك نصفُ وعظ. . . فالخطبة في الحقيقة نصف خطبة أو كأنها أثر خطبة معها أثر سيف. . .
قال: وأخرج القروي كيسه فعزَل منه دراهم وقال هذه لطعام أتبلّغ به ولأوبتي إلى البلد، ثم أفرغ الباقي في صناديق الجماعة؛ واقتديت أنا به فلم أخرج من المسجد حتى وضعت في صناديقهم كل ما معي؛ ولقد حسبت أنه لو بقي لي درهم واحد لمضى يسبني ما دام معي إلى أن يخرج عني
قال الراوي: ثم دخلت إلى ضريح صاحب المسجد أزوره وأقرأ فيه ما تيسر من القرآن فإذا هناك رجال من علماء المسلمين، إثنان أو ثلاثة (الشكُّ في ثالثهم لأنه حليق اللحية). ثم توافى إليهم آخرون فتموا سبعة؛ ورأيتهم قد خلطوا بأنفسهم صاحب (اللالحية) فعلمت أنه منهم على المذهب الشائع في بعض العصريين من العلماء والقضاة الشرعيين، أحسبهم يحتجون بقوله تعالى:(ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)؛ وكل امرئ فإنما تُبصره مرآته كيف يظهر في أحسن تقويم، أبلحية أم بلا لحية. . .؟
وأدرت عيني في وجوههم فإذا وقار وسّمْتٌ ونور لم أر منها شيئاً في وجه صاحب (اللالحية)؛ وأنا فما أبصرت قط لحية رجل عالم أو عابد أو فيلسوف أو شاعر أو كاتب أو ذي فن عظيم، إلا ذكرت هذا المعنى الشعريَّ البديع الذي ورد في بعض الأخبار من أن لله تعالى ملائكة يُقْسِمون: والذي زين بني آدم باللحى.
وكان من السبعة رجل ترك لحيته عافيةً على طبيعتها فامتدت وعظمت حتى نشرت حولها جواً روحانياً من الهيبة تشعر النفس الرقيقة بتياره على بُعد، فكان هذا أبلغ رد على ذاك
قال: وأنصت الشيوخ جميعاً إلى خطب الشبان، وكانت أصوات هؤلاء جافيةً صُلبة حتى كأنها صَخبُ معركة لا فنُّ خطابة، وعلى قدر ضعف المعنى في كلامهم قوي الصوت؛ فهم يصرخون كما يصرخ المستغيث في صيحات هاربة بين السماء والأرض
فقال أحد الشيوخ الفضلاء: لا حول ولا قوة إلا بالله! جاء في الخبر: تَعِس عبدُ الدينار، تَعِس عبدُ الدرهم، ووالله ما تعس المسلمون إلا منذ تعبدوا لهذين حرصاً وشحاً؛ (ومن يوق شُحّ نفسه فأولئك هم المفلحون)، ولو تعارفت أموال المسلمين في الحوادث لما أنكرتهم الحوادث
فقال آخر: وفي الحديث: (إن الله يحب إغاثة اللهفان) ولكن ما بال هؤلاء الشبان لا يوردون في خطبهم أحاديث مع أنها هي كلمات القلوب. فلو أنهم شرحوا للعامة هذا الحديث: (إن الله يحب إغاثة اللهفان) لأسرع العامة إلى ما يحبه الله
قال الثالث: ولكن جاءنا الأثر في وصف هذه الأمة: إنها في أول الزمان يتعلم صغارها من كبارها فإذا كان آخر الزمان تعلم كبارهم من صغارهم؛ فنحن في آخر الزمان وقد سلط الصغار على الكبار يريدون أن ينقلوهم عن طباعهم إلى صبيانية جديدة
قال الراوي: فقلت لصديق معي: قل لهذا الشيخ ليس معنى الأثر ما فهمت، بل تأويله أن آخر الزمان سيكون لهذه الأمة زمن جهاد واقتحام وعزيمة ومغالبة على استقلال الحياة فلا يصلح لوقاية الأمة إلا شبابها المتعلم القوي الجريء كما نرى في أيامنا هذه فينزلون من الكبار تلك المنزلة إذ تكون الحماسة متممة لقوة العلم. وفي الحديث: أمتي كالمطر لا يٌدرى أوله خير أم آخره.
قال الراوي: ولم يكد الصديق يحفظ عني هذا الكلام ويهم بتبليغه حتى وقعت الصيحة في المكان فجاء أحد الخطباء ووقف يفعل ما يفعله الرعد، لا يكرر إلا زمجرة واحدة. وكان الشيوخ الأجلاء قد سمعوا كل ما قيل فأطرقوا يسمعونه مرة رابعة أو خامسة. وفرغ الشاب من هديره فتحول إليهم وجلس بين أيديهم متأدباً متخشعاً ووضع الصندوق المختوم
فقال أحد الشيوخ: ممن أنت يا بني؟ قال: من جماعة الأخوان المسلمين. قال الشيخ. لم يخف علينا مكانك وقد بذلتم ما استطعتم فبارك الله فيك وفي أصحابك
وسكت الشاب وسكت الشيوخ وسكت الصندوق أيضاً ثم تحركت النفس بوحي الحالة فمد أولهم يده إلى جيبه، ثم دسها فيه! ثم عيّثَ فيه قليلاً؛ ثم. . . ثم أخرج الساعة ينظر فيها
وانتقلت العدوى إلى الباقين فأخرج أحدهم منديله يتمخط فيه. وظهرت في يد الثالث سبحة طويلة. وأخرج الرابع سواكا فمر به على أسنانه. وجرَّ الخامس كراسة كانت في قبائه. ومد صاحب اللحية العريضة أصابعه إلى لحيته يخللها. أما السابع صاحب (اللالحية) فثبتت يده في جيبه ولم تخرج كأن فيها شيئاً يستحي إذا هو أظهره أو يخشى إذا هو أظهره من تخجيل الجماعة
وسكت الشاب وسكت الشيوخ وسكت الصندوق أيضاً
قال الراوي: ونظرت فإذا وجوههم قد لبست للشاب هيئة المدرس الذي يقرر لتلميذه قاعدة قررها من قبل ألف مرة لألف تلميذ. فخجل الشاب وحمل صندوقه ومضى
أقول أنا: فلما انتهى الراوي من (قصة الأيدي المتوضئة)، قلت له: لعلك أيها الراوي استيقظت من الحلم قبل أن يملأ الشيوخ الأجلاء هذا الصندوق، وما ختم عقلك هذه الرواية بهذا الفصل إلا بما كددت فيه ذهنك من فلسفة تحول السيف إلى خشبة. ولو قد امتد بك النوم لسمعت أحدهم يقول لسائرهم: بمن ينهض إخواننا المجاهدون وبمن يصولون؟ لهذا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جاهل سخيّ أحب إلى الله من عالم بخيل)؛ ثم يملئون الصندوق. . . . . . . . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
نجتمع الليلة - أيها السادة - لنناجي القلب ونحادث الروح. ومناجاة القلب طهرة لمن شاء أن يتطهر، وصفاء لمن أراد التبرؤ من الرجس والدنس. ومحادثة الروح عروج إلى سماء النور والملائكة، وصعود إلى عالم الفيض والإلهام. نجتمع الليلة لنهجر الأجسام زمناً ونفرغ إلى نفوسنا حيناً. والجسم والنفس كانا ولا يزالان في صراع دائم ومعركة مستمرة، يقدر فيها لأحدهما الفوز تارة وللآخر أخرى. وقد يبدو غريباً أن نتحدث عن فيض وإلهام وروح ونفس في عصرنا الحاضر الذي طغت فيه المادة على كل شيء، فأصبحنا لا نؤمن إلا بكل مشاهد، ولا نسلم إلا بكل مرئي. بيد أنا حتى في هذا العصر المادي نشعر بحاجة ماسة إلى كشف ما غاب عن أبصارنا وانطوت عليه نفوسنا، ونركن كثيراً إلى ما تمليه ضمائرنا. وما دام فينا قلب يخفق وعاطفة تتأجج، فإنا لا نستطيع إنكار لغة القلوب والأرواح؛ وإذا تتبعنا المذاهب الفلسفية على اختلافها وجدنا أنه لم يخل واحد منها من نزعة صوفية. وها هو ذا أرسطو الذي كان واقعياً في بحثه وطريقته، ورجل مشاهدة وتجربة في ملاحظاته واستنباطاته، قد انتهى به الأمر إلى أن بنى دراسته النفسية على شيء من الفيض والإلهام، ووضع في قمة الأخلاق فضائله العقلية التي هي أسمى درجة من درجات التأمل والمشاهدة الصوفية
حقاً إن الإدراكات الروحية والإلهامات القلبية قد تكون غير يقينية، أو قد يعز على الأقل إثباتها ببراهين قطعية يتقبلها الآخرون؛ إلا أنها مبعث طمأنينة وهدوء وسكون؛ ذلك لأنها معرفة شخصية مباشرة؛ والكلام إذا خرج من القلب وصل إلى القلب. وكم يجهد الإنسان نفسه في صوغ الأقيسة وإقامة البراهين لإثبات أمر ما دون أن ينعم بالهدوء والسكون اللذين يحس بهما حين يناجيه قلبه وتخاطبه روحه. وقديماً مر الغزالي بمراحل من البحث والنظر، واشتغل بدراسات كثيرة، ولكن لم تطب نفسه إلا للمعرفة الصوفية تفيض عليه فيضاً ويلهمها إلهاماً. وحديثاً شك ديكارت في كل شيء، اللهم إلا في نفسه وتفكيره. ولما انتهى إلى هذه الحقيقة الثابتة كانت أساس اليقين في رأيه ونقطة البدء لكل فلسفته. وهناك فلسفات قامت بأسرها على المناجاة الروحية والاتصال بالله؛ فأفلوطين في مدرسة
الإسكندرية يرى أن الجذب والفيض هما السعادة التي ليست وراءها سعادة؛ وقد جد شخصياً في تحقيقهما طول حياته، ولم يحظ بهما إلا بضع مرات. ومالبرنش في القرن السابع عشر يقول باتصال مستمر بين العبد وربه. فمعرفتنا ليست إلا فيضاً من الله، وما يبدو منا من عمل خارجي ليس إلا ظروفا ومناسبات لتحقيق إرادة الله، وبهذا يتلاشى المخلوق في الخالق، ويندمج الأثر في المؤثر.
لسنا نحاول هنا التحدث عن التصوف في جملته، ولا التعرض لمختلف مظاهره وأدواره منذ نشأته، وإنما نريد فقط أن نفصل القول في نزعة صوفية سادت الفلسفة الإسلامية؛ فنتبين كيف تكونت وشبت ونشأت، ونشرح الأصول التي صدرت عنها، والعوامل التي أثرت فيها، ونحدد مدلولها ومرماها. وإذا ما تم لنا هذا استطعنا أن نوضح آثارها ونتائجها. فحديث القلب والروح الذي نحن بصدده مقصور على ما جاء به الفلاسفة المسلمون، ووقف على الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية. وما كان أجدرنا في بحث كهذا أن نستعمل لغة خاصة وأسلوباً خاصاً، بل وأن نلجأ إلى مكان خاص، فان لغة العقل تعجز أحياناً عن التعبير في دقة عما يكنه القلب، وأسلوبنا المشوب بشوائب مادية قد لا يجد السبيل إلى وصف الإلهامات النفسية، والأرواح التي تسبح في عالم النور تعز مناجاتها في حيز المادة والجسم المحدود. وعلّ الصوفية مصيبون في التزيي بزي خاص، كي يتفق ظاهرهم مع باطنهم، وفي اتخاذ لغة معينة تفصلهم عمن سواهم؛ غير أن هذه اللغة زادت آراءهم تعقيداً، وكست نظرياتهم بثوب كثيف من الغموض والإبهام. وسنجتهد في أن نجلي غامضها، وأن نقربها ما استطعنا من العرف المألوف.
عني الباحثون من قديم بدراسة التصوف الإسلامي في جملته مدفوعين غالباً بما في الموضع من طرافة، ومحاولين أن يكشفوا ما احتواه الإسلام والشرق من حقائق وأسرار. ويغلب على الظن أن الأبحاث الصوفية أول موضوع استلفت أنظار المستشرقين؛ ولا تزال هذه الأبحاث محل عنايتهم حتى اليوم؛ ومؤلفاتهم فيها تزيد كثيراً على ما كتبوه في الدراسات الإسلامية الأخرى. ولا غرابة فالغرب متعطش دائماً إلى تعرف صوفية الشرق. وكأن هذا الأخير وهو مصدر النور والضوء أبى إلا أن يكون في الوقت نفسه مقر القوى الخفية والأسرار الغامضة. ودون أن نعرض لكل من اشتغلوا بموضوع التصوف من كبار
المستشرقين نكتفي بأن نشير إلى رجال القرن العشرين، ونخص بالذكر منهم جولد زيهير النمسوي الذي عقد للتصوف فصلاً ممتعاً في كتابه (عقيدة الإسلام وقانونه) بجانب أبحاث أخرى قيمة؛ والأستاذ مكدونلد الأمريكي الذي وضح كثيراً من آراء الغزالي الصوفية، والأستاذ نكلسون المدرس بجامعة كمبردج، والأستاذ ماسنيون المدرس بكليج دي فرنس، والدكتور محمد إقبال العالم الهندي المشهور؛ وعلى رأس هؤلاء جميعاً أن نضع نكلسون وماسنيون، فانه يرجع إلى الأول الفضل في نشر كثير من مخلفات الصوفية القيمة والتعريف عنها؛ أما أستاذنا ماسنيون فقد رسم في التصوف طرائق جديدة، وقدم لنا الحلاج صورة غنية بالألوان والمعاني الدقيقة في كتاب يعد أوسع مؤلف في تاريخ التصوف الإسلامي.
غير أن آراء فلاسفة الإسلام الصوفية لم تدرس بعد ولم توجه إليها العناية التي تستحقها. حقاً إن مهرن المستشرق الدنمركي، تنبه إلى بعض مؤلفات ابن سينا الصوفية، وقام بنشرها وترجمتها. كما أن البارون كارادي فو لمح لدى الفارابي نزعة صوفية واضحة. إلا أن هذه الأبحاث ناقصة وغير ناضجة. وعلى هذا لا زلنا نجهل أفكار فلاسفة الإسلام الصوفية كما نجهل نظرياتهم الفلسفية بالمعنى الدقيق. وكل ما نرجوه أن نكشف الغطاء عن هذه الناحية وأن نوجه الأنظار إليها.
إذا شئنا أن نعرف أقدم صورة للأفكار الصوفية عند فلاسفة الإسلام، وجب علينا أن نصعد إلى أبي نصر الفارابي. فانه أول من صاغ الفلسفة الإسلامية في ثوبها الكامل ووضع أصولها ومبادئها. نحن لا ننكر أن الكندي تنبه قبله إلى دراسة أفلاطون وأرسطو وعرض لبعض نظرياتهما بالشرح والاختصار؛ ولكنا لا نجد لديه مذهباً فلسفياً كاملاً بكل معاني الكلمة، بل هي نظرات متفرقة ومتعلقة بمواضيع مختلفة لا رابطة بينها. أما الفارابي فقد لم هذا الشعث وأقام دعائم مذهب فلسفي متصل الحلقات. ومن أهم أجزاء هذا المذهب وعلى قمة هذا البناء نرى نظرية صوفية امتازت بها الفلسفة الإسلامية من كثير من الفلسفات الأخرى. فالتصوف إذن قطعة من مذهب الفارابي الفلسفي لا ظاهرة عرضية كما يزعم كارادي فو. ولا أدل على هذا من أن هناك رباطاً وثيقاً يربطه بالنظريات الفارابية الأخرى نفسية كانت أو أخلاقية أو سياسية. وقد أثر هذا التصوف تأثيراً عميقاً فيمن جاء بعد من
فلاسفة الإسلام.
لعل أخص خصائص النظرية الصوفية التي قال بها الفارابي أنها قائمة على أساس عقلي. فليس تصوفه بالتصوف الروحي البحت الذي يقوم على محاربة الجسم والبعد عن اللذائذ لتطهر النفس وترقى مدارج الكمال، بل هو تصوف نظري يعتمد على الدراسة والتأمل. وطهارة النفس في رأيه لا تقصد عن طريق الجسم والأعمال البدنية فحسب، بل عن طريق العقل والأعمال الفكرية أولاً وبالذات. هناك فضائل عملية جسيمة ولكنها لا تذكر في شيء بجانب الفضائل العقلية النظرية، ولئن كانت الأعمال الحسنة والخلال الحميدة بعض الخير، فالخير كل الخير في مسألة نتدارسها وحقيقة نكشفها ومعرفة تتهذب بها نفوسنا وتسمو عقولنا. وذلك أن العقل البشري سالكاً سبيل رقيه وتطوره يمر بمراحل متدرجة بعضها فوق بعض. فهو في أول أمره عقل بالقوة، فإذا ما أدرك قدراً كبيراً من المعلومات العامة والحقائق الكلية أصبح عقلاً بالفعل. وقد يتسع مدى نظره، ويحيط بأغلب الكليات فيرقى إلى أسمى درجة يصل إليها الإنسان وهي درجة العقل المستفاد أو درجة الفيض والإلهام. وعلّ في هذا ما يبين كيف اتصل التصوف عند الفارابي بعلم النفس، ونظرية المعرفة.
ولن يقف الأمر عند هذا الحد، بل التصوف الفارابي متين الصلة بالنظريات الفلكية والميتافيزيقية، فان الفارابي يتخيل نظاما فلكياً أساسه أن في كل سماء قوة روحية أو عقلاً مفارقاً يشرف على حركتها ومختلف شؤونها، وآخر هذه القوى وهو العقل العاشر موكل بالسماء الدنيا والعالم الأرضي، فهو نقطة اتصال بين العالمين العلوي والسفلي، وكلما اتسعت معلومات المرء اقترب من العالم العلوي ودنت روحه من مستوى العقول المفارقة، فإذا وصل إلى درجة العقل المستفاد أصبح أهلاً لتقبل الأنوار الإلهية وأضحى على اتصال مباشر بالعقل العاشر. فبالعلم والعلم وحده يمكننا أن نربط السماوي بالأرضي والإلهي بالبشري والملائكي بالإنساني، وأن نصل إلى أعظم سعادة ممكنة. والمعرفة النظرية الميتافيزيقية هي أسمى غاية ينشدها العقل الإنساني. وإذا ما انتهينا إلى هذه المرتبة تحررت نفوسنا بتاتاً من كل ما هو مادي وجسمي والتحقت بالكائنات العقلية واطمأنت إلى حالها هذه راجية أن تبقى فيها إلى النهاية
هذه هي السعادة التي تنحو نحوها الفلسفة والأخلاق ويوصب إليها النظر والعمل ويسعى
إليها الإنسان بدراسته وسلوكه، هي الخير المطلق وغاية الغايات ومنتهى الرفعة الإنسانية وجنة الواصلين، يقول الفارابي:(والسعادة هي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود بحيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة، وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام، وفي جملة الجواهر المفارقة للمواد، وأن تبقى على تلك الحال دائماً أبداً، إلا أن رتبتها تكون دون رتبة العقل الفعال، وإنما تبلغ ذلك بأفعال إرادية، بعضها أفعال فكرية وبعضها أفعال بدنية، وليست بأي أفعال اتفقت، بل بأفعال محدودة مقدرة تحصل عن هيئات ما وملكات ما مقدرة محدودة. وذلك أن من الأفعال الإرادية ما يعوق عن السعادة، والسعادة هي الخير المطلوب لذاته، وليست تطلب أصلاً ولا في وقت من الأوقات لينال بها شيء آخر؛ وليس وراءها شيء آخر أعظم منها يمكن أن يناله الإنسان. والأفعال الإرادية التي تنفع في بلوغ السعادة هي الأفعال الجميلة. والهيئات والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي الفضائل؛ وهذه ليست خيراً لذاتها، بل لما تجلب من سعادة. والأفعال التي تعوق عن السعادة هي الشرور والأفعال القبيحة. والهيئات والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي النقائص والرذائل والخسائس).
(يتبع)
إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة في كلية الآداب
تطور العقلية الإسبانية في تقدير تراث الأندلس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في أوائل سنة 1929، احتفلت جامعة غرناطة بذكرى الخلافة الأندلسية لمناسبة مضي ألف عام على قيامها فكان أول حادث رسمي من نوعه ينم عن تطور عميق في تقدير إسبانيا النصرانية لتراث الأندلس المسلمة
وتاريخ الإسلام في الأندلس مرحلة باهرة في تاريخ إسبانيا القومي، بل أعظم مراحله وأسطعها، فقد لبث العرب في إسبانيا زهاء ثمانية قرون أنشئوا فيها أعظم حضارة عرفت في العصور الوسطى، وكانت وحدها مدى هذه العصور مورد النور والعرفان لأمم الشمال؛ وأخرج المسلمون من إسبانيا بعد أحقاب من الكفاح المتواصل، فتركوا في إسبانيا طابعهم الخالد؛ وما زالت آثارهم الباقية تشهد بعظمة عصرهم وحضارتهم، وما زالت الحياة الاجتماعية الإسبانية تنم في كثير من نواحيها عن تأثير العرب ورسومهم وتقاليدهم.
ولكن إسبانيا النصرانية لم تقنع بسحق الأندلس المسلمة، واستعادة آخر بقعة للإسلام في إسبانيا، بل رأت غداة ظفرها أن تطارد الإسلام بكل ما وسعت، وأن تمحو كل رسومه وآثاره من صفحة حياتها، وأن تدفن ذلك الماضي المجيد إلى الأبد، وأن تعتبره محنة قومية نزلت بها، وأن تمحوه من صحف تاريخها القومي؛ وتأثر التفكير الإسباني بأهواء السياسة المتعصبة، فأشبع بهذه الروح المجحفة؛ ولبث الأدب الإسباني عصورا يشيع بلعناته المتواصلة عصر الإسلام وتراثه، وكل ذكرياته؛ ولم ينج التاريخ من هذه النزعة المغرضة، فطغى التعصب على المرحلة الإسلامية من تاريخ إسبانيا القومي؛ وكتب المؤرخون الأسبان تاريخ العرب في إسبانيا بروح عميق من التحامل، وجعلوا جل اعتمادهم على الروايات النصرانية القديمة التي تفيض بمختلف الأكاذيب والتهم، ولم يفكروا في مراجعة المصادر الإسلامية والانتفاع بها؛ ذلك أن إسبانيا النصرانية أصدرت منذ غداة ظفرها حكمها على المغلوب، ولم ترد بعد ذلك أن تسمع صوتاً للأندلس الذاهبة، أو أن تراجع ذلك التراث الذي تعتبره رجساً، وترى فيه عنوان عصور مشئومة، مليئة بالمحن القومية.
وبهذه الروح كتب أكابر المؤرخون الأسبان تاريخ إسبانيا، فكتب ماريانا في عصر شارلكان تاريخ إسبانيا العام، وخصص منه مجلدين كبيرين لتاريخ الأندلس، ولكنه كان
متحيزاً متحاملاً يغدق المطاعن والتهم على العرب وعصور الإسلام؛ وحذا حذوه من جاء بعده من المؤرخين؛ وطبعت مؤلفاتهم جميعاً بهذا الطابع المغرض؛ وكانت السياسة الإسبانية تحرص دائماً على حجب آثار العصر الإسلامي، وتخفيها عن كل باحث ومتطلع، كأنما كانت تخشى أن تؤثر روح التفكير الإسلامي في تفكير إسبانيا النصرانية، وهي لم تدخر وسعاً في مطاردة هذا الروح وقتله؛ ولبثت الآثار الإسلامية عصوراً مقبورة في أقبية الأسكوريال المظلمة، وكانت حتى أواخر القرن السابع عشر تبلغ زهاء عشرة آلاف مجلد جمع معظمها أيام سقوط غرناطة، وضمت إليها بعد ذلك نحو ثلاثة آلاف مجلد كانت للسلطان زيدان السعدي ملك مراكش؛ وكانت مشحونة في مركب مغربي لتنقل إلى بعض ثغور المغرب خوفاً على ضياعها أثناء الفتنة، فأسرتها بعض المراكب الإسبانية وحملت شحنتها إلى إسبانيا؛ وفي أواخر القرن السابع عشر أصابت هذه البقية الباقية من تراث الأندلس محنة أليمة، إذ شبت النار في الأسكوريال والتهمت معظم هذا الكنز الفريد، ولم ينقذ منه سوى ألفين. عندئذ استفاقت الحكومة الإسبانية من سباتها؛ وحررت ذهنها بعض الشيء من ذلك التعصب العميق الذي صرفها عصوراً طويلة عن العناية بهذا التراث، واستدعت من رومة حبرا شرقياً وعلامة لغوياً كبيراً هو ميشيل الغزيري اللبناني الذي يعرف في الغرب باسم (كازيري) وعهدت إليه بدرس الآثار العربية ووضع فهرس جامع لها؛ فلبث الغزيري أعواماً طويلة يدرس وينقب في تلك المخطوطات حتى أتم المهمة، وأخرج في سنة 1760 باللاتينية فهرسة الجامع بعنوان (المكتبة العربية الإسبانية في الأسكوريال) - وصدر كازيري معجمه بمقدمة طويلة شرح فيها قيمة المخطوطات العربية وأهميتها، ونقل في فهرسه نبذاً كثيرة من بعض الآثار الهامة؛ فأثار ظهور هذا الفهرس الجامع لأول مرة اهتماماً كبيراً في دوائر البحث والتفكير، ولفت نظر المؤرخين الأسبان إلى تلك الناحية الهامة من تاريخ إسبانيا القومي، وإلى تلك المراجع النفيسة التي تلقي أعظم ضوء على تاريخ الأندلس وأحوال المجتمع الإسلامي؛ وعني طائفة من الباحثين في أواخر القرن الثامن عشر مثل أندريس وماسدي ببحث المصادر العربية والانتفاع بها، والاقتباس منها؛ وأخرج أندريس كتابه عن (أصول الأدب) وأخرج ماسدي مؤلفه الجامع عن تاريخ إسبانيا والحضارة الإسبانية وفيه نبذ شائقة عن المجتمع
الإسلامي ونواحي التفكير الإسلامية مستمدة من المراجع العربية؛ وهكذا بدأ تطور الروح الإسبانية في تقدير التراث الإسلامي، وظهر صوت الأندلس المسلمة لأول مرة في التواريخ العامة والخاصة.
على أن هذا التطور المحمود من التحامل والتعصب إلى جانب الروية والإنصاف لم يقف عند هذا الحد، ففي أوائل القرن التاسع عشر عمد المؤرخ يوسف كوندي أمين مكتبة أكاديمية مدريد إلى دراسة المراجع العربية في الأسكوريال دراسة مستفيضة ورأى أن يكتب تاريخ أسبانيا المسلمة بصورة جديدة هي الصورة التي تقدمها إلينا المراجع العربية، أو بعبارة أخرى رأى أن يكتب تاريخ الأندلس كما يعرضه تراثها العربي، وكانت نتيجة هذه الدراسة كتابه الشهير (تاريخ دولة العرب في أسبانيا) الذي صدر الجزء الأول منه سنة 1810؛ وتوفى كوندي في نفس العام، فنشر الجزءان الباقيان من مخطوطاته في العام التالي؛ وليس مؤلف كوندي قوياً من الناحية النقدية، لأن مؤلفه ينقل مختلف الروايات العربية دون تمحيص، ولأنه يقع في كثير من الأخطاء التاريخية التي ترجع في الغالب إلى عدم الدقة في النقل؛ ومع ذلك فانه يمتاز بالصراحة الجمة حتى أن كوندي يذهب في كثير من المواطن إلى إصدار أشد الأحكام على أمته ومواطنيه خصوصاً في الحوادث التي اقترنت بسقوط غرناطة، واضطهاد الأسبان للعرب ومطاردتهم وإرغامهم على التنصير، ثم إخراجهم بعد ذلك من أوطان آبائهم وأجدادهم في غمر من الفظائع والدماء؛ وأهمية مؤلف كوندي في أنه يعرض للغرب لأول مرة أقوال الرواية العربية مستمدة من مصادرها الأصيلة، ومنها تعرف وجهة النظر الأندلسية في كثير من الحوادث والشؤون.
وكان صدور مؤلف كوندي حادثاً فريداً في كتابة التاريخ الأسباني، وكان أول مؤلف من نوعه يسجل كلمة الأندلس في المرحلة التي قطعتها من تاريخ إسبانيا القومي. ويسجل في نفس الوقت بدء عهد جديد من حرية البحث والتقدير؛ ومن الغريب أن كتاب كوندي صدر في نفس الوقت الذي صدر فيه أثر تاريخي آخر كان لصدوره أعظم وقع في إسبانيا وفي أوربا، وهو كتاب الدون انتوينو لورنتي عن تاريخ محاكم التحقيق (التفتيش) الأسبانية، وعن نظمها وإجراءاتها الدموية، وفيه يورد مؤلفه طائفة عظيمة من الوثائق الرسمية التي
تكشف عن فظائع هذه المحاكم الشائنة، وخصوصاً في مطاردتها للعرب والعرب المتنصرين، ويورد في نفس الوقت طائفة كبيرة من القضايا والمحاكمات الخاصة بالعرب المتنصرين مستمدة من وثائقها الأصلية؛ وكان كتاب لورنتي فتحاً جديداً في هذه الناحية من تاريخ العرب المتنصرين. وكان لصدوره وقع عظيم في أوربا، خصوصاً وأن مؤلفه من أكابر رجال الدين والكنيسة، وقد لبث أعواماً طويلة سكرتيراً عاماً لديوان التحقيق (التفتيش) واستطاع أن يستخرج وثائقه من محفوظات الديوان الرسمية ذاتها
وفي أواسط القرن التاسع عشر عنى العلامة المستشرق الأسباني دون باسكوال دي جاينجوس بدراسة المصادر العربية في تاريخ الأندلس، وقام بترجمة القسم الأول من كتاب (نفح الطيب) للمقري إلى الإنكليزية مع بعض التصرف وسماه (تاريخ الدول الإسلامية في إسبانيا) وظهرت هذه الترجمة في لندن سنة 1840 في مجلدين كبيرين مقرونة بملاحظات ومقارنات نقدية قيمة؛ ولم تمض أعوام قلائل على ذلك حتى صدرت في ليدن ترجمة فرنسية لهذا القسم الأول من كتاب المقري بقلم المستشرقين دوزي ودوجا تحت عنوان (مختارات في تاريخ وآداب العرب في إسبانيا) ' ' ' (سنة 1855 - 1861)
وهكذا وقفت إسبانيا، ووقف الغرب، بعد عصور طويلة من النسيان والتحامل على وجهة النظر الإسلامية في التاريخ الأندلسي، وسقط ذلك الحجاب الكثيف الذي ضربته السياسة الأسبانية مدى ثلاثة قرون على تراث الأندلس وآدابها، وتطورت فكرة التاريخ الأسباني ومادته، وأدرك المؤرخون المحدثون أهمية المرحلة الإسلامية في تاريخ إسبانيا القومي، وعدلوا كثيراً من الآراء والأحكام المجحفة التي أصدرها المؤرخون القدماء نزولاً على مؤثرات الجهل والتعصب القومي والديني والسياسي.
ونرى في أواخر القرن التاسع عشر جماعة من أعلام المستشرقين الأسبان يبذلون جهداً عظيما في نشر مجموعة كبيرة من المصادر الأندلسية الجليلة التي تحتويها أروقة الأسكوريال، باسم المكتبة الأندلسية، وهي مجموعة نفيسة في عشرة مجلدات، تحتوي على عدة كتب لابن بشكوال، وابن الآبار، والضبي، وابن الفرضي، وأبو بكر الاشبيلي، وتعليقات وفهارس مفيدة. وقد ظهرت المجموعة بين سنتي 1885 و 1894 في مدريد
وسرقسطة، وكان الجهد الذي بذل في إخراجها تحية جديدة من إسبانيا الجديدة لتراث العرب والإسلام في الأندلس.
وأخيراً توجت تلك الجهود الحرة الموفقة لبحث الصلات والعلائق القومية بروح الإنصاف والنزاهة، بقيام جامعة غرناطة بالاحتفال بالذكرى الألفية للخلافة الأندلسية وعصرها الباهر، وهي خطوة كان لها أعظم وقع في إسبانيا وفي العالم الإسلامي.
وهكذا يتبوأ تاريخ الأندلس وتراث الإسلام في إسبانيا مكانته الحقة في التاريخ القومي، وفي الآداب التاريخية الغربية، بعد عصور طويلة من التعصب والتحامل والنسيان.
محمد عبد الله عنان
بين عالمين
نظام الطلاق في الإسلام
للأستاذ أحمد محمد شاكر
منذ بضعة أشهر أخرجت كتابي (نظام الطلاق في الإسلام) فتقبله العلماء الأعلام في مصر وفي سائر الأقطار بقبول حسن والحمد لله، وأكثروا من الثناء عليه وعلى مؤلفه، وجاءتني كتب متواترة من كبار علماء الإسلام في الحجاز والهند والعراق والشام وغيرها، ومن كبار المستشرقين في أقطار أخرى، ولا أراني أهلاً لكل ما أثنوا به عليّ، وإنما هو حسن الظن منهم، وقد أعجزني أن أوفيهم حقهم من الشكر على هذا الفضل الجمّ، وأسأل الله أن يجزل لهم المثوبة على فضلهم
وفي بعض ما جاءني من الكتب أبحاث قيمة من النقد العالي المبني على الحجة والبرهان، مما يصلح أن يكون مثالاً يحتذى للباحثين المجتهدين، في دقة النظر، وعلو الفكر، وأدب القول، والتسامي عن العصبية والهوى، والتزام ما ينصره الدليل الصحيح؛ وهي الخصال التي نرجو أن يسير على نهجها كل عالم مفيد، وكل طالب مستفيد، وخصوصاً في علوم الدين. وهي الخصال التي جاهد أسلافنا في سبيل حمل الناس على الأخذ بها واتباعها، ثم تبعناهم من بعدهم، فجاهد أخواني وجاهدت معهم في سبيل ذلك جهاداً كثيراً، منذ نيف وعشرين سنة، ولا نزال - والحمد لله - نسير على هذا النهج القويم، والصراط المستقيم.
ومما يجب عليّ، إحقاقاً للحق، واتباعاً لسبيل الهدى، أن أفكر فيما ورد على كتابي من اعتراض ونقد، وأُعيد النظر فيما اخترتُ ورأيتُ، وأكشف عن حجة خصمي وعن حجتي، لي وللناظرين: فأما انتصر قول خصمي ورجعتُ عن قولي، وإما انتصرتُ لقولي وزدته بياناً وتأييداً، لا أبالي أي ذينك كان، وإنما أنا طالب علم، فأي قول أو رأي نصره عندي الدليل فأنه العلم الذي أطلبه وأسعى إليه، لا ابغي به بدلاً.
ولذلك رأيت أن أنشر في (الرسالة) الغراء - مجلة الآداب الرفيعة والثقافة العالية - ما أراه جديراً بالنشر مما جاءني من نقد واعتراض، وأساجل كاتبيه البحث، أملاً في أن يشترك معنا كثير من العلماء الأعلام في هذا المجال، علنا نصل إلى الحقيقة فيما كان موضع اختلاف ونظر. وقديماً قال الناس: الحقيقة بنت البحث.
ومن أشرف ما وصل إليّ وأعلاه: كتاب كريم من صديقي الكبير وأستاذي الجليل، شيخ الشريعة، وإمام مجتهدي الشيعة، بالنجف الأشرف، العلامة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء؛ فقد تفضل - حفظه الله - بمناقشة رأيي في مسألة من مسائل الكتاب، وهي (مسألة اشتراط الشهود في صحة مراجعة الرجل مطلقته)، فإنني ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق، وإنه إذا حصل الطلاق في غير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقاً ولم يعتدّ به. وهذا القول وإن كان مخالفاً للمذاهب الأربعة المعروفة إلا أنه يؤيده الدليل، ويوافق مذهب الأئمة أهل البيت والشيعة الإمامية. وذهبت أيضاً إلى اشتراط حضور شاهدين حين المراجعة، وهو يوافق أحد قولين للإمام الشافعي، ويخالف مذهب أهل البيت والشيعة. واستغربت من قولهم أن يفرقوا بينهما، والدليل واحد فيهما، فرأى الأستاذ - بارك الله فيه - أن يشرح لي وجهة نظرهم في التفريق بينهما فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم. وله الحمد والمجد
من النجف الأشرف 8 صفر سنة 1355 إلى مصر
لفضيلة الأستاذ العلامة المتبحر النبيل الشيخ أحمد محمد شاكر المحترم أيده الله
سلامة لك وسلام عليك. وصلتني هديتك الثمينة رسالة (نظام الطلاق في الإسلام)، فأنعمت النظر فيها مرة بل مرتين إعجاباً وتقديراً لما حوته من غور النظر، ودقة البحث، وحرية الفكر، وإصابة هدف الحق والصواب. وقد استخرجت لباب الأحاديث الشريفة، وأزحت عن محيا الشريعة الوضاءة أغشية الأوهام، وحطمت قيود التقاليد القديمة وهياكل الجمود بالأدلة القاطعة، والبراهين الدامغة. فحياك الله، وحيا ذهنك الوقاد، وفضلك الجمّ
وأمهات مباحث الرسالة ثلاث: (1) طلاق الثلاث (2) الحلف بالطلاق والعتاق (3) الإشهاد على الطلاق
وكل واحدة من هذه المسائل الثلاث قد وفيتها حقها من البحث، وفتحت فيها باب الاجتهاد الصحيح على قواعد الفن ومدارك الاستنباط القويم من الكتاب والسنة. فانتهى بك السير على تلك المناهج القويمة إلى مصاص الصواب، وروح الحقيقة، وجوهر الحكم الإلهي، وفرض الشريعة الإسلامية.
وقد وافقت آراؤك السديدة في تلك المسائل ما اتفقت عليه الإمامية من صدر الإسلام إلى
اليوم، لم يختلف فيها منهم اثنان، حتى أصبحت عندهم من الضروريات، كما اتفقوا على عدم وجوب الإشهاد في الرجعة، مع اتفاقهم على لزومه في الطلاق، بل الطلاق باطل عندهم بدونه
وقد ترجح عندك قول من يقول بوجوب الإشهاد فيهما معاً. فقلت في صفحة (120) ما نصه: (وذهبت الشيعة إلى وجوب الإشهاد في الطلاق وأنه ركن من أركانه، كما في كتاب شرائع الإسلام. . . ولم يوجبوه في الرجعة. والتفريق بينهما غريب ولا دليل عليه) انتهى
وفي كلامك هذا (أيدك الله) نظر أستمحيك السماح في بيانه، وهو أن من الغريب حسب قواعد الفن مطالبة النافي بالدليل والأصل معه! وإنما يحتاج المثبت إلى الدليل. ولعلك (ثبتك الله) تقول قد قام الدليل عليه، وهو ظاهر الآية، بناءً على ما ذكرته في صفحة (118) حيث تقول:(والظاهر من سياق الآيتين أن قوله: (وأشهدوا) راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معاً) إلى آخر ما ذكرت، وكأنك (أنار الله برهانك) لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة، كما هي عادتك من الإمعان في غير هذا المقام، وألا لما كان يخفى عليك أن السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه، حتى إنها قد سميت بسورة الطلاق، وأبتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى:(إذا طلقتم النساء) ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدة، أي لا يكون في ظهر المواقعة ولا في الحيض، ولزوم إحصاء العدة وعدم إخراجهن من البيوت، ثم استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق، حيث قال عز شأنه:(فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) أي إذا أشرفن على الخروج من العدة فلكم إمساكهن بالرجعة أو تركهن على المفارقة، ثم عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال:(وأشهدوا ذوي عدل منكم) أي في الطلاق الذي سيق الكلام كله لبيان أحكامه، ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلا تبعاً واستطراداً. ألا ترى لو قال القائل: إذا جاءك العالم وجب عليك احترامه وإكرامه وأن تستقبله، سواء جاء وحده أو مع خادمه أو رفيقه ويجب المشايعة وحسن الموادعة، فانك لا تفهم من هذا الكلام إلا وجوب المشايعة والموادعة للعالم، لا له ولخادمه ورفيقه، وإن تأخرا عنه. وهذا لعمري حسب قواعد العربية والذوق السليم جليٌّ واضح، لم يكن ليخفى عليك، وأنت خِرِّيتُ العربية، لولا الغفلة (والغفلات تعرض للأريب)
هذا من حيث لفظ الدليل وسياق الآيات الكريمة
وهنالك ما هو أدق وأحق بالاعتبار من حيث الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية وشموخ مقامها، وبعد نظرها في أحكامها. وهو: أن من المعلوم أنه ما من حلال أبغض الى الله سبحانه وتعالى من الطلاق، ودين الإسلام كما تعلمون - جمعيّ اجتماعي - لا يرغب في أي نوع من أنواع الفرقة، سيما في العائلة والأسرة، وعلى الأخص في الزيجة، بعدما أفضى كل منهما إلى الآخر بما أفضى. فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق والفرقة، فكثر قيوده وشروطه، على القاعدة المعروفة من أن الشيء إذا كثرت قيودُه، عَزّ أو قلّ وجودُه، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أولاً، ولحصول الأناة والتأخير ثانياً، وَعسى إلى أن يحضر الشاهدان، أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحصل الندم ويعودان إلى الألفة، كما أشير إليه بقوله تعالى (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) وهذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين، لا شك أنها ملحوظة للشارع الحكيم، مضافاً إلى الفوائد الأخر.
وهذا كله بعكس قضية الرجوع: فان الشارع يريد التعجيل به، ولعل للتأخير آفات، فلم يوجب في الرجعة أي شرط من الشروط. وتصح عندنا - معشر الإمامية - بكل ما دل عليها من قول أو فعل أو إشارة، ولا يشترط فيها صيغة خاصة، كما يشترط في الطلاق. كل ذلك تسهيلاً لوقوع هذا الأمر المحبوب للشارع الرحيم بعباده، والرغبة الأكيدة في ألفتهم وعدم تفرقهم. وكيف لا يكفي في الرجعة حتى الإشارة ولمسها ووضع يده عليها بقصد الرجوع، وهي - أي المطلقة الرجعية - عندنا، معشر الإمامية، لا تزال زوجةً إلى أن تخرج من العدة، ولذا ترثه ويرثها، وتغسله ويغسلها، وتجب عليه نفقتها، ولا يجوز أن يتزوج بأختها وبالخامسة، إلى غير ذلك من أحكام الزوجية
فهل في هذا كله مقنع لك في صحة ما ذهبت إليه الإمامية من عدم وجوب الإشهاد في الرجعة بخلاف الطلاق؟! فان استصوبته حمدنا الله وشكرناك، وإلا فأنا مستعد للنظر في ملاحظاتك وتلقيها بكل ارتياح، وما الغرض إلا إصابة الحقيقة، واتباع الحق أينما كان، ونبذ التقليد الأجوف، والعصبية العمياء، أعاذنا الله وإياك منها، وسدد خطواتنا عن الخطأ والخطيئات، إن شاء الله، ونسأله تعالى أن يوفقكم لأمثال هذه الآثار الخالدة، والأثريات
اللامعة، والمآثر الناصعة، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً، ولكم في الختام أسنى تحية وسلام من
محمد الحسين آل كاشف الغطاء.
ملاحظة: ومن جملة المسائل التي أجدت فيها البحث والنظر: مسألة بطلان طلاق الحائض، وقد غربلت حديث ابن عمر بغربال الدقيق، وهذه الفتوى أيضاً مما اتفقت عليها الإمامية، وهي بطلان طلاق الحائض إلا في موارد استثنائية معدودة.
هذا هو نص كتاب الأستاذ شيخ الشريعة، لم أحذف منه شيئاً، إلا كلمة خاصة لا علاقة بها بالموضوع، وإنما هي عن تفضله بإهداء بعض كتبه إليّ. وسأحاول أن أبين وجهة نظري، وأناقش أستاذي فيما رآه واختاره، بما يصل إليه جهدي في عدد قادم، إن شاء الله.
أحمد محمد شاكر
القاضي الشرعي
ذات الثوب الأرجواني
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(تنبيه: الكلام خيالي ولا أصل له، كما مللت أن أقول وأؤكد في كل مرة)
- 4 -
غضبت علينا ذات الثوب الأرجواني. . . وما أعرف لي ذنباً جنيته إلا النظر، وما أحسبها تريد أن تحرم هذا علينا أو تكرهه منا. وأين المرأة التي يسوءها أن ينظر الرجال إليها ويعجبوا بها ويفتتنوا بحسنها؟ أو يسرها أن ينصرفوا عنها ولا يبالوها ولا يعنيهم أبقيت بينهم أو أمامهم، أم اختفت عن عيونهم؟ إن إتباعَ النظرةِ النظرةَ ثناء صامت. والثناء قوت المرأة - وخمرها أيضاً - وقد ترى نساء يسوءهن النظر إليهم لسبب غير راجع إلى وحي الطبيعة في نفوسهن، فيرتبكن ويضطربن، وتضيق الدنيا في وجوههن ويشق عليهم ذلك حتى ليكبر في وهمهم أنهن جنينه على أنفسهن وأثرن فضول الرجال. ولكن حتى هؤلاء لا يكرهن الثناء، بل تشرق له وجوههن، وتنشرح صدورهن، إلا إذا جاوزت الإطراء إلى ما هو خليق بسبب نشأتهن أن يزعجهن. وقد كنت مرة أتعلم الفرنسية وأتلقى دروساً فيها على فتاة أمها روسية وأبوها نمسوي، فاستغربت بعد بضعة أيام أنها تلقاني متجهمة! وبدا لي أنها تستثقل الدرس والتلميذ، فشكوت إلى صديق وقلت له: إن معلمتي لا تكف عن النفخ، وأنها طول الدرس تتأفف، وإني أريد أن أبحث عن معلمة أخرى، فلست أطيق هذا الضجر الذي لا تنفك تواجهني به. فقال:(لا تفعل). قلت: (ولكني لا أستطيع الصبر على هذه الحال). قال: (لك العذر، ولكن ضاحكها وعابثها. . . اثن على حسنها. . . غازلها برفق، أي من غير أن تخرج عن حدود الأدب). فوعدته أن أجرب ذلك، وقد كان. أقبلت عليها فأقبلت عليّ، وصارت تهش لي وتبش، وأصبحت تلميذها الأثير. وكان لي زميل يتلقى عليها دروساً في وقت آخر، وكان مثلي قبل أن يرشدني صديقي، أي أنه كان معها كأنها معلم بلحية لا معلمة مدلّة بجمالها وشبابها، فكان إذا جاء تعبس وتقول: فلينتظر! فأقول لها: (بل أخرج أنا لئلا يغضب فيضيع عليك درسه)، فتقول:(دعه يغضب. . . إنه يملني ويزهق روحي). وكان اسمه (عثمان أفندي) فصرنا - هي وصديقي الذي علمني وأنا - نطلق اسم (عثمان أفندي) على كل من نراه بليدا جامدا في حضرة النساء.
وأعود إلى ذات الثوب الأرجواني فأقول إنها كانت راضية عني. وآية رضاها أنها ظلت أياماً لا تبدو لي إلا في ثوب أرجواني. وكنت لا أراها إلا خفيفة مرحة، وإذا بها - فجأة - تخرج إلى الشرفة في صباح فلا تكاد تراني حتى تنثني راجعة، فأعجب وأتساءل:(ما لها؟. . .) ولا أجد جواباً لسؤالي، فأهز كتفي وأقول:(سنرى)، ولكني لا أرى بعد ذلك إلا الإعراض والنفور وطول الاحتجاب، فلا يسعني إلا أن أعرض أنا أيضاً، وأن أظهر قلة المبالاة؛ فلا أفتح النافذة ولا أطل منها إذا كانت مفتوحة، ولا أنظر إليها إذا طلعت، فان في طبعي عناداً، وأنا مفطور عليه وعلى المجازفة، ولست أعرفني اكترثت للعواقب حين يستفزني شيء. وما أكثر ما أخسر بسبب ذلك. ولكني أستطيع أن أكبح ثورة نفسي ولا أستطيع أن أصرفها عن الزهد. وما عجزت قط - إلا في الندرة القليلة - عن ضبط عواطفي وصد نفسي عن الاندفاع، ولكني أراني عاجزاً عن علاج نفسي إذا انصرفت عن الشيء وحملها على الإقبال عليه مرة أخرى. وقد كانت أمي تقول إن قلبي أسود، وكانت تعني بذلك أني لا أنسى الإساءة؛ على أني لا أنسى المعروف أيضاً ولا أجحده، فأنا كما يقول ابن الرومي:(للخير والشر بقاء عندي)، وقد صدق فأنا من طينة الأرض، (والأرض مهما استودعت تؤدي). وما أساء إليّ أحد إلا نازعتني نفسي أن أنتقم منه، ولكني لا أزال أحاورها وأداورها حتى أقنعها بان الدنيا تغيرت، وأن أخلاق البدو لا تصلح في هذا العصر المتحضر، وأن الناس لا يقتل بعضهم بعضاً في هذا الزمان من أجل تمرة أو من جراء كلمة يسبق بها اللسان، حتى تسكن وتكتفي بالانصراف.
وجلست أحاسب نفسي وأسائلها عن ذات الثوب الأرجواني ما خطبها؟. ولِمَ تبدي هذا النفور؟. أتراها تتكلفه؟. ألعل أهلها قد أغلظوا لها وضيقوا عليها فرأت أن تخفف عن نفسها وتعفيها من ثقل تدخلهم بالاحتجاب؟. ألا يجوز أن يكونوا قد كرهوا مني طول النظر إليها فكلموها في ذلك فلم يسعها إلا أن تكف عن الظهور؟. جائز!! ولكن من الجائز أن أكون قد صنعت شيئاً أغضبها. . ومن الحزم على كل حال أن أعرض أنا أيضاً إلى حين، حتى تسكن الثورة التي لعلها ثارت في بيتها وبين أهلها. . ولكن من الإنصاف أيضاً أن أحاسب نفسي قليلاً. . فتعال هنا. . أخل بنفسك واجتهد أن تتذكر. .
فتذكرت. . . ذلك أني كنت يوماً في حجرتي فزارني صديق: وكان الجو حاراً جداً ففتحت
له النوافذ جميعاً، فقال لي بعد برهة:(أنظر. .) فسألته (ماذا؟) قال (هذه النافذة. . ألا ترى الفتاة التي تبدو منها؟) قلت: (إنك بعيد النظر. . وأنا أعترف أني لا أرى فتاة وإنما أرى ذراعاً) قال: (هذا ما أعني. . لا يبدو منها الآن إلا ذراعها ولكنها كانت منذ لحظة تطل علينا وتنظر إلينا). قلت: (جائز. . كل شيء جائز. . صحيح إن العمارة التي نحن فيها سبع طبقات. . أو عشر. . لا أدري. . وفي كل طبقة شقق كثيرة. . ولكل شقة نوافذ وشرفات لم أعدها. . وقد يكون في بعض هذه النوافذ والشرفات التي لا نراها رجال يطلون منها. . ولكن المعقول أن الفتاة التي لا أزال لا أرى منها غير ذراعها - تنظر إلينا نحن دون هذا الخلق الذي لعله في الشرفات والنوافذ ونحن لا ندري
قال: (لا تمزح. . إن نظرتها إلينا نحن. . وهل يخفى اتجاه النظر؟)
قلت: (ما يدريني ويدريك؟. ألا يمكن أن تكون حولاء؟؟ تعرف كيف ينظر الأحول!؟ تكون عينه عليك ولكنه لا يراك بل يرى الذي إلى اليمين أو إلى اليسار. . أليس هذا جائز؟)
قال: (حولاء؟؟ كلا!! من قال هذا؟؟ كلام فارغ!! إن عينيها جميلتان جداً)
قلت: (معذرة! إني - كما تعلم - لم أر سوى ذراعها. . وعهدي بالعيون تكون في الوجوه لا في الذراع. وأظن أن هذا النظام لا يزال هو المتبع في الخلق. . . على كل حال لم أر عينيها الجميلتين. . .)
قال: (والله إنها تنظر إلينا)
قلت: (صادق. . صادق. . . هذه أصابعها تنقر على حافة النافذة ولا شك أنها تعنينا الآن. .)
فقال: (دع المزاح بالله. . أنظر. . أنظر. .)
فنظرت. . وكففت عن المزح بلا حاجة إلى زجر آخر. . وكانت الفتاة سمراء - لا بيضاء كذات الثوب الأرجواني - وكانت نظرتها إلينا - لا شك في ذلك - والرجل يدير رأسه أن يرى امرأة تُتْئره النظر ولا تكاد تحول عينها عنه. فإذا كنت قد نهضت إلى النافذة وأخرجت رأسي منها ورحت أحدق في هذه السمراء الجميلة التي تقبل عليه ولا تعرض عنا أو تتدلل علينا، فأظن أن لي العذر. . ومن أين لي أن أعرف أن ذات الثوب الأرجواني كانت واقفة في هذه اللحظة وأنها كانت تراعيني وتراقبني؟؟ ولو كنت أعرف
ذلك لما صدني عن النظر، فأن حبي لذات الثوب الأرجواني ليس معناه أني عميت وأن عيني لا تستطيع أن ترى غيرها وأني فقدت القدرة على الإعجاب بالجمال في مظاهره المختلفة. ولكن المرأة أمرها غريب، وإني لأذكر أني كنت راكباً مع فتاة من صديقاتي - وكنت أنا السائق كما لا احتاج أن أقول - فرأيت فتاة جميلة واقفة على الرصيف فتمهلت لأنظر إليها، وإذا بصديقتي تقرص أذني فصرخت فقالت:(هذا جزاؤك) فسألتها: (ماذا صنعت؟. . بأي شيء أستحق أن تقطعي لي أذني؟؟. وكيف أستطيع أن أسمع صوتك الحلو بعد ذلك) فقالت (ابق اسمع صوت التي كنت تنظر إليها الآن) قلت (مالها؟. . ألا تعجبك؟. ألا ترينها جميلة؟) فعادت إلى القرص، وعدت إلى الصراخ، حتى كدت أستنجد بالمارة. وقد ساء رأي صاحبتي في بعد ذلك، وصارت كلما ركبت معي تشترط ألا أنظر لا يميناً ولا شمالاً، فأقول:(ولكن لماذا؟ ما الضرر من النظر والتلفت؟ ثم كيف أستطيع أن أثبت عيني في اتجاه واحد وقد خلق الله لي عينين تتحركان ولا تثبتان؟) فلا تجيب عن السؤال وإنما تروح تهددني وتتوعدني فأخاف فأن لها قرصاً حامياً وأنا جلدي رقيق. ولكني لا أفهم هذا التحكم من المرأة. وما أكثر ما قلت لإحداهن وقد أغضبها أن لي عيناً ترى وقلباً لا يسعه إلا أن يحس (يا ستي إن لك حديقة زهر. وفيها الفل والياسمين والورد الأحمر والأبيض والنرجس وما لا أدري أيضاً. . وأنتن يا نساء كالزهور. . فلماذا تريدين ألا تكون في حديقتي إلا حواء واحدة؟)
فتقول: (بالله دع هذه الفلسفة السخيفة. . . ثم إني أكره المكايدة)
فأؤكد لها أني لا أقصد إلى المكايدة، وأقول:(نعم أن حواء واحدة مصيبة. . . وثقي أن غلطة أبينا آدم هي أن جنته لم يكن فيها إلا هذه الحواء المفردة. . ولو كان فيها. . سواها. . عشر مثلاً أو عشرون. . لما خرج من الجنة)
فتثور بي وتذهب وتعدو ورائي فأضع ذيلي بين أسناني وألوذ بالفرا)
وما أشك في أن ذات الثوب الأرجواني أسخطها عليّ نظري إلى السمراء. وما تعنيني السمراء لو علمت. ولكنها المرأة لا تعرف إلا نفسها ولا ترضى عما تسميه (العين الزائغة) وهي تشعر بالمنافسة من كل امرأة مثلها، ولا تستطيع أن تفسر النظر إلى امرأة غيرها إلا بأنه تفضيل لهذه الأخرى عليها ولو كانت واثقة من حب بعلها أو رجلها. كنت مرة أتنزه
في إحدى الحدائق مع صديقة فقالت: (هل نركب زورقاً؟) فاستحسنت هذا الرأي وانحدرنا إلى الماء واستأجرنا قارباً، وقبل أن نمضي به تناولت ذراعي وهمست في أذني:(لا تتحرك. . إني لا أكاد أصدق)
فرفعت عيني إليها فألفيتها ناظرة إلى الحديقة التي انحدرنا عنها إلى الماء. وكان الهواء ساكناً والمنظر الذي أمامنا كأنه مرسوم، وكان لفرط جماله يذكرني بأعذب ما قرأت من الأغاني. ثم أشارت بيد أحلى من أناشيد سيمان بن داود وقالت:(ليتني أستطيع أن آخذها!!.) وكأنما قرأت في وجهي استغراب هذا الكلام فقالت (إنها أحلى لعبة رأيتها في حياتي!)
فقلت مستفسراً (لعبة؟؟ هل قلت لعبة؟؟ أين هي؟)
فصاحت بي وهي تشير بأناملها المغرية (هذا. . هذا. . هذا المنظر. . ألا يروقك؟)
فأدركت مرادها وإن كنت قد بقيت أستغرب عبارتها، وقلت (لا. . ليس هذا لعبة. . وإنما هو أسطورة. .)
فهزت رأسها كالموافقة ثم وضعت راحتها على كتفي وقالت (إني سعيدة لأني رأيت هذا)
قلت: (هو أسعد منك. . وما أكثر ما رأى هذا البستان من نساء ولكنه احتاج أن ينتظر إلى اليوم حتى تروده حواء لها دل الفتاة وقلب الطفل)
قالت: (لا أظن. .) ثم رفعت وجهها إليّ وقالت:
(انتظر. . لا تتحرك. . إني أنظر إلى نفسي في عينيك)
فقلت - وقد أعجبني ذلك: (حسن. . والآن. . لا تتحركي أنت. . فأني أتأمل قوس هذه الشفة. . .)
فذهبت إلى آخر الزورق وأرسلت لي مع الريح قبلة
وقالت وهي تجلس هناك: (إن الذي يعجبني منك هو هذا. . أنك لا تأخذني على غرة. . الأكثر في الرجال يعدون المرأة صيداً أو قنصاً. . أما أنت فتشجعني على استعمال حريتي وعلى الشعور بأن لي استقلالاً وإرادة يجب أن يحسب حسابهما. . وكأني بك يسرك أن تدع غيرك يحيا حياته على هواه هو، أكثر مما يسرك أن تفوز من دنياك بمتع حياتك. . والآن ألا نمضي؟؟)
فقلت وأنا اضرب الماء بالمجداف: (إن فيما قلته عني بعض الغلط. . فأنا احب أن أصحح لك هذا. . وأنا أعترف أني لست وحشاً. . إذا كان هذا ما تعنين. . ولكن نظريات أفلاطون لا تروقني. . نعم يسرني أن أرى كل إنسان يحيا حياته كما يروقه - ولم لا؟ - ولكن من أبرز نقط الضعف في نفسي أني أحب أن أحيا أنا أيضاً كما أشتهي)
فدنت مني وأراحت أناملها على كتفي، وأسندت وجهها إلى صدري وقالت وهي تضحك:(إنك عبيط. . ألست كذلك؟ وهذا هو الذي يحببك إليّ. .)
قلت: (يا ملعونة. .) وأحطتها بذراعي - (ارفعي فمك فإني أريد أن. . أسوي ربطتي في مرآة عينيك. . .)
وفي هذه اللحظة الحافلة بالاحتمالات خطرت في دائرة نظري فتاة كان لا يسعني إلا أن أراها. وليس لي في هذا حيلة ولا كان مني عن عمد. ولكنها صارت أمام ناظري، فأنا لا بد أن أبصرها. وأحست صاحبتي أن عيني تحولت - كما كان لا بد أن يحدث - فحولت وجهها إلى حيث أنظر فأبصرت الفتاة، فما كان منها إلا أن انتفضت قائمة، وضربت المجداف من يدي، وصاحت بي:
(ارجع بي حالاً. . . إلى البر. . . قبل أن نبعد. .)
فذهلت وقلت: (ولكن لماذا؟؟. . . إنا لم نبعد إلا خمسة أمتار. . .)
قالت: (ليتنا بعدنا جداً. . . ولكن لا. . . كنت إذن أبقى مغشوشة. . . مخدوعة. . . ارجع. . . أقول لك ارجع. . .)
ولا حاجة إلى رواية كل ما قالت وما أجبت به، وليثق القارئ أن ريقي نشف كما لم ينشف قط، فقد ثقل عليّ هذا الطبع، وأضجرتني هذه الغيرة السخيفة التي لا محل لها على كل حال. فبعد أن تألفتها من نفرتها ذهبت ألقنها درساً لا أظن أنها ستنساه في حياتها
ولكن أمثال هذه الدروس لا خير فيها ولا جدوى منها؛ وما أظنها إلا كالكتابة على الماء
وقد تظهر المرأة مجاراتك ساعة تتلقى الدرس، لأنها ترى هذه المجاراة والتظاهر بالاقتناع والتوبة أحزم وأحسم للنزاع، ولكنها لا تملك أن تغير طبيعتها، فهي تظل على الرغم من دروسك كما هي
وقد أحنقني من ذات الثوب الأرجواني هذا النفور الذي لا داعي له، فغضبت وثرت
وانتفضت، فرميت ورقات كانت بيدي؛ وكنت جالساً بحيث أراها وتراني، ويظهر أن ما رأته من خروجي عن طوري المألوف أدهشها جداً، فقد رأيتها تهب وتطل، فِعْلَ من يريد أن يثبت ويتحقق. ومضيت أنا في ثورتي، فجعلت أروح وأجيء في الغرفة، وأقول لنفسي:
(لماذا تحرمُ قبل أن تعطي؟؟ لماذا تبدأ بالمنع ولا تبدأ بالجود؟؟ لماذا تؤثر السوء ولا تؤثر الخير؟ ما هذه الطباع؟ وماذا جنيت أنا؟ إني أراني وهبتها الشعور بحسنها حين أحببتها، ولو أنها لم يحببها أحدٌ لما وسعها أن تدرك أن لها حسناً يعشق وجمالاً يُحب. . . فشعورها بحسنها هو هبةُ وعطية مني، لأني أحببتها. . . فكيف تتيه عليّ وتتدلل، وتحاول أن تعذبني جزاء لي على مجهودي الذي استفادت هي منه ولم أستفد أنا شيئاً؟
أي يدٍ لها عليّ؟؟ أني أراها؟؟ فكل من شاء أن ينظر إلى شرفتها ساعة تكون فيها يستطيع أن يراها مثلي فلا فضل لها في ذلك يحسب عليّ. . ماذا غير ذلك؟ لا شيء. . انتهينا إذن!
. . وما دامت لا تختصني بشيء فلا حق لها فيما تتكلفه من حرماني. . . لو كانت لم تتكلف لما عبأت ولما أحسست أن في الأمر عمداً. . ولكنها عامدة ولست أنوي أن أشايعها على ظلمي. . إذن فأنا أنفر كما تنفر. . . وأحتجب كما تحتجب وليكن ما يكون!)
وبعد أيام عدت أقول لنفسي: (اسمع. . إنها ليست مثلك. أنت تستطيع أن تخرج، وتروح، وتجيء، وتتسلى وتتلهى، ولكنها مسكينة لا تملك ما تملك من الحرية ومن وسائل التعزي. . وما يدريك أنها ليست مضطرة إلى هذا الذي ثقل عليك وكرهته منها؟؟ ولا تنس أنها رقيقة القلب. . أليست قد رأت أنك تشكو ألماً في ذراعك فحدثتك نفسك أن قد بدا لك منها عطف كان له وقع حسن في نفسك
وقد توسطت وخير الأمور الوسط - كما يقولون - فأنا لا أتكلف الاحتجاب ولا أتعمد أو أتحرى أن أراها، وأدع هذا وذاك للمصادفة؛ وسأرى ما يكون. وأخوف ما أخافه أن أمل هذا التعب العقيم فيركبني عفريت العناد وأجازف
إبراهيم عبد القادر المازني
أثر الحرب الكبرى في بريطانيا
للأستاذ رمزي ميور
أستاذ التاريخ الحديث في جامعة منشستر سابقاً
ترجمة الأستاذ محمد بدران
ناظر مدرسة بمباقادن الابتدائية
ليس في العالم كله مجتمع أو طائفة من المجتمعات أثرت الحرب في مصائرها كما أثرت في بريطانيا وما يتجمع حولها ويرتبط بها من الشعوب المؤتلفة المنتشرة في أنحاء العالم
ولقد كانت الحرب الكبرى التي دارت رحاها بين عامي 1914، 1918 هي آخر عراك من أربعة يحدد كل منها فترة من فترات التاريخ اضطلعت بريطانيا فيها بدور حيوي هام هو إنقاذ العالم من سيطرة دولة واحدة، أو نزعة للحضارة واحدة؛ وكان لكل عراك منها أثر بليغ في مركزها هي. فأما العراك الأول فهو حرب إسبانيا أيام الملكة اليصابات، وفيه قهرت ذلك الخصم العنيد، وصانت حرية البحار، وخرجت منه وهي أكبر الدول البحرية، والقادرة على أن تحيا حياتها الخاصة من غير خطر يتهددها، وأن تنشر تجارتها وتبسط سلطانها فيما وراء البحار
وأما في العراك الثاني فهي التي قادت الحلف الذي أذل كبرياء لويس الرابع عشر، ووثقت روابطه وخرجت منه وهي أعظم الأمم التجارية وأولى الأمم ذات الحكومات الديمقراطية، وفتح أمامها باب سيادة العالم الجديد فنالت تلك السيادة قبل أن ينقضي على الحرب نصف قرن. وفي العراك الثالث كانت هي العدو الوحيد الذي لم تقو الثورة الفرنسية ونابليون على هزيمته، وذلك بفضل قوتها البحرية، وخرجت من هذا العراك وهي من غير شك أقوى دول العالم وسيدة البحار بلا منازع، ومالكة الثروة التي أخرجتها وسائل الإنتاج الآلية الحديثة، والمسيطرة على إمبراطورية عظيمة تضم بين أطرافها القارات وأشباه القارات. وكانت كل حرب من هذه الحروب العالمية سبباً في ارتفاع شأن الشعوب البريطانية وزيادة قوتها. فماذا كان أثر الحرب الأخيرة فيها؟
كانت بريطانيا العظمى في خلال القرن التاسع عشر أقوى دول العالم أجمع، لا ينازعها في
ذلك المركز منازع. وكان مرجع قوتها إلى عدة عوامل: أولها عزلتها البحرية التي أمنت بها أخطار الغزو الأجنبي أمناً لم يتمتع به غيرها من الدول الأوربية، ومكنها من أن تُنَمِّي نظم الحكم الذاتي الخاصة بها في أمن واطمئنان، وأن تغرس في نفوس أبنائها حب الهدوء وإطاعة القوانين. وثاني هذه العوامل هو تفوقها البحري الذي لم يكن يسمو إليه غيرها من الدول؛ وبفضل هذا التفوق أمنت بريطانيا على نفسها أكثر مما تأمن على نفسها أمة أخرى في العالم؛ وعظم نفوذها في شواطئ البحار، وأضحت هي الممثلة للحضارة الأوربية لدى معظم الشعوب غير الأوربية. وثالث هذه العوامل هو إمبراطوريتها الواسعة الأرجاء التي تمتلكها بوسائل سهلة، والتي أخلصت لها شعوبها المحكومة، والتي اتخذتها بريطانيا سوقاً لمصنوعاتها، ومستودعاً للمواد الغفل لم تنل مثله غيرها من الأمم. ورابعها تفوقها في وسائل الإنتاج الصناعي الحديثة ووجود مناجم غنية بالفحم سهل الاستخراج كان إلى عهد قريب هو القوة الصناعية الوحيدة في العالم. والعامل الخامس هو ما انطوت عليه صدور أبنائها من حب المغامرة وما طبعوا عليه من قوة الابتكار الفردي. وسادسها هو قوتها المالية التي نشأت من انتشار عادة الادخار والاستثمار بين أبنائها، ومما أنشأته من نظام مصرفي عجيب؛ وقد أصبحت بفضل هذه القوة مركز العالم المالي والدولة الدائنة العظيمة التي مدت العالم بمعظم ما احتاجه من رؤوس الأموال لاستثمار البلاد الجديدة، وبفضل وسائلها ومبتكراتها المالية يتبادل العالم تجارته الدولية. والعامل السابع في عظمة بريطانيا أنها هي وحدها السوق العظيمة الحرة والمستودع المركزي العام الذي تأتي إليه جميع غلات العالم كله ولا يحول بينها وبينه حائل. وكان في مقدورها أن تختط لنفسها هذه الخطة لأنها لا تخشى المنافسة، ولأنها هي المضطرة إلى أن تبيع بضائعها في كل جزء من أجزاء العالم تعلم حق العلم أنها إذا لم تقو على منافسة الدول لها في بلادها فلن تقوى على المنافسة في خارجها. وآخر أسباب هذه العظمة، وإن لم يكن أقلها أهمية، هو نظام حكومتها الحر الذي أعجبت به ونسجت على منواله أمم العالم أجمع، لأنه جمع في نظرها بين الحرية والاستقرار وثبتت بالتجربة صلاحيته، وخضع له جميع رعاياها المخلصين، لأنه يكفل لهم حماية القانون ولا يقيد حريتهم فوق الحد الواجب
ولقد كانت السيادة البريطانية في كل ناحية من هذه النواحي سيادة موقوتة لا يمكن أن تكون
لها صفة الدوام، لأن في العالم أمما أخرى لا تقل عن بريطانيا في مواهبها الطبيعية أو مواردها المادية، وكانت ثمة عوامل عدة تعمل على تقويض دعائم هذه السيادة في خلال الجيل السابق للحرب؛ وكانت الحرب نفسها تنذر بزوال سيادة بريطانيا المضمحلة سيادة الزعامة والنفوذ وإحلال سيادة ألمانيا سيادة النظام والقوة محلها. هذا الانقلاب على الأقل لم يقع، ولكن شعباً واحداً لا يستطيع أن يكون له شيء يسمى سيادة في هذا العالم الذي يسير في طريق الحرية، بل لا يحق لشعب أن يرغب في هذه السيادة، ولذلك أخذت سيادة بريطانيا القديمة تزول شيئاً فشيئاً بعد الحرب وبسبب الحرب، وأصبح واجباً عليها أن تكيف نفسها لمركز جديد في العالم؛ ولا شك أنها تلقي في سبيل هذا التكييف نصباً. ولنبحث أولاً فيما اعترى أسباب عظمتها من تطورات:
لم يعد مركز بريطانيا البحري يضمن لها ما كانت تتمتع به من سلامة؛ ذلك بأن التقدم السريع في وسائل النقل الجوي يعرضها لخطر الغزو بشكل مرعب عرفته أثناء الحرب الكبرى، ونقول بشكل مرعب، لأن مدنها الواسعة المكتظة بالسكان يمكن تدميرها بين عشية وضحاها، ولم تستكشف بعد وسيلة لاتقاء هذا الخطر إلا منع الحروب بتاتاً. وليس هذا كل ما في الأمر، فان اعتمادها في بقائها على ما يأتي إليها من الطعام من وراء البحار يعرضها إلى الخراب العاجل المفزع إذا هاجمت سفنها الغواصات، وذلك خطر ليس في الاستطاعة اتقاؤه إلا بوسائل غاية في البطء والمشقة كما دلت الحرب. فان أهلها كادوا يموتون جوعاً بسبب الغواصات القليلة العدد التي استخدمتها ألمانيا في الحرب. وإذا ما هاجمها في المستقبل أسطول من الغواصات كالذي تمتلكه فرنسا مثلاً كان هذا الهجوم أكثر مفاجأة لها وأشد خطراً عليها، لأن الجزيرة التي كانت من قبل معقلاً منيعاً لأهلها أصبحت الآن شركاً منصوباً لهم. وليس في استطاعة بريطانيا أن تعتمد في سلامتها على مواردها الخاصة كما كانت تعتمد عليها في الأيام الماضية. فإذا أرادت أن تأمن على نفسها فإن عليها أن تُعوِّل على ما يقوم به العالم المتمدين من عمل إجماعي لجعل الحرب مستحيلة الوقوع
ولقد انقضى الآن عهد سيادة بريطانيا البحري انقضاء لا مرَدَّ له بعد أن دام ثلاثة قرون واضطرت بريطانيا في معاهدة واشنجتن (سنة 1922) أن تعترف (بمساواة) الولايات
المتحدة لها وهي تعلم علم اليقين أنه إذا قام التنافس في التسلح بينها وبين الولايات المتحدة تغلبت عليها الأخيرة بمواردها التي لا ينضب معينها. وليس هذا كل ما في الأمر فإن الحرب أظهرت أن الأحوال الحاضرة تجعل الاحتفاظ (بسيادة البحار) على الوجه الأكمل من أصعب الأمور. فلقد كان عدد السفائن الألمانية المغيرة التي انطلقت في بداية الحرب أو استطاعت أن تفلت من الحصر في أثنائها صغيراً لا يذكر، ولو لم يكن ساحل ألمانيا غاية في القصر سهل الرقابة لما كان عدد هذه المغيرات قليلاً إلى هذا الحد، ولكنها على قلتها لم يقتنصها إلا مائة وأربعون طراداً. ذكر ذلك اللورد جليكو في المؤتمر البحري المُعْجَل الذي عقد في عام 1927 لكي يتذرع به للاحتفاظ لبريطانيا بسبعين طراداً فقط. أما إذا أرادت أن تضمن لنفسها سيادة البحار في كل الأحوال فلا يكفيها سبعون طراداً بل لابد لها من سبعمائة، فليس في استطاعتها إذن أن تعتمد على مواردها الخاصة لتضمن سلامة البحار، تلك السلامة التي تقف عليها حياتها، بل عليها أن تعتمد على تعاون هيئة عالمية منظمة. وقد يعز على بريطانيا بطبيعة الحال أن تقر بهذه النتيجة، لكنها برغم ذلك نتيجة محتومة لا مناص منها. كانت بريطانيا أكثر الأمم اكتفاء بنفسها - في هذا الميدان على الأقل - أما الآن فقد أصبح موقعها يحتم عليها أن تكون أول داع إلى اعتماد الدول بعضها على بعض إذا قدرت ما يعرضها إليه موقعها من الأخطار.
أما الإمبراطورية فإذا نظرنا إلى أجزائها الرئيسية رأينا أنها لم تبق (إمبراطورية) مهما توسعنا في فهم هذا اللفظ، ولم يبق لبريطانيا (إشراف) عليها، بل أصبحت شركة مفككة الأجزاء من دول حرة تسعى كل منها إلى (الاكتفاء بنفسها) عن طريق الحواجز الجمركية، ولم تبق أسواقها مفتحة الأبواب للبضائع البريطانية. وينطبق هذا الوصف على بلاد الهند التي كانت أعظم الأسواق لتصريف المنسوجات القطنية، وهي أهم الصادرات البريطانية؛ وكان تصميم الهند على الاستغناء عن هذه البضائع قدر استطاعتها من أكبر الأسباب التي أدت إلى كساد هذه الصناعة بعد الحرب. وكان ما اعترى الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب من تطور وعدم وجود سياسة عامة منسجمة تحل محل ما كان لبريطانيا من إشراف قد نقص الآن إلى الحد الأدنى. كان ذلك كله من أهم المظاهر التي بدت على هذه الدولة بعد الحرب ولأهميتها سنفرد بحثاً خاصاً فيما بعد
كذلك لم يبق لبريطانيا ما كانت تتمتع به من التفوق في وسائل الإنتاج الصناعي بل أصبح يشاركها في هذا التفوق على الأقل عدد من الأمم الأخرى، وسبقتها الولايات المتحدة وألمانيا في تطبيق العلم على الصناعة تطبيقاً حديثاً. وسبب ذلك أن رجال الأعمال فيها لا يزالون يحتقرون البحث العلمي، وأن بريطانيا تأخرت عن غيرها من الأمم في استخدام النظم الحديثة للإنتاج الكبير وفي تنظيم الصناعة تنظيماً يرمي إلى الوصول إلى أبعد حدود الاقتصاد والإتقان مجتمعين. وهي تقاسي الآن من جراء تأخرها هذا أوخم العواقب كما تقاسي عناد كثيرين من أصحاب الأعمال فيها وتمسكهم بالقديم الرث وتَشَدُّدهم في الاحتفاظ بكل ما كان صالحاً أيام آبائهم، وتقاسي أيضاً عاقبة عناد نقابات عمالها الكاملة النظام والتي تخلق الصعاب إذا ما أريد تغيير الوسائل الصناعية وخشيت أن يصيب العمال من جراء ذلك التغيير عطل مؤقت، وتتمسك أشد التمسك بالقيود والإجراءات التي كانت تسير عليها في سني الرخاء السابقة للحرب. كذلك لم يبق لبريطانيا ما كان لها من تفوق في امتلاك مصادر القوى الصناعية لأن فحمها الآن يوجد على عمق أكبر من عمق الفحم الجديد الذي يستخرج من الولايات المتحدة وغيرها من البلاد، وقد أبطأت في استخدام أنجع وسائل الإنتاج الكبيرة في صناعة الفحم وفي اتباع الطرق الآلية لتقليل نفقات الإنتاج. وزيادة على ذلك فإن مصادر أخرى للقوة لا تملكها بريطانيا أخذت تحل محل الفحم في كثير من الصناعات، فمنها القوى المائية التي لا تستطيع بريطانيا أن تنافس فيها البلاد ذات المجاري الكثيرة المتدفقة من رؤوس الجبال، ومنها النفط الذي لا تكاد تنتج أرضها منه شيئاً والذي لا بد لها أن تستورده وتنفق على استيراده أموالاً طائلة كل عام
ويلوح أيضاً أن ما كان يتصف به أهلها من نشاط وقوة مغامرة بدأ يضمحل وإن كان هذا مما لا يستطاع إثباته بالإحصاءات. وسبب هذا الاضمحلال أن بريطانيا خاضت غمار الحرب معتمدة على نظام التطوع الاختياري؛ ومعنى ذلك أن خير أبنائها وأشدهم حماسة ذهبوا إلى ميدان القتال أولاً وهلكوا زرافات. وقد يكون هذا هو السبب فيما نشاهده بعد الحرب من نقص مخيف في رجالها المُبرِّزِين الذين يتقدمون طائعين لتحمل التبعات ومواجهة الصعاب وهو أمر مشاهد في كل ناحية من نواحي الحياة: في السياسة وفي الأعمال الصناعية والتجارية وفي الفنون، فكلها لم يظهر فيها بعد الحرب رجال أوتوا حظاً
عظيماً من الشهرة، ولا يزال الأفذاذ النابهون من الإنجليز، رجال ما قبل الحرب. كذلك نرى في طوائف كثيرة من الشعوب البريطانية ميلاً متزايداً للاتكال على الحكومة في إصلاح عيوبها؛ وقد يكون منشأ هذا الميل لدى عامة الشعب ما وضعته الحكومة في السنين الأخيرة من نظم محكمة لتخفيف الضنك أو ما سلكته من الطرق في تنظيم هذه النظم؛ لكننا نشاهد هذه العادة نفسها: عادة الاتكال على الحكومة بين مديري الصناعة الذين يتطلعون إلى الحكومة لتقيهم شر المنافسة الأجنبية مع أن آباءهم كانوا يرون واجباً عليهم أن يقفوا أمام منافسيهم وجهاً لوجه لا يميزون منهم في شيء (شأنهم في ذلك شأن سائر أفراد الأمة) فإذا لم يقووا على المنافسة سقطوا صرعى في الميدان. ويلاحظ البعض أن أخلاق البريطانيين بعد الحرب طرأ عليها تغير خطير، فقد أخذ يسري في نفوسهم روح الجمود والاستسلام والرغبة في الفرار من الصعاب والتخلص منها بالتجائهم إلى الألعاب وغيرها من ضروب الراحة والتسلية. قد تكون هذه الميول عارضة لا تلبث أن تزول، ولكنها مادامت موجودة خطر ينذر بشر مستطير. وإذا صدق هذا الظن وكانت هذه الميول موجودة حقاً فربما كانت رد فعل طبيعي للمجهود الذي قاساه الشعب في الحرب وزوال ما كان يغشي بصائره من الغرور
كذلك كانت الحرب سبباً فيما اعترى قوة بريطانيا المالية بعدها من ضعف مخيف. ذلك إن البلاد حملت من الديون والضرائب ما لم تتحمله أمة أخرى، لأنها مدت حلفائها بجانب عظيم من نفقات الحرب؛ ولم يكد يرد إليها هؤلاء الحلفاء شيئاً من هذه الأموال ولن يردوا إليها شيئاً في المستقبل إلا ما استدانته باسم هؤلاء الحلفاء من الولايات المتحدة الأمريكية. وبينما تعمل الدول الأخرى لتخفيف العبء عن كاهل أهلها تزيد بريطانيا أعبائها بالتدريج؛ وتجيز كلتا الهيئتين السياسيتين القويتين في بريطانيا زيادة الضرائب وتراها أمراً مرغوباً فيه لذاته، فأحدهما تريد زيادة الضرائب المقررة والأخرى ترغب في زيادة الضرائب غير المقررة من غير نظر إلى ما سوف تنفق فيه الأموال. وهذه الأعباء الثقيلة تشل قدرة بريطانيا على الإنتاج من وجوه عدة، وتضعف ملكة الادخار والاستثمار لدى كثير من طبقات الشعب ضعفاً خطيراً. ويزيد من هذا الخطر تمسك الشعب بمستوى معيشته الراقي دون أن يراعي ضعف الوسائل التي تمكنه من ذلك، وهذا أمر مشاهد لدى جميع الطبقات.
ولهذه الأسباب لم تعد بريطانيا كما كانت من قبل الأمة العظيمة الدائنة لأمم العالم والتي تقدم ما يلزم من المال لاستثمار موارده الطبيعية، وأخذت الولايات المتحدة تحل محلها، وتستحوذ على ما لهذا المركز من قوة ونفوذ. كذلك لم يستطع نظامها المصرفي برغم ما اتصف به من ثبات أن يجاري مطالب العهد الذي أعقب الحرب وما فيه من صعاب، فلقد أصبح المسيطرَ على هذا النظام عدد قليل من المؤسسات المالية الضخمة أفقدته كثيراً مما كان له من مرونة، وطالما استخدمت هذه المؤسسات ما لها من سلطان على وسائل الائتمان المالي في إضعاف المشروعات المالية وإعاقتها بدل أن تعينها وتشجعها
(يتبع)
محمد بدران
أعلام الإسلام
3 -
سعيد بن المسيب
للأستاذ ناجي الطنطاوي
تزويجه ابنته
قال يحيى بن سعيد: كان لسعيد بن المسيب جليس يقال له عبد الله بن أبي وداعة، فأبطأ عنه أياماً، فسأل عنه فقيل له: إن سعيد بن المسيب سأل عنك، فأتاه وسلم عليه، ثم جلس، فقال له سعيد: أين كانت غيبتك يا أبا محمد؟ فقال: إن أهلي كانت مريضة فمرضتها ثم ماتت فدفنتها. فقال يا عبد الله، أفلا أعلمتنا بمرضها فنعودها، أو بموتها فنشهد جنازتها؟ ثم عزّاه عنها ودعا له ولها، ثم قال: يا عبد الله، تزوج ولا تلق الله وأنت عزب. فقال: يرحمك الله! من يزوجني؟ فوالله ما أملك غير أربعة دراهم. فقال: سبحان الله! أو ليس في أربعة دراهم ما يستعف به الرجل المسلم؟ يا عبد الله! أنا أزوجك ابنتي إن رضيت. قال عبد الله: فسكت استحياء منه وإعظاماً لمكانه. فقال مالك سكت؟ ألعلك سخطت ما عرضنا عليك؟ قال: يرحمك الله! وأين المذهب عنك؟ فوالله إني لأعلم أنك لو شئت زوجتها بأربعة آلاف وأربعة آلاف، قال: قم يا عبد الله فادع لي نفراً من الأنصار، فقمت فدعوت له حلقة من بعض حلق الأنصار، فأشهدهم على النكاح بأربعة دراهم، ثم انقلبنا، فلما صلينا العشاء الآخرة وصرت إلى منزلي، إذا برجل يقرع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد. فوالله خطر ببالي كل سعيد بالمدينة غير سعيد بن المسيب؛ وذلك انه ما رؤى قط خارجاً من داره إلا إلى جنازة أو إلى المسجد. فقلت مَن سعيد؟ قال: سعيد بن المسيب. فارتعدت فرائضي، وقلت: لعل الشيخ ندم فجاء يستقيلني، فخرجت إليه أجر رجلي وفتحت الباب فإذا بشابة ملتفة بساج، ودواب عليها مذابح؛ وخادم بيضاء؛ فسلم علي ثم قال لي: يا عبد الله هذه زوجتك. فقلت مستحيياً منه: يرحمك الله! كنت أحب أن يتأخر ذلك أياماً. فقال لي: لمَه؟ أولست أخبرتني أن عندك أربعة دراهم؟ قلت: هو كما ذكرت، ولكن كنت أحب أن يتأخر ذلك. قال: إنها إذن عليك لغير ميمونة، وما كان الله ليسألني عن عزبتك الليلة وعندي لك أهل. هذه زوجتك، وهذا متاعكم، وهذه خادم تخدمكم معها ألف درهم نفقة لكم، فخذها يا
عبد الله أمانة لك، فوالله إنك لتأخذها صوامة قوامة، عارفة بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتق الله فيها، ولا يمنعك مكانها مني إن رأيت منها ما تكره أن تحسن أدبها. ثم سلمها إليّ ومضى. قال: فوالله ما رأيت امرأة قط أقرأ لكتاب الله تعالى، ولا أعرف بسنة رسول الله صلى عليه وسلم، ولا أخوف لله عز وجل منها. لقد كانت المسألة المعضلة تعي الفقهاء فأسألها عنها فأجد عندها منها علماً
وروى أنها لما تزوجت، وبكر زوجها خارجاً سألته: أين يذهب؟ فقال لها إلى حلقة أبيك سعيد. قالت له:
اجلس أعلمك علم سعيد!
تقشفه وعبادته
قال ميمون بن مهران: بلغني أن سعيد بن المسيب عمّر أربعين سنة، لم يأت المسجد فيجد أهله قد استقبلوه خارجين منه قد قضوا صلاتهم
وقال ابن حرملة: اشتكى سعيد عينه، فقالوا له: لو خرجت يا أبا محمد إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة لوجدت ذلك خفة، قال: كيف أصنع بشهود العتمة والصبح؟!
وقال عمران: قال سعيد: ما أظلني بيت بالمدينة بعد منزلي، إلا أني آتي ابنة لي فأسلم عليها أحياناً، (قال): وكان سعيد يكثر الاختلاف إلى السوق
وقال محمد بن سعيد: كان سعيد بن المسيب أيام الحرة في المسجد لم يبايع ولم يبرح، وكان يصلي معهم الجمعة، ويخرج إلى العيد، وكان الناس يقتتلون وينتهبون وهو في المسجد لا يبرح إلى الليل. قال: فكنت إذا حانت الصلاة أسمع أذاناً يخرج من قبل القبر حتى أمن الناس، وما رأيت خيراً من الجماعة
وقال ابن حرملة: قلت لمبرد مولى ابن المسيب: ما صلاة ابن المسيب؟ فأما صلاته فقد عرفناها. فقال: والله ما أدري، إنه ليصلي صلاة كثيرة، إلا أنه يقرأ بـ (ص والقرآن ذي الذكر)
وقال عطاء: إن سعيد بن المسيب كان إذا دخل المسجد يوم الجمعة لم يتكلم كلاماً حتى يفرغ من صلاته، وينصرف الإمام، ثم يصلي ركعات، ثم يقبل على جلسائه ويُسأل
وقال عاصم بن العباس: كان سعيد بن المسيب يذكّر ويخوف
وقال: سمعت سعيد بن المسيب يقرأ القرآن بالليل على راحلته فيكثر
وقال: سمعت سعيد بن المسيب يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
وقال عمران: كان في رمضان يؤتى بالأشربة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليس أحد يطمع أن يأتي سعيد بن المسيب بشرابه فيشربه، فان أتى من منزله بشراب شربه، وان لم يؤت من منزله بشيء لم يشرب شيئاً حتى ينصرف
وقال عبد الله بن يزيد الهذلي: إنه كان يصوم الدهر، ويفطر أيام التشريق بالمدينة. وكان يقول لنفسه إذا دخل الليل، قومي يا مأوى كل شر، والله لأدعنّك ترجفي رجف البعير، فكان يصبح وقدماه منتفختان، فيقول لنفسه: بذا أمرت ولذا خلقت
وكان يقول: ما فاتتني فريضة في جماعة منذ أربعين سنة، وما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد. وصلى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة. وكان يقول: ما فاتتني تكبيرة الإحرام منذ خمسين سنة
وقال عبد الرحمن بن حرملة: سمعت سعيداً يقول: حججت أربعين حجة
وقال سعيد ما دخل عليّ وقت صلاة إلا وقد أخذت أهبتها ولا دخل عليّ قضاء فرض إلا وأنا إليه مشتاق
وكان يقول وقد أتت عليه أربع وثمانون سنة: ما شيء أخوف عندي من النساء. فقالوا يا أبا محمد، إن مثلك لا يريد النساء ولا تريده النساء قال: هو ما أقول لكم
هيبته
قال عبد الرحمن بن حرملة: ما كان إنسان يجترئ عل سعيد ابن المسيب يسأله عن شيء حتى يستأذنه كما يستأذن الأمير
وقد ذكرنا أن الحرس، عند دخول الوليد المسجد، أخرجوا جميع من في المسجد وبقي سعيد لم يجترئ أحد منهم أن يخرجه
سماعه الشعر
قال: ابن أبي ربيعة أشعر في الغزل، وابن قيس أكثر أفانين شعر
وقال عاصم: كان يحب أن يسمع الشعر ولا ينشده
وقال الأصمعي: قيل لسعيد بن المسيب: هاهنا قوم نسّاك يعيبون إنشاد الشعر قال: نسكوا نسكا أعجمياً
وروى صاحب الأغاني عن إبراهيم بن محمد بن عباس المطلبي انه قال:
مر سعيد بن المسيب في بعض أزقة مكة فسمع الأخضر الحربي يتغنى في دار العاص بن وائل:
تضوع مسكا بطن نعمان إذا مشت
…
به زينب في نسوة خفرات
فضرب برجله وقال: هذا والله مما يلذ استماعه، ثم قال:
وليست كأخرى أوسعت جيب درعها
…
وأبدت بنان الكف للجمرات
وعلت بنان المسك وحفاً مرجلاً
…
على مثل بدر لاح في الظلمات
وقامت تراءى يوم جمع فأفتنت
…
برؤيتها من راح من عرفات
قال: فكانوا يروون أن هذا الشعر لسعيد بن المسيب
(البقية في العدد القادم)
ناجي الطنطاوي
قصة المكروب
كيف كشف رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
الحصانة واليهودي الأفَّاق
- 4 -
وصل الفائت
اكتشف متشنيكوف في بعض الأحياء المائية الصغيرة خلايا تدور في أجسامها فإذا هو حقن في هذه الأحياء صبغة تجمعت تلك الخلايا فأكلت الصبغة. وإذا شك الحيوان بشوكة نهضت تلك الخلايا إليها تدفع السوء الداخل. وأدخل في أجسام تلك الأحياء خمائر قاتلة، فنهضت إليها الخلايا فالتهمتها. عندئذ فسر الحصانة بأنها حرب بين خلايا طليقة في الأجسام كمثل كرات الدم البيضاء وبين المكروبات الداخلة إليها. وأسمى هذه الخلايا فجوسات
اتجه متشنيكوف بعد ذلك يبحث في هذه الحروب هل هي عينها التي تقع في الضفادع والأرانب. وفي عام 1886 وردت أخبار بستور من وراء الحدود تنقل حديث شفائه الروسيّين الستة عشر من عضة الكلب المسعور بعد ضياع الرجاء فيهم، فاهتز أهل أودسا الأخيار لهذه الأخبار، ونهضوا، ونهض معهم أهل الريف الذي حولهم حتى حدود المقاطعة، نهضوا جميعاً يشكرون الله على ما حبا، ويهتفون لبستور على ما أتى، وجمعوا كيساً ضخماً من الروبلات لإقامة معمل يُنشأُ توّا في أودسا. وعينوا متشنيكوف مديراً علمياً لهذا المعهد الجديد. ولمَ لا؟ أليس هو الرجل الذي درس في كل جامعات أوربا؟ أليس هو العالم العلاّمة الذي خطب أطباء أودسا فأفاض عليهم من منابع علمه تلك الإفاضة الكبرى؟ أليس هو الذي شرح لهم ما خفي من أمر فَجُوسات الدم التي تأكل المكروب أكلا لمّا؟ ونسوا حيناً أنه يهوديّ!
وكنت إذا تسمعت إلى الناس وجدتهم يقولون: (من يدربنا! فلعل في معهدنا الجديد يستطيع
أستاذنا متشنيكوف أن يدرّب هذه الفجوسات الصغيرة على التهام كل أنواع المكروبات!)
وقَبِل متشنيكوف هذا المنصب الجديد، ولكنه احتاط فقال لرجال السلطة قول الحذر البصير:(أنا رجل أكبر همّه في النظريات، وأبحاثي كثيرة لا يكاد يتسع لها وقتي، وإذن فمن الواجب أن يتدرب غيري على صناعة الألقحة وأن يقوم بالجزء العملي من واجبات المعمل)
ولم يكن في أودسا في ذلك الوقت رجل واحد يعرف عن صيادة المكروب شيئاً. لذلك أرسلوا صديق متشنيكوف الدكتور جَمالَيّة بسرعة إلى باريس إلى معهد بستور. فلما حل فيه صَحِب بستورَ وصحب رو في عملهما وتعلم منهما الشيء الكثير، ولكن هذا الكثير لم يؤذن له ببلوغ الكفاية، فان أهل أودسا قل صبرهم، وزاد قلقهم، واشتدت رغبتهم في الخلاص من الأمراض فصاحوا يطلبون الألقحة، فاضطرت السلطة تحت هذا الضغط العام إلى استدعاء الدكتور جمالية، ولم يكن طال مقامه في باريس. فلما عاد بدأ يصنع لقاحاً لداء الجمرة تخليصاً لشياه الريف، ولقاحا لداء الكلب دفعا له عن أهل المدينة. عندئذ صاح متشنيكوف في الناس:(والآن كل شيء لا بد سائر كما نهوى) وهو يجهل كل الجهل تلك الألاعيب الثقيلة التي تلعبها المكروبات أحيانا على ممارسيها. ثم اعتكف إلى نظرياته يبحث في الأرانب والكلاب والقردة ليرى أفي استطاعة فجوساتها أن تبتلع مكروب السل والحمرة والحمى الراجعة. وانطلقت النشرات العلمية تخرج من معمله في تلاحق سريع، وأخذ بُحّاث أوروبا يتأثرون بكشوفات ذلك الرجل العبقري ببلاد الروس السفلى. ولكنه لم يلبث أن بدت له المصاعب في نظريته، فالكلاب والأرانب والقردة ليست شفافة كبراغيث الماء
ثم أخذ الحال يسوء في المعمل، فأخذ الخصام يدب بين رجاله وعلى رأسهم الدكتور جمالية، فاختلطت الألقحة وتلوثت، وانكبت على الأرض من أنابيبها. وجاء أطباء البلد يتسللون وفي قلوبهم بالطبع حفيظة وغيرة من هذا العلاج الجديد، وأخذوا يسألون الأسئلة المحرجة ليشيعوا شاعة السوء في الناس:(من هذا الأستاذ متشنيكوف؟ ومن أين جاءته الأستاذية وهو لا يحمل شهادة طبيب؟ إنه ليس إلا رجل طبيعي وصياد جراثيم، فمن أين جاءته معرفة الأمراض والوقاية منها؟)
وصاح الناس: (أين العلاج المزعوم؟!) وصاح المزارعون الذين نزلوا بأيديهم عميقاً في أكياسهم طَلَبَ النقود الكثيرة يبذلونها طواعية: (أين الحصانة الموعودة؟). واضطر متشنيكوف إلى الخروج من محرابه ساعة، والبروز من ضباب نظريته وفجوساته حيناً، ليصرف الناس عن شكواهم، وكانت الفئران عاثت في الحقول فأكلت المحاصيل، فبذر في تلك الحقول بشلة كوليرا الدجاج لتقضي على الفئران. ولكن تقريراً خطيراً كاذباً كُتِب من نار ظهر في الجريدة اليومية يتهم متشنيكوف أنه إنما بذر الموت والوبال في الحقول، لأن كوليرا الدجاج تستطيع أن تتحول إلى كوليرا الإنسان. . .!
فضجر متشنيكوف وشكا في خفوت: (ما شأني بهذا الصخب! أنا رجل باحث وأبحاثي متكاثرة عليّ، وأنا رجل ذو نظرية، ونظريتي في حاجة إلى كثير من الهدوء لتشتد وتنمو. . .) وسأل أهل السلطة إجازة فأعطوه إياها، فحزم حقيبته وذهب إلى مؤتمر فينا ليخبر كل من يجد هناك بأمر فجوساته، وليجد لنفسه ركناً هادئاً يستقر فيه ويعمل بعيداً عن الضوضاء، فلا يكون مضطراً لإثبات صحة نظرياته لسلطات قليلة الصبر تطلب خلق العلاجات، ولا يكون مدفوعا لارواء شهوة الفلاحين وتعويضهم عن كل قرش دفعوه بتعجل الأدوية وابتسار الحصانات. ومن فينا ذهب إلى باريس، وفي باريس انتظره نجاح باهر لم ينتظره، فهناك تعرف إلى بستور العظيم، فما إن تَم التعرف حتى انفجر يحدثه عن فجوسته ونظريته فيها، وَوَصَف له المعارك التي تقع بين الفجوسات والمكروبات وصفا بديعا سِمَّاويّا جذابا، وتأمل شيخ المكروب صاحبنا بعين متعبة طميسة أخذت تبرق للذي تسمع حينا بعد حين، فلما انتهى الحديث، قال بستور:(أنا في صفك يا أستاذ متشنيكوف، ذلك لأنه كثيرا ما استوقفتني معارك كالتي تصف كنت ألحظها بين شتى الأحياء المجهرية الدنيئة، وإني لأحسبك سائرا على هدى في الطريق الذي أنت فيه)
لم يكن بين المعارك التي ذكرها بستور وبين تلك التي يصفها متشنيكوف صلة أصلاً، ومع هذا فقد امتلأ قلب متشنيكوف مما سمع سروراً، وامتلأت نفسه زهواً. وكيف لا، وهذا أبو المكروبات الشيخ الأجل استمع له وفهمه ثم آمن به. . . وكان أبو أُلجا قد مات وترك لهم دخلاً متواضعاً. وتراءى لمتشنيكوف أن باريس مهد طيب لنظرية الفجوسات إذا هي آزرها معهد ذو جاه كمعهد بستور، فسأل بستور: (سيدي، أود لو يكون لي مكان في
معهدكم، وأنا بهذا إنما أبغي العمل في معملكم على أية صورة وبغير أجر). وأدرك بستور أنه لابد من استبقاء حماسة الجماهير لصيادة المكروب، وأن رجل الشارع لا يفهم من العلم غير تلك الأحداث المهيجة والدرامات المثيرة، فأجاب متشنيكوف عن سؤاله:(أنا لا أقبلك تعمل في معملي فحسب، بل سيكون لك فيه معمل كامل موقوف عليك). وسافر متشنيكوف إلى أودسا، وفي طريقه التقى بكوخ فجَبَهه كوخ واستغلظ له، وأخذ يفكر ويخاير نفسه بين القبول في المعهد الفرنسي والتخلص من قوم لا يفتأون يصرخون يستعجلون النتائج، وبين البقاء في المعمل الروسي والإبقاء على المرتب الطيب الذي يتقاضاه منه. . . وقرر بعد التردد أن يبقى حيث هو من أودسا وواصل عمله فيها، ولكن حدث بعد قليل حَدثٌ لم يترك لنفسه خياراً. ذلك إن الفلاحين زادت شكواهم من القطعان التي تموت بالجمرة وعلت أصواتهم في طلب الألقحة، فأمر متشنيكوف الدكتور جمالية أن يحقن الشياه بلقاح الجمرة جملة واحدة. وذهب متشنيكوف وزوجته أُلجا إلى بيتهم الريفي الصيفي، وذات يوم جاءتهم فيه الرسالة التلغرافية الآتية من الدكتور جمالية:
قَتَل لقاح الجمرة آلافاً من الشياه
فلم تمض أشهر قليلة حتى كان متشنيكوف استقر في معهد بستور الجديد في باريس، وإلى جانبه أُلجا - تلك الزوجة الطيبة - التي كانت لا تُقصّر في عمل أي شيء لزوجها لأنه عبقري وعطوف عليها - قامت إلى جانبه تمسك له الحيوان وتغسل له الزجاجات، وهي لو تُركت لنفسها لفضّلت تصوير الزيت أو نحاتة الحجر - فَنَّين جميلين أقرب لمتعتها وأملأ لشهوتها. ومن تلك الساعة مشى الزوجان، يداً في يد، في طريق النصر من غلبة إلى غلبة، وقد انتثرت على جانبيه من أخطائهما ورود زادت طريقهما روعة وجمالاً
(يتبع)
أحمد زكي
مقاييس الشعر
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
ذكر ابن سلام أنه شهد خَلَفاً وقد قيل له من أشعر الناس؟ فقال: ما ينتهي هذا إلى واحد يجتمع عليه، كما لا يجتمع على أشجع الناس، وأخطب الناس، وأجمل الناس
وإذا أردنا أن نبحث عن السبب في تشعب الخلاف في ذلك إلى هذا الحد لم نجده يرجع إلا إلى أن علماء الأدب لم يهتدوا في ذلك إلى مقياس عام للشعر يمكن به وضع كل شاعر في مرتبته التي يستحقها بموجب هذا المقياس العام، ويرجع إليه علماء الأدب فتتفق عليه كلمتهم في ترتيب طبقات الشعراء، أو يقرب الخلاف بينهم في هذا ولا يتشعب ذلك التشعب. وإن عدم اهتدائهم إلى ذلك المقياس العام للشعر ليجعل خلافهم في ترتيب طبقات الشعراء على استفحاله بينهم مما يجدر بالباحث عدم الاعتداد به، لأنه يكاد يكون خلافاً لفظياً لا حقيقياً، إذ لكل فريق وجهة نظر فيمن يقدمونه من الشعراء خلاف وجهة نظر الآخرين كما يقدم أهل البصرة امرأ القيس لسبقه إلى ابتداع أشياء استحسنها العرب واتبعه الشعراء، من استيقاف الصحب وبكاء الأطلال، وتشبيه النساء بالضباء وغير ذلك. وكما يقدم أهل الحجاز زهيراً والنابغة، لأن أهل زهيراً كان أحكم الشعراء شعراً، وأبعدهم من السخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من الألفاظ، وأنه كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتبع حوشيه، وأنه مع بلوغه ما بلغ في المدح لم يمدح أحداً بغير ما هو فيه. ولأن النابغة كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتاً، وكأن شعره منثور لا تكلف فيه. وكما يقدم أهل الكوفة الأعشى لأنه كان أكثرهم عروضاً، وأذهبهم في الشعر فنوناً، وأكثرهم طويلة جيدة
وقد قسم علماء الأدب الشعراء تقسيماً يمكن أن يعد من المقاييس العامة للشعر، ولكنه لا يفيدنا في ترتيب طبقات الشعراء الفائدة المطلوبة، فقالوا إن الشعراء أربعة أقسام: شاعر فحل وهو الذي يجيد الشعر ولا يروي لغيره؛ وشاعر خِنْذِيذٌ وهو الذي يجيد الشعر ويروي الجيد من شعر غيره، فهو شاعر وعالم بالشعر. وقد يقال الفحل لما يشمل هذين القسمين فيكون أعم من الخنذيذ؛ وشاعر وسط وهو الذي لا يبلغ رتبة الفحول ولا ينحط شعره إلى الرديء؛ وشُعْرُورٌ أو شويعر وهو الرديء
وقد وضعنا للشعر مقياساً عاماً يتفاضل فيه الشعر باعتبار نبل أغراضه وشرف مقاصده، قبل أن يتفاضل بجماله وألفاظه ومعانيه. ولقد وازنا بهذا المقياس بين امرئ القيس وعدي بن زيد في كتابنا (زعامة الشعر الجاهلي)، وبين أبي العتاهية وبشار وأبي نؤاس فيما كتبناه في مجلة (الرسالة) الغراء عن أبي العتاهية، فخرجنا من هذا بتفضيل عدي بن زيد على امرئ القيس، وتفضيل أبي العتاهية على بشار وأبي نؤاس، وهو أمر لا يمكن أن يخالفنا فيه أحد يوافقنا على صحة هذا المقياس الذي وضعناه للموازنة بين الشعراء؛ وإنها لميزة كبيرة له يظهر فضلها إذا نظرنا فيما روى في ذلك عن خَلَفٍ فيما سبق
ولكن جمهرة أدبائنا لا يوافقون على هذا المقياس الجديد، وينكرونه علينا أشد الإنكار. وهم معذورون في هذا الإنكار أشد العذر، لأن دراسة الأدب قد سارت من نشأتها إلى الآن على خلاف رأينا في هذا المقياس، حتى إن الأصمعي رحمه الله وسامحه كان يقول: إن الشعر لا يقوى إلا في باب الشر، فإذا دخل في الخير لان. وطريق الشعر هو طريق شعر الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة من صفات الديار والرحل والهجاء والمديح والتشبيب بالنساء وصفة الحمر والخيل والحروب والافتخار وغير ذلك
وقد ذكر قدامة بن جعفر في كتابه (نقد الشعر) رأيا في ذلك أخف من رأي الأصمعي، فهو يرى أن الذي يلزم الشاعر فقط أنه إذا شعر في أي معنى كان من الرفعة والضَّعَة، والرَّفَث والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح والذم وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة التي يمليها على الشاعر وجدانه، ويوحي إليه شيطانه، أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة
وقد حملني ذلك النفور من رأيي في قياس الشعر بأغراضه ومقاصده قبل ألفاظه ومعانيه على تقييد كل ما أجده يؤيده في مطالعاتي، فوصلت في ذلك إلى طائفة صالحة من أقوال الحكماء والشعراء، ولم أقصد من مقالي هذا إلا تقييدها على صفحات مجلة (الرسالة الغراء)
قال الأحوص:
وما الشعر إلا حكمةٌ من مؤلِّفٍ
…
لمنطق حقِّ أو لمنطق باطل
وقال فكتور هوجو: الشاعر مصلح عظيم، ونبي كريم، أرسله الله لقومه هادياً إلى الحرية
والحمال والحب
وقال حسان بن ثابت:
وإن أشعر بيت أنت قائله
…
بيت يقالُ إذا أنشدتَهُ صَدَقا
وإنما الشعر لُبُّ المرء يعرضه=على البرِّية إن كيْساً وان حُمقَا
وقال معاوية بن أبي سفيان لعبد الرحمن بن الحكم: إنك قد لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء فتعرّ شريفة، والهجاء فتهجن كريماً، أو تثير لئيما. وإياك والمدح فهو كسب الأنذال، ولكن افخر بمآثر قومك، وقل من الأمثال ما تزين به نفسك، وتؤدب به غيرك، وإن لم تجد من المدح بداً فكن كالملك المرادي حين مدح فجمع في المدح بين نفسه وبين الممدوح فقال:
أحللتُ رَحْلي في بني ثُعَل
…
إن الكريم للكريم مَحَلّْ (؟)
وقال النابغة الشيباني:
وإني حاكمٌ في الشعرُ حكماً
…
إذا ذُكرَ القوافي والنَّشِيدُ
فخير الشعر أكرمه رجالاً
…
وَشَرَّ الشعر ما نطق العبيد
وقال أيضاً:
من الشعراء أكفاءٌ فحولٌ
…
وفَرَّ أُثون أن نطقوا أساءُوا
فهل شعر أن شِعْرُ غِناً وحكمٌ
…
وشعرٌ لا نصيح به سواءُ
وقال أبو نؤاس:
الشعر ديوانُ العربْ
…
أبداً وعنوانُ الأدبْ
لم أعْدُ فيه مفاخري
…
ومديح آبائي النُّجُبْ
ومقطَّعاتٍ رُبَّما
…
حلَّيت منهنَّ الكتب
لا في المديح ولا الهجا
…
ء ولا المجونِ ولا اللعبْ
ودخل العجاج على عبد الملك بن مروان فقال له: بلغني أنك لا تحسن الهجاء، فقال: يا أمير المؤمنين من قدر على تشييد الأبنية، أمكنه خراب الأخبية، قال: وما يمنعك من ذلك؟ قال إن لنا عزاً يمنعنا من أن نُظلم، وحلما يمنعنا من أن نظلم. قال لكلماتك أحسن من شعرك. فما العز الذي يمنعك من أن تظلم؟ قال الأدب المستطرف، والطبع التالد. قال لقد
أصبحت حكيما، قال وما يمنعني من ذلك وأنا نجي أمير المؤمنين؟
وقال أبو العلاء المعري:
مُلَّ المُقَامُ فكم أعاشر أمةً
…
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
فِرَقاً شعرتُ بأنها لا تقتني
…
أدباً وأن شرارها شعراؤها
وقال الفارابي: إن أكثر شعر العرب في النهيم والكريه، وذاك أن النوع الذي يسمونه النسيب إنما هو حث على الفسوق ولذلك ينبغي أن يتجنبه الولدان، ويؤدبوا من أشعارهم بما يحث فيه على الشجاعة والكرم، فأنه ليس تحث العرب في أشعارها على شيء من الفضائل سوى هاتين الفضيلتين، وإنما تتكلم فيهما على طريق الفخر، لأن أكثر شعرهم من شعر المطابقة الذي يصفون به الجمادات كثيراً والحيوان والنبات. وأما اليونانيون فلم يكونوا يقولون أكثر ذلك شعراً إلا وهو موجه نحو الفضيلة والكف عن الرذيلة، وما يفيد أدباً من الآداب، أو معرفة من المعارف
وقال محمود سامي البارودي:
الشعر زَيْنُ المرء ما لم يكن
…
وسيلة للمدح والذَّامِ
قد طالما عَزَّ به معشرٌ
…
وَرُبَّما أزْرَى بأقوام
فاجعله فيما شئت من حكمة
…
أو عظة أو حسب نام
وَاهْتِفْ به من قبل تسريحه
…
فالسهم منسوب إلى الرامي
ولا شك أن من ينظر في هذه الأقوال والأشعار لهؤلاء الحكماء والشعراء يجدها تتفق تمام الاتفاق مع ذلك القياس الذي وضعناه للشعر ليصلح به أمره، ويحسن في الناس أثره
عبد المتعال الصعيدي
نُجح وإخفاق
للأستاذ فخري أبو السعود
نَلْ ما تُريدُ من الأيام مقتدرا
…
وطُفْ بموكبها العَجَّاج منتصرا
وسِرْ حياتَكَ مِن نَصرٍ إلى ظفرٍ
…
وقَضِّ في غَزْوِ غاياتِ العُلى العُمُرا
وازدَدْ بنفسك إيمانا إِذا وَطَرٌ
…
شآك لا تَلحَ إنسانا ولا قَدَرا
واعلمْ بأنك تَرْقي اللجَّ معتليا
…
إِذا هوَى بك بعضُ اللّجّ منحدرا
كُنْ - إذْ علمتَ طباعَ الهر كيف جَرَتْ
…
وقد علمتَ طباع الخَلْقِ - مُعْتَبِرا
كم لُمْتُ نفسي على ما فاتَ من أَرَبٍ
…
ولم أَلُمْ قَدَراً يوما ولا بَشَرا
لو كنتُ أبصر بالمسعى خَلصتُ إلى
…
مُنايَ ما أُبْتُ مِن مَسعَاي مُنكسرا
الدهرُ نِعمَ المُرَبِّي بَثَّ حكمتَهُ
…
في كُلِّ ما نَاب من أحداثِهِ وعرا
أكلما لقَّن الإِنسانَ تجربةً
…
أنحى عليه بِذَمٍ؟ لو دَرَى شَكرا
ما لائم الدهر إلا كالصبي إذا
…
مَشى إليه المُربي بالعصا جَأَرا
من علَّمته رزايا الدهر موعظةً
…
فانه قد جَنى أَضعافَ ما خَسِرا
إِني - وقد صنتُ نفسي أَن يؤدِّبَها
…
سوايَ يُلقى إليها الواعظَ والنُّذُرا -
أُمسي عليها رقيباً ساهراً يقظاً
…
عمري وأَضحيِ حسيباً مغلظا عسرا
النُّجح يعرفني إن نلت غايته
…
لم أُلْف لا قانعا جهلاً ولا أَشِرا
والرُّزءُ يعهدني: إن جل موقعُه
…
أَلوذُ بالعزم والإيمان مصطبرا
صحبتُ دهري وصاحبتُ الأنام على
…
عِلاَّتِهمْ ولكم أُغضى مَنِ اختبرا
كم أَوْلَعتْ بِيَ شرّيرا طَوِيَّتُهُ
…
وحدثته بفعل السوءِ فابتدَرا
كان المُسيء فلم أَحفل إساَءته
…
وقد غفرتُ ولم يحلَم ولا غفرا
مَن ليس تقصر دون الأُفق هِمَّته
…
ولا يُطارح إلا الأنجُمَ السَّمَرا
فكم يبيتُ عن الأضغانِ في شغل
…
وكم يمر بأهل الضغن محتقرا
فخري أبو السعود
هرم خوفو
للأستاذ عبد الرحمن شكري
يا موجة للدهر لم تُهْزَمِ
…
تعلو عُلُوَّ الجبل الأعظم
وما رأينا قبلها موجة
…
تعلو فلا تحدر للمحطم
ما الناس والآثار من بَعْدِهم
…
إلا كموج إن علا يُهْزَمِ
موج لبحر ما له ساحل
…
إلا الردى في لحده المظلم
كم عند شط الموت شِلْوِ رَدى
…
يقذفه الدهر إِلى ضيغم
هل أنت شِلْوٌ لزمان مضى
…
رفاته الآثار لم تُرْدَمِ
لم يبق من عمران من قد مضوا
…
إلا بقايا الجلد والأعْظُمِ
كأنما يُذْخَرُ من مجدهم
…
ما يُذْخَرُ النمل من المَطعم
كيف نُرَجِّي الدهر ذا عفة
…
إِن ذاق طعم اللحم لم يقرم
لا يسمع الدهرَ سوى مُنْصِتٍ
…
بالروح إن يُصْغِ له يبكم
همهمة يطلقها عارم
…
إن يمضغ المودى به يبغم
هل خاف هذا الدهر صرف الردى
…
فشاد صَرْحاً منك لم يُثْلَمِ
لا يجرؤ الموت على بيته
…
في هرم كالجبل الأدهم
أم شادك العقلَ لكيما يرى
…
من فوقك الأقدار لم تهجم
بعيدة لم تَبْدُ أشخاصها
…
تهفو لنا في يومها الايومِ
كي يؤْذِنَ الناس بِإقبالها
…
من قبل أن تفجأ بالمَقْدَمِ
إِن أرزم الرعد على شاهق
…
ففوقك الأيام كالمرزم
أو كللت هَامَته ديمة
…
وطفاءُ مثل المِجْسَدِ المسهم
فوقك أرواح عصور خلت
…
كديمة سوداء لم تحسمِ
هدت يدُ الدهر مشيدَ البنى
…
وهو إذا أمَّكَ كالأجذم
كم أنزل الدهر شآبيبه
…
على جبين منك لَم يهرم
كالمزن فوق الزهر يحيا به
…
زهر الرُّبى من غيثه المُرْهِم
كأنما روح زمان مضى
…
معشش فوقك كالقشعم
يا معبداً يُعْبَد فيه الحجا
…
إلى الحجا في صنعه ينتمي
أجلُّ ما تعبد فيه النهى
…
سليلها في صنعه المحكم
يا عَلَم الدنيا الذي قد غدا
…
عجيبة الغائر والمتْهَمِ
علت بك الأرض كمن قد علا
…
برأسه الكبر فلم يُهضم
رفعت رأساً منك ما طاله
…
رأس البناء الشامخ الأقوم
كأنما كل البنى سُجَّدٌ
…
من هيبة للملك الأعظم
يا ملكا ما انحلَّ سلطانهُ
…
قد هُدِمَ الماضي ولم يُهدَم
كم دولة قد ضاع سلطانُها
…
ودولة الأهرام لم تهرم
يا غِيَرَ الأيام في كَرِّها
…
من أبيض نأمن أو أسحم
تباعَدِي إن شئت أو فاهجمي
…
على شبيه البطل المُعْلَمِ
هيهات لم يبدُ له مَقْتَلٌ
…
قد أخطأ الرامي فأشْوَى الرَّمي
كم خال فيك الناس سرا طوا
…
هـ الدهر لم يُكشَفْ ولم يُعلم
خالوا الأُولَى شادوك قد أوعدوا
…
فيك رموز المطلب الأكرم
ما أودعوا إلا كنوزاً غدت
…
نهبة كف الصائل المجرم
وكل ما لم يَبْدُ كُنهٌ له
…
يخالُ كنز الحق والمغنم
والمرء يبغي الحق في خدره
…
ولو بدا في أعين الأنجم
ورمه خبأها كاهنٌ
…
لفَاتِك الآراء والمخذم
رمة رب رائع عزمه
…
قد أُخرجَت من بعدُ للمرجم
جلال روح منه ذي همة
…
مجسم في صنعه المحكم
لا تحسبنَّ الناس لم يُغنهم
…
غير منال البُرْد والمطعم
فالنفس تبغي أن ترى كُنْههَا
…
مُجَسَّماً في صنعها الأعظم
لم يُصلح الناسَ لِذِي أمرهم
…
غيرُ شفيع السيف والدرهم
أظلمهم من ساغ طعم الأذى
…
ليس الذي يَظلمُ بالأَظْلَمِ
كل ضعيف خيره علة
…
من ذا الذي صح فلم يعرم
آية الصبح
بقلم الشاعر عثمان حلمي
غرَّد العصفورُ للصبح فهيا
…
يا حبيبي فتَّح الصبح فهيا
آية الصبح تجلَّتْ، قمْ بنا
…
قبل أن تطوي بضوء الشمس طيّا
إن نور الله في بهجته
…
دلَّنا أن له سراً خفيا
وكأن الكون فيه ملك
…
يتغنى نغماً حلواً شجيا
سكَبَ الحسن على جبهته
…
ماءه فانتعش العالمُ رِيا
كلُّ شيء ضاحكٌ مبتهجٌ
…
بعَثَ الصبحُ موات الكون حيا
فهنا الريحانُ في أوراقه
…
ناشراً من روحه روحاً زكيا
وهنا النرجسُ في جلبابه
…
لابساً من حسنه ثوباً بهيا
وهنا الوردُ على أغصانه
…
خَجِلاً من حسنه الزاهي حَييا
وهنا الطيرُ تُغنِّي لغةً
…
فهم الزهر لها معنى خفيا
كلما غرَّدَ منها طائرٌ
…
خِلْتُه كان إلى الطير نبيا
وهنا الأشجارُ في خضرتها
…
لبست ثوباً من الحسن زهيا
خَلَعَ الصيفُ عليها بُرْدَه
…
وحباها ثمراً حلواً جَنيا
رضى الله على الدنيا فما
…
تبصرُ العينُ من الدنيا دَنيا
كفُّ جبريل عليها نثرتْ
…
من رُبىَ جنته حسناً نديا
من حياة الخلد أو من حسنه
…
ما يعيد الميْت في الأنفس حيا
أو مشى يوسفُ فيها طرباً
…
وحبا الجوَّ بها عطراً زكيا
وحبا الأنظارَ من طلعته
…
ما يُعيد الحب في النفس فتيا
فإذا ما عبث الحبُّ بها
…
جعلته مثلاً منه عليا
يا حبيبي سِرْ بنا في روضةٍ
…
نروِ منها الطرف إن كان صدِيا
والذي صوَّر في الكونَ لنا
…
بيديْ إحسانه حسناً سأويا
والذي نمَّقَ من قدرته
…
كلَّ ما ينطقُ بالحق جليا
والذي قلبي ونفسي صُنْعه
…
كنت منه أولياً أبديا
والذي سواك من نور الضحى
…
بعد أن لم تك في ماضيك شيَّا
والذي أرسلني منكَ إلى
…
كلِّ من يشعرُ للحب نبيا
والذي اكسب نفسي نغماً
…
باعثاً للحسن في الناس دويا
والذي أبدعَ في صوتك ما
…
يملأُ السمع به خمراً شهيا
غنِّنيِ شعري وقل في طربٍ
…
غرَّدَ العصفورُ للصبح فهيا!
جلَّ من أنشاكَ في صورته
…
مثلاً في حسنكَ الزاهي عليا
وحباني الحب حتى ما أرى
…
غيرَ حبي كان حبا عبقريا
جلَّ من أرسل منِّي شاعراً
…
يتغنى فيك بالشعر شجيا
أنت في شعري جميلٌ خالدٌ
…
بعد ما يطوي حياتي الدهر طيا
آه لو تفهمه لم تنسني
…
أبدَ الدهر ولو كنت نَسِيا
هاك رتِّله، ففي ترتيله
…
ما الباكيَ النفس رضيا
فهو مثلُ الصبح، في آيته
…
ما يعيد الأمل الحلو قويا
هاهو الصبحُ، فلولا حسنه
…
كانت الدنيا جحيما أبديا
سطَّر الرحمنُ في صفحته
…
نورَه نوراً سماوياً سنيا
وأجاد الله في صنعته
…
لم يدع في خلقه للنقص شيا
ليتَ شعري ما عسى جنته
…
تلك حيث النفس لا تلقي رديا
طهِّرتْ من نقصنا وأُبتهجتْ
…
من سناهُ كاملاً فيها جليا
ليتني رضوانُها أو ليتني
…
ملَكٌ فيها يظلُّ الدهر حيا
وأرى شخصاً فيها ملكاً
…
نتناجى الحب في الخلد سويا
تتناجى حُبَّنا عن كثبٍ
…
ويكون الحبُّ حباُ أبديا
ونرى الرحمنَ فيها أو نرى
…
من يرى الرحمنَ في الخلد هنيا
فهناك المثلُ الأَعلى لمن
…
عَرف الأَدنى من الدنيا قويا
قم إذن نسعَ إلى الروض سويا
…
يا حبيبي، فتَّح الصبح فهيا!
لا يطيب العيش لي منفرداً
…
أو أرى وحدي جلال الحسن شيا
لو ملكت الخلد وحدي لم أكن
…
لا عن النفس ولا عنه رضيا
نزعت نفسي إلى مؤنسها
…
أو حبيب اجتلى منه المحيا
(الإسكندرية)
عثمان حلمي
القصص
قصة مصرية
الأعمى. . .
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
بقلم محمود البدوي
بقى الأعمى في المسجد بعد أن فرغ المصلون من صلاة العشاء بساعة، ثم مشى إلى جانب المنبر فتناول عصاه وأم الباب، ولما بلغ عتبته سمع صوت الدلو في البئر، فنصب قامته وأرهف سمعه. . لقد جاءت جميلة على عادتها، ولكنها متأخرة قليلاً هذه الليلة. واستمر واقفاً وسمعه إلى الماء المتقاطر من الدلو كدفعات المطر غب سحاب ورعد؛ ثم انقطع صوت الماء، فأدرك أنها ملأت الجرة، فدفع الباب وخرج، ومضى تحت جدار المسجد خطوات. . . ثم توقف عن سيره وأخذ يفكر. . . ثم ارتد إلى حيث كان، حاثاً الخطى كأنما يسوقه سائق. . . وعطف على البئر وقلبه شديد الخفقان
(جميلة. . .)
(نعم. . .)
(أملأت الجرة؟)
(أجل!)
(وذاهبة إلى البيت؟)
(أجل!)
وكانت الجرة على رأسها، وقد تهيأت للسير، فاستدارت ووقفت. . . . . . . . .
ومد عنقه وقال:
(سأروح معك من غرب البلد. . . لأن كلاب الشيخ عبد الكريم عادت من العزبة. . . وهي تقطع عليّ الطريق)
(هيا. . . . . . . . .)
ومشيا صامتين والليل ساكن والقرية نائمة، والظلام مخيم؛ حتى أحس بأنفاسه خلصت،
فأدرك أنهما خرجا إلى الخلاء. بعد خطوات سمع حفيف الريح في عيدان الذرة، فأيقن أنهما قربا من الحقول، وسأل وقلبه يرجف:
(أوصلنا بستان الشيخ حسين؟)
(قربنا. . . . . . . . .)
ولم يكن ألف هذه الطريق، وإن يكن يعرف أن هناك قناة صغيرة تمتد بين البستان وحقل الذرة، وعليهما أن يعبراها لينحدرا منها إلى جنوب القرية، ثم إلى حيهما. وكان منذ أن غادر البئر واقعاً تحت تأثير خواطر عاصفة، اشتعل لها رأسه، وجاش صدره؛ فكان يتخلف عنها قليلا ويجعلها تتقدمه خطوات. فهذه هي المرة الأولى التي ينفرد فيها مع امرأة في ظلام الليل وسكونه، على أن تخلفه عنها لم يخفف من حاله، بل على العكس من ذلك، كان يفسح المجال لوضوح رغباته وتركزها وأخذها السبيل عليه، فمضى وراءها والاضطراب يعصف بقلبه وصدره وكيانه، حتى وصلا القناة فدفع لها عصاه، ونزل وراءها في الماء، وغاصت أقدامهما في الوحل، وخرج ينفض رجليه في العشب الممتد على حافة الحقل. وأنزلت هي جرتها وانحنت على الماء تغسل رجليها، ثم انتصبت تصلح ثوبها، وهو واقف خلفها يفتح رئتيه وصدره لهواء المساء العليل، ويحاول أن ينحني عن رأسه عن الخواطر العاصفة التي ألهبت أليافه وهيمنت على كيانه
وواجهته وقالت بصوت ناعم:
(ناولني. . . . . . . . .)
فمد يده إلى الجرة. . . فلمست يدها، فكأنما لامس لهب كاو، فوقف ويده تلاصق يدها
ثم أمسك بيدها ورفعها عن الجرة، حتى استطاع أن يقبض عليها بقوة، فمدت وجهها مشدوهة وقالت وصوتها يرتعش:
(ناولني. . . . .)
فرفع يده إلى ذراعها وضغط؛ وقد أحس بألياف لحمه تلتهب
(نـ. . . ناولني.!. . .)
فأبقى يده ضاغطة على ذراعها، وهو واقف يتردد
(ما الذي تريده مني؟)
فلم يقل شيئاً. ثم مال عليها وضمها إلى صدره، وضغط على جسمها فتراخى، وحملها على ذراعيه بسرعة، ودخل بها حقل الذرة. . . . . .
مشت جميلة إلى بيتها خائرة القوى، مرضوضة الجسم، ذاهبة اللب، وقد أسود في نظرها الوجود واحلولكت الدنيا. . . مشت ذاهلة ساهمة لا تحس بشيء مما حولها، ولا تعرف إلى أين هي ذاهبة. . . على أن رجليها كانتا تقودانها، بحكم العادة، إلى بيتها. مشت تحملق في الظلام، وهي والهة مرتاعة ترى بعد كل خطوة شبحاً، وتتصور عند كل قدم حفرة. . . . . . لقد فعلتها. . مع من؟ مع سيد الأعمى. . . لقد ساقتها قوة أزلية إلى الهاوية! لقد حملها المقدور الحتم إلى الوحل. . . لقد جرفها التيار فغاصت في الوحل إلى ساقيها
إننا نسير في الطريق مسوقين بقوة أعلى منا وأقوى. قوة جارفة لا نستطيع ردها، ولا نقوى على دفعها، تسوقنا في الظلام إلى المصير الحتم. . . لقد غدت جميلة، فتاة الريف العفيفة الطاهرة، المرأة الدنسة القذرة التي غاصت بقدميها في الوحل. . . سيظل الوحل عالقاً بها دائماً، وإن غسلت رجليها صباح كل يوم ومساءه، سيظل الوحل عالقاً بها أبداً
ستذكر دائماً إن قوة خفية ساقتها، بمحض إرادتها، إلى الوحل، قوة أعلى منها لا تستطيع فهمها ولا تحاول فهمها ولا تعليلها. هذه القوة الخفية الأزلية تعمل دائماً من وراء الحجب، تعمل أبداً من وراء الغيب، وتسوقنا إلى المصير المحتوم
ستذكر جميلة، الفتاة الريفية الجميلة المزهوة، أن قوة خفية ساقتها إلى البئر، لتقودها إلى الأعمى، ولتجرفها إلى الحقل
لا لذة ولا متعة، ولا إحساس بشيء من هذا كله، ولكنها استسلمت ورضيت، لأنه حكم عليها بأن تستسلم وترضى
لا إحساس بنشوة، ولا شعور بمتعة، وإنما مر كل شيء كالعاصفة الهوجاء وهي تلف كل شيء لفاً
لما فتحت عينيها على الدنيا الرحيبة الباسمة، من قبل، كان كل شيء قد تغير؛ كل شيء قد تغضن واربد وعلته غشاوات، ولفه السواد في جلبابه، وطوته العاصفة الرعناء في طياتها؛ كل شيء قد انمحى من باصرتها ومات وذهب مع العاصفة، وبقيت ظلمات يأخذ بعضها برقاب بعض. . . . وعليها أن تسير في جوف الظلام وتمضي
ستطلع شمس الصباح الجميلة على القرية الوادعة، وستقابل القرويات، وستتحدث وتبتسم وتضحك، ولكن بأي وجه؟ وأي لسان؟؟ وستقابل الزوج، عندما يطلع النور؛ ستواجه زوجها وتقف أمامه؛ ولكنه لن يعرف شيئاُ، ولن تعرف النسوة شيئاً، ولكنها مع هذا ستشعر بالخجل، وتغض الطرف وتنكس الرأس، وهي الجميلة المزهوة التي تعلو على أقرانها ولداتها
ستسير في القرية مطأطئة الرأس، خافضة الطرف، لا تستطيع أن تقابل نظرة امرأة بمثلها. . . ستفعل ذلك ما دام الإحساس بالجريمة يلازمها؛ وإذا ما بارحها هذا الإحساس ستنسى، ولكنها لن تستطيع أن تنسى كل شيء. ستذكر دائماً أنها فعلت ذلك بمحض إرادتها، وكان عليها أن تقاوم وتمزق الثوب وتشق الجيب، وتملأ الدنيا صياحا. إنها لم تأخذ شيئا، لم تأخذ شيئا مطلقاً، وأخذ الرجل كل شيء!
ولن تذهب إلى البئر بعد اليوم، لا في الصباح الباكر، ولا في الليل الزاحف؛ لا وحيدة ولا برفقة أحد، كل ما توده الآن هو أن تنسى، هو أن تحاول أن تنسى. كل شيء في الحياة يتغير في ساعة، يتغير في ساعة أزلية مسطورة في صفحة حياتنا. لقد غدت الفتاة المشرقة الضاحكة الناضرة، المرأة المشوهة المنكسرة الواجمة. . . بعد ساعة مرت كالعاصفة
فتاة الريف لا تزال بخلقها البكر، لا يزال ضميرها حياً، لم تخدره بهارج المدنية الكاذبة، إنها لا تزال ترى الأشياء على حقيقتها. لا تزال بطبعها البكر طاهرة نقية قوية الإيمان عفيفة الأزار. . . . تستهول الجريمة الجنسية، وتستفظع الخيانة الزوجية، وترجف حتى من التفكير فيها، هكذا شعورها بفطرته، تعرف من غير معلم ولا مدرسة أنها خلقت لرجل واحد ليس إلا. رجل واحد يأخذ منها قلبها وجسمها، ويستغرق تفكيرها ووجودها. وتدفعها فطرتها إلى أن تكون له أبداً. أما إذا زلت قدمها، وجرفها التيار إلى الوحل مرة! فما الذي تفعله؟ تحاول بكل ما تستطيع من قوة أن تنسى. . . لأنها لو ذكرت ربما عاودتها مع الذكرى أشياء لا تحبها ولا تود التفكير فيها
ولما أشرفت على الجسر الذي ستنحدر منه إلى حيها راعها نباح الكلاب الشديد! إنها لم تنبح بمثل هذه الشدة مطلقاً؛ إنها تطارد في ظلام الليل أشباحاً مخيفة تروعها. وأحست بوخز الإبر في جسمها. أخذ جسمها يرتعش، ومع الرعشة برودة الثلج. فمالت إلى جدار
قائم في الطريق واعتمدت عليه دقائق. ولما رجعت إليها بعض قوتها استأنفت سيرها، وتقدمت تسحب رجليها سحبا، وقد آب لها بعض حسها؛ على أن جسمها كان يشوكه مثل الشوك دائما. وأخذت عينها الترعة، وماؤها يتدافع ويجري. وقد تراقصت الصور في مخيلتها واختلطت. بعد خطوات ستصل المنزل وتلاقي زوجها. وحدقت في الماء وهو يجري متدفقا منطلقا كالسهم، لا شيء يقف في طريقه، يجرف معه دقيق الحصى والتراب، ويحمل على متنه خفيف الريش، لقد حملها التيار، إلى أين ذاهبة؟ إلى أين ذاهبة؟
ما الذي سيحدث لو علم زوجها؟ سيذبحها كما يذبح الفروج. ليس أيسر على الريفي من ذلك في سبيل عرضه وشرفه، وهو ثروته الباقية على الأيام. ماذا يحدث لو علم لداتها؟؛ ما الذي سيحدث لو علم أقرانها اللواتي تزهي عليهن بجمالها وتشمخ؟ سيمزقنها بألسنتهن، وستغدو حديثهن في كل سمر، ومتعتهن في كل مجلس. ما الذي سيحدث لو علم أهلها؟ أخوها أقوى شباب القرية سيدفنها حية كما دفنت ناعسة ومبروكة وعزيزة من فتيات القرية التي حامت حولهن الشبهات، وعفى عليهن الآن ذيل النسيان فلا يستطيع أحد أن يذكرهن لأن في الذكرى جريمة. . . حتى ذكراهن عند القروي جريمة
ونزلت من الجسر إلى الدرب الذي في نهايته منزلها، ومشت مستريحة إلى الظلام المتكاثف. كل ما توده الآن هو أن تسير في جوف الظلام متقية به أعين الناس. لقد مشت على الجسر راجفة مروعة تخاف أن يبصرها خفير الدرك، ولكنها الآن في جوف الظلام آمن وأسلم
وتقدمت في الدرب متخاذلة متثاقلة تحس الأرض تنشق تحتها، تصعد أكوام الرماد الملقاة عند أبواب المنازل وتهبط معها وهي تتصور أنها ترقي تل الصحراء. ولما بلغت باب البيت وقفت لحظات. . . ثم تجاسرت ودفعته
كان زوجها نائما على السطح فانتبه على حركة الباب، وصاح بصوت جاف:
(تأخرت يا جميلة. . .)
وكان صوت زوجها يرعد. أواه ظنته نائما فإذا بعينه ساهرة، فلم تجب، وغضت رأسها ووقفت في صحن البيت جامدة. ولو بصر بها زوجها لرأى أغرب صورة. ولم ينتظر جوابها فصمت، ثم قالت بعد مدة:
(اسقي البقرة واعلفيها. . .)
ومضت فترة قصيرة سمع بعدهابكاء عالياً، فسأل بغضب وقسوة، فأسخف ما في نظر القروي بكاء امرأة:
(ما الذي جرى؟)
فلم ترد. . . وزاد نحيبها
(ما الذي جرى؟)
وأنتصب وأطل من صحن البيت
(ما الذي جرى؟)
(الجـ. . . الجر. . . الجرة. . . آه. . . أهئ. . .)
(كسرت؟)
(أجل. . . آه. . . أهئ)
(وهي تستحق كل هذا البكاء؟. . . . كفى!)
(آه. . . أهئ. . . آه. . .)
(كفى. . .) بصوت راعد
فحبست زفراتها وغيضت عبراتها ودفنت وجهها في حجرها ونام الزوج وغط!
زحف الأعمى إلى المسجد قبل الفجر، وهو متخاذل الجسم متسعر الجمجمة. وكانت قد ساورته في الليلة التي خلت حمى شديدة تصبب لها عرق يملأ القرب؛ وبات يتقلب على مثل الشوك ويود من فرط الحمى المتأججة في جسمه من يقذف به إلى اليم. بيد أنه تحامل على نفسه لما لاح النور ومشى إلى المسجد متوكئا على عصاه، فما من الأذان بد. أجل ما من الأذان بد! كيف يغفل عن أذان الفجر!
وصعد إلى سطح المسجد ووقف ناصباً قامته ماداً عنقه، ويده على الساعة يتحسس بها العقرب، حتى حان وقت الفجر فوضع يده عند أذنه وانطلق. . .!! ولكن ما هذا؟ ما الذي جرى؟ لقد اختنق صوته واحتبس، وأصبحت الحروف تخرج من حنجرته مصفرة عاوية عواء الذئب. ما الذي حدث؟ ما الذي جرى؟ حاول مرة ثانية فأخفق، وتمهل لحظة؛ وحاول مرة ثالثة، فأخفق أيضاً؛ وهبط إلى صحن المسجد، وهو يهتز اهتزاز القصبة الجوفاء في
مهب الريح العاصف، وتقدم حتى وقف على رأس رجل نائم
(يا شيخ علي. . . شيخ علي. .!)
(نعم. . .)
(قم أذن الفجر. . . فصوتي لا يطاوعني اليوم. . . أصابني البارحة برد شديد. . .)
وبارح المسجد قبل طلوع الشمس، وسار على الجسر حتى بلغ الحقول المجاورة. وكان قد نال منه التعب، وبلغ منه الجهد، فاستراح تحت شجرة من شجر السنط، وضربه هواء الصباح على إذنه فنام حتى القيلولة. وقام وقد حميت الشمس، وتوقدت الهاجرة، وانقلب الهواء راكداً خانقاً يلفح الوجوه بوهج السعير، واستوى على قدميه وأمسك بعصاه، واتجه إلى القرية، وكل شيء فيها ساكن وادع إلا الأطفال الذين لا يقيمون وزناً ولا يبالون بحر أو برد
(أحمد. . . سيد الأعمى!)
(صحيح؟. . .)
(والنبي. . .)
وتجمع الصبية على الجسر، ووقفوا صامتين وعلى شفاههم بسمات خفيفة، حتى جاوزهم الأعمى، وهو يسير سيره المألوف. ولما بعد عنهم قليلاً، رماه أصغرهم بحصاة استقرت عند صدغه. ما هذا؟ لقد أصابته للمرة الأولى أول رمية اصغر صبي! ما الذي جرى؟ وانهالوا عليه بعد ذلك يداً واحدة حتى مطروه وابلاً من الحصى والحجارة. فاستدار لهم الرجل وقد تميز غيظاً، ولوح بعصاه يهدد ويتوعد، فتفرقوا عنه وأستأنف سيره بعد برهة قليلة، واستأنفوا هم بدورهم حصاهم وحجارتهم. فما أقل الصبر عند الأطفال! وأصابه حجر في الجانب الأيسر من صدغه فشجه وسال الدم، وآلمه الجرح جداً حتى خرج به عن رشده، فدار على عقبيه وجرى وراء الصبية يضرب بعصاه يميناً وشمالاً، ولا يبالي أين تقع وتصيب، وهو مخبول تماماً، حتى أصابت ضربة قوية صبياً في رأسه فجرحته جرحاً بليغاً، ونزا دمه الأحمر فلطخ وجهه؛ وكان الكلب رابضاً على الجسر في ظل جدار لمنزل خرب، وعينه إلى المعركة التي حميت واشتدت، فقام ينفض جسمه نفض الليث، وتوثب وثبات جامحة، ثم دار دورات سريعة يقذف في خلالها الهواء بغبار رجليه، ثم انقض
الرجل فمزق الجزء الأمامي من ثوبه! وطار به، والصبية يبصرون هذا ولا يكادون يصدقون، وشجعهم الكلب على معاودة الكرة على الرجل فانهالوا عليه، وقد حموا ونشطوا، يرجمونه بالحصى والحجارة، حتى انطلق الرجل يسابق الريح. وما زالوا يتبعونه حتى أجلوه عن القرية. ولما كلت سواعدهم رجعوا إلى القرية ضاحكين. وانطلق هو يجري كالمخبول لا يلوى على شيء
وبصر القرويون في صباح اليوم التالي وهم في الطريق إلى سوق (المركز) بجثة ملقاة على قارعة الطريق، فمنهم من قال إنها لسيد أعمى؛ ومنهم من أنكر ذلك
على أن الذي نحن على يقين منه أن الرجل لم يدخل مسجد القرية بعد ذلك أبداً
محمود البدوي
البريد الأدبي
حول البناء الحر (الماسونية)
وجه إلى الأستاذ (ع) من دمشق على صفحات (الرسالة) كلمة يعلق فيها على عبارة لي وردت عرضاً في مقالي عن (البارون فون أوفنباخ)(الرسالة عدد 141) بشأن (البناء الحر)(الماسونية) وغاياته
وما قلته يومئذ من أن البناء الحر إنما هو حركة من حركات الخفاء العالمية وأنه يعمل منذ الأحقاب لغايات بعيدة المدى، لا تدركها المحافل الصغيرة، ولا المراتب الدنيا، خلاصتها هدم النظم والعقائد القائمة كلها، وإدماج الإنسانية في مجتمع عام حر التفكير تسوده المساواة الاجتماعية المطلقة، هو أرجح الآراء التي انتهى إليها البحث الحديث في شأن البناء الحر وغاياته
وقد ذهب بعض أكابر الباحثين إلى أن حركة البناء الحر ليست إلا وجهاً من وجوه (الثورة العالمية) التي تسعى لإحداثها حركات هدامة كالشيوعية وغيرها
وقد كان البناء الحر وراء معظم الحركات الثورية في العصر الأخير، ولا سيما في إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وبلجيكا
بل ذهب بعض الباحثين، ومنهم المؤرخ الفرنسي الكبير أولار، إلى أن الثورة الفرنسية ربما لم تكن في جوهرها سوى مؤامرة دبرها البناء الحر، وحاول أن يصل بإضرامها إلى تحقيق غاياته
وكنت أود أن أزيد السائل الأديب بياناً، ولكن يحول دون ذلك اعتلال صحة وأهبة عاجلة للسفر إلى الأندلس
بيد أني أحيله على بحث مستفيض عن البناء الحر وتاريخه ونظمه وغاياته ووسائله نشرته منذ أعوام في كتابي (تاريخ الجمعيات السرية)(ص87 - 115)
م. ع. ع
كتاب عن برلين
ظهر في العهد الأخير نوع جديد من الأدب الوصفي هو دراسة العواصم الكبرى باعتبارها
أكمل مظهر لمختلف الشعوب والأمم؛ وبلغ هذا الضرب الجديد من الأدب روعته على يد كتاب عظام مثل بول موران، الذي تعتبر كتبه عن لندن، ونيويورك، وبخارست من أبدع آثار الأدب المعاصر. وقد ظهر أخيراً كتاب من هذا النوع عن مدينة برلين بقلم الكاتب والمؤرخ المعروف هنري بيدو، وهو يصور لنا برلين كمارد فخم يجثم في وهاد براندنبورج وفيما بين الغابات والمستنقعات؛ وقد لوحظ كثيراً أن برلين ليست كباقي العواصم الأوربية الكبرى من حيث مناسبة موقعها وكونها تعبر عن مظهر لألمانيا الحقيقي فهي من حيث الموقع لا تضارع رومة التي تقع في وسط إيطاليا وتشرف على البحر الأبيض، وباريس التي تعتبر كأنها عجلة الإدارة الفرنسية، وموسكو التي تجتمع حولها موارد روسيا الشاسعة، ولندن ونيويورك وغيرها؛ ثم هي لا تعبر عن مظهر ألمانيا، أولاً لأن العنصر السلافي يغلب فيها فهي ليست مدينة ألمانية حقة مثل ميونيخ أو لايبزج أو فرنكفورت، وثانياً لأنها تبدو دائماً كأنها عاصمة مفروضة على ألمانيا، فرفضها آل هوهنزلرن رمزاً لقوة بروسيا، ثم فرضتها الظروف بعد ذلك؛ وحياتها الاجتماعية كمدينة عظيمة تكاد تكون معدومة ذلك لأنها تبدو دائماً كمعسكر، تغلب عليه المظاهر الآلية والخشنة، فالحياة المعنوية والاجتماعية فيها راكدة لا تروق الأذهان الحساسة الرفيعة. ولقد كانت ألمانيا تقدر منذ بعيد أن برلين الحديثة سيبلغ سكانها في فترة وجيزة 12 مليوناً من الأنفس، ولكن برلين لم تبلغ مع الجهد ثلث هذا الرقم، وهو دليل آخر على ركودها المعنوي والمادي
هذه هي الصورة التي يقدمها إلينا هنري بيدو عن العاصمة الألمانية، وهي صورة لا تغبط عليها مثل هذه العاصمة الكبرى
جورج دوهامل عضو الأكاديمية
وأخيراً انتظم جورج دوهامل بين أعضاء الأكاديمية الفرنسية وأصبح من الخالدين. وجورج دوهامل كاتب من أعظم كتاب فرنسا المعاصرين، وكاتب اجتماعي وأنساني قبل كل شيء؛ وقد اشتهر بعدة من آثاره القيمة وبالأخص بكتابين هما (حياة الشهداء) و (اعتراف منتصف الليل)
وزار دوهامل مصر أكثر من مرة، في شتاء سنة 1929 وفي صيف سنة 1934؛ ولم
يكتب دوهامل عن مصر ولم يصفها كما يفعل زملاءه الذين يزرونها؛ ولكن يؤثر عنه بأنه وصف مصر بأنها (الأرض التي يسود فيها منذ الآماد عشق الحياة الأخرى) وقد تأثر دوهامل أيما تأثير مما رأى من آثار الفراعنة التي تتجسم فيها فكرة الخلود والأبدية
ودوهامل يكتب بأسلوب رائع وبيان قوي؛ وتطبع كتاباته كلها نزعة إلى الإنسانية وإلى التسامح العام
ولم يكن دوهامل يوما من الساعين إلى الدخول في الأكاديمية ولكنه حينما رشح وأنتخب لهذا الكرسي الرفيع لم يسعه إلا أن يتبوأه مغتبطا
بعثة جديدة إلى الأرض الخضراء
سافرت أخيراً إلى الأرض الخضراء (جرينلند) بعثة علمية فرنسية، لتقوم بقطع هذه الجزيرة القطبية الشاسعة من الغرب إلى الشرق؛ وهي مؤلفة من الدكتور جيسان، وميشيل بيريه، والكونت كوند، ورئيسها بول أميل فكتور. ومن أهم أغراض البعثة أن تقوم بإسعاف السكان الذين يقطنون هذه الصحاري الثلجية والذين تفتك بهم (الأنفلونزا) في الوقت الحاضر فتكا ذريعاً
وقد سبق لرئيس هذه البعثة، وهو بول فكتور أن قام برحلة كبيرة إلى الأرض الخضراء، وسلخ عاما في مدينة انجمسالك في شرقي الجزيرة، وهو يعيش عيشة أهلها الصيادين ويقلدهم في جميع عاداتهم وأحوالهم الخشنة
وقد حالت تلال الثلوج دون سير السفينة (بوركوا) القطبية، فاضطرت البعثة أن تحاول الوصول إلى أنجمسالك من طريق اليابسة
ومن أغراض البعثة العلمية أن تقوم بتحقيق ملاحظات العلامة المكتشف فنجر الذي قام سنة 1930 بسبر غور أعماق الطبقة الثلجية التي تغطي الجزيرة كلها، وإن تكرر تجاربه من نسف الثلوج بالديناميت، وقياس سرعة تغلغل الديناميت ليستدل بها على الأغوار؛ وقد ثبت من تجارب العلامة فنجر أن أعماق الطبقة الثلجية تتراوح بين 2000 و 2700 متر؛ وتنوي البعثة أيضاً أن تقوم ببعض دراسات أقليمية، وأن تدرس طبائع السكان وأحوالهم الجنسية
رحلة إلى الأندلس
اعتزم صديقنا الكاتب المؤرخ الأستاذ محمد عبد الله عنان أن يقوم هذا الصيف برحلة جامعة إلى إسبانيا، يدرس خلالها جميع المراجع والمخطوطات العربية في مكاتب الأسكوريال ومدريد وغرناطة ودير ساكرومونتي، وجميع الآثار والنقوش العربية في مختلف المتاحف الإسبانية؛ ويتجول في ربوع الأندلس وقواعدها القديمة مثل طليطلة وقرطبة واشبيلية وغرناطة ومالقة وبلنسية وغيرها؛ فيشاهد ما بها من الآثار العربية، ويدرس في الطبيعة معالم الوقائع والأحداث التاريخية الشهيرة
ويقوم الأستاذ بهذه الدراسة استكمالاً لمواد كتابه الذي يضعه عن تاريخ الأندلس، والذي توفر منذ أعوام على وضع منهجه وإعداد مواده
بناة العالم لاشتيفان زفايج
نعرف أن للكاتب النمسوي الكبير اشتيفان زفايج عدة دراسات نقدية هامة عن طائفة من أقطاب التفكير والكتابة، صدرت من قبل تحت عناوين مختلفة، فمثلاً صدرت الدراسات الخاصة ببلزاك ودكنز ودستوديفسكي تحت عنوان (الأساتذة الثلاثة)، وصدرت تراجم هلدرلن وكلايست ونيتشه تحت عنوان (النضال مع الشيطان)، وكازانوفا وشتندال وتولستوي تحت عنوان (شعراء ثلاثة لحياتهم)
وقد صدرت أخيراً طبعة ألمانيا جامعة لهذه الدراسات الشهيرة تحت عنوان جديد هو (بناة العالم) - وصدرت عن مطبعة ريختر النمسوية الشهيرة في ثوب أنيق جداً
والمعروف أيضاً أن هناك تراجم فرنسية وإنكليزية لهذه الدراسات القيمة ظهرت متفرقة ومجتمعة
ويقيم اشتيفان زفايج معظم شهور السنة في مدينة سالزبورج الشهيرة بفنونها الموسيقية والغنائية، ويقضي باقي الوقت في مدينة فينا
رحلات أفريقية
صدر أخيراً بالإنكليزية سفر من أسفار الرحلات الممتعة عنوانه (فجر الاستواء) بقلم الكاتبة والرحالة الإنكليزية الشهيرة السيدة دروثي أونا راتكليف (أو مسز ماك كريجور فلبس)، والسيدة راتكليف شاعرة غنائية رقيقة ولها ديوان شعر ممتع تترنم فيه بمحاسن
موطنها ومهد طفولتها (يوركشير). وهي رحالة كثيرة الأسفار، تجولت كثيراً في قلب أفريقية، وفي أعماق وهادها وغاباتها؛ وقد أصدرت من قبل كتاباً عن بعض رحلاتها الأفريقية عنوانه (صيف في جنوب أفريقية) وفي كتابها الحالي تصف رحلاتها برفقة زوجها وجماعة من الأصدقاء الرحل في كنيا وأوغندا وتنجانيقا، والكونغو، والسودان والنوبة؛ وقد كانت غاية هذه الجماعة المخاطرة أن تقوم باقتناص الوحوش الضارية في أعماق الغابات والوهاد الخطرة، وأن تصور مناظر الصيد تصويراً طبيعياً دقيقاً، وأن تدرس طبائع الوحوش وحياتها من الوجهة العلمية. وقد استطاعت البعثة أن تصور مناظر الوحوش من آساد وفيلة وسباع البحر، والطيور تصويراً بديعاً؛ واستطاعت أيضاً أن تجوس خلال القبائل الزنجية العارية وأن تدرس أحوالها وطباعها. وقد لقيت السيدة راتكليف ورفاقها كثيراً من المخاطرات والحوادث المشجية والفكهة معاً، فدونتها كما وقعت بأسلوب ساحر. وفي الكونغو استطاعت البعثة أن تقوم بالصيد والدرس في (بستان الكونغو) وهو أعظم حظيرة لصيد الضواري في العالم وتشرف عليه سلطات الكونغو البلجيكية؛ وتصف المؤلفة إدارة الكونغو البلجيكية، وتصف حياة السكان، والبعثات الدينية والمهاجرين القلائل في حياتهم الساذجة الشاقة، وتصف لنا التماسيح المقدسة في بحيرة فكتوريا، وما حول هذه الوهاد من المناظر الطبيعية الرائعة، وما يعمرها من عالم الحيوان والإنسان. والخلاصة أنها تقدم إلينا صوراً حية بديعة من الحياة الأفريقية في أروع وأعجب أشكالها، وكتابها ممتع خلاب، يعتبر بمحتوياته وأسلوبه من كتب الرحلات الرفيعة
تدريب الكلاب على السير
يبدي الإنكليز عناية كبيرة بالحيوان ورفاهته والمحافظة على حياته؛ ومن ذلك الكلاب؛ فإنها تلقي كثيراً من الرفق والعناية وقد لوحظ أخيراً في إنكلترا أن عدداً عظيماً من الكلاب يقتل كل عام بسبب حوادث السيارات وغيرها في الطرق العامة، فارتفعت الأصوات بوجوب العمل على حماية هذه الحيوانات، وقضت المحاكم في كثير من القضايا التي رفعها أصحاب الكلاب المقتولة على أصحاب السيارات بتعويضات كبيرة؛ وأخيراً رؤى أيضاً أن التعويض لا يكفي لتعزية أصحاب الكلاب العزيزة، فرؤى تقليلاً للخطر أن تدرب الكلاب نفسها على السير في الطرق العامة كما يدرب الأشخاص
وقد أجريت أخيراً تجارب عديدة في هذا الباب، وقام نادي (تيل واجرز) بدعوة واسعة النطاق لتدريب الكلاب وتعويدها الطاعة وفهم الإشارات المختلفة؛ وأسفرت التجارب التي أجريت على بعض الكلاب بدفعها في الطرق وأمرها بالسير في اتجاهات وأوضاع معينة عن نتائج حسنة، وأمكن لهذه الكلاب أن تتجنب كثيراً من السيارات والعربات الثقيلة في مآزق حرجة
من هنا ومن هناك
دانتي والكوميدية الإلهية
حينما بعثت رسالة الغفران لشاعرنا العظيم أبي العلاء كثر الجدل بين الأدباء حول الأصل الذي استقى منه دانتي ألليجيري صوره الرائعة التي حشدها في كوميديته، وكاد الجميع يجزمون أن ذلك الأصل هو رسالة الغفران، وأيدهم في ذلك مستشرقون كثيرون حتى كادت المسألة تعتبر مفروغاً منها وأن دانتي إن هو إلا عالة على أبي العلاء. . . ثم قام أديب مسيحي فاضل فنقل الموضوع إلى ميدان آخر إذ حاول أن يثبت أن دانتي لم يقلد أبا العلاء وإنما هو قلد (رؤيا يوحنا اللاهوتي) الواردة بالإنجيل.
وقد يكون هؤلاء وهؤلاء على شيء من الحق فيما ذهبوا إليه من رأي، وان كنا نحن لا نميل كثيراً إلى رأي أصحاب أبي العلاء - لأننا برغم براهينهم الكثيرة التي أدلوا بها - نشك في سرعة تنقل الثقافة العربية من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى وسطه وغربه بهذا القدر الذي يبالغون في وصفه لا سيما في أسود فترات العصور الوسطى: ثم نحن لا نرى كبير شبه بين آل في كوميدية دانتي وبين جحيم أبي العلاء، ويكاد هذا الشبه ينعدم فيما يتعلق دانتي والبعث في أبي العلاء. . . أما دانتي فهي شيء وفردوس أبي العلاء شيء آخر. . . ونحن نعترف أن ثقافة العرب كانت تجرف أوروبا خصوصاً من جهة الأندلس ثم من جهة صقلية، ولكن الذي نشك فيه هو انتقال أدب أبي العلاء إلى إيطاليا لدرجة أن يؤثر في أدبائها إلى هذا الحد وفي زمنه كانت طرق المواصلات محفوفة فيه بأكبر المخاطر، ذلك إلى غلاء وسائل الثقافة حينئذ وأهمها الكتب التي كانت تكتب كلها باليد، ونحن نرجح أن دانتي تأثر إلى حد بعيد بالمصادر الدينية (وأهمها الإنجيل والقرآن) والمصادر اليونانية وأهمها (الإلياذة والأوديسة) ثم بملحمة مواطنه العظيم (فرجيل) الأنييد
فمن رؤيا يوحنا اللاهوتي ومن الأوصاف البارعة للجحيم وطبقاتها وصنوف المجرمين الواردين عليها المذكورة في كثير من سور القرآن قد اقتبس دانتي خياله الذي نسق به جحيمه ولا ننس أن احتكاك أوروبا بالمسلمين في الحروب الصليبية كان يغشى الثقافة الإسلامية في هذه الفترة أوانئذ، وخير ألوان هذه الثقافة ما في كتاب الله، أما تأثره بالإلياذة والأوديسة والأنيد فهو أقوى وأظهر، وقد درسنا هذه الملاحم جميعاً وأنعمنا النظر في ألـ
فكان يدهشنا أن يترسم دانتي خطى الشاعرين الخالدين هوميروس وفرجيل ويأخذ عنهما كل ما ورد في الأساطير القديمة من أوصاف (هيز) وما يحيط بها من أنهار تفوح بالحمم وما تعج به من سعالي وثعابين وسنتورات وتنانين. . . وكان دانتي يمزج في كوميديته ألواناً من الفكر اليوناني لا تخفى على الملم بأدب الإغريق. أما في المطهر والفردوس فما نحسب أن دانتي كان مقتدياً بلون ما من أدب السلف، ولعل ذلك هو السبب في فتور هذين الجزءين من الكوميدية
هذه كلمة خاطفة نؤثر عليها فصلاً طويلاً نقارن فيه بين هؤلاء الشعراء الخالدين
روجر بيكون (1210 - 1293)
من أحسن الكتب التي ألفت عن العصور الوسطى كتاب الأستاذ العلامة هنري أُسبرن تايلور بل لعل هذا الكتاب هو أحسنها جميعاً. وقد لا نجد مؤلفاً محققاً مثل تايلور انصف الرجل المفكر المسكين روجر بيكون الذي يعتبر أول رائد من رواد الحضارة الحديثة التي ننعم بها، والتي تتضاءل بجانبها أزهى الحضارات القديمة. وأغرب ما يروق القارئ من روجر بيكون أنه لم يكن يعيش في العصر الذي وجد فيه، بل هو كان لذلك العصر بجسمه وآلامه فقط، أما بروحه وعقله فقد كان يعيش معنا ويفكر تفكيرنا، ويشغله من مستقبل الإنسانية ما يشغلنا. ولقد كان بيكون عدواً لدوداً لمعسكرين يعتبر كل منهما نقيض الآخر. . كان عدواً للكنيسة التي تفرض سلطانها وتزمتها على العقول فرضاً، وكان يوصي الناس ويحضهم على عدم الخضوع لغيرها والتحلل من ربقتها في تفكيرهم، ومن هنا ما لقيه بيكون من السجن والنفي والتشريد وألوان العذاب التي تتحيفه من حين إلى آخر. . ثم هو كان عدواً لآرسطو وفلسفته:(التي كانت كتبها في نظره جديرة بالتحريق لأنها مضيعة للزمن، وتحصيل للخطأ، وتكثيف للجهل!) وربما كان روجر معذوراً في هذه النظرة السوداء إلى آرسطو الذي كانت كل تراجمه خطأ في خطأ في تلك العصور؛ ولكن روجر بيكون كان يرى في فلسفة آرسطو شقشقة طويلة لا تؤدي الثمرة المشتهاة التي كان ينشدها هو في العلوم عن طريق التجربة، ومن هنا أيضاً حبه العظيم وإعجابه الذي لا يحد بالعرب وبالثقافة العربية في الطب والكيمياء، وعلم الأقرباذين وعلم المعادن؛ وربما كانت عداوته لأرسطو نتيجة انكبابه على دراسة العلوم العربية التي كان المعمل وحده ميدانها
والمضحك أن الكنيسة، ومن ورائها الشعب الساذج الذي لا عقل له، كانت تعتبر بيكون دجالاً مشعوذاً يجيد صنوفاً كثيرة من السحر. وكان الجميع يعدونه مجنوناً حين كان يتنبأ عن إمكان صنع سفينة تسير بالبخار (بدون شراع أو مجاديف) أو قاطرة أو سيارة (لا يجرها حصان أو زوج من الثيران) أو طائرة (ترتفع في الجو بجناحين من المعدن يضربان الهواء كما يصنع الطائر). . .
توماس مور وكتب الطوبى
ليس شك في أن سير توماس مور هو خالق إنجلترا الحديثة، لأنه بطل نهضتها في العصور الوسطى، وقد ولد قبل شاكسبير بمائة سنة تقريباً، وكان صديق إرزم الأديب الهولندي الكبير، وبطل النهضة في الأراضي المنخفضة. ويقولون إن توماس مور هو أول إنجليزي تعلم اللغة الإغريقية وقرأ فيها آدابها، ومن هنا تأثره العظيم بأفلاطون وتأليفه كتابه القيم الجميل (طوبى على نسق (جمهورية أفلاطون) وقد كتب مور طوباه باللاتينية لغة العلوم والمعارف في العصور الوسطى وطبعت للمرة الأولى في لوفين (1516) ثم طبعت في باريس (1517) وفي بازل (1518) ولم تترجم إلى الإنجليزية إلا سنة 1551 بواسطة الأديب الكبير رالف روبنسون
ومما لا ريب فيه أن اكتشاف أمريكا كان أهم الأسباب التي أوحت إلى مور تأليف طوباه، فقد أذكره هذا الحادث حلم أفلاطون بالمدينة الفاضلة، وتصور أن الأوان قد آن لتحقيق هذا الحلم، وخال شعباً من خيرة أهل الدنيا القديمة يبحر إلى أمريكا فيعيش في رغد وبلهنية، لا يعرف أدواء الإنسانية التي فتكت بها في هذا العالم القديم. وقد دعا مور في طوباه إلى احتقار القوة وأعمال العنف، وبشر بمحبة ومؤاخاة يسودان العالم، وعاطفة خير توجه مصائر الناس. وعندنا أن مور بكتابه الجميل قد سبق مواطنه هـ. ج. ولز - الذي ألف هو الآخر طوبى جديدة - إلى الدعوة إلى العالمية والإيمان بالبشرية والتهوين من قيمة الوطنية، وأن يجعل الناس هذا الكوكب الأرضي الجميل وطنهم الأكبر فلا يلطخوه بالدماء
وقد كان فرنسيس بيكون معجباً إلى أبعد حدود الإعجاب بتوماس مور، وقد نسج على منواله فألف كتابه (أتلانتيس الجديدة) على منهاج طوباه، وكتب مثله في اللغة اللاتينية
ولقد وقف مور في محنة الكنيسة الإنجليزية في عهد هنري الثامن موقفاً حازماً كلفه حياته؛
فخسرت إنجلترا فيه أديباً كان يساوي عشرة ملوك من ملوك هذا الزمن
بعض الكتب
سألنا قارئ فاضل عن أسماء بعض الكتب التي ورد ذكرها في هذا الباب بالإنجليزية لولز وبرتن راسكو وقد أجبناه بالبريد، وسنجتهد في إثبات الأسماء الإفرنجية كلما أمكن ذلك لتتم الفائدة
د. خ
الكتب
الرحيل - رجل
تأليف محمود البدوي
للأستاذ محمد علي غريب
القصة المصرية عندنا ما تزال في مهدها اليوم، وأكبر الظن أنها سوف تبقى في لفافات الطفولة إلى مدى طويل، وأن يفقد الأدب العربي عندنا هذه الثروة الضخمة التي انحصرت في القصة ومنحت الآداب الغربية ما لها اليوم من تفوق ونجاح
وقل أن تقع في يدي قصة مصرية فأهوى بأوراقها إلى الطاهي ليصنع منها أغطية لزجاجاته الكثيرة، فما وجدت من هذه القصص السخيفة إلا كل سخف وسماجة وموضوع يمسك هذا بطرفه وذاك بالطرف الآخر منه ثم يتنازعان نهايته. . فتاة فقيرة أو غنية، يعشقها أو تعشق هي شاباً فقيراً أو غنياً، على شرط أن لا يكون أحدهما كفؤاً للآخر في الثروة؛ وبعد دموع كثيرة وزفرات تدير الطواحين تنتحر الفتاة أو ينتحر الشاب أو ينتحران معاً. . طبقاً لرغبة المؤلف وميله إلى أحد البطلين
ذلك رأيي. . . ومنذ شهور أهدى إليّ صديقي الأديب الفاضل الأستاذ محمود البدوي قصته (الرحيل) فتركتها معه ريثما آخذ نفسي بأن تدع محاباة الصديق في تلك الهدية، وقرأتها؛ وبعد ذلك أهدى إليّ قصته (رجل) فقرأتها، ولأول مرة يندب الطاهي حفظ زجاجاته
لست أثني على صديقي لأن بيني وبينه هذه الصلة، فأن من الخير لي وله أن أجاهره بالرأي الصريح ولو كان به ما يؤلمه، فأنني أعرف فيه حسن تقبله للنقد؛ ولم تصلح الصداقة يوماً ما رشوة بين صديقين يحب كلاهما صاحبه ويخلص له. فالواقع أن هذين الكتابين اللذين أخرجهما الأستاذ البدوي لقراء العربية من خير المحاولات المفيدة الناجحة في سبيل بعث القصة المصرية ووجودها
في قصة الرحيل ترى يد شاب امتلأ صدره بشتى العواطف والنزعات، ترسم على الورق بعض ما يروح عنها. . إنه شاب نشأ في البيئة الخانقة المزعجة، فلما بهرته أضواء المدينة ورأى فيها حيلته عاجزة كليلة راح يستصغر نفسه دونها ويحاول أن يخفي ارتباكه
بإطلاق العنان لهذه الجياد الجامحة في نفسه؛ فهو طوراً يمجد الجمال ويتفهم الحب، وطوراً ينزع إلى الرغبة في التحرر من كل قيد، وطوراً تعود به نفسه إلى طبيعته الأولى فيستهويه صوت المؤذن ويخشع قلبه للدين وتعاليمه
وأنت إذا قرأت هذه القصة على هذا النحو أمكنك بسهولة أن تدرك لماذا لم يحتفل المؤلف بأسلوبه، وكيف جاءت ألفاظه مكررة في بعض المواضع، ولأي شيء التجأ إلى الغموض والإبهام في عباراته
إنه يرسم صورة من نفسه، ونفسه ترسف في أغلال قوية وتحاول الخروج منها، فإذا عجزت عن المحاولة ترنمت بالإيمان، وإذا نجحت في التنفيس عن كرباتها فرحت بهذه الأضواء الباهرة التي يجد فيها حياته كلها وجميع أمانيه. . .
أما قصته (رجل. . .) وقصصه الصغيرة الأخرى، فعلى هذا الطراز الفخم من الدقة والقوة والمتانة. . قصص يمكنك أن تقول عنها إنها من أقوى القصص المصرية الناجحة، دون أن يضطرب ضميرك، أو تنزعج نفسك، ومن بينها قصة (الأعمى). إنها صورة صادقة من أبلغ ما كتب الأدباء المصريون، وقد امتزج فيها الفن بالواقع، فترى أمامك مزيجاً منهما يلزمك أن تعاود قراءتها
ولست في الواقع أريد أن أتحدث كثيراً عن هذه الباكورة الشهية التي تفتحت عنها جهود شاب أديب، وكان خيراً لي وله أن أصبر طويلاً حتى أستوعب هذه القصص وأكتب عنها طويلاً، ولكننا في هذه الأيام نحتاج إلى السرعة والتعجل حتى لا نفقد الفرصة المناسبة، ولهذا كتبت تلك الكلمة الصغيرة على الرغم مني
والذي ألاحظه كثيرا في هذه القصص أن ناقدها لا يستطيع أن يسبر غورها مهما حاول ذلك. . . أترى لأن كاتبها لجأ إلى الغموض كما أوضحت، أم لأنها قصص كتب بعضها عن شخص مؤلفها، فما دام هو يفهم رموزها ويستشف غامضها كان على قرائه أن يقنعوا من الرموز والغموض بما وصلت إليه أفهامهم؟
لست أدري. . ومع ذلك فهذه القصص اللطيفة صغيرة الحجم وثمنها زهيد، وما على القارئ إلا أن يقتنيها ليرى كيف يبدأ شاب أديب فجر حياته الأدبية؛ وإذا كانت هذه هي بدايته المباركة فماذا عسى أن يكون بعد سنوات؟
سوف يكون دون مبالغة من طراز انطون تشيكوف
محمد علي غريب
الثورة الوهابية
تأليف: عبد الله القصيمي
(140)
صفحة - طبع مصر
هذا الكتاب شرح لمبادئ الدعوة السلفية، وعرض لتاريخها وتاريخ رجالها. افتتحه المؤلف بفصل تحليلي عن الثورة وطبيعتها وأقسامها، والمفاضلة بين الثورات السياسية والثورات الدينية، كالثورة الوهابية (المؤسسة على أسمى المعاني الإنسانية الخلقية المنتزعة من رسالة جبريل سيد الملائكة إلى محمد سيد البشر). ووازن بينها وبين الثورة الفرنسية، وبحث عما أسدت ثورة فرنسا الإنسانية المسكينة من إخاء وحرية ومساواة، وأحال في الجواب على سوريا ومراكش والجزائر!. . .
ثم تكلم المؤلف عن منشأ هذه الدعوة وتاريخها وسيرة صاحبها، وتكلم عن أهم ما دعا إليه وما أنكر عليه، وبين أن، أول مقومات هذه الدعوة (أستغفر الله بل أول مقومات الإسلام) منع دعاء غير الله - كدعاء الأموات - مهما كانت نية الداعي ومهما كان مقام المدعو، ومنع الاستغاثة بغير الله والاستعاذة به، ثم منع الابتداع في الدين منعاً باتاً لا هوادة فيه ولا استثناء، سواء في ذلك الأدعية الفاسدة والأذكار التي لم ترد عن صاحب الشريعة، والشطح والرقص في الذكر والطرق المبتدعة وما إلى ذلك - ثم الإيمان بما جاء في الكتاب والسنة من أن الله تعالى مستو على العرش استواء يليق به، لا كما يستوي المخلوق، وكذلك الإيمان باليد والساق من غير تعطيل ولا تشبيه، ثم إقامة الحدود الشرعية، وهذه منقبة لو لم يكن للحجاز غيرها لكفى. وهل تماثل حكومة تقيم حدود الله على الزاني وشارب الخمر، بحكومات إسلامية تجيز الزنا وشرب الخمر وتفتح لهما البيوت والحانات وتحمي أصحابها ومن يعكف عليهما؟. ثم أن للمسلم أن يتفهم كتاب الله ويتدبره، وألا يدع حكم الله وحكم رسوله لقول إنسان ما، وكل هذا حسن بشرط ألا يفهم منه العامي بأن له الاجتهاد، وله أن يدع حكم مذهبه إذا سمع حديثاً صحيحاً قد يكون منسوخاً بحديث أصح منه، بل عليه أن يتتبع أحكام المذهب إلى أن يرزقه الله من الإطلاع على كلام العرب وسننها ما يفهم به كتاب الله وسنة رسوله على وجهما، ومن معرفة الأصول ما يعلم به إستنباط الأحكام ويعرف الناسخ والمنسوخ؛ وكما أن القول بسد باب الاجتهاد
سخف، فكذلك القول بفتحه للناس كلهم بلا تفريق بين عاميّ ومتعلم
هذا وقد طال بي نفس القول ولم أصف من الكتاب إلا جزءاً قليلاً، ولا أجد بداً من أن أقطع الكلام وأحيل القارئ على هذا الكتاب القيم ليقرأه بنفسه فليس يغني عن قراءته وصفي، وإذا كان لي أن أختم هذه الكلمة برجاء أرفعه إلى جلالة الملك عبد العزيز بن سعود فهو أني أرجوه أن يولي هذا الأستاذ الجليل شيئاً من العناية. ويأخذ بيده على ما هو فيه من خدمة الإسلام والدفاع عن السلفية - وأن يشجع أمثاله - وقليل ما هم - على سلوك هذا السراط المستقيم. وأني أرجو لجلالة الملك التوفيق والهداية وللأستاذ المؤلف النجاح والأجر
(دمشق)
(ع)