المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 158 - بتاريخ: 13 - 07 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٥٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 158

- بتاريخ: 13 - 07 - 1936

ص: -1

‌لَوْ!.

. . .

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

رأيتُني جالساً في مسرح هزلي بمدينة الإسكندرية كما يجلس القاضي في جريمة يحمل أهلها بين يديه آثامهم وأعمالهم ويحمل هو عقله وحُكمه. وقد ذهبت لأرى كيف يتساخفُ أهلُ هذه الصناعة فكان حكمي أن السخافة عندنا سخيفةٌ جداُ. . . .

رأيتهم هناك ينقدون العيوب بما يُنشئ عيوباً جديدة، ويسبحون بأيديهم سباحة ماهرة ولكن على الأرض لا في البحر، وتكاد نظرتهم إلى الحقيقة الهزلية تكون عمىً ظاهراً عما هي به حقيقة هزلية؛ ولا غاية لهم من هذا التمثيل إلا الرقاعة والإسفاف والخلط والهذيان، إذ كان هذا هو الأشبه بجمهورهم الذي يحضرهم، وكان هو الأقرب إلى تلك الطباع العامية البليدة التي اعتادت من تكلف الهزل ما جعلها هي في ذات نفسها هزلاً يسخر منه

ولا أسخف من تكلف النكتة الباردة قد خلت من المعنى، لا تكلفُ الضحك المصنوع يأتي في عقبها كالبرهان على أن في هذه النكتة معنى

فالفن المضحك عند هؤلاء إنما هو السخفُ الذي يوافقون به الروح العامية الضئيلة الكاذبة المكذوبَ عليها التي يبلغ من بلاهتها أحياناً أن تضحك للنكتة قبل إلقائها، لفرط خفتها ورعونتها، وطولِ ما تكلفت واعتادت. فما ذلك الفن إلا ما ترى من التخليط في الألفاظ، والتضريب بين المعاني، وإيقاع الغلط في المعقولات؛ ثُم لا ثُم بعد هذا. فلا دقة في التأليف، ولا عمق في الفكرة، ولا سياسة في جمع النقائض، ولا نفاذ في أسرار النفس، ولا جدّ يؤخذ من هزلية الحياة، ولا عظمة تستخرج من صغائرها، ولا فلسفة تعرف من حماقاتها

والفرق بعيد بين ضحكٍ هو صناعة ذهنٍ لتحريك النفس وشحذ الطبع وتصوير الحقيقة صورة أخرى، وبين ضحك هو صناعة البلاهة للهو والعبث والمجانة لا غير

وكان معي قريب من أذكياء الطلبة المتخصصين للآداب الإنجليزية، فلم نلبث غير قليل حتى جاء ثلاثة من ضباط الأسطول الإنجليزي فجلسوا بحذائنا صفاً تلوح عليهم مخايل الظفر، ولهم وقار البطولة، وفيهم أرواح الحرب. وهم يبدون في ثيابهم البيض المطَرَّاة كأنهم ثلاثةُ نسور هبطت من الغمام إلى الأرض، فلأعينها نظرات تدور هنا وهناك تنكر

ص: 1

وتعرف

وأعجبني أن أراهم في هذا المكان الهزلي الممتلئ بالضعفاء، كأنهم ثلاثُ حقائق بين الأغلاط، أو ثلاث أغلاط كبيرة. . .

وكان أبدع ما أراه على هيئة وجوههم وأسرُّ له تواضع هذا الاستعداد الحربي وتحوله إلى استعداد للسخرية. . .

ثم تأملتهم طويلاً فإذا صرامة وشهامة وسكينة ووداعة وحُسن سَمْتٍ وحلاوة هيئة في جلسة رزينة متوقرّة، لا يشبهها في حسّ النفس التي تعرف معاني القوة إلا وضع ثلاثة مدافع مصوبة

وجعلت أقلب عيني في الناس الموجودين وملامحهم وهيئاتهم ثم أرجع البصر إلى هؤلاء الثلاثة، فأرى المصريَّ كالمقتنع بأنه محدودٌ بمدينة أو قرية لا يعرف لنفسه مكاناً في غيرهما، فهو من ثم لا يرحل ولا يغامر ولا تَتَقاذفه الدنيا؛ وأرى الإنجليز كالمقتنع بأن كل مكان في العالم ينتظر الإنجليز. . . .

وخيل إلي والله أن رجلاً من هؤلاء الإنجليز الأقوياء المعتدين بأنفسهم لا يهاجر من بلاده إلا ومعه نفسه واستقلاله وتاريخه وروح دولته وطبيعة أرضه، فهو مستيقن أن الله لا يرزقه رزقاً أيَّ الرزق كان على ما يتفق، بل رزقاً إنجليزياً: أي فيه كفايته

ورأيت شيئاً عجيباً من الفرق بين طابع السلم على وجوه، وبين طابع الحرب على وجوه أخرى؛ ففي تلك معاني السهولة والملاينة والحرص على مادة الحياة، وفي هذه معاني العزم والمقاومة والحرص على مجد الحياة لا على مادتها

وتبيَّنتُ أسلوبين من الأساليب الاجتماعية: أحدهما في فرد قد بنى أمرهُ على أن أُمةً تحمله فهو يعيش بأضعف ما فيه، والآخر في فرد قد وضع الأمر على انه هو يحمل أمةً فلا يدع في نفسه قوة إلا ضاعفها

وعرفت وجهين من وجوه التربية السياسية: أحدهما بالطنطنة والتهويل والصراخ واستعارة ألفاظ غير الواقع للواقع وتحميل الألفاظ غير ما تحمل، والآخر بالهدوء الذي يقهر الحوادث والصبر الذي يغلب الزمن والعقيدة التي تفرض أعمالها العظيمة على صاحبها وتجعل أعظم أجره عليها أن يقوم بها

ص: 2

وميَّزت بين أثرين من آثار الأرض في أهلها: أحدهما في المصري السَّمحْ الوادع الألوف الحي الذي هو كَرمُ الطبيعة، والآخر في الإنجليزي العسر المغامر النَّفور الملحّ على الدنيا كأنه تطفّل الطبيعة. . . .

وألقى ابن العم الذي كان معي سَمعه إلى هؤلاء الضباط وهم من فلاسفة الرأي على ما يظهر من حديثهم، ثم نقل إلي عنهم، فقال كبيرهم: لقد فرغت من بحثي الذي وضعته في فلسفة خمول الشرقيين أفضيتُ منه إلى حقائق عجيبة أظهرها وأخفاها معاً أن أُمةً من هذه الأمم لا يُمكَّن للأجنبي فيها ولا تثقل وطأتهُ عليهم ولا يطول ثواؤهُ في أرضهم ولا يحتلها من يطمع فيها، ما لم يكن سادتها وأمراؤها وكبراؤها كأنهم فيها دولة محتلة

وهؤلاء الكبراء هم آفة الشرق؛ فمن أعظم واجباتنا أن نزيد في تعظيمهم، وأن نمد لهم في المال والجاه، ونبسط لهم اليمين والشمال، ونوهمهم أن عظمتهم هكذا ولدت فيهم وهكذا ولدوا بها من أمهاتهم كما ولدوا بأيديهم وأرجلهم. . . وخاصة عظماء رجال الأديان المفتونين بالدنيا؛ فإننا نصنع بغرور الجميع وسخافاتهم وحرصهم وطمعهم أشياء اجتماعية ذات خطر لا يصنع لنا مثلها إلا الشياطين. ومن لنا بالحكم على الشياطين؟ وهذا ما تنبه له غاندي ذلك المهزول الهندي الذي تُقوَّم دنياه بأربعة شلنات، ولا يزن أكثر من بضعة أرطال من الجلد والعظم، ولا بطش عنده ولا قوة فيه، وهو مع ذلك جبار سماوي في يده البرق والرعد يُرى ويُسمع في أرجاء الدنيا

قال ضابط اليمين: وبصناعة الكبراء هذه الصناعة يكون رجلُ الشعب من هؤلاء الشرقيين رجل تقليد بالطبيعة، ورجل ذل بالحالة، ورجل خضوع بالجملة؛ فليس في نفسه أنه سيد نفسه ولا سيدُ غيره، بل أكبر معانيه أن غيره سيد عليه فيكون معه دائماً خيال استعباده

وتكلم ضابط اليسار: ولكن المترجم لم يميز أقواله، لأن ثلاث عشر امرأة كنَّ يصرخن في الرواية الهزلية بلحن طويل يقلن في أوله:(عاوزين رجّالة تدلَّعْنا. . . .) وكانت الموسيقى تصرخ معهن وتولول كأنها هي أيضاً امرأة محرومة. . .

ثم أرهف المترجم أذنه فقال كبيرهم: إن لهؤلاء الشرقيين ست حواس: الخمس المعروفة وحاسة الخمول الذي خدعتهم عنه الطبيعة البليدة فسموه الترف والهزل واللهو، والأمة الأوروبية التي تحتل بلاداً شرقية تجد فيها لصغائر الحياة جيشاً أقوى من جيشها. فعشرة

ص: 3

آلاف جندي بعتادهم وآلاتهم لا يصنعون شيئاً إلا الاستفزاز والتحدي وإثبات أنهم غاصبون، ولكن ما أنت قائل في عشرة آلاف مكان كهذا المسرح براقصاته ومومساته وخموره ورواياته وبهؤلاء الرجال المخنثين الهزليين الرقعاء الذين هم وحدهم معاهدة سياسية ناجحة بيننا وبين شباب الأمة. . .؟

قال ضابط اليمين: نعم إن فن الاحتلال فن عسكري في الأول ولكنه فن أخلاقي في الآخر؛ ولهذا يجب تعيين نقطة اتجاه للشباب تكون مضيئة لامعة جذابة مغرية ولكنها في ذات الوقت محرقة أيضاً، وهذه هي صناعة إهلاك الشباب بالضوء الجميل، وما على السياسي الحاذق في الشرق إلا أن يحمي الرذيلة، فإن الرذيلة ستعرف له صنيعه وتحميه. . . فتكلم ضابط اليسار، ولكن صوته ذهب في عشرين صوتاً من رجال المسرح ونسائه يصيحون جميعاً:(يا حِلوة يا خفَّافي يا مجننَّة الشبان. . .)

ولما ألممت بحوار الضباط الثلاثة قلت لصاحبي: أستأذن لي عليهم أكلمهم. ففعل وعرفني إليهم وترجم لهم مقالة (يا شباب العرب) وكان يحملها. فكأنما رماهم منها بالجيش والأسطول.

ثم قلت لكبيرهم: لست أنكر أن الإنجليزي لو دخل جهنم لدخلها إنجليزيا. . ولا أجحد أن له في الحياة مثل هداية الحيوان لأنه رجل عملي دليل منفعته أنها منفعته وحَسْبُ، ثم لا دليل غير هذا ولا يقبل إلا هذا. فإذا قال الشرقي (حقَي) وقال الإنجليزي (منفعتي) بطلت كل الأدلة، ورأى الشرقي أنه مع الإنجليزي كالذي يحاول أن يقنع الذئب بقانون الفضيلة والرحمة

وقد عرفنا أن في السياسة عجائب منها ما يشبه أن يلقي إنسان إنسانا فيقول له: يا سيدي العزيز، بكل احترام أرجو أن تتلقى مني هذه الصفعة. . . . وفي السياسة مواعيد عجيبة: منها ما يشبه غرس شجرة للفقراء والمساكين والتوكيد لهم بالإيمان أنها ستثمر رُغفاناً مخبوزة. . . . ثم بعد ذلك تطعَّم فتثمر الرغفان المخبوزة حشوُها اللحم والاِدام

وفي السياسة محاربة المساجد بالمراقص، ومحاربة الزوجات بالمومسات، ومحاربة العقائد بأساتذة حرية الفكر، ومحاربة فنون القوة بفنون اللذة. ولكن لو فهم الشباب أن أماكن اللهو في كل معانيها ليست إلا غدراً بالوطن في كل معانيه! ولو عرف الشباب أن محاربة اللهو

ص: 4

هي أول المعركة السياسية الفاصلة! ولو أدرك الشاب أن أول حق الوطن عليه أن يحمل في نفسه معنى الشعب لا معنى نفسه! ولو رجع الدين الإسلامي كما هو في طبيعته آلةً حربية تصنع من الشباب رجال القوة! ولو علم الشباب أن روح هذا الدين ليست: اعتقدْ ولا تعتقد، ولكن افعلْ ولا تفعل! ولو أيقن الشباب أن فرائض هذا الدين ليست إلا وسائل عملية لامتلاء النفس بمعاني التقديس! ولو فهم الشباب أن ليس في الكون إلا هذه المعاني تجعل النفس فوق المادة وفوق الخوف وفوق الذل وفوق الموت نفسه! ولو بحث الشباب النفس الإنجليزية القوية ليعرف بالبرهان أنها نصفُ مسلمة فكيف بها لو كانت مسلمة؟. . . .

وكان المترجم ينقل إليهم كلامي فما بلغت إلى حيث بلغت حتى شدَّ الضابط على يدي وهزّها؛ فنظرت فإذا أنا قد كنت نائماً بعد سهرة طويلة في ذلك المسرح، وإذا يد المترجم نفسه هي التي تهزني لأنتبه

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 5

‌ذات الثوب الأرجواني

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(تنبيه: الكلام خيالي ولا أصل له، كما مللت أن أقول وأؤكد

في كل مرة)

- 5 -

قالوا لي أمس في البيت: (قم ركب لنا هذه الستائر!)

فقلت: (ستائر؟؟ يا حفيظ!! يا ناس ما هذا الحال المقلوب؟. . في الشتاء نرفع الأستار، وفي الصيف الحامي نضعها لنزيد الوقدة ويعظم البلاء!؟ أما إن هذا لعجيب!)

قالوا: (بل هي تحجب الشمس التي بهت منها لون السجاجيد. . .)

قلت: (كونوا منصفين. . السجاجيد قديمة، وعسيرٌ أن نطلب من القديم البالي أن يكون له لون الجديد الطريف الزاهي. . خذوا مثلاً هذه الخادمة العجوز. . . هل كان وجهها مغضناً هكذا في صباها؟ أو كان شعرها كما هو الآن أبيض؟ وهل كانت عينها كعين الموتى - لا حياة فيها ولا معنى ولا تعبير؟)

قالوا: (دع الخادمة فإن ذنبها إليك معروف. . . لو كانت شابة لأغضيت عن كل عيب)

فاعترضت على هذا الرأي السيئ والاتهام القبيح لذوقي، ولكنهم ردوني إلى موضوع الستائر الذي أردت أن أستطرد عنه إلى حديث آخر، فقلت:(الأمر لله. . . إنما ينبغي أن تجيئوني بالأدوات اللازمة كلها. . يعني السلم والمسامير الصالحة لعمل فني دقيق كهذا. . وهاتوا أيضاً قلعاً (أي فأساً صغيرة)، فما أستطيع أن أستعمل هذا المعول الضخم، فإني كما تعلمون رجل رقيق مترف. . ثم لا بد من تمليس الحائط بعد دق المسامير فيه، وإلا بدا للعين الفاحصة متضرساً غير مستو. . .)

فلم يجبئوني بما كان من حقي أن أطالب به وأصر عليه؛ وإنما جاءوا بمطرقة كبيرة أحتاج في حملها إلى رجلين معي، ووضعوا في يدي مسامير كالتي كانت في فلك نوح. . . لا تصلح لهذا الزمن أبداً. . . ولكني كما لا يعرف القراء رجل تضحية - وما أكثر ما أتقبل بالصبر - ومن غير تعليق طويل - ما يمتحنني به الزمن الغادر. لذلك دعوت الله في

ص: 6

سري أن يبيض وجهي، فان سواده الحالي كاف جداً؛ وشرعت أعمل؛ ولكن هل تركوني أعمل كما ينبغي أن يفعلوا لأكسب رضاهم بعرق جبيني؟ كلا. . . فقد أحاطوا بالسلم وجعلوا يصدرون إليّ أوامر غير معقولة. فقلت لنفسي:(إن جدالهم عبث، فدعهم في جهلهم واتركهم ولا تجبهم فأنهم يحبون الكلام. وماذا على أن يثرثروا. .) ولم أجعل بالي إليهم، ولم أرد عليهم، ورجوت أن يشغلوا بالحديث والثرثرة عما عدا ذلك. ولكنهم لما يئسوا من إصغائي لهم جعلوا يهزون السلم لألتفت، فحدث ما كان لا بد أن يحدث، وما كان طفل صغير يستطيع أن يتوقعه؛ ذلك أني اضطربت وأنا على السلم، وكنت أهم بدق مسمار، فوقعت المطرقة على أصابعي لا على رأس المسمار كما كان ينبغي أن تفعل لو كان لها عقل! فصرخت. . وهل أنا حجر؟؟ ثم ما أشعر إلا والسلم يهوى بي إلى الأرض. . . وقد كانت أيديهم عليه، وكان في وسعهم أن يمنعوا سقوطي وسقوط السلم معي، ولكني دققت أصابعي فيجب أن يضحكوا!! نعم ضحكوا، بل قهقهوا، بدلاً من أن يأسفوا أو يقلقوا عليّ، أو يحزنوا لما أصابني في سبيلهم، فتركوا السلم يفعل بي ما يشاء. . . وقد أسمعتهم رأيي الصريح فيهم وفي هذا الكفران لنعمتي، والجحود لفضلي، وفي تعريضي للمضرات، وفي أنهم إذا حاق بي مكروه في سبيلهم ضحكوا وسروا وفرحوا جداً. . . . ثم تركتهم ومضيت أظلع - فوق ظلعي - إلى النافذة، وكنت أفرك أصابعي لأسويها وأرد إليها استدارتها فقد عجنتها المطرقة، ولألطف الألم أيضاً فإني لست بحجر كما أسلفت، وإذا بذات الثوب الأرجواني واقفة في شرفتها تضحك كما يضحكون!! فنظرت إليها آسفاً وقلتُ - كما قال يوليوس قيصر حينما طعنه بروتس -:(وأنت أيضاً؟؟) ولولا أن وقع المطرقة على أصابعي لم يفقدني حبي للحياة ولم يضعف أرادتها في نفسي لتمثلت بقول القائل: (فيا موت زر إن الحياة ذميمة) ولكن الحياة ليست ذميمة على الرغم من المسامير العتيقة والمطارق الطائشة التي لا عقل لها في رأسها الناشف والأهل الجاحدين والحبيبة التي يسرها أن تفرم أصابعك وتلتوي ساقك، بل هي جميلة - أعني الحياة ومرضية على كل حال وحميدة كيفما كانت - بل أعني الحبيبة أيضاً وإن كانت تسخطني ولا ترضيني، ولا أدري ما لذتها التي تستفيدها من هذه المكابدة؟؟ والله إن النساء أمرهن عجيب!! هذه ذات الثوب الأرجواني تفتح النافذة وتنظر ثم توليني جنبها، وما شبعت من وجهها، ثم تدير لي ظهرها ثم تهز

ص: 7

رأسها فينتشر شعرها الجميل ويعود كالشمسية المفتوحة ثم ينسدل على جانبي وجهها ثم ترمي إليّ نظرة سريعة جداً يغيب عني معناها من شدة السرعة - مضافاً إليها البعد - ثم تدخل وتختفي!! ماذا كسبت بالله من هذا؟؟. وما حيلتي إلا أن أهز رأسي أنا أيضاً وأقول لنفسي أن أصحاب العقول في راحة! ولو كانت تسمعني لغضبت، ولكنها بعيدة فأنا أقول ما أشاء وأنا آمن!. .

ومكايدة أخرى ظهرت - لي - في الشرفة يوماً في ثوب ازرق لا احبه، وكنت لابساً ثيابي ومتهيئاً للخروج فما أستطيع أن أقضي حياتي في شرفة - كما تفعل هي - وإذا بها تدخل ثم تعود في ثوب أبيض جميل من الحرير الأبيض له شقتان واحدة على الصدر والأخرى تحتها على سائر البدن إلى القدمين، وعلى رأسها قبعة بيضاء كقلبها - مجازاً فما فتح لي قلبها إلى الآن - تثني حافتها على حاجبها الأيسر دلالاً. فقلت لنفسي: (إلى أين إن شاء الله؟؟ وإنها لحادثة فما رأيتها قط تخرج، بل هي بشرى نعش الأمل. إذ ما دامت تخرج فلا موجب لليأس، وإذا بها بعد قليل خارجة من باب البيت، ولكن مع أهلها!!. فسبحان الله العظيم!! وهل كان لا بد من هؤلاء الأهل؟ ما فائدتهم أو ما الضرورة إليهم على كل حال؟؟ ثم إن الأهل لا داعي للحرص على الاتصال بهم وملازمتهم لأنهم في الحقيقة ثمرات المصادفة البحت والاتفاق المحض. الأخ مثلاً شيء يجيء مصادفة. . ولو كان أبي - ولست أتكلم عن نفسي وإنما أضرب مثلاً تأييداً لنظريتي ليس إلا - أقول لو كان أبي مات قبل أن يموت بأربع سنوات أو خمس - وهو قد مات على كل حال، فما ضر أن يموت قبل ذلك؟ - لما صار لي أخ، ولكنه اتفق أن عمر أبي طال أكثر مما ينبغي - إذا اعتبرنا الذرية والإسراف الذي لم يدع لنا ميراثاً يستحق الذكر - فصار لي أخ كان من الممكن ألا يكون لو أن أبي كان عاقلاً مقتصداً - على الأقل في الأبناء - وقل مثل ذلك عن الأب والأم وأبناء العم وبنات الخال إلى آخر هذا البلاء الطويل فأنهم جميعاً أقارب بالمصادفة ليس إلا. . . فلماذا يجب أن أحبهم وأراعي مزاجهم وأتحرى مرضاتهم؟؟ ولا بأس بالحب فإني مستعد أن أحب الدنيا كلها ما دام هذا الحب لا يضايقني ولا يفرض علي أعباء لا أطيقها أو لا أستسهل حملها. . ولكن الملازمة وتوخي المرضاة هذا تكليف ثقيل جداً. هذه المسكينة مثلاً لا بد أن تخرج مع أخيها أو أبيها أو لا أدري من أيضاً من هؤلاء الذين هم

ص: 8

أهلها بالصدفة. . . لماذا؟؟ ماذا جنت؟؟ ما ذنبها هي إذا كان هذا أو ذاك قد شاء أن يكون أخاها أو عمها أو أمها؟. . لماذا لا تخرج وحدها فيتيسر أن تشعر بأن لها وجوداً خاصاً مستقلاً عن وجود هؤلاء الآباء والأمهات والأخوة والأعمام والخالات الخ؟؟ والحق أقول أني تحسرت عليها ولها، فأنها مسكينة ولا شك تحيا حياة مرهونة بحيوات أخرى على حين لكل من هؤلاء الآخرين حياته الخاصة المستقلة التي لا علاقة لها بحياة هذه الفتاة

وقد كانت تضحك وهي واقفة تنتظر الترام مع أقرباء الصدفة ومن حقها أن تضحك، فقد نزلت إلى الأرض وداست قشرتها الصلبة بقدميها الصغيرتين وركبت الترام - أو هي ستركبه بعد دقيقة - ورأت الناس عن قرب بعد أن كانت تراهم عن بعد كالأشباح، وألفت نفسها سابحة في لجة الحياة التي لا يمكن أن تحسها أو تدركها وهي في شرفتها. . . نعم كانت في المريخ تحلم بدنيا لا تعرفها فهبطت إليها وصار الحلم حقيقة والظن يقينا. . . فلها أن تضحك وتسر

وأنا؟ أنا أبدي لها المودة فتتلقاها بهذه الجفوة والنفور والتخفي والتدلل كأنما أسيء إليها بحبي لها، وأجني عليها بميلي إليها، أو كأنما من الشتم لها أني تركت مئاتٍ ومئاتٍ من الفتيات وآثرتها عليهن جميعاً!! فلو أني كنت أبدي لها الكره والاستخفاف والاشمئزاز أكانت تقابلني بشر من هذا؟؟ كلا! بل كانت حينئذٍ تتعمد أن تبدو لي وتتكلف أن يكون ظهورها في حفل من الزينة، لأنه كان يشق عليها في تلك الحالة أن رجلا لم يَصْبُ إليها، ولم يفتنه جمالها، ولم يسب لبه حسنها، وكان هذا الإحساس خليقاً أن يدفعها إلى التحدي - غير أنه تحدي ينطوي على استجداء للإعجاب من الرجل. وأنا أقول الاستجداء وأعني ما أقول بلا نقص. ذلك أن الجمال هو السلاح الوحيد الذي وُهبتْهُ المرأة، وليس لها في كفاحها في الحياة سلاح غيره، فإذا فقدته فحكمها هو حكم كل مناضل ليس له سلاح، وصار أعزل لا يملك كراً ولا فراً ولا مصاولة ولا محاورة ولا مداورة. وماذا يملك الأعزل أمام الشاكي إلا أن يذعن لقضاء الله فيه ولتحكم القوة المسلح؟؟ ولا فرق بين أن تفقد السلاح الذي تصول به وتجول، وبين أن يثبت لك أنه قد صار لا فعل له فأن عمل السلاح ومزيته أن يحدث أثره لا أن يكون في يدك والسلام. فإذا لم يكن له أثر كأن يكون قد فله شيء، أو لاقى ما يثنيه أو يرده أو ما يصبر على وقعه ولا يتضعضع أمامه، فهو وعدمه سيان؟ كذلك

ص: 9

المرأة - إذا فقد سلاحُها قيمته فلم يعد جمالها يحدث أثره المطلوب في نفس الرجل فأنها تكون فيما تحس حيال هذا الرجل عزلاء لا حول لها ولا طول فلا يسعها إلا أن تخضع وتذعن وتروح تستجدي العطف وتلتمس الرضى، وتتوسل إليه باللين والمصانعة والتحبب والإغراء بعرض كل ما عندها من المفاتن. وكأني بذات الثوب الأرجواني قد خيل إليها أنها قد ضمنت حبي واستوثقت منه، فهي لا تباليني لأنها في ظنها مني على يقين، وأولى بها أن تعني بغزو قلب غير قلبي - قلب آخر لا يزال مستعصيا عليها نابيا في يديها - أما أنا فقد علق جناحي بالشرك فكيف الفكاك وأين المهرب؟ وهذا ظن كل امرأة معشوقة من الرجل الذي تعرف أنه يحبها وتأنس منه الصبر على دلالها، وليس يصرفها عن ذلك إلا أن تساورها الشكوك، وتدور في نفسها الوساوس، ويحك في صدرها الخوف من ملل الرجل وضجره من هذا العبث. ولو كانت تعرفني لخافتني فما أنا ممن يصبرون على هذا اللعب. وإني لأحبها - أو هكذا يخيل إليَ - ولكني فيما أظن أحب نفسي أيضاً. وحبي لها هو بعض حبي لنفسي، وليس الأمر على العكس، وحب الرجل للمرأة معناه أنه يريدها خالصة لنفسه، لينعم بها وحده، ويستأثر بالمتعة المستفادة من جمالها. وليس معناه أنه يريد أن يعذب نفسه وينقص عيشه ويسود وجه الحياة في عينيه. أما حب المرأة للرجل فمعناه أنها رأته - بغريزتها لا بعقلها فأنها تنقاد لغريزتها ولا تفكر بعقلها - أحق رجل بامتلاك زمامها والسيطرة عليها وأكلها وهضمها. فالرجل يحب نفسه حين يحب المرأة أما المرأة فأنها تطلب الرق وتسعى للتضحية الكبرى حين تحب الرجل. فهو لهذا أناني في حبه، وهي لهذا مضحية في حبها. فليس عجيباً أن تحتمل هي المكاره في سبيل الحب لأن حبها تضحية كبرى فأولى أن تصبر على التضحيات الصغرى، بل العجيب ألا تصبر ولا تحتمل. أما الرجل فهو كما قلت أنانيٌّ فلا صبر له على تضحية ولا احتمال منه للعذاب إلا وهو كاره أو عاجز عن الفوز بالراحة، لأن طبيعة حبه لا تبيح له أن يفهم هذه التضحية ولا تجعله مستعداً لها. ومن هنا كانت المرأة أوفى وكان الرجل أغدر بالمعنى الشائع لا الحقيقي، فأن الوفاء من الرجل إفلاس نفسي وخيانة لطبيعته التي فطر عليها. وهذا هو الأصل ولذلك رأينا الرجل في تاريخ الإنسانية يتخذ المرأة والمرأتين والثلاث والأربع وتكون له الجواري فضلا عن الزوجات أو من هن في حكمهن، ولم نر المرأة تتخذ من

ص: 10

الرجال اثنين أو ثلاثة أو أربعاً، إلا أن تفعل ذلك سراً وخفيةً ولعلةٍ. ولكن الرجل لم يكن يعمل هذا سراً بل جهراً، وكان يقيمهن في بيت واحد. وكانت المرأة ترضى وتذعن وتسعى سعيها لتكون هي الأثيرة لا الوحيدة. وكان الرجل لا يكف عن الاشتهاء والتطلع إلى غير الموجودات، والتبرم بالموجودات، وهذا هو قضاء الطبيعة وحكم الفطرة في الرجل والمرأة. فمن كان يشق عليه أن يقرأ هذا فليتدبر تاريخ الإنسانية قبل أن يفتح فمه، وليحاول أن يعلل هذا التاريخ على وجه مقبول معقول قبل أن يعترض. ثم فليتأمل حاضر الإنسان وليسأل نفسه عنه أتراه يختلف عن الماضي إلا في المظهر دون المخبر والجوهر؟؟

فالوفاء - فيما يتعلق بالرجل - أكذوبة ومنافاة للطبيعة، ولكنه فيما يتعلق بالمرأة صدق وإخلاص للطبيعة؛ ومن هنا أن المرأة لا تزال تتهم الرجل بالغدر والتحول والتقلب وقلة الثبات. وهذا هو تفسير الغيرة الشديدة من جانب المرأة، وهي غيرة لا تقاس إليها غيرة الرجل مهما عظمت، لأن غيرة الرجل على امرأته هي كغيرته على كل ما يملك؛ فإذا أمن أن يضيع ملكه لم يبال ما دون ذلك مبالاة تذكر؛ فغيرته في الكليات لا في الجزئيات والتوافه، ولكن غيرة المرأة مرجعها إلى إدراكها - بغريزتها الذكية التي تهديها في حياتها - إن الرجل لا يستطيع الصبر على الوفاء، ولا يملك إلا أن يتحول وينقلب في حبه، وإلا أن يصرف قلبه من هنا إلى هنا، فكل حركة منه أو لفتة نذيرٌ منه عندها بوشك هذا التحول، وفقدان ما كان لها عنده من مقام ومنزلة وإيثار، وعودتها واحدة من مئات الآلاف اللواتي لا يباليهن ولا يحفلهن ولا يحسهن أو يفطن إلى وجودهن، فهي غيرة على الوجود وكل ما ينطوي عليه من الحقوق والمزايا، ولذلك لا تنفك مشبوبة مضطرمة

ومن حق ذات الثوب الأرجواني أن تغار وتقلق، ويجب أن أكون منصفاً، فإني أنا أثرت غيرتها بطول النظر إلى جارتها، وأقول جارتها وإن كان بينهما مثل ما بيني وبينها هي من البعد

والحق أن جارتها جميلة فاتنة، ولست أحبها - على الأقل إلى الآن - ولكني لا أرى ما يمنع أن أحب الاثنتين معاً، فأن لكل منهما مزيتها وخصائص حسنها وتعبيرها الذي لا يشبه تعبير الأخرى؛ والسمراء ألين وأسلس في العنان على ما يبدو لي. نعم إن ذات الثوب

ص: 11

الأرجواني أسلم فطرة وأنقى وأخلص سريرةً وأبسط قلباً وأبرأ من العبث، ولكن تلك شيطانة ملعونة وعفريتة من الجن تجعل الحياة كلها حركة دائمة، وما قيمة الحياة الراكدة؟؟ على أني كما قلت لم أحببها بعد، وإن كنت أعجب بحيويتها الزاخرة. وقد أحبهما معاً، أو تستأثر بي التي هي أقدر.

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 12

‌الصراع الحاسم بين الطغيان والديموقراطية

بقلم باحث دبلوماسي كبير

جازت الديموقراطية المعاصرة مرحلتين حاسمتين في تاريخها: ففي غداة الهدنة التي اختتمت بها الحرب الكبرى استقبلت الديموقراطية طوراً جديداً من القوة والظفر؛ وكانت الحرب الكبرى من بعض الوجوه صراعا بين الطغيان والديموقراطية؛ ففي معسكر الطغيان تجتمع الأسر القديمة الطاغية - آل هبسبرج وآل هوهنزلرن - والعسكرية البروسية تحركها أطماع مضطرمة في السيادة الواسعة؛ وفي المعسكر الخصيم تجتمع الأمتان العريقتان في الديموقراطية فرنسا وبريطانيا؛ وإذن فقد كانت هزيمة الدول الوسطى في الحرب الكبرى هزيمة للطغيان والملوكية المطلقة؛ وكان ظفر بريطانيا وفرنسا من بعض الوجوه ظفراً للديموقراطية والنظم الشعبية؛ وظهرت نتيجة هذا الظفر واضحة في قيام عدة من الجمهوريات الفتية في روسيا وألمانيا والنمسا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا، وفي دول البلطيق الصغرى؛ فهذه مرحلة ظفر للديمقراطية المعاصرة

ونعمت الديمقراطية بظفرها بضعة أعوام، ولكنها انحدرت إلى معترك من الشقاق الخطر، وانقسمت إلى شيع متخاصمة؛ وبدلاً من أن تجتمع في معسكر موحد، أخذت في نضال عنيف مستمر فيما بينها باسم المبادئ والصيغ المختلفة ما بين اشتراكية وديمقراطية متطرفة ومعتدلة، حتى دب الفشل إلى صفوفها؛ وكانت أول نتيجة خطرة لهذا الشقاق قيام الفاشستية في إيطاليا وسحق الديمقراطية فيها؛ ولم تلبث قوى الطغيان أن ظفرت تباعا في بولونيا حيث تقوم حكومات مطلقة تستتر وراء الجمهورية، ثم في ألمانيا حيث قامت النازية أو الهتلرية ونظمت أعظم طغيان عرفه التاريخ الحديث، ثم في النمسا حيث طغت الأحزاب الفاشستية؛ وأما في روسيا، فأن النظام الذي استحدثه البلاشفة للجمهورية الجديدة لم يكن سوى طغيان شنيع يستتر باسم سيادة الطبقات العاملة؛ كذلك لم تلبث الجمهورية التركية الناشئة أن تحولت إلى طغيان عسكري مطلق يستتر تحت نظام جمهوري صوري؛ فهذه مرحلة انحلال للديمقراطية المعاصرة

والآن تبدو في الأفق ظاهرة جديدة؛ ولقد ظفرت الديمقراطية في إسبانيا منذ أعوام قلائل ظفراً مبيناً، فسحقت الملوكية الطاغية القديمة، وأقامت حكم الجمهورية والنظم الدستورية،

ص: 13

ولكن هذا النصر كان محلياً، ولم تفد منه الديمقراطية الأوربية قوة جديدة، ولكنا نشهد من جهة أخرى وثبة جديدة للديمقراطية الفرنسية، فقد أسفرت الانتخابات الفرنسية الأخيرة عن فوز عظيم لأحزاب اليسار أنصار الديمقراطية المتطرفة والحريات الدستورية الواسعة، وهي تتربع الآن في دست الحكم؛ وأسفرت الانتخابات البلجيكية في نفس الوقت عن فوز الأحزاب الاشتراكية؛ وفي روسيا السوفيتية يتحول الطغيان البلشفي منذ أعوام إلى نوع من النظام الدستوري العام تنمو في ظله الحريات والحقوق الفردية باطراد؛ ومنذ أشهر قلائل شهدنا تحالف الديمقراطية الفرنسية، والديمقراطية السوفيتية في ميثاق مشترك لمقاومة الخطر الألماني المشترك. فهذه الظروف والأحداث كلها تنم في نظرنا عن أن الديموقراطية الأوروبية تدخل في طور جديد من أطوار نهضتها

ومما يلفت النظر في عوامل هذه الوثبة الجديدة التي يلوح لنا أن الديموقراطية الأوربية تجيش بها، هو أن فوز الأحزاب الاشتراكية الفرنسية في الانتخابات الأخيرة هذا الفوز الشامل يرجع من وجوه كثيرة إلى المسألة الحبشية التي أثارتها الفاشستية الإيطالية واتخذتها ذريعة للتوسع الاستعماري المسلح؛ فقد كان غزو الفاشستية للحبشة وظفرها بالاستيلاء عليها ممزقة بذلك كل العهود والمواثيق التي ارتبطت بها في العهد القريب، متحدية أوربا وعصبة الأمم والعالم كله، مظهراً قوياً من مظاهر ظفر الطغيان المنظم ونفثة خطرة من نفثاته تنذر العالم بأخطر العواقب، وكان موقف حكومة لافال الفرنسية وتقبلها ونفاقها إزاء المسألة الحبشية، وما قامت به من المعاونات السرية لحكومة رومة، أكبر عامل في تتويج الاعتداء الفاشستي بهذا الظفر الذي تزهو به الفاشستية اليوم وتتخذ منه نذيراً لأوربا، فلما ردت السياسة البريطانية على موقف فرنسا في المسألة الحبشية، بموقفها في مسألة الرين وتخليها عن فرنسا، أدرك الرأي العام الفرنسي أن فرنسا تخاطر بفقد صداقة إنكلترا، فلم ير بدا من التحول في الانتخابات الأخيرة إلى ناحية اليسار لتقوم حكومة تعمل بالتفاهم مع الديموقراطية الإنكليزية، وتتعاون معها على درء خطر الطغيان الفاشستي والطغيان الهتلري

ومن الخطأ أن تعتبر هذه الحركات الطاغية الخطرة التي تضطرم بشهوة الاعتداء والتوسع حركات محلية لا تعني سوى الأمم التي تقوم فيها. فالفاشستية مثلاً تزعم لنفسها صفة عامة،

ص: 14

وتدعي أنها أمثل النظم الحديثة للدولة وتدعيم القومية، وضمان رفاهة الشعب؛ ويزعم طغاة ألمانيا الجدد (هتلر وشيعته) أنهم رسل المثل الأعلى للدولة الكاملة، والعظمة القومية، ورفعة الجنس، وأن نظرية الحريات الدستورية والحقوق العامة هي نظرية خطرة على كيان الأمم، ويجب أن تكون جميع الحقوق والسلطات متمركزة في الدولة، والدولة في نظرهم هي الحزب النازي، ويزعم بعض دعاتهم أن هذا النظام الغاشم سيعيش قروناً. ولقد كان لهذه الحركات والمزاعم بعض الأثر، فظهرت في إنكلترا حركة فاشستية صغيرة؛ واشتد ساعد الجمعيات الرجعية في فرنسا، وساعدت على ذلك ظروف سيئة ظهرت فيها النظم الجمهورية بمظهر النظم الفاسدة المفككة، وعاونت بعض الفضائح الخطيرة مثل فضيحة ستافسكي وغيرها على الاعتقاد بانحلال هذه النظم ووجوب تعديلها، بل قامت بعض جمعيات تدعو إلى إقامة الدكتاتورية إنقاذاً لفرنسا من هذا الفساد الدستوري الخطر؛ وظهرت في دول أخرى مثل رومانيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا نزعة إلى الاقتباس من الفاشستية والنازية؛ ومن ثم ففي وسعنا أن نقارن مبادئ الفاشستية والنازية، من بعض الوجوه بمبادئ الثورة الفرنسية التي تعدت حدود فرنسا واجتمعت حكومات أوربا المطلقة على مقاومتها

والآن نرى في أوربا معسكرين عظيمين يتأهب كل منهما لمكافحة الآخر؛ يتألف أحدهما من إنكلترا وفرنسا وبلجيكا وروسيا؛ ويتألف الثاني من ألمانيا وإيطاليا؛ وينحاز لكل منها بعض الدول الصغيرة؛ فإذا تأملنا في هذا التكوين من الناحية الدستورية ألفينا الديموقراطية ممثلة في الطريق الأول، والنظم الطاغية - الفاشستية والنازية - ممثلة في الطريق الآخر؛ وقد رأينا أن الحرب الكبرى قامت على مثل هذا التقسيم في القوى المتحاربة؛ وأن الدائرة قد دارت على الحكومات المطلقة وعقد النصر للدول الديموقراطية؛ وإذا تأملنا تاريخ أوربا خلال القرن التاسع عشر، لمحنا أثر هذا النضال الدستوري في معظم الحروب والمعارك التي دارت رحاها فيه؛ فقد عقدت المعاهدة المقدسة في سنة 1815 بين قيصر روسيا، وإمبراطور النمسا، وملك بروسيا، أو بعبارة أخرى بين الأسر الثلاث التي تمثل الحكم المطلق وتتذرع بالحق الآلهي، وهم آل رومانوف، وآل هبسبرج، وآل هوهنزلرن، وغرضها الظاهر توثيق عرى الأخوة المسيحية والتحالف بين الدول الثلاث، وغرضها

ص: 15

الحقيقي مقاومة الحركات الشعبية والدستورية؛ وقد كانت أوربا طوال هذا القرن كله مسرحاً لكثير من هذه الحركات التي ترمي إلى الحد من طغيان الحكم المطلق ومساوئه، وتنمية الحقوق العامة للفرد سواء في الدولة أو المجتمع

إن مجرى السياسة الدولية الحالية يفصح بذاته عن مظاهر تلك المعركة الكبرى التي يسير هذان المعسكران إلى خوضها؛ فإنكلترا وفرنسا تعملان من ناحية على مؤازرة عصبة الأمم، وإقالتها من عثرتها السحيقة في المسألة الحبشية، ومن ورائهما السوفييت ودول أوربا الصغرى كلها تؤيد هذه الحركة، لأن مبدأ السلامة المشتركة الذي أريد أن يكون دستور عصبة الأمم ضماناً لتحقيقه، قد صار بعد ظفر الفاشستية المعتدية بالاستيلاء على الحبشة - وهي من أعضاء العصبة - عقيماً لا أثر له من الوجهة الدولية؛ والدول الصغرى أضحت تخشى على مصايرها بعد انهيار هذا الضمان المشترك الذي كانت تعتمد عليه. ونرى من جهة أخرى إيطاليا وألمانيا تسخران من عصبة الأمم، ولا تدخران وسعاً في مناوأتها وعرقلة أعمالها لأن توطيد السلامة المشتركة وحريات الأمم وحقوقها إذا تحقق بعمل دولي قوي من جانب الدول الديموقراطية، فانه يقف سداً في وجه أطماعهما في التوسع والاستعمار، ويؤدي إلى ضعف النظم الداخلية التي تغذي هذه النزعة الخطرة على حقوق الأمم وحرياتها

والخلاصة أنه حيثما تأملنا في نواحي السياسة الدولية ألفينا مظاهر المعركة الحاسمة التي يوشك أن تخوضها الديموقراطية. والديموقراطية تلتزم خطة الدفاع لأنها بطبيعتها أقل ميلاً إلى الحرب، ولأن الدول التي تمثلها، هي فريق الدولة الراضية المستأثرة بالسيادة الاستعمارية الواسعة والموارد الغنية؛ ولكنها ستضطر إلى الدفاع عن نفسها إذا هوجمت، وعندئذ تقع معركة الفصل في مصاير أوربا الجغرافية والدستورية، وتقع معركة الفصل في مصاير المدنية، فأما أن تفوز الديموقراطية فتفوز بذلك المدنية المؤسسة على احترام الحقوق والحريات البشرية، وإما أن تفوز مبادئ القوة الهمجية التي تنادي بها الفاشستية والهتلرية، وعندئذ تنهار نظم الحضارة المستنيرة وترجع أوربا إلى نظم العصور الوسطى

ولكن الديموقراطية التي صمدت لهذه القوى الهمجية منذ القرن التاسع عشر تستطيع بلا مراء أن تدافع عن نفسها ومن ورائها الرأي المستنير في العالم كله

ص: 16

* * *

ص: 17

‌هنري روبير

عضو الأكاديمية الفرنسية ونقيب المحامين

للأستاذ عبد الحليم الجندي المحامي

إلى المحاماة، في شخص المحامي الأول، والنقيب الأول،

إبراهيم الهلباوي بك

في 13 مايو الماضي مات هنري روبير نقيب المحامين في باريس وعضو الأكاديمية، ووقف لتأبينه النقيب (دي مورو جيافري) فقال:(إن المحاماة قد فقدت اليوم أكبر رجل رفع من شأنها منذ عهد برييه). وهي عبارة تعطيك أبلغ فكرة عن مكانة هنري روبير في التاريخ؛ فلعل (برييه) أكبر رجال المحاماة في التاريخ الفرنسي؛ هو الذي حمل لواء الدفاع عن (لامنيه)، وعن (شاتو بريان) ضد لويس فيليب عندما هتف قائلاً للدوقة (دي برِّي): سيدتي، إن ابنك هو الملك. وكان لويس فيليب يومئذ هو الملك! ثم ترافع عن البرنس لويس نابليون عندما طلب إعدامه فأنقذه دفاع (برييه) ليصير بعد سنين جلالة الإمبراطور، وهو الذي كان يدافع عن المتهم في إحدى جنايات القتل فأخذ محامي المدعي المدني (النقيب كرسون) يحذر القضاة من عبقرية الدفاع الذي سيسمعونه من فخر التاريخ القضائي في فرنسا. فإذا جاء هنري روبير بعد هذا الرجل الخالد دون أن يقف أمامه ش دستايج أو ليون ديفال أو جول فافر أو روس أو (ألو) أو محامي مدام لافارج الذي كان يقول عن نفسه:(أنا الدفاع) صديق الإمبراطور الشخصي أعني (لاشو)؛ ثم باربو؛ ثم لابوري، لابوري الهائل، الذي نفذ رصاص الحمقى إلى جسده ولم ينفذ الرعب إلى قلبه، فطلب تأجيل قضية إميل زولا حتى يبرح المستشفى ليترافع ضد الجيش وحزب الجيش ومنهم مطلق الرصاص؛ لابوري الذي قال عنه هنري روبير وهو يلقي الكلام في تأبينه:(قوة من قوى الطبيعة ومارد في موقف الدفاع)؛ ثم دي بوي أستاذ بوانكاريه؛ والرئيس أو النقيب بوانكاريه نفسه، محامي جونكور وجائزة جونكور ووصية جونكور؛ والرئيس فيفياني أو البلاغة كما كان يسميه بنو العصر؛ وشنى (أفضلنا) كما كان يقول هنري روبير؛ ووالدك روسو؛ والنقيب (بويو) حفيد النقيبين أو قل وزيري الحقانية بويو وباروش. . كل أولئك لا

ص: 18

يراهم جيافري قد أعلوا من شأن المحاماة مثلما أعلى من شأنها هنري روبير. . .

وفي الحق أن هنري روبير قد بلغ ذلك الأوج لظروف خاصة؛ فهو قد ظل ربع قرن كامل محامي فرنسا الأول، حتى ليكاد المرء يخاله قد وصف نفسه عندما وصف فيكتور هوجو بأنه استوى على عرش الأدب نصف قرن كأنه نصف إله؛ وفرنسا أمة محامين تحكمها حكومة محامين. وكان هنري روبير (نقيب الحرب) كما كانوا يقولون إذ ظل نقيباً لمدة أربع سنوات دون أن يعاد الانتخاب؛ فالمحامون كانوا جميعاً في الخنادق، ولم يكن لذلك بد من تأجيل الانتخابات؛ وبذلك اقترن اسمه بالنظام القضائي طيلة أيام المحنة. وكان يلقي في تأبين المحامين الذين تفقدهم فرنسا كلمات خالدة تخلب الألباب. وكان يمثل المحاماة في كل معترك، ويحمل رداءها في كل حفل. وهكذا حمل اسمها ولواءها عند الكافة. فلما خمد لهيب جهنم لم تخب تلك الشهوة اللامعة فارتفعت بصاحبها من مستوى الذين يموتون إلى مستوى الذين لا يموتون في سنة 1923 خلفاً لريبو. وكانت آخر كلمة له في المجمع تأبين الفقيد الجليل جاك بانفيل؛ حتى إذا تفرغ للتأليف من سنة 1928 أخذ يقرؤه عالم الأدباء بعد أن كان يقرأ عنه، وبعد أن كان محامياً عن الأفراد أصبح محامياً عن المحاماة؛ وبعد أن كان اسمه يذكر بمناسبات أصبح اسمه يدوي في المسامع باستمرار

وظل هنري روبير طول أيامه عزوفاً عن السياسة معتزاً بالمحاماة، فلم يغب باسمه ولا بجسمه عن قصر بوربون

إلى تلك الملابسات التي أحاطت بالرجل كان الرجل نفسه كنزاً زاخراً حافلاً بالكفايات، والكفايات في أمة كفرنسا وفي وسط كالمحاماة يندر أن تضيع

هذه الشخصية الخالدة يجب أن ندرسها في مصر، ولو في عجالة وبإيجاز. ولعلي بهذا البحث أشق الطريق للأدب المرجو الذي أنادي به من عشر سنين: أدب المحاماة

ولد هنري روبير في 4 سبتمبر سنة 1863، وفي 29 أكتوبر سنة 1885 حلف اليمين لينتظم في سلك المحامين. وفي يوليو سنة 1887 انتخب سكرتيراً لمؤتمر المحامين وانتخب معه اثنان آخران يكفي أن تعرف اسميهما لتدرك مقدار ما يتضامن الماضي مع المستقبل، فأولهما الأستاذ واتين الذي يتولى اليوم توزيع العدالة وشرع الأحكام في كرسيه في رياسة دائرة محكمة النقض؛ وأما ثانيهما فانه فرنان لابوري: وما أدراك ما لابوري؟

ص: 19

لسان الدفاع عن فايان الذي ألقى القنبلة الأولى على مجلس النواب، ذلك الدفاع الذي لا نستطيع بعد قراءته إلا أن نتساءل مع هنري روبير:(كيف لم يبرئوا المتهم؟) ولسان الدفاع عن أميل زولا؛ الدفاع الذي أفقده أمواله وعملاءه وأكسبه الفخار والشرف: والذي نقل إلى الأجيال أروع كلمة قالها محام في الذب عن حياض المحاماة؛ فعندما هوت من فم النائب العام - وهو جالس على كرسيه بجوار المحكمة في أعلى القاعة - كلمة جارحة بالنسبة للابوري صرخ صرخته الداوية في وجه النائب: (إن الشتائم التي تساقطها من كرسيك الرفيع لن تستطيع - مهما كان كرسيك عالياً - أن ترقى إلى المنصة التي يترافع منها الدفاع)

ولم يكد هنري روبير يستمرئ حلاوة ظفره في الانتخاب حتى اختاره النقيب درييه سكرتيراً له وولاه أعمال مكتبه في أول أكتوبر سنة 1887

وقضى السكرتير الجديد بمكتب النقيب سنتين حتى قبض الله إليه النقيب فلم تبرح ذاكرته ذكراه حتى قضى هو الآخر فتراه يهدي إليه بعد أربعين عاماً كتابه (المحامي)، فتراه يختصه بأروع الصفحات في بعض مؤلفاته؛ فلقد كان درييه أباً يخلص الحب، ولم يكن أستاذاً فحسب؛ كان يفتح صدره لسكرتيره، وكان يفتح أمامه أيضاً أبواب داره. وفي نوفمبر سنة 1888 رحل النقيب والسكرتير للمرافعة في قضية القتل التي قارفها تلميذ بول بورجيه وصديقه كاميج والتي أوحت لعميد الأكاديمية المتوفى (بورجيه) أروع مؤلفاته وهو كتاب (التلميذ)، فلقد قتل كامييج عشيقته الفاضلة مدام جريل بعد أن تعاهدا على الانتحار فأصابها ثم أخطاء نفسه؛ فترافع درييه ومن ورائه هنري روبير ففتح لنفسه طريق الخلود

وفي ذات ليلة انتقلت هيأة الدفاع كاملة! على ضوء الشموع لا إلى المحكمة ولكن إلى المقهى، ولا لتطلع على المستندات ولكن لتطلع على رقص (أولاد نايل)، فهمس درييه في أذن سكرتيره (يا صديقي ماذا يقول مجلس النقابة إذا رآنا هنا؟) فأجابه زعيم الارتجال (هو بلا شك يحسدك يا سيدي النقيب!)

وأخذ هنري روبير يمشي قدماً في عالم المحاماة، وكانت الحياة رخية في أعقاب حرب السبعين إلى فاتحة القرن الحالي، فلم يكن يخشى على الكفايات الممتازة من منافسة الجشع والخسة والأساليب الدنسة التي تخلقها ظروف الحياة العصيبة، فتهيأت للمحامي الناشئ

ص: 20

قضايا هائلة ظهر فيها هائلاً أيضاً، فترافع عن جبريل بومبار في سنة 1890 ليستل رأسها من تحت المشنقة، وعن واشيه المتهم بقتل أبيه ليظفر لدولمن معه ببراءة خالصة وفي سنة 1898 ترافع عن الطبيب لايورت مرافعته الخالدة. وفي سنة 1902 ترافع عن مدام همبير ضد الصيرفي قطاوي واختتمها بتلك الكلمة التي اختتم بها الأستاذ سابا حبشي مرافعته القيمة في قضية نزاهة الحكم (. . . وستثبتون ببراءة مدام همبير أنكم تصدرون أحكاماً ولا تؤدون خدمات) وفي سنة 1904 ترافع عن المهندس بيير في مقتل كاديو، وفي سنة 1908 في مقتل ريمي الخ الخ. . وفي سنة 1925 ترافع عن بوربووش وفي سنة 1929 ترافع عن الجنرال ميشيل فنال له ما عجز عن نيله أستاذ الجيل (لاشو) في محاكمة المارشال بازان عن موقفه في حرب السبعين، ثم عن الحسناء البولونية فالنتين أو متسكا، ثم عن القسيس هيجي، ويومئذ اختتم مرافعته أمام محكمة جنايات السين بما ختم به عمله القضائي الخالد أمام تلك المحكمة قائلاً:(. . أيها الأب. . صح معي وبأعلى صوتك: فلتحي فرنسا.)

فما هي إذن تلك الكفايات التي رفعت صاحبنا وصاحبها إلى تلك الذروة؟ الجواب عندي يتلخص في كلمة واحدة هي: أنه كان يفهم قضاياه كما كان يفهم عقلية القضاة؛ وهذا هو الذي جعله بحق أحدث القدماء وأقدم المحدثين. وبعبارة واضحة هذا هو الذي جعله مترافعاً عظيماً في أواخر قرن البخار، مترافعاً عظيماً في أوائل قرن اللاسلكي؛ بل بعبارة أوضح هذا هو الذي جعله يكيف المرافعات (التقليدية) التي كانت آية البيان في أعقاب الحرب الأولى، أعني حرب السبعين بما يستسيغه القضاة بعد الحرب الثانية في سنة 1920: هؤلاء القضاة الذين يضعون الساعة أمام عيونهم فان لم يضعوها أمامهم تصوروها كائنة في رؤوسهم. . . تدق باستمرار. . . .!

نحن الآن في المحكمة، وهذا هو النائب العام يترافع؛ وذلك محام هادئ يكاد ينام؛ لكنه نهض الآن، رفيع القامة، رفيع المقام، يتكلم في سرعة غريبة كأنه يخشى أن يُدفع ضده بفوات الميعاد! إنه يتكلم كأنه يتحدث؛ وها قد مضت خمس دقائق دون أن يظهر لك أنه محام كبير، لكنه قد أوغل في صميم الموضوع فوراً، وحميت الوقدة واندلع لهيب النار، فهو يضرب يميناً ويضرب شمالاً وبقسوة وبصوت محترم، والحجج تنساق متدافعة معجلة

ص: 21

إلى أسماع المحلفين فيعجبون لتقديم هذا المتهم البريء! وفي عشرين دقيقة أو ثلاثين!! يبدو لهم أن النائب المترافع كان يسيء استعمال وقتهم عدو ساعات في مرافعاته ضد رجل طاهر كالطهر، مظلوم كالمسيح

تلك كانت صورة هنري روبير وهو يترافع كما حكى لنا سامعوه ومؤرخوه وكما يظهر لنا من كتاباته

حدثنا هنري روبير عن رجل من أرباب القضايا دخل القاعة فوجد محامياً يترافع، فتساءل من الأستاذ؟ فقيل له إنه الأستاذ (آنتل) قال: كيف هذا؟ إنه يتحدث في بساطة مجردة! لا يمكن أن يكون هذا هو الأستاذ آنتل البعيد الصيت!

فإذا رجعت إلى كتاب الأستاذ الجداوي المسمى (مرافعات) وجدت أن الأستاذ الجداوي هو ذلك الرجل الذي دخل القاعة، وأن المحامي الذي تساءل عنه وتلقى الجواب بدهشة وبإعجاب لم يكن الأستاذ آنتل بالطبع ولكنه كان الأستاذ هنري روبير.!

وفي مقال بعث به إلى فقرأه الأحياء في 21 مايو الماضي بعد أن كان هو قد سقط من سجل الأحياء!. . في ذلك المقال المعنون: (فتحت الجلسة) محض هنري روبير المحامين النصح أن يقرءوا مرافعات (والدك روسو) ليتعلموا فن (البساطة والسهولة والدقة). وفي كتاب (المحامي) يهيب بالمحامي أن يتذكر أنه يقف أمام القضاء (ليقنع لا ليلمع) وأن القرن السادس عشر قد حمل إلينا وديعة من أجيال الفصاحة القضائية الأولى هي أن تترافع (باختصار وبلباقة وبإخلاص)؛ وعلى ذلك تجد مؤلفاته كمرافعاته؛ فهو يبدأ مرافعاته لينتهي منها بسرعة وحرارة، وأنت تبدأ قراءة كتبه فلا تستطيع أن تدع الكتاب حتى تصل إلى خاتمته؛ وهذا كتاب قضايا التاريخ الكبرى يعرض للناس أفظع ما اجترح الضمير الإنساني من أوزار وحيل وخبائث، وهذه مرافعته الفنية عن الدكتور لابورت، كل تلك الأعمال يبسطها روبير فتروعك بسهولة عبارتها وسحر دلالتها حتى لكأنها دروس تلقى على التلاميذ. .!

ذلك لأنه كان يفهم قضاياه فيعرضها من حيث يجب أن تعرض؛ وما دام يفهمها فهو - بأسلوبه - فمين أن يُفهمها؛ ومن المسلم به أن الذي لا يفهم لا يستطيع أن يفهم، وأن تبسيط الأشياء أصعب من تعقيدها، وأن الغموض في العبارة هو غالباً أثر الغموض في التفكير

ص: 22

ويمتاز هنري روبير من رجال الدفاع في العالم طرا بالسرعة المتناهية في الإلقاء، وله من جراء هذه السرعة حادثة ذكرها لنا في مقال (كانديد)، إذ كان يترافع عن قاتل عشيقته فقال وهو يطير في أجواء الكلام (. . . فعقد العزم على أن يقتل نفسه ثم يقتلها فوراً. .) ولم ينتبه أحد سواه إلى ما في هذا الكلام من استحالة لأن الجمهور والمحلفين كانوا يجرون معه إلى الغاية كالزورق الذي يحمله التيار

ولذلك الإسراع تجده ينتزع المتهم من براثن النائب العام بعد 17 دقيقة فقط كما شهدت المحامية أوديت سيمون أو (بعد عشرين دقيقة لا أكثر ولا أقل) كما تعهد هو للمحلفين وهو يستهل الدفاع في قضية بوبوروش عندما قتل الرجل الذي أخبره أن امرأته تخونه. ومن الغريب أن يقولها للمحلفين بعد أن قال ساخراً (. . ساعتان كاملتان، واتهامان متضافران، من المدعي المدني ومن النائب العام!) ثم يختتم دفاعه وهو يناجيهم (. . . إنني أرجو أن تبرئوا بوبوروش حتى إذا عدتم إلى مساكنكم في المساء ألقيتم على زوجاتكم وبناتكم نظرات كلها اطمئنان). وفي 28 يونيو سنة 1913 كتب الأستاذ (فرنان بايان) - قبل أن يصبح نقيباً، ومؤرخاً لبوانكاريه - كتب في الفيجارو دراسة لهنري روبير نشرها في كتابه وعلل هذه السرعة بأن الرجل يخشى أن يضيع أثر كلامه في المحلفين، فهو ينتهي منهم بسرعة ليتركهم تحت أثقال حججه وبراهينه. وعندي أن العلة في ذلك كانت صفاء عقل هنري روبير وقدرته على الارتجال، ذلك الارتجال الذي قال هو عنه كما سيجيء بعد: إنه نتيجة ترديد الكلام قبل المرافعة، حتى كان يسمي نفسه (آلة كلام)، فهو كان يبدأ لينتهي؛ أفكار واضحة وعبارات حاضرة؛ كان يفتتح المعركة لينتهي منها بأسرع ما يستطيع؛ والنصر الحاسم هو غالباً النصر السريع. ثم - وهذه مسألة أساسية - كان هنري روبير عدوا للتصويرات البيانية ولحشد الأمثال والسوابق، فهو كان مقيداً دائماً بموضوعه، لا يرسم الصور، ولا يلقي الحكم، ولا يتفيهق بالألفاظ، ولا يتطلب الشهرة، لأنها قد دانت من زمان؛ فهو إذن يلقي الحجج واحدة بعد أخرى كالفيلق في آثار الفيلق، وكالانتصار في أعقاب الانتصار؛ وهو إذن كان يستغني عن أربعين دليلاً بأدلة أربعة لها قوة الأربعمائة ووضوح الدليل الفرد

كان هنري روبير يرتجل كما قلنا، لكنه يشرح ارتجاله حيث يقول (إنني لا أفكر في الكلام

ص: 23

حين ألقيه) ثم يقول (أنا لا أحضر مرافعاتي بالكتابة؛ وإنما أترافع بيني وبين نفسي على انفراد وبلا صوت عال؛ لا أتكلم، وإنما تجري العبارات في مخيلتي وأنا أمشي أو وأنا في عربتي، وفي المساء تتوارد لدي خواطر ذات بال (وهذه العبارة تشرح للقارئ حالة خاصة كان يشهدها سامعوه عندما يفتتح الجلسة في قضية خطيرة، إذ كانت تبدو عليه علامات الانفعال. وقديماً كان (تورين العظيم) لا يدخل المعركة إلا وهو يرتعد، فكان ينادي جسمه (ارتعد. . تزايل. . إنك لا تدري إلى أين أقذف بك. . .) وكان تورين أعظم القواد في تاريخ فرنسا عند نابليون

أما خطة هنري روبير في مرافعاته فقد تعلمها على الرجل الذي كسب ستين معركة؛ وهي أن الهجوم خير وسيلة للدفاع. فإذا شرع في مرافعته اتجه في شتى الجهات يبحث عن متهم غير موكله ليلقي عليه أفدح أثقال الاتهام؛ فإذا لم يكن هناك مجرم آخر فلا شك أن هناك أباً لم يعلم ولده فهوى به - هو - إلى أحضان الجريمة؛ أو أن هناك تحريضاً أو استفزازاً وإلا فاستسلاماً صدر من المجني عليه؛ أو أن الهيئة الاجتماعية قد قصرت أو أساءت إلى غير ذلك من أساليب الدفاع، وإذا شئت فمن أساليب الاتهام. والذين سمعوا وهيب دوس يترافع في قضية نزاهة الحكم أو في مقتل السردار أو في قضية الأطباء - بخاصة - يدركون مقدار ما يتساوى الرجلان في تلك الخطة التي شرعها نابليون للناس، أو نقلها عن هانيبال للأجيال اللاحقة، عندما كان يعلم بقيام حلف ضده في وسط القارة أو في شرقها أو في غربها فلا ينتظر في قصر التويلري بل تجده مرتين تحت أسوار فينا ومرة أخرى في قصر فردريك العظيم ليأخذ ساعته الدقاقة إلى سنت هيلين من بعد باريس!. . . ومرة ثالثة تجده في موسكو. . . أمام الحريق، بل أمام اللانهاية، بل أمام باب الفشل. . . . .

(البقية في العدد القادم)

عبد الحليم الجندي

ص: 24

‌شعراؤنا المنسيون

الأبيوردي

المتوفى في مثل هذا اليوم (20 ربيع الأول) سنة 557

بمناسبة مرور (798 سنة) على وفاته

للأستاذ علي الطنطاوي

مقدمة: بين المعري والبارودي عصر أدبي مديد قد نسى اليوم أو كاد، فمحي من برامج التعليم عندنا، وحكم عليه جملة واحدة بأنه عصر انحطاط في الأدب وجفاف في القرائح، وضعف في الإنشاء، وقحط في الرجال، وانصرف عنه الناس - إلا الخاصة من أهل الأدب - وزهدوا فيه، وارتضوا لأنفسهم الجهل به، وانقطعت الصلة بينهم وبينه، فلا تقرأ لأحد بحثا فيه، ولا تحليلا لشاعر من شعرائه. ولا تسمع اسم رجل من رجاله يتردد على أطراف ألسنة الخطباء، وأسلات أقلام الكتاب، كما تردد اسم بشار والبحتري والمتنبي والمعري، في حين أن هذا العصر الطويل قد أنجب شعراء إذا هم لم يضارعوا الفحولة السابقين، فليسوا خالين من كل مزية، ولا عاطلين من كل حلية. بل إن فيهم لشعراء فحولا، زودوا الأدب العربي بزاد قيم، وأورثونا أدبا جما، وشعراً كثيرا من حقه أن يحفظ وينظم، ويدرس ويحلل. لا سيما ونحن في إبان نهضة أدبية شاملة. . .

وقد أحببت أن أفتح هذا الباب في (الرسالة) لأنها اليوم بمثابة الإمام في الأدب العربي، ولأن في يدها دفة السفينة فهي التي توجهها الوجهة الصالحة إن شاء الله. ولست أسوق هذه الكلمة على أنها دراسة كاملة لهذا الشاعر. ولكن على أنها كلمة موجزة عن نفسيته وشعره، بمناسبة ذكرى وفاته، عل هؤلاء الشعراء المنسيين يبعثون كما بعث بن الرومي من قبل. فيقام للأبيوردي بعد سنتين مهرجان كمهرجان المتنبي بمناسبة مرور ثمانية قرون على وفاته. . . (ع)

قال الأبيوردي:

تنكر لي دهري ولم يدر أنني

أعزّ وأحداث الزمان تهون

فبات يُريني الخطب كيف اعتداؤه

وبتّ أريه الصبر كيف يكون

ص: 25

والأبيوردي هو أبو المظفر محمد بن أحمد الأبيوردي المعاويّ الأموي العبشمي الذي يقول:

ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت

لنا رغبة أو رهبة أُمراؤها

فلما انتهت أيامنا علقت بنا

شدائد أيام قليل رخاؤها

وكان إلينا في السرور ابتسامها

فصار علينا في الهموم بكاؤها

وصرنا نلاقي النائبات بأوجه

رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها

إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت

علينا الليالي لم يدعنا حياؤها

هذه نفس الأبيوردي، وهذا شعره

قال الشعر فأكثر، وسار فيه على سنن من تقدمه وعاصره، فمدح وهجا وتغزل، واستنفد المدح أكثر شعره، وعُنى بالصناعة البديعية، وغاص على المعاني المبتكرة، والتوليدات الدقيقة؛ وكان شأنه في ذلك شأن جمهرة الشعراء المداحين لم يأت فيه بجديد، ولم تكن له ميزة في شيء منه، ولكن ميزته في شيء وراء ذلك كله، هو أن له شخصية قوية واضحة تشبه شخصية المتنبي في كثير من نواحيها، وإن هذه الشخصية تظهر في شعره كله، في المدح وفي الهجاء وفي الغزل

وستفهم هذه الشخصية، وترى مبلغ ظهورها في شعره حين تعرف نسبه وأخلاقه، وتقرأ ما سأعرض عليك من شعره

أما نسبه فقد علمت أنه يتصل بأبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس جد الخلفاء الأمويين، الذين ملكوا الدنيا، وفتحوا المشرق والمغرب؛ وقد كان الشاعر معتزاً بهذا النسب لا ينساه ولا يكتمه، ولا يحجم عن أن يواجه به الخلفاء من بني العباس، وأن يفاخرهم به في وجودهم!

كتب مرة إليّ أمير المؤمنين المستظهر بالله رقعة على رأسها الخادم المعاويّ، فغضب الخليفة وأخذ الرقعة فكشط الميم من المعاويّ وردّها إليه. . .

وكان مرة يمدح الخليفة المقتدي العباسي، ففخر أمامه بنسبه الأموي، ووازاه بنسب الخليفة، ولم يزد على أن جعل جدّ الخليفة العباسّ (ساقي الحجيج) ندا لجده وقريعاً، قال:

وقد ولدتني عصبة ضمّ جدّهم

وجدّ بني ساقي الحجيج عروق

وإني لأبواب الخلائف قارع

بهم ولساحات الملوك طروق

ص: 26

ولم يكن يمتنع من أن يفخر بأجداده الأمويين، ويملأ الدنيا ثناء عليهم، ويفضلهم على الناس كلهم، على مسمع من العباسيين أرباب السلطان وأولياء الأمر، وأن يعرض في فخره بالدولة العباسية وزوالها، قال:

أنا ابن الأكرمين أباً وجداً

وهم خير الورى عماً وخالا

أشدّهم إذا اجتلدوا قتالا

وأوثقهم إذا عقدوا حبالا

وأرجحهم لدى الغمزات عوداً

إذا الخفرات خلين الحجالا

(إلى أن قال):

وهم فتحوا البلاد بباترات

كأن على أغرتها نمالا

ولولاهم لما درّت بفيء

ولا أرعى بها العرب الفصالا

وقد علم القبائل أن قومي

أعزّهم وأكرمهم فعالا

وأصرحهم إذا انتسبوا أصولا

وأعظمهم إذا وهبوا سجالا

مضوا وأزال ملكهم الليالي

وأية دولة أمنت زوالا؟

أما أخلاقه فقد كانت أخلاق الصيد من الملوك، لا أخلاق المداح من الشعراء، فقد ذكروا أنه كان عالي الهمة، عزيز النفس، متكبراً تيّاهاً، ذا بأو وصلف وعجب، وكان يتخذ العبيد والغلمان، ويأمر من يمشي بين يديه بالسيف فعل الملوك، وكانت له آمال سياسية، كان يرجو أن يبلغها من طريق المرتبة والولاية، فطلبها وألح في طلبها؛ فلما أيس منها عزى نفسه بأنه سيطلبها بالسيف، فهو يشبه في هذا المعنى المتنبي شاعر العرب الأكبر؛ يدلّ على آماله السياسية وطموحه إلى الملك شعره الذي سيمر بك عما قريب، ودعاؤه عقب كل صلاة:(اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها)، وتيهه على ممدوحيه من الملوك والوزراء، وفخره بنفسه بين أيديهم

أما الشعر فكان ينظمه ترويحاً عن نفسه، وترجمة عن أدبه، ويمدح به من يمدح للأدب لا للنشب، وللوفاء لا للعطاء:

ولم أنظم الشعر عجباً به

ولم أمتدح أحداً من أرب

ولا هزّني طمع للقري

ض ولكنه ترجمان الأدب

إني بمدحك مغري غير ملتفت

إلى ندى خضل الأنواء مطلوب

ص: 27

وكان يترفع عن أن يستجدي بالشعر، وأن يعد من الشعراء السؤّال. ويرى نفسه نداً لممدوحيه. فهو ينظم لهم هذه القصائد المعجزة. يبتغي بها ودهم وإخاءهم لا نوالهم وعطاءهم:

ولولاك لم تخطر ببالي قصائد

هوابط في غور طوالع من نجد

لحقت بها شأو المجيدين قبلها

وهيهات أن يؤتى بأمثالها بعدي

فهن عذارى مهرها الود لا الندى

وما كل من يعزى إلى الشعر يستجدي

ولم يكن يسلك سبيل شعراء المدح في الكذب والغلو والمبالغة. ولكن سبيله وصف ما يرى من صفات ممدوحيه وخلالهم وصفاً صادقاً، لا كذب فيه ولا إغراق:

وصدق قولي فيك أفعالك التي

أبت لقريضي أن أوشحه كذباً

لا زلت تلقح آمالاً وتنتجها

مواهباً يمتريها كل محروب

وتودع الدهر من شعر أحبره

مدائحاً لم توشح بالأكاذيب

وكان عارفاً بقيمة شعره، مؤمناً بعلو منزلته وجلالة قدره، فهو يوجه إليه أنظار ممدوحيه ويدل به عليهم، ويمن على من يمدحهم بأن ملوك الأرض يتمنون أن يمدحوا به، ولكنه لا يتنازل إلى مدحهم، ولا يعرج عليهم، ولا يلتفت إليهم:

قليل إلى الري الذليل التفاته

وان كثرت للواردين المناهل

فدونك مما ينظم الفكر شردا

سلبن حصى المرجان كل نظام

تسير بشكر غائر الذكر منجد

يناجي لسانَيْ معرق وشآمي

ويهوى ملوك الأرض أن يمدحوا بها

وما كل سمع يرتضيه كلامي

وكم ماجد يبغي ثناء أصوغه

ولكنني عن مدح غيرك أزورُّ

ويودع سيداً كبيراً فلا يجد ما يأسف عليه عند وداعه إلا هذا الشعر الذي يضيق به الحساد، و (تكبو دونه الشعراء) وتنشده الأيام، أن يضيع بعد رحيله ولا يبقى له أهل يخاطبون به

رحلت فالمجد لم ترقأ مدامعه

ولم ترق علينا المزن أكبادا

وضاع شعر يضيق الحاسدون به

ذرعاً وتوسعه الأيام إنشادا

فلم أهب بالقوافي بعد بينكم

ولا حمدت وقد جربت أجوادا

وإذا أنت سألت الشاعر عن منزلته في الشعر لما تردد في القول بأنه فاق الشعراء وبذهم؛

ص: 28

فإذا عجبت منه كيف يعجز الشعراء ويبذهم وهو واحد منهم، أجابك جواب المطمئن المؤمن بما يقول: المعتد بنفسه قائلاً:

فقت الأعاريب في شعر فأنت به

كأنه لؤلؤ في السلك منضود

إن كان يعجزهم قولي ويجمعنا

أصل فقد تلد الخمر العناقيد

فمن كان له هذا المجد التليد، ينم عنه هذا المنطق المبين:

ينم بمجدي حين أفخر منطقي

ويعرب عن عتق المذاكي صهيلها

ومن كان سليل الملوك، وشاعر العصر، وذا المجدين: المجد الموروث وهو هذا النسب العالي النبيل، والمجد المكسوب وهو هذا البيان الصافي الأصيل، كان له أن يقوم بين أيدي ممدوحيه مقام العزيز الشامخ بأنفه، وأن يصرخ في وجه الوزير، وقد قام مادحاً له، فنسيه وذكر نفسه، فانقلب منافراً مفاخراً:

وسل بي المجد تعلم أيّ ذي حسب

في بردتيّ إذا ما حادث هجما

يلين للخل في عزّ عريكته

محض الهوى وله العتبى إذا ظلما

من معشر لا يناجي الضيم جارهم

نضو الهموم غضيض الطرف مهتضما

والدهر يعلم أني لا أذل له

فكيف أفتح بالشكوى إليه فماً

وكيف يشكو الدهر، وشعره غرة في جبين الدهر:

وكيف يشكو الدهر من شعره

على جبين الدهر مكتوب؟

أو لست تذكر المتنبي شاعرنا الأكبر، حين تقرأ للأبيوردي فخره بنفسه وتمدحه بادلاجه في الليل، وانفراده في الفلوات ترنو إليه النجوم وهو ساع ليكسب قومه عزاً وفخراً في مطلع قصيدة يمدح فيها ويهنئ بالعيد. قال:

وبي عن خطة الضيم ازورار

إذا ما جدّ للعلياء جدّي

فهل من مبلغ سروات قومي

مصاحبتي على العَزّاء غمدي

وإدلاجي وجنح الليل طاوٍ

جناحيه على نصب وكدّ

وقد رنت النجوم إليّ خُوصاً

بأعين كاسرات الطرف رُمد

لأورثهم مكارم صالحات

شفعت طريفها لهم بِتَلْدِِ

وهو لا يزال أبداً يحب أن يجمع إلى المجد التليد مجداً طريفاً وأن يؤيد المجد الموروث

ص: 29

بمجد مكسوب، لا يقنع بعلو نسبه ورفعة أجداده:

فشيدت مجداً رسا أصله

أمت إليه بأمّ وأب

ولا يزال يمدح بهذه الخلة من يجدها فيه من ممدوحيه. قال:

مقتل السن عقيد النهى

تقصر عن غاياته الشيب

والملك لا يحمل أعباءه

من لم تهذبه التجاريب

شيد ما أثّل من مجده

والمجد موهوب ومكسوب

أبو علي له في خندف شرف

لف العلى منه موهوباً بمكسوب

وهو لا يقنع من المجد بالشعر والأدب، ولا بالمال والنسب، ولكن له أملاً سياسياً بعيداً، فهو يألم لما يرى من تفرق الأمراء وغلبه الأعاجم، وينتظر (رجل الساعة. . .) المصلح المرتقب، الذي يجمع شمل الأمة، ويعيد لها شبابها، فيدعو لذلك الملوك، ويهيب بهم، فلا يجد هذا البطل الأروع فرّاج الغمة، محيي الأمة:

دهر تذأب من أبنائه نقد

وأوطئت عرب أعقاب أعلاج

وأينع الهام لكن نام قاطعها

فمن لها بزياد أو بحجاج

وكم أهبنا إليها بالملوك فلم

نظفر بأروع للغماء فراج

فيفتش في أمراء العرب وملوكهم فلا يجد فيهم من يرجى إلا الأمير أبا الشداد، فيقصده بقصيدة يستثيره ويستفزه، ويهيج في نفسه الحمية العربية، ويسأله كيف يرضى وهو اليوم أمل العرب وملجؤهم بأن يقنع العرب بصحراء زرود ورمال حاجر، بينما يأكل الأعاجم الدنيا، ويتناهبون الثراء والمجد، ويحضه على أن يثيرها داحسية شعواء:

فآيهٍ أبا الشداد إن وراءنا

أحاديث تروى بعدنا في المعاشر

أترضى وما للعرب غير ملجأ

توسدهم رملى زرود وحاجر

فأين الجياد الجرد تخطو إلى العدى

على عَلَق تروى به الأرض مائر

وفتيان صدق يصدرون عن الوغى

وأيدي المنايا داميات الأظافر

وحاجتهم إحدى اثنتين من العلى

صدور العوالي أو فروع المنابر

فإذا يئس من أن يجد في الناس هذا الرجل، تقدم ليحقق أمله بنفسه، فكانت حاله كحال المتنبي، يسعى إلى رتبة أو ولاية يتخذها سلماً إلى مثله الأعلى، فيطلبها ولا يراها بدعاً

ص: 30

ولا عجباً، ولا يراه خلق إلا لها. . . واسمعه يقول لمؤيد الملك:

إليك أوى يا ابن الأكارم ماجد

له عند أحداث الزمان طوائل

تجر قوافيه إليك ذيولها

كما ابتسمت غبّ الرهام الخمائل

وعندك ترعى حرمة المجد فارتمى

إليك به دامي الأظلين بازل

قليل إلى الري الذليل التفاته

وإن كثرت للواردين المناهل

وها أنا أرجو من زمانك رتبة

يقل المسامي عندها والمساجل

وليس ببدع أن أنال بك العلى

فمثلك مأمول ومثلي آمل

كان هذا أمله في حله وترحاله، وغايته من اغترابه عن بلده، ونأيه عن أهله، وما كان يطلب مالاً ولا ثروة، وما كانت به حاجة للمال ولا ضاقت أرضه برزقه، ورزق عياله، واسمعه يقول لسيد الوزراء أحمد بن الحسين:

ولم نغترب مستشرفين لثروة

فمرعى مطايانا بيبرين مبقل

ولكننا نحمي ذمار معاشر

لهم آخر في المكرمات وأول

ومن سلبته نوشة الدهر عزه

فنحن لريب الدهر لا نتذلل

ولو هو أراد الغنى لناله، لا سؤالاً واستجداء، ولكن على ظبي السيوف وأطراف الرماح، ولكنه يريد غاية بعيدة، دونها جرع الردى وحياض الموت، يسعى إليه بفتيان (من أمية) هم موقدو الحروب ومطفئوها:

ومن خاف أن يستصعر الفقر خده

وفى بالغنى لي أعوجى ومنصل

ومكتحلات بالظلام أثيرها

وهن كأشباح الأهلة نحّل

ولا صحب لي إلا الأسنة والظبى

بحيث عيون الشهب بالنقع تكحل

وحولي من روقى أمية غلمة

بهم تطفأ الحرب العوان وتشعل

سريت بهم والناجيات كأنها

رماح بأيديهم من الخط ذبَّل

فحلوا حُبَى الليل البهيم بأوجه

سنا الفجر في أرجائها يتهلل

وخاضوا غمار النائبات وما لهم

سوى الله والرمح الرديني معقل

يرومون أمراً دونه جرع الردى

تعلّ بها نفس الكمىّ وتنهل

فبتنا وقد نام الأنام عن العلى

نسارى النجوم الزهر والليل أليل

ص: 31

وتمر الأيام وهو لا يصل إلى شيء مما يؤمل، ويضيق بحالة الذل والمهانة، فيلوم نفسه على قعوده، ويعزم العزمة الفاصلة التي تكون فيها المنى والمنايا:

تقول ابنة السعدي وهي تلومني

أمالك عن دار الهوان رحيل

فان عناء المستنيم إلى الأذى

بحيث يذل الأكرمون طويل

وعندك محبوك السراة مطهم

وفي الكف مطرور الشباة صقيل

فثب وثبة المنايا أو المنى

فكل محبّ للحياة ذليل

وثبة أموية، ينال بها عزّ أجداده الأمويين ومجدهم. فليس العز إلا أن يغامر المرء. ويحمل نفسه على الخطة التي تبقي ذكره في الناس أبد الدهر، فأما أن يموت فيقال لله دره، وإما أن يكتب له الظفر:

ألم تعلما أني على الخطب إن عرا

صبور إذا ما عاجز عيل صبره

فلا عزّ حتى يحمل المرء نفسه

على خطة يبقى بها الدهر ذكره

ويغشى غماراً دونها جرع الردى

فان هو أودى قيل: لله درّه

ولا بدّ لي من وثبة أموية

بحيث العجاج الليل والسيف فجره

ولا يثنيه عن وثبته الأموية بعد المدى، ووعورة الطريق، وما يعتور السبيل إليها من أخطار وخطوب أهونها الموت، لأنه ألف حمل الخطوب، وتعود الصبر، وأعد للنائبات عزائم تروض إباء الدهر إذا شمس الدهر، ولم يحفل بالدنيا وهي غضة غريضة ولم يبال بها، أفيقبل عليها وهي جافة ذابلة، وهل تثنيه عن مرامه لذاذاتها؟

أسمعه حين يقول:

سل الدهر عني أي خطب أمارس

وعن ضحكي في وجهه وهو عابس

سأحمل أعباء الخطوب فطالما

تماشت على الأين الجمال القناعس

وأنتظر العقبى وإن بعد المدى

وأرقب ضوء الفجر والليل دامس

وإني لأقري النائبات عزائما

تروض إباء الدهر والدهر شامس

وأحقر دنيا تسترق لها الطلى

مطامع لحظى دونها متشاوس

تجافيت عنها وهي خود غريرة

فهل أبتغيها وهي شمطاء عانس

ولي مقلة وحشية لا تروقها

نفائس تحويها نفوس خسائس

ص: 32

ولا يثنيه عنها رقة حاله، ورثاثة أطماره، فهو كالسيف القاطع البتار، لا يضره الغمد، وهمته كامنة في ضمير الدهر، ولا بد للضمير المستتر أن يظهر:

رأت أميمة أطماري وناظرها

يعوم في الدمع منهلاً بوادره

وما درت أن في أثنائها رجلاً

ترخى على الأسد الضاري غدائره

أغر في ملتقى أوداجه صيد

حمر مناصله بيض عشائره

إن رث بردى فليس السيف محتفلاً

بالغمد وهو وميض الغرب باتره

وهمتي في ضمير الدهر كامنة

وسوف يظهر ما تخفى ضمائره

وكأنك تسأل بعد هذا كله، ألم يلق الشاعر شدة وعناء وهو يصرح بذكر الوثبة الأموية، ويدعو إليها علناً في ظلّ الحكم العباسي، ألم يتنكر له أولو الأمر، ويزوروا عنه ويناوئوه العداوة، ويبطشوا به؟ وها هوذا الشاعر يخبرك بأنه لقي أذى كثيراً، وشراً مستطيراً، فريع من غير أن يذنب، وجفى من غير أن يخون؛ ولكنه اعتصم بالصبر، ولاذ بالحزم، ولم يلن ولم يشك ولم ينهزم:

وقد طرقتني النائبات بحادث

لو أن الصفا يرمي به لتصدعا

أراع ولم أذنب وأجفى ولم أخن

وقد صدَّق الواشي فأخنى وأقذعا

ولست وإن عض الزمان بغاربي

أطيل على الضراء مبكى ومجزعا

إذا ما أغام الخطب لم أحتفل به

وضاجعت فيه الصبر حتى تقشعا

ولماذا يذل ويخضع، وهو إن ضاقت عنه بلدة فستتسع له أخرى، وحسب البلدة عاراً أن يرحل الشاعر عنها، وإن أدلت عليه بابل بسحرها الحرام، فهو يدل عليها بسحره الحلال، ويجعل من شعره حيثما حلّ بابل. . .

أبابل لا واديك بالرفد منعم

لدينا ولا ناديك بالوفد آهل

لئن ضقت عنا فالبلاد فسيحة

وحسبك عاراً أنني عنك راحل

وإن كنت بالسحر الحرام مدلة

فعندي من السحر الحلال دلائل

قواف تعير الأعين النجل سحرها

فكل مكان خيمت فيه بابل

وأي فتى ماضي العزيمة راعه

ملوكك لاروّى رباعك وابل

وبعدُ. . . فاسمع الشاعر نفسه يصف لك شخصيته، ويخبرك أنه يمدح ويأخذ، ولكنه أعزّ

ص: 33

من أن يملكه الملوك بثوابهم ونوالهم، وأنه لا يستسيغ الذلّ ولا يحب أن يتمرغ فيه ظهراً لبطن، ولا يألف حياة الدعة والأمن في ظل الروض بين الكأس والطاس، ولا يفرق من المنايا ويخشى المهالك، ولكنه يريد أن يثيرها حرباً عواناً في سبيل غاياته ومطامحه:

سواي يجرّ هفوته التظني

ويرخى عقد حبوته التمني

ويلبس جيده أطواق نعمى

تشف وراءها أغلال منّ

إذا ما سامه اللؤماء ضيما

تمرّغ في الأذى ظهراً لبطن

وظلّ نديم عاطية وروض

وبات صريع باطية ودنّ

وأشعر قلبه فرق المنايا

وأودع سمعه نغم المغنى

وصلصلة اللجام لدي أحرى

بعز في مباءته مبنّ

فلست لحاضن إن لم أقدها

عوابس تحت أغلمه كجنّ

وهأنا أوسع الثقلين صدرا

ولكنّ الزمان يضيق عني

هذه شخصية الأبيوردي وهذا شعره، أفيستحق أن يهمل وينسى؟. . .

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 34

‌2 - أثر الحرب الكبرى في بريطانيا

للأستاذ رمزي ميور

أستاذ التاريخ الحديث في جامعة منشستر سابقاً

ترجمة الأستاذ محمد بدران

ناظر مدرسة بمباقادن الابتدائية

كذلك لم يعد لبريطانيا بعد الحرب ذلك السلطان الكبير الذي كان يوليها إياه تفوقها التجاري على أمم العالم أجمع. نعم أنها لا تزال تمتلك وتُسير ثلث سفائن العالم، وذلك لأنها أوسع أسواق الأرض حرية، لكن نصف سفنها معطل؛ وقد خسرت جزءاً كبيراً من تجارتها الخارجية التي تُعَوّل عليها في حياتها وإن كانت صادراتها (منسوبة إلى عدد السكان) لا تزال ضعفي صادرات أكبر الأمم المنافسة لها تقريباً. على أن ما فقدته من تجارتها الخارجية إذا رجع بعضه إلى خطأ ارتكبته فلا يرجع كله أو جله إلى ذلك الخطأ. ذلك بأنها في أثناء الحرب اضطرت أن تضحي بمعظم أسواقها الخارجية لكي تركز جميع قواتها القومية في الأعمال الحربية. وذلك الفراغ الذي تركته شغلت بعضه أمم أخرى (كاليابان والولايات المتحدة) لم يُنقِض ظهرها عبء الحرب وشَغَل البعض الآخر ما قام من الصناعات القومية على أنقاض الواردات البريطانية. فلما وضعت الحرب أوزارها أقيمت لحماية هذه الصناعات حواجز من الضرائب الجمركية العالية، وأخذت الأمم جميعها في داخل أوربا وخارجها تعمل (للاكتفاء بنفسها)، فأدى ذلك العمل إلى النتيجة السالفة الذكر؛ وكان من جراء ذلك أن بريطانيا التي لا أمل لها في أن تكتفي بنفسها والتي لا تستطيع أن تحيا إلا بالاتجار مع العالم أجمع تجارة واسعة، انحطت إلى المنزلة التي انحطت إليها مدينة (ويانة) بعد الحرب. لقد كانت بريطانيا كما كانت ويانة تعتمد في رخائها على موقعها في ملتقى الطرق التجارية الكثيرة فنالها ما نال ويانة بعد أن أقيمت الحواجز المتعددة في هذه الطرق التجارية، وإلى هذا يرجع معظم السبب في ازدياد عدد المتعطلين. وقد بلغ من خطورة هذه الحال الجديدة أن أخذ قسم كبير من الرأي العام يدعو إلى ترك نظام الحرية التجارية الذي تسير عليه بريطانيا واتباع سياسة (الاكتفاء بالنفس) التي تتبعها البلدان

ص: 35

الأخرى. ولما كانت بريطانيا لا تستطيع أن تكتفي بنفسها إلا إذا خلصت من نصف سكانها فقد قويت فيها الدعوة إلى التوسل لتلك الغاية، غاية الاكتفاء بالنفس اكتفاء تاماً - بتوحيد الإمبراطورية من الناحية الاقتصادية. فإذا ما رضيت أجزاء الإمبراطورية بأن تتخلى عن مسعاها للاكتفاء بنفسها - وبعيد أن ترضى بذلك في القريب العاجل - كان معنى رضائها أن بريطانيا تضعف باختيارها أو قل تعطل ثلثي تجارتها الخارجية لكي تتفرغ إلى إنماء الثلث الباقي؛ وإذا فعلت ذلك فإنها تكون قد تحولت تحولا تاما عن السياسة التي قام عليها النظام الاقتصادي البريطاني حتى الآن

هذه التطورات تعد في مجموعها انقلاباً خطيراً في مركز بريطانيا ومبادئها يتطلب تعديلاً في سياستها القومية، ولاشك في أن بريطانيا تجتاز الآن أزمة بل خطراً قومياً شديداً. على أن كل تغيير بمفرده لا يعد خطيراً في ذاته. فإذا كان مركز بريطانيا الجزري لم يعد يكفل لها السلامة فان سياسة عالمية رشيدة تكفل لها سلامة أبقى وأعظم؛ ولا يزال موقع هذه الجزيرة في وسط أهم الطرق التجارية البحرية وفي قلب العالم المتمدين تقريباً خير موقع جغرافي يتمتع به بلد على وجه الأرض. وإذا لم تكن بريطانيا الآن سيدة البحار بلا منازع فان ذلك لا أهمية له إذا بقيت البحار في سلام. وإذا لم تكن لها (السيطرة على إمبراطورية فان خيراً من هذه السيطرة أن تكون هي القلب النابض لمجموعة من الأمم الحرة على شريطة أن تنظم هذه المجموعة تنظيماً يمكنها من أن تتعاون تعاوناً حراً. وقد تكون بريطانيا وراء غيرها من الأمم في اتباع أحسن وسائل التنظيم الصناعي، ولكن هذا أمر يستطاع تداركه بالعمل والحكمة. وإن اندماج أجزاء مقاطعاتها الصناعية وقربها من الثغور التي تستمد منها حاجاتها ومن مصادر القوى اللازمة لها، كل ذلك يكسبها ميزات عظيمة إذا أحسن الانتفاع بها. وقد لا تجد بريطانيا في بلادها حاجتها من الزيت أو القوى المائية. ولكن العلم والعمل كفيلان باستخراجهما من مناجم فحمها الغنية؛ وربما كان النقص قد اعترى قدرتها المالية، ولكن هذه القدرة لا تزال عظيمة برغم هذا النقص، وفي الإمكان زيادتها إذا اتخذت الوسائل الكفيلة بتشجيع الادخار؛ وإذا أحسن توحيد مجهودها القومي بقيادة رشيدة فان هذا المجهود خليق بتخفيف عبء الضرائب الذي لا يزيد كثيراً على ما كان عليه منذ مائة عام إذا روعيت النسبة بين العهدين. كذلك لا يرجى أن تحتفظ بريطانيا

ص: 36

بما كان لها من تفوق عظيم في التجارة العالمية، ولكن إذا أيقن عمالها والمشرفون على الصناعة فيها أن الواجب يقضي عليهم بأن يقاوموا كل منافسة شريفة بكفايتهم وحدها وأن يكونوا أنداداً لمنافسيهم وأن ينظموا بيوتهم، إذا أيقنوا بذلك استطاعت بريطانيا أن تستعيد من الأسواق ما يضمن لأهلها ارتقاء مطرداً في مستوى معيشتهم، وأن تنمي مواردها وموارد الإمبراطورية نماء عظيما

ولكن يلوح أنها إذا شاءت أن تنال هذه الأغراض فان عليها أن توجه إليها مجهوداً قومياً عاماً شبيهاً بالمجهود الذي أنالها النصر في الحرب. ولا بد لها أن تتغلب على روح الاستسلام والقنوط وما يؤدي إليه من خور في العزيمة. وأخيراً إن بلوغ هذه الغاية موقوف على نوع الحكومة القائمة في البلاد وصفاتها، وذلك لأن واجبات الحكومة في الوقت الحاضر أكبر شأناً وأعظم أثراً مما كانت في الماضي. وإن للطريقة التي تؤدى بها هذه الواجبات أثراً بليغاً في نفوس الشعب لا يعادله أثرها في الماضي، ولذلك يهمنا أن نعرف كيف عدل نظام الحكومة البريطانية ذو الشهرة العالمية الكبيرة لكي يتفق مع مقتضيات العهد الذي أعقب الحرب

ليس الجواب عن هذا السؤال مما يسر له الخاطر؛ فإننا إذا حكمنا على الأشياء بنتائجها تبين لنا أن نظام الحكم البريطاني أقل نجاحاً من النظام الفرنسي أو الألماني الحديث في بعث روح النشاط القومي الموحد وفي قيادة الأمة في هذه الأوقات العصيبة؛ وإذا حكمنا على هذا النظام بأثره في أخلاق الناس من كافة الطبقات رأينا أنه لم يخلق زعماء أنجادا قادرين على التفكير والإنشاء ينالون ثقة الأمة ويتحملون التبعات أمثال شترزمان في ألمانيا، أو بوانكريه وبريان في فرنسا (رغم ما فيهم من نقص). وقصارى القول إن هذا النظام لم يفلح في إشعار الأمة بحاجتها إلى توحيد جهودها وخلق الزعماء الذين يقودونها في بذل هذه الجهود

وقد يكون سبب هذا العجز أن بريطانيا الآن تواجه عهداً جديداً بإداة حكومية لا تستطيع أن تعالج ما فيه من المشاكل. ويلوح أن السياسة البريطانية يسيطر عليها أكثر مما يجب التنافس الدائم على السلطة بين الأحزاب المختلفة التي لا يبذل كل منها جهده في العمل الإنشائي المنتج بل في التشهير بغيره وكشف عيوبه ونقائصه. لسنا ننكر أن الأحزاب

ص: 37

السياسية أداة ضرورية للحكم الديمقراطي، ولكن يلوح أن نظام الأحزاب البريطانية جامد خال من المرونة يجعل المشرفين على سياستها شرذمة قليلة من الزعماء المطلقي التصرف يستقلون بوضع خطط الحزب، ولا ينفكُّ أتباعهم أنفسهم يضمرون في نفوسهم الثورة عليهم وإن أطاعوهم في إعطاء أصواتهم، وذلك لأن هؤلاء الزعماء ينكرون عليهم حرية المناقشة بله حرية العمل

لقد تكلمنا من قبل عما طرأ على نظام الحكم البريطاني من تغيير، وقلنا إن أهم مظاهر هذا الحكم مظهران: أولهما تركيز السلطة جميعها من تشريعية ومالية وإدارية في يد وزارة حزبية قليلة العدد أوقرت ظهرها المسئوليات الجسيمة التي أخذتها على عاتقها فأصبحت عاجزة عن النظر إلى حاجات الأمة نظرة واسعة المدى. وثانيهما حرمان البرلمان من كل سلطة إلا من إشراف صوري محض على أعمال الحكومة حتى صار عمله في الحقيقة مقصوراً على نقدها. إن في وسع البرلمان أن يشهر بأعمال الحكومة ويعطلها. ولكنه ممنوع من أن يعمل شيئاً من عنده لإصلاحها، فلا عجب والحالة هذه إذا لم يكن في الإمكان مواجهة الطوارئ القومية الخطيرة وعلاجها علاجاً ناجحاً. وإذا شاءت بريطانيا أن تنازل الصعاب التي قامت بعد الحرب وهي واثقة من النجاح كان عليها كما يلوح أن تبدأ بإصلاح زعامتها وأداتها الحكومية

2 -

الإمبراطورية البريطانية

تتألف الإمبراطورية البريطانية من ثلاثة عناصر مختلفة: أولها الأملاك العظيمة التي تحكم نفسها بنفسها، وهي أملاك كانت منذ زمن طويل ولا تزال حتى الآن دولاً مستقلة كل ما بينها وبين بريطانيا من روابط أنها تدين معها بالطاعة لتاج واحد، وأنها تشترك معها فيما تتمتع به من نظم الحرية. وثاني هذه العناصر هو البلدان الشرقية ذات الحضارة القديمة، وهي الهند وسيلان وبلاد الملايو؛ وهي بلاد للحكومة البريطانية عليها إشراف مباشر أكبر مما لها على البلدان الأولى، وإن كانت هذه البلدان أيضاً أخذت تطالب بحقها في حكم نفسها بنفسها ونالت بعض هذا الحق في السنين الأخيرة. والعنصر الثالث أجزاء الإمبراطورية المحكومة، وتشمل أصقاعا واسعة في أفريقية لم تنضم إلى الإمبراطورية إلا في خلال الخمسين سنة الأخيرة. وهذه الأملاك تسيطر عليها الحكومة البريطانية سيطرة فعلية

ص: 38

بأشكال مختلفة. هذه الإمبراطورية العجيبة التكوين التي تشمل ربع مساحة المعمورة وربع سكانها، ليست موحدة التركيب ولا النظام، وليست لها قوة مركزية فعالة تفرض طاعتها على هذه الأجزاء، اللهم إلا قوة الأسطول. ولقد أخذ شكل هذه الإمبراطورية منذ عام 1830 يتغير تغيراً مضطربا حسب الظروف، ويتحول بالتدريج من إمبراطورية بالمعنى الصحيح إلى ما يسمونه الآن أسرة من الأمم

على أن هذه الإمبراطورية كانت إلى ما قبل الحرب بقليل وحدة متماسكة من ناحيتين مهمتين على أقل تقدير، فقد كان لها سياسة خارجية واحدة تسيرها كلها (هويت هول)؛ وكانت جميع أجزائها حتى الأملاك المستقلة التي كانت الروح القومية تضطرم فيها راضية بترك العلاقات الخارجية في يد وزارة الخارجية البريطانية، وذلك لقلة دراية هذه الأجزاء وقلة اهتمامها بمشاكل أوربا، واعتقادها أن لا شأن لها بهذه المشاكل؛ ولم يؤخذ رأي مندوبي الأملاك المستقلة في السياسة الخارجية إلا في السنين المضطربة التي سبقت الحرب عندما اشتد الخطر الألماني، فعقد المؤتمران الإمبراطوريان في عامي 1907، 1911؛ على أنه حتى في ذلك الوقت لم تتخذ وسائل رسمية لتنظيم طرق هذه الاستشارة أو الإدارة العامة، وبقي وزير خارجية بريطانيا هو نفسه وزير خارجية الإمبراطورية جميعها. كذلك كانت الإمبراطورية كلها تعتمد على نظام مشترك للدفاع عن جميع أجزائها، وكان عبء هذا الدفاع يكاد يقع كله على عاتق بريطانيا، كما كانت أداته الفعالة بطبيعة الحال هي الدستور الذي يحفظ طرق المواصلات البحرية بين مختلف أجزاء الإمبراطورية مفتوحة. والذي جعل للأسطول هذه الأهمية أن الإمبراطورية البريطانية لا يستطاع غزوها براً إلا من مكان واحد هو حدود الهند الشمالية الغربية؛ فلما بدأت بريطانيا تخاف ألمانيا قبيل الحرب تبادلت أجزاء الإمبراطورية الرأي لأول مرة في شؤون الدفاع، واشتركت الأملاك المستقلة بعض الاشتراك في نفقات الأسطول، واتبع في تنظيم القوات الحربية القليلة التي كانت هذه الأملاك تحتفظ بها نظام الجيش البريطاني؛ وكان هذا الجيش قد أعيد تنظيمه قبل ذلك الوقت على يد اللورد هلدين، ولكنه مع ذلك لم توضع خطة للدفاع الإمبراطوري، كما أنه لم تكن ثمة استشارة إمبراطورية في الشؤون الخارجية

وكان كثير من الناس يتوقعون أن الإمبراطورية ستنهار وتتقطع أوصالها إذا ما لاح شبح

ص: 39

الحرب لسبب ما هي عليه من ضعف في النظام. وكانت ألمانيا بوجه خاص تتوقع أن تنفض الأملاك المستقلة يدها من النزاع، وأن يندلع في الهند لهيب الثورة؛ وأن الأملاك الجديدة في أفريقية وغيرها من القارات سيحتاج الاحتفاظ بها إلى قوى كبيرة. لكن مجرى الحوادث بدد هذه الأوهام، وكان من أعظم مظاهر الحرب ما تجلى من روح الإخلاص الإجماعي الحماسي في كل جزء من أجزاء الإمبراطورية تقريباً، وما ضحت به هذه الأجزاء من أنفس وأموال تقدمت بها الشعوب في أطراف الأرض عن رضا وطيب خاطر، فقد جندت كندا وزيلندة الجديدة وأستراليا جميع رجالها تقريباً. ولما تمردت طوائف البوير المشاكسة في جنوب أفريقية أخمد البوير أنفسهم هذا التمرد على الفور، ثم بذل الشعبان اللذان تتكون منهما تلك البلاد جهداً عظيماً في الاستيلاء على المستعمرات الألمانية، وأرسلا كتائب من بلادهما إلى خنادق فرنسا. وفي الهند سكن الاضطراب السياسي الذي كان منتشرا قبل الحرب وأرسلت منها إلى فرنسا وفلسطين والعراق والصين جيوش لم ترسل الهند مثلها من قبل إلى ميادين القتال، ولاح أن الحرب ومحنها أثبتت صلاحية نظام الإمبراطورية الحر الطليق على الرغم من تراخيه وقلة تماسكه. لكن ضخامة هذه التضحيات بدل موقف الإمبراطورية بازاء مشاكل الدفاع والسياسة الخارجية، وأحدث في بناء هذه الإمبراطورية تطورات غاية في الأهمية، فلم يعد في الإمكان بعدئذ أن تعالج هذه الأمور وكأنها لا تعني الأجزاء النائية من الإمبراطورية، بل كان لا بد من استشارة ممثليها بوسيلة من الوسائل إذا أريد أن تبقى هذه قائمة

وفضلا عن ذلك فقد شعرت الهند، وكان لا بد أن تشعر، أنها بعد أن اضطلعت في الحرب بهذا العمل الخطير قد قويت حجتها في أن يؤخذ رأيها عن طريق الموظفين البريطانيين الذين يديرون دولاب حكومتها، وأن يعترف بأنها وحدة قائمة بذاتها، وأن تتمتع بما يتمتع به غيرها من أجزاء الإمبراطورية من حقوق الاستقلال الداخلي؛ وبذلك كانت الحرب سبباً في تقوية الحركة القومية في الهند وفي غيرها من أجزاء الإمبراطورية

(البقية في العدد القادم)

محمد بدران

ص: 40

‌في النقد أيضاً

للأستاذ محمد رفيق اللبابيدي

سيدي الأستاذ صاحب الرسالة

كنت أطمع، وكان القراء يطمعون معي أن نظفر بسلسلة متصلة الحلقات من ردود فحولة أدبائنا على ما عرضت له في (النقد المزيف)، وعلى ما عرض له الأستاذ أحمد أمين ومن جاء بعده؛ وكنا نود أن يكون لنا من هذا باب للولوج في بحوث أخرى تعيد الأدب رجْعه إلى أيام احتدام النهضة الأدبية فيثب بعض الوثوب بعد قعوده هذا القعود طوال عشر السنوات الأخيرة، وكأنا ذهبنا في أمانينا هذه بعيداً فلم يعدُ الكلام بضع كلمات شابها كثير من الألوان التي نشكو منها ويشكو منها أيضاً الأستاذ أحمد أمين. . .

وكاتب هذه الكلمة إليك - أو هذه الرسالة إلى صاحب الرسالة - من تعلم صغير جداً وضئيل، وليس له من القوة ما ينزل به في ميدان يصول فيه كبار الكتاب والأدباء؛ غير أنه ساير البعث الأدبي في مصر منذ حين طالباً فيها، وساير هذا الجمود في الأدب أستاذاً في معهد ثانوي بعيد عنها؛ وقد يرى البعيد ما لا يراه القريب. ونحن معشر القراء في خارج مصر أقدر على الحكم المجرد من العاطفة فيما هو جدير بالاحتفال به من آثار الأدباء والعلماء؛ ثم نحن أقدر على إلغاء المجاملة الأدبية فيما نكتبه وهي ما تعوده الكتاب بعضهم من بعض، يلبس كل منهم نقده لباساً من الأسلوب الصفيق لا تُرى من خلاله الحقيقة إلا كما ترى الشمس في يوم ماطر ملبد بالغيوم

ولست أدري، أو إني لا أحب أن أدري، السر في هذا الذي يغمر بيئتنا الأدبية من قواعد الكياسة في الحذر من إغضاب الأصدقاء والمقربين حين نعرض لنقدهم. فالكاتب يريد أن يقول كلمته، ولكن في لجلجة المشفق الفِرق، ويريد أن يجهر بما في نفسه، ولكنه يتورع أن يكون جريئاً، فقد يكون في الغد فيما يكون فيه سواه اليوم، وقد يقال فيه ما سيقوله هو في غيره، فهو واسع الحيلة يداور في إرضاء القراء والذين يعرض إلى نقدهم مداورة تحمله أن ينقد نقداً مجملاً فيه إمتاع بالفكرة التائهة والرأي الطائر، وذلك حسبه في نقده

والحق أني لو كنت كاتباً نابه الذكر، طائر الصيت، لربما كنت أشفق أن أقول إشفاق هؤلاء الكبار الفحول؛ وداؤنا في الشرق مستعص ما دام النقد شخصياً بعيداً عن المثل الأعلى؛

ص: 42

وهذا الضعف الخلقي في النقد إليه وحده يرجع - فيما نعتقد - سبب هذا الركود وهذا الجمود في أدبنا المقعد

وبعد فيا سيدي الأستاذ هل النقد بالمعنى الذي نراد عليه نحن معشر القراء - والقراء من فئة خاصة طبعاً - هو هذا اللون من تناول الكتاب أو البحث تناولاً صورياً والكتابة فيه مثل هذه الكلمات الضافية، فيها قدرة الكاتب وبراعته، وليس فيها علمه وعقله،؟؟ وهل النقد الأدبي هو هذا الذي نسيغه في صحافتنا كل يوم أو كل أسبوع من عجالات الكتاب وبحوثهم العابرة؟؟

وهل النقد هو هذا التقريظ الذي يتولاه كتابنا حين يدفع المؤلف أو الباحث إلى المطبعة كتابه أو مؤلفه فيخرجه بعد الجهد الجاهد في أيامه وأعوامه ليتولى الحكم فيه كاتب يقلب صفحاته بعض الساعة وقد لا يزيد؟.؟.

الحق يا سيدي الأستاذ أن ضعف النقد يرجع إذا أجملنا القول إلى:

1 -

احتفال الناقد بشأن المنقود

2 -

النقد العابر الصوري

وإن النقد في مصر - وهي سوق عكاظ العرب اليوم - لا يتجاوز هذين اللونين. والكتاب بين فريقين: فريق يتحامى المنقود، وفريق يجهل فضله فيقول ما لا وزن له ولا قيمة، فلا يعبأ بما يقوله القراء

ثم إن الطائل الذي يقع على كتاب مصر الفحول ومشيخة الأدب فيها عظيم جداً، فهم قادة مسئولون ورعاة مطالبون بتأدية رسالتهم الأدبية؛ والنقد بمقاييسه العلمية الصادقة يكشف المخبوء المتواضع من العبقريات المغمورة. وربَّ بحثٍ في صحيفةٍ وجّه الأدب وجهة قوية ودفعه إلى الغاية التي ينشدها هؤلاء العامة عليه دفعاً لا ازورار بين يديه ولا نكوص

ومتى كان لهذا النقد هذا الوزن فقال الناقد قوله لم يخطب به ودّ المنقود، ولم يتملق به عاطفة الجمهور، ولم يستلّ به سخيمة في نفسه، اختفت هذه العيوب التي نشكوها، وقويت الصراحة على هذا الضعف، وأحجم غير الأكفاء أن يلجوا بابه ويقتحموه ولوجهم له اليوم، وكان ما يدور بين الكتاب والأدباء والعلماء درساً من دروس عامة يفيد منها الجمهور وتفيد منها البيئة الأدبية، ثم كان هذا النقد أساساً صخرياً في بناء نهضتنا الأدبية في عصرنا

ص: 43

الحاضر

هذا وحسبي يا سيدي الأستاذ أن أكون في كلمتي هذه قد بثثتك بعض ما يُحسُّ به كثير من القراء في الخارج، وقد يكون بعض ما يحسُّ به كثيرون في مصر؛ ورجاؤنا أن يتسع صدر (الرسالة) لمثل هذا النقد اتساعه للنواحي الأخرى التي نرى، وان تكون رسالتها سفارة الحقيقة المبسوطة بين الكتاب والقراء لا ترعى في ذلك غير ما تقتضيه إياها المقاييس الأدبية؛ والسلام على الأستاذ ورحمة الله وبركاته

محمد رفيق اللبابيدي

ص: 44

‌شعراء الموسم في الميزان

نقد وتحليل

للأديب عباس حسان خضر

- 1 -

ما أظن أننا كنا نجد فرصة، مثل موسم الشعر، نقف فيها إلى الشعراء لنرى ما عندهم، فقد أنشد كل شاعر قصيدة هي خير ما عنده، أو من خير ما عنده. ولو أن الحفل كان لمناسبة من المناسبات التي يقال فيها الشعر في غرض واحد، لما كان يصح أن تكون مقياساً لتفاوت الشعراء وتفاضلهم، فقد لا يجيد شاعر في الرثاء مثلا ويجيد في غيره، وفي الوقت نفسه يكون إلى جانبه شاعر على عكسه في ذلك. أما موسم الشعر فقد قال فيه كل شاعر فيما يحسنه، وما تواتيه قريحته في تناوله، فالموسم إذن ميزان تميل كفته بالراجح في الشعر لا ينقص من قدره شيء

ولقد كان الناس يقولون بانقضاء الشعر بعد شوقي وحافظ، وكان الشعراء يدافعون هذا القول بوثبات غير مقنعة كل الإقناع، ولكن موسم الشعر حمل إلى الناس دليلاً على أن في الجيل الحاضر جيلاً من الشعراء لا بأس به في مجموعه، وإن كان منهم من برز وبرع

ولكن الفرصة كادت أن تفلت، وكاد الموسم يقضي بانقضاء الساعتين اللتين شغلهما الشعراء بإلقاء القصائد، مودعاً بكلمات إخبارية من الصحف لا تغني عن النقد شيئاً؛ فلم يقض الموسم من عمره إلا المرحلة الأولى وهي عرض الشعراء قصائدهم، فما كادوا ينتهون من ذلك حتى انفضت السوق ولم ينصب لهم ميزان؛ والحق أنني كنت أوثر أن أكون شاهدا للموسم، مستمتعاً بما يجري فيه على أن أجوب معمعته وأقيم ميزان النقد في سوقه؛ ولكن النقاد حرموني هذه المتعة بإحجامهم عن النقد، ولست أدرى لماذا أحجموا

أما وقد أخذت على نفسي أن أسلك في هذه المهمة سبيل الحق، عالماً بما في هذا السبيل من أشواك، موطد العزم على اجتيازها، فلا يبقى إلا رجاء التوفيق وإلهام الصواب. وأخذا في تلك السبيل سنتبع في تصفح القصائد وتفحصها ترتيب الشعراء أنفسهم في الإلقاء إذ كان ذلك على حسب الحروف الهجائية

ص: 45

عاصفة روح

قصيدتان ألقاهما الدكتور إبراهيم ناجي، وقدم لهما بهذه العبارة:(قصة نفس، ذات فصلين: الأول ثورة النفس بينما الزورق يغرق والملاح يستصرخ؛ والثاني استيقاظ الكبرياء بعد هدوء العاصفة)

والواقع أن هذه العناوين: (عاصفة روح. قصة نفس. ثورة نفس. كبرياء) ليست ذات حظ كبير من المدلولات في القصيدتين، نستثني منها (الكبرياء) لأربعة أبيات في آخر القصيدة الثانية التي سماها بهذا الاسم (الكبرياء) تحدث في هذه الأبيات عن الشمم والكبرياء حديثاً يملأ النفس ويفعم القلب، وهي:

أيخيفني العشب الضعيف أنا الذي

أسلمت للشوك الممض أديمي

وإذا ونى قلبي يدق مكانه

شممي وتخفق كبرياء همومي

ورجعت أحمل جعبتي متحدياً

زمني بها وحواسدي وخصومي

ورفعت نحو الله رأساً ما انحنى

بالذل يوماً في رحاب عظيم

وهذه أبيات جيدة؛ غير أن كبرياء الهموم أمر لا يطاق! وسياق المعنى يقتض كبرياءه هو لا كبرياء همومه؛ أما فيما عدا هذه الأبيات فلا تجد روحاً، لا عاصفة ولا غير عاصفة، ولا تجد في قصيدة (ثورة نفس) وهي الفصل الأول (للاقصة) نفساً، لا ثائرة ولا هادئة؛ وإنما هي ثورة كلمات على أوضاع الكلام، وتمرد عبارات على أداء المعاني. . مهلاً أيها القلم، لقد قالوا إن هذا شعر جديد. . وأغض النظر عن كلمتي جديد وقديم، وأناقش هذا الكلام على أنه شعر لا بد أن يؤثر في النفس، ولا بد أن يصاغ في عبارات سليمة، ولن تغني كلمة جديد عن شيء من ذلك

يقول الشاعر:

أين شط الرجاء

يا عباب الهموم

ليلتي أنواء

ونهاري غيوم

أعولي يا جراحْ

أسمعي الديان

لا يهم الرياح

زورق غضبان

البلى والثقوبْ

في صميم الشراع

ص: 46

والضنى والشحوب

وخيال الوداع

إلى هنا تستطيع أن تعرف أن نفساً غارقة في الهموم تسأل عن شط الرجاء، وتشكو من أنواء الليل وغيوم النهار، وتطلب إلى جراحها أن تعول لتسمع الديان، فالرياح لا يهمها زورق بقول عنه الشاعر: غضبان! مع أن الرياح هي الغاضبة عليه، وأما هو فمسكين، رقيق الحال، بال، مثقوب الشراع؛ ويظهر أن الضنى والشحوب وخيال الوداع من آلام تلك النفس، إذ لم يقل لنا ماذا جرى لها، وليس فيما قبلها ماله صلة بها.

إلى هنا تستطيع أن تدرك معنى هذا الكلام، وان كان لم يؤد إليك تأدية شعرية تصل إلى نفسك، أما ما بعد ذلك فكلمات صاخبة في بحر من النظم، وعبارات متمردة ثائرة: فالسكين ترقص، والفجر مذبوح، والدجى مخمور، والردى سكران، والظلام يتولى في عناق الصخور؛ ولا يقولن أحد إنني أبتر الكلام، فهذان البيتان:

كان رؤيا منام

كأسك المسحور

يا ضفاف السلام

تحت عرش النور

ما معناهما؟ ضفاف السلام التي تحت عرش النور كأسها المسحور كان رؤيا منام!!

والمتأمل يرى أن في القصيدتين محاولة لتصوير قصة نفس وإبراز فكرتها وهي اعتصام النفس بالكبرياء من عواصف الهموم والآلام، ذلك أن النفس الكبيرة تمر بها الهموم والآلام لا تنال منها شيئاً، وإن استسلمت لتواردها فأنها لا تلبث أن تمتنع منها بالكبرياء والشمم؛ ولكن القصة وفكرتها لم يأخذا حظهما من التصوير والإبراز

أوبة الطيار

وهي قصيدة الأستاذ أحمد رامي، مستواها عادي، ومعانيها عامة وقليلة، ونستطيع أن نقول إنها قصيدة لفظية، فألفاظها سمحة وإن كانت ضنينة بالمعاني. ومن يسمع هذه القصيدة أو يقرؤها يدرك قصور الشاعر عن التحدث في موضوع القصيدة عن خوالج نفسه، أو بإفقار النفس من الخوالج في هذا الصدد

يقول في مطلع القصيدة

في سكون المساء والبحر ساج

والسحاب العبير في الجو سار

كنت أرنو إلى الغروب وأروي

ناظري من صبابة الأنوار

ص: 47

فإذا بي ألقى دخاناً ولا غي

م وريحاً وليس من إعصار

فتبينت أستشف جبين ال

أفق من بين هذه الأستار

فإذا هي جماعة من بنات ال

ريح تطوي الفضاء عبر البحار

أعجبني البيت الثاني، ومن حسنه التعبير بصبابة الأنوار عما يكون وقت الغروب، وتروية النظر بهذه الصبابة التي هي أجمل من النور كله؛ وبعد ذلك يقول إنه لقي دخاناً غير مصحوب بغيم وريحاً ليست من إعصار، فلما كان الدخان من غير غيم والريح من غير إعصار، فقد جعل يتبين. . الخ، وفي هذا خطأ في ترتيب الفكر فليس الدخان ينشأ من الغيم، والريح لا يلزم أن تكون من إعصار، حتى يتلمس لهما سبباً آخر. على أنه لا يزال في موقفه ومشهده، ويذكر في البيت الأول أن السحاب يسير في الجو، ثم يقول في الثالث: لا غيم. وهل الغيم سوى السحاب؟!. وفي البيت الخامس يشبه سير الطيارات في الفضاء بعبور البحار، وهذا التشبيه ليس إلا عبرا إلى القافية

والتعبير (حداة الرياح) في قوله:

يا حداة الرياح ماذا لقيتم

من ركوب الأهوال والأخطار

ليس من الصواب في شيء لأنهم لا يسوقون الرياح ولا يغنون لها، وإلا فما معنى حداء الرياح؟

ومن الأبيات الحسان في القصيدة قوله عن الطيار:

وأبو الهول في الفلا كاد يقعى

ثم يرنو إليه بالأنظار

وإن كان أبو الهول في فلاة واحدة لا في (فلا) متعددة

والملتقى عند قصيدة (صرعى الأغراض) للأستاذ أحمد الزين

عباس حسان خضر

ص: 48

‌قصة المكروب كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور احمد زكي

الحصانة واليهودي الأفَّاق

- 5 -

ونزل متشنيكوف في معهد بستور، على سكون هذا المعهد ووقاره، نزول الصخرة فهزّه هزّا. ونصب فيه مِهرجاناً بهلوانياً عظيما ظل منصوباً عشرين عاماً، ووقف على باب هذا المهرجان يزعق ويصفق ويصفر ويزمر يدعو الناس إلى إحيائه بالدخول زُمراً إلى رِحابه وأرجائه، فكان كالدلاّل قام على باب مسجد لا يغشاه إلا نُسّاك زهّاد لم يذوقوا للهو طعما ولم يستسيغوا دُعابة أبدا

جاء باريس فوجد اسمه شائعاً، وأمره معروفاً مشهوراً. فنظرية الحصانة التي ابتدعها - ولعل وصفها بالدرامة الهيّاجة أوفق وأنسب - هذه النظرية التي تخبّرنا بأننا حصينون من الأدواء لأن حرباَ طاحنة لا تفتأ قائمة بين الكرات البيضاء التي في دمائنا وبين المكروبات الغازية - هذه النظرية بل هذه الأحدوثة كان شاع أمرها لدى بُحاث أوروبا فقاموا لها وقعدوا. وعارضه فيها أكثر بُحّاث ألمانيا والنمسا فلم يؤمنوا بها، بل لعلهم أُغروا بالإيمان بها لبساطتها ولجمالها، فقام هذا الإغراء يدفعهم إلى نقيضه لما أحسوا ضعف أنفسهم فيه فأنكروها إنكارا شديدا قاسياً. ونالوا من متشنيكوف باللسان في المؤتمرات، وبالتجربة في المعامل. مثال ذلك رجل ألماني شيخ نذر على نفسه لله ألا يمر عليه حول حتى يكتب مقالاً في مجلة علمية خطيرة يدحض بها تلك النظرية وينال فيها من الفجوسات ومن صاحبها. وجاء على متشنيكوف حين من الزمن لم تقو رجلاه على حمله من تلك اللطمات، وكان يُغشى عليه فيسقط إلى الأرض صريعاً. وعزّه النوم وطالت لياليه فكاد يفزع إلى عقاره المخدر القديم - إلى المرفين، حتى لقد عاوده خاطر انتحاره المعهود. أوّاه! كيف لا يستطيع هؤلاء الألمان الخبثاء الأنجاس أن يروا الحق في الذي يقوله عن هذه الفَجوسات! ثم اشتفى من كمده، فكأن وتراً انقدّ في مخه، فنهض كالليث يحمي عرينه ويدفع عن نظريته بعزيمة لا تخشى شيئاً، فجال وصال، وطلب الخصام والنزال، وكانت معركةٌ بها

ص: 49

أضاحيك كثيرة وعلمٌ قليل، ولكنها برغم ذلك تضمنت نِقاشاً عليه انبنى ذلك النزر اليسير الذي نعلمه اليوم من سبب حصانتنا من المكروبات

صاح أميل بارنج من وراء الحدود الألمانية: (لقد أوضحتُ إيضاحاً لا ريبة فيه أن مصل الفئران هو الذي يقتل جراثيم الجمرة - أن دم الحيوانات لا كراته البيضاء هي التي تحميهم غائلة المكروب وتحصنهم منه). فصاح كل خصوم متشنيكوف وكل أعدائه الألداء يؤمنّون في نَفَس واحد على الذي قال بارنج. وخرجت المقالات العلمية تتبارى إلى النشر بمقدار يملأ دور كتب جامعية ثلاث كُتبت جميعها في فضائل الدم وأنه الشيء الوحيد الخطير في منع الأدواء

وزأر متشنيكوف من وراء الحدود الفرنسية: (إن الفجوسات، إن كرات الدم البيضاء هي التي تأكل الجراثيم العادِيَة فتدفع سوءها عنا)، ونشر تجارب بديعة أجراها فأثبتت بها أن بشلات الجمرة تستطيع النماء بوفرة في دم الشياه التي حصنتها ألقحة بستور

وصمد الفريقان للكفاح زماناً طويلاً، وتمسك كل بموقفه الكاذب رغم ما فيه من غلّو، وغمرهما غبار الحرب الكثيف وأعمتهما غضبته عشرين عاماً، فلم يخطر على بال أيهما أن يستمهل قليلاً، وأن يخلو إلى نفسه للتفكير يسيرأ، فلعل كلاً منهما رأى وجهاً واحداً من أوجه الحقيقة وهي عديدة، ولعل الذي يحمينا من غائلة المكروب ليس هو الدم وحده، وليست هي كراته البيضاء وحدها، بل هما جميعاً. لقد كانت حرباً رائعة ومزرية في آن، حرباً من تلك الحروب التي يقول فيها الخصم لخصيمه:(أنت كذاب) فيرد عليه صاحبه الجواب بمثله: (لا، بل أنت الكذاب)، وفي أثناء هذه التهم عمِىَ متشنيكوف وخصماؤه فلم يفطنوا إلى أن سبب الحصانة قد يُرد بعضه إلى الذي قال متشنيكوف، ويرد بعضه إلى الذي قال به خصماؤه. ما كان أجدر الاثنين أن يضعا الحرب حيناً فيعصرا العرق عن جبهتيهما، ويمسحا الدم من أنفيهما، ويفكرا في هدوء ساعة ليدركا كثرة ما يجهلان، وقلة علمهما مما فيه يختصمان، وليدركا أن الدم وفجوساته أشياء معقدة خدّاعة ليست في البساطة التي يزعمان، إذن لأبطآ في السير واستمهلا في الاستنتاج وأيقنا أن من الغباوة في ظلمة هذه الجهالة أن يتعجلا تفسيرات مبتسرة لحصانتنا من الوباء

ليت متشنيكوف لم يخرج عن أودسا، بل ليته اعتكف فيها يلفّه خمول ذكره ويحميه، ثم

ص: 50

تدرّع بالصبر وتابع أبحاثه الجميلة في تعليل لِمَ تأكل الخلايا الأفاقة في براغيث الماء تلك الخمائر التي دخلت إليها. إذن لأتى على كل أمرٍ جلل خطير. ولكن من ذا الذي يتحكم في أقدام البحاث وهي لا تسير دائما في الطرق السلطانية التي رصفها المنطق وعبّدها العقل السليم

في أيام بستور العظيمة، أيام كافح داء الحمرة وانتصر على داء الكلب، كان يعمل في خفاء شديد كأنه بعض القطارين الذين يقطرون السموم خُفية في أقباء احتجبت تحت الأرض عن أعين الناس، ولم يأذن لأحد أن يطلع على ما هو فيه إلا عونيه رو وشمبرلاند ورجلاً أو اثنين آخرين، وفي ذلك المعمل الرطب المعتم بشارع أُلم كان لا يلقى المتطفلين المتشوفين إلى علم ما يجري بمعمله إلا بالنهر والتجبيه، وطرد عن بابه حتى كل جميلة من الأوانس فاتنة. هذا بستور! أما متشنيكوف فله في ذلك حديث غير هذا الحديث

اختلف متشنيكوف في هذا كل الاختلاف عن بستور. كانت له لحية لها أثرها البالغ في رائيها، وجبين عريض يعلو عينين تنظران بحولٍ ظاهر وذكاء بين من وراء نظاراته، وشعر طال في قفاه حتى غطاه على حال تنبئك بأنه غارق في أفكاره فلا يكاد يصحو فيحس الحاجة إلى حلقه. وكان واسع العلم فلا تكاد تفوته فائتة. وكان يستطيع أن يفاكه ويسلي - وهذا محقق عنه ثابت - بألوف من طرائف علم الحياة وممتع خفاياه، فهو يحدثك بأنه رأى الخلايا الأفاقة الدوارة في جسم فرخ الضفدع تذهب إلى ذيله فتأكل منه حتى تأتي عليه فيصير الفرخ ضفدعا وهو يحدثك بأنه أشعل ناراً في دائرة حول عقرب ليثبت أن هذه الخلائق التعسة لا تقتل نفسها انتحاراً كما يقول الناس بلدغ نفسها حين لا تجد مخلصاً من النار، وهو يحدثك بهذه الفظائع بطريقة تجعلك ترى الخلايا الأفاقة تروح وتجيء تبتلع ذيل الضفدع بلا أسف ولا تبكيت، أو تسمع حسيس العقرب وقد عز عليها الخلاص وحلق بها الفناء

وكانت تسنح له أفكار رائقة في إجراء تجارب فيقوم عليها محاولاً إنفاذها بعزم قوي وتركز شديد، ولكنه كان يزيح العلم وينحّى التجريب إذا سنحت له السانحة بمدح متسرت وأُبَراته، أو خطر له الخاطر من بتهوفن فهزّه إلى صفير شيء من سنفوناته. وإنك لحَاسبه أحياناً يعلم عن جوته ودراماته، ويعلم عن عشقه ومعشوقاته، فوق الذي يعلمه عن

ص: 51

فجوساته، وهي التي بنى شهرته عليها. وكان لا يتكبر على من هم دونه، وكان كثير التصديق لكل ما يقال له حتى لاْمتحن الأدوية لبعض الدجالين المتطببين بأن أعطاها لخنازيره الغينية وهي في سبيل الموت زعماً أنها تشفيها. وكان رجلا طيبا ذا قلب عطوف رحيم، فكان إذا مرض له صديق غمره بكل هدية مستطابة وكل نصيحة مختارة، وبلل وسادته بالدمع يجري مدراراً فأسموه من أجل ذلك (بالخالة متشنيكوف) وكانت آراؤه في غرائز البدن وحاجات الحياة تختلف اختلافاً رائعاً عن أي باحث سمعت به غيره. (والحق أن العبقرية الفنية، أو لعلها كل العبقريات من كل نوع كان، تتصل اتصالاً وثيقاً بالنشاط الجنسي. . . ومن أجل هذا تجد الخطيب أبرع وأخطب في حضرة امرأة يبذل لها من وده وقلبه)

وكثيراً ما أكد لنا هو نفسه أنه أقدر ما يكون في التجربة على الإحسان، إذان كان على مقربة منه أوانس حسان

(يتبع)

أحمد زكي

ص: 52

‌أعلام الإسلام

4 -

سَعِيد بنُ المسَيِّب

تتمة

للأستاذ ناجي الطنطاوي

مرضه

قال عبد الرحمن بن حرملة: رأيت سعيد بن المسيب في مرضه يصلي مضطجعاً مستلقياً فيومئ برأسه إلى صدره إيماء، ولا يرفع إلى رأسه شيئاً

وقال أبو حازم: قال سعيد بن المسيب في مرضه الذي مات فيه: إذا ما متّ فلا تضربوا على قبري فسطاطاً، ولا تحملوني على قطيفة حمراء، ولا تتبعوني بنار، ولا تؤذنوا بي أحداً، حسبي من يبلغني ربي ولا يتبعني

وقال عبد الرحمن بن الحارث المخزومي: اشتكى سعيد ابن المسيب فاشتد وجعه، فدخل عليه نافع بن جبير يعوده وهو مضطجع على فراشه، فأغمى عليه، فقال لمحمد ابنه: حول فراشه، فاستقبل به القبلة، ففعل، فأفاق فقال: من أمركم أن تحولوا فراشي إلى القبلة؟ أنافع بن جبير أمركم؟ فقال نافع: نعم، فقال له سعيد: لئن لم أكن على القبلة والملة لا ينفعني توجيهكم فراشي. وفي رواية: ألست امرأ مسلماً، وجهي إلى الله حيثما كنت؟

وقال زرعة بن عبد الرحمن: شهدت سعيد بن المسيب يوم مات يقول: يا زرعة، إني أشهدك على ابني محمد، لا يؤذن بي أحداً، حسبي أربعة يحملوني إلى ربي، ولا تتبعني صائحة تقول فيّ ما ليس فيّ

وقال يحيى بن سعيد: لما حضر سعيد بن المسيب، ترك دنانير، فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أتركها إلا لأصون بها حسبي وديني

وقال: دخلنا على سعيد نعوده، ومعنا نافع بن جبير، فقالت أم ولده إنه لم يأكل منذ ثلاث فكلموه، فقال نافع بن جبير: إنك من أهل الدنيا ما دمت فيها، ولا بد لأهل الدنيا مما يصلحهم فلو أكلت شيئاً. قال: كيف يأكل من كان على مثل حالنا هذا بضعة يذهب بها إلى النار أو إلى الجنة. فقال نافع: أدع الله أن يشفيك، فان الشيطان قد كان يغيظه مكانك من

ص: 53

المسجد. قال: بل أخرجني الله تعالى من بينكم سالماً. ودخل المطلب بن حنطب على سعيد في مرضه وهو مضطجع، فسأله عن حديث، فقال: أقعدوني، فأقعدوه فقال إني أكره أن أحدث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع

وقد اختلفت روايات المؤرخين في سنة وفاته، وتنحصر رواياتهم بين سنة 91 وسنة 105، على أن أكثر الأقوال تؤيد أن وفاته كانت سنة 94

شيء من أقواله وفتاويه

قال: ما من تجارة أحب إليّ من البزّ، ما لم تقع فيه الأيمان

وقيل له: ادع على بني أمية فقال: اللهم أعز دينك، وأظهر أولياءك، واخز أعداءك في عافية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم

وقال علي بن زيد: قال لي سعيد بن المسيب: قل لقائدك يقوم فينظر إلى وجه هذا الرجل وإلى جسده، فانطلق فنظر فإذا رجل أسود الوجه، فجاء فقال: رأيت وجه زنجي وجسده أبيض. فقال: إن هذا سبّ هؤلاء الرهط: طلحة والزبير وعلياً، فنهيته فأبى فدعوت عليه وقلت: إن كنت كذابا فسود الله وجهك، فخرجت بوجهه قرحة فاسود وجهه!

وأدرك رجلاً من قريش معه مصباح في ليلة مطيرة، فسلم عليه وقال: كيف أمسيت يا أبا محمد؟ قال: أحمد الله. فلما بلغ الرجل منزله دخل وقال: نبعث معك بالمصباح؟ قال: لا حاجة لي بنورك، نور الله أحب إليّ من نورك

وقال: ولا تقولن مصيحف ولا مسيجد، ولكن عظموا ما عظم الله، كل ما عظم الله فهو عظيم حسن

وكان يقول: لا خير فيمن لا يجمع الدنيا يصون بها دينه وحسبه ويصل بها رحمه

وكان يقول: الناس كلهم تحت كنف الله يعملون أعمالهم، فإذا أراد الله فضيحة عبد أخرجه من تحت كنفه، فبدت للناس عورته

وكان يقول: لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم لكيلا تحبط أعمالكم الصالحة

وكان يقول: من استغنى بالله افتقر إليه الناس

وكان يقول: ليس من شريف ولا دنىّ ولا ذي فضل، إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا

ص: 54

ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه، وهب فضله لنقصه

وقال: يقطع الصلاة الفجور، وتسيرها التقوى

وقال: ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله عز وجل، ولا أهانت نفسها بمثل معصية الله، وكفى بالمؤمن نصرة من الله أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله

وقال ما أيس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء

وقال: يد الله فوق عباده، فمن رفع نفسه وضعه الله، ومن وضعها رفعه الله

وقال: دخلت المسجد في ليلة أضحيان، وأظن أني قد أصبحت، فإذا الليل على حاله، فقمت أصلي، فجلست أدعو، فإذا هاتف يهتف من خلفي: يا عبد الله، قل. قلت: ما أقول؟ قال: قل: اللهم إني أسألك بأنك مالك الملك، وأنك على كل شيء قدير، وما تشاء من أمر يكن. قال سعيد: فما دعوت بها قط بشيء إلا رأيت نجحه

وقال: إن الدنيا نذلة، وهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها يغير حقها، وطلبها بغير وجهها، ووضعها في سبيلها

وكان يستفتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم ويقول: إنها أول شيء كتب في المصحف، وأول الكتب، وأول ما كتب به سليمان بن داود إلى المرأة (بلقيس)

وقال حبيب بن هند الأسلمي: قال لي سعيد بن المسيب ونحن على عرفة: إنما الخلفاء ثلاثة: قلت: من الخلفاء؟ قال: أبو بكر وعمر وعمر (يعني عمر بن عبد العزيز) قلت: هذا أبو بكر وعمر قد عرفناهما فمن عمر؟ قال: إن عشت أدركته، وإن مت كان بعدك

وقيل له وقد نزل الماء في عينه، ألا تقدح عينك؟ قال: عني - على مَن - أفتحها؟

وقال: كنت بين القبر والمنبر، فسمعت قائلا يقول ولم أره: اللهم إني أسألك عملاً باراً، ورزقاً دارًّا وعيشاً قاراً. قال سعيد فلزمتهن فلم أر إلا خيراً

وسأله عبد الرحمن بن حرملة قال: وجدت رجلا سكران، أفتراه يسعني إلا أرفعه إلى السلطان؟ قال له سعيد: إن استطعت أن تستره بثوبك فاستره

وقال له برد مولاه: ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء، قال سعيد: وما يصنعون؟ قال: يصلي أحدهم الظهر، ثم لا يزال صافاً رجليه يصلي حتى العصر. فقال سعيد: ويحك يا برد! أما والله ما هي بالعبادة، تدري ما العبادة؟ إنما العبادة التفكر في أمر الله والكف عن محارم الله.

ص: 55

وقال: قلة العيال أحد اليسارين

وسئل عن قطع الدراهم فقال: هو من الفساد في الأرض

وسئل عن آية من كتاب الله فقال: لا أقول في القرآن شيئاً وكان لا يكاد يفتي فتياً ولا يقول شيئاً إلا قال: اللهم سلمني وسلم مني

وقال: من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة

وسئل عن اللعب بالبرد فقال: إذا لم يكن قماراً فلا بأس

وغضب سليمان بن عبد الملك على ابن عبيد مولاه، فشكا إلى سعيد بن المسيب فكتب إليه: أما بعد، فان أمير المؤمنين في الموضع الذي يرتفع قدره عما تقتضيه رعيته، وفي عفو أمير المؤمنين سعة للمسيئين فرضى عنه

(دمشق)

ناجي الطنطاوي

بكالوريوس آداب

ص: 56

‌الإسكندرية

بقلم حبيب عوض الفيومي

لا روضَةٌ كغِياضِ الرمْلِ مِئْنَافُ

ولا كمصطافها في الأرض مُصْطاف

ولا كمنظرِها سَلْوَى لذي حَزَنٍ

ولا كأُلاّفها في الحسنِ أُلاّف

أضحت على كل حُسن مؤنقٍ عَلَماً

مذ كان للشيء أعلامٌ وأوصافُ

باكرتُها وطيورُ الدوح جاثِمةٌ

ولؤلؤ الطلِّ فوقَ الزهر رَفَّاف

وللنجوم تلاشٍ في مِسارِبِها

كأنها لسهامِ الشمسِ أهداف

والأُفْقُ مُلتهِبٌ في الشرقِ تَحْسَبُه

تِبراً له من وراءِ الغَيم تَخْطاف

والريحُ عاطرةٌ بالنشرِ ساطعةٌ

يُنْشِيكَ مُنْتَشَقٌ منها ومُستافُ

في فِتيةٍ أُنشئُوا إنشاء قَسْورَةٍ

فليس فيهم لدى الإِقدام وقَّافُ

ذوي وجوهٍ وآراءٍ تُضيُء لهم

إذا اُدْلَهمَّتْ من الأحداث أسداف

من كل منتخَبٍ في القول مُنْتَدَبٍ

في الهولِ، فهْوَ أديبٌ وهْوَ سَيّافُ

في جنةٍ مثل ترْوِيضِ البِسَاطِ زَهَتْ

منها غُصونٌ مُوَشَّاةٌ وأفواف

تَشابهت في التفافِ النَبْتِ واختلفت

أفنانُها فَهْيَ ألوَانٌ وأَلفاف

فيها نخيلٌ وأعنابٌ وفاكهةٌ

شتّى وأجناسُ رَيْحانٍ وأصناف

رَفَّ الذبابُ على نَوَّارِها فله

في بَلْجَةِ الشمسِ تغريدٌ وَتهفْاف

وللأكمَّةِ من أزهارِها سُرُجٌ

مضيئةٌ حولَها للنحل تَعْزَافُ

يَهفْوُ الفَرَاشُ عليها أبيضاً يِقِقاً

كما أطارَ فُضَاضَ البِرْسِ مِنْدَاف

وللطيورِ على أغصانها زجَلٌ

تُشجيك منه مزاميرٌ وأعزَافُ

تجمعت في سماءٍ فهي فاخِتَةٌ

وَساقُ حُرٍّ وشُحْرورٍ وَخُطَّاف

تَعلو أَلَائِفَ شتَّى ثم تُذْهِلُها

نجوى الهوى فلها في الأرضِ إسفافُ

وأينما مِلْتَ فالإيقاعُ مُتَّصِلٌ

تُلْقيه هَتّافةٌ تَشْحُو وهَتّافُ

حتى إذا ذرَّ قرنُ الشمسِ والتمعت

على رؤوسِ الروابي منه أسياف

عُجنا إلى أيْكةٍ شجراَء سامِقَةٍ

لها مع الحرِّ إظلالٌ وإيراف

تواشجت وسمت من كل ناحيةٍ

فإنما هي أسياجٌ وأسجاف

ص: 57

زِينت بشتى تماثيلٍ تلوحُ على

سِيمائها من سماءِ الفن ألطاف

تكلمتْ عن أمورٍ وَهْيَ جامدةٌ

وصُوِّرت من صخورٍ وهي أطياف

مِن كلٍّ عاريةٍ رَيَّا وكاسيَةٍ

إزارُها عن خفيِّ الحسنِ شفَّاف

وما لبِسْنَ وما عرَّينَ عن بَشَرٍ

وإنما هُن إتحافٌ وإطراف

كأنها ونوافيرُ النميرِ لها

من فوقِ أرُؤُسِها سَح وتَوْكاف

سِرْبٌ تجرّد من أثوابِه فلهُ

في غفلةِ الناسِ تَلعابٌ وتَطواف

ما بينَ حاملةٍ جاماً وصادِحَةٍ

غَنَّاَء في يدها للشَدْوِ مِعزاف

وبين رافعةٍ مِصباحَها بيَدٍ

لها على الماءِ إِطلالٌ وإشراف

وبين حاسرةٍ ريعت فنازَعها

لُبْسَ الخميصةِِ إيجاسٌ وتَخواف

وبينهنَّ كلابُ الصيدِ قد نَفرت

وأطلقت أيدياً للوحشِ تَقتاف

وإذ تَلاقى بنا ذو صبوةٍ وَصدٍ

إلى السُّلافِ ومِتلافٌ وَوَصَّاف

قلنا: المُدامَ. فجاؤونا بمُذْهَبَهٍ

مذاقُها لِسَقيمِ القلبِ إخطاف

لم يبقَ منها وقد طالَ الزمانُ بها

في الدَنِّ إلا شُفافاتٌ وأنزاف

سبيئةٌ سبقتْ نوحاً فكان لها

تحتَ العرائشِ قبل الشَّرْبِ آلاف

يلوحُ منها قَوامٌ ثم تُدرِكُها

لطافَةٌ فَتجَلّى وهي إِشفاف

ما اعتادها لونُها الجادِيُّ عن عُرِضٍ

وإنما هو لونُ الشمسِ يَشتاف

كرَّ الربيعُ وضوءُ الشمس يُنضِجُها

في كرْمِها بعد ما غَذَّتْه أرياف

ورَاقَ منظَرُها إذ رَقَّ جَوْهَرُهَا

فالحسنُ منها عن الاحسانِ كشَّافُ

تَسْمو إِلى رأسِ حاسيها لِخفّتها

إذ لا تلائِمُ ذاكَ الجِرْمَ أجوافُ

وتترُكُ المُحتَسِى نشوانَ لا نَزَقاً

وإنما هو إحصافٌ وإرْهَافُ

يُهدَي لحانوتها المُعْتَسُّ في غَلَسٍ

برِيحِها وَلَوَ أنَّ البُعْدَ أَفْيافُ

ويَسْتضيءُ بها في السيرِ ملتَمِسٌ

ضَلَّ السُّرَى ولجنحِ اللّيلِ إغدافُ

نَشتفُّها ونناجيها ونرفعُها

ونجتلي قبَساً منها ونَسَتافُ

ونملأُ الرُّوحَ وحياً من معارجها

فانما هي إيحاءٌ وإلطاف

فآيةٌ لبخيلٍ ذَاقَها كرَمٌ

وآيةٌ لِسَحِيِلِ العزمِ إحصاف

ص: 58

صُبَّتْ فَرَقْرَقَها طبعٌ فَشَعْشَعَها

مثْلَ الضرام تعَالَى منه أطرَاف

وثار ثائرُهَا حَمْياً فَهذّبَه

حِلمُ النميرِ فقرَّتْ منه أعطاف

حتى إذا ما عَلا رَأْدُ الضُحَى ودَنَا

من شاطئ البحر فُرَّاطٌ وَسُلاَّف

أَقَلْنا ظَهْرُ طامٍ لا قَرَارَ له

وهل يَقَرُّ حَرُونٌ وهو رَجَّاف؟

في سابحٍ أسحمِ الدَّفَّينِ مُنْسَرِحٍ

يدافعُ الماَء من حَرْفَيْهِ مِجْذَاف

مُسْتَوْسِقٌ ظَهْرَه يَسعى على مَهل

من الوَنَى فهْوَ تحْتَ الوَسْق دلاف

نَظَلُّ منه على سِيْسَاءِ مُنْجَرِدٍ

ما لاقه قَطُّ إسرَاجٌ وإِيكاف

بينا يسير رويداً إِذ تُلَاطِمُهُ

مَوَّارةٌ فإذا الإِروادُ إِعْناف

طَوْرَا يُصَوِّبُنا غَوْرُ وآونةً

تعلو بنا منه أَحْقافٌ وأعراف

ما بين رافِعةٍ عَلوَا وخافِضَةٍ

أهْضامُها في حُدُورِ الموج أنياف

وللعُبابِ زئيرٌ في تدافُعهِ

وَزَخْرَةٌ فهْوَ بالأمواج غَرَّاف

له غواربُ لا تنفكُّ جائشةً

ما هبّ من مُعصراتِ الريحِ زفْزاف

وطافياتٌ تعالَى وهي مقبلةٌ

لها رُؤُسٌ منيفاتٌ وأشعاف

يظُنها من يراها وهي دانيةٌ

أبا قُبيْسٍ له باليَمِّ تَزحاف

فإن ترفقتِ الريحُ الهَبوبُ به

فكلُّ حُسنٍ عليه ثَمّ عكّاف

تلوحُ فيه وضوءُ الشمسِ مُنعكسٌ

للعينِ أرباعُ أقراطٍ وأنصاف

كأنه لهبٌ يُذكَى به ذهبٌ

أو زئبقٌ بمذابِ الصُفْرِ مُنداف

قَذْفُ البُحورِ لآلٍ دونَها صدفٌ

ولُجُّهُ بلآلي الحورِ قَذَّاف

توائمٌ ينتظمن الشطَّ في نَسَقٍٍ

مثل القلائدِ والظُلاّتُ أصداف

ماذا أعدت لنا الإسكندريةُ من

فَتكٍ به لسليم القلبِ إزهاف؟

جيشاً من الحسنِ يغزونا وليس لنا

من دونه غيرَ حولِ الله تَجفاف

مجراً جَناحاهُ دُعْجٌ بالعقولِ لها

فتكٌ ونُعْجٌ لها في القلب أزحاف

شاكي السلاحِ فمن آلاتِهِ مُقَلٌ

مُفوَِّقاتٌ وأعطافُ وأرداف

فُرسانُه نُهَّدٌ بالماءِ سابحة

وَرَجْلُه ساحراتُ الطَرْفِ طُرّاف

أشباهُ ماءٍ على ماءٍ يكدن به

أن يمتزجن وللأبشارِ ترجاف

ص: 59

يَطْلُعنَ كالروض مَطلولا تُعارِضُه

شمس الضحى فله في العين تَرفاف

عَرْفٌ يفوحُ وأوضاحٌ تلوحُ وكم

في الروضِ ألوانُ أوضاحٍ وأعراف

روضٌ يروقُكَ منه منظرٌ عَجبٌ

لكنَّ مجناهُ أحساكٌ وأحشاف

والروضُ يقطِفُك الأثمارَ يانعةً

وما لهنَّ سوى الإِيحاشِ إقطاف

مُستهدفاتٌ وما فيهن من هدفٍ

وإنما هنَّ إِسقامٌ وإِدناف

وَمُشفقاتٌ وما فيهن مُسعَدةُ

وإِنما هنَّ للادمال إِقراف

واهاً لنفسي وما واهٌ بنافعةٍ

إِذا تحَرَّقَ أَوَّاهٌ وَأَفَّافُ

هل هُنَّ بُؤْسَى وهُنَّ الحسنُ مُحْتَشِداً

أم هُنَّ نُعْمَى وما فيهنَّ إِنصاف؟

فليس عنهنَّ سُلْوَانٌ لذي شَغف

ولا لهنَّ به ما عاش إِيلاف

حُسنٌ ومنعٌ وأشقَى الناس متَّصِلٌ

يلقاه حُسْنٌ وَلا يَلقاهُ إِتْحَاف

والمنعُ والماءُ نَزْرٌ لا احتجاجَ به

والمنْعُ وَالمَاءُ طامي اللُّج إِجحافُ

بل هُنَّ ماءٌ كآلٍ لا اُرتواء به

يُبديه سهْبٌ بعيدُ الوِرْدِ مهياف

يَظَلُّ وَارِدُهُ صَدْيانَ مُحْتَرِقاً

عقباهُ شَلٌ إِذا اسْتسقَى وإلهاف

أورت لَظَى كَبِدِي منْهُنَّ شامسَةٌ

وحْشيَّةٌ وَأْيُها غَدْرٌ وَإِخلاف

جنّيةٌ وصلُها دَلٌّ وَلَمحْتُها

تَبْلٌ وإِعراضُها قتْلٌ وَإِتلاف

بيضاءُ تختَالُ مثلَ الشمسِ عارِيةً

بل حسنُها في مُتوع الشمسِ كسَّاف

ألفاظها تُنعِشُ المُصْمَى ونظرتها

تُصْمِى الصحيح فلا يُجْديه اسعاف

ضعيفة الأسرِ وَسْنَى من بُلَهْنيَةٍ

وفي خلابتها للأسرِ إِضْعاف

تُوحي القنوتَ بطرفيْهَا وَفِعلُهُما

يصبى الرجالَ وهم من قبل أحناف

وَزْنُ الوفاءِ لها بالقِسط مُكتمِلٌ

واف وميزانُها في الحبِّ طَفَّاف

تَفتَرُّ عن مبسِمٍ عذبٍ له أُشَرٌ

يشفى أُوارَ الجوى منهن تَرْشاف

كأنه أُقْحُوَانٌ بالندى خَضِلٌ

أو لؤلؤٌ مازَهُ في السِّلْكِ رَصَّاف

تُزْهى بِقَدٍّ نضير العودِ تَحْسبُهُ

غصناً ثَنَتْهُ النُّعامَى فهو غَيَّاف

تهفو القلوبُ له وجداً إِذا خَطَرَت

كأَنما هو بالأرواح هفّاف

غيسانةٌ عَيشها من نَعْمةٍ وَغنىً

رِيٌّ وعيشي بها سُقْمٌ وإِنحاف

ص: 60

أَعَزَّها أنها دانت لِعزَّتها

هامٌ وذلّتْ لها في الحبِّ آناف

وزاد من فتكها خَلْقٌ لها عَممٌ

وحُسْن سُمتٍ له في القلب إِشعاف

أقرّ بالحسنِ ربَّاتُ الدلالِ لها

طوعاً وهنَّ معاصيرٌ وأنصاف

وألهَجَ العاشقين المولعين بها

أنّ ابتسامتَها للصب أهناف

لاقيتُها وجَناني جِدُّ منبسطٍ

وعُدتُ عنها ودمع العينِ ذَرَّاف

وما رجعتُ ولكني تَراجعَ بي

يأْسٌ فَرُجعايَ إِقرانٌ وإِرساف

ولو بعمري بها أحظى وقد عرضتْ

لكان بالعمرِ لي قُربَي وإِزلاف

لكنَّ بيني وبين المُشتهى جبلٌ

عالٍ ومهوىً سحيقُ الخرقِ نفناف

ولي حياءٌ عن العوراءِ يصدِف بي

ولي لسانٌ عن الفحشاءِ نكّاف

يُشْوِي وصال الغواني كلُّ ذي أدبٍ

جمٍّ يحظى به نَوْكَى وأجلاف

يَحظى أخو الجهلِ لا يَدري بِحُظْوَتهِ

وليس يحظى لبيبٌ وهو عرّاف

وَشيمة الدهر لا تَجْرى على سَننٍ

وَحالة الدهرِ إِجراءٌ وَإِيقاف

فغَارِقٌ في غِمَارِ اليَمِّ مُرْتكِسٌ

وَظَامئٌ في قِفَارِ البِيدِ عَسَّاف

ما ساَءني أنّ غيري حظُّه سِمَنٌ

من الزمانِ وحظي منه إِعجاف

لي من زماني فكرٌ راضهُ بصرٌ

وللبهائم أرواقٌ وأظلاف

قد يُرْزَقُ الفَدْمُ مالا وَهو منخِفِضٌ

وَيُحْرَمُ النَدْسُ مالاً وَهْوَ نَيَّاف

وليس مِثلينِ ذو عِلمٍ وذو سفَهٍ

ولا شبِيِهْيَنِ لأَّلٌ وصداف

حبيب عوض الفيومي

ص: 61

‌القصص

قصة مصرية

الشيخ عبد الباسط يتزوج. . .

للأستاذ محمد علي غريب

بين الأزهر وبين القرية، يولد طالب العلم كل يوم مرة على تجارب لم يشهدها وحياة لم يألفها، في تلك المدينة التي يختنق صوت المؤذن فيها بصيحات المعربدين الفجار، والتي لو بعث فيها اليوم منشئها الأول جوهر الصقلي لما وجد فيها مكاناً يأوي إليه، ولآثر عليها منادمة منكر ونكير. . .

ويوم غادر الشيخ عبد الباسط محمد حسين أبو جبل قريته الصغيرة لينتسب إلى الأزهر، كان أكثر أهله في وداعه، وقبيل أن يعلن القطار ضجره من الانتظار بصفيره المزعج، انتحى به والده ناحية منعزلة وأوصاه بالصلاة والمذاكرة وطاعة شيوخه واحتقار ملذات الدنيا الفانية

ثم دس الوالد في يد ولده خطاباً علت غلافه بصمات أصابعه المغمورة بالتراب، وطلب منه أن يقدمه إلى سيد القرية في القاهرة وهو رجل من الأثرياء يملك أكثر أرض هذه البقعة وينظر إليه الأهلون كإنسان لم يخلقوا على طرازه، فلا بدع أن يتخذوا منه السيد والمولى، وأن يخشوا غضبه كما يخشى العابد غضب الإله

وحل الشيخ عبد الباسط في غرفة مظلمة في حي الباطنية بالقرب من الأزهر، وحل معه فيها خمسة من الطلاب ومجموعة من الهوام والحشرات كانت تشارك أهل هذا الكهف طعامهم وشرابهم، وتخفف الدم النقي من جسومهم فلا يشعرون بالحاجة إلى معصية الله. . .

ولم يكد يضع عبد الباسط رحله، ويؤدي الصلاة المكتوبة، ويستفسر من زملائه الذين سبقوه عن مواعيد الدراسة وعن كراء البيت حتى ذكر خطاب سيد والده الغني، فأخرجه من جيبه بوقار وخشوع وراح يسأل عن هذا العنوان:

- جاردن. . جا. . جار. . دن. . جاردن ستي. . أي عنوان هذا؟. . محمد بك الخربوطلي

ص: 62

بجاردن ستي!

وتضاحك زملاؤه الخمسة من جهل صاحبهم بأحياء القاهرة وهم الذين يعرفونها حياً حياً. . وراودت النكتة اللفظية أحدهم عن نفسه فأطلقها:

- ستّي ولا ستّك. . ها ها!

وضحك الجميع حتى الشيخ عبد الباسط عن طيب خاطر

يعيش محمد بك الخربوطلي في منزل يضم فتياته الثلاث (صفية وحكمت وآمال) وكلهن جاوزن سن الزواج. ولما كان الأب فاجراً متهتكاً فقد نسج فتياته على منواله، لذلك وجدت كل واحدة منهن أصدقاء كثيرين ولكنها لم تجد زوجاً إلى اليوم

وكان محمد بك رجلاً في حدود الخمسين؛ وقد توفيت زوجته في حادث مؤلم، فراح ينسى الدنس الذي علق بشرفه بالإفراط في كل ما يستثير شهواته الخسيسة، ولم يكن في برنامجه أن يحتفل بتربية بناته بل تركهن في أيدي الظروف

في يوم من أيام الربيع الصافية، وقف الشيخ عبد الباسط ومعه زملاؤه الخمسة الذين تطوعوا بتعريفه منزل السيد، يصفق بيديه على باب المنزل، ويمسح العرق المتصبب من جبينه بطرف جبته الخضراء، على حين جلس زملاؤه فوق المقعد الخشبي الذي يجلس فوقه حارس الباب وهم يلهثون

وجاء البستاني العجوز وهو يبصق الشتائم والإهانات من فمه، فقد أزعجه هذا الذي يصفق دون أن يسكت، ثم سأله:

- ماذا تريد؟

قالها بلهجة حاكم متغطرس لخادم عنده. ولم يكن الشيخ عبد الباسط يتوقع هذه الخشونة، أمام زملائه على الأقل، فأخفى خجله في سعاله وسلم إلى البستاني خطاب والده إلى سعادة ألبك. . وعاد البستاني يقول له باللهجة الأولى:

- أدخل. . .

ثم ضرب البستاني الباب الحديدي وراءه بعنف وغضب. فدخل الشيخ عبد الباسط وقلبه يتراكض بين جنبيه؛ ثم اقتيد إلى حجرة بهره فيها أثاثها الفخم مما لم ير مثله إلا في الحوانيت التي قاده للفرجة عليها زملاؤه. فأدرك لفوره في أي طريق ينفق سيد القرية

ص: 63

أمواله. .

وشهد في الحجرة وسادة ملقاة على الأرض فرام الجلوس فوقها، بيد أن الخادم الطيب أنهضه ليجلس على مقعد مريح. وهنا ابتسم الشيخ عبد الباسط على رغم أنفه. . ابتسم لأنه لم يكن يقدر على البكاء. . .

وبينما هو يجول ببصره فيما أثبت على الجدار من صور وما حشد في الحجرة من نفائس، إذا بصوت ناعم يصل إلى أذنيه، وإذا بفتاة هيفاء تدخل إلى الحجرة وهي تغني، فلما رأت الشيخ الجالس أمامها تظاهرت بالفزع وصاحت:

- بردون يا. . يا أستاذ! ثم واصلت الغناء. . .

وجاء الخادم يشرح للفتاة من يكون هذا الشيخ؟ إنه نجل وكيل والدها في ضيعته، وقد جاء إلى القاهرة ليطلب العلم فأرسله أبوه إلى سيده ليشمله برعايته. . .

وتلطفت الفتاة وصوبت بصرها إلى هذا المخلوق، فإذا هو شاب ممتلئ الجسم في لحية قصيرة كأنما صنعها بيديه. أما ذلك المخلوق فلم يكن يدري أحد ماذا يعتلج في ذهنه من الخواطر، وقد غمره الموقف الشاذ بفيض من البلاهة، ففغر فمه وبقي في صمته الجليل، وقد غض الطرف وذكر نصيحة والده له فلم يخالس الفتاة النظر سوى مرتين

وجاء السيد في جلباب حريري أزرق، فنهض الشيخ عبد الباسط وقبل يده ثلاث مرات كما يصنع مع شيخه في الدرس، ثم وقف صامتاً وقد أنساه الشيطان الكلمات الفخمة التي زورها ليلقي بها في هذا المقام

وقال السيد وهو يعبث بلفافة تبغ في أصابعه:

- كيف والدك؟. . . هل بعث معك مالاً؟. . كيف أنت؟. . اجلس. . هل تدخن؟. . .

وماتت الإجابة على هذه الأسئلة كلها فوق شفتي الشيخ عبد الباسط فلم ينطق وإن كان قد جلس على حافة المقعد ورقبته ممتدة ويده العابثة بلحيته ترتعش

وجاءت القهوة، فشرب نصف ما في الفنجانة، وضمخ بالنصف الآخر ثيابه من الدهشة والخوف. ومرت به الفتاة التي رآها حينذاك وهي تغني، فربكه مرآها واختل توازنه فوق حافة المقعد وهوى على الأرض؛ ومن ثم ضحك السيد والفتاة والخادم الواقف بقرب الباب. . . وضحك الشيخ عبد الباسط أيضاً!

ص: 64

وكثر تردد الشيخ عبد الباسط على منزل السيد، وفي المرات الأولى كان ظله ثقيلاً على نفوس أهل المنزل؛ فلما كشف عن سذاجته وألح في الزيارة استطابوا وجوده. وكان في كل يوم يكشف عن أسماء النفائس التي يراها في المنزل فيحفظها كما يحفظ ألفية ابن مالك؛ ولم يكن يبالي السخرية به والتهكم عليه، فان العبد وما ملكت يده لسيده؛ وكان يؤثر على الجميع الفتاة التي تغني، وكانت هي من جانبها تزيد في الإساءة إليه فيحسب أن يده تقبض على قلبها

ولم يعد الشيخ عبد الباسط يحتفل بدروسه، لا ولا بصلواته. أما زملاؤه فقد أنكروا عليه هذا الإهمال، وتوعدوه بالخزي في الدنيا والآخرة. غير أنه كان يتمثل في وجوههم شقوة البؤس، فلم يعبأ حتى بأن يدفع نصائحهم عنه بطرف أصبعه

وانقلب الشيخ عبد الباسط فجأة إلى متظرف يطالع الصحف ويغشى المقاهي ويتهكم بشيوخه الأعلام، حتى زجاجة العطر التي لمحها في أحد الحوانيت ظل يقتصد ثمنها واشتراها، والساعة والمنديل الحريري والحذاء اللامع. . . كان ذلك كله في سبيل أن يحوز رضاء تلك الفتاة اللعوب التي لا تعرف من الدنيا سوى الغناء

وكان الشيخ عبد الباسط يرى في منزل السيد كل مرة أصنافا من الشبان يفدون على الدار في أزياء خليعة، حاسري الرؤوس حليقي اللحى والشوارب، وكان يسأل الخدم عنهم واحداً فواحداً، ويعرف أنهم أصدقاء الأسرة فيسكت، ويكلفه سكوته هذا لعنة أولئك الشبان في سره وذلك أَضعف الإيمان

ولم يكن الشيخ عبد الباسط يجترئ على التفكير في هذه الدنيا العجيبة التي يضمها منزل السيد، وإن كان قد فكر مراراً في أنه أصبح مطلوبا ومرغوبا فيه

ألم يقل له محمد بك ذات يوم:

- حصلت البركة يا أستاذ!

كلمة لا يقولها السيد إلا لمن يحبه ويوده. ألم تصارحه الفتاة التي تغني ذات مساء بأن دمه خفيف. ثم ضربته بيدها على وجهه، وضرب الحبيب مثل أكل الزبيب!

ترى هل حان الوقت الذي يصارحهم فيه بما تضطرم به نفسه من رغبات!

وجاء ذلك الوقت فلم يفاجئ الشيخ عبد الباسط برغبته رب الأسرة، لأنه كان رغم كل شيء

ص: 65

يتهيب ويخجل. وكانت رغبته أن يتزوج بتلك الفتاة التي تغني دائما والتي لم يعرف اسمها بعد. وكثيرا ما تمثل هذا البدن الناعم البديع واستعاد ذكريات أمسه السعيد، فيسمعه زملاؤه في الغرفة يئن ويصرخ من هول ما يعتمل في صدره. . .

لم يقدر الفوارق الهائلة بينه وبينها، ولا راعى مركزه كطالب علم فقير، ولكنه أقنع نفسه بأن كل شيء يسوى بنفسه، والمصادفات قد تكون في بعض الأحايين سبباً في أن يرتفع المرء من الغرفة الحقيرة إلى القصر المنيف

وبعد تفكير طويل أودع الشيخ عبد الباسط سره الخطير لدى أحد الخدم في المنزل، فتضاحك الخادم وسكت، وكان في سكوته ما حمل الشيخ عبد الباسط على أن يتأول ويستولد عدم استحالة الوصول إلى مبتغاه

والظاهر أن الخادم أفضى إلى الفتيات بما قال الشيخ، ولا ريب أنهن تضاحكن وعبثن بالفتاة التي وقع عليها اختياره، ثم انقلب الموضوع إلى فكرة ضخمة. لذلك استقبل الشيخ عبد الباسط في اليوم التالي استقبالاً فخما، وكأنما كان يتوقع ذلك فراح يفرض وجوده في المجلس ويصعر خده للجالسين والجالسات. . .

واقترب يوم الزواج ولم يكلف الشيخ عبد الباسط أن يدفع شيئاً وزاد أهل المنزل في الحفاوة به والترحيب فكان الذي يشغله أنه يتزوج ووالده لا يعلم، ولكن ماذا يهم والفتاة جميلة ووالدها سيد القرية. .

وفي اليوم الموعود كان رب المنزل غائباً، ومن الإنصاف أن نقول إنه لا يعرف عن هذا الموضوع شيئاً؛ غير أن الشيخ عبد الباسط لم يكن يهمه ذلك، فقد آمن بأن الرجل يعلم دون شك ولم يفاتحه في الأمر حتى لا يسئ إلى ذات نفسه ويخجله

وأنيرت الدار وأقبل المدعوون، ولم يجرؤ الشيخ عبد الباسط على دعوة زملائه حتى لا يفسدوا عليه خياله، واكتفى بأن زاد في الأناقة وفي التجمل، وراح يحفظ قصائد الغزل كلها ليسكب بها في أذن عروسه الحسناء. .

وتم عقد الزواج على يد مأذون حليق اللحية والشارب وإن كان يرتدي جبة وعمامة، وكان هناك مغن يترنم بصوته والمدعوون من كل صنف يقصفون ويلهون. .

واقترح أحدهم على الشيخ عبد الباسط أن يشرب قدحاً قدمه إليه فلم يستسغ طعمه، ثم

ص: 66

أعطاه قدحاً آخر وقدحاً ثالثاً. . والجمع الصاخب يطلق الضحكات المخمورة من عقالها وهو ذاهل لا يعرف رأسه من قدميه. .

وأفردت له ولعروسه حجرة خاصة في المنزل الفخم، ولما أحس دوارا في رأسه انكفأ إلى حجرته وهبط إلى الفراش لا يقوى على النظر ثم أدركه النوم العميق. .

وفي الصباح وجد إلى جانبه عروسا من الخشب. . والجمع الحاشد يغمر حجرة نومه بالضحك، ثم تكشفت له الحيلة شيئاً فشيئاً حتى عرف كل شيء. . .

عرف أن المأذون شاب من أصدقاء أهل الدار استعار جبته وعمامته من فقيه المنزل، وعرف أنه شرب في الأقداح الثلاثة خمرا حرمها الله؛ وأخيراً عرف أن عروسه من الخشب وليس لها طاقة على الغناء!

محمد علي غريب

ص: 67

‌مأساة من سوفوكليس

أنتيجونى

للأستاذ دريني خشبة

سوفوكليس: ولد سوفوكليس سنة 496ق. م، ومات سنة 406 أي أنه عاش عمرا طويلا مباركا قضى منه أكثر من 65 سنة في إنتاج أدبي متصل. ولم يصلنا من مآسيه التي أربت على المائة غير سبع فقط إحداها مأساة اليوم (أنتيجونى)، التي تعتبر أطرف تحفة في الأدب الكلاسيكي المسرحي. وسوفوكليس هو تلميذ إسخيلوس، وقد ظل يقلده ويمشي على دربه أكثر من عشرين عاما ثم استقل بعدها بخطته وطرائقه في الأدب، ولكنه عاد فقلد منافسه الأكبر بوريبيدز. ولم يحدث سوفوكليس ثورة ما في روح الرواية المسرحية ولكنه ثار بالمسرح نفسه من الوجهة الشكلية (التكنيكية) فأكثر من الممثلين وعدد من المناظر وقلل من أهمية الخورس، وقد ساعدته ثروته وعيشته الراغدة على تغذية المسرح برواياته الهادئة التي كان يخدم بها الفن من حيث هو فن خالص، ولا يبتغي بها ثورة على التقاليد أو إحداث تغيير في نظم الحياة. وكان مؤدبا مع الآلهة، فلم يصنع ما صنعه إسخيلوس مع ربات الذعر حين سفه منطقهن في محاكمة أورست مثلا. وسوفوكليس هو أستاذ شاكسبير من حيث تركيز البطولة في أكثر مآسيه في المرأة وسترى ذلك فيما نلخصه لك من المآسي. ولم يتقيد سوفوكليس بالدرامة الثلاثية مثل أستاذه، ولكنه فضل المأساة المستقلة الواحدة وإن كان قد كتب ثلاث مآس في موضوع واحد متصل، فانه كان يجعل كلا من أجزاء هذا الموضوع فصلا مستقلا بنفسه كل الاستقلال عن الفصلين الآخرين، وقد تعلم سوفوكليس الموسيقى في صغره وحذقها وترأس فرقة موسيقية في الاحتفال بذكرى (سلاميس) وكان على قسط كبير من الجمال في صباه، وكانت أدوار النساء في بعض الدرامات - ومنها دراماته - توكل إليه لتأديتها لهذا السبب. ولم يشترك في حروب وطنه (أثينا) لاعتباره من كبار الأعيان ولأنه كان صاحب مصانع الأسلحة التي تزود الجيوش بكل ما تحتاج من عتاد. وقد تورط بسبب حياة الترف التي كان يحياها في غرام آثم كلفه كثيرا من ماله، فاضطر ابنه إلى مقاضاته وطلب من المحلفين الحجر عليه، ولكن سوفوكليس عرف كيف يدافع عن نفسه حتى برئت ساحته، ثم استقام بعد ذلك. وقد فاز

ص: 68

سوفوكليس على إسخيلوس للمرة الأولى سنة 468 بدرامته المفقودة (تربتوليموس) ثم فاز في عشرين مباراة بعد ذلك وعين سنة 440 أميرالا للأسطول (وإن لم يخض حربا ما)، وعين سنة 443 عضواً في مجلس الوكلاء (مجلس العشرة) وبحسبه أن يكون أقوى شخصية تمثل عصر بركليس بطوله. ومات قبل أن يشهد سقوط أثينا

- 1 -

حينما اكتشف أوديبوس السر الهائل، وعرف أنه قتل أباه وتزوج من أمه، وأولدها ولديه وابنتيه، جن جنونه، وسمل عينيه، وهام على وجهه في الأرض حيران، وتبعته ابنته التاعسة أنتيجونى، لهديه سبيله إلى غابة كولونوس، حيث غالته ربات الذعر بما لم تجن يداه!

وعادت أنتيجونى لتجد أخويها يقتتلان من أجل العرش. . . . . .

وقتل الأخوان المتحاربان كل بيد الآخر في مبارزة مشئومة واستوى كريون على عرش طيبة، وأصدر أمرين كل منهما نقيض الآخر

أمر بأن تحتفل طيبة كلها بملكها السابق إتيوكليز. . . أما أخوه. . أما يولينسيز. . . فيترك في بطحاء طيبة جزر السباع تنوشه جوارح الطير وكلاب البرية، من غير أن تقام له الشعائر الدينية التي تقام لعباد الآلهة المؤمنين، ومن غير أن يضم رفات قبر، أو يحثى عليها تراب! وقضى أن كل من يجرؤ على مخالفة هذا الأمر فجزاؤه القتل في أبشع صورة. والتنكيل والتمثيل!

- 2 -

(أنتيجونى وأختها اسمنيه أمام القصر الملكي بطيبة)

- (أختاه! إسمنيه! أهكذا قضت السماء أن نتجرع أنا وأنت ثمالة الكأس، والنطف الأخيرة من آلام أوديبوس! ألا حدثي يا أختاه، هل بلغك الأمر المأفون الذي أصدره كريون الملك بخصوص أخوينا؟)

- (أي أمر يا أختاه!

- (لهذا جئت معك إلى هنا كيلا يسمع نجوانا أحد!

ص: 69

- (إذن. . . تكلمي! إن نظراتك المضطربة تشف أنباء هائلة!

- (لماذا يفرق كريون بين الموتى في حقوق السماء المقدسة؟ لقد أمر أن تحتفل طيبة بأسرها بجناز إتيوكليز. . . في حين تترك جثة بولينيسيز في عراء طيبة لجوارح الطير، وسباع البرية، من دون ما دفن ولا إقام شعائر. . حتى التراب. . لقد أبى أن يحثي عليه التراب يا أختاه! والآن! لقد أنبأتك بكل شيء! فهل تبرهنين على كرم أرومتك! وشريف عنصرك، فتعاونيني فيما اعتزمت، أم. . .

واشؤماه! وهل بيد ضعيفة مثل حل أو ربط؟! ماذا ترينني أصنع؟

- (ألا تقاسمينني حلو هذا الأمر ومره؟)

- (ماذا تعنين؟

- (نتقاسم، أنا وأنت، فنذهب إلى أخينا من فورنا هذا فندفنه؟!. .

- (ندفنه على الرغم من نذير الملك؟ أهذا رأيك؟

- (إي وايم السماء! سأدفن أخي وأخاك فأما امتنعت فإني لن أنكص، ولن أخون أخوتي وحناني وكبريائي ودمي!!

- (مجنونة!! وكريون! أما تبالين أوامره!)

- (كريون؟ وهل له الحق في منعي من القيام بشعائر ديني نحو أخي؟!)

- (أختاه! أنتيجونى! قليلاً من الحكمة يا أختاه! اذكري كيف كانت نهاية أبوينا العزيزين! أذكر كيف شنقت أمنا نفسها حين علمت أن زوجها هو ابنها؟ واذكري كيف سمل أبونا عينيه وذهب معك إلى كولونوس ليتحسى كأس المنون! واذكري أيضاً كيف اقتتل إخوانا وقتل كل منهما الآخر! أفلم يبق وراء كل أولئك إلا أن نلقى بأيدينا أنا وأنت إلى التهلكة؟! أما عن نفسي، فإني أفضل الخضوع لأمر ولي الأمر، فإني امرأة ولم تخلق النساء لمشاكسة الرجال!

- (إذن. . . فلن أرغمك على شيء. . . وحسب هذه اليد الكريمة أن تقوم بالأمر كله وحدها! يا للفخر أن أضطلع بكل شيء ثم أموت! كم تشيع الكبرياء في نفسي حين ألقى أخي في الدار الآخرة وقد أديت له هذا الحق بمفردي؟! إن هذه الحياة لا بد أن تنتهي، فلم لا تكون نهايتها هذه الجريمة المقدسة؟ أنت تأبين أن تزدري قوانين الأرض، ولكنك لا

ص: 70

ترفضين أن تحتقري مع كريون شرائع السماء! فهنيئاً لك! يهنيك ما اخترت لنفسك يا أختاه!

- (أنا لا أزدي ولا أحتقر، ولكن أخشى ثورة الأولياء!

- (كأني بك تعتذرين عن جبانتك! اطمئني! سأذهب وحدي لأدفن جثمان أخي!

- (يا للآلهة! كم أخشى عليك!

- (لا تضيعي خشيتك ومخاوفك عبثاً! عليك نفسك!

- (إذن لا تبوحي بسرك لأحد، وسأكتم أنا الأخرى كل شيء!

- (بورك فيك! بل تحدثي به لكل من يلقاك. . . للناس أجمعين!

- (أنت تتحدين خصومك! يا للطيش!

- (تحد يسر قوماً آخرين. . .

- (هذا إذا نجح قصدك، وتم تدبيرك. . . على أنني أراك تضربين على غير هدى)

- (حسنا! سأحاول، فإذا فشلت فقد أديت واجبي)

- (بل ينبغي ألا يحاول الإنسان المحال)

- (ها. ها. . إن كلامك جدير باحتقاري بقدر ما هو خليق بمقت أخيك. . . اصمتي! على وحدي وزر ما أنا قادمة عليه. . . ولن يحزمني القضاء من موتةٍ شريفة خالدة!)

- (لتذهبي! إنه يبدو لي أن لا سبيل للوقوف بسبيلك، يا طائشة! وإن تكن جرءاتك آية وفائك وبرهان محبتك. .

(تخرج كل منهما من ناحية)

- 3 -

ويقبل الخورس (عجائز طيبة) فينشدون ويهزجون، ويتغنون آلام طيبة ذات سبعة الأبواب وأشجانها، ويرددون ألحان المأساة الباكية. . . مأساة أوديب، ثم يلمح رئيسهم كريون، ملك طيبة وطاغيتها. مقبلا، فيصمت ويصمتون

(يدخل كريون)

- (أيها الأصدقاء! إخواني أبناء طيبة الأخيار! أصغوا إلي! لقد تمت المأساة، وانقرض

ص: 71

الذُّكران من نسل لايوس، وبالأمس ما ضرجوا ثرى الوطن بدماء لا يُرضى الآلهة إهراقها، وها قد آلت السلطة إلي، سلطة الحكم، وسلطان الملك، وسلطان الملك محك الرجال؟ وإني آخذ فيكم بخطة هي إلى خيركم أقرب، وعلى وطنكم أجدى؛ لا أحب الجبان، ولا أوقر رجلا يؤثر صالحه أو صالح أصدقائه على صالح الوطن. . . الوطن سفينة الجميع، فيجب على الجميع هدايته إلى شاطئ الأمان، ويجب أن نزيد دائما في عظمة طيبة وعنفوانها ومجدها! ولقد علمتم ما كان من ولدي أودبيوس، وعرفتم كيف كان إيتوكليز يفدي بنفسه بلاده، ويرد عنها جحافل الأعداء الذين جردهم عليها بولينيسيز. . . الخائن! الذي أشقى أمته وأهان دولته وكان عليها شجناً من أشجان الزمان! من أجل ذلك صدرت إرادتنا أيها الأصدقاء بأن تحتفل طيبة بملكها الراحل احتفالاً يليق بتضحياته العزيزة، وأن تمشي الأمة بأسرها في إثره إلى مقره الأخير، حيث يذرف كل منا عبرةً على جثته إلى الأبد قربان المحبة ورمز الإعزاز! أما بولينيسيز! فسينبذ بالعراء فتمزقه الكلاب وتتغذى به جوارح الطير. والويل كل الويل لمن تحدثه نفسه بدفنه، أو حثو التراب عليه. . وسنجزي الظالمين!!)

رئيس المنشدين: (كلمتك قانون على الأحياء، وشريعة من السماء، أيها الملك العظيم!

- (إذن. فلتكن طيبة كلها عيونا ساهرة على تنفيذ أمرنا!)

(لها بقية)

دريني خشبة

ص: 72

‌من هنا ومن هناك

إبسن وأرنولد بنت

كتبنا هنا كلمة عن أثر إبسن في إحياء الدرامة في الأقطار الأوربية عامة وإنجلترا خاصة، وأشرنا إلى العلاقة بين إبسن وبين صمويل بطلر صاحب قصة (طريق اللحم) وبين بطلر وبرنردشو وهم جميعاً من أنصار المرأة الذين وقفوا جهود الجبابرة للدفاع عن قضيتها والنضال في سبيلها لتحصل على أوفر قسط من الحرية التي ما تزال - تحت ضغط التقاليد - محرومة منها إلى اليوم. وقد كنا نقرأ درامة القصصي الإنجليزي الطائر الصيت أرنولد بنت المسماة (مباراة الحب) فراعنا أن نجد هذا الكاتب العبقري يحاول محاولة صادقة أن يتمم جهود إبسن!!

والمعروف أن إبسن كان يعرض في دراماته لعلل هذا العالم فيشخصها ويعرضها للنظارة، ولكنه يتركها دون أن يصف لها علاجا، وأحسن مثال لذلك درامته (بيت عروس) ' التي يعرض فيها حياة الفتاة نورا وما تورطت فيه من غرام بشخص غني حاولت أن تحصل منه - بسبيل هذا الغرام - على مبلغ من المال يستعين به زوجها المريض على السفر إلى الجنوب للاستشفاء مما به من مرض. . . ولكن زوجها يكتشف علاقتها بذلك الرجل الغني فيعاتبها. . . ولكنها تثور وتتهمه أنه هو سبب هذا السلوك الذي آلمه منها، وأنه لم يحسن تكييفها حتى تكون ربة منزل، وأنها لا بد تاركته لتدرس الدنيا والحياة من جديد، لأنها ترفض أن تظل إلى الأبد (دمية أو لعبة) في المنزل، تأكل الشوكولاته، وتغشى صالات الرقص، وتقتني الأزهار، وهي لا تعرف من الشؤون المنزلية كثيراً أو قليلاً. . . فإذا سألها زوجها ولمن تترك تربية الأطفال أبناءها؟ أجابته إنها تتركهم له أو أنها لا تدري. . . وكيف تربيهم وهي لم تترب؟ أليس أولى أن تتربى هي أولا؟!

وعند هذا تنتهي الدرامة وتنزل الستار!! وبذلك لم يصف لنا إبسن كيف تعالج نورا؟ أو إلى أين تذهب لتحصل على القسط الذي يعوزها من التربية. لذلك راعنا من أرنولد بنت محاولته معالجة هذه الزوجة إلتيّ تغرم بأكل الشوكولاته وتولع بالمراقص والمسارح ودور الصور والصالات، ولا تعرف من أمور منزلها أي شيء حتى ولا كيف تسوس الخدم!! وتتلخص درامة بنت في أن نينا الممثلة البارعة وزوجة مدير مسرح الملك جورج بلندن قد

ص: 73

أحبها (روس) أحد كبار الأغنياء الإنجليز، وقد حدث أن أشرف الزوج - مدير المسرح - على الإفلاس، فاضطر لأن يذهب إلى (روس) ليقترض منه بضعة آلاف من الجنيهات يصلح بها مالية مسرحه ويحفظه بها من الإغلاق. . وتكون نينا عند روس في هذه الآونة تساقيه كؤوس الغرام فما يكادان يعلمان بقدومه حتى يصلحا من شأنهما ويتأهبا للقائه، ويعده روس خيراً وينصرف على ميعاد آخر، فإذا حان هذا الميعاد أقبل الزوج وكله أمل أنه قابض الآلاف التي يبتغيها، وتكون نينا في هذه المرة أيضاً بين ذراعي روس، فإذا دق الجرس وعلم روس أنه هو، خبأ نينا في مخدعه ولقي الزوج. . . ولكن ثورة من الشرف والكرامة تتفجر في قلب روس فيصارح الزوج بعلاقته الغرامية بزوجته، وتخرج الزوجة صعقة، ويغادر الزوج المنزل ليطلق زوجته، ويتمالك روس قواه ويتناول التلفون فيخاطب أحد أصدقائه أصحاب الملايين في إقراض مدير المسرح بضعة آلاف من الجنيهات على أن تحتسب على روس بشرط ألا يعلم مدير المسرح. ويتزوج روس من حبيبته. . . ثم يبدأ الدرس القاسي الذي يصلح به سلوكها ويخلق منها زوجة مدبرة وربة منزل بكل ما تحمل الكلمة من معان؛ وذلك بعد أن تسوءه منها بعض التصرفات التي تدل على طيش النساء اللائى لم يحصلن على أية ثقافة منزلية

يدعي روس أنه جازف في عمل تجاري ولكنه جر عليه الإفلاس، وأنه مضطر لأن يبيع كل شيء. . . منزله وضياعه وعرباته وكثيراً من ملابسه وأثاثه ليسدد ديونه. . . ولكنه يلقى من نينا كل عطف وتضحية، فإنها بدلاً من أن تتركه لتلوذ بغيره من الموسرين، تقدم له كل حليها وجواهرها التي تسوى آلافاً كثيرة. . . فيسير روس في درسه. . . وينتقل إلى (شقة) حقيرة في منزل قذر ليعيش فيه عيشة الكفاف، فلا تأبى نينا أن تقاسمه صرامة هذا العيش، بل تقوم هي على حاجيات المنزل فتحسن تدبيرها كل الإحسان. . ويكون اليوم السابع والعشرون من الشهر ويحضر محصل (البلدية) من أجل ثمن الغاز فلا يكون مع نينا إلا أربعة بنسات ونصف فينذرها المحصل بقطع التيار إن لم يسدد المبلغ (باكرا) ويحضر روس فتطلب إليه قليلاً من النقود لهذا الغرض فيثور بها ويتهمها أنها غير مدبرة وأنها مسرفة كل الإسراف، ويطلب إليها أن تطلعه على (كشف بالمصاريف الشهرية) فتدهش نينا لهذا الطلب، ولكن روس يداعبها ويطلب منها أن ترتدي أحسن ملابسها لزيارة

ص: 74

(المتحف البريطاني؟!) ولكنها تكاد تجن لأنها لم تعتد زيارة هذه الأماكن الجدية. . . وتأتي أختها آن لزيارتها فيتركهما روس وينصرف. . . وتعجب آن لقذارة (الشقة) وتسأل أختها لم تسكن هي وزوجها في مثل هذا الحي الوضيع مع أنه قد أصبح أغنى رجل في إنجلترا؟ وتضحك نينا وتقول بل إنه أفقر رجل في إنجلترا لأنه أفلس وباع كل ما يملك ليسدد ديونه؟! وتدهش آن وتؤكد لها أن روس قد ربح أمس فقط من صفقة البن البرازيلي سبعة ملايين من الجنيهات، وأنه لا بد قد تعمد أن يلقنها هذا الدرس في الاقتصاد والتدبير المنزلي تعمدا. . . وتفطن نينا للسر فتثور وتذهب من فورها إلى روس في محل عمله الذي كان قد أخبرها أنه أغلقه فتجده غارقاً في أعمال لا حصر لها وتتأكد من صدق ما أخبرتها به آن. . . ويعود الجميع إلى قصرهم القديم حيث تجد نينا كل الخدم وكل الخير القديم كما كان. . . فتعاتب روس الذي يذهب بها إلى (دولاب) مجوهراتها فتجدها سليمة لم تبع!! ويعيشان عيشة راغدة جديدة ولكن عيشة كلها جد وعمل!!

وقد لمحنا أثر إبسن في أرنولد بنت واضحاً لأنه ذكر (عروس بيت) غير مرة في ثنايا الدرامة فكأنه كان يقول (أنا أتمم جهود إبسن!!)

أوجست سترندبرج

وما دمنا قد تحدثنا هذا الحديث عن إبسن النرويجي العظيم فلا بأس من إيراد شيء عن منافسه السويدي الكبير أوجست سترندبرج الذي كان يهزأ بتعاليم إبسن ويسخط على دفاعه عنها ويعتبر دراماته ضرباً من الجنون والحماقة يجب عرضه في مستشفيات المجاذيب بدل عرضه في المسارح. . والسر في كراهية سترندبرج للمرأة هو نفس السر الذي جعل الأديب اليوناني الكبير يوريبيدز ألد أعدائها منذ أربعة وعشرين قرنا، فلقد تزوج كل منهما وفشل في زواجه ثلاث مرات وكانت زوجاتهما هن اللائي طلبن الطلاق وعملن له حتى حصلن عليه، وبذا كانت نظرة كل من الأديبين الكبيرين للمرأة نظرة سوداء كلها شؤم وكلها موجدة، وقد وجد يوريبيدز من ينتقم منه للمرأة بعد موته وكان ذلك هو أرسطوفان الروائي الفكاهي الخبيث الذي وضع معظم دراماته في الطعن على يوريبيدز والتشهير به وبآرائه. أما سترندبرج فقد مات ولم يشعر به أحد، لأن إبسن كان يدعو إلى تحرير المرأة دعوة حارة صادقة استجابت لها أوربا بأسرها، وبدأ العالم كله يستجيب لها حتى في مجاهل

ص: 75

آسيا وأواسط أفريقيا المظلمة

ولد إبسن سنة 1828 في بلدة سكين في جنوب النرويج ومات سنة 1906

وولد سترندبرج في ستوكهلم سنة 1849 ومات سنة 1912

هزيمة غاندي وانتصار طاغور

انهزم غاندي، وأسدل الستار على الفصل الأخير من درامة المهاتما، ولو قد مات غاندي في إبان مقاومته لإنجلترا في حركة العصيان المدني لاعتبره المؤرخون لغزاً كما لو كان نابليون قد مات بعد يينا أوتِلست. . . ولكن القدر الساخر يأبى إلا أن يلطخ البطولة ويفضحها. . . وذلك بطول العمر!! والحقيقة أن طاغور لم يكن يوماً من الأيام راضياً عن وسائل غاندي، وكان يتهمه بالتهريج والشعوذة كلما رآه يحبذ كهانات الهند ويدمج عقليته في صميم عقلية الجماهير. وكانت غضبة طاغور على المهاتما شديدة قاسية سنة الزلزال المشهور الذي خسف جانباً من الأرض، لأن غاندي عزا الزلزال إلى سخط الإله وغضبه ولم يعزه إلى أسبابه الجغرافية التي يتعلمها صغار التلاميذ في المدارس. ويبدو أن لقب مهاتما أثر أثراً سيئاً في روح غاندي، وملأه بشعور النبوة إن لم يكن الألوهية، ودليلي ذلك ادعاءه غير مرة أنه يصوم بأمر الإله. . . وأنه لم يفعل كذا إلا بعد أن سمع صوت الإله يناديه ويناشده. وقد كانت أول هزيمة غاندي في تجرده من زعامته السياسية وتفرغه للزعامة الاجتماعية. . . وبذا فقد الزعامتين جميعاً، مع أن كثيرين حبذوا تصرف غاندي أول الأمر ولا سيما بعد أن أعلن أنه سيفرد جهاده لخير المنبوذين. . ولكنه، ويا للأسف، أراد من المنبوذين أن يطيعوا الشرائع ويؤدوا ما فرضت عليهم. . . أي أنه لم يحللهم من مبادئ النجاسة. . . ثم غلا هو في امتثاله أوامر دينه فلم يبرح يقدس البقرة ويتبرك بروثها ويتطهر ببولها. . . وذلك ما عيّره به ابنه الذي هداه الله إلى الإسلام أخيراً. . . والحقيقة أن سلوك غاندي الأخير لا يطاق، بل كان سبباً في ثورة الشباب ضده، وتألبهم عليه، واعتبارهم إياه سبب ضعف الهند وخضوعها

وفي هزيمة غاندي انتصار لطاغور من غير ريب. . . رابندرانات طاغور شاعر الهند وأديبها الأشهر وفنانها العظيم. . . الرجل الذي خدم الهند بشهرته العالمية في دولة الآداب أكثر مما خدمها غاندي بسياسته العقيمة وأساليبه الرجعية الواهية لقد كان طاغور يمقت من

ص: 76

غاندي عداءه للجسم وتوهينه له وتهريجه لروح على حسابه، وكان يرى أن الجسم نصف الإنسان والروح نصفه الآخر، وأنه ينبغي أن يعنى بهما بمقدار واحد، لا أن نوهن أحدهما على حساب الآخر، فليس روح سليم إلا في جسم سليم، وقد ظل طاغور يشهر من أدبه أسلحة مهلكة على تعاليم غاندي، وبذلك تم له الفوز، وانتشل من يديه شباب بلاده الذين أخذوا يدمنون قراءة قصصه بشغف وتلذذ، بعد ما كانوا يكرهونها بسبب غاندي

قصص طاغور

كان طاغور شاعر قبل أن يكون قصصياً، وأشعاره هي غناء الروح، وبلسم القلوب الجريحة، وشفاء النفوس المكلومة؛ وأغانيه هي هتاف الغاب، وموسيقى أحراش البنغال، ورفيف النسيم الحلو على حقول الأرز فوق عُدْوَتي الكنج! ومن أمتع أشعاره التي كتبها بالإنجليزية (البستاني حيث تبدو مهارته في مزج الحب بالبكاء، والألم بالغزل، والعبوس بالابتسام

وبين طاغور الشاعر وطاغور القصصي صلة لا تنفصم، ذلك أنه يضفي روحه الشعرية على قصصه، فتخرج قصائد طويلة منثورة تنقع غلة القلب، وتؤدب النفس، وتسمو بقارئها فوق أدران البشرية، وتحلق به في سموات من النقاء والصفاء

بيد أننا نفضل أقاصيص طاغور على قصصه، وذلك لبراعته التامة في كتابة القصة القصيرة، وفشله الذريع في القصة الكبيرة؛ فمن يقرأ مثلاً روايته (الضحية)، أو (وكيل البريد)، أو (خالتي)، أو (الناسك). . . . . . الخ روعه من طاغور ذلك الخيال الخصب، والتفكير العميق، والفن الكامل في كتابة القصة أو الرواية

ولكنا، بكل أسف، حينما قرأنا قصته الطويلة (الغرق) وجدناه ينحدر عن ذروته السامية التي كان يحلق فوقها في القصة القصيرة، وذلك لأنه كان كلما وقع خلال القصة في ورطة، أو وصل إلى عقدة لم يجد منها مخرجاً إلا بالركون إلى (الصُّدفة)، ولذا كانت القصة كلها مصادفات قللت كثيراً من قيمتها كقصة من فن طاغور. ذلك بالرغم مما فيها من طلاء الأسلوب وحلاوة الروح الشعري الجميل الأخاذ.

(د. خ)

ص: 77

‌البريد الأدبي

العيد المئوي للصحافة الشعبية

نشأت الصحافة الحديثة منذ نحو قرن ونصف قرن، وكثير من الصحف الأوربية الكبرى قد جاوز العيد المئوي؛ ولكن الصحافة الشعبية أو بعبارة أخرى الصحافة المعاصرة التي نقرؤها اليوم ترجع إلى مائة عام فقط؛ وكانت الصحف قبل مائة عام أداة من أدوات الترف، لا يحرزها سوى الأغنياء، وكانت في الغالب صحفاً أدبية فلسفية، قلما تفسح لما نسميه اليوم بالأخبار المحلية مجالا كبيراً. وقد أدرك سر هذا النقص صحفي فرنسي بارع هو أميل دي جيراردان؛ وكان كاتباً ساحر الأسلوب بدأ حياته الأدبية بإصدار رواية عنوانها (أميل) يقص فيها سيرة حياته؛ ثم خطر له أن يصدر مجلة أسبوعية أدبية، ينقل فيها أحسن المقالات والقصص عن الصحف الأخرى وسماها (السارق) دلالة على خطبتها في النقل؛ بيد أنه تطرف بعد ذلك إلى مشروع أهم، فقد خطر له أن يصدر صحيفة يومية شعبية رخيصة الثمن تحتوي على أهم الأخبار الأخيرة؛ وفي أوائل يوليه سنة 1836، أعني منذ مائة عام، أصدر جيراردان جريدة الصحافة وقدمها للجمهور بنصف الثمن المعتاد وجعل اشتراكها السنوي أربعين فرنكا فقط، فكانت فكرته فتحاً جديداً في عالم الصحافة، ولأول مرة أقبل الجمهور المتوسط على اقتناء الصحف، واستطاع لأول مرة أن يقرأ الأخبار الأخيرة بصورة منتظمة متوالية

وكان هذا بدء الصحافة المعاصرة التي تطورت حتى أصبحت بمحتوياتها الأدبية والخبرية ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية

طبعة جديدة من الأنيس المطرب

تصدر الآن بالمغرب الأقصى (بمدينة الرباط) طبعة جديدة لتاريخ ابن أبي زرع الفاسي المسمى (الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس)؛ وقد ظهر من هذه الطبعة الجديدة الجزء الأول، وحققه وعلق عليه الأستاذ محمد الهاشمي الفيلالي من أدباء فاس، وأخرجته شركة النشر المغربية التي ألفت أخيراً بالمغرب من بعض الأدباء لتعني بإحياء الآداب المغربية

وتاريخ ابن أبي زرع مشهور بين التواريخ المغربية، وهو يتناول تاريخ المغرب ودوله

ص: 79

منذ دولة الأدارسة إلى زمن المؤلف (سنة 726هـ)؛ وقد ظهر لأول مرة في مدينة أوبسالا في السويد محققاً بعناية المستشرق كارل تورنبرج، ومقروناً بترجمة لاتينية (سنة 1843 - 1846)؛ ثم طبع بعد ذلك بفاس أكثر من مرة. ولكن هذه الطبعات جميعها كانت مشحونة بالأخطاء التاريخية واللغوية؛ ولهذا رأى بعض أدباء المغرب أن الوقت قد حان لإظهاره في ثوب جديد

وقد تصفحنا الجزء الذي صدر منه الطبعة الجديدة فألفينا فيه أثر العناية بالتحقيق والتصحيح، وهو يقع في أكثر من مائة وثمانين صفحة من القطع الكبير، ويشمل تاريخ المغرب حتى أوائل القرن الخامس الهجري (سنة 410هـ)

فنرجو لإخواننا الأدباء المغاربة كل توفيق ونجاح في مشروعهم الأدبي؛ ونرجو أن يتلو إخراج الأنيس المطرب إخراج بعض الآثار المغربية الأخرى، ولا سيما المخطوط منها

وفاة الدكتور سنوك هور جرونيه المستشرق الهولندي

توفي في ليدن المستشرق الهولندي الدكتور سنوك هور جرونيه يوم السبت 4 يوليو في الحادية والثمانين من عمره

وقد ولد في 8 فبراير سنة 1857، وبعد ما أتم دراسته العالية في علوم الفقه واللغات الشرقية رحل إلى بلاد العرب، وكانت رحلته إليها متأخرة عن رحلة السر رتشرد برتون المشهورة نحو ثلاثين سنة، فتمم بالمعلومات التي جمعها معلومات السر تشرد برتون ومباحثه

نزل في جدة في خريف سنة 1885، فقضى على سواحل البلاد خمسة أشهر قبل أن يقصد إلى مكة المكرمة في زي طبيب عالم، فقضى في مكة خمسة أشهر درس في خلالها المجتمع العربي هناك بين وصول قوافل الحجاج ورجوعها، ولولا وشاية قنصل فرنسا به لاستطاع أن يطيل إقامته هناك، ولكن قنصل فرنسا أنبأ السلطات التركية بوجود هورجورنيه في مكة فأخرج منها

وفي سنة 1888 - 1889 أصدر كتابه (مكة) في مجلدين وقد جاء وصفه لمدينة الكعبة مؤيداً لدقة وصف بوخاردث؛ أما وصفه للمجتمع العربي في مكة فكان دقيقاً ومسهباً: وصف الأسواق والعبيد والأماكن المقدسة وحراسها والبيوت والأعياد والولائم والفضائل

ص: 80

والنقائص، وكان بحثه في حياة المدن ببلاد العرب مدققاً؛ ولكن يقال أنه كان يعوزه شيء من العطف لكي يخرج تاماً، وهذه الصفة صفة العطف مكنت بالجريف ودرطي من الامتياز والتفوق فيما كتباه عن حياة الجزيرة

وبعد ما أتم هورجرونيه كتابه عن بلاد العرب رفض أن يعين أستاذاً للغة العربية في جامعة كمبردج خلفاً للأستاذ روبرتسن سمث، وكذلك رفض ما عرض عليه من هذا القبيل في ألمانيا وليدن، مفضلاً أن يمضي في دراساته الإسلامية في جزائر الهند الشرقية التابعة لهولندا حيث بقي بضع سنوات مستشاراً للحكومة في الشؤون الإسلامية

وعاد إلى هولندا سنة 1906 وقبل أن يشغل منصب أستاذ للغة العربية في جامعة ليدن. وفي سنة 1907 عين مستشاراً في الشؤون الهندية والعربية لحكومة جزائر الهند الشرقية الهولندية

مجلة خاصة لمسائل الأجناس

صدرت أخيراً بمدينة شتوتجارت بألمانيا مجلة خاصة لمسائل الأجناس بعنوان (مجلة لمباحث الأجناس والمعروف أن مسألة الأجناس تتخذ في ألمانيا الحاضرة أهمية خاصة؛ وأنها في مقدمة النظريات الهتلرية التي تسيطر اليوم على ألمانيا، وأن الآرية وغير الآرية أصبحت أساس الدولة النازية الحاضرة، وأساس الاضطهاد المنظم الذي تنظمه ألمانيا ضد اليهود وضد جميع الأجناس السامية؛ ومن ثم فقد أضحت المباحث والنظريات الخاصة بالأجناس في مقدمة المسائل التي يعنى بها الكتاب والعلماء الألمان اليوم؛ وقد صدر من المجلة المشار إليها عددان حافلان بهذه المباحث؛ ويحررها الدكتور فون ايكشتيت، وافتتحها ببحث من قلمه يذهب فيه إلى أن نظريات الأجناس قد تطورت اليوم تطورا عظيما؛ فمنذ عصر (تيريك) حيث كانت الجمحمة البشرية تقاس في مائة موضع لكي تعرف خواصها، نرى علم الأجناس اليوم يميل إلى الحياة، ويميل بالأخص إلى بحث الخواص العامة؛ وعرض إلى مسألة الذكاء، وكونه هبة لبعض الأجناس؛ وكون الموهوبين يهاجرون دائماً من القرية إلى المدينة، فتقفر القرية دائماً من الذكاء الموهوب؛ وهذا عامل يسيء في تكوين المجتمع الحاضر؛ وفي المجلة الحاضرة بحوث أخرى في هذا الباب لأشهر العلماء الألمان الذين يشتغلون بها

ص: 81

كتاب جديد لمسيو هانوتو

المسيو هانوتو الوزير الفرنسي السابق مؤرخ كبير، وله عدة مؤلفات تاريخية قيمة، وقد اشترك في وضع بعض أجزاء سلسلة التاريخ المصري التي تصدر بالفرنسية، وإن كان هذا الاشتراك لم تسفر عنه نتائج علمية باهرة. وقد أصدر أخيراً كتاباً عن علائق نابليون وأسرة بوهارنيه الشهيرة التي تنتمي إليها زوجته الأولى جوزفين بوهارنيه عنوانه (آل بوهارنيه والإمبراطور) ' وكان قد نشر قبل ذلك كتاباً عن الملكة هورتنس ابنة جوزفين من زوجها الأول، وفي الكتاب الجديد يقدم إلينا مسيو هانوتو سلسلة من الرسائل التي وجهتها جوزفين إلى ولدها البرنس أوجين؛ وتلقي هذه الرسائل كبير ضوء على الصراع الذي كان ناشباً وراء الستار بين آل بونابارت (أسرة الإمبراطور) وبين آل بوهارنيه (أسرة الإمبراطورة)؛ وقد كانت أسرة الإمبراطورة دائماً على أهبة للتفاهم والوفاق كما يدل على ذلك خطاب من جوزفين لولدها تقول فيه:(إن أولئك الناس لا حق لهم جميعاً في بغضنا، ولو أحسنوا موقفهم لما وجدوا أصدقاء أخلص منا)

وقد كان نابليون يدافع دائماً عن جوزفين حتى بعد طلاقها منه، وكانت جوزفين تخلص له دائماً حتى بعد زواجه؛ ولكنها بعد مصائب سنة 1814، أدركت أن الخاتمة قد وقعت، وكتبت إلى ولدها تقول له إنه غدا حراً لا تربطه نحو الإمبراطورية رابطة ولاء بعد، وأنه يستطيع أن يعمل لأسرته بعد أن اختفى الإمبراطور من الميدان

ص: 82