الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 159
- بتاريخ: 20 - 07 - 1936
(إلى صاحب السعادة المحافظ)
أمين أفندي الحاوي (كاتب عمومي) له في هذه الصناعة القدم الأولى والمكان المنفرد. حفظ في صدر أيامه كتابي: (إنشاء العطار، للمحبين والتجار)، و (أبدع الأساليب، في العرائض والمكاتيب)، وهما كتابان يجمعان أعاجيب شتى مما يخطر للبكم من أهل الهوى، ويعرض للجهال من ذوي الحاجة. ثم دخل الجندية في (قرعة الخديوي عباس)، وهي القرعة التذكارية التي طلب فيها لداته (للجهادية)؛ فكان يكتب لرفاقه الجنود رسائل الشوق والعشق والسلام كل رسالة بنصف قرش. فلما خرج من الجيش العامل إلى (الرديف) سلك نفسه في نظام (البوليس) تسع سنين كوامل، ازداد فيها علما بطرائق النظام وطوائف الحكام وأحوال المجتمع؛ وكان من الممكن أن يتقلب في نعيم الشرطة مدة اطول، ولولا إن خيرها الدفاق في يده من الشوارع والحوانيت قد فاض على جسمه فتراكب لحمه، وتدلى بطنه، واستغار فيه الشحم حتى كاد ينقطع قيامه، فلم يكن بد من الحكم عليه بهذه الحجة القائمة على طِماح عينه، وطول يده، وقعود همته؛ فخرج إلى حياة (التحرير)، وهي منذ شب حديث عبقريته ومطمح امانيه، واتخذ له مكتبا تحت السماء أمام (سراي المحافظة)، وألقى حيله الموهوبة والمكسوبة في غمرة الحياة وزحمة العيش، فعادت له بالشهرة الرابحة في دنيا القضايا والشكايا والسمسرة. فكانت العريضة أو الرسالة أو (الكمبيالة) التي يحررها الحاوي، أملاً لحرفائه في ضمان الفوز، ومثلا لزملائه في فن الكتابة. ثم تدخل في زوايا البيوت، وتغلغل في طوائر السرائر، وتبسط على موائد الانس، وتفنن في أساليب الوساطة، فكان دليل (الخاطب)، ونديم الشارب، وسلوة المحزون، وسمسار المشتري، ووكيل المدعي، وسفير الخصوم، ورسول الأحبة. تراه اكثر النهار على مقعده الخشبي الضيق في جلباب فضفاض من الكستور المخطط، ومعطف رقيق من النسيج المهلهل، ورغائب الناس تنثال عليه انثيال النحل العاسلة على الخلية الضخمة: هذا صاحب مظلمة يريد عرض حال، وذاك طالب مصلحة يتلمس طريق المسعى، وتلك زوجة هاجر أو حبيبة فاجر تطلب المعونة من قلمه أو لسانه، وهذا رافع دعوى يرغب توكيل عام، وذلك زميل عجلان يطلب كلمة لغوية أو جملة نحوية يزين بها رسالته الغالية الثمن (لزبونته) الرفيعة القدر، وأمين الأريب في يده قلم، وفوق أذنه قلم، وعلى شفته بسمات تتعاقب مختلفات في السعة واللون والدلالة، يتلقى كل طالب برغبته، وكل سائل بجوابه. وهو بعد ذلك لكثرة ما يغشى بيوت الناس
عارف بأحاديث الأسر، عالم بأحداث المجامع، خبير بألوان المطاعم، فعنده قصة كل زوجين، وخبر كل صديقين، وخصيصة كل صفحة من صحاف المائدة، فالقرع شفاء من كل داء، والرز نصيب الأرض من حقول السماء؛ وفي الكبد خروق لا تسدها إلا الملوخية، وفي الجسم عروق لا ينبضها إلا الكنافة
من عادة أمين أفندي أن يزورنا كما يزور غيرنا حينا بعد حين، فيمتعنا ساعة بأخباره وأسراره ونوادره، ثم ينصرف وتحت إبطه رزمة مما تكدس عندنا من المجلات المقروءة. دخل علينا أمس جاداً على غير عادته، وقوراً على خلاف طبعه؛ ولم يكد يلقي التحية حتى ألقى إلي في شيء من الزهو صحيفة مسطرة من ورق (العرائض) وفي رأسها بقلم الثلث:(إلى صاحب السعادة المحافظ)، وفي ذيلها بقلم الرقعة:(ابن الحاوي)، وقال:
كتاب مفتوح إلى سعادة المحافظ عن طريق الرسالة. أتنشره أم تطويه؟
فقلت له: وماذا تريد من سعادة المحافظ يا أمين أفندي؟
فقال: قرأت في الصحف انه ألغى (مصايف الأطفال)، فهزني الخبر، وملكتني شهوة الكلام، فكتبت إليه هذا الكتاب أريد منه أن يضيف نقطة من بحر كرمه إلى (مصايف)، فتصبح بفضله (مضايف)! والكتاب بين يديك فاقرأ
قرأت الكتاب في غمر من أحاسيس شتى تتلون تباعا بالإعجاب والإنكار، والحزن والضحك، والانفعال والتبلد؛ ثم قلت له: أنى اقبل كتابك موضوعا وارفضه شكلا، لأنك عرفت كيف تفكر، ولم تعرف كيف تعبر؛ ولغة الدواوين وأسلوب (العرائض) لا يدخلان من أبواب الرسالة؟
فقال وقد طغى في وجهه الدم، ونزا في رأسه الغضب، وانتشر على شفتيه شاربه الأزرق: كيف! لقد حفظت الكفراوي، ولزمت الشيخ عليش، وصحبت الشيخ رشيد، وجادلت الأستاذ وجدي، وقضيت في (التحرير) أربعين عاماً! أفتجابهني بعد ذلك بأنني لا اعرف كيف اكتب؟! فقلت له: هون عليك! سأكتب لك هذا الكتاب بلغة المجلات فإن أعجبك أمضيته. ثم شرعت اكتب: (صاحب السعادة محافظ القاهرة:
(يتقدم إليك بهذه الكلمة والد فقير كابد من نصب العيش وعنت البؤس وتربية الأولاد ما جعله مثلا صحيحا لآلام طبقته. انك ألغيت (مصايف الأطفال) فألغيت حقا كسبه الفقير من
الغني، وأخذته العامة من الخاصة. كان هذا الحق لنقصه وقصوره كنظرة أهل النار إلى أهل الجنة يضاعف ألم الحرمان ويجسم شقاء البؤس، ولكنه على أية حال كان ترضية لكرامة الشعب
ولقد كان في نفسي أن اطلب إلى وزارة الأمة أن تجعل المصايف مضايف تؤوي شرداء الطفولة وطرداء الفاقة، فتنقلها بذلك من الخصوص إلى العموم، وتحولها من تملق الكمال إلى معالجة الضرورة. فأفاريز الشوارع وأفواه الطرق وزوايا الأبنية مغطاة في الليل القارس القاسي بجسوم اليتامى والهمل من أطفال القاهرة، تترعرع في أحضانهم القذرة أغراس الرذيلة، وتتكاثر على روائحهم الكريهة جراثيم المنكر، والملاجئ وحدها علاج هذه الحال الأليمة. فإذا كان هذا الإلغاء لسد هذا الخلل وإصلاح هذا الفساد، فما عدوت الصواب ولا أخطأت الحزم؛ وأما إن كان لقلة المال أو ضعف الرغبة فقد قضيت على فكرة جميلة واعتديت على حق مقدس. . .). . .
وكان أمين قد سكت عنه الغضب، فنظر فيما اكتب ثم قال منفعلا: ما هذا؟ أين (الديباجة)؟ وأين ما يجب لمثل هذا العظيم من عبارات التفخيم؟ أرجو ألا تكمل! سآخذ كتابي وأسلمه إلى الباشا يداً بيد! فقلت له: أرحتني أراحك الله! وسلمته الكتاب يداً بيد، ثم صافحته يداً بيد. وخرج الحاوي وأنا ارجح أنى كسبت عدوا جديداً من جراء النشر في الرسالة
أحمد حسن الزيات
أحلام في قصر
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
كان فلان بن الأمير فلان يتنبَّل في نفسه بأنه مشتقٌ ممن يضع القوانين لا ممن يخضع لها، فكان تياها صلفا يشمخ على قومه بأنه ابن أمير، ويختال في الناس بان له جداً من الأمراء، ويرى من تجبره أن ثيابه على أعطافه كحدود المملكة على المملكة لان له أصلاً في الملوك
وكان أبوه من الأمراء الذين ولدوا وفي دمهم شعاع السيف وبريق التاج، ونخوة الظفر، وعز القهر والغلبة؛ ولكن زمنه ضرب الحصار عليه، وأفضت الدولة إلى غيره فتراجعت فيه ملكات الحرب من فتح الأرض إلى شراء الأرض، ومن تشييد الإمارات إلى تشييد العمارات، ومن إدارة معركة الأبطال إلى إدارة معركة المال؛ وغبر دهره يملك ويجمع حتى أصبحت دفاتر حسابه كأنها (خريطة) مملكة صغيرة
وبعض أولاد الأمراء يعرفون أنهم أولاد أمراء فيكونون من التكبر والغرور كأنما رضوا من الله أن يرسلهم إلى هذه الدنيا ولكن بشروط. . . .
وانتقل الأمير البخيل إلى رحمة الله، وترك المال واخذ معه الأرقام وحدها يحاسب عنها، فورثه ابنه وأمرَّ يده في ذلك المال يبعثره؛ وكانت الأقدار قد كتبت عليه هذه الكلمة: غير قابل للإحسان، فمحتها بعد موت ابيه، وكتبت في مكانها هذه الكلمة: جمع للشيطان
أما الشيطان فكان له عمل خاص في خدمة هذا الشاب، كعمل خازن الثياب لسيده، غير انه لا يلبسه ثيابا بل أفكاراً وآراءً وأخيلةً. وكان يجهد أن يدخل الدنيا كلها إلى أعصابه ليخرج منها دنيا جديدة مصنوعة لهذه الأعصاب خاصة، وهي أعصاب مريضة ثائرة متلهبة لا يكفيها ما يكفي غيرها فلا تبرح تسأل الشيطان بين الحين والحين: إلا توجد لذة جديدة غير معروفة؟ ألا يستطيع إبليس القرن العشرين أن يخترع لذة مبتكرة؟ ألا تكون الحياة إلا على هذه الوتيرة من صبحها لصبحها؟
كان الشاب كالذي يريد من إبليس أن يخترع له كأساً تسعُ نهرا من الخمر، أو يجد له امرأة واحدة وفيها كل فنون النساء واختلافهن. وكان يريد من الشيطان أن يعينه في اللذة على الاستغراق الروحاني ويغمره بمثل التجليات القدسية التي تنتهي إليها النفس من حدة الطرب وحدة الشوق؛ وذلك فوق طاقة إبليس، ومن ثم كان معه في جهد عظيم حتى ضجر
منه ذات مرة فهم أن يرفع يده عنه ويدعه يدخل إلى المسجد فيصلي مع بعض الأمراء الصالحين
وهؤلاء الفساق الكثيرو المال إنما يعيشون بالاستطراف من هذه الدنيا، فهمهم دائما الألذُّ والأجمل والأغلى؛ ومتى انتهت فيهم اللذة منتهاها ولم تجد عاطفتهم من اللذات الجديدة ما يسدها ضاقت بهم فظهرت مظهر الذي يحاول أن ينتحر. وذلك هو الملل الذي يبتلون به، والفاسق الغني حين يمل من لذاته يصبح شأنه مع نفسه كالذي يكون في نفق تحت الأرض ويريد هناك سماءً وجواً يطير فيهما بالطيارة. . .
قالوا: واعترض ابن الأمير ذات يوم شحاذ مريض قد أسنَّ وعجز يتحامل بعضه على بعض، فسأله أن يحسن إليه وذكر عوزه واختلاله وجعل يبثُه من دموعه وألفاظه. وكان إبليس في تلك الساعة قد صرف خواطر الشاب إلى إحدى الغانيات الممتنعات عليه وقد ابتاع لها حلية ثمينة اشتط بائعها في الثمن حتى بلغ به عشرة آلاف دينار، فهو يريد أن يهديها إليها كأنها قدر من قادر. . . وقطع عليه الشحاذ المسكين أفكاره المضيئة في الشخص المضيء فكان إهانةً لخياله السامي. . . ووجد في نفسه غضاضةً من رؤية وجهه واشمأز في عروقه دم الإمارة وتحركت الوراثة الحربية في هذا الدم
ثم ألقى الشيطان إلقاءه عليه، فإذا هو يرى صاحب الوجه القذر كأنما يتهكم به يقول له: أنت أمير يبحث الناس عن الأمير الذي فيه فلا يجدون إلا الشيطان الذي فيه. وليس فيك من الإمارة إلا مثل ما يكون من التاريخ في الموضع الأثرى الخرب. ولن تكون أميراً بشهادة عشرة الآلاف دينار عند مومس، ولكن بشهادة هذا المال عند عشرة آلاف فقير. أنت أمير، فهل تثبت الحياة انك أمير أو هذا معنى في كلمة من اللغة؟ إن كانت الحياة فأين أعمالك، وإن كانت اللغة فهذه لفظة بائدة تدل في عصور الانحطاط على قسط حاملها من الاستبداد والطغيان والجبروت، كأن الاستبداد بالشعب غنيمة يتناهبها عظمائه، فقسم منها في الحاكم وقسم في شبه الحاكم يترجم عنه في اللغة بلقب أمير
ألا قل للناس أيها الأمير: إن لقبي هذا إنما هو تعبير الزمن عما كان لأجدادي من الحق في قتل الناس وامتهانهم
وكان هذا كلاما بين وجه الشحاذ وبين نفس ابن الأمير في حالة بخصوصها من أحوال
النفس، فلا جَرَم أُهين الشحاذ وطرد ومضى يدعو بما يدعو
ونام ابن الأمير تلك الليلة فكانت خيالتُه من دنيا ضميره وضمير الشحاذ: فرأى فيما يرى النائم أن ملكا من الملائكة يهتف به:
ويلك! لقد طردت ذلك المسكين تخشى أن تنالك منه جراثيم تمرض بها، وما علمت أن في كل سائل فقير جراثيم أخري تمرض بها النعمة؛ فإن أكرمته بقيت فيه وإن أهنته نفضها عليك. لقد هلكت اليوم نعمتك أيها الأمير واستردَّ العارية صاحبها وأكلت الحوادث مالك فأصبحت فقيراً محتاجاً تروم الكسرة من الخبز فلا تتهيأ لك ألا بجهد وعمل ومشقة؛ فاذهب فاكدح لعيشك في هذه الدنيا فما لأبيك حق على الله أن تكون عند الله أميراً
قالوا: وينظر ابن الأمير فإذا كلُّ ما كان لنفسه قد تركه حين تركه المال، وإذا الإمارة كانت وهما فرضه على الناس قانون العادة، وإذا التعاظم والكبرياء والتجبر ونحوها إنما كانت مكْراً من المكر لإثبات هذا الظاهر والتعزز به. وينظر ابن الأمير فإذا هو بعد ذلك صعلوكٌ ابتر مُعدم رثَّ الهيئة كذلك الشحاذ، فيصيح مغتاظاً: كيف أهملتني الأقدار وأنا ابن الأمير؟
قالوا: ويهتف به ذلك الملك: ويحك إن الأقدار لا تدلل أحداً لا ملكا ولا ابن ملك ولا سوقياً ولا ابن سوقي، ومتى صرتم جميعاً إلى التراب فليس في التراب عظم يقول لعظم آخر: أيها الأمير
قالوا: وفكر الشاب المسكين في صواحبه من النساء وعندهن شبابه وإسرافه، ونفقاته الواسعة فقال في نفسه: اذهب لإحداهن؛ واخذ سمته إليها فما كادت تعرفه عيناها في أسماله وبذاذته وفقره حتى أمرت به فجر بيديه ودُفع في قفاه. ولكن دم الإمارة نزا في وجهه غضباً وتحركت فيه الوراثة الحربية فصاح واجلب واجتمع الناس عليه واضطربوا وماج بعضهم في بعض. فبينا هو في شأنه حانت منه التفاته فابصر غلاماً قد دخل في غمار الناس فدس يده في جيب أحدهم فنشل كيسه ومضى
قالوا: وجرى في وهم ابن الأمير أن يلحق بالغلام فيكبسه كبسة الشرطي وينتزع منه الكيس وينتفع بما فيه، فتسلل من الزحام وتبع الصبي حتى أدركه، ثم كبسه واخذ الكيس منه واخرج الكنز فإذا ليس فيه إلا خاتم وحجاب وبعض خرزات مما يتبرك العامة بحمله ومفتاح صغير. . .
فامتلأ غيظا وفار دم الإمارة وتحركت الوراثة الحربية التي فيه. وألم الصبي بما في نفسه وحدس على إنه رجل أفاق متبطل لا نفاذ له في صناعة يرتزق منها، فرثى لفقره وجهله ودعاه إلى أن يعلمه السرقة وأن يأخذه إلى مدرستها. وقال: إن لنا مدرسة فإذا دخلت القسم الإعدادي منها تعلمت كيف تحمل المِكتل فتذهب كأنك تجمع فيه الخرق البالية من الدور حتى إذا سنحت لك غفلة انسللت إلى دار منها، فسرقت ما تناله يدك من ثوب أو متاع، ولا تزال في هذا الباب من الصنعة حتى تحكمه، ومتى حذقته ومهرت فيه انتقلت إلى القسم الثانوي. . .
فصاح ابن الأمير: اغرب عني، عليك وعليك، أخزاك الله! ولعن الله الإعدادي والثانوي معاً
ثم انه رمى الكيس في وجه الغلام وانطلق، فبينا هو يمشي وقد توزعته الهموم أنشأ يفكر فيما كان يراه من المكدِّين وتلك العلل التي ينتحلونها للكدية كالذي يتعامى والذي يتعارج والذي يحدث في جسمه الآفة؛ ولكن دم الإمارة اشمأز في عروقه وتحركت فيه الوراثة الحربية؛ وبصر بشاب من أبناء الأغنياء تنطق عليه النعمة فتعرض لمعروفه وأفضى إليه بهمه وشكا ما نزل به ثم قال: وأني قد أملتك وظني بك أن تصطفيني لمنادمتك أو تلحقني بخدمتك، وما أريد إلا الكفاف من العيش، فإن لم تبلغ بي فالقليل الذي يعيش به المقل. وصعد فيه الشاب وصوب ثم قال له، أتحسن إن تلطف في حاجتي؟ قال: سأبلغ في حاجتك ما تحب. قال الشاب، ألك سابقة في هذا؟ أكنت قواداً؟ أتعرف كثيرات منهن. . . .؟
فانتفض غضباً وهم أن يبطش بالفتى لولا خوفه عاقبة الجريمة، فاستخذى ومضى لوجهه، وكان قد بلغ سوقاً فأمَّل أن يجد عملا في بعض الحوانيت، غير أن أصحابها جعلوا يزجرونه مرة ويطردونه مرة، إذ وقعت به ظنَّةُ التلصص، وكادوا يسلمونه إلى الشرطي فمضى هارباً وقد اجمع أن ينتحر ليقتل نفسه ودهره وإمارته وبؤسه جميعاً
قالوا: ومر في طريقه إلى مصرعه بامرأة تبيع الفجل والبصل والكرات وهي بادنة وضيئة ممتلئة الأعلى والأسفل، وعلى وجهها مسحة اغراء، فذكر غزله وفتنته وإستغواءه للنساء، ونازعته النفس، وحسب المرأة تكون له معاشاً ولهواً، وظنها لا تعجزه ولا تفوته وهو في هذا الباب خرَّاجٌ ولاَّجٌ منذ نشأ، غير انه ما كاد يراودها حتى ابتدرته بلطمة اظلم لها الجو
في عينيه، ثم هرت في وجهه هريراً منكراً واستعدت عليه السابلة فأطافوا به وأخذه الصفع بما قدم وما حدث، ومازالوا يتعاورونه حتى وقع مغشيا عليه
ورأى في غشيته ما رأى من تمام هذا الكرب فضرب وحبس وابتلي بالجنون وأرسل إلى المارستان وساح في مصائب العالم وطاف على نكبات الأمراء والسُّوقة بما يعي وما لا يعي، ثم رأى انه قد أفاق من الإغماء فإذا هو قد استيقظ من نومه
ويا ليت من يدري بعد هذا؛ أغدا ابن الأمير على المسجد وأقبل على الفقراء يحسن إليهم، أم غدا على صاحبته التي امتنعت عليه فابتاع لها الحلية بعشرة آلاف دينار؟
يا ليت من يدري! فإن الكتاب الذي نقلنا القصة عنه لم يذكر من هذا شيئاً بل قطع الخبر عندما انقطع الصفع. . . . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
فوز نسوي جديد
ملكات ووزيرات
بين الماضي والحاضر
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ فجر التاريخ استطاعت المرأة أن تتبوأ الملك وان تحكم الشعوب؛ وهي مازالت تتبوأ الملك وتحكم الشعوب في عصرنا
ويقدم إلينا التاريخ منذ العصور الغابرة ثبتاً حافلاً من ملكات عظام شغلن عروشا خطيرة، وألقيت إليهن مصاير أمم وشعوب عظيمة، وقمن بتدبير الملك وقيادة الجيوش؛ ففي مصر الفرعونية، وفي مملكة سبأ، وفي تدمر، يتبوأ الملك نساء قويات العزم والشكيمة؛ وفي مصر أيضاً نرى ملكة رائعة الحسن هي كليوباترا تحاول رد الغزو الروماني عن مصر، وتفتدي الهزيمة بالحياة؛ ثم نرى في عصر الإسلام ملكة مصرية هي شجرة الدر تنظم شؤون الدفاع في مصر إزاء الخطر الصليبي؛ ونرى في الغرب، وفي العصر الحديث، عدة من الملكات العظيمات يسهرن على مصاير اعظم الدول الأوروبية مثل إيزابيلا ملكة قشتالة، وماري تيودور واليصابات ملكتا إنكلترا، وكاترين الكبرى إمبراطورة روسيا، وماريا تيريزا إمبراطورة النمسا
وفي يومنا هذا تتبوأ عرش هولندا أميرة عظيمة هي الملكة ولهلمينا؛ بيد أنه من غرائب الاتفاق ومفارقات الحوادث أن المرأة التي وصلت منذ العصور الغابرة إلى تبوئ العروش وقيادة الدول مازالت تناضل في عصرنا للحصول على ابسط الحقوق العامة التي يتمتع بها الرجل، فإذا ظفرت ببعض هذه الحقوق في بلد من البلاد اعتبر ذلك فوزاً عظيما لقضيتها
وقد وقع أخيرا في فرنسا حادث يعتبر فوزاً عظيما لحركة النسوية؛ ففي الوزارة الفرنسية الجديدة التي يرأسها زعيم الاشتراكية الفرنسية، مسيو ليون بلوم ثلاث نساء يشغلن مركز الوزارة، وهن مدام سيسيل برونشفيج إحدى زعيمات الحركة النسوية الفرنسية، ومدام ايرين كوري العالمة الكيميائية الشهيرة، ومدام سوزان لاكور الكاتبة الاشتراكية التي اشتهرت بجهودها في سبيل حماية الطفولة
وهذه أول مرة في تاريخ فرنسا تتبوأ فيها المرأة كرسي الوزارة؛ ويزيد الحادث غرابة وطرافة أن أولئك النسوة الوزيرات لازلن كباقي نساء فرنسا، محرومات بنص الدستور من مزاولة أبسط الحقوق العامة، أعني حق الانتخاب، وهو حق تجاهد المرأة الفرنسية للحصول عليه بكل ما وسعت، وتأباه عليها الحكومات والبرلمانات المتعاقبة
ولقد تخلفت فرنسا في هذا الميدان عن باقي الأمم الديموقراطية العظيمة مثل إنكلترا وأمريكا وروسيا حيث تتبوأ المرأة مناصب الحكم ومقاعد النيابة منذ أعوام بعيدة؛ وفي البرلمان الإنكليزي اليوم عدد كبير من النسوة النائبات، وفي الوزارة الإنكليزية القائمة سيدة هي مس بونفيلد وزيرة العمل؛ وفي أمريكا تشغل المرأة مناصب الحكم كثير من الولايات، وتحتل عدداً كبيراً من المقاعد النيابية؛ وفي روسيا السوفيتية تتمتع المرأة بجميع الحقوق السياسية والعامة التي يتمتع بها الرجل، وتشغل كثيراً من مراكز الحكم والنيابة في سائر الإدارات والمجالس السوفيتية، وأحياناً تشغل منصب السفارة، مثل السيدة الكسندرا كولانتاي، التي لبثت مدى حين سفيرة لروسيا في المكسيك ثم في السويد؛ بل نرى المرأة تفوز في بعض الأمم الفتية بحق الانتخاب والنيابة، كما حدث أخيراً في تركيا
كانت الحرب الكبرى ميداناً عظيما لجهود المراة، ففيها استطاعت لأول مرة أن تضطلع بكثير من المهام والأعمال الشاقة، وفيها لقيت الحركة النسوية المعاصرة فرصة عظيمة لنشاطها وظفرها؛ ومنذ غداة الحرب استطاعت المرأة أن تحقق كثيراً من أمانيها ومطالبها، فغزت جميع ميادين الحياة العامة، ونفذت إلى معترك الوظائف والمهن الحرة، وفتحت لها أبواب التعليم الجامعي بسائر أنواعه، ولم تعد تقتصر على مزاولة المهن السلمية الهادئة كالطب والمحاماة والصحافة؛ بل غدت تنافس الرجل في اشق الأعمال وأخطرها، كالهندسة والطيران وبعض الأعمال العسكرية والبحرية، وغيرها مما كان اضطلاعها به يعتبر من قبل ضرباً من المستحيل
ولكن المرأة مازالت ترد بعنف عن حظيرة التشريع والسياسة العليا، وعن مواطن المسؤولية العامة؛ وإذا كانت قد استطاعت أن تفوز في بعض الأمم بحقوق الانتخاب والنيابة، وأن تحتل بعض الوظائف الكبيرة، فإنها مازالت بعيدة جداً عن التأثير في سير السياسة العليا، وسير التشريع القومي؛ ومازال الرجل يستأثر وحده بتوجيه السياسة
والتشريع بعيدا عن تدخل المرأة أو إشرافها. وقد تمضي أجيال أخرى قبل أن تستطيع المرأة أن تغزو هذا الميدان غزوا حقيقياً، أو أن تساهم فيه مساهمة تذكر
وهذه ظاهرة تدعو إلى التأمل؛ فقد أتيح للمرأة، في كثير من العصور أن تتبوأ الملك وأن تقود الأمم، وأن تستأثر بتوجيه السياسة العليا، ولكنها تحرم في عصرنا، وهو عصر تقدمها وظفرها، من تبوء مناصب الحكم والمسؤولية. وبعبارة أخرى، فقد سبق فوز المرأة بالملوكية، فوزها بالوزارة أو ما يماثلها؛ بيد انه ليس من الصعب أن نفسر هذه الظاهرة التاريخية؛ ذلك أن فوز المرأة بالملوكية لم يكن راجعاً في عصر من العصور إلى مواهب ومزايا تؤهلها للاضطلاع بهذا المنصب الخطير، ولكنه كان يرجع دائماً إلى حقوق الأسرة وتطورات الحوادث؛ وقد كانت حقوق الأسرة في الملك تتشح في العصور القديمة والوسطى بنوع من الحق الإلهي، وفي ظل هذا الحق المزعوم الذي كانت تقدسه الشعوب في تلك العصور استطاعت المرأة أن تتبوأ الملك بالوراثة والتعيين لا بالأهلية والاستحقاق
وإذا كان من الإنصاف أن نقول إن المرأة استطاعت في ظل الملوكية أن تقوم أحياناً بمهام الملك والسياسة بقوة وبراعة، فانه يجب ألا ننسى أن وجودها في هذا المركز لم يكن عنوان فوزها الاجتماعي، ولم يكن نهاية في تطور النضال بينها وبين الرجل، وإنه لم يكن اكثر من ظاهرة تاريخية عرضية كما بينا
على أن المرأة لم تقف في توجيه العروش والسياسة عند هذا الموطن الذي ارتفعت إليه في ظل الأسرة والحق الإلهي، بل استطاعت في ظروف كثيرة أن تصل بقوة عزمها ونفوذها إلى التأثير المباشر في توجيه الدول والحكومات؛ ويقدم لنا التاريخ أمثلة طريفة جمة من هذا النوع البارع من النساء. ولم يخل التاريخ الإسلامي نفسه من أمثلة من هذا النوع؛ ففي تاريخ الأندلس نجد امرأة نصرانية بارعة هي صبح النافارية جارية الحكم المستنصر وأم ولده المؤيد، تسيطر بنفوذها على الحكم وعلى حكومة قرطبة زهاء عشرة أعوام، وتؤثر في سياسة القصر والدولة؛ فإذا توفي الحكم نراها تستأثر مدى حين بالوصاية على ولدها المؤيد وتوجه ناصية الشؤون ببراعة ودهاء حتى يسطع نجم المنصور بن أبى عامر (الحاجب المنصور) فيسلبها كل سلطة وكل نفوذ. وفي دولة بن عباد باشبيلية، نرى جارية أخري هي اعتماد الرميكية جارية المعتمد بن عباد وأم أولاده تسيطر على حكومة أشبيلية
مدى حين. وفي أواخر دولة الإسلام بالأندلس نجد امرأة نصرانية هي ثريا زوجة السلطان أبى الحسن النصري ملك غرناطة توجه شؤون الدولة طبق أهوائها وتثير بمساعيها ضرام الحرب الأهلية التي انتهت بسقوط غرناطة في أيدي النصارى. ويقدم إلينا التاريخ الأوروبي نماذج عديدة مدهشة من نساء يسيطرن على الدولة بطرق غير مباشرة، ونكتفي بأن نقدم من ذلك مثلين بارزين: أولهما مثل المركيزة دي بومبادور صاحبة لويس الخامس عشر ملك فرنسا، وقد حلت في البلاط مكان الملكة الحقيقية، وسيطرت مدى أعوام طويلة بنفوذها على شؤون القصر والدولة، تولي وتعزل، وتأمر وتنهي، وتؤثر في توجيه سياسة فرنسا الخارجية أعظم تأثير، وتقبض على مقاليد السلام والحرب. والمثل الثاني هو مثل البارونة بربارة فون كريدنر، وهي سيدة روسية غادرت حياة زوجية نكدة لتعتنق حياة الزهد والتصوف، وقصت علينا حياتها الأولى في كتاب عنوانه (فاليري)، وطافت أرجاء ألمانيا وسويسرا وهي تحض على الزهد واحتقار متاع هذه الحياة الدنيا، ثم ألقت بها المقادير إلى بلاط القيصر اسكندر الأول، فأثرت في نفسه تأثيراً عظيما واستولت على مشاعره وتفكيره؛ وكان يقضي معها كل يوم ساعات عديدة في الصلاة والشورى؛ وقد ظهر تأثير هذه المرأة الغريبة في عقد (المعاهدة المقدسة) الشهيرة، التي عقدها القيصر مع النمسا وبروسيا (سنة 1815) وغرضها الظاهر تنظيم العلائق الدولية طبقا للمبادئ المسيحية، وترويج المحبة الأخوية بين الشعوب، وغرضها الحقيقي مقاومة النزعات والحركات الحرة؛ وكان للبارونة فون كريدنر في الحث على عقدها أعظم أثر، كما إنها لبثت مدى حين توجه سياسة القيصر طبق آرائها ونصائحها
فهذه الأمثلة التاريخية العديدة توضح لنا إلى أي مدى استطاعت المرأة أن تغزو مواطن التأثير والنفوذ في الشؤون العامة بطرق ووسائل غير مباشرة؛ بيد أن هذا الفوز الذي يرجع دائماً إلى عوامل وظروف عرضية، لم يكن ثمرة أو تطور طبيعي؛ أما اليوم فإن المرأة تسير في ميدان النضال بخطوات حثيثة، وتحقق لنفسها بوسائلها وجهودها ظفرا بعد ظفر؛ وإذا كانت المرأة تتبوأ اليوم كراسي النيابة والوزارة، فذلك لأنها استطاعت أن تشق طريقها إلى تلك المناصب، وأن تدلل على أهليتها لتوليها، فهي إذن تسير في طريق طبيعي لا أثر فيه للطفرة أو العوامل العارضة التي رفعتها من قبل إلى مواطن نفوذ لم تكن تحلم
بها
ولا ريب أن المرأة لن تقف عند هذا الفوز اليسير الذي يكاد يعتبر فوزاً رمزياً فقط؛ ومن المحقق إنها ستعتز بهذا الفوز على ضآلته فتضاعف جهودها؛ وإذا سارت الحوادث في طريقها، وإذا لم تعقها العوامل والمؤثرات الرجعية، فإن المرأة ستصل في المستقبل القريب في تحقيق أمانيها إلى مدى يصعب اليوم إدراكه وتقديره، وإن لم يك ثمة شك في أنه سيكون عظيما بعيد الأثر.
محمد عبد الله عنان
هنري روبير
عضو الأكاديمية الفرنسية ونقيب المحامين
للأستاذ عبد الحليم الجندي المحامي
إلى المحاماة، في شخص المحامي الأول، والنقيب الأول،
إبراهيم الهلباوي بك
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ولكن ما الذي يقوله هنري روبير في تلك القضايا التي سلخ المحقق في تحقيقها عاماً كاملاً، أو التي اسودت فيها آلاف الصحف؟ للجواب على ذلك نقول إن هنري روبير كان يجيد عدم الكلام بقدر ما كان يجيد الكلام، فهو يعمد أولاً إلى المسالة التي تحكم القضية - إذا صح هذا التعبير في لغتنا العربية - فيظهرها على طريقته بقوة وبسرعة وإيجاز، ثم يسقط من كلامه اكثر ما في القضية من حواش تنأى به عن الجوهر؛ فهو يدرك كل الإدراك إن الخير للمحامي ليس عرض كل ما في الإضبارة، بل الفن الحقيقي هو ترك ما يجب أن يترك فيها؛ وقديماً علمنا أساتذتنا أن فن الحذف يساوي تماماً فن الكلام. . . ولذلك كنت تجده مسرعا، ممتعاً، مقنعاً؛ كل ذلك في وقت واحد
كان يقول إنه درس (لاشو) دراسة عميقة؛ لكنك لا تجد فيه مشابه من أستاذه؛ فمرافعات روبير كانت مرافعاتٍ موضوعية مجردة، لا تتخللها الجلجلة ولا الصوت الداوي، ولا الصور التاريخية، ولا العبارات البيانية الخلابة التي يتشابه فيها لاشو مع أستاذ ذلك العصر (فكتور هوجو). والحق أن تلاميذ لاشو لم يكن منهم نقيبنا الذي يتحدث عنه، بل أن لاشو قد خلف من بعده باربو نابغة الفن التقليدي في الدفاع، ولابوري، المهيب الذي يُرعب بقدر ما يستطيع الإقناع؛ أما هنري روبير فلم يكن يهمه رسم الصور، ولا طلاء اللفظ، ولا طلاوة الأسلوب، ولا تفخيم المعاني؛ فإذا جاءت صورة من الصور أو حكمة من الحكم في معرض الدفاع وجدتها منتزعة من صميم الواقع لا من آفاق الخيال، ووجدتها من لباب القضية لا مترددة بين الحواشي لتثير الإعجاب
رحمه الله! ألا فليقل لنا إن كان حقاً قد تتلمذ لأستاذ القرن الماضي - بعد برييه - هل هو
كان يرى أن يقول للمحلفين تلك الكلمة المسرحية أو الخطابية التي قالها لاشو في سنة 1855 وهو يترافع عن رودلف المتهم بدس السم إلى عشيقته (ميمي): (ها إن السماء تدوي لكأنها تكاد تنقض؛ إنكم تسمعون هزيم الرعد وعصف العاصفة!. . . إن السماء تزمجر سخطاً على ما على الأرض من إعنات. . . أنها تحتج معي على تلك الإجراءات!!). أو تلك الكلمة الهائلة التي صوبها إلى القضاة في مرافعته ضد الجنرال (تروش) بعد حرب السبعين، وكان تروش قد تهاون في قضية الإمبراطور، وكان الإمبراطور قد خلع، وكان الإمبراطور صديقاً شخصياً للاشو، قال:(. . . إنكم ستحكمون في قضية الجنرال تروش. . . ولكن التاريخ سيصدر حكمه على حكمكم!. . وسيقرأ التاريخ كل ما دار في هذه الجلسات. . فحذار أن تضحوا كل شيء مرة واحدة. . فيقول بنو الأجيال المقبلة: إن كل شيء في هذه الأمة قد ضاع (حتى العدالة نفسها!) لم يكن روبير ينحو ذلك النحو البلاغي في الدفاع، لان وظيفة المحامي عنده كما قال:(أن يقنع لا أن يلمع)، ولان الدنيا تغيرت، والمحاكم ضاقت، وصدور القضاة والحضارة نفسها أصبحت معجلة كأنها تريد أن تصل بالدنيا إلى آخر الدنيا. . .
إنما تلاميذ لاشو ولداته هم أولئك الذين يقولون مثلما قال باربو عن دلسبس: (. . . ذلك الإنسان الذي أضاف بعض الـ (رتوش) إلى صورة الخليقة كما أبدعتها يد الخالق. . .) أو مثل فكتور هوجو وهو يترافع عن ولده شارل ضد عقوبة الإعدام (. . هذه العقوبة التي إذا وقعت على مجرم جعلته يشك في وجود الإنسانية، فإذا وقعت على بريء جعلته يشك في وجود الله!. .)
أو مثل فكتور هوجو أيضاً وهو يترافع في هذه القضية، وإذا شئت فقل مثل النمر - الأب النصر كما سموه بعد الحرب الكبرى - اعني كليمنصو عندما ترافع عن أميل زولا عقب لابوري، فنقل عن هوجو تلك الإشارة البديعة إلى تمثل المسيح، وكان إلى ذلك الوقت يوضع خلف هيئة المحكمة في الجلسات وقال: (انظروا ورائكم، فهذه اكبر ضحية عرفها التاريخ لأخطاء القضاة!!. . . . . . وكانت قضية أميل زولا تدور حول إعادة النظر في قضية دريفوس، أو الهلباوي مثلا في قضية نزاهة الحكم، وبتلك الوثبة الذهنية البارعة، بل تلك الأعجوبة الرائعة الخالدة، عندما رد حفني بك محمود أحد المستشارين لشبهة عرضت
له فرفض الرد وأخذ الدفاع عن الخصم يعيِّر حفني بك بأن رده رفض وبأنه يتشكك حتى في القضاة، ويتهم حتى رجال العدل، قال هلباوي بك (. . . فلما عرضت له الشبهة في قاضيه لم ينخلع فؤاده فَرقًا، بل اقدم على أن يطلب الحقيقة عارية والعدالة مجردة، ليطمئن قلبه؛ وقديماً، وفي سبيل الاطمئنان قال موسى: (رب ارني انظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني. فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقاً. فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين)
فالاطمئنان الذي نشده موسى وظفر به، هو الاطمئنان الذي نشده حفني وظفر به! والذي حصل من حفني حصل من إنسان أسمى منه ألف مرة، وبالنسبة لمن؟ بالنسبة لمن هو أسمى من سعادة المستشار لا ألف مرة، ولا مليون مرة، ولكن بمقدار الفرق ما بين الإنسان وخالق الإنسان. .!!)
لا تجد لذلك التصوير وأشباهه نظائر عند هنري روبير، لكنك تجد له خواطر ممتعة تستحيل عند تلاوتها إلى حجج موضوعية في القضية المطروحة. ومثل ذلك ما نقلناه من قبل في ختام مرافعته عن بويورش؛ ومثل ذلك أيضاً ما جاء في مرافعته عن الدكتور لابورت فاستمع إليه يوجه نظر القضاة إلى الأطباء:
(. . . انظروا إلى تلك الغرفات الفساح في المصحات والمستشفيات حيث الهواء مشبع بسموم الدفتريا وجراثيم الطاعون، وانظروا إلى أولئك الرائحين الغادين في تلك الغرف أمام مرضى ينفثون الموت الزؤام من الشهقات الزفرات؛ هل علمتم على واحد منهم انه أجفل أو أنه ارتعد؟ هل تردد واحد منهم عن القيام بكل ما يفرضه عليه الواجب؟ ارجعوا إلى إحصاءات الحمى الصفراء والكوليرا، وأسالوا كم من هؤلاء الفرسان قد سقط في ساح الشرف! انظروا إلى هذه الطائفة وقولوا هل هي الطائفة المتمردة على القانون والتي يجب أن يضرب على أيديها ضربات البطش والانتقام!. . لا. لا. . إنكم ستجدون هؤلاء البنين البررة للعلم وللفن وللإنسانية قد وهبوا نفوسهم للعلم وللفن وللموت في سبيلهما؛ فهم تارة يصرعون الموت وتارة يصرعهم، لكنهم يستحقون الإعجاب في كل حال!!. .)
وكانت له وثبات في الارتجال يتناقلها الكافة؛ فمثل ذلك رده على النقيب درييه الذي جاء في صدر هذا البحث، ومثله ما رواه (جولندن) في (اشهر قضايا سنة 1932) ولقد كان
توريز المحامي الأشهر يدافع بجلسة 19 أكتوبر سنة 1932 أمام استئناف الجنح عن موكله (فرمون) ضد (تاكوشيما) موكل هنري روبير، وكانت التهمة نصباً موجها ضد فرمون، وكان هنري روبير محامي المدعي المدني، وكانت نظرية توريز إن تاكوشيما سبق أن نصب على فرمون فجاء فرمون واصلح ما أفسده عليه تاكوشيما، واختتم دفاعه بكلمة مسرحية تخلب الألباب قال:
(. . . لقد كانت رواية: أما الفصل الأول فتاكوشيما يضرب فرمون، والفصل الثاني فرمون يضرب تاكوشيما. . .) وبينما هو يسترسل نادى هنري روبير بصوت ضخم: (. . . الفصل الثالث: المحكمة تضرب فرمون!!!!. .)
كان زعيم الارتجاليين كما قلنا، فما هو الارتجال إذن؟ أما ارتجال الفكرة فمجازفة بحقوق الناس، ووصمة للمحاماة، واستهتار بالقضاة؛ وأما ارتجال الألفاظ فذلك شيء آخر؛ والمحامي الذي يرتجل الكلام هو الذي يملك أعنة البلاغة، أو هو الذي حضر مرافعته مرات ومرات، أو هو الذي مرن على مواجهة الأحداث ومجابهة ما يفاجيء؛ وإذن فهو لا يرتجل وإنما هو يستخرج ما في مواهبه من كنوز غائرة تظهرها الحاجة، فهذا تحضير غير مباشر، وهذا هو بالطبع ما عناه شارل شني في محاضرته لفتيات الجامعة في سنة 1911، إذ حدثهن عن حياته الأولى في المحاماة قال:(. . . وكنا جميعاً نساهم بنصيب ضخم في تلك الأكذوبة الشائعة وهي أننا نرتجل عفو البديهة كلاماً سهرنا في تحضيره طول الليل وأثناء النهار. .!!) وفي أواخر القرن الماضي أشار محام - كان عضواً في مجلس النواب - إلى أن القضاة سيسمعون من (باربو) مرافعة اصلها مكتوب، فصرخ باربو بصوته الداوي:(نعم إن احترامي لهذه الساحة يضطرني لتحضير ما أقول، لكن الذين لا يحضرون كلامهم ويملؤونه بالتناقض يجدون صدوراً رحبة في ساحة أخرى. .) وكانت الساحة الأخرى طبعاً مجلس النواب
كان هنري روبير يوصي المحامين دائماً بالاطلاع والاستعداد؛ كان يوصي بالقراءة دائماً وبالكتابة دائماً؛ كان يقول مثلما قيل من قبله: إن سر النجاح هو (أولاً: العمل، وثانياً: العمل، وثالثاً: العمل) ولقد يكون المحامي موهوباً وكله كفايات، فإذا لم يجدد نفسه ويزودها بالمعلومات وجد نفسه بعد سنوات أجوف فارغاً يردد اليوم ما يردده غداً. حدثنا النقيب
بايان عن شني وباربو أنهما قضيا نحو العشرين عاماً في زاوية من زوايا المحاماة لا يعرفها إشعاع النور؛ وفي تلك الأثناء كانا، وخاصة باربو يتسلحان بدراسة عميقة للعلوم والتاريخ؛ حتى إذا انقضى ثلث قرن كان باربو يفتح كراساته ليستخرج منها شواهد هي آية الآيات في المحاماة بل في الأدب الكلاسيك؛ ولكن روبير قد عرف الشهرة في مستهل حياته فهو لم يكن ينعم - أو يشقى - بما سماه الفراغ الإجباري للمحامين، ولكنه مع ذلك كان يجبر الزمان وصحته على أن يمنحانه الفراغ والعلم. وإذا رجعت إلى مؤلفاته وخصوصاً قضايا التاريخ الكبرى، تلك القضايا التي تعتبر القضية الواحدة منها دنيا كاملة في قرن كامل، عندئذ يتضح لك مبلغ ما اخذ به روبير نفسه من نصيحته للمحامين
إلى هذه الكفايات العظمى كان يضيف كفاءة خاصةً هي الخلق العظيم: هي التواضع. وقدْماً قال (لابروبير)(إن التواضع مع الكفاءة، كالظلال مع الصورة، تظهرها وتوضحها وتجلِّيها)
هكذا كان رجلنا مع رجال القضاء ومع الزملاء
هو قد سلخ قرابة نصف قرن يترافع أمام القضاة والنواب، ومع ذلك لم نسمع له بحادث واحدٍ كلابوري كما أسلفنا عنه المقال، أو كفيفياني حتى قُدم للمحاكمة وأوقف مدة لم تكد تنقضي حتى صار وزيرا للحقانية!! ثم صار رئيساً للوزراء! أو أميل أوليفييه، أو كأسلوب (برييه) عندما ترافع في قضية الثلاثة عشر فقال للنائب العام:(. . لا لست حسن النية في هذا الذي تقول؛ إن القوانين لا تطبق في هذه الأيام ولكنها تفسر دائماً بما لا تحتمله؛ إن النصوص ترهق كيما يُرهق بها الرجال.!) ولا كأسلوب فولتير عندما قال عن قضاة كالا: (. . لا تذكروني بهؤلاء القضاة الذين نصفهم قرود ونصفهم قضاة!) ذلك لان هنري روبير كان يعرف إن جلال المحاماة من جلال القضاء، وأن شخصية القاضي جزء من معنى القضاء لا ينفصلان. أما مع الزملاء فكان خير الزملاء، عطفا وأدباً وحسن وفاء. إليك ملفاته جميعاً، كلها ذكريات حلوة عن الزملاء والأساتذة. هذه أعذب العبارات يكتبها عن أستاذه درييه؛ وهذه أمداح تترى للنقيب مارتيني، وتقدير لا حد له للخالدين بوانكاريه وبارتو، ولدبوي وملران ولبريان ذي الصوت العذب عندما يترافع، وهذا إعجاب لا حد له بلابوري، وحب لشارل شني، وإكبار لباربو وروسو الخ. هذا الثبت الحافل من الرجال
الذين تتردد أسماؤهم في مؤلفاته. حتى إذا راودته المنية عن نفسه استمهلها ليكتب سطوراً لم تحل الوفاة بينها وبين الناس ليملأها مدحاً للقضاة ولرجال المحاماة في الأمس الدابر، وللمحاماة نفسها، تلك الآلهة التي طالما قدسها، تلك الغانية التي طالما عبدها واخلص لها الحب والعبادة بل التي ملأ الوجود الإنساني بكلام عنها يشبه الألحان
وبعدُ: فما هي المحاماة؟ (المحاماة أسمى مهمة في الدنيا) كما قال فولتير وكما قال أيضاً (كما كنت أرجو أن أكون محامياً) بل هي كما قال ماكس باتو (إن المحامي ملك)؛ ليست هذه العبارات لوحات أدبية معلقة؛ لكنها حقائق قائمة منتزعة من صميم الواقع؛ فانظر إلى المحامي وهو يترافع؛ لا إلى (برييه) وهو يترافع عن ملك مستقيل ضد ملك قائم، وعن ملك مخلوع ضد ملك منصب، ولا إلى ماليرب وزملائه وهم (يحملون إلى الكونفاتسيون الحقيقة ورأسهم) دفاعاً عن لويس السادس عشر، ولا إلى الهلباوي وهو يترافع في آخر القرن الماضي عن البرنس سيف الدين ضد ملك، وفي 1933 عن البرنس محمد علي ضد من؟ أو في سنة 1914 عن خيري باشا ومحرم باشا وورائهما من كان ورائهما؛ ما إلى هؤلاء قصدت ولكن إلى المحامي الصغير - اعني الشاب، فليس في المحاماة صغير وكبير، بل فيها شاب ومكتهل - إلى المحامي الناشئ وهو يقف أمام المنصة، في محكمة الجنح أو أمام القاضي الجزئي؛ هو ذا يدلي بمرافعته بين الاحترام العام أو الإعجاب العام في بعض الأحوال، كلمات متزنة، وعباراتٍ واضحةٍ كلها إخلاص؛ مسموع الصوت مسموع الكلام، لكأنك به في ردائه الأسود، الكاهن الجليل في ساحة المعبد؛ الأعناق مهطعة إليه، والآمال معقودة عليه؛ ففي يده مستقبل أسرة أو ثروة فقير أو كرامة رجل أو عرض غانية؛ ولقد يكون المحامي في سبيل الدفاع عن موكليه قد ضحى ما ضحى، أضعاف أضعاف ما كسب، وهو قد يكون قد تقدم إلى الدفاع كما كان يتقدم أسلافنا الأولون، بدافع النجدة والمروءة وفي سبيل الشرف لا في مقابل المال؛ هو ذا يقف ببسالة أمام الطغيان، طغيان الأفراد أو طغيان الطبقات أو طغيان الأمة أو طغيان الحكومة ذاتها. . إنك تكاد تحسب عندئذ أن المروءة والبسالة قد اتخذتا شكل رجل يتكلم، حتى إذا انتهى من مرافعته أملى التاريخ إملاءة بسيطة ليسمع كلمة القضاء أو كلمة القدر
انظر إلى المحامي في تلك الصورة المصغرة التي رسمناها، وقل لنفسك مع ماكس باتو
(إن المحامي ملك)
ولكن - أيها الإخوان المحامون - إذا كان حقاً أن ليست هناك مهن وضيعة، وإنما هناك أشخاص وضيعون فإن ثمة حقيقة أخري هي أنه ليست هناك مهن رفيعة، وإنما هناك رجال يرفعون من شان المهنة. فاعملوا إذن على رفع مستوى المحاماة دائما باستمرار: اعلموا إن الحياة المادية ليست هي المطمح السامي لمن لبس هذا الرداء الأسود، بل إن هذا الرداء كما قال الهلباوي في مرافعته عن الورداني إنما يذكرنا بأننا قسيسون في معبد العدالة نشاطر الناس لواعجهم وأشجانهم؛ وكلما سمت المهنة سما بها بنوها عن الابتذال؛ واعلموا إن نصف الوزراء في الحياة الديموقراطية لا يعيشون بعد الخدمة إلا عيشة الكفاف
اعلموا إن المحاماة رسالة وليست تجارة؛ وان السعيد من استطاع أن يفهمها على غير أسس المال؛ هاتوا صحائف التاريخ تشهدوا الثروات تتدفق على المحامي دائماً بعد أن يكون قد قام بواجبه في سبيل الشرف أو في سبيل الصالح العام؛ تشهدوا المال يلاحق المحامي بعد أن يكون قد أدى رسالته في خدمة المظلومين أو في مدافعة الطغاة؛ تشهدوا المحامي العظيم لا يسعى إلى المال وإنما يسعى إلى الشرف، وكلما اعرض عن جمع المال انحدر إليه المال من كل ناحية. فالسعيد منكم من استطاع أن يفهم المحاماة على أنها مهمة ومهنة؛ فاملئوا نفوسكم بالقناعة، واملئوا أذهانكم بالعلم، واملئوا فراغكم - الإجباري أو الاختياري - بالدرس وبالتحصيل وبالسعي المطرد نحو الكمال
وانتم أيها المحامون الشبان: اسمعوا! إن المحاماة في مصر لم تصل إلى أزهى عصورها بعد؛ فانتم إذن أملها المرموق بالعناية. اكتبوا دائماً، واقرءوا دائما، وتعلموا حسن الأداء - فالمحاماة في الحقيقة ليست إلا حسن أداء - واذكروا إن الحياة الديموقراطية قد ذللت لكم كل شعاب المجد، وفتحت لكم الأبواب على مصاريعها، فأدوا رسالتكم على خير وجوهها، وكونوا دائما شجعانا؛ وأضيفوا إلى مبادئكم إن خير ما علمنا أساتذتنا هو إن احترام المحاماة من احترام القضاء، وان خير ما يكسب به الدعوى هو سلامة الأسلوب ونزاهة الغاية
اذكروا أن رئيس محكمة النقض السابق كان رئيسا لنقابتكم، وأن رئيس نقابتكم السابق هو الرئيس الثاني في الدولة بعد رئيس الوزارة، واذكروا إن رئيس الوزارة اليوم بل صاحب
الرياسات جميعاً، كان وما يزال محاميا منكم. واعلموا أخيراً إن هؤلاء الذين شاركوكم كزملاء لا كرؤساء سيعود إليكم منهم من يعودون ليتشرفوا بحمل ذلك الرداء الأسود الذي يساوي كلمة الدفاع، ذلك الرداء الذي كان يحمله بوانكاريه وملران بين رياسة الجمهورية ورياسة الوزارة مثلما كان يصنع فيفياني ووالدك روسو ومثلما يصنع عبد العزيز فهمي ومكرم عبيد
كم كنت أود لو نقلت إليكم تلكم الخطبة الخالدة التي ألقاها المستشار (داجوسو) من نحو مائتي عام في المحامين والمحاماة، ولكن المقام ضاق فإليكم منها تلكم الخاتمة: -
(. . حسبكم جزاء على آلائكم العظمى التي تسدونها إلى الناس هذه العظمة وذلكم الجلال، وألا تكونوا مدينين بالعظمة وبالجلال إلا إلى أنفسكم. حسبكم إن يتخذ منكم الناس مثلما اتخذوا من أسلافكم من القادة والهداة والرسل، وان ترتفعوا إلى تلكم المكانة العليا فوق الكافة فتتولوا صرف المنازعات وفض الخصومات، تتولوا القضاء الفعلي بين الناس كما يتولاه القضاة الموظفون ولكن بما لكم من سمو الغاية ونزاهة القصد ونصيب ضخم من الاحترام العام وبما لكم من نفوذ الكلمة وبلاغة التأثير وجلال العبارة. . . . فهل انتم إذن ستكونون لأنفسكم أداة تقدم لا عوامل تنفتل بكم إلى الوراء؟. . هل ستكون هذه المحاماة التي طالما عملت لمجد الأمة، وكم ستعمل في سبيلها؟ هل ستكون عند رجائنا فيها فتحتفظ لنفسها بمنزلتها الرفيعة العليا بين المهن، بالفقه وبالبيان ولكن بالعدل والنزاهة أيضاً؟. .)
أيها الزملاء! كلمة أخيرة
إن نقيكم العظيم المضطلع بشتى شؤون الدولة يكاد يقول مثل (الملك الشمس)(أنا الدولة) فأهيبوا به أن يذكرنا. . . . وعندما يصدر القانون، وتتقرر حصانة المحامي في الجلسات، يومئذ تلمسون بأصابعكم ما قاله ماكس باتو من أن المحامي ملك، بل وتضيفون إليه أيضاً أن المحامي ملك
عبد الحليم الجندي
صوت الجبل
(مهداة إلى الأستاذ الزيات)
للأستاذ معروف الأرناءوط
(. . . لقد قال لها إن الجبل يناديني يا (سافو). . . ثم رفع
صوته قائلا: إن الله قريب مني وإني لأراه في هذا النور الذي
يطفو على (سيناء)! وفي هذا الفتون الذي يراق على بادية
التيه!)
قال (كريستيا)(لسافو) وقد اطرح الدير في الليلة الجوناء وهبط (وادي العربة) تاركا وراءه قنن جبل (حور): ناشدتك الله يا أخية أن تسمعني شيئا من حوار (أوديب) حينما اشتملت عليه جبال وطنه، فإنه ليروق لي وقد شابهت هجرتي هجرته وماثلت شجوني شجونه، وحاكت ليالي لياليه، أن استمع لجرسه الشجي في هذا الوادي المصحر. . . إنك لتتذكرين خروج هذا الملك في ذات ليلة إلى جبال (كولون) ومعه ابنته (أنتيغون) فلما أظلته السحب وأرزمت السماء وقعقعت تهافت على ابنته في رفق وحب وسألها أن تذكر له اسم الأرض التي وطئها وقال لها انه يحب أن يدفن آلامه ومتاعبه وذكرياته في المنفى، فطفقت (أنتيغون) تتحدث إليه عن وطنه الجديد، فرق وسكن ولطفت أحاديثها حزنه. نعم حدثيني يا (سافو) عن (أوديب) وعن (أنتيغون) فإنما أنا ذلك التعس (أوديب)، وأنت (أنتيغون) رفيقته في أرض المنفى، ولكن سافو كانت تفكر في (فروه ابن عمرو) وفي المعركة التي نهد إليها برجال حصدت نصفهم الحرب وما يستطيع الذين نجوا من غضب (قيصر) أن يستبقوا الحياة إلى ليل فلقد تتعاورهم الرماح والنبال والسيوف من كل ناحية ويمنعهم هذا الجيش الكثيف الرابض عند منافذ الأودية ومسارب الطرق من الإفلات. فتضيق بهم (سلع) ويضنيهم الحصار والطوى والبرد وانقطاع المدد:
لقد كانت تفكر في هذا كله ساعة أرادها الشاعر المثال على قراءة قصة (أوديب) الملك، فلما لم تسمعه صوتها تغنى بشعر (سفوكليس) وحسب نفسه وهو يطأ الجبل أنه ذلك التعس
(أوديب) فقال بصوت شجي يشبه الرثاء:
أوديب
(انتيغون، يا ابنة ذلك الأعمى الشيخ، ناشدتك الله ألا ما حسرت لي عن هذا البلد الذي بلغنا نواحيه، وأي شعب هذا الذي نزلنا منازله، ومن هم جيرتنا في البلد النزح؟ في هذا اليوم يستجدي (أوديب) الهائم السادر الناس، فيعطيه هؤلاء عطاءا حقيراً، بلى لقد طلبت قليلاً وأعطيت يسيراً، وفي هذا غناء لي وكفاء، فقد علمتني الآلام والأهوال والمحن وتعاقب السنين ونفسي الصابرة، علمني كل أولئك الاستسلام والرضى، فهلمي يا بنية، هلمي إلي فلئن لمحت مقعداً في مكان رجس أو في غاب مقدس فقفي بي عنده وانزلي بي في أديمه، ثم لا يضيرني ولا يضيرك أن نمضي إلى الناس فنسألهم الطريق وفي أي موضع منه نحن؟ فإننا غرباء عن الديار ومن حقنا أن نسأل الغادي والرائح)
ولكن سافو لم تفعل ما فعلته (أنتيغون)، ولم تدله على المكان الذي نزل فيه فانثنى هامساً بمثل ما همست به (أنتيغون) في أذني أيها البائس:
أنتيغون
أوديب! أيها الوالد التعس، يا من أضماه الألم، وأذبله الداء! ليخيل إليَّ إن سور مدينة قد ارتسم في الأفق أمام عيوننا، وهذه الأرض التي تنزل فيها لا يزال عليها عبق من قداسة ونفاسة، يدلك على ذلك هذا الغار المتشابك وهذه الأدواح الظليلة، وهذه الينابيع الرقراقة، ثم هذه البلابل التي تغني في الغاب الوارف. اطو يا أبتاه قدميك فلعلك تستطيع الجلوس على هذا الصخر الوعر، فلقد طال شرودك، وامتدت المسافات بك، وأنت ذلك الشيخ الذي لا يستطيع إمعاناً في صعود وفي هبوط
أوديب
بلى، بلى، دعيني اجلس، واسهري على الأعمى العاثر الجد
وراح (كريستيا) جالساً على الصخر وقلبه يميد وجبينه يتندى عرقاً وعيناه ترعشان في كل ناحية من نواحي هذا الأفق المديد الفسيح؛ وجلست (سافو) بجواره وفي نفسها اثر من جراح نفسه، ثم لم تلبث أن رقت له رقة أليمة، وأخذت يده وقالت له: أتدرى أين مسكنك؟
قال لا، قالت في (وادي العربة) هذا الذي يفصل (البحر الميت) عن (خليج أيلة)
وكان قد أمضى بعض ليله على روابي جبل حور، فلما نزل فرع الوادي لم يشعر بالمسافات الطويلة التي خلفها وراءه ولم يفطن إلى ثوبه الذي مزقته الصخور والأدغال المتشابكة ولم ينتبه إلى الإعياء الذي تعاور (سافو) وكذلك ما كان يهمه أن يحتويه المكان الفارع، فلقد جلس على الصخر في سكينة ودعة، وجعل يقلب عينيه في الجبال التي تحيط بالسهل من الشرق إلى الغرب وقد خلعت على الوادي ظلاً شاحباً فبدا عميقا كأنه هوة من هوات الجحيم!
وكان من احب أمانيه أن يتعرف إلى طريق البحر الميت والأردن ليلحق بحسناته (بنيامينا) ويقضي ما تبقى من أيامه في الأرض التي نبت عنها الشهرة وأطرها المجد فما يردد نظراته في جنوب الوادي حتى يكرهه ويمله وحتى يعاف أن يحدق إليه، وذلك لأن في جنوب وادي العربة طريقا تدفع إلى خليج أيلة، إلى ذلك البحر الذي لا تفارقه سفن (هراقليوس) وفلكه ثم يحلق وهمه في طريق الشمال فتتمثل له الأرض منحدره هابطة إلى البحر الميت وإلى الأردن فيرق ويتشاجى ويذكر (بنيامينا) النازلة شواطئ النهر المقدس ثم يتلفت إلى (سافو) ليسألها أن ترافقه فيرى إليها نائمة حالمة فيمنعه حبه لها وبره بها أن يبتعثها على استفاقة تخرجها من أحلامها الهادئة ثم يعود فيستعرض وادي (العربة) من مكانه على الصخر، فإذا امتدت نظراته من الشمال إلى الشرق استبحر المكان أمامه وعرض له أخدود راعب يتساقط الماء على جوانبه من قلل جبل الشراة فيزعجه ويؤلمه أن ينبطح السيل في مفاجر الوادي ومرافضه فيضع يده على راس (سافو) النائمة الحالمة فتستفيق وتنهض وتدير لحاظها في تلك الأرجاء الفيحاء ثم لا تلبث أن تدرك مأساة حياتها، ويزيدها غماً ويأساً أن يلبس هذه المأساة هذا الحزن الذي يغشى جروف (العربة) وفلوجه ومسايله ومنحدراته، ولما أرادها (كريستيا) على اصطحابه في طريق البحر الميت لم تجد معدى عن مجاراته ومسايرته، فوقفت على الصخر ونظرت إلى الجنوب فإذا الطريق قد فرقت فروقاً عظيما حتى لتوشك أن تنتهي عند خليج (أيلة) فأخافها أن تمتد الطريق وتفيح، ثم نظرت كرة أخرى إلى الشمال فإذا الوادي يهبط إلى خيف لين رقيق ثم هو يزلق إلى الغور
وقد كان عسيراً على الأخوين وقد برح بهما السير في الأخاديد والأغوار والهوات والأودية أن يستأنفا الرحلة في الأرض البراح، ومع هذا كله ما كانت (سافو) تستطيع أن ترده عن منازعه، فلما جاز الإخوان بعض الطريق وأوشك وادي (العربة) أن يتقلص ويغيب ترقرقت خيالة (سلع) في عيني (سافو) فذكرت زوجها الغطريف، وابتعثها التذكار على الوفاء له فقالت لأخيها:
- إنه ليجمل بك أن تدأب في سيرك حتى يطلع عليك (الأردن) أما أنا فلقد نذرت رجوعاً إلى (سلع) حيث الحق بزوجي الذي لم يترك سلاحه بعد!
وكانت لهجتها صريحة وصادقة، فلم يستطع (كريستيا) وهو الذي يعرف حبها لزوجها أن يعصى لها أمراً، فلحق بها إلى وادي (العربة) وكان لا ندحة لهما عن الرجوع معاً إلى جبل (حور) ثم ينحدران إلى الدير ويلحقان (بسلع)!
وبعد طوافٍ عنيفٍ في الأرض الغطشاء، فرع الشقيقان في جبل (حور) فنزلا بضلعه الشرقية وقدر لهما وهما على المرتفع الشاهق المطل على الطريق، أن يريا إلى وادي (العربة) الجميل وإلى صحراء (التيه) فوقف (كرستيا) خاشعاً أمام هذا المنظر الرائع حتى لقد جنب شعوره أن يحلق في عالم آخر. وكيف يستطيع إحساسه الثائر أن يحلق في عالم آخر، وهذه الأرض المقدسة من (سيناء) ترعش في نظراته وتطفو على جوارحه وتلهب ذكائه وتذكره بماضي هذه البطحاء التي استمعت إلى صوت الله وهو يتحدث إلى نبي!
خيل إلى (كريستيا) وقد وطئ كرة أخرى حضيض الجبل الملهم أن الدنيا طويت له واجتمعت عنده فأنّى تلفت تمثلت له قلل جبل الشراة الرفيعة يغمرها موج دافق من رواء المساء وبهاء السماء، وأنّى استقر أخذته المشاهد الموحشة وعليها من الروعة والجلال والتذكارات ما ليس يجده الشعر المهذب في خيال رواته وقائليه، بل لم يكن يستطيع وقد عرضت له (سيناء) وصحراء (التيه) وقيعان وادي (العربة) وجروفه أن ينزع من صدره صورة هذه الدنيا العبقة بعطر النبوة والوحي
ولما أوشك أن يرقى القنة التي عليها قبر (هارون) أرخى الشفق عليه ظلاله الساجية فاستراح بجوار القبر المقدس، ووقفت (سافو) حياله، فما فاتها وقد لصقت به أن تسمع صليل جوفه، وأن ترى إلى عينيه وقد غابتا في عقيق (سيناء)!
في تلك الأثناء حفا البرق في الصحاري، وامتدت شعله وخيوطه على حواشي جبل (سيناء) حتى ضوأت قلله وقننه، وكشفت ربوده ومصاده وشعافه، وحسرت عن جروفه وفلوجه وغيرانه، ثم أضاء البرق ولمع، ثم أضاء ولمع، وتلت ذلك أصوات تشبه الهزيم، وترقرقت ألوان الشفق الحمراء في كل ناحية حتى اصبح الأفق وردة كالدهان، فخيل إلى الشاعر أن هذه الأطواد التي تجاوره وتصاقبه لا تريده على فراقها، وإنما هي تريده على أن يستشرق بهذا القبس الشاعل الذي تراءى لموسى النبي في البادية الغلفاء، فلصق بمكانه وقال (لسافو): انه يكره الرجوع إلى (سلع)، وإن من احب المنى إلى نفسه أن يموت وعيناه تنظران إلى أضواء هذا القبس الذي ترمي به قلل (سيناء) الرفيعة إلى الصحارى والبوادي
ومازال البرق يضيء ويلمع على روابي (سيناء)، ومازالت الأصوات الخفية تتغاير في الأفق على مدى بعيد، ومازالت ألوان الشفق الحمراء تتفجر هابطة صاعدة، وريح النعناع تفغم الخياشيم حتى أحس (كريستيا) قداسة هذه الأرض، فخلع نعليه وركع بجوار قبر (هارون) النبي مصلياً وداعياً، منتحباً وباكياً!
لقد قال لها إن الجبل يناديني يا (سافو)، وكل جارحة من جوارحي تقول لي لا يجمل بك أيها الشاعر أن تغمض عينيك على السحب الصادرة في (سلع)! ثم رفع صوته وانثنى قائلا: إن الله قريب مني، وإني لأراه في هذا النور الذي يطفو على (سيناء)، وفي هذا الفتون الذي يراق على بادية (التيه)، بل إني لأسمع صوته في قسطلة الماء عند سفوح جبل (حور). لم يعد في هذه الحياة التي أخذتني خطوبها وكوارثها ما أخافه، وما احرص عليه، فالمجد الذي جنبني طيفه في ميدان (سلع) حيث يقتتل الناس أما زلفى (لقيصر)، وأما زلفى (لفروة ابن عمرو)، قد تمثل لي أحد هذه القنن الرفيعة بألوانه وأنواره وطيوبه ونغماته، وروحه الساكن الوادع، وشبحه المضيء، وجرسه العذب؛ إنه ليخلع على جسمي الذي قرسه برد العشية دفء نفسه لأموت محترقاً في سناه، فذلك امثل من موت يزحمني ظله الصادر عند رواميس (سلع)! ولان تحتويني هذه الأرض المقدسة افضل من أن تحتويني هذه الأرض التي لا تعرف القداسة!
وعبثاً كانت تصده عن ميوله ومطامعه، فلقد احب أن يموت على جبل (حور) كما مات
موسى النبي، وكما مات هارون النبي، ثم هو إلى ذلك شاعر يحب فنه وما يليق بالشاعر أن يموت في الأرض التي لا تتصدع فيها السحب والبروق، ولا يزهر على حواشيها الآس والنعناع والورد
وانهما ليتحاوران ويتساجلان في غير جدوى ولا طائل، إذ حملت أعراف الليلة الساجية ترجيع الأبواق في وادي (سلع) فرجفا معاً. وقالت (سافو): إنها أبواق (فروة) يا (كرستينا)، وانه المنتصر على (هراقليوس). ناشدتك الله أن تمضي معي أو تبقى لوحدك على هذه القنن
ورأى المسكين وقد اذكره صوت البوق حاضره أن يلحق بها، ولكنه لم يكد يبرح مكانه حتى حفت البروق وتوامضت على مدى واسع فبانت له كرة أخرى جبال (سيناء) وصحراء (التيه) فألاعته الأضواء الغامرة وأحرقت أحلامه، فوقر في ذهنه أن يبقى في جبل (حور) طوال ليله فلا يفارقه ولا يخفره ولا يمل الطواف بشغافه ورعانه، ولا يسأم الهبوط إلى حضيضه وسفحه، نعم انه مريض وإنه مُدْنف وإنه ذلك المنفى الذي يقبس أغانيه من نفس عامرة بالألم زاخرة بالشجن، ولكنه على مرضه ودنفه كان يلذ أعراف هذه الأماكن المقدسة ويرى فيها العافية التي يشتاقها ويحب أن يغني أغانيه في هذه الأصلاد بصوت الشاعر الملهم لتسمعها روابي (سيناء) كما سمعت صوت النبي الملهم؛ وكان يشعر بقرب النهاية فنازعه شعوره إلى المكوث في هذه الأرض حتى يأخذ الله وديعته فيرقد رقاده الأبدي في شعفة تطل على (الأردن) وعلى (حرمون) وعلى (بيت المقدس)!
لقد باح بخواطره، وقال لها إن في (سلع) مكاناً للبطولة الرائعة، وليست تعرف فيه ذلك البطل المقارع فمن حقه أن يجد مكانه على الربى الشم حيث تترقرق أضواء السماء، وحيث ذكاء الشاعر يبحث عن السنى والسناء! فلما سمعت قوله لم تأنف أن تطرحه في الجبل فتولت عنه وتدفقت في سيرها تحت ضياء الكواكب، ومازالت تمعن في الهبوط حتى استقبلت السفح ووارتها عن عيني (كريستيا) فجاج وشعاب
وقلب عينيه في هذه الأرجاء الفيحاء، فإذا هو وحده على الشعفة السامقة يحيط به عالم تطفو على حواشيه أشباح وأرواح، وتجري في سمائه كواكب متقاربة متباعدة، وتنوح على أطرافه وجنباته ريح ذات هدير وصليل، وتخرج من جروفه وغيرانه أصوات كأنها
عزيف الجن، يضاف إلى هذه المشاهد الراعبة قبس يخطف على سيناء في أقصى الأفق!
لقد روعته العزلة فتمايد وتمايل، وخيل إليه أن بهذه النجوم الدانية من القلل والقنن عيونا تنظر إليه، ففغر فمه وبرق بصره، ثم تساقطت الشهب في الأبعاد النائية كأنها الحريق الشاعل. فغشيته ذهلة أليمة، وخيل إليه أن السماء قد ألقت إليه بنارها ودخانها فجفا مكانه على القبر وطفق ينادي:(سافو)! لك الله يا أخية أين أنت؟
وهام على وجهه فما ينحدر من رابية حتى يغيب في أخدود ضيق، فإذا حسر الأخدود عنه أمسى في غار مظلم، فإذا أوغل في ظلمة الغار تساقط الماء على ثوبه من صدوع في الصخر النابي فتندى وقَرَسهُ البرد، ثم يخرج من الغار فإذا هو بعد طوفة جاهدة عند سفح الجبل وإذا (سافو) لا تزال على السفح كأنها كانت تتوقع أن تضجره العزلة وتخيفه الوحدة فيأنس إلى إلحاق بها
ورأت (سافو) إليه تحت ضياء العشية فنادته بصوتها الرقيق الناعم: إني أخاف عليك برد الجبال فهلم فاتبعني إلى (سلع) فلعلك تجد عندها ذلك القبس الذي يضرم شعورك
وكان الانحدار إلى (البتراء) سائغا ولذيذا فأحوتهما معاً طريق قديمة نقرت في الجلامد فأوغلا فيها، وأظلتهما حجارتها، الناعمة الملساء، وتراءت لهما في اليمين وفي الشمال أسوار حمراء بلون العقيق، ولكنها أسوار عظيمة لم تتحيفها غلظة ولم تتخللها قرون وشعف، فجازا الطريق إلى الوادي وطلعت عليهما غيران ضيقة ولكنها قصيرة، ثم إذا هما يخرجان إلى طريق تدفع إلى دغل تكاثفت على حضيضه النباتات فسلخا في اجتيازها ساعتين ثم طلعت عليهما قبور (سلع) الأولى
ولم تكن سلع قد أطلت عليهما بعد، فلقد وارتها حوائط من الحجر الصلد فارتدا إلى ناحية الشمال وفزعا إلى الجانب المظلم من صخور لا تضيئها أنوار المساء، ورأيا إلى القبور المحفورة وقد تراكب بعضها فوق بعض وفتحت أشداقها وحسرت عن ثقوبها فأخذتهما أشعة خفيفة تزلق إليهما من الجبال، وسحرهما أطلال هذا المشهد بعد تلك السياحة الكامدة فأحسا الحياة وطفقا يتأملان معاً في هذه المدافن المعلقة بين السماء والغبراء، وسرهما أن يتعرفا الديار والرسوم والأطلال، ولذهما أن خيالة (سلع) عادت تطوف بصدريهما الراعشين
في أعماق هذا الجرف الذي تحميه من كل نواحيه أطواد وأصلاد تنام مدينة (سلع) عن كثب من أطلالها وقصورها وخرائبها وينبوعها الثر!
جلس (كريستيا) على عمود رخامي كان جاثماً على الأرض، فجلست (سافو) حياله وطفقا معاً ينظران في ذهلة إلى هذه الروائع الفواتن يحفهما صمت ويغشهما سكون، ويخترق آذانهما هدير الماء ودفعه على الأصنام المتداعية والعمد المنهارة في ظل ظليل من أشجار الغار الواشجة
لم يجرؤ (كريستيا) على الهمس فلقد أمالته الصور البارعة إلى غرق وأنسته ذلك الألم الذي تحيفه خلال طوافه بقنن جبل (حور) ونزوله إلى حدور وادي (العربة) بل لقد ألهته قسطلة الماء في الصعيد المهجور عن أولئك الناس الذين نفروا إلى قتال (قيصر) تحت لواء (فروة بن عمرو) فما عادت صورهم تمر بصدره، وكذلك كان شأن (سافو) فلقد غرقت مثل غرقه وسبحت مثل سبحه، وأنستها هذه الظلال الندية الرخية تلك الثورة التي عصفت بنفسها الرقيقة في ذلك الوادي الذي تتلاقى عند قيعانه وكثبانه طرق (أيلة) والبحر الراعب، فأية فتنة هذه التي هدهدت التياع الملتاعين وحملت إلى النفوس الضارعة بعض العزاء التي تحبه وتأنس إليه
هذه الرائعة ما كانت تعدو ماضي (سلع) ففي هذه الدمن التي يغنيها الماء الدافق الهادر غناءه الشجي من أبعد عصور التاريخ لا تستطيع النفوس الكامدة أن تستبقي حزنها إلى الأبد، إذ لا معدى لها عن استمراء الوحدة والإصغاء إلى حديث حياة منقرضة وإذ هي محمولة على الشرود في جلال الموت وفي روعة السماء
معروف الارناءوط
عضو المجمع العلمي العربي
ذات الثوب الأرجواني
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(تنبيه: الكلام خيالي ولا أصل له)
- 6 -
كذبت على الله وعلى نفسي حين زعمت أني معجب بالسمراء وأني لا احب الثوب الأزرق. . لا والله. . فما أبالي السمراء ولا إعجاب لي بها. وكل ما في الأمر أنى رايتها كثيرة المرح فراقني أن تتلقى الحياة هاشة باشة، وأن تضحك للدنيا، ولكن هذا قد يكون عن خفة لا عن فلسفة، وأنا مفطور على الجد، ولهذا سهل أن أتعود الاحتشام، ولكن وطأة الحياة ثقلت على كاهل صبري، فأنا لا أزال أتلمس التسرية والترفيه بما يدخل في طوقي من الوسائل، ومن هنا هذا التناقض الذي يراه الناس في طباعي. ولا تناقض هناك فيما اعلم، وأني لكما كنت طول عمري، وإنما اختلفت المظاهر، وأولاي معقودة بأخراي، ولقد كنت في صباي يائساً من الخير والسعادة في هذه الحياة، وأنا الآن اكفر بهما، ولكني كنت في حداثتي يحزنني عجزي عن الاطمئنان إلى الخير فاكتئب وأتجهم وأروح أعذب نفسي واقطع قلبي حسرة، وأغراني هذا بالزهادة ونشدان الراحة - على الأقل - بتوطين النفس على اليأس ورياضتها على السكون إليه، وكنت أقول لنفسي جاداً أني تهالكت فما أفدت إلا الحرمان وإلا الظمأ والالتياح، وإني طلبت اللذات فما وجدت فيها لعاقل غناء. . فلعل الزهادة تحسم داء لم أجد في الطلب شفاء منه. ولكني ما لبثت أن وجدت أن رفض الحياة يزيد المرء إحماءً، وأن الزهد ليس منجي، وأن النفس تخسر به طيبها ورضاها، وأن الذي لا يمد يده ليجني ويقطف لا يحق له أن يزعم أنه حرم الثمار التي يراها علا أفنان الشجرة، وقد لا يفوز الطالب الساعي بكل ما يبغي، ولكنه لاشك خليق أن يظفر بكثير مما هو دونه، فإذا فاتتك الغاية القصوى فقد لا يفوتك ما دونها من المتع، فالطلب أولى، والسعي أوجب، لأن الطلب والسعي من مقتضيات الحياة، والحياة هي الحركة لا السكون ولا الجمود، والزهد قهر للنفس، والطلب فيه كذلك قهر للنفس، وقهر النفس مع إفادة ما يمكن أن يفاد خير من قهرها مع الحرمان، والدنيا تسير على مقتضى نواميسها هي، لا على
هواناً نحن، فسيان أن تضحك لها وان تعبس، وللضحك إذن خير واحزم وأولى بالعاقل
وعلى ذكر الضحك أقول أنى اعجب لذات الثوب الأرجواني لماذا لا أراها تضحك أبداً؟؟ إن من تعاريف الإنسان أنه حيوان يضحك - أي يستطيع الضحك - ولكن هذه لم أرها تضحك إلا مرة واحدة، فعظم وقع ذلك في نفسي لندرته ولأنه كان فلتة مفردة، فوجهها كالقمر - سوى أن ماء الحياة والشباب والصحة يجري فيه - أعني إن تعبيره لا يتغير ولا يختلف ولا يتعدد، وقاتل الله البعد! وما يدريني؟؟ فلعلها تبتسم ولكني لبعدها لا أراها رؤيتها، ولست أذكر أني رأيت وميض عينيها، أو أن عذوبة نظرتها أو قوتها حركت قلبي، أو أن ابتسامتها الحلوة أو الساخرة أغرتني بالأمل أو الحزن. . ولكني على هذا سمعت صوتها. . نعم سمعته على الرغم مما يفصلنا من البعد. . وكانت الليلة مظلمة والحر شديدا، وكنت قاعدا في الشرفة والشجر على جانبي الطريق كأنه صور مرسومة من فرط الركود، فرأيتها تميل على جانب الشرفة؛ فنظرت فإذا جارتها في شرفتها وبينهما نحو مترين أو زيادة، وانطلقتا تتحدثان بصوت خفيض في أول الأمر، ولم اكن أرجو أن اسمعهما، ولا كنت آمل ذلك وإذا بالصوت يرتفع في الليل الساكن وإذا بصوت فتاتي يحمله إلي. . ماذا؟ لا ادري! فما كان هناك نسيم حتى أقول انه حمله. . ولكنه صافح أذني على كل حال، وقد شق علي أن أكون بحيث اسمع حديثهما، ولكني لم أكن أتسمع، وكان بيني وبينهما عشرون أو ثلاثون متراً - إذا حسبت الارتفاع - فإذا كانتا قد شاءتا أن تتكلما بصوت يسمعه الجيران فأظن إن هذا ليس ذنبي. ولولا الحر والركود الخانق لدخلت حجري وأويت إلى حيث لا يبلغني الصوت، وكنت ساعة تهدى إلى الصوت انظر إلى الطريق الخالي الموحش في هذا الليل الساكن - ولو شئت لقلت الراكد ولكني شاكرٌ - وكنت ربما رفعت عيني إلى النجوم الخفاقة اللمعان، وإذا بالصوت يقع في مسمعي فيكاد قلبي يقف. . . فلم يخالجني شك في أن هذا صوتها هي لا صوت الجارة. . ولا ادري من أين جاءني هذا اليقين؟! ويا له من صوت!!. رنان. . نافذ. . عميق الوقع. . فلو كنت تغنين لما كان أحلى ولا أسحر. . بل أنت كنت تغنين. . فما يرتفع الصوت بهذا الوضوح البلوري ولا يخفت - في غير عمود - إلى مثل الهمس، ويبريه الشجى أحياناً، ثم يعلو كأنه صيحة الحرية، ثم يضطرب ويتردد كأنه زفرة الأسى التي تتمرد على الكتمان - أقول ما يكون الصوت هكذا
إلا في الغناء. . ولا ادري لماذا، ولكني لم أكد أسمع صوتك حتى خيل إلى أنى أسمع (أورفيوس) يناشد حبيبته ويدعوها إليه ويصيح (ماذا تراني اصنع بغير يوريديس؟). نعم. . كذلك بدا لي أن صوتك الذي هفا إلي على جناح النسيم الراكد. . صوتك الحافل بالأسى المكتوم والرغبة المكبوتة. ينادي. . . ويدعو. . ثم لم اعد أدري ماذا جرى لي ولا ماذا أصاب الدنيا حولي؟. وأحسست إن حياتي التف عليها صوتك كما تلف الحبال على أعضاد الأسير. . وكأنما تسرب وجودي في وجودك الغامض. . . وأطفئت الأنوار. . وازداد الليل حولي ظلاماً وصار السكون اعمق، وأنا واقف لا اشعر إلا بخفق هذا الصوت الملائكي في نفسي، وطلع النهار - نهار الناس - وأنا ماثل على حافة الشرفة انظر ولا أرى. . .
وقد صارت لي بعد تلك الليلة حياتان تتصارعان - أنا الذي كنت لو تصدقنني، اقضي أيامي ساكناً لا يكاد يسرني أو يسوءني شيء - أما الآن فإني أثب وأتنقل من الرغبة الجامحة إلى عقل الجاف الممحل. وأحس دمي الحار ينبض في عروقي - لا بل أراه - وقلبي يثب إلى حلقي وتتعلق أنفاسي وتكاد تحتبس، ثم تغمرني موجة من المرارة الأليمة. . ويسخر مني عقلي ويهزأ مما تخيلته من صيحة أورفيوس إذ يدعو إليه يوريديس. وما دعا إلا قلبي، وأين مني أورفيوس؟ وأين منك تلك التي لم اعرفها إلا من (جلوك)
وليت من يدري أين أنت الساعة؟؟ إن الليل ساج كليلتنا تلك، والدنيا ساكنة تنتظر أن تخرجي إليها في هالة من الحسن، وأنفاسي معلقة وأذني مرهفة لأسمع، ولي على هذه الشرفة ثلاث ساعات طويلات المدد، ولست أحس تعباً أو اشعر بقلق، فإني كالمجنون أو المخمور، وإني لأرسل إليك من صيحات القلب ما لا يسمعه سواك لو انك تصغين. . ثلاث ساعات وأنا أدعوك وأنت لا تجيبين. . كلا!! صوتك الملائكي لا يسمع مرة اخرى، ولا ينطلق في هذا الليل الساجي لينعشه ويحييه. وان نوافذ بيتك لمفتوحة، وان الحجرات لمضاءة، ولكنها ساكنة كأنها مهجورة، حتى ليفزعني النور الذي يخرج منها
لم أسمع صوتك بعد ذلك ولكني رأيت الوردة التي في يدك وكنت تنفضين عنها الطل أو الماء، ثم غبت بها واختفيت بعدها كأنما يكفي غذاء لروحي أن أرى معك وردة حمراء. . . كلا. . . لست أريد ورداً وإنما أريد أن اسمع ذلك الصوت وانعم به، وان اجتلي عينيك وأرى في صقالهما روحي، وأن أرى رجفة شفتيك وأنت تبادلينني الأعراب عما ضاق
الصدر بما اجن منه والقلب بما وجد، وأن أحس خفق قلبك وتحسين دقات قلبي. . . فإذا كنت تؤمنين بما أؤمن به - وما أؤمن من الناس إلا بكِ وحدكِ لا شريك لكِ - وإذا لم تكوني خيالاً ينسخه النور. . وإذا كنت أنثى. . وكان لك قلب، فبالله ألا ما أسمعتني هذا الصوت مرة أخرى!! وهل أقل من ذلك؟؟
إنك جميلة وحزينة يا من لا أعرف اسمها - ولو كنت اعرفه لظننت به على الدنيا التي تجملينها - هذا ما قاله لي صوتك حين سمعته في فحمة الليل الساكن. وقد رأيتك بعد ذلك في الشرفة وفي يدك الوردة الحمراء ونظرت إلى عينيك الواسعتين تحت حاجبيهما المستقيمين فأعادت على نظرتهما ما كان صوتك قد أوحى به إلي - وإلا فلماذا يرتخي الهدب الطويل الأوطف إلا ليحجب ما عسى أن تشي به النظرة من الخواطر؟؟ ورأيت فمك الجميل وشفتيك الورديتين خلقة لا صناعة. . . شفتيك اللتين لا تعرفان كيف تبتسمان. . وفكرت في هاتين العينين اللتين لا اجتلى فيهما البشر والرضى، وفي هذا الفم الحلو الذي لا تريدين أن تدعيه يفتر عن ابتسامة - ولو ساخرة - فكرت في ذلك لحظة وان كانت عيناك وشفتاك جديرة بالتأمل دهراً كاملاً. . . ومن أعاجيبك أنى أراك أحياناً مسرورة ويبدو لي أنك قريرة العين ولكن لا ابتسام، ولا ضحك، ولا شيء من مظاهر السرور المألوفة. . . فقد لاحظتك ودرستك وخبرتك بقدر ما يتيسر ذلك لبعيد مثلي لا يراك إلا من النافذة، وأعجبت بشبابك وجمالك ورزانتك وكبريائك أيضاً، وبذوقك السليم في الثياب والزينة. . ودرست الذين حولك من أهلك. . . واحسب هذا الرجل المحتشم أباك وأظنك ورثت عنه هذا الجد الصارم والتحفظ الشديد. . وتلك احسبها أمك وان كانت تبدو اصغر من أن تكون أماً. ويعجبني منك ومنها إنكما تبدوان كصديقتين لا كأم وابنتها. والآخرون. . ولكن مالي وهؤلاء جميعاً؟؟
وقد رأيتك أمس تخرجين مع أمك أو يحسن أن اسميها صديقتك فإنها أشبه بذاك - وكنت واقفة بالباب تنتظرين أن تلحق بك وفي يدك وردة صغيرة تشمينها. . وإني لمجنون. . وإن لك أن تقولي إني طفل يرجو ويؤمن، أو رجل يحلم، ولكني اعتقد أن هذه الحركة الرقيقة كنت أنا المقصود بها، فما كان في الطريق ولا في النافذة غيري. . ونظرت إلى ناحيتي ثم رفعت الوردة إلى انفك الجميل وبعثت إليّ بهذه الوسيلة رسالة. . رسالة من
مجهولة إلى مجهول. . وخيل إليَّ - وقد أكون واهماً - إني لمحت امتقاعاً في لونك حينئذ فزادت الرسالة غموضاً على جمالها. . ثم مضيت وما لبثت أن غبت عن عيني. . وبقيت أنا مسمراً في مكاني لا أبرحه انتظاراً لعودتك. . مضت ساعة وأخرى وثالثة وأنت لا تعودين. . وإذا بك في الشرفة!! فإن كنت قد دخلت قبل ذلك بكثير ورأيت عيني التي لا ترفع عن الطريق حتى لا يفوتها منظرك وأنت عائدة، فلا شك إنك قد ضحكت من هذا الأبله المخبول الذي ينظر ولا يرى من فرط الاضطراب. . لا بأس. . وإذا كنت لم أرك فإنك في قلبي. . قلبي الذي صار محراباً لحسنك. . وإني لاحس أني أصبحت شيئاً مقدساً بحلولك فيه. . . .
إبراهيم عبد القادر المازني
بين عالمين
نظام الطلاق في الإسلام
للأستاذ أحمد محمد شاكر
نشرت في الرسالة (العدد 157 في 6 يوليو لسنة 1936) كتاب أستاذنا الكبير العلامة شيخ الشريعة، إمام مجتهدي الشيعة، الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، في نقد ما ذهبت إليه في كتابي (نظام الطلاق في الإسلام) من اشتراط الأشهاد في الطلاق وفي الرجعة، خلافاً لما ذهب إليه أئمة الشيعة من إشتراطه في الطلاق دون الرجعة، وقد انتصر الأستاذ - حفظه الله - لمذهبهم بأبدع بيان، مما لم نجد له نظيراً فيما بين أيدينا من كتب العلماء من الشيعة الإمامية
ووعدت أن أناقش الأستاذ فيما ارتأى واختار، وان أبين وجهة نظري، ملتزماً ما رسمته لنفسي من شرعة الأنصاف في البحث والنظر (فاكشف عن حجة خصمي وعن حجتي، لي وللناظرين: فأما انتصر قول خصمي ورجعت عن قولي، وإما انتصرت لقولي وزدته بياناً وتأييداً، لا أبالي أي ذينك كان)
ووفاءاً بما وعدت انشر هنا ما قلته في الكتاب (ص 118 - 121):
(قال الله تعالى في أول سورة الطلاق: (يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة، واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، وتلك حدود الله، ومن يتعدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه. لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذَوَيْ عدل منكم، وأقيموا الشهادة لله))
(والظاهر من سياق الآيتين إن قوله (وأشهدوا) راجع إلى الطلاق والى الرجعة معاً، والأمر للوجوب، لأنه مدلوله الحقيقي، ولا ينصرف إلى غير الوجوب - كالندب - إلا بقرينة، ولا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب. بل القرائن هنا تؤيد حمله على الوجوب: لأن الطلاق عمل استثنائي يقوم به الرجل - وهو أحد طرفي العقد - وحده، سواء أوافقته المرأة أم لا، كما أوضحنا ذلك مراراً، وتترتب عليه حقوق للرجل قِبَل المرأة، وحقوق للمرأة قبل الرجل، وكذلك الرجعة، ويخشى فيهما الإنكار من أحدهما، فإشهاد الشهود يرفع احتمال
الجحد، ويثبت لكل منهما حقه قبل الآخر، فمن أشهد على طلاقه فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدى حدَّ الله الذي حده له، فوقع عمله باطلاً لا يترتب عليه أي أثر من آثاره)
(وهذا الذي اخترناه هو قول ابن عباس: فقد روى عنه الطبري في تفسير (ج28 ص88) قال: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها اشهد رجلين كما قال الله: (وأشهدوا ذوي عدل منكم). عند الطلاق وعند المراجعة. وهو قول عطاء أيضاً فقد روى عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد قال: النكاح بالشهود والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود. نقله السيوطي في الدر المنثور (ج6 ص232) والجصاص في أحكام القرآن بمعناه (ج3 ص456). وكذلك هو قول السُّدّي. فقد روى عنه الطبري قال: في قوله: (وأشهدوا ذوي عدل منكم): على الطلاق والرجعة)
(وذهب الشيعة إلى وجوب الأشهاد في الطلاق وأنه ركن من أركانه، كما في كتاب (شرائع الإسلام ص208 - 209 طبعة سنة 1302) ولم يوجبوه في الرجعة، والتفريق بينهما غريب، ولا دليل عليه)
(وأما ابن حزم فإن ظاهر قوله في المحلي (ج10 ص251) يفهم منه انه يرى اشتراط الإشهاد في الطلاق وفي الرجعة، وان لم يذكر هذا الشرط في مسائل الطلاق، بل ذكره في الكلام على الرجعة فقط. قال: فإن راجع ولم يشهد فليس مراجعاً، لقول الله تعالى:(فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم) فقرن عز وجل بين المراجعة والطلاق والإشهاد، فلا يجوز إفراد ذلك عن بعض، وكان من طلق ولم يشهد ذوي العدل، أو راجع ولم يشهد ذوي العدل: متعدياً لحدود الله تعالى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)
(واشتراط الإشهاد في الرجعة هو أحد قولي الشافعي. قال الشيرازي في المهذب (ج2 ص111): لأنه استباحة بضع مقصود، فلم يصح من غير اشهاد، كالنكاح، وهو أيضاً أحد قولي الإمام أحمد. أنظر المقنع (ج2 ص259) والمغني (ج8 ص 482) والشرح الكبير (ج8 ص472 - 473)
(والقول باشتراط الإشهاد في صحة الرجعة يلزم منه أنها لا تصح إلا باللفظ، ولا تصح
بالفعل، كما هو ظاهر. وهو مذهب الشافعي)
هذا ما قلته في المسالة، وقد رد عليه الأستاذ شيخ الشريعة من جهتين: من جهة لفظ الدليل وسياق الآيات الكريمة، ومن جهة الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية. فقال في الوجه الأول:(إن السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه، حتى إنها قد سميت بسورة الطلاق، وابتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى: (إذا طلقتم النساء) ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدة، أي لا يكون في طهر المواقعة ولا في الحيض، ولزوم إحصاء العدة وعدم إخراجهن من البيوت، ثم استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق، حيث قال عز شانه:(فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) أي إذا اشرفن على الخروج من العدة فلكم إمساكهن بالرجعة أو تركهن على المفارقة، ثم عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال:(وأشهدوا ذوي عدل منكم) أي في الطلاق الذي سيق الكلام كله لبيان أحكامه، ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلا تبعاً واستطراداً)
وأما أن السورة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه حتى إنها سميت سورة الطلاق: فنعم. ولكن هل معنى هذا أنها مسوقة لأحكام إنشاء الطلاق وإيقاعه: من اشتراط حصوله في قبل العدة، ومن وجوب الإشهاد عليه، لا غير؟! ما أظن أحداً يرضى أن يدعي ذلك! ولو سميت السورة سورة الطلاق!!
فإن في السورة اثنتي عشرة آية، فيها نحو من خمسين ومائتي كلمة، لم يذكر فيها من الأحكام الخاصة بإنشاء الطلاق وإيقاعه إلا إحدى عشرة كلمة في الآيتين الأوليين. ثم سيق نصف السورة تقريباً لبيان الأحكام المتعلقة بالطلاق عامة، من إنشاء وإيقاع، ومن إمساك بمعروف أو مفارقة بمعروف، ومن عدة وإنفاق وإسكان وإخراج وأجرة إرضاع، ومن بيان لحدود الله في الطلاق ووعيد شديد لمن تعداها، ومن ترغيب في تقوى الله والتوكل عليه، كل أولئك في الآيات السبع الأولى من السورة الكريمة ثم سيق سائرها لأشياء أخرى ليست لها علاقة بالطلاق
فهل كل هذا ذكر تبعا لسبع كلمات في الأحكام الخاصة بإنشاء الطلاق في الآية الأولى، ولأربع كلمات في الآية الثانية؟! كلا! إنها سورة الطلاق، ذكر فيها كثير من أحكامه عامة، وسيق نحو نصفها لإرشاد الرجال إلى ما يجب عليهم عند الطلاق وبعده، وكل ذلك أصل
مقصود، لم يذكر شيء منه تبعاً ولا استطرادا
ولو قرا القارئ الآيتين الأوليين بأناة وروية، وتأمل فيهما على ما تقتضيه الفطرة العربية المستقيمة والذوق السليم، لتبين له إن الأمر بالإشهاد راجع إلى الأشياء الثلاثة المذكورة في الآيتين، وهي الطلاق: أي إنشاؤه، والإمساك بالمعروف: أي الرجعة، والمفارقة بالمعروف: أي إنفاذ الطلاق بتسريحها بإحسان عقيب انقضاء عدتها، وأنه لو كان المراد الأمر بالإشهاد عند إنشاء الطلاق فقط لكان موضع ذكره في صدر الآية الأولى عند قوله:(فطلوقوهن لعدتهن وأحصوا العدة)، أما تأخيره بعد ذكر الإمساك أو المفارقة فأنه صريح في عودته إلى جميع ما تقدم عليه
وهذا هو الذي فهمه اكثر العارفين باللغة والمتمكنين منها، ولم يستهجن أحد منهم عوده إلى الرجعة، ولا ادعي إنها ذكرت تبعاً واستطراداً، فابن عباس وعطاء والسدي وغيرهم فهموا أن الأمر بالإشهاد راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معاً، ولذلك قال ابن حزم (فقرن عز وجل بين المراجعة والطلاق والإشهاد، فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض)
وكذلك قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وهو من اعلم الناس باللغة وأفصحهم، فقد قال في كتاب الأم (ج5 ص226):(ينبغي لمن راجع أن يشهد شاهدين عدلين على الرجعة، لما أمر الله به من الشهادة، لئلا يموت قبل أن يقر بذلك؛ أو يموت قبل تعلم الرجعة بعد انقضاء عدتها، فلا يتوارثان إن لم تعلم الرجعة في العدة، ولئلا يتجاحدا أو يصيبها فتنزل منه إصابة غير زوجة)
وقال محمد بن جرير الطبري في التفسير (ج28 ص88): (وقوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم. وأشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهن، وذلك هو رجعة)
وقال العلامة جار الله الزمخشري في الكشاف (ج2 ص403): (وأشهدوا يعني عند الرجعة والفرقة جميعاً، وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة، كقوله: وأشهدوا إذا تبايعتم. وعند الشافعي هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة. وقيل فائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد، وألا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث)
وقال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط (ج8 ص282): (وأشهدوا: الظاهر وجوب الإشهاد على ما يقع من الإمساك وهو الرجعة، أو المفارقة وهي الطلاق. وهذا الإشهاد
مندوب إليه عند أبي حنيفة، كقوله: وأشهدوا إذا تبايعتم. وعند الشافعية واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة. وقيل: وأشهدوا يريد به على الرجعة فقط؛ والإشهاد شرط في صحتها، فلها منعه من نفسها حتى يشهد. وقال ابن عباس: الإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق يرفع من النوازل أشكالاً كثيرة)
وبنحوه قال سائر المفسرين، حتى لقد قال العلامة أمين الدين أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي المفسر من كبار أئمة الشيعة الامامية، المتوفي سنة 548 في تفسيره مجمع البيان (ج2 ص430 طبع إيران):(وأشهدوا ذوي عدل منكم. قال المفسرون: أُمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعةَ بعد انقضاء العدة، ولا الرجلُ الطلاقَ. وقيل معناه، وأشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم، وهو المروي عن أئمتنا، وهذا أليق بالظاهر، لأنا إن حملناه على الطلاق كان أمراً يقتضي الوجوب، وهو من شرائط صحة الطلاق، ومن قال إن ذلك راجع إلى المراجعة حمله على الندب)
فهذا الإمام الشيعي لا يرى مانعاً من جهة اللغة والسياق أن يرجع الأمر بالإشهاد إلى الرجعة والى الطلاق معاً، ويتأول ذلك، أو يدعي أن الظاهر رجوعه إلى الطلاق فقط، انتصاراً لمذهب الأئمة من أهل البيت في اشتراطه الطلاق دون رجعة
ومع ذلك فإن مذهب الإمامية أن الأشهاد على الرجعة مندوب إليه مستحب، نص على ذلك في كتبهم في مواضع مختلفة
وقد ورد في رواياتهم عن أبى جعفر الباقر عليه السلام في بيان طلاق العدة أنه: (إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته طلاق العدة فلينتظر بها حتى تحيض وتخرج من حيضها، ثم يطلقها تطليقة من غير جماع، ويشهد شاهدين عدلين، ويراجعها من يومه ذلك إن احب، أو بعد ذلك بأيام قبل أن تحيض، ويشهد على رجعتها الخ) نقله الطبرسي في التفسير، وشيخ الطائفة محمد ابن الحسن الطوسي في التهذيب، والإمام السعيد أبو جعفر محمد ابن علي بن بابويه القمي في كتاب (من لا يحضره الفقيه) وغيرهم
فهذا يدل على انهم يرون أن الأمر بالإشهاد في الآية راجع إلى الرجعة كما هو راجع إلى الطلاق، وان كانوا لا يشترطونه في صحة المراجعة، فذاك لشيء آخر وهو اتباع الأئمة من أهل البيت، ولولا أن الأمر راجع إليهما لما كان لديهم دليل على استحباب الإشهاد في
الرجعة، ولما قال أبو جعفر الباقر عليه السلام:(ويشهد على رجعتها) فأنه لم يرد طلب الإشهاد فيها في شيء من القرآن إلا في هذه الآية، ولم يرد أيضاً في شيء من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد ورد في أقوال الصحابة والتابعين، كما نقلنا عن ابن عباس وغيره
وكما روى أبو داود (ج3 ص257)، وابن ماجه (ج1 ص 319) عن مطرف بن عبد الله:(أن عمران بن حصين سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها؟ فقال: طلَّقت لغير سنة، وراجعتَ لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد)، وروى البيهقي في السنن الكبرى (ج7 ص373) نحوه من طريق ابن سيرين عن عمران بن حصين، وإسناده عند أبى داود إسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام (ص228)
وروى البيهقي بإسناد صحيح عن نافع قال: (طلق ابن عمر امرأته صفية بنت أبى عبيد تطليقة أو تطليقتين، فكان لا يدخل عليها إلا بإذن، فلما راجعها اشهد على رجعتها ودخل عليها)
فعبد الله بن عمر فهم من الآية أن الأمر بالإشهاد راجع إلى الرجعة ولذلك أشهد على رجعة مطلقته، وعمران بن حصين فهم ذلك أيضاً، وأنكر على من طلق ولم يشهد وراجع ولم يشهد، وأعتبره مخالفاً للسنة، إذ خالف ما أمر به في القرآن. وهما عربيان يفهمان لغتهما بالفطرة السليمة، قبل فساد الألسنة، ودخول العجمة على الناس
وأنا إذ أحتج بأقوال من نقلت قولهم من الصحابة والتابعين والمفسرين فإنما أحتج بها من وجهة الدلالة العربية وفهم مناحي الكلام في الآيات الكريمة، لا من جهة الرأي الفقهي الاستنباطي، فقد اختلفوا فيه اختلافاً كبيراً، فبعضهم يرى وجو بالإشهاد على الطلاق وحده ويجعله شرطاً في صحته، وبعضهم يرى وجوبه على الرجعة وحدها ويجعله شرطاً في صحتها، وبعضهم يراه مستحباً فقط في أمرين، وبعضهم يراه واجباً فيهما ولا يراه شرطاً في صحة واحد منهما، كما يفهم من كلام عمران بن حصين
وأما الذي أراه واذهب إليه فهو وجوب الإشهاد في الأمرين جميعا وانه شرط في صحة كل منهما، لأنه ثبت من دلالة الآيتين في أول سورة الطلاق إن الله سبحانه أمر الرجلين
بالإشهاد عند الطلاق وعند المراجعة؛ والأمر في حقيقته دائماً للوجوب، ولا يدل على الندب إلا دلالة مجازية؛ والمجاز لا يراد من الكلام إلا بوجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، ولا قرينة هنا أبداً تمنع إرادة المعنى الحقيقي، وإن أدعى شوكاني في نيل الأوطار ذلك إذ قال (ج7 ص43 - 44):(ومن الأدلة على عدم الوجوب أنه قد وقع الإجماع على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق، كما حكاه الموزعي في تيسير البيان)، وما أكثر دعوى العلماء الإجماع، خصوصاً في مسائل الطلاق!! وهي دعوة عريضة، يدعونها في كثير من المواطن إذا ما غلبتهم الحجة وأعوزهم البرهان، وليس لهم عليها أي دليل! كما قلت في (نظام الطلاق) وبينت هناك المعنى الصحيح للإجماع، (لكثرة إرجاف المرجفين بدعوى الإجماع في الطلاق، ليرعبوا العلماء المجتهدين الصادقين المخلصين، ويصرفوهم عن البحث فيه، أو يؤلبوا عليهم العامة والغوغاء. فتحاماه أكثرهم وأحجموا عنه، إلا من ثبت الله قلبه وأيده بروح من عنده)(ص 96 - 103)
(البقية في العدد القادم)
أحمد محمد شاكر
القاضي الشرعي
دانتي الليجيري والكوميدية الإلهية وأبو العلاء
المعري ورسالة الغفران
نفينا في كلمة سالفة أن يكون دانتي الليجيري قد تأثر في كوميديته برسالة الغفران لأبى العلاء، ورجحنا أن يكون قد احتذى ملحمة (الأنّييد) للشاعر الروماني الخالد فرجيل، وأن تكون ثقافته الكبيرة واطلاعه الواسع على الأدبين المسيحي والإسلامي، ثم إلمامه بالأدب الإغريقي القديم قد شقق له فجاج الخيال فاستطاع أن يضفي على كوميديته ظلالاً عبقرية جذابة من أشتات هذه الثقافات. فمن الأدب المسيحي استمد إيمانه الذي تفيض منه الكوميدية، واقتبس من رؤيا يوحنا اللاهوتي أمواهاً لون بها فصوله؛ ومن قراءاته الإسلامية - وأهمها القرآن - أفترض أخيلةً للجحيم خصبة قوية ارتفع بها إلى ذروة الأدب السامي الرفيع. . . أما من الأدب الإغريقي القديم فسنرى أن دانتي - أما بالذات وأما بالوساطة - قد قبس قبسة أسطورة أورفيوس وقبسة أخرى من هرقل وقبسات غير هذه وغير تلك من الأساطير التي تتناول الدار الآخرة (هيدز)
على إن ملحمة الانييد لفرجيل هي التي أوحت إلى دانتي فكرة الكوميدية. وقد رجعنا إلى الفصل الطويل الممتع الذي كتبه (بوكاشيو) عن مواطنه، وقرأنا كذلك ما كتبه الأستاذ فلبو فللاني في مجموعته وما كتبه الأستاذ العلامة ج. أ. سيموند عن دانتي، والمقدمة التي كتبها إدمند. ج. جاردنر للكوميدية (ترجمة كاري سنة 1908)، ثم الفصل الطريف الذي عقده الأستاذ رتشارد جارنت عن دانتي في كتابه (تاريخ الأدب الإيطالي ص24 - 52) فتأكد لنا إن دانتي كان معجباً إلى غير حد بالشاعر الروماني فرجيل وأنه كان يحفظ الكتاب السادس من الأنييد عن ظهر قلب، وأن هذا الكتاب السادس (الذي سنلخصه للقراء) من الأنييد إن هو إلا صورة مصغرة لجحيم دانتي مع فارق الغاية واختلاف المقصد بين كل من الشاعرين
أما أسطورة المعراج الملفقة التي لفتتنا إليها الرسالة، والتي خال بينها وبين الأساطير التي نحن بصددها علاقة أستاذنا الجليل صاحب (ذكرى أبي العلاء) فلنا فيها رأي سنذكره عند الكلام عن فردوس دانتي وعن جحيمه أيضاً
ولتشعب البحث نرى أن نضع بين يدي القارئ خلاصات موجزة لكل من رسالة الغفران
(مع صور للجنة والجحيم من القرآن الكريم)، ورؤيا يوحنا اللاهوتي، وبعض مجازفات أوليسيز من (الأوديسه)، وأسطورة أرفيوس، ورحلة هرقل إلى هيدز، والجزء السادس من أنيد فرجيل، ونتبع ذلك بخلاصة لكوميدية دانتي بأجزائها الثلاثة: الجحيم، والمطهر، والفردوس، ثم نقفي بمقارنة تاريخية لن تضر شاعرنا العربي العظيم في شيء، لأنه ليس ضيراً ألا يكون دانتي قد احتذى مثال أبى العلاء أو قلد أسطورة المعراج
1 -
رسالة الغفران
أرسل علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح إلى أبى العلاء رسالة إضافية تستفتيه فيها عن بعض مشكلات النحو والصرف، ثم يبدي (غيضه على الزنادقة والملحدين، الذين يتلاعبون بالدين، ويرومون إدخال الشبه والشكوك على المسلمين، ويستعذبون القدح في نبوة النبيين، ويتطرفون ويبتذئون - إعجاباً بذلك المذهب: (تيه مغن وظرف زنديق). . .) ويلم بأخبار بعض الزنادقة كبشار والقصار الأعور والصناديقي والوليد بن يزيد وأبي عيسى بن الرشيد والجنابي والحلاج وابن أبي العُذافر. . . الخ. . . ويشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم إشارة لها معناها، ثم يذكر شيئاً عن حجه وأسفاره وتحصيله لعلوم اللغة. . . ويتبسط في الحديث كأنما رفعت الكلفة بينه وبين أبي العلاء فيضع بين أيدينا مفتاح رسالة الغفران. . .
وقد قرأنا كل ما كتبه أدباؤنا عن رسالة أبي العلاء فراعنا أن واحداً منهم لم يعرض لرسالة ابن القارح بكلمة، وراعنا أن واحداً منهم لم يتوفر على دراستها ليدرك العلاقة بين الرسالتين، وكان يؤلمنا أن بعض أدبائنا لم يكن يدري من أمر رسالة الغفران شيئاً إلا إنها تهكم وسخرية بابن القارح؛ مع أنها رجع الصدى لزندقته وإلحاده
قال ابن القارح في ختام رسالته: (كنت بتنيس وبين يدي إنسان يقرأ، ويحزن،: (يُوفون بالنّذْر ويخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً؛ ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً؛ إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً؛ أنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً؛ فوقاهم الله شر ذلك اليوم، ولقاهم نَضرَة وسروراً؛ وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً؛ متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، ودانية عليهم ظلالها، وذُللت قطوفها تذليلاً؛ ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا، قوارير من
فضة قدورها تقديراً، ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً؛ عيناً فيها تسمى سلسبيلاً؛ ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رايتهم حسبتهم لؤلؤا منثوراً؛ وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً: عاليَهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحُلُّوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً؛ إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكوراً؛ أنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً، فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً؛ واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً؛ إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون ورائهم يوما ثقيلاً. . . . . .) قال ابن القارح: وكان القارئ يتألم ويبكي، فخطر لي خاطر فقلت: أنا بضد هؤلاء القوم، صلوات الله عليهم!!، أنا لا أنذر، ولا أفي، ولا أخاف شقاء ولا عناء!!)
أفرأيت وسمعت؟! ابن القارح ضد هؤلاء القوم، صلوات الله عليهم، لا ينذر ولا يفي ولا يخاف شقاء ولا عناء!! ومع ذاك فهو من علماء المسلمين الذين يفهمون معاني الآيات، ويعرفون من هم أولئك الأبرار الذين يشربون من كأس كان مزاجها كافورا. . . ابن القارح الذي ذكر في رسالته أنه يغتاظ على الزنادقة والملحدين والطاعنين في الأنبياء بغير الحق لا يهمه أن يكون بضد الأبرار المذكورين في سورة الدهر، ولا يهمه ألا ينذر ولا يفي فلا يخاف عناء ولا شقاء؟!
هنا مفتاح رسالة الغفران!!
ومن اجل ذلك كان عجبنا شديدا كيف أن أحداً من أدبائنا لم يلتفت إلى رسالة ابن القارح ليهتدي إلى الروح التي أملت رسالة الغفران. . لقد طرب أبو العلاء أيما طرب أن وجد أديباً مثله معجباً به يقدر أدبه وفلسفته وآراءه في الحياة والناس ويخاف مثله من مصارحة الناس بما يؤمن فيكتب بهذا الأسلوب المضمر الملغوز الذي يقول في أوله: إني اغتاظ على هؤلاء الزنادقة والملحدين مثل بشار والقصار والجنابي والحلاج ومن إليهم ممن يجدفون في الله وفي كتبه ويشككون الناس في أنبيائه؛ ثم يقول في آخره انه خطر له خاطر حين سمع قارئ سورة الدهر وهو يقرأ ويحزن ويبكي انه بضد هؤلاء الأبرار (صلوات الله عليهم؟!!) لأنه لا ينذر ولا يفي، ولا يخاف شقاء ولا عناء!
طرب أبو العلاء أيما طرب لأنه وجد رجلا مثله لا يؤمن بهذه الجنة التي عرضها السموات والأرض، ولا بهذه الأنهار من لبن وعسل وخمر، ولا بهذه العين السلسبيل، ولا
بهؤلاء الولدان المخلدين الذين يطوفون على المؤمنين بأكواب من فضة، ولا بالحور العين. . . ولا يؤمن بما جاء في أول سورة الدهر مما اعد للكافرين من سلاسل وأغلال وسعير. . وإذن، فليكتب أبو العلاء إلى ابن القارح، وليخضع في كتابته إلى ابن القارح لما تسميه السيكلوجية (تداعي المعاني) فيدخل به الجنة. . . ولكن قبل أن يدخل الجنة لا بد أن يبعث. . . وقبل أن يبعث لا بد أن يموت. . وسيلقاه عزرائيل ساعة الموت، فلا بأس من أن يناقشه أبو العلاء مناقشة صرفية فكهة مضحكة، فإذا دخل القبر وأغلق عليه وجاء الملكان منكر ونكير فأي بأس من أن يجادلهما كما جادل عزرائيل، فإذا رفعا الأرزبة ليدقا بها عنقه فأي بأس أيضاً من أن يربكهما بمناقشة صرفية عن هذه الآلة المحطمة ليشغلهما قليلاً عن تعذيبهما إياه. . . ثم أي بأس أيضاً من أن تستمر هذه المناقشة الصرفية في كل مكان من البعث، إلى أسوار الجنة، إلى الصراط، إلى داخل الجنة نفسها، إلى جهنم. . . الخ أليس قد أراد أبو العلاء أن يشارك ابن القارح سخريته؟ فلم لا يشاركه دعابته؟ ولم لا يداعبه تلك المداعبة المضحكة بشرط ألا يفهم أنها دعابة إلا ابن القارح، فإذا قراها رجل غير ابن القارح وكان عارفاً باللغة وأسرار نحوها وصرفها راقه ذلك التحقيق الفقهي لتصريف تلك الكلمات التي لا يسمن تصريفها ولا يغني من جوع من مثل (عزرائيل وملك وإرزبة وجهنم. . . الخ. . .) فإذا كان القارئ مؤمناً ورعاً يسره الحديث عن الجنة وملاذها ويخيفه الحديث عن جهنم وآلامها شاقه حديث الرسالة عن متع الفردوس، وهذا الإوز الذي ينتفض فيكون حورا عينا بإذن الله، وسمك الحلاوة الذي يسبح في أنهار الخمر والعسل واللبن والأري. . . وأخافه ما يرى في السعير من صنوف المجرمين الكافرين الذين كذبوا بيوم الدين. . . وما يكذب به إلا كل معتد أثيم. . .؟!
وقد طرب أبو العلاء أيضاً، وازدادت ثقته بصاحبه لأنه عرف فيه رجلاً يعطف مثله على الحيوان. . . . . لأنه (حدثه من يثق به وكان زاهداً (!) قال: كنت مع أبي البكر الشبلي ببغداد في الجانب الشرقي بباب الطاق، فرأينا شاوياً، وقد اخرج حملاً من التنور، وإلى جانبه قد عمل حلاوي فالوذجا، فوقف ينظر إليهما، وهو ساه مفكر، فقلت: (يا مولاي! دعني آخذ من هذا وهذا ورقاقاً وخبزاً، ومنزلي قريب، تشرفني بأن تجعل راحتك اليوم عندي، فقال: (يا هذا، أظننت أني اشتهيتهما؟ وإنما فكري في الحيوان كله!! لا يدخل النار
إلا بعد الموت. . . ونحن ندخلها أحياء!)
إذن، فليطمئن أبو العلاء إذا كتب إلى ابن القارح، وليطف به من البرزخ إلى المحشر إلى الصراط، ولتحمله وصيفة فاطمة الزهراء إلى داخل الجنة (زقفونة)! وليجذبه إبراهيم إلى الجنة رغم أنف رضوان. . . ولتكن هذه الحياة الأخرى مهزلة وملهاة مضحكة سواء أفي الجنة أو في الجحيم. . . وليحرض إبليس زبانية جهنم على جذب ابن القارح ليكون معه في بطن سقر. . . . . وليتقارض هذان الساخران الملحدان الضحك على المؤمنين وإله المؤمنين وأنبياء المؤمنين وجنة المؤمنين. . . . . وليتقارضاه آمنين مطمئنين فليس كل الناس بقادر على أن يدرك انهما يستهزئان بكل ذلك. . . . . بل كل الناس ستكبر أدب ابن القارح أدب أبى العلاء. . . . لأن ابن القارح (يغتاظ على أولئك الزنادقة الملحدين مثل بشار والقصار والجنابي والحلاج لأنهم يجدفون في الله وينكرون أنبياء الله ويكفرون بكتب الله ويشككون الناس في كل ذلك)، ولأن أبا العلاء قد أعطاهم صورة من الجنة تزيد المؤمنين إيماناً على إيمانهم وصورة من الجحيم تزيدهم منها خوفاً فوق خوفهم. . . وليفرح النحاة بابي العلاء لأنه حل لهم ألغازاً من الصرف والنحو لم يكونوا قادرين عليها، وهي عند أبي العلاء ضرب من الهذيان لا غناء فيه
على أن أشياء أُخر في رسالة أبي القارح تشعر القارئ برقاعة وفجور لا يدلان إلا على زندقة وفسق، ونفس خبيثة لا تتوقر، ولسان بذيء ينفث الفحش، وفم يقيئ الدنس. . . اقرأ هذه النبذة التي دسها ابن القارح من غير ما مناسبة اقتضتها في رسالته:(دفع رجل إلى صديق له جارية وأودعها عنده وذهب في سفره، فقال بعد أيام لمن يأنس به وتسكن نفسه إليه: يا أخي! ذهبت أمانات الناس! أودعني صديق لي جارية، في حسابه أنها بكر، جربتها فإذا هي ثيب!!)
وهو قبل ذلك يشكو إلى أبي العلاء انصرافه عن طلب العلم وانغماسه في الأغراض البهيمية وانه قبل أن يجيء إلى مصر كان يذاكر خمسين ورقة كل يوم، ولكن الأغراض البهيمية التي عرفها في مصر وانغمس فيها ثمة صرفته عن جده ومثابرته فهو لا يذاكر إلا خمساً ومع ذلك تكل عيناه في تحصيلها على قلتها. .
وحديث ابن القارح عن الزنادقة حديث الهازل غير الجاد. . حديث (المستملح) لما كان
يصدر عنه هؤلاء الزنادقة من عتو وإلحاد والتماس الرفد والتوسل إلى المنفعة بالتدين. . وقد اشتهر عن أبى العلاء نفسه انه كان يتهم الأنبياء بمثل ما اتهم به ابن القارح الزنادقة من هذا الالتماس للرفد عن طريق الدين، واللزوميات تفيض بشواهد كثيرة على ذلك
ونحن لا ندري لم حشد ابن القارح هذا الحشد الكثير من الزنادقة في رسالته، وألم فيها بشر ما كان يصدر عنهم من تسفيه الانبياء، وسب الخلفاء، والتبرم بالإسلام والمسلمين؟ أليس كان يشير أبو العلاء إلى كثير مثل هذا في لزومياته؟
أسمع إلى هذا الرجل من يهود خيبر يعرض بموسى ويستهزئ بعمر حين أجلى أهل الذمة عن جزيرة العرب:
يصول أبو حفص علينا بِدِرّة
…
رويدك إن المرء يطفو ويرسب
كأنك لم تتبع حمولة مأقطٍ
…
لتشبع، إن الزاد شيء محبب
فلو كان موسى صادقاً ما ظهرتمو
…
علينا، ولكن دولة لم تذهب
ونحن سبقنا كم إلى المين فاعرفوا
…
لنا رتبة البادي الذي هو أكذب
مشيتم على آثارنا في طريقنا
…
وبغيتكم في أن تسودوا وترهبوا
واسمع إلى الذي يسب أبا بكر لشدة ما نالته منه فرحل إلى بلاد الروم:
لحقت بأرض الروم غير مفكر
…
بترك صلاة من عشاء ولا ظهر
فلا تتركوني من صبوح مدامة
…
فما حرم الله السلاف من الخمر
إذا أمرت تيم بن مرة فيكمو
…
فلا خير في أرض الحجاز ولا مصر
فإن يك إسلامي هو الحق والهدى
…
فإني قد خليته لأبي بكر!!
وهكذا يحشد ابن القارح في رسالته كل ذلك الفحش من أقوال الزنادقة وهو يعرف أن أبا العلاء قد قال مثل ذلك في لزومياته، فكأنه قصد إلى أن يغني على عوده ويضرب وراء هواه،. . . ولا ينفعه بعد ذلك سبه لهؤلاء الزنادقة، هذا السب الذي يكاد يكون رشقاً بالورد وتحية بالريحان وتزويراً على القارئين
وبعد فموضوعنا دانتي وأبو العلاء، وهذا حديث طويل عن ابن القارح.،. ولكنه حديث عن السبب في كتابة رسالة الغفران سنحتاج إليه حين نتكلم عن السبب في كتابة الكوميدية الإلهية
ولنختم هذا المقال بذيل عن رسالة الغفران ليكون بين يدي القارئ خلاصة خاطفة لها:
دخل المعري بصديقة ابن القارح جنة الفردوس، فركب نجيبا ينتقل عليه في آفاقها، ثم طفق يطوف على أهلها ممن غفرت لهم خطاياهم في الدار العاجلة ببيت شعر أو كلمة طيبة، وترك المعري لخياله عنانه الطويل فتفنن ما شاء في وصف حور الجنة وأنهارها وألوان نعيمها. . . ويلقى ابن القارح تميم ابن أبي الشاعر فيسأله عن أبيات كان قد قالها، ثم يتشقق الحديث فيقص ابن القارح على تميم قصة بعثه وهول المحشر ثم حديثه مع رضوان وزفر، ووروده على الحوض المورود ولقائه فاطمة بنت النبي واستشفاعه بها وجذب إبراهيم بن النبي إياه فيكون داخل الجنة. . .
ويعود ابن القارح إلى محاورة أهل الفردوس ممن غفر لهم ويطوف بحدائق الحور ثم ينفتل إلى جنة العفاريت فيحدثه أهلها بأعجب الأحاديث. . . ويشتاق إلى الاطلاع على أهل الجحيم، فيتحدث إلى الخنساء (والعجيب وضعها في النار مع حسن إسلامها ووضع اشد الكفار عتوا في الجنة!!) ويتحدث إلى إبليس والى طائفة كبيرة من شعراء الجاهلية. . . ثم يعود إلى الفردوس فيتحدث إلى آدم. . . ويخلص إلى جنة الرُّجاز. . . ويختتم الكوميدية بوصف بارع لنعيم الخلد. . . .
(يتبع)
د. خ
شعراء الموسم في الميزان
نقد وتحليل
للأديب عباس حسان خضر
- 2 -
صرعى الأغراض
تناول شعراء الموسم مختلف الأغراض، فلم يكن منها في صميم ما يحس به جمهور الشعب إحساساً عميقاً شاملاً غير هذه القصيدة، وقصيدة (وطني) للأستاذ محمد الههياوي، فلقد كانت هذه الصيحة التي أعلنها الأستاذ أحمد الزين حبيسة في نفوس الكثيرين، حتى لقد كانت زفرات الصعداء تقترن بتنفس الإعجاب، ولقد تناول الأستاذ جزئيات الموضوع في استقصاء وبيان لا يتأتيان لكاتب مطلق القلم من قيدي الوزن والقافية. استمع إليه يفند دعاوي العدل والمساواة والحضارة، في حجج بالغة:
لا يدعي العدل قوم في عدالتهم
…
صرعى الكفايات تشكو ظلم أهليها
ولا المساواة، والأفهام لو وزنت
…
مع الغباوة فيهم لا تساويها
ولا الحضارة من تجزي نوابغهم
…
وحشية تسكن البيداء والتيها
والأستاذ الزين يأتي المعاني من أبوابها، ويتناول مفاتيحها تناولاً حسناً، ثم يجلوها في ألفاظ عذبة مونقة؛ يؤلف بين الشقائق، ويجمع بين الأشباه والنظائر، فلا تجد كلمة في غير موضعها، وإن ما يضطر إليه الشعراء من التقديم والتخير وغيرهما لا تجد له أثراً في شعره، وهذه قصيدة (صرعى الأغراض) التي نحن بصددها، اقرأ مطلعها:
هات المدام ولا تسمع لشانيها
…
إن الزمان يصافي من يصافيها
هل تستطيع أن تلفظ كلمة وتقف؟ لا، لا بد أن يجري البيت كله على لسانك حتى لتشعر كأنه ليس مؤلفاً من كلمات ينفصل بعضها عن بعض
وفي الأبيات التالية تصوير يدل على المهارة الشعرية:
ملء المناصب منهومون قد جعلوا
…
من دونها سد ذي القرنين يحميها
على مناعة ذاك السد تنفذه
…
عصابة تتواصى في حواشيها
من كل أخرق تنسل الحظوظ به
…
إلى المراتب يسمو في مراقيها
خابي القوى عبقري الجهل يثقله
…
عبء الرياسة إذ يدعوه داعيها
فتراه قد استوعب في هذه القوالب الشعرية أكثر المعاني التي تتركب منها هذه الموصوفات، وهذه غاية التصوير الشعري؛ وفي (عبقري الجهل) ظرف كثير، وقد أخذت هذه الكلمة سبيل الكلمات السائرة
والقصيدة زاخرة بالمعاني، منها ما هو عام يجول في نفس الشاعر وفي نفوس غيره، بيد أنه تفرد في ترجمة المعنى وصوغه في صور طريفة، ومنها معان مبتكرة مضى إليها خياله سابقاً، فمن النوع الأول قوله:
أرخصتمو غالي الأخلاق في بلد
…
لم تغل قيمته إلا بغاليها
يا رب نفس أضاء الطهر صفحتها
…
أفسدتموها فزلت في مهاويها
وكم قلوب كساها الحسن نضرته
…
دنستموها فعاد الحسن تشويها
أغلقتمو سبل الأرزاق لم تدعوا
…
لفاضل الخلق سعياً في نواحيها
مدارس تغرس الأخلاق في نشأ
…
ومغلق الرزق بعد الغرس يذويها
لا تلح طالب رزق في نقائصه
…
إن الضرورات من أقوى دواعيها
ما أطهر الخلق المصري لو طهرت
…
تلك الرياسات من أهواء موحيها
ومن أبكار المعاني قوله في الخمريات التي ابتدأ بها:
بكرا تدور على الندمان لابسة
…
عقداً من الحبب الدري يزهيها
سرى شذاها فحيا النفس أنفسا ضعفت
…
من الهيام بها عن أن تحييها
فهذا (الزين) أول من يلبس الكأس عقداً؛ والبيت الثاني اشتمل على معان لا يسلكها في بيت واحد إلا شاعر فحل، فالكأس ذات شذى يحي الأنفس، والأنفس تتأثر بالشذى حتى يستهلكها، فما تعود قادرة على تحية الكأس الوافدة عليها يقدمها شذاها محيياً. وإليك هذين التشبيهين في مواهب النوابغ:
جادوا بأعمارهم حتى لجاحدهم
…
إن المواهب سلم في أعاديها
كالشمس تقيس منها عين عابدها
…
وترسل النور في أجفان شانيها
والنفس إن ملئت بالود فاض على
…
نفوس أعدائها بالود صافيها
كالسحب إذ ملئت بالغيث فاض على
…
جدب البلاد خلوف من هواميها
بعد أن تقرأ التشبيه الأول وتقضي حقه من الإعجاب قف هنيهة عند التشبيه الثاني، وانظر قوة معانيها وكثرة اوجه الشبه فيه، فالنفس المشبعة بالود كالسحب المشبعة بالغيث، والنفوس التي تجحدها كالأرض الجدب، ومع هذا فالنفوس الخيرة تعلو علو السحب وتفيض على جاحديها بالود كما تفيض السحب على الجدب بالغيث
والزين أول من يطالب بدم قتلى المواهب في قوله:
يا آخذين بقتل النفس قاتلها
…
قتلى المواهب لم يسمع لشاكيها
كم للنبوغ دماء بينكم سفكت
…
باسم المآرب لا اسم الله مجريها
هلا اقتصصتم لها من ظلم سافكها
…
وقل فيما جناه قتل جانيها
أولى الورى بقصاص منه ذو غرض
…
يخشى المواهب تخفيه فيخفيها
ويصور القاتل في هذه الصورة النفسية المبدعة يخفي المواهب بقتلها حتى لا تغطي عليه وتخمله
وهذه القصيدة من الشعر الذي يقال فيه: ألفاظه قوالب معانيه؛ فالمعنى يسابق اللفظ حتى يكاد يسبقه، واعتقد أن نجاحها - إذ كانت قصيدة الموسم غير منازعة - يرجع أكثره إلى شدة إحساس الشاعر بمعانيها، وصدورها عن شعوره العميق في ثوب من البيان السليم من التكلف والتعقيد
ويظهر أن حسن القصيدة شغلني عما عساه أن يكون فيها من المآخذ؛ وان كان الإنصاف قد اقتضاني أن أبدي - ما استطعت - بعض حسناتها، فإن الإنصاف نفسه يقتضيني أن أنظر إلى الكفة الثانية. .
يقول:
كم للنبوغ دماء بينكم سفكت
…
باسم المآرب لا اسم الله مجريها
يقال - مثلاً -: إن هذا الإثم ارتكب باسم المصلحة العامة، أي أن المصلحة العامة اتخذت اسما فحسب لتبرير الفعل، وتكون الحقيقة أن هناك باعثاً على الفعل غير الذي اتخذ اسماً؛ فالتعبير الذي في البيت وهو أن الدماء سفكت باسم المآرب يفهم أن المآرب اتخذت اسماً فقط، مع أنه يريد أن المآرب هي الباعث الحقيقي على سفك دماء النبوغ
ويقول مندداً بإقامة الدور لحفظ الآثار:
ورافعين من البنيان شاهقه
…
فيه الذخائر قد صفت لرائيها
فبينما هو يغض من شأن الآثار ويقول عنها في الأبيات التي قبل هذا البيت: خرق وخزفات. . إذ به يسميها ذخائر! ولو صح عنده أنها ذخائر ونفائس لما كان هناك موضع للسخرية من الاهتمام بها؛ على أنني لا أدري لماذا يحمل الأستاذ الزين على الآثار هذه الحملة العنيفة، هل العناية بها تمنع من تقدير ذوي المواهب؟
قد يقال: إن الشاعر لا يُنقد في رأيه؛ ولو خالف به ما أجمع عليه الناس، مادام قد اخرج ما ذهب إليه مخرج لطف وإبداع. هذا صحيح ولكن هذه القصيدة تعد من الشعر الكتابي الذي يمحص فيه الرأي، لذلك ولأن القصيدة ذات أثر في نفوس الجمهور احب أن أناقش الشاعر في رأيه هذا، فماذا لو أنه جمع بين العناية بالبحث عن الآثار القديمة وبين تقدير ذوي المواهب؟ على أن الأستاذ الزين نفسه يعمل في البحث عن الآثار القديمة، ويدأب في دار الكتب على كشف كنوزها، وينشئ لها من تحقيقه وتصحيحه ما يجدد باليها ويحفظ، وهو الآن يعمل في كتاب نهاية الأرب، وهو أثر من الآثار العربية القديمة
أفيجب أن يكف الأستاذ عن عمله هذا حتى يلتفت الناس إلى تقدير المواهب والعناية بالنوابغ؟ أم هو رأي شاعر كالزهرة ينبغي مسها برفق لأن العنف بها يودي بنضرتها. . .
في قريتي
يتحدث الأستاذ أحمد الكاشف في هذه القصيدة عن حاله في قريته وما يتصل بها في غيرها حديثاً تنفحك منه ريح الفطرة المحببة، وتجد فيه روح الشعر الجاهلي المرسل على طبيعته لا يُعرِّج على عمق ولا يرهق حساً؛ فالشاعر يسترسل في بيان ما يشعر به استرسال شعوره بما يترجم عنه، وقد جاءت القصيدة مطبقة لكل ما يحيط بشاعر معمِّر مثل الكاشف قد طبع على الشعر، ومر به من الحوادث ما يستفيد منه شاعر متيقظ الذهن، يقيم في قرية يطل منها على الحياة العامة في سائر البلاد؛ فهو يَطلعُ علينا بقوله:
جمعت في العيد حولي سائر الآل
…
وملتقى الآل حولي كل آمالي
ويمضي في مثل هذه لديباجة العربية وهذا الأسلوب الجزل يعرض شأنه مع آله، ويتمثل الأجيال المقبلة من النشء الذين يرعاهم ويعدهم للغد، في قوله:
كأنني - وهم في الدار - مطلع
…
منهم على أمم شتى وأجيال
أعدهم لغد والمقبلين غدا
…
في هذه الأرض أجنادي وأبطالي
ويصف حياته في الريف واعتزاله فيه، ثم يشكو من إهماله شكاية لا يلبث بعدها أن يعود إلى ذكر قناعته بما يزاوله في الريف قائلا:
إن لم يكن لي ديوان وحاشية
…
يوما فحسبي محارثي وأنوالي
وهو صاحب الشعر السياسي، فلا بد أن يفخر بما أبداه في شعره من الآراء النافعة في الحياة السياسية عاتباً على القوم إهمالهم له، فيقول:
الست ممن دعا الأحزاب فائتلفت
…
إلى الذي فيه كانوا أمس عذالي
أرى المودة بالقنطار بينهمُ
…
ولم أفز بينهم منها بمثقال
ثم يتكلم في المحادثات الجارية الآن بين الجانبين: المصري والبريطاني كلاما جامعاً، على قصره، ويصيب به الغرض فيقول:
ولم أزل بينهم للخصم متقيا
…
دخائلاً هي في ذهني وفي بالي
أخشى على رسلهم نياته وهمُ
…
منه أمام جلاميد وأدغال
وما تزال كما كانت سياسته
…
يدور فيها بألوان وأشكال
وموضع الند أرجو عنده لهم
…
لا موضع الصيد من أنياب رئبال
إلى أن يقول:
وكم يكون لهم من ضيقهم فرج
…
كما تدافع أهوال بأهوال
ثم يعطف على إخوانه الشعراء فيتألم لعدم نيلهم ما يستحقون، ويخاطبهم بقوله:
وتملكون من الدنيا سرائرها
…
ولا تحلون منها الموضع العالي
وما يتاح لكم في الأرض متسع
…
كما يتاح لعراف ودجال
ثم يدفع ما يقال من انقضاء الشعر بعد شوقي وحافظ بان مصر ملأى بأشباهه من الشعراء، وهو، باعتزازه، يرى في أن هذا الكفاية، إلى أن يقول في ذلك:
إن لم ير الحي بعد الميْت منزلة
…
منهم فلا خير في المحزون والسالي
والقصيدة - كما ترى - ليس لها وحدة، ولا تدور حول فكرة، وإنما موضعها شاعر يقول فيما يحس به من الحياة القروية ويعبر عما يخالجه نحو بعض الشؤون العامة؛ وهي ممتعة
مقنعة للنفس بما تتطلبه من الشعر، وأن كان للناقد فيها مواقف للمؤاخذة
الشاعر قليل العناية بالملائمة بين المعاني التي تناولها، ففي القصيدة كثير من الأبيات التي يقول عن مثلها نقاد الأدب من القدماء:(أبناء علة) أي أنها متنافرة تنافر الاخوة غير الأشقاء مثل هذين البيتين:
لو كان للنبت إحساس رأفت به
…
وبت للنبت أيضاً غير أكال
كأنما قريتي مادمت ساكنها
…
ولاية وكأني العمدة الوالي
وبينما تجده يمدح عشرة من يعاشرهم وما يلقاه فيها من عاطفة، إذ بك تراه ينعى على قومه انهم لا يساعدونه في حمل أعبائه كما قام بأعبائهم، وهوانه ليدهم إلى أن يقول في هذا:
ولو بليت بجبارين ما بلغوا
…
مدى الأحبة من قهري وإذلالي
فيبدو في ذلك كأنه متناقض؛ والواقع انه يريد من الأولين الذين يبدي ارتياحه إلى عشرتهم - أبناء قريته؛ أما الشكوى فممن عداهم من أبناء البلاد، ولكنه لم يبين، بل مزج الكلام وراح يتحدث عن الفريقين كأنهم فريق واحد!
قرأت هذا البيت:
أعدهم لغد والمقبلين غدا
…
في هذه الأرض أجنادي وأبطالي
فوقفت عند (أجنادي وأبطالي) ما شأنهم؟ أيخبر بهم عن (المقبلين) إذن يجب أن تكون (المقبلون) ولكن في الهامش أن الواو للعطف، فيبقي (أجنادي وأبطالي) لا شأن لهم بما قبلهم ولا بما بعدهم
وهو يفسر هذا البيت:
ما أحسن الشمل أرعاه وأشهده
…
لأمهات وآباء وأطفال
بما بعده:
فلا أرى فرقة في الدهر قاطعة
…
لمطمئن وخفاق وجوال
ولا يصاب هديل في أليفته
…
ولا الغضنفر في غيل وأشبال
وعلماء الأدب يعدون من عيوب المعاني ألا يستكمل التفسير أفراد المفسر؛ فهو قد بين شمل الآباء والأطفال بقوله: (ولا الغضنفر في غيل وأشبال) ولم يأت بذكر الأمهات، وزاد الأليفة
ويقول انه يعيش بالبقل والفاكهة، ولا يأكل اللحم رأفة بالحيوان إلى أن يقول:
وقد أقاتل للحي المسالم من
…
طير ومن حيوان كل قتال
لو كان للنبت إحساس رأفت به
…
وبت للنبت أيضاً غير أكال
فكيف يرأف بالحيوان ثم يقاتل حيواناً آخر، لو قال:(أدافع) بدل (أقاتل) لكان مقبولا. أما قتال الحيوان فلا تقتضيه الرأفة به. ويقول انه لو كان للنبت إحساس لم يأكله أيضاً! انه إذن لن يجد شيئاً يعيش منه، وماذا يفعل لو علم أن العلم الحديث أثبت أن للنبت إحساساً؟
وقال:
ولم أجد من وضيع الذكر خامله
…
ما ساءني من رفيع الذكر مختال
قابل بين وضيع الذكر ورفيعه، وهذه مقابلة صحيحة. أما المختال فلا يقابل خامل الذكر، إنما يقابل الخامل النابه
(يتبع)
عباس حسان خضر
الكمال
للأستاذ فخري أبو السعود
قد أسرَّت إليَّ نفسيَ يوما
…
أنها لا تحب إلا الكمالا
لا تحب الأمور قد شابها النق
…
صُ وساوى الفحولَ فيها الكسالى
هتفت بي: إِلامَ تطلب في كلِّ
…
ضئيل من الأمور مجالا؟
قانعاً بالقليل قصداً وبالهيْ
…
نِ مقالا وبالتوسُّط حالا
قد أسَغتَ الفضولَ واللغو حتى
…
بتَّ عندي تُشابِهُ الجهالا
رمتُ إرضاَءها فآليت لا أر
…
ضى بغير الكمال يوما منالا
وحواني جمعٌ فصممت لا أنْ
…
طق فيهم سوى الصحيح مقالا
ومضت ساعة فأخرى وما أسْتَغ
…
تُ جواباً ولا استطبتُ سؤالا
صامتاً عابس الجبين ازدراءً
…
لحديثٍ بين الجماعة جالا
ضقتُ ذرعاً بالجِدّ منهم وبالهز
…
ل وضِحكٍ مستهجَن يتعالى
ضقت ذرعاً بهم وأنكَرَ منِّى ال
…
قومُ زهواً وجفوةً وملالا
وبدَتْ فرصةٌ تبشِّر بالخي
…
ر ويُحيى سنوحُها آمالا
فرصة جاد لي بها الدهر عفوا
…
رحت أسعى لها وابغي احتيالا
فتذكرتُ قول نفسي، فاعرض
…
تُ أزوراراً عن مطلبي واختيالا
قلتُ: ما يستحق مني عناءً=مِثْلُ هذا أو يستحق احتفالا
إن يَلُحْ مطلبٌ بمثلي خليقٌ
…
كنتُ فيه الهمام والفعَّالا
وتراءت بخاطري فِكَراتٌ
…
وأحاسيسُ كل يوم تَوالى
كلما قلت: سوف أنظم من ها
…
تيك سحراً من البيان حلالا
حقّرتْها نفسي وقالتْ: هراءٌ
…
ليس يُلقى إليه ذو اللُّب بالا
تحتفي اليومَ ناظما لِمَعانٍ
…
في غدٍ سوف تحتويها ابتذالا
فَدعِ القولَ أو يَعِنَّ عظيمٌ
…
وصُنِ الشعرَ خيفةً أن يُذالا
فهجرتُ اليراع دهراً ولم أُلْ
…
فِ جديداً مستأهلا إن يقالا
صاحِ ذا عالمُ النقائص من را
…
مَ كمالاً به أراد المحالا
من أراد الكمال في كل قصد
…
حقّر السعي واستخسّ النضالا
من بغى المنتهى أقام فلم يَبْ
…
رَحْ وعافَ المقالَ والأفعالا
فخري أبو السعود
أبو الهول
للأستاذ عبد الرحمن شكري
أنَخْتَ فوق الدهر بالكلكل
…
وكُنتَ مثل الواعظ المُرْسَلِ
عند فلاة قلَّ قُطَّانها
…
هل باختيار كنتَ في معزلِ
مضى الأُلى شادوك في مجدهم
…
كأنه منك لدى موئل
فهل مللتَ العيش من بعدِهم
…
كأنما جُلِّلْتَ بالمُثقِل
ثقل من الدهر تحمَّلته
…
لو حل بالأطواد لم تحِمْل
فهل يَدِرُّ العيش من بعدهم
…
أم ما ضُروع الدهر بالحُفل
وأنت مثل الخان في لبثه
…
ونحن مثل الراكب المُعْجَل
غدا ترى عيناك من بَعدنا
…
غير حُلولِ الحي والمنزل
كم أمة من بعدها أمة
…
قد رحلت عنك ولم ترحل
فأنت سِفْرُ الدهر خطَّت به
…
يداه آي المُحْكَمِ المُنْزَلِ
فاتل لنا من آية آية
…
لعلنا نُجْنُبُ ما يبتلى
كم وعظ الدهر فلم نَزْدَجِرْ
…
وكم سما الناس ولم نَعْتل
نعاف مستطرف ما يُرتجى
…
كأننا في العيش لم نُجْبَل
قيدنا العجز ونرجو عُلًى
…
يسمو الذي في الطير لم يُكبل
فيا مِثال الدهر يا رمزه
…
كم صنم في القلب لم يَبطُل
كأن روح الدهر في جسمه
…
إن ترَهُ من نحوه تمثُلِ
تحسبه من هيبة عاقلا
…
من حسب المرهوب لم يعقِل
كأنما في طيِّ ألحاظه
…
ذكرى لعهد الزمن الأول
كأنه في صمته حارس
…
يحرس باب القَدَرِ المقفَل
يا عجباً أبصرتَ ما قد مضى
…
ونظراتٌ منك لم تُقتَلِ
أبصرتَ أكل الدهر أبناَءهُ
…
ألم تُرَعْ من ذلك المأكل
بينكما نجوى على صمته
…
وصمتة في فيك كالمِقْوَلِ
مرت بك الأيام مخشية
…
كأنها مرت على هيكل
فابعث لنا من عزمها عُدَةً
…
فلو سألتَ الدهر لم يبخل
ولو نهيتَ الدهر لم يَعْتَدِ
…
ولو زجرتَ الدهر لم يُقبِل
والدهر كم تَسْحرُ أحداثُهُ
…
لب غضيض اللب والمِفصل
أي حكيم قد رأى ما رأت
…
عيناك في الدهر ولم يذهل
يا ناظرا ينظر هذا الورى
…
نظرة طرف الناظر المُعضِل
انظر إلى الأقدار في غيبها
…
واذكر مآل العيش في المُقبِل
أغابر الأيام في صرفها
…
كمُضمَرٍ في الغيب مُستقبل
أَمالِكٌ عُوجلَ عن مُلكه
…
كذي علاء بَعُدَ لم ينزِل
وللناس حلْيُ القاهر المُعتلي
…
يألم نار الحاذق الصيقل
يصوغهم كل غَلُوبٍ على
…
سنة مُلكِ الرمح والمنصل
كم عَبْرَةٍ للناس أبصرتها
…
وعبرةٍ للهاطل المُسبِلِ
فهل دموع النحس تحي الورى
…
مثل عقيب المطر المرسل
أراك لا ترثي لما نابَهم
…
يا ليتني مثلك لم احفل
ومقلة تخبر ألحاظها
…
أنَّ عيون الدهر لم تُسمل
والدهر وهو الساهر المعتدي
…
يُغضي وعين لك لم تغفل
ورب لحظ منك قد رِشْتَهُ
…
في قلب هذا الدهر كالموغل
فابحث خباياه وأحناءه
…
واكشف لنا عن ذلك الغيطل
كأَن روح الدهر تبغي به
…
وكُناً لها اُحْكِمَ كالمعقل
تحسبه لو جئته ناشداً
…
معنى حياة الناس لم يجهل
يا من سؤال العيش في صمته
…
اسأل ومن لم يَدْرِه فاقتُلِ
كم امتطى الأيام تجري به
…
كأنه والخلد في منزل
كم عَبَّ لج الدهر ثم انثنى
…
إلا بقايا الماء في الجندل
كأنه منتظرٌ مَوعِدا
…
حُيِّنَ كي ينطق بالمِقْوَلِ
لوفاه يوماً ذاكراً سره
…
لم يعجب الرائي ولم يَعْجَل
أو انه المسحور في صمته
…
قد كان يمشي مِشيَةَ المُشبِل
فخاف صرف الدهر من فتكه
…
وعلمه بالحادث المُقبِل
فذاده بالسحر عن نطقه
…
حتى تناسى عيشه المُنْجَلي
عبد الرحمن شكري
العمر والأماني
بقلم الشاعر عثمان حلمي
مُنىً تناثرنَ حولَ النفسِ ذابلةً
…
كما تناثرَ حولَ الدوحةِ الورق
تأبى التجاريبُ إلا أن تودِّعها
…
بين الطِّماح وبين اليأس تصطفق
والعمرُ يجري كما يجري السحاب فما
…
يعودُ ما جدّ منه وهو يستبق
وإن أعيدَ فلا حمدٌ لعودته
…
هي الليالي غضابٌ أو بها خرَق
وكالأعاصير في قلبي مضاضتها
…
أو كالجحيم وفيها القلبُ يحترق!
نظرتُ للسالف الماضي فوا جزعاً
…
إذا تلاقت به في المقبل الطرُق
ونظرتي لحياتي وهي مقبلةٌ
…
اليوم غيَّرها سارٍ بها نَزِق
تبدَّلت نظراتي في الحياة كما
…
تبدَّل اللونُ لما طاشت الحدق
مالي وللمنى ما جدَّ بي زمنٌ
…
إلا وطاحَ بنفسي عاصفٌ حَنِق
لونُ الحياةِ كلونِ النفس تبصره
…
ما طويت فلا مينٌ ولا ملق
في غاية النفس والدنيا وسرّهما
…
تحيَّر الخلق في سّرٍ له خُلقوا
غادٍ على الأرض فيها رائح جَزِعٌ
…
ذو الصبر يطوي ويطوى الجازع الحمق
وكلُّنا في الليالي صاعدٌ جبلا
…
تَزَلُّ أقدامُنا عنه وتنزلق
متى بَصُرْتَ بآلام الحياة ضحًى
…
أيقنتَ أيَّ رجاءٍ ضمَّه الغسق
والحبُّ والبغض إن جدَّا زوالهما
…
حقٌ وأيُّ جميعٍ ليس يفترق!
وادمعٌ ليَ حيرى في محاجرها
…
ولي فؤادٌ ولكن بالأسى خَفِقَ
فكنتُ أحسبُ أحلامي محققةً
…
ولا محالة حتى لاح لي الشفق
آمنتُ أنّ وجودي كلُّهُ خُدَع
…
وأنّ نفسي تحكي كلِّ من سبقوا
(الإسكندرية)
عثمان حلمي
القصص
البدوي رحاب
للأستاذ إبراهيم بك جلال
وكيل محكمة الزقاقيق الأهلية
كان في أقصى الصعيد نجع قريب من الجبل يسكنه جماعة من فقراء الفلاحين وبينهم بعض الأعراب الذين سكنوا القرى المصرية واعتادوا حياة الريف والاستقرار، ولكن لم تتبدل فيهم غرائز البدو وعاداتهم الموروثة. وكان في النجع بدوي شيخ قد ناهز الثمانين، أسمر البشرة، حديد البصر، اسمه (رحاب)، إذا مشى خلف جماله اطرق برأسه غير ملتفت إلى أحد من الذين يحيطون به معجبين باستقامة عوده ونشاط بدنه، على ما بدا من شيخوخته، فلا يفارق عصاه الغليظة يبسطها على عاتقه ويلف عليها ساعديه، وهو حافي القدمين قد اشتمل بعباءة من وبر الجمال، واعتاد أن يحمل خيوطا كثيرة من ذلك الوبر الذي كان يغزله
وكان له ولد يدعى (دياب) في الثلاثين من عمره قد أصبح مضرب المثل في حسن الفتوة وكمال التكوين والقامة المديدة؛ له عينا صقر وشارب مفتول، ولكنه كثير الاغتراب والأسفار، يطوي الفيافي والبيد سعياً على قدميه، ويجوب أقاليم الصعيد من أقصاها إلى أقصاها يبيع للفلاحين النوق والجمال، ثم يعود إلى مضرب أبيه مفعم الكيس بالمال. أما أبوه الشيخ رحاب فإنه لا يغادر الخباء إلا إذا سرحت جماله في الأراضي البور المترامية خلف النجع وعلى ضفاف النيل، فيمشي خلفها حتى إذا بلغ رابية بأقصى الساحل جلس عندها وتناول مغزله يديره طول يومه، فإذا جاع تناول قبضة من التمر اليابس، ثم اشتمل بعباءته ونام بعين الساهر اليقظ. وكانت له فتاة صبوحة الوجه، مليحة التكوين، تخطر في مشيتها فيفتتن الناظر بسحر أحداقها المتقدة حسنا ورقة، وكانت الفتاة، واسمها (سلمى) تزين صدرها بألوان من العقود، وتطوق خصرها بنطاق من الحرير الأحمر، ولها في الخباء صندوق احمر عليه تصاوير وألوان مما يباع لأهل القرى، يتدلى مفتاحه من غدائرها، وقد جمعت فيه ثيابها وأقراطها وأساورها، وكل ما حرصت على جمعه من ألوان الزينة التي
يحبها بنات العرب
وكان بيت هذه الأسرة في أقصى النجع قد قام من أوبار الجمال، فيه فراش للوالد الشيخ وآخر بجانبه لزوجته جازية؛ أما سلمى فكان فراشها بمعزل عن والديها. وكان في ناحية من الخباء جرن كبير من الحديد يؤدي عمل الرحى، فيدقون فيه الشعير، وله يد كبيرة غليظة لا تقل زنتها عن نصف قنطار يعجز الرجل من أهل المدن أن يحركها إلا بكلتا يديه، ولكن سلمى كانت تدق بها حب الشعير كما يستعمل نساء المدن الهاون النحاسي سهولة واعتيادا بغير عناء أو مشقة، وكذلك كانت جازية أمها. والعجيب أن الشيخ الفاني كان يتناول ذلك القضيب بإحدى يديه كما يفعل بعصاه يحركه ويدق به، وكان عندهم عنزات لطاف يطلقونها بالنهار في أطراف المزارع، وتمشي الأم جازية تحرسها من بعيد فتجمع لها بعض الحشائش الجافة، فإذا مر بها رجل من أهل القرى أسبلت نقابها الأحمر وتوارت حتى ينصرف الرجل وما كانت تكف هي الأخرى عن الغزل طول يومها
ولم يبق بالخباء إلا الفتاة سلمى الكاعب اللعوب، تراها تغزل أحياناً وحيناً تطبخ الدشيش وتسقيه من لبن النوق، ثم تملأ منه القدر الكبيرة وتجلس بعد ذلك ترقب الطريق كأنها على موعد مع أحد الناس
وكان بإحدى القرى القريبة من النجع فتى من سادات الأسر الكريمة بصعيد مصر، مات أبوه عن ضيعة عامرة بالأنعام وأنواع الدواب، وبها أهراء حافلة بالغلال والأقطان، وأستقر الفتى حسان في ضيعة أبيه مجداً دائباً في الزرع والإنبات حريصاً على مرضاة الفلاحين، وقد اتخذ جناحاً من دار أبيه لسكناه مع أمه الأرمل المريضة، وكف عن حياة السرف وكثرة الإنفاق على الولائم والأضياف. وكانت له فرس شقراء من عتاق الخيل يركبها ويطوف بها بين المزارع في كل صباح باكر وكل عشى
مر يوماً بخباء رحاب فلمح سلمى تحلب عنزاتها عند باب الحظيرة، فترنح الفتى على سرج فرسه من روعة حسنها وقوة فتنتها وجمال جيدها، والتقت عيناهما لمحة قصيرة ثم أرخت قناعها وولت على استحياء، واكثر حسان من الطواف بخدرها كل غداة، فكان يجدها منفردة عن أبويها، وشجعه على التحديق فيها صمتها وجلوسها كل يوم عند كثيب خلف الخباء كأنها ترقب حضوره
وخرج حسان يطوف المزارع كعادته في يوم شديد القيظ، فساقته فرسه إلى باب الخباء، فنادى أهل الدار يلتمس ماء أو جرعة من لبن الإبل يتعلل بها، وقابلته الأم عند الباب وقد أرخت قناعها الأحمر وسألته عن حاجته، فلما طلب قدحاً من اللبن نادت ابنتها سلمى، فجاءت تتعثر بأذيالها وهي حاسرة الوجه تبهر الناظر بحسنها وملاحة قدها، ومدت إليه يمينها بالقدح فترجل حسان لدى الباب وقد سنحت له الفرصة فرآها عن قرب ولمس كفها، وطالع في غرتها آية الحسن الذي لم ير مثيلاً له بين بنات القرى ولا في سائر البنادر التي زارها، وابتسمت سلمى من رؤية محبها وقد أذهلته الفتنة وشغفه حبها وملأت ناظريها منه، وكان فتى حسن الهيئة والثياب، ثم ارتدت إلى البيت وتوارت عن ناظريه
وأراد حسان ألا تضيع الفرصة، فسال الأم أن كان لديهم بعض من صغار الخراف ليشتريها ويحملها إلى المزرعة بين دوابه وأغنامه، فأنعمت الأم وغابت عنه قليلا، ثم عادت تسوق بين يديها حملين صغيرين، وجاءت على أعقابها سلمى تسوق حملين آخرين وساومهما حسان ونقدهما ثمناً معجلاً في الخراف الأربعة، ثم بدت له مشكلة حمل الخراف إلى قريته، فهونت عليه جازية الأمر وساقت بين يديها الخراف تساعدها سلمى ومشى حسان بين المرأتين يحدثهما طول الطريق ويختلس النظر إلى سلمى التي ما كانت تضن عليه بعطفها وابتسامها، وبلغوا المزرعة فادخل الخراف في الحظيرة ثم قدم لجازية وسلمى طعاماً شهياً من موائد أهل المدن بين دجاج وشرائح من لحم مشوي وخضر مطبوخة، وصحفة كبيرة من الحلوى بهر بها أبصار ضيوفه، ثم حمل إليهما النقل والفاكهة ولم يدع مزيداً من واسع الكرم وطرائف النعم
وخلا حسان بفاتنته سلمى في ساعة شغلت فيها جازية بالحديث مع أمه العجوز المريضة بأعلى حجرات الدار، واشتفى المحبان في خلوتهما، وخطبها حسان لنفسه وحمل إليها من خزانته صرة من الحرير الأبيض فيها مائة جنيه من الذهب صداقا معجلا ليستحل بذلك عناقها، ولكن سلمى نأت بجانبها أسى وأسفاً، وأطلعته على همها الدفين، فإن أباها قد عقد العزم على تزويجها من ابن أخيه وهو كهل من قبيلتها، له زوجتان وبنون وبنات، وهو فوق ذلك قد جاوز سن الشباب، فظ غليظ القلب، رقيق الحال، ومن اجل ذلك كله قد تنكد عيشها، لان أباها وأخاها (دياب) كلاهما ملح في تزويجها من ذلك الرجل البغيض، وقد
انذراها بالموت إن هي ترددت في القبول والرضى، وبكت سلمى وغمرت وجهها في صدر محبها، وضمها حسان وقال لها أني اشهد الله انك ستكونين أهلي وهذا صداقك بين يديك، وليقض الله فينا بمشيئته، واستسلمت له الفتاة وتعاهدا أن يدعو في الصباح مأذون القرية ومعه شاهدان ليعقد عليها بغير علم من أبيها أو أمها
وما اشرق الصبح حتى هبط حسان إلى فرسه فامتطاها وانطلق بين أنفاس الربى يطير بجناحي شوق
وانقضت اشهر والحبيبان يلتقيان بالخباء في غفلة من رحاب وزوجه، وكثر سروح سلمى تمشي إلى زوجها في دجى الليل بعد أن ينام أبواها حتى ظهر الحمل وتحرك الجنين ولم يبق على الوضع إلا بقية من الشهر الأخير، فرفع رحاب حاجبيه يوما بكلتا يديه وظهر له ما كان مستورا عنه من أمر سلمى؛ فناداها: أنى لك هذا وما كنت بغياً؟ وطار شرر الغضب والوعيد من مقلة الشيخ، ففرت زوجته جازية بين الربى والاكام، واستسلمت الفتاة المسكينة، فقال أبوها خبريني عن هذا الذي في أحشائك من أبوه، فقالت معاذ الله ما أثمت والله يا أبت، ولكن بكتاب الله وسنة نبيه، فقال هذا غاية ما بلغ به فجورك، إن اليوم هو آخر أيامك من الدنيا، فمن شريكك في الإثم؟ من هو الذي انتهك حرمتي وفضح ربة الخباء؟ لعله الفتى الذي يجوب الربى بفرسه الشقراء كل يوم! لقد أغدق عليك من خيره يوم ابتاع منك الخراف. فصاحت سلمى باكية وقالت: بل هو سيد كريم قد مهرني مائة جنيه من خالص الذهب وأغدق علي ألواناً من الثياب والعقود والجوهر الكريم، ودخلت الخباء ثم عادت تحمل بيدها صرة من الحرير الأبيض بها صداقها وقالت هذا هو المهر الذي استحل به عناقي، فصاح بها أبوها سارد إليه هذا الذهب وأنال به مهرا أغلى واشد خطراً يجري من دمه فأغسل به باب هذا الخدر. فصاحت سلمى: يا أبت إنني وحدي الأثيمة فاقتص مني دونه ودعه بالله وشأنه فانه الوحيد المرجي لأمه المسكينة. لقد مات أبوه رميا بالرصاص في ظروف محزنة، ولم يبق من أسرته إلا هو. دعه يا أبت يعش ويستوف نصيباً من نعمة الدنيا، فصاح بها أبوها أن احملي إلي قضيب الجرن، فنكست رأسها وجرت مدامعها وقد لاح لها ملك الموت، وأضجعها أبوها فاستكانت له، فهوى بالقضيب يقصم ظهرها ويفري حشاها صدعا شديدا وضربا لا رحمة فيه ولا هوادة،
وتراخت يداها وأخذتها غشية الموت، فناولها جرة الماء وصاح بها لتحملها إلى غدير الماء وتملأها غلواً في قتلها وإرهاق نزعة الموت الأخيرة فيها، ودفعها بيده وهي تحبو إلى الغدير حبوا حيث فاضت روحها، فركلها أبوها الوحش بقدمه فحملها الماء إلى الشط. وصاح الناس قتيل بالشط! فأقبل العمدة وجنوده وعرفوها سلمى ابنة رحاب؛ واحتشد الناس في أقصى المزارع حول جسد مسجى في إزار من الحرير الأبيض يبين منه وجه حسان وقد مزقت أحشاءه قذائف الرصاص، وتدلى من إزاره صرة من الحرير الأبيض بها مائة جنيه من الذهب الاصفر، حولها مائة قطرة من الدم الأحمر الزكي الشهيد!
إبراهيم جلال
مأساة من سوفوكليس
2 -
أنتيجونى
للأستاذ دريني خشبة
- 4 -
(يدخل أحد الحراس مفزعا)
- (مولاي! مولاي! أ. . . أ. . . أنفاسي تتقطع يا مولاي! أفكاري مشتتة! لقد أوشكت ألا احمل النبأ العظيم! يا للهول، يا للهول!)
- (تكلم أيها الحارس، ما ورائك! تكلم!. . . ماذا تخشى؟)
- (الجثة يا مولاي! لقد هيل عليها الثرى. . . و. . . دفنت! وأديت لها كل شعائر الآلهة! أما من صنع هذا. . ف. . . لا ندري. . . لقد لاذ بالفرار! فر دون أن يراه أحد!
- (ها. . .!! الجسور الذي صنع كل هذا!. . .
- (لا ادري! انه لم يترك ورائه أثراً يعرف به! ونحن أيضاً لم نعرف ما تم حتى أيقظتنا آراد الصباح المنبعثة من أعين الشرق! لقد فزع الحراس، واقترعوا على من يبلغ مولاي! فيا لشقوتي ويا لتعاستي! لقد وقعت القرعة علي. . . وهل أشأم من حامل أخبار الشؤم!؟)
- الحورس: (مولاي! إنها قوة سماوية مقدسة لابد! هي التي صنعت كل هذا!
- الملك: (أية قوة سماوية يا أحيمق؟! إصمت! أية آلهة تزعم إنها توقر النذل الخائن الجبان! إنك تضرم غضبي وتؤجج لظى السخط في أعماقي! ويلكم أيها الحراس الأنجاس! بل أنا اعرف من أين وصلتكم الرِّشى فغضضتم الطرف عن إجرام المجرمين! النقود! دائماً النقود. . .! تعاويذ السحر، والرقى التي تذهب بالألباب! ليس مثلها في إفساد ضمائر الأمم، وتدنيس كرامات الشعوب! ولكن لا. . .! فأما تأتونني بالمجرمين مصفدين في الأغلال، وإلا فالشنق ايسر عقوبة تستأهلونها! أيها اللؤماء! يا عبدة الذهب)
- (إذن!. . . أ. . . أيسمح لي مولاي بكلمة؟ أم انقلب على وجهي؟)
- (بل كلمات. . . تكلم!. . . أضرم نيران السخط عسى أن تحرقك؟)
- (أنا على الأقل. . . لست صاحب ذلك الوزر!)
- (ها. . . ها ها. . .؟ كل ما فيك لسان ليس يفتر عن هراء! المجرمين. . . وإلا. . . فرؤوسكم أجمعين!. . . أغرب!)
(يخرجون تباعا ما عدا الخورس)
- 5 -
وما يكاد المنشدون يفرغون من هزج حلو النغم، ضافي الحكمة، حتى يشهد رئيسهم أحد الحراس مقبلا وبين يديه الفتاة الجريئة التاعسة أنتيجونى يسوقها سوقاً
(يدخلان)
- (الفتاة التي صنعت كل شيء! لقد ضبطناها تدفنه! أين الملك؟)
- (هاهو ذا قادما للقائك أيها الحارس، فحدثه بكل شيء)
(يدخل الملك)
- (مولاي! هاهي ذي! لقد ضبطناها تحثو التراب على جثمان القتيل! ما احسبها تنكر، لان الإنكار لن يفيدها من الحق شيئاً! حمداً للآلهة! لقد أنقذتنا بالتوفيق من موت كاد يتخطفنا! سلها يا مولاي فاكبر ظني إنها ستعترف!)
- (هذه الفتاة! أين وجدتها إذن؟)
- (وجدتها تدفن الأمير قلت لك!)
- (ما أحسبك إلا مأفوناً!)
- (لقد وجدتها تدفن القتيل الذي أنذرت ألا يدفن! ماذا تريد مني أن أكون أصرح من هذا؟)
- (وكيف إذن كشفتم هذا الأمر؟)
- (لقد كنا يا مولاي نجلس (فوق ريح) القتيل حتى لا يصدم أنوفنا نُتْنه، ولا يضرنا جيفه، وفجأة، حين أشرقت ذكاء وغمرت بسناها البطاح، هبت زوبعة قوية حجبت الشمس بكثرة ما أثارت من تراب ورمال! فخفنا على أبصارنا أن تصرها الريح العاصف فأغلقناها، وما كادت تهدأ العاصفة ويصفو الجو حتى رأينا هذه الفتاة تبكي القتيل وتسقيه أحر عبراتها، ثم حثت فوقه التراب وصبت عليه ثلاثا من جرار الخمر المقدسة، سلها يا مولاي فإنها اعترفت بكل شيء، وستعترف لك بكل شيء!)
- (أنت أيتها الفتاة التي تبحث بعينيها تراب الأرض!! أتقرين بما تقول عليك الحارس أم
تنكرينه؟)
- (أنا!. . . ها ها!! أنا لست أنكر مما ذكر حرفاً واحداً!! لقد نذرت ذلك وأنفذت ما نذرت!)
- (إذن. . . انطلق أنت أيها الحارس. . . فلقد نجوت. . . أما أنت أيتها الفتاة. . . أما علمت بما صدرت عنه إرادتنا؟ ألم تكوني تعرفين أن ما صنعت محذور منه منهي عنه؟)
- (كنت اعلم ذلك جميعه!)
- (وكيف تجاسرت إذن على خرق القانون إلى هذا الحد؟)
- (انه قانون لم يتنزل عليَّ من السماء، ولم تأمر به ربة العدالة! إن هي إلا قوانينكم انتم، ولكن للآلهة قوانينها كذلك، وقد فرضتها منذ الأزل على بني الإنسان، وأنى لبني الموتى أن تضرب بعرض الأفق شرائع السماء! أينا اخطأ أيهذا الرجل؟ أنا التي عصيت قوانينكم الظالمة، أم انتم الذين ثرتم على قوانين آلهتكم؟ ألا مرحبا بالموت يريحني مما كنت أغص به من آلام! أيترك أخي من غير قبر يستره ويردني تهديدكم بالإعدام عن دفنه؟ ألا إن هذا هو الإعدام! ألا إن كنت في نظرك مجنونة، فإني لكذلك في نظر مجنون!. . .
رئيس المنشدين: (يا للجرأة! إن الفتاة لا تبالي صاحب تاج طيبة! إن الردى الذي يرقص أمام عينين لا يفل من عزيمتها)
الملك: (إي وحق السماء! ولكن سرعان ما تذوب هذه الروح المتمردة حين تلقى في سعير العذاب! خيلاء! ها! شيء لا يحتمل من مجرم! إنها داست القانون ولم يكن بحسبها ذلك، بل هي تضاعف أوزارها بالقحة! إنها تستهزئ بنا كأنها صاحبة الأمر والنهي فينا! من أنا إذن! لعلها تحسب إنها بنجوة من العقاب لأنها ابنة أختي! ها. . . ولكن. . . لا. . . فو حق السماء لو أنها اقرب الناس إلي لما أفلتت من الجزاء الصارم. . . ولكن. . . أين شريكتها في هذا الوزر؟ أختها! إنهما كانتا تنناجيان في هذا القصر. . . إلى بها هي الأخرى. . . إنها اخبث منها!. . .)
أنتيجونى: (على رسلك أيها الملك! أتبتغي شفاء لحردك اكثر من قتلي! ألا مرحباً بالموت!)
الملك: (بحسبك! هذا شأني سينهي الموت كل شيء!)
- (وفيم الإبطاء إذن! إنك لا تخيفني بتهديداتك، فلقد نلت مشتهاي بدفني أخي، وأي فخار
ابعد من هذا؛ إن هؤلاء جميعا شهودي، فسلهم يجيبوك! حل عقال ألسنتهم. . . كلمهم!
- (لبس في طيبة فرد يرى القضية بعينيك!)
- (بل هم يرونها كما أرى، ولكن جبروت السلطان يلجم أفواههم!)
- (وهلا تستحين من تحديك مدينة بأسرها؟)
- (مِمَّ استحي؟ ألأني أخته، ذلك الذي وفيت له؟
- (أولم يكن إتيوكليز أخاك كذلك؟
- (أخي وشقيقي من أبى وأمي!
- (لم يكن من الوفاء له إذن أن تفعلي ما فعلت!
- (انه وقد مات - لا يؤمن بما تقول! على أن الذي دفنته هو أخوه أيضاً ولم يكن عبداً مرة ما!
- (لكنه حارب وطنه وأراد إذلال بلاده!
- (لا يعرف الموت هذه الفروق الدنيا!
- (ليس الخير والشر سواء كما تعلمين!
- (قد يستويان في الدار الآخرة، من يدري؟
- (العدو مكروه أبداً حتى في الموت!
- (ومن أين لقلبي بكراهية أخي! أني احبه!
- (ها. . . ستحبينه كثيرا بعد قتلك! أبداً لن تسيطر علي فتاة مثلك!
(تدخل إسمنيه)
(لها بقية)
دريني حشية
البريد الأدبي
كتاب جليل عن مستقبل الديموقراطية
تثير نظم الدولة والحكم اليوم كثيراً من الاهتمام، ويتساءل الساسة والمفكرون في مختلف أنحاء العالم، أيكون المستقبل للديموقراطية أم يكون لتلك النظم الجديدة الطاغية التي تستتر وراء فكرة الدولة وتقضي على كل الحريات الدستورية؟ وقد صدر أخيراً بالفرنسية في هذا الموضوع كتاب جليل الشان عنوانه:(الفوضى أو السيادة المطلقة، أزمة الديموقراطية، وحلها) بقلم السنيور دي مدارياجا سفير إسبانيا في باريس ومندوبها لدى عصبة الأمم، وهي خلاصة المحاضرات التي ألقاها في معهد الدراسات الخاصة بالثورة الفرنسية بجامعة السوربون منذ سنة 1833
والسنيور مدارياجا من أعظم ساسة أوربا المعاصرين، ومن أعظم الكتاب الدوليين، وهو ديموقراطي بالفطرة لا يدخر وسعاً في الذود عن الديموقراطية بقلمه ولسانه، وهو يقول لنا في كتابه أنه لما رأى القوى الخصيمة تثب وتناوئ الحريات الديموقراطية، ورأى الحرية نفسها تضعف وتتضاءل، رأى أن يبحث ما إذا كان من المستطاع أن ننظم ديموقراطية الغد وننقذها
ويرى السنيور مدارياجا أن فهم الحرية قد تطور جداً عما كان عليه أيام روسو ومونتسكيو، وأن الحرية قد غدت بالنسبة لبعض الأفراد عبئاً لا يراد حمله، وان المساواة غدت في نضال مستمر مع أنواع الإيثار التي تقوم على النظام الطبيعي، وأن الديموقراطية القائمة على سيادة الشعب غدت من التعقيد بحيث تخرج عن طاقة الفرد وسلطانه
ويقول لنا إن عوامل التأثير والتعقيد في الديموقراطية المعاصرة ترجع إلى الرأسمالية التي أصبحت كابوساً على العمل، والمالية التي تسخر كل القوى لصالحها؛ وقد غدت القوى المنتجة في الأمة معتركا من النضال المستمر؛ وأضحت الفكرة القومية في نضال مستمر مع النزعة الدولية، بيد أن ذلك كله لا يعني أنه يجب على الأمم أن تترك قوى الحرية السياسية التي تغذيها المبادئ الديموقراطية، بل يجب عليها بالعكس أن تحاول تنظيم هذه القوى بأسلوب جديد
ويحاول السنيور مدارياجا أن يعالج هذه الأسس التي يجب أن تقوم عليها ديموقراطية الغد،
ويحمل بكل قوة ومنطق على النظم الطاغية التي تحاول أن تجعل الأمة فوق الفردية. وفي رأيه أن الدولة لا حق لها أن تجعل من نفسها نهاية مقصودة، وان الفرد مرتبط حتما بالمجموع، أنه يجب وضع قاعدة للتوسط بين الحرية والسلطة
ثم يعالج السنيور مدارياجا بعد ذلك الوسائل الاقتصادية والاجتماعية التي يجب أن تتذرع الديموقراطية بها لتحقيق مبادئها
وقد أثار كتاب السنيور مدارياجا كثيرا من الاهتمام والتقدير في دوائر السياسة العليا، ودوائر عصبة الأمم التي يعتبر من أقطابها
المهرجان الألفي للمتنبي في المجمع العلمي العربي
أرسلت كتابة سر المهرجان رسائل الدعوة إلى اشهر رجال العلم والأدب من الفرنجة والعرب وإلى الجامعات العلمية لترسل من يمثلها في موسم المتنبي الذي يفتتح في اليوم الثالث والعشرين من شهر يوليه الحالي ويستمر إلى آخره. وقد أخذت سائل التلبية تتوارد إلى المجمع العلمي فندبت الجامعة المصرية الأستاذ أحمد أمين ليمثلها رسمياً في المهرجان، وندبت الجامعة الأمريكية الأستاذ أنيس الخوري المقدسي لتمثيلها، وندبت الجامعة السورية الأستاذ الدكتور مرشد بك خاطر عضو المجمع العلمي لتمثيلها، وندبت جامعة عليكرة الهندية الأستاذ عبد العزيز الميمني الراجكوتي. وسيمثل القطر المصري مع الأستاذ أحمد أمين الأستاذ عبد الوهاب عزام، ويمثل العراق الأستاذ طه الراوي عضو المجمع العلمي العربي وكاتب سر مجلس الأعيان، ويمثل لبنان الأستاذ الدكتور نقولا فياض، وفيلسوف الفريكة الأستاذ أمين الريحاني عضوا المجمع العلمي العربي، والأستاذ حليم دموس الشاعر المعروف؛ وينوب عن جبل عامل الأستاذان أحمد رضا وسليمان ضاهر وكلاهما عضو المجمع العلمي العربي، وينوب عن حلب الشهباء شاعرها الأستاذ عمر أبو ريشة. ولا يتسع المجال لتعدد جميع ضيوف المهرجان من أعيان البيان
وقد قررت اللجنة العامة في جلسة الاثنين المنصرمة أن يكون يوم 17 يوليه الحالي آخر يوم من الأجل المضروب لقبول الخطب والقصائد، وذلك لكيما تتمكن اللجنة من تصنيفها وتوزيعها على أيام أسبوع المتنبي
واللجنة العامة تشكر المفوضية العليا على منحها مبلغ (300) ليرة سورية إعانة للمهرجان،
كما تشكر مدير المعرض الصناعي الأستاذ عارف بك النكدي عضو المجمع العلمي لمساعدتها بمبلغ (300) ليرة سورية، وكما تشكر محافظ مدينة دمشق الممتازة الأستاذ توفيق بك الحباني الذي قرر أن يسمي الشارع الجديد المجاور لدائرة التبليك باسم (شارع المتنبي) وذلك يوم افتتاح المهرجان
سجون سيبيريا
كانت سجون سيبيريا منذ الحكم القيصري دائماً مثار الروع والرهبة؛ وقد أوحت شناعتها وهولها إلى كثير من الكتاب الروس كتباً وفصولاً مؤثرة مروعة؛ وللكاتب الروسي الأشهر دستيوفسكي الذي قضى ردحاً من الزمن منفياً في هذه السجون الهائلة كتاب ساحر مؤثر عنها اسمه (دار الموتى) يصف فيه هولها، وما يقاسيه المسجونون فيها من ضروب العذاب والويل، وقد نسى الناس اسم سيبيريا ونسوا سجونها مذ قام الحكم البلشفي في روسيا، ولكن الحقيقة أن السجون السيبيرية مازالت جحيم المحكوم عليهم في العصر الجديد كما كانت أيام الحكم القيصري
وقد صدر أخيراً بالألمانية (وصدرت له ترجمة إنكليزية) عن سيبيريا وسجونها الهائلة عنوانه (القرية المنسية) بقلم ضابط ألماني أيام الحرب الكبرى يدعى تيودور كروجر؛ والكتاب مؤثر مروع معاً، وفيه يقص مؤلفه كيف أسر في الحرب الكبرى سنة 1914 في روسيا، وكيف حاول الفرار فقبض عليه وسجن؛ ويصف لنا المؤلف روعة هذا السجن الأول؛ ويكفي في وصف هوله أنه كان عائشاً في الظلام الدامس، وأن الماء القذر كان في معظم الأوقات يغمره حتى كتفيه، ثم اخذ الأسير إلى سيبيريا مصفداً في الأغلال الثقيلة؛ وبعد حين افرج عنه، واستطاع أن يكتب إلى ألمانيا وأن يستحضر بعض المال؛ وهنالك، في منفاه الثاني تزوج من فتاة منغولية، وتذوق بعض السعادة؛ وساعد في تنظيم مسألة الأسرى الألمان، واستطاع أن يرتب لهم أعمالاً، فاحترفوا الخياطة والنجارة والنقش وغيرها، وأسس قرية صغيرة؛ أما هو فاحترف تجارة الفراء، وحسنت حاله، ولكن الثورة البلشفية نشبت في سنة 1917، فاضطربت الأمور، ونسى الأسرى الألمان من العالم كله، وهلك كثيرين منهم من الجوع والأوصاب وكان حظ المؤلف اتعس حظ، فقد قتلت زوجه وولده بيد أحد أعدائه، في نفس الوقت الذي عقد فيه الصلح بين ألمانيا وروسيا
والكتاب ساحر مؤثر برغم روعة حوادثه، وفيه يدلل المؤلف على معرفة وثيقة بأسرار النفس الروسية، وأحوال سيبيريا المجهولة
مجلة المجلات العالمية
شعرت الصحافة الإنكليزية أخيراً بحاجتها إلى التوسع في معالجة المسائل الدولية، بعدما وصلت إليه من التشعب والتعقيد، ولم يعد يكفي أن تعالج بصورة محلية؛ وقد تصدى لتحقيق هذه المهمة صحفي وكاتب سياسي كبير هو المستر فرنون بارتلث، الذي لبث زهاء عشرين عاماً مراسلاً سياساً لكبريات الصحف الإنكليزية، والذي مازال محرراً للشؤون الخارجية في جريدة الديلي تيليغراف، فأنشأ مجلة سياسية كبرى تصدر كل شهر بعنوان (مجلة المجلات العالمية) وهي في الواقع إدماج لمجلتين شهيرتين: الأولى (مجلة المجلات) التي أسسها الصحفي الكبير مستر ستيد في سنة 1890، ومجلة (العالم) التي أنشأها مستر بارتلث في سنة 1934، وستعنى المجلة الجديدة بمعالجة أهم الشؤون الدولية، ومسائل عصبة الأمم التي يتفوق مستر بارتلث في دراستها بنوع خاص، وستكون مستقلة محايدة في آرائها وتعليقاتها
وقد صدر العدد الأول من المجلة الجديدة مصدراً بكلمة للمستر انتوني ايدن وزير الخارجية البريطانية يقول فيها: (يسرني أن ابعث بكلمة ترحيب لهذا المجهود الجديد الذي يرمي إلى تهيئة الفرصة للشعب البريطاني ليطلع على ما يكتبه وتراه الشعوب الأخرى في المسائل الدولية
حماية النسل في روسيا
كان من نتيجة الأنظمة والقوانين الإباحية التي سادت روسيا البلشفية في الأعوام الأخيرة ولاسيما فيما يتعلق بالزواج والعلائق الاجتماعية، أن ذاعت حوادث الإجهاض ذيوعا مزعجا، وأخذت تهدد كيان الأسرة والأمومة في روسيا؛ وقد تبينت حكومة موسكو أخيرا خطر هذه الإباحة على مستقبل الشعب الروسي، فأصدرت قانوناً جديداً خاصا بحوادث الإجهاض يسري مفعوله منذ 15 يوليو الجاري؛ وخلاصة نصوصه أنه ما خلا الأحوال التي تتطلب فيها حالة المرأة الصحية إجراء عملية الإجهاض يحضر الإجهاض قطعاً،
ويعاقب الأزواج أو الآباء بعقوبات شديدة من السجن والغرامة إذا عاونوا على ارتكاب الإجهاض في حالة غير المصرح بها قانونا
وينص نفس القانون على أن الأسر التي تضم ستة أولاد فاكثر تمنح إعانة من الحكومة؛ وفي حالة الطلاق، يلزم الوالد بدفع ربع مرتبه أو إيراده للزوجة إذا كان له منه ولد، فإذا كان له ولدان فرض عليه الثلث، وأن كان له منها ثلاثة أولاد فأكثر فرض عليه أن يدفع للزوجة نصف المرتب أو الإيراد
وقد رأت روسيا السوفيتية أن تتشبه في ذلك بالدول التي تعنى بمسألة النسل والإكثار من السكان مثل إيطاليا وألمانيا حيث تتخذ حماية الأمومة أهمية خاصة
الكتب
رواية عمر بن الخطاب
تأليف الأستاذ معروف الأرناءوط
للدكتور منير العجلاني
أنا لا اصدق أن هذه التهاويل الثلاثة: الحب، الطبيعة، البطولة، التي جمعها أستاذنا الأرناءوط في كتابه الجديد (عمر بن الخطاب) رواية!. . .
وإذا كان يحرص على أن يسمي (رواية) هذا العالم الذي أبدعه وشحنه بالأخيلة العجيبة والألوان النضرة والأنغام الحلوة فإني استحلفه (بكريستيا) الذي ينحت تمثاله، و (فروة) الذي يقود رجاله، و (نفتالي) الذي يندب آماله؛ بل استحلفه بهذه الغانية (بنيامينا) التي تسلب العاقل لبه، والشجاع قلبه، وتنسي الوثني ربه؛ بل استحلفه بهذه الفتاة الصغيرة الخيرة (سافو) - شقيقة البدر وبنت السحر - أن يسميها رواية شعرية لا اجتماعية ولا تاريخية، فإني نسيت الجماعات ونظمها، والتواريخ وحكمها، ورحت أنتقل على أجنحة كتابه من حجرة حب، إلى ساحة حرب، ومن مأتم عبقري، إلى عرس شعري، ومن صلاة الفجر الروحانية، إلى مناجاة البخور الجثمانية، وما أذكر أنني أحسست هذا الحس الذي يكاد يكون مزيجا من الصوفية واللذة إلا في (خطبة مسينا) و (ايفجيني في أوليس) و (بولس وفرجيني) و (أنا كارينين) و (البعث) و (أغاني بيليتس) و (بسيشة) وبعض أشعار (أوسكار ويلد). . .
وأشهد إن في أستاذنا الأرناءوط من هؤلاء جميعاً، فقد نسج على منوال يونان والغرب فجاء بشيء لم تألفه العرب لأنه جديد. ولكنها لم تنكره لأنه جميل، وصاحبه لا يتهم بالنقل ولا التقليد لأنه صانع مبتكر، ومتى ذكر الشعر فهو في دنياه
نعم (عمر بن الخطاب) قبسة من شعوره وقصيدة من شعره، ولكنها لا تشبه هذه البرك التي تقاس بالشبر وتنظم على أشكال هندسية بل هو نهر يجري: يركض ويتباطأ، يهبط ويصعد، يستقيم ويلتوي، ولكنه يذهب بعيداً. . . وفي مائه الرقراق يستحم الطير وتستنقع العذارى، ويرتوي النعناع، ويرف الحصى، وبالجملة تحيا الحياة
أيهما أشعر؟ البركة أم النهر؟ (عمر بن الخطاب) أم الشعر؛ ما أدرى؛ ولعل الرواية - إذا كان عمر بن الخطاب رواية - أشعر من الشعر! على أن عمر بن الخطاب ونحن في حديثه، لم يعط الجزأين الأولين من الرواية أكثر من اسمه. . . فهو يمر في الأول كخطفة البرق، ويهم في الكتاب الثاني بالظهور. ولعلك تصغي إليه وتجلس بين يديه في الكتابين الموعودين، أما الآن فأنت في عالم الحب؛ فلا تقل وقد استنمت إلى أنغامه المهدهدة أين نحن من دنيا ابن الخطاب؟ وما علاقتنا به؟ عما قريب تلتفت إلى (سافو) التي لم تكن تعرف من العرب إلا حبيبها، فتسمعها تحدثك عن رعاة الغنم، الذين ملكوا رعاة الأمم، والبدو الذين علموا الحضارة الحضر. . . والعقيدة التي غلبت القوة، وحينئذ تدرك السر الذي نشده الأستاذ الارناءوط، فهو يريد أن يقفنا في هذا الصراع القائم بين العرب والرومان على لونين من الحب: حب السماء وحب الارض، وعلى رسالتين: رسالة العاشق ورسالة المجاهد؛ وعلى دولتين: دولة الطبقات، ودولة المساواة، وإذا كان في الأدب الفرنسي كتاب أسماه صاحبه - شاتوبريان - (عبقرية النصرانية) وأراد أن يعرض فيه دينه في أحسن معرض، فانه يخيل إلي أن الأستاذ الارناءوط سائر في هذه الطريق. فما (سيد قريش) و (عمر بن الخطاب) إلا فصول في كتاب سنطلق عليه ذات يوم اسم (عبقرية الإسلام) وإذا ما شئت (عبقرية العروبة)
أيها القارئ! ضع شارة تحت جملة بارعة في الجزء الأول من (عمر بن الخطاب)(أي قدر سعيد ألقاك في طريقي يا من يهيمن على حياتي؟) فأنه قدر سعيد حقاً. . . أن تعيش في عالم (كريستيا) و (بنيامينا) و (سافو) و (فروة) و (نفتالي)، قدرٌ سعيد أن تعيش تحت سماء (كأنها لفرط الضياء جنة من اللؤلؤ) وأن ترى إلى (كريستيا) يلتمس حبيبته في الحلم ولكنه (لا يجرؤ أن يمس وهو سادر في وهمه جسدها المترنح مخافة أن تفوته لذة هذا الوهم) وأن تستمع إليه ينشد بين يديها:(لقد رأيتك في ذات ليلة أمام المرأة تريقين على جسدك العاري عطور النارنج، ورأيتك تغسلين فخذيك الناعمتين بعطر الورد، ثم رأيتك تصبين على نهديك عطوراً حملها إليك محبوك من مصر وفينيقية والشام، فوددت لو أنك تبدلين طيوبك بطيب آخر لم تحفل بمثله أرض فينيقية ذات السماء المصحية، ولا جنات مصر الضاحكة على ضفاف النيل. . . بطيب انبعثت براعمه في نفسي). . . ثم اخرج
من عالم الحب إلى عالم البطولة وأنظر إلى (فروة بن عمرو) يعلق على الصليب في سبيل الرسالة، واستمع إلى أغانيه العلوية!. . .
ولكن ما أكثر الصور والألوان الحلوة في هذا الكتاب؟ بل أية صورة أستطيع أن أقول أنها أقل جمالا من غيرها فأزهد في نقلها؟!
طالع الكتاب كله وقل معي
بورك فيك يا أستاذنا الأرناءوط! بورك فيك ثلاثاً باسم الحب وباسم الشعر وباسم البطولة. . . وبورك فيك باسمنا نحن الذين وهبت لنا ساعات لذيذة ودنياوات حلوة
أي مؤلف (عمر بن الخطاب)!
سوف ألقاك فأراك غير ما كنت أراك لأنك ستسير دائماً في موكب من الأبطال الذين بعثت فيهم الحياة. وسنشعر جميعاً أن روحك ليست غريبة عن روح أبطالك، فلولا أن سكبت فيهم من قلبك ومن فكرك لما كان كتابك خالداً
إن حياة كتابك من كتاب حياتك
حياتك الشاعرة!
منير العجلاني
رئيس تحرير القبس
وراء البحار
تأليف محمد أمين حسونه
بقلم محمود عزت موسى
أتيح لي منذ أيام أن أقرا الكتاب الذي ألفه وأصدره أخيراً صديقي الأستاذ محمد أمين حسونه واسماه (وراء البحار)؛ وفي هذا الكتاب رحلة المؤلف إلى اليونان وتركيا ورومانيا والنمسا والمجر، وقد عني بطبعه عناية فائقة فجاء مثالا بديعاً للذوق الرقيق.
وليست هذه هي المرة الأولى التي أتيح لي فيها أن أقرأ للأستاذ حسونه، فأنا أقرأ له منذ صدر حياتي الأدبية، وقد التقت أقلامنا على صفحات السياسة الأسبوعية في عام 1929 وفي ذلك الحين أيضاً التقت صداقتنا؛ ولقد قرأت له كتابه الأول (أشبال الثورة)، وهي الرواية التي استهل بها أدبه القصصي، ثم قرأت له (الورد الأبيض)، وهي المجموعة القصصية التي جعلته في طليعة أدباء الشباب، ولعلني استطعت من خلال تلك القراءات كلها أن أتعرف على أسلوبه وأدبه، ومن أجل هذا كله كنت أود أن انصف الأستاذ حسونه أكثر مما أنصف نفسه هو فأقول بإن كتابه (وراء البحار) ليس في الواقع إلا قصة طويلة لحياة شاعر في خلال رحلة فنية إلى بلاد تاقت نفسه إليها. . . واستقرت عواطفه في أجمل بقاعها، فراح يصفها لا بلغة المسافر، ولكن بلغة الشاعر، فلم يذهب فيما ذهب إليه الذين سبقوه في وصف رحلاتهم، ولكنه انتحى لنفسه منحى غير الذي ألفه الناس فيما قرءوا. . فلم يحاول أن يكتب عما شغل غيره من كتاب الرحلات في الأوصاف التي يمكن للإنسان أن يجدها بسهولة في كتب السياحات، ولكنه ذهب إلى تلك البلاد حاملاً بين جنبيه تلك النفس الطامحة المضطرمة شباباً ونشاطاً، فتبدو في بعض الصفحات مشبوبة حارة ملتهبة تفيض خيالاً وعذوبة، والتي تغزوها الآلام والأحزان فتبدو في انقباضة القلق الحائر. وانه ليحلو لي أن اصف نفسية الكتاب، ولا أتناول فصوله فصلاً فصلاً تناول الذي يمسك مبضعه ليقيم نفسه جراحاً - أو جزاراً - على عمل أدبي، يحلو لي أن أصف نفسية الكتاب لأنني أعتقد باني قد ألفيت فيه وحدة فنية قائمة بذاتها، ترتكز على شخصية واحدة، هي شخصية المؤلف؛ وهذه الوحدة الفنية تجعلني أرى أن المؤلف إنما عمد إلى رحلته بدافع الاستمتاع الذهني والقلبي في وقت واحد، فوفق. ولم تذهب هذه الشخصية عنه في
أية لحظة، بل هو يصفها دافع الإعجاب، ولكن بشخصية، أو بمعنى آخر بقومية، ومن هنا ترتقي مكانة الكتاب عندي، لأنه يقول في معرض حديثه عن الأكروبول. . . (ولكن أين ربوات الأكروبول من ساحل طيبة الخالد على مر الدهور، أو من مهابة الأهرام ومعابد الكرنك وقصور فيلي؟ تلك الكاتدرائيات الفرعونية العظيمة التي شيدتها ونقلت جلاميدها الصخرية الهائلة الأيدي السحرية العجيبة. . . .) أو عندما يذكر (أذكر أني قابلت في أحد المطاعم (في أثينا) جندياً في الجيش كاد يبكي وهو يحدثني بالعربية في السعادة التي تنعم في أعطافها يوم أن كان يعمل (جرسونا) بمقاهي القاهرة الكبرى. . . .) (ويستطرد في القول). . . وأحسب انه نتيجة عطف أولته مصر لأبناء هذه البلاد منذ انبثق فجر التاريخ. فقديماً لقنهم المصريون أسرار الحكمة وأصول التشريع وزودهم بأسلحة من العلم واستقامة الفهم، فذاناؤس وككرلس وفيثاغورس شهب ثاقبة في سماء الثقافة الإغريقية، لكنهم لم يزيدوا على أن يكونوا مصريين. .) وكما يبدو في حديثه عن الإسلام وسلاطين آل عثمان في خلال وصفه لاستامبول، وهذه الظاهرة الفريدة في الكتاب تجعلني أسجلها مغتبطاً
قد كنت أؤثر أن يحدثنا - فوق ذلك - الأستاذ حسونه عن تلك البقاع التي زارها أحاديث تتناول صميم الحياة هنالك، عن وسائل رقيهم، وصناعاتهم، ونظم الجمعيات الهامة فيها، والروح الفردية في تلك الأمم، ونواحي الضعف في جماعاتهم، وأسبابها، والظواهر التي يلمحها في أنظمتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأن يتناول بالبحث الانقلاب الكمالي من جذوره في زيارته لتركيا ليصف ويقرر الحقائق التي لا يمكن للقارئ أن يجدها في الصحف لاعتبارات شتى، وأحسب أنه قد لمح إلى ذلك تلميحاً خفيفاً فهل فعل ذلك عن عمد؟ احسب ذلك. ولكنني أرجو أن يوفق إلى ذلك في كتابه المقبل، في صراحة تامة؛ فبلادنا في عصر نهضة، ولنكن حطب هذه النهضة، وكلما زدناها ناراً ازدادت اشتعالاً ونوراً وارتفاعاً، ولن يكون ذلك إلا إذا أفرغنا في سبيلها الجهد كل الجهد وعنينا بتوضيح كل ما يفيد هذه لنهضة ويوطد دعاماتها.
محمود عزت موسى