المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 16 - بتاريخ: 01 - 09 - 1933 - مجلة الرسالة - جـ ١٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 16

- بتاريخ: 01 - 09 - 1933

ص: -1

‌على الشاطئ.

. .!

الشاطئ شاطئ استانلي! واليوم يوم الأحد! والطرقات الجميلة الصاعدة إلى هذا الخليج البهيج تصب فيه أنماطاً من الناس في أنماط من اللباس، وكلهم في سن أهل الجنة! وكنت في هذا التيار الحار المتدفق كأنني السمكة الغريبة تفقد الاختيار وتخشى كل شيء! هبطت مع الهابطين إلى هذا الشاطئ على سلم من سلالمه ثم أرسلت فيه عيني فإذا هو مستدير على صدر الماء استدارة الهلال البازغ على صدر السماء، وإذا النجوم الزواهر من الأنس تختلج في قلب هذا الهلال اختلاج العواطف الرقيقة تتماس في رفق ثم تتفرج عليه في سهولة!! أخذت أخطو وئيدا بين العذارى المتجردات على استحياء وارتباك! فلما لم أجد فيهن حتى من تتقي النظر باليد كما فعلت (متجردة النابغة) حين تسقط نصفيها ولم ترد إسقاطه، أرسلت نفسي على طبيعتها في هذا الحي المباح وذكرت الأستاذ (الثعالبي) وهو يقول لي بالأمس في لهجة جازعة:(اذهب بربك إلى (استانلي) ثم صف لي ما تراه). هاتان عيناي يا صديقي مفتوحتين، وهاتان أذناي مرهفتين! فماذا أرى وماذا أسمع؟؟ أكشاك أنيقة الصنع والوضع تدرجت طبقاتها الثلاث على حضن الشاطئ! ومظلات شتى الألوان قد ركزت هنا وهناك في منحدر الساحل وجمع حاشد عار كسوق الرقيق في ألف ليلة وليلة قد بعثر أمام الأكشاك وتحت المظلات وفوق الرمال وبين المياه،. وصراع لذيذ عنيف بين أفواج البر وأمواج البحر تتخلله صيحات وضحكات كرنين الفضة المصفاة وأحاديث كهمس الأوتار تطير من بين الشفاه البواسم؛ كما تطير أنفاس الصبي الحالم، ولكنها لا تصعد إلى حيث يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح! وبيئة أجنبية ناسها غير ناسنا وإحساسها غير إحساسنا ولغتها لغة فرنسا لا لغة مصر، وسمرتها سمرة الشمس لا سمرة الجنس!! فعلام إذن هذا الجزع الباكي، والقوم إنما يجرون على أعراقهم ويعملون على مقتضى أخلاقهم وبين فتياتنا وفتياتهم من العرف الإسلامي حجاب، ومن الحياء الطبيعي وازع؟! كنت ألقي على نفسي هذا السؤال حين جرجر البحر إحدى موجاته الضخام إلى أعلى الساحل، فجريت إلى فوق أتقي هذا المدَّ المفاجئ فإذا بي واقف إزاء ظُلة جميلة منعزلة، قد انبطحت تحتها فتاة ناهد لم تقع العين منذ الصباح على اكمل منها صورة! وكانذعر السائرين من هجمة البحر قد لفتها لتنظر فلما وقع بصرها عليّ نهضت نهضة الظبي الفزِع تحيي بالعربية أستاذها القديم!

ص: 1

- أوه! فلانه؟!

- نعم! ويسرني أن أراك بعد خمس سنين

- هل أنت وحدك هنا؟

- كلا بل معي أخي. . . وقد أتعبه صراع الأمواج الثائرة فذهب إلى (الكابين)

- وكيف حال البك؟

- الحمد لله خير حال! وما أكثر سؤاله عنك وأشد شوقه إليك! لقد كان جالساً بالكازينو ثم أنصرف إلى البيت منذ قليل. قالت ذلك تلميذتي الأرستقراطية المسلمة وهي تنصب كرسياً طويلاً من القماش دعتني إلى الجلوس عليه، ثم جلست هي على كرسي آخر، وكانت كأمها حواء لا يستر جسمها العاري الا (ورقتان) خصفتهما عليه، من أمام ومن خلف! فسرعان ما ذكرت ذلك المكتب الفخم الذي كانت تجلس قُبالتي عليه لتستعد لامتحان البكالوريا وهي ملففة بثوبها الأزرق الأنيق المسبل، وعيناها الساجيتان لا تفارقان الصحيفة حياء وخفرا، وثغرها الحَييُّ الدقيق لا يرسل سهل الكلام الا في تلعثم وبطئ!! لم تدعني الآنسة في ذكراي الا ريثما ردت التحية على فتاة في مثل حالها وجمالها، كانت تسير في رفقة شاب شديد السمرة غطى كتفيه شعر كثيف، كصوف الخروف.

- هذه ابنة فلان وهذا الذي معها أخوها، وهذه أبنه فلان وهذا أبن عمها، وهذه المضطجعة في الشمس بنت فلان ومحادثها صديق من أصدقاء أخيها. . . . .

- لولا علمك يا آنسة لحسبت هؤلاء جميعاً أجانب!

- وما الذي يحملك على هذا الحسبان؟

- هيف القد واكتناز اللحم واتساع الحرية

- ذلك من أثر الرقص والرياضة، ستكتب ولا شك عن أستانلي شيئا في الرسالة!

- وهل قرأت ما كتب عنه؟

- قرأته ولم أسغه، لأنه شديد المبالغة سطحي النظر، وأي بأس في أن تمتع المصرية جسمها كله بأشعة الشمس وماء البحر كالغربية؟؟

- لا بأس وأظنها تدرك ذلك كله في شاطئ خاص وفي لباس مناسب

- إن شمس الشواطئ كما تعلم إنما تقصد لخصائص أشعتها، وكلما تعرض أكثر الجسم لها،

ص: 2

كان أكثر انتفاعا بها، والأمر في الشواطئ كالأمر في المراقص والمرايض، يهيمن على الحياة فيها روح رياضية عالية، تُغني كل إنسان بشأنه عن شأن غيره، فالراقص لا يفكر إلا في الرقص، والمرتاض لا يفكر إلا في الحركة والمستحم كذلك لا يفكر إلا في الأمواج والأشعة.

- ابدئي بالمثال قبل القاعدة يا آنسة. أين تجدين الروح الرياضية في هذه المرأة التي علت صدر هذا الرجل لتتعلم فوقه السباحة؟ وأينتجدين الروح الرياضية في هذين الجسمين الراقدين على الرمل يتلامسان بشهوة، ويتناجيان بنشوة، وقد انمحى من حولهما البحر والشاطئ والناس؟؟

أرى يا آنسة أن المرأة تسيء إلى نفسها بهذا التبذل (حتى من الجهة النسوية الخالصة) فإنها متى فقدت سحر المحجوب، وجاذبية المجهول، أصبحت كسائر الإناث من سائر الحيوان.

عفواً يا آنسة إذا اصطنعت في خطابك لهجة الأستاذية، فإنها لا تزال أقوى الصلات التي أمتُّ بها إليك.

ألا تلاحظين أننا في الجد نتطور ببطء موئس، وفي الهزل نتطور بسرعة جامحة؟! لقد كنا بالأمس نتجادل في السفور وها نحن أولاء اليوم نتجادل في العُري!!

أستودعك الله يا آنستي! وأسلم على أبيك وأخيك.

ثم أخذت طريقي على الشاطئ الشهوان وفي نفسي كلام حبسته! على أن من الظلم الموروث

أن الرجل يشارك المرأة في الذنب ثم يفردها بالعقوبة! فالأب يقود ابنته عارية إلى الشاطئ، والزوج يجلس مع زوجه عارية على المقصف؛ والأخ يتعرى مع أخته في الكشك والبحر، ثم يندلع لسان النقد على المرأة وحدها فيتهمها بخنق الفضيلة ويرميها بذبح الخلق!!

يا قوم، لقد فتشتم في الشواطئ كثيراً عن حياة المرأة، ففتشوا فيها ولو قليلاً عن نخوة الرجل!!

أحمد حسن الزيات. الإسكندرية

ص: 3

‌الأمل اليائس

للدكتور طه حسين

ولدت في آخر القرن السابع عشر سنة 1697. وماتت في آخر القرن الثامن عشر سنة 1780، وجمعت لنفسها من مزايا هذين العصرين، ما جعلها أبرع الناس أدبا وأشد الناس شكا، وأوسع الناس أملا، وأقتم الناس يأسا، وأظهر الناس فرحا، وأعمق الناس حزنا. ولكني أنسيت أن أسميها. وقد كان يجب أن أبدأ بتسميتها هذا الحديث. فهي ماري دي فيشي شمبرند

التي يعرفها تاريخ الآداب الفرنسية باسم مدام دي ديفان

كان مولدها ونشأتها في هذه السنين القائمة التي ختمت حكم لويس الرابع عشر. وأدركها اليتم طفلة فأرسلت إلى دير من هذه الأديرة التي كان يرسل إليها بنات الأغنياء. وكانت أسرتها عريقة في الشرف والنبل، متقدمة في خدمة الدولة. محتفظة بمكانة رفيعة بين أشراف الأقاليم. وكانت هذه الأسرة من أشراف بورجوني، وأهل هذا الإقليم من فرنسا معروفون بالنشاط القوي وحدة الذهن، وذلاقة اللسان، وحب الحياة، وإيثار ما تقدمه إلى الناس من لذات. فلم يطل مقام هذه الصبية في ديرها الأرستقراطي حتى ظهر من حديثها وسيرتها ما أقلق الأسرة، وأقلق رئيسة الدير. ويجب أن يكون هذا الذي ظهر من سيرتها وحديثها خطيراً جداً. فلم تكن أسر الأشراف لتقلق من شيء يسير. ولم يكن أهل الأديرة ليضيقوا إلا بالشيء الذي لا يطاق. ذلك بأن حياة الناس في ذلك العصر كان قد أخذها الفساد الخلقي، من جميع نواحيها، حتى استهانوا بكل شيء، وتجافوا عما لم يكن يتجافى الناس عنه إلا في مشقة وعنف. وحسبك أن تعلم أن الأديرة كانت قد استحالت في ذلك العصر إلى قصور فخمه يلهو فيها من أبناء الأشراف وبناتهم من لم تسمح له ظروف الحياة بالعمل في السياسة أو في الجيش، ومن لم تتح لهن ظروف الحياة أن يظفرن بالزوج. وكان بنات الأشراف خاصة يتخذن من هذه الأديرة دورا للعبث واللهو، يسترن ذلك بستار رقيق من اسم الدين. ولم يكن ليتحرجن من استقبال الزائرين والزائرات، ولا من إقامة الحفلات الراقصة، بل كان الرقص والموسيقى جزأين أساسيين من برنامج التعليم الذي كان يلقي إليهن فيها: فإذا استطاعت صبيتنا هذه أن تزعج أسرتها، ورئيسة الدير بما

ص: 5

أظهرت في سيرتها وأحاديثها من خروج على التقاليد، فيجب أن تكون قد أتت أمراً عظيما. وهي قدأتت أمراً عظيما حقا، فقد كانت تجادل في الدين ولما تبلغ الثانية عشرة، وكان جدالها هذا خطرا مخيفا. لأنها كانت تنكر أصول الدين إنكارا. وقد استعانت الأسرة ورئيسة الدير على جحود هذه الصبية بعظيم من عظماء الكنيسة وخطيب من أبرع الخطباء في عصره وهو فدعي هذا الحبر للقاء هذه الطفلة ومحاورتها، فلما رآها سمع لها وتحدث إليها وانصرف عنها يائسا وهو يقول إنها لظريفة. فلما سألته رئيسة الدير عما تصنع لردها إلى طريق الحق أطال الصمت ثم قال: ضعي في يدها كتابا من أرخص كتب الدين، ثم لم يزد على ذلك شيئا. وذكرت الصبية حين تقدمت بها السن حوارها مع هذا الحبر العظيم، فقالت: إن عقلي قد أضطرب أمام عقله، وقالت أني لم أذعن لحجته وانما أذعنت لجلاله؛ ومعنى ذلك أن الخصمين التقيا فلم يقنع أحد منهما صاحبه. فلما بلغت هذه الفتاة العشرين أو جاوزتها قليلا، زوجت من رجل شريف، عظيم الخطر، من حكام الأقاليم. ولكنها لم تكد تقضي معه أشهراً حتى أنكرته وضاقت به وكرهت عشرته كرهاً شديداً. وكانت تقول عنه إنه يبذل أقصى ما يستطيع ليسؤك ويصرفك عنه. على أنها قد أقنعته بالرحلة إلى باريس. ولم تكد تصل إلى هذه المدينة وتستقر فيها حتى اندفعت في حياة اللهو والعبث، اندفاعاً لفت إليها الناس، وجعلها موضوع الأحاديث في هذه المدينة الباسمة اللاهية.

وكان لويس الرابع عشر قد مات، وكان أمر الدولة إلى الوصي الذي أقيم على الملك، الصبي لويس الخامس عشر. وكان هذا الوصي صاحب لهو لا حد له، وصاحب مجون وعبث لا حد لهما أيضاً. وكان الناس قد ساروا سيرته كأنما أرادوا أن يعوضوا ما فاتهم في تلك الأيام الحزينة التي ختمت حكم الملك الشيخ، وما أسرع ما اتصلت صاحبتنا بقصر الوصي واشتركت فيما أقام فيه من حفلات، ثم اتصلت بالوصي نفسه، وأصبحت له خليلة ولكن حبه لها لم يتجاوز خمسة عشر يوماً. على إنها قد ربحت من هذا الحب القصير ستة آلاف من الجنيهات الفرنسية، تصرف لها في كل عام ما امتدت لها الحياة. وأسرفت صاحبتنا في اللهو حتى أنكرها أصحاب اللهو من أهل باريس، وحتى ساءت الصلة بينها وبين زوجها، فافترقا دهراً ثم كان بينهما صلح لم يطل، وعادا إلى الفرقة. ثم كان بينهما

ص: 6

صلح آخر، قوامه أن يلتقيا على الغداء والعشاء. وإلا يعيشا معاً، ولكن هذا الصلح نفسه لم يتصل أيضاً، ففرق بينهما وعاد الرجل إلى قصره في الأقاليم وأقبلت هي على لهوها في باريس لا تدع فناً من فنون العبث إلا أخذت منه بحظ عظيم، على أنها لم تكد تجاوز الثلاثين حتى تبينت أن ما هي فيه من الأمر باطل كله، وحتى سئمت اللهو وعافته، وأخذت تحس انصراف الناس عنها. فآوت إلى أخ لها قسيس أقامت عنده دهراً ثم انصرفت عنه إلى أخ آخر لها في الأقاليم، ثم عادت مرة أخرى إلى باريس. واتصلت بقصر من قصور الأشراف كان يؤوي أكبر من تعرفهم فرنسا وأوروبا من الأباء والفلاسفة، وأصحاب الفن، وفي هذا القصر ظهرت قيمتها الأبية، واستكشفت براعتها في الحديث وتبين الذين عاشروها أنها امرأة ليست كغيرها من النساء، بل ليست ككثير من الرجال، وانما تمتاز بقلب ذكي، وعقل قوي، ولسان فصيح عذب، ومهارة في تصريف الحديث لا تبلغ الإعجاب وحده، ولكنها تبلغ إعجاز المحدثين مهما تكن منزلتهم، ومن ذلك الوقت أخذ أمر هذه المرأة يعظم. وشأنها يرتفع، لا من حيث أنها امرأة جميلة خلابة. تحب اللهو وتسرف فيه، فقد كانت في ذلك الوقت قد بدأت تقصر عن اللهو وتعري أفراس الصبي ورواحله، كما يقول زهير، بل من حيث أنها امرأة أديبة أريبة يستطيع أن يستمتع بحديثها، وعشرتها، وبراعتها ذوو العقول. وقد آثرتها صاحبة القصر إيثارا عظيماً حتى لم تكن تصبر على فراقها، وأحبها فولتير وكلّف بها منتسكيو وأطاف بها أعلام الأب والفلسفة من الفرنسيين يستبقون إلى مودتها، وما هي إلا أن تتخذ لنفسها داراً في باريس وتدعو إليها أصدقائها هؤلاء من الأباء والعلماء والفلاسفة يسمرون عندها يوم الأربعاء من كل أسبوع. ثم تضيق هذه الدار بمن يقصد إليها من رجال فرنسا وأوروبا على اختلافهم فتتحول عنها إلى دار أخرى رحبة تستأجرها في دير من هذه الأديرة الأرستقراطية في باريس. وفي هذه الدار التي استأجرتها كانت تقيم قبلها مدام دي منتسبان خليلة لويس الرابع عشر، تلك التي ملأت حياة الملك العظيم لذة وإثماً، وكلفت رجال الدين من حوله مشقة وجهداً، والتي كانت تؤوي إلى هذا الدير من حين إلى حين تستغفر الله من خطاياها وتضرع إليه في الوقت نفسه أن يحفظ عليها هذه الخطايا. أقامت صاحبتنا في هذه الدار ونظمت استقبالها لأعلام فرنسا مرتين في الأسبوع يتناولون عندها العشاء ويسمرون إلى

ص: 7

قريب من آخر الليل، ويتحدثون فيما شئت من أدب وعلم، ومن فلسفة وفن، ومن سياسة وحرب. ولكنها لم تكن تحب أن تشارك الأباء والعلماء والفلاسفة فيما كان يجري بينهم من حوار؛ لأنها كانت تكره الأب والعلم، وكانت تكره الفلسفة خاصة وتضيق بها ضيقاً شديداً، وكانت تعنى بأشخاص زائريها أكثر مما تعنى بما كان عندهم من علم، أو أدب، أو فلسفة. كانت مسرفة في الشك وكان إسرافها في الشك يصرفها عمّا كان يكلف به الناس في عصرها من هذه الفلسفة الحرة الغالية التي كانت تعمل في الهدم أكثر مما كانت تعمل في البناء. وتتقدم السن بصاحبتنا وقد مات زوجها وأصبحت حرة حتى أمام القانون، وقد جدّت بتنظيم حياتها وانصرفت عن اللهو والمجون إلى حياة الجد ولذة الحديث والسمر، ولكنها على ذلك اتخذت لها خليلاً عاشت معه عيشة الأزواج، لم تكن تحبه ولكنها لم تكن تكرهه، إنما كانت تستعين به على احتمال الحياة، كما كانت تستعين بكل شئ على احتمال الحياة، فقلما عرف تاريخ الآداب امرأة ضاقت بالحياة كما ضاقت بها هذه المرأة، بل قلّما عرف تاريخ الآداب رجلاً ضاق بالحياة كما ضاقت بها هذه المرأة. كانت متشائمة كأشد ما يكون التشاؤم، وكانت تردد هذه الكلمة التي تقربها من أبي العلاء: إن شر من ابتلينا به من الشقاء، إنما هو الحياة. وكانت تستعين بإسرافها في المجون والعبث، ثم في الجد والإنتاج الأبي على احتمال الحياة، ولعلها لم تله، ولم تعبث ولم تجد الاّ لتنسى الحياة وتنصرف عن نفسها. فقد كانت تكره العزلة وتخافها خوفاً شديداً، فكانت تسهر الليل، ولا تنام الا قليلاً في النهار، وتنفق وقتها قارئة أو لاهية أو مستقبلة. ولا تكاد تبلغ الخمسين من عمرها حتى يتم الله محنته لها، وحتى يأخذها الشقاء من كل وجه. فهذا حجاب رقيق يلقى شيئاً فشيئاً بينها وبين النور، ثم يتكاثف هذا الحجاب قليلاً قليلاً، وهي تحس ذلك وتجزع له وتلجأ إلى الأطباء والسحرة، والمشعوذين، فلا تجد عند أحد منهم شيئاً. والحجاب يتكاثف ويتكاثف، حتى يستحيل إلى سور صفيق يقطع كل سبب بينها وبين الضوء وإذا هي عمياء.

أفتظن ذلك قد غير من سيرتها أو اضطرها إلى شيء من القصد والاعتدال، ليس من شك في أنها قد حزنت لذلك حزناً عميقاً ولكنه حزن أضيف إلى حزن. حفظته في أعماق نفسها ولم تظهر منه للناس شيئاً. إنما كتبت إلى بعض أصدقائها من أعلام الأب والسياسة تنبؤهم بهذه الكارثة فمنهم من رق لها كفولتير، ومنهم من عبث بها كمنتسكيو، وكلهم قد مضى في

ص: 8

إكبارها، والاختلاف إليها، لم يغير من سيرته شيئا كما لم تغير هي من سيرتها شيئا. فظلت مائدتها تقام يوم الاثنين والأربعاء من كل أسبوع، وظلت تختلف إلى الأوبرا والملاعب، وتشترك في الحفلات كما كانت تفعل من قبل. واتخذت لها رفيقة فتاة من أهل الأقاليم ولدت في أسرة شريفة ولكن مولدها لم يكن شرعيا، وكانت هذه الفتاة مدموازيل لسبيناس ذكية بارعة الذكاء، حساسة قوية الحس، مثقفة واسعة الثقافة، وكانت المودة بينها وبين سيدتها قوية متينة، دامت عشر سنين لم يكدر صفوها مكدر. ثم لاحظت صاحبة الدار أن زوارها أو فريقا منهم إذا انصرفوا عنها لم يخرجوا، وانما أتموا سمرهم عند الفتاة، فغاظها ذلك وكانت القطيعة بين الصديقتين، ولكنها لم تكن قطيعة مألوفة إنما كانت حدثا من أحداث العصر في باريس، انقسم له الأباء والفلاسفة انقساما عظيما، تعصب بعضهم للشيخة وتعصب بعضهم للفتاة، وكانت كثرة الفلاسفة وعلى رأسهم ' أنصار الفتاة وكانت الأرستقراطية المعتدلة والمحافظة من أنصار الشيخة.

ثم استأنفت الحياة المنظمة طريقها عند صاحبتنا، واتخذت الفتاة لها ناديا أو صالونا أدبيا واشتدت المنافسة بين هاتين المرأتين. وصاحبتنا الآن في الثامنة والستين من عمرها قد فقدت البصر منذ ثمان عشر عاما، وعظمت مكانتها في أوروبا حتى لم يكن عظيم من الأوروبيين يزور باريس ألا رأى حقا عليه لنفسه ولمكانته أن يلقاها ويتحدث إليها. وفي أكتوبر من هذه السنة1765 زار باريس رجل من عظماء الإنجليز هو هوراس ولبول كان أبوه روبير وزيرا وكان هو عضوا في البرلمان. فلما مات أبوه ترك السياسة، وانصرف إلى الأب والفن، وكان في الخمسين من عمره. ولم ير هذا الرجل بدا من أن يزور صاحبتنا هذه ويغشي ناديها كما كان يغشي أندية الأب والسياسة كلها في باريس. فلما رأى هذه الشيخة أنكرها، وكتب إلى صديق له يصفها بأنها عجوز عمياء فاجرة العقل. على أن وقتا قصيرا لم يمض على هذه الزيارة حتى تغير الأمر بين هذا الإنجليزي وهذه الفرنسية، وتكررت الزيارة فوقع الإنجليزي من نفس هذه المرأة موقعا غريبا رد إليها الشاب بل رد إليها الصبي فأحبته. وأنا أعني بهذه الكلمة معناها. أحبته وقد أشرفت على السبعين ولم يرفض هو هذا الحب. ومن المحقق انه لم يلق هذا الحب بمثله، ولكنه أضمر لهذه المرأة مودة قوية صادقة لم تغيرها الأيام واظهر بها إعجابا لا حد له. واتصلت أسباب

ص: 9

المودة والحب بينهما ما أقام في باريس، فلما رجع إلى لندرة اتصلت بينهما الكتابة، وكان يأتي إلى باريس من حين إلى حين ليرى حبيبته أو ليرى عاشقته، أو ليرى يتيمته، كماكانت تسمي نفسها، فقد كانت تسمي نفسها يتيمه وتسميه هو وصياً. وكان هو يسميها ابنته الصغيرة. وكان الحنان بينهما كأقوى ما عرف الناس من الحنان بين المحبين. وكانت نتيجة هذا الحب أربع مجلدات نشرت بعد موتها وفيها ثمانمائة من الرسائل التي اتصلت بينهما. وهي آيات من آيات الأب الفرنسي لا أكثر ولا أقل، فيها تصوير لهذه العواطف النادرة، الشاذة، التي لم يألفها الناس والتي تملأ قلوبهم مع ذلك رحمة وبرا، وإشفاقا، وعطفا. وما رأيك في هذه الضريرة التي نيفت على السبعين والتي تكتب لصاحبها رسائل حب وغرام كرسائل الفتيات اللاتي لم يتجاوزن العشرين. على أن صاحبها كان إنجليزيا، ومعنى ذلك انه كان يخافالسخرية، والمزاح، وكانت الرقابة مضروبة على الرسائل في إنجلترا ذلك الوقت. فكان صاحبنا مروعا دائما يخشى أن تفض رسائل صاحبته، وأن يعرف ما فيها من هذا الحب الغريب، فيتندر الناس به في القصر وفي الأندية. فكان يرد صاحبته إلى القصد في تصوير عواطفها الحارة، وكانت هي تخاصمه في ذلك، وكان الأمر يفسد بينهما أحيانا، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى خير ماكان. وانقطعت رسائله عنها مرة فكتبت إليه: يظهر انك لا تريد أن تظهرني من أمرك على شيء، فاحذر أيها الوصي أن تصبر على ذلك فاني خليقة إن فعلت أن أرسل إليك سكرتيري وأن أكلفه الإسراع إلى لندرة وآمره أن يلزمك وأن يرسل إلي بأنبائك، وأن يعلن إلى الناس جميعا وفي كل مكان أني يتيمتك، وأنك وصيي، وأني أحبك، وأن يهيأ لي عندك مكانا فالحق به، وأعلن إلى الناس جميعا ما بيننا، لا أخاف فضيحة مهما تكن، فاختر لنفسك بين الفضيحة والكتابة إلي. ولعلها كانت في بعض الوقت تذعن وتطيع، وترد نفسها إلى القصد ثم تثور فترسل نفسها على سجيتها وتطلق حبها صريحا حراً. وكذلك عاشت هذه المرأة خمسة عشر عاما، استرد قلبها فيها شبابه كله وتبينت هي وتبين هو وتبين الناس في عصرهما، ومن بعدهما أن ما اندفعت فيه هذه المرأة من العبث واللهو، ومن المجون والفساد، ثم من الجد الخصب والنشاط المنتج، كل ذلك لم يكن إلا ضيقا بالحياة وافتقاداً لهذا النور الذي يحببها إلى النفس. وهو الحب، ومصارعة لهذا العدو الفاتك وهو اليأس، فلما بلغت السبعين أو كادت

ص: 10

تبلغها ظفرت بالحب عند هذا الإنجليزي، وظفرت به من غير طريقه كما كان يقول المعاصرون، فان العيون هي أوضح طرق الحب إلى النفوس، ولكن الحب قد يسلك إلى النفوس طريق الآذان كما قال شاعرنا القديم. وأكبر الظن أن صوت هذا الإنجليزي هو الذي حمل الحب إلى نفس هذه الفرنسية فثبته فيها تثبيتا.

وفي سنة 1780 ماتت هذه المرأة وكتبت قبل موتها بقليل جدا إلى صاحبها كتابا تنبؤه فيه بقرب آخرتها. وتنبؤه بأنها لا تأسف لفراق الحياة، لأنها لا ترى في الحياة خيراً بعد أن كتب إليها أن لا تلقاه. وتنصح له بأن يستمتع بالحياة ما استطاع، وتنبؤه بانه سيحزن عليها، فليس من اليسير أن يتعزى الناس عمن كان يؤثرهم بالحب. فلما أتمت إملاء كتابها هم سكرتيرها الشيخ أن يقرأه عليها كعادته، فلم يستطع لأنه كان يقطع قراءته بالبكاء. هنالك أحست هذه المرأة المتشائمة اليائسة التي أسرفت في سوء الظن بالناس؛ أحست أن هذا السكرتير لم يكن يعمل عندها ليعيش. فقالت له بصوت خافت فيه نغمة الموت، وفيه مع ذلك نغمة الرضى والغبطة أكنت تحبني إذا؟

هذه صورة من صور هذه المرأة وهي من غير شك أشد هذه الصور اتصالا بالنفوس، وتأثيرا بالقلوب. ولكن لهذه المرأة صورا أخرى عظيمة الخطر جدا في حياة الأب الفرنسي. فقد كانت ناقدة، ولها في أدباء فرنسا، وفي كبار أدبائها خاصة آراء قيمة تثير الإعجاب لرقتها ولبراعة الصياغة التي كانت تعلن فيها. كانتتؤثر فولتير، وكانت تضيق بروسو فانظر إلى هذه الجملة البديعة التي تنقد فيها أسلوب جان جان:(إن لروسو حظا من الوضوح، ولكنه وضوح البرق، وله حظمن الحرارة ولكنها حرارة الحمى).

واتصلت هذه المرأة بأصحاب السياسة، واتصلت بالعظماء والأشراف وكانت منهم، وقد كتبت إليهم وتلقت منهم الكتب وقد صورتهم وصوروها، فهذه ناحية أخرى من حياتها لها أثرها في توضيح التاريخ السياسي والاجتماعي لفرنسا في القرن الثامن عشر وقبل الثورة الفرنسية الكبرى.

وبعد فلعل أحسن ما كتب عن هذه المرأة إلى الآن فصلان كتبهما سانت بوف في أحاديث الاثنين تستطيع أن تقرأ أحدهما في الجزء الأول، وثانيهما في الجزء الرابع عشر، فان أردت الإيجاز المقنع فاقرأ الفصل الذي نشر عنها في (مجلة العالمين) أول أغسطس، فان

ص: 11

أبيت أن تتكلف القراءة أو تشق على نفسك بالبحث فقدر هذا الوصف الذي كان يصفها به فولتير، وفكر فيه فانه يعطيك منها صورة قوية، تملأ نفسك رحمة وإعجابا. فقد كان فولتير يسميها:(الضريرة المبصرة).

ص: 12

‌بين اليأس والرجاء

للأستاذ أحمد أمين

صوتان لابد أن يرتفعا في كل أمة ويجب أن يتوازنا حتى لا يطغي أحدهما على الآخر، صوت يبين عيوب الأمة في رفق وهوادة، ويستحث على التخلص منها والتحرر من قيودها، وصوت يظهر محاسنها ويشجع على الاحتفاظ بها والاستزادة منها. والصوتان معا إذا اعتدلا كونا موسيقى جميلة منسقة تحدو الأمة إلى السير إلى الأمام دائما، هي موسيقى الجيش تبعث الرجاء والأمل، وتمنى بالنصر والظفر، فان بغي أحد الصوتين كانت موسيقى مضطربة تهوش النفس وتدعو إلى الفوضى والارتباك، وإذا كان (الدور) في الموسيقى يكون منسجما كله، وشذ أحد أصواته لحظه فيكون (نشازا) يخدش السمع ويجرح النفس، فما ظنك (بدور) كله (نشاز)؟

مما يدعو إلى الأسف أن صوتا في الشرق علا كل صوت، وهو ليس خير الأصوات وأحبها إلى النفس، هو صوت اليأس والتثبيط يتغنى به كل أصناف الدعاة، فخطيب المسجد تدور خطبته دائما على أن من يخطبهم ليسوا مؤمنين حقاً، فقد ارتكبوا من الأوزار، واجترموا من الآثام ما أخرجهم عن الإيمان الحق، وأبعدهمعن الدين الصحيح، ولو آخذهم الله بأعمالهم لأمطرهمحجارة من السماء، أو خسف بهم الأرض، ثم يصب هذاالمعنى كل أسبوع في قالب، وكل القوالب تختلف أشكالها، ويتحد معناها، ويخرج السامع دائما وقد ملأه اليأس، وانقطع به الرجاء، إلا أن يتداركه الله بعفو ليس جزاء على عمل. ودعاة اللغة والأب يلحون في أن اللغات الأجنبية خير من اللغة العربية، وأن الأبالأجنبي أدب الثقافة والفن والعلم، ولا شيء من ذلك في الأب العربي، وأن من شاء أن يفتح عينيه فليفتحهما على أدب أجنبي ولغة أجنبية، وإلا ظل أعمى، وموجز دعوتهم أن يتحول الشرق في لغته وأدبه إلى الغرب في لغته وأدبه، لا أن يختار من لغة الغرب وأدب الغرب ما تلقح به لغة العرب وأدب العرب.

ودعاة الاجتماع أدهى وأمر، فليس في الشرق كله ما يسر، قد جرده الله من كل حسن، فلا طبيعة جميلة ولا مناظر جذابة، ولا شيء فيه يأخذ باللب ويدعو إلى الأعجاب، والقمر في الغرب أنور منه في الشرق، والبحر الأبيض قد جمل منه ما لامس الغرب، وقبح ما لامس

ص: 13

الشرق، وكل شيء في عادات الشرق وتقاليده تعافها النفس، وينفر منها الطبع، وعلى الجملة فالله تعالى الواهب ما شاء لمن شاء قد جعل الحسن كله في ناحية، وقال له كن الغرب فكان، وجمع القبح كله في ناحية وقال له كن الشرق فكان، وهم إذا لم يقولوا ذلك كله جهاراً آمنوا به أيمانا، وصدرت عنه أفعالهم، واتجهت إليه حياتهم. ودعاة العلم من هذا الطراز، فكتب العلم العربي إنما تصلح لدارس التاريخ أو طعمة للنار، وماذا فيها إلاّ تخريف أو تحريف، قد كانت نتاج القرون الوسطى، ونحن نتاج العصر الحديث (ومالي وللسياسة ودعاتها فلأهربن منها إتقاء لنارها) ومجالسنا صدى لهذا الصوت، فإذا أستثنيت عُشر معشارها فكلها نقد للأخلاق وطعن في حياة الشرق، وتهجم على حال أمتهم، وتجهم لكل ما يصدر منهم، وقلّ أن تسمع صوتاً ينطق بمدح أو يعجب ببطولة، أو يتغنى بعمل مجيد.

هذه نغمة مملولة كانت أجني على الشرق من كل عيوبه، ولن تفلح أمة من غير ذخيرة تعتز بها، ومجد طارف وتليد تعتدٌ به، ونعرة قومية تدعوها إلى الفخر والإعجاب، ولأمر ما قال تعالى (كنتم خير أمة أُخرجت للناس) وليس عبثاً أن يكون في أناشيد الألمان (ألمانيا فوق الجميع) وأن يعتقد بعض الأمم في أنفسهم أنهم شعب الله المختار، ونحو هذا ممّا ينعش الأمل، ويدعو إلى العمل.

تلك ظاهرة نفسية لا مجال لإنكارها، فاعتقد الغباوة في طفلك وكرّر عليه اعتقادك تقتل كل ما فيه من ذكاء، وأعلن أنه ذكي وشجعه على ما يبدر منه من ضروب الذكاء تستخرج أقصى ما عنده من عقل. وفي المثل الإنكليزي (دَعَوا الكلب عقورا فشنق) يعنون أنهم اعتقدوا في كلب سوءاً وسمّوه عقورا وظلوا يطلقون عليه هذا الاسم حتى صدر منه من أفعال السوء ما أستوجب قتله. وفي أمثالنا العامية (قالوا للفلاح يا حرامي شرشر منجله) ذلك أن الاتهام يحمل على ارتكاب الجريمة من ناحيتين: من ناحية الإيعاز، فمن اتهمته فقد أوعزت إليه واقترحت عليه العمل وأظهرت له الجريمة ماثلة أمام عينه حيناً بعد حين، ومن ناحية أن أكبر ما كان يمنعه من الشر خوفه أن يتهم بالشر، فإذا اتهمته فقد كان ما يخشاه، وأقدم على ما كان يتحاماه، هذا إلى ما يوحيه الاتهام الدائم من شعور باطني يسيره نحو العمل وفق الاتهام، وهذا هو السر في

ص: 14

أن بعض قوانين تسن لمعاقبة بعض أنواع الإجرام فتكون سببا لكثرة الإجرام، ثم ترفع فيقل الإجرام، لأن وجود القوانين كان موعزا بارتكابها، ولعل أنواعا من الآثام زادت بكثرة الكلام فيها من جهلة الوعاظ ممن لم يحسنوا دراسة النفوس وقوانينها. إذا سقط الفتى فأريته أن سقطته قابلة للعلاج، وأخذت بيده لانتشاله، كفّر عن سقطته وعاد إلى حاله، وإن أنت أريته أن سقطته لا تغتفر، وأنه لم يصبح إنسانا استمر يسقط أبدا. وكثير من الساقطين والساقطات لو أحسوا في الناس استعدادا لقبولهم، وشعروا أنهم يفسحون لهم في صدورهم لعدلوا عن سقطتهم، ونهضوا من عثرتهم.

وبعد فليس الشرق، بدعا من الخلق، إن اعتز أحد بماض فليس أمجد من ماضيه، وإن كان لكل أمة غريبة محاسن ومساوِ فللشرق محاسنه ومساويه، وإن كانت مساوئ الغرب لم تمنعه من نهوضه فلم تمنع الشرق مساويه من نهوضه؟ ليس أعوق للشرق من هذا الصوت الكريه يصدر من دعاته فيبعث اليأس وينفث السم. أيها الدعاة: كسروا قيثارتكم هذه التي لا توقعإلا نغمة واحدة بغيضة، واستبدلوا بها قيثارة ذاتالحان صنعهاطَب بأدواء النفوس عليم، واكثروا من ألحان تبعث الأمل، وتدعو إلى العمل، وتزيد الحياة قوة، ولا تشهروا برذيلة إلا إذا أشدتم بفضيلة، ولا تسمعونا صوت المعاول، إلا إذا أريتمونا حجر البناء.

ص: 15

‌ستانلي باي!

لأستاذ كبيرلم يشأ أن يتعرف لقرائنا اليوم

نعم هو ستانلي باي الذي تكتب عنه الآن الجرائد اليومية كل يوم. والذي تكتب عنه المجلات الأسبوعية كل أسبوع000

فما للرسالة لا تساهم في حديثه وقد أصبح حديث جميع من في مصر00؟ أفليس هو الذي يزوره (الأستاذ الصاوي) فيتكلم عنه في (الأهرام) يومين متتاليين؟ أليس هو السر في (قطر الندى) كما يسميه أهل الاسكندرية الظرفاء. وهو نفس ما يسميه مدير السكة الحديدية (قطار البحر)؟ أليس هو الذي حرمته القاهرة فقام فنانوها من مديري المسارح والصالات ينقلون مشاهده إلى مسارح القاهرة؟ أليس هو الذي يشغل بال حكمدار بوليس الاسكندرية ورئيس نيابة الاسكندرية؟ ثم أليس هو الذي استلفت أخيراً نظر رجال الدين، على رغم ما هم آخذون فيه من توزيع (الطوابع) الجديدة التي ابتكروها لاسترداد هيبة الإسلام وإعلاء كلمة الدين؟!

إن الرسالة وقد جعلت مهمتها أن تقاوم حيرة الأمة بتوضيحالطريق كما جاء في عهدها لا تستطيع أن تفتك من قيود التحدث إلى الأمة في هذا الموضوع الذي يشغل الدنيا والدين على السواء! ولقد كان من حق قراء (الرسالة) أن ينتظروا كلمة من بعض أقلامها المعهودة أو تعليقا من حامل شعلتها الوضاءة. ولكن يخيل إلينا أن هذه الأقلام قد استراح كل منهاإلى موضوع فهو لا يفتأ يتقلب فيه، وقد استقل كل منها ببحث فهو لا ينفك يجول في حواشيه، فالدكتور عزام مثلا في محمد اقبال وعبد الحق حامد ونامق كمال. والأستاذ العبادي مابين زرياب وعمر بن عبد العزيز. والأستاذ أمين أخيرا في عكاظ والمربد. والدكتور طه أخيراً أيضا في لغو الصيف ما بين مصر وما وراء مصر000 ولكن لا عن طريق ستانلي باي والسلام!

فلم يبق بعد ذلك الا أن يتقدم الفضوليون الذين لا يريحون ولا يستريحون. وإني أعوذ بالله (وأنا أثير هذا الموضوع) أن أكون أحد هؤلاء000 كنت من رواد هذا الشاطئ منذ نحو عشرة أعوام، وما زلت أزوره كل عام. فأقسم لك صادقا أن لست أدري فيم هذه الضجة التي بدأت تقوم حوله هذه الأيام؟ 000 لقد كان الطريق إليه فيما مضى متعبا متربا. فتعبد

ص: 16

واستقام. وكان شاطئه مجهدا مرهقا في السير لغزارة رماله، فقام إلى جانبه افريز ممهد سهل يجعل السير فوقه متعة من متع الحياة. وكانت (اكشاكه) على غير نسق، يقوم فيها الكبير إلى جانب الصغير، والوجيه إلى جانب القمئ، والعالي المشرف إلى جانب المنخفض الوضيع. فتناوله الذوق السليم بالتهذيب حتى أصبح في صورتهالحالية درجات متماثلة بعضها فوق بعض كأنه القلادة الفرعونيه تزين صورةذلك الشاطئ الجميل. هذا هو الشاطئ نفسه ما بين يومه وأمسه000 أما أهله فهم هم أهل (ذلك) الزمان. وأما زيهم فهو زي (هذا) الزمان! فمن أراد أن يثور بالشاطئ فلست أدري لم لا يثور بكافة الطرقات التي تغشاها السيدات؟ وهل أنت ترى فوق ذلك الشاطئ إلا من ترى في الترام وفي غير الترام من مسالك الإسكندرية وشعابها؟ إنهم وحق أبيك ليس فيهم من خلق جديد، ولكنهم يبدون في الطريق بزي الطريق وينزلون إلى البحر في زي البحر. فانظر أية الزينتين أدعى للفتنة وأيتهما أقرب إلى الفجور؟. . .

هذه سيدة في عربة الترام تراها وثوبها يغطي جسمها (وقبعتها تغطي رأسها) وحذاؤها يغطي رجليها. فهل حقيقة تغطى شيء من ذلك؟ ألست ترى تحت القبعة شعراً مصفوفاً وجدائل بعضها يتدلى فوق الأذن، وبعضها يزين الجبهة. وبعضها يمر فوق الخد لتلعب ضدية الألوان دورها في إبراز محاسن العنصرين. . . إشراق الوجنة، وفحومة الخصل؟! ثم انظر ماذافعل الثوب بالجسم؟ ألم يفصّله تفصيلاً؟ ألم يلف مفرطحه وينهض بمسترخيه؟ ويضغط هنا وينسدل هناك؟ ثم ينشق فوق الصدر تلك الإنشقاقة الماكرة التي يبدو منها انفلاق الثديين! إنما مثل هذا الذي يفعله الثوب في جسم صاحبته كمثل المعلم الذي يمسك (بمؤشره)

فيؤشر به لتلاميذه على هذا الموقع من الخريطة حيث (مجمع البحرين) وعلى ذلك حيث (مفرق الجبلين) وهكذا. . . .

إن كل قطعة في لباس المرأة العصرية إنما يؤدي اليوم غرضاً واحداً هو إبراز ذات المحاسن التي كان المقصود به أن تسترها.

أمّا اعتبارات الجد والاحتشام وما إلى ذلك من تلك الأغراض التي أتخذ الإنسان الأول من أجلها اللباس فقد انطوت مع أهلها ومع زمانها. . . ثم دعني أعود بك إلى الحذاء. أفلا

ص: 17

يتخذه النساء مخرماً مهلهلاً مثقباً؟ وهو على الرغم من كل ذلك يلبس فوق الجلد بغير جوارب أو نحوها. فحدثني بعد هذه الصورة وكن صريحاً. . أي المنظرين أشهى للعين وألفَت لنظرها؟ أهي القدم الحافية أم المستورة تحت مثل هذا الحذاء المفضوح؟ أهو الجسم الصريح الهادي على علاّته أم ذلك المرائي المتحصّن في كل تلك الغلائل. . . هذه تبرز نهديه. . . وتلك تضغط كشحيه. . . وغير هذه وتلك من الخرق والمزق التي تغريك كل قطعة منها بكشف ما دونها ومعرفة ما ورائها! إن ما يثير الرجل من المرأة ليس هو ظهرها المتجرّد، ولا هي سيقانها العارية، ولكنها نظرتها الساجية التي ترخيها في وجه الرجل كأنما تدافعه عن نفسها وهي إنما تراوده بها عن نفسه! وليست المرأة العارية هي التي تبعث الفتنة، فقد علمنا أن في هذه الدنيا قبائل كاملة يعيش نساؤها عاريات وسط الرجال. فلم نسمع بأن ذلك كان مدّعاة إلى أن يتخطف الرجال بعض هؤلاء النساء. ولا أن تشيع الفتنة والفساد في تلك البيئة بسبب هذا العراء. ولقد علمنا من الجانب الآخر بأن الفتنة على شرما تكون هنا في طرقات القاهرة والإسكندرية حيث (الملاءات) التي تنسدل من الرأس إلى القدم، ومع ذلك فإنها لا شأن لها إلا أن تحسر الأرداف، وتنحسر عن بعض السيقان، تبدى جانباً منها وتضن بالجانب الآخر، إمعاناً في الفتنة واستفزازاً للغرائز.

إني أحدثك صادقاً أن الرجل يكون في البحر أو فوق الشاطئ تموج حوله السيقان، وتصطخب الأثداء، وتتلألأ الظهور، وتترقرق النحور، فلا يشغله كل ذلك بمثل ما يشغله في الطريق وقوف امرأة تميل على جوربها ترفعه، أو انشغال أخرى بذيل ثوبها ترخيه على ساقيها بعد إذ هفا به من فوقهما النسيم. وعلى الرغم من كل ذلك فأن النيابة، والبوليس، والصحافة، ورجال المطافئ، ورجال الدين، كل أولئك يعلنون الحرب عواناً على:(شاطئ ستانلي باي)

مصطاف

ص: 18

‌أحياء ذكرى ابن خلدون

نشر الأستاذ محمد عبد الله عنان فصولاً في الرسالة أرَّخ فيها

العلامة ابن خلدون، فكانت هذه الفصول ولاغرور خير ما

كتب في تاريخ هذا العلامة، بيد أن الأمر الذي يرجوه الناس

ودعا إليه الصحافي العجوز في مايو سنة 1932 بالأهرام لم

يتحقق ولم نصل إليه. دعا هذا الصحافي الفاضل إلى إحياء

ذكرى ابن خلدون لكي ينتفع هذا الجيل وما بعده بهذه الذكرى

الطيبة، وقام الكتّاب على أثر ذلك يبينون ما نعمل لأحياء هذه

الذكرى، وكان من رأي الأستاذ احمد زكي باشا أن ينصب له

تمثال، وأن يبحث عن قبره ليشيّد. وكان من الآراء القيّمة

النافعة أن يطبع تاريخ ابن خلدون ومقدمته وينشرا على الناس

بنفقات طبعهما. وهذا الرأي كان خير الآراء وانفعها، وقد

انقضى عام وبعض عام بغير أن نرى أحدا قد نهض لأحياء

هذه الذكرى. ولقد كنت قرأت في صيف سنة 1923 للمرحوم

تيمور باشا بحثا في الهلال، أبان فيه أنه لا يوجد في ما طبع

من مقدمة ابن خلدون طبعة صحيحة، وأنه رأى بخزانة

الأستاذ زكي باشا نسخة مخطوطة صحيحة بقلم ابن خلدون

نفسه، فرجعت إلى أحمد زكي باشا لأسأله عما قال تيمور باشا

ص: 19

فأجاب بأن لديه حقيقة نسخة مخطوطة مصححة بقلم ابن

خلدون، وأنه في سنة 1930أتى بصورتها عن النسخة

الأصلية الموجودة بمكتبة عاطف أفندي بالأستانة، وزاد على

ذلك بأنه يدعو من يشاء إلى طبعها ونشرها. ولما استيقنت من

وجود هذه النسخة أرسلت خطابا إلى رئيس لجنة التأليف

والترجمة والنشر، رغبت إليه أن تعمل اللجنة على نشرهذا

الأثر الجليل، فرد عليَّ حضرته في أغسطس سنة 1927 بأن

اللجنةتضع اقتراحنا موضع البحث، ففرحت بهذا الجواب

وجعلته بشرى أذعتها بجريدةالمقطم الغراء بين الناس. وها قد

انقضى ستة أعوام كاملة بغير أن يتحقق مارجونا. ولما كان

من أغراض اللجنة الموقرة نشر الكتب القيمة، وليس من

شكفي أن تاريخ ابن خلدون بمقدمته الموجودة بالخزانةالزكية

هو خير ما ينشر من كتب الأوائل في هذا العصر، فاني أعيد

الرجاء على صفحات الرسالة إلى هذهاللجنة الموقرة، لتعمل

على طبع هذا التاريخ ومقدمته، ويكون ما كتبه الأستاذ عنان

تصديرا لهذا التاريخ، وبذلك تكون اللجنةقد أدت للعلم

والأبأجل عمل، ولابن خلدون أجمل ذكرى. محمود أبو ريه.

ص: 20

مطالعاتفي التصوف الإسلامي

تمهيد - كشف المحجوب - عوارفالمعارف

- 1 -

يمتاز العصر الذي نعيش فيه بأنهعصر نهضة فكرية تناولت الحياة العامة والخاصة للأفراد والجماعات ويمتاز هذا العصر أيضا بما استحدث فيه الباحثون من مناهج علمية لهاقيمتها وأثرها في كشف الحقيقة التي يقصد إليها كل باحث. على أن هذه النهضة مهماتكن عامة شاملة، وهذهالمناهج العلمية الحديثة مهما تكن دقيقةمنتجة، الا أننا لا نزال نرى أن في تاريخ الفكر الإسلامي ناحية خصبة ممتعة طريفة قد أعرض عنها الباحثون من الشرقيين إعراضاً هو أقرب مايكون إلى الإهمال الشنيع منه إلى أي شيء آخر. على حين ترى الباحثين من المستشرقين قد عنوا بهذه الناحية عناية خاصة فائقة. فكشفوا عن خباياها وأظهروا ما اشتملت عليه من فكر عميق وشعر رقيق. وأحسوا بماتثيره في نفوسهم هذهالآثار من متعة عقلية ولذة شعورية. هذه الناحية التي أهملها الشرقيون وعنى بهاالمستشرقون هي ناحية التصوف الإسلامي وما أنتج فيه من مؤلفات لها مكانتها الأبية، وقيمتها الفكرية بين ما أنتج العقل البشري عامة، والعقل الإسلامي خاصة.

وليس أدعى للأسف ولا أبعث على الحسرة من أنك إذا أردت أن تعرف شيئا عن تاريخ التصوف الإسلامي: نشأته وتطوره، وأن تلم إلماما كافيا بمن ظهر من متصوفة، من شعر ونثروإرشادات وإيماءات تلتمس هذا كله عند المستشرقين في لغاتهم الأوربية المختلفة. وتلتمس هذا كله بصفة خاصةعند ماسينيون في الفرنسية وعند نيكلسون في الإنجليزية. وأنت لاشك واجد عند هذين العالمين ما تطمع فيه من بحث منظم وأسلوب علمي دقيق، وتصوير جميل بديع لهذه الشخصيات الفذة العجيبة التي ظهرت إبان العصور المتعاقبة لتاريخ التصوف الإسلامي. وأنك حين تتصفح كتابامن كتب المستشرقين فليس من شك في أنك ستعجب بمهارتهم الفائقة في البحث وبمقدرتهم الغريبة على جمع الأخبار ولم شعث الآثار وتحقيقها على ضوء المنهج العلمي الحديث بحيث ينتهون من هذا كله إلى الحقيقة الثابتة التي لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها. وليس من شك أيضاً في أنك ستقدر

ص: 21

ما بذل هؤلاء القوم من جهد، وما تحملوا من مشقة وألم في سبيل إخراج ما أخرجوا من أبحاث منظمة وأسفار قيمة. وليس أدل على عناية المستشرقين بالحضارة الإسلامية عامة وبالتصوف خاصة من أن أحدهم وهو العالم الكبير والباحث الجليل المسيو لويس ماسينيون قد قضى أعواما طوالا يجوب فيها البلادالإسلامية المختلفة باحثا عن نصوص صوفية لم يسبق نشرها، وقد وفق فيما قصد إليه توفيقاً عظيماكانت ثمرته هذا الكتاب القيم المسمى (مجموعة نصوص لميسبق نشرها تتعلق بالتصوف الإسلامي) ناهيك بان المسيو ماسينيون قد تعرض إلى بحث شخصية قوية جداً من شخصيات التصوف الإسلامي وأعني بها شخصية الحلاج. فكانت ثمرة بحثه هذا السفر الضخم حقاً، الخالد حقا، في تحليل شخصيةالحلاج ونفسيته، والإبانة عنمذهبه وعن رأي المدارس الإسلامية المختلفة فيه. وليس أدل على عناية المستشرقين أيضاً بهذه الناحية القيمة الممتعة من أنهم قد عمدوا إلى ما أنتج المتصوفة من مؤلفات فأوسعوها درساوتحليلا وما هي الا أن تناولوها بالترجمة إلى لغاتهم وشرحوها وعلقوا عليها. وما هي الا أن طبعوها وأذاعوها في الناس. وما هي الا أن قرأت هذه المؤلفات ونوقشت. وانتهى هذا كله إلى أن اختلف المستشرقون حول هذه الكتب فمنهم من تعصب لها ومنهم من تعصب عليهاومنهم من رأى فيها رأيا غير الذي يراه غيره. ومن هنا كثرت المؤلفات الأوربية في التصوف. على حين أنك إذا أردت أن تعثر على كتاب في العربية يعطيك صورة واضحة جلية لنشأة التصوف وتطوره في الإسلام فانك لن توفق إلى بغيتك، ذلك لأن الشباب المثقف عندنا قد ضاق صدره بكتب التصوف القديمة كما ضاق بغير كتب التصوف منالآثار الإسلامية وغير الإسلامية، فأنت إذا طلبت إلى شاب مصري مثقف أن يطالع كتابا عربيا قديما في التصوف فمن المؤكد أنه لا يكاد يقرأ منه صفحة أو صفحتين حتى تضيق نفسه، ويحرج صدره، ويستولي عليه الملل والسأم، فيلقي بالكتاب إلقاء على أن لا يعود إليه مرة أخرى. ولعل عذره في ذلك هو أن ما تكلفه قراءته وما تحمله مشقة مطالعته إنما هو كتاب مختلط مضطرب لم ترتب أبوابه. ثم هو ضخم طويل إن عرف أوله فقد لا يعرف آخره. وأكبر الظن أن شبابنا حين ينظر إلى الآثار الإسلامية هذه النظرة التي هي أقرب إلى الازدراء منها إلى أي شيء آخر، أقول أن شبابنا مسرف على نفسه وعلى الحضارة الإسلاميةمسيء إلى نفسه وإلى

ص: 22

الحضارة الإسلامية. ولو قد تجمل بالصبر على ما يقرأ وتضرع بالثبات على ما يقرأ. واستعان بالفهم المستقيم لما يقرأ. لانتهى منه إلى ما يشبع رغبته ويرضى حاجته العقلية والشعورية. وإذن فما أجدر شبابنا المثقف أن يعمد إلى هذه النواحي المهملة من تراثنا المجيد فيتناولها بحثاً وتحليلاً، وتفسيراً وتأويلاً، بحيث يخضعها لمناهج البحث الحديث فهي كفيلة بأن تشعره بما في قراءته من لذة قوية ومتاع خصب.

وأحب أن أحدثك في سلسلة من الفصول عن التصوف الإسلامي. فأتناول في بعضها الحديث عن بعض المؤلفات التي أودعها أصحابها مسائل التصوف ونظرياته. وأتناول في بعضها الآخر تحليل بعض الشخصيات القوية التي ظهرت في تاريخ التصوف الإسلامي فكان لها أكبر خطر وأعظم أثر. وبهذا أكون قد قمت بجزء من الواجب على كل شاب مصري مثقف أن يقوم به نحو هذا التراث الإسلامي المجيد. وأحب بعد هذا كله أن أتناول في هذا الفصل كتابين عنى بهما المستشرقون فترجموها إلى لغاتهم، وذلك لأن هذين الكتابين يعدان من أهم الكتب التي تظهرنا على المسائل الصوفية، والإشارات الباطنية، وما ينسب إلى المتصوفة من أقوال في هذه الإشارات وهذه المسائل. هذان الكتابان أحدهما (كشف المحجوب) للهجويرى. والثاني (عوارف المعارف) للسهروردي.

- 2 -

أما مؤلف (كشف المحجوب) فكان معاصراً للقشري الصوفي الفارسي الذي عاش بنيسابور وتوفي عام 465 هـ (1072 م) والذي يعرف بمؤلفه المشهور (الرسالة القشيرية) ولم تكن لكشف المحجوب هذه الروح النقدية المؤسسة على قواعد علمية راسخة، فهو كتاب من هذه الكتب التي يمتاز مؤلفوها بالقدرة على جمع المسائل الصوفية وأخبار المتصوفة، ووضعها في أقسام وأبواب. هذا فضلاً عن أن هذا الكتاب قلما يذكر فيه شيء عن تواريخ الأشخاص الذين يتحدث عنهم.

ولعل أكثر ما يذكر لك عن الشخص الذي يعرض له قولاً أو قولين من هذه الأقوال التي تنسب إليه. وانه ليكتفي بهذا القول أو بهذين القولين فيعمد إليهما بالشرح والتفسير ولكنه شرح غامض وتفسير مبهم. ومن الحق كل الحق ألاّ يثق الباحث المدقق ثقة تامة بكل ما ينسب إلى المتصوفة من أقوال وما ينسب حولهم من قصص كتلك التي يذكرها الهجويري

ص: 23

في كتابه. وإنما هو مضطر على العكس إلى أن يأخذ هذه الأخبار وهذه القصص وهذه الأقوال إلى البحث العلمي الصحيح فينكر بعضها حين يلزم الإنكار ويشك في بعضها الآخر حين يجب الشك. ويرجح طائفة منها إذا كانت هناك حاجة إلى الترجيح ويؤكد طائفة أخرى حين لا يجد الشك سبيلاً إلى ما يؤكد بحيث ينتهي من هذا كله إلى الحقيقة الثابتة الراسخة التي لا تقبل شكاً ولا تحتمل جدلاً. وإذا كنا نلمس في تضاعيف المؤلفات الصوفية أموراً من شأنها أن تحملنا على التفكير وتدعونا إلى الشك فلا بد لنا من أن نقف من هذه المؤلفات موقفاً إن لم يكن موقف المتشكك المرتاب، فلا أقل من أن يكون موقف المحقق المدقق الذي لا يبغي من وراء تحقيقه وتدقيقه الا وجه الحقيقة خالصاً صافياً لا تشوبه شائبة. ولعل الهجويري نفسه قد قدم لنا مثلاً لما من شأنه أن يحملنا على الشك في صحة بعض ما يذكر في كتب التصوف القديمة. فهو

حين يتحدث عن الخلوي يقول: (هو مترجم الأولياء المعروف ولكي يفسر المذاهب الصوفية الأساسية فقد نسب إلى شخصيات عديدة قصصاً ألفها هو. . .). ومهما يكن من شئ فتلك مسألة نتركها الآن لنعرض إلى تلخيص الكتاب الذي نحن بصدده.

يرجع الهجويري بداية التصوف إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما يذكر تحت اسم (أهل الصفا) فريقاً من الصحابة الذين وقفوا حياتهم على التضحية وكانت معيشتهم أقرب إلى الإعراض عن الدنيا والزهد فيها، منها إلى الإقبال عليها والميل إليها. ولعل أشهر هؤلاء الصحابة رجلان: أحدهما بلال الحبشي والآخر سلمان الفارسي.

أما في الجيل الأول من التابعين فأقوى الشخصيات التي ظهرت وذكرها الهجويرى شخصية الحسن البصري. وليس ثمة شك فيما لهذه الشخصية من أثر قوي وخطر عظيم في تاريخ الحضارة الإسلامية. فأسم الحسن البصري يذكر على رأس دراسات إسلامية متعددة. فهو يذكر في دراسة القرآن والنحو وعلم الكلام وغير ذلك من فروع الثقافة الإسلامية المتنوعة.

ويذكر مؤلف (كشف المحجوب) بعد جيل الحسن البصري أربعة وستين صوفياً أخذ يعددهم حتى دنا من العصر الذي كان يعيش فيه. وانك تراه يذكر فيمن يذكر من هؤلاء المتصوفة أبا حنيفة وابن حنبل وداود الطائي. أما الصوفيون الحقيقيون، وبعبارة أدق (المتخصصون)

ص: 24

فمن بين الذين يذكرهم ذو النون المصري وابن أدهم والبسطامي. وهذه الأسماء الثلاثة كثيراً ما يتردد ذكرها في المؤلفات الصوفية نظراً لما لها من قيمة ولما لعبت من أدوار في تاريخ التصوف الإسلامي. ويذكر الهجويرى بعد هؤلاء عشرة من المتصوفة المعاصرين له أشهرهم القشيري. ثم فريقاً كان لا يزال حياً وقتئذ في الأنحاء المختلفة لبلاد الفرس. ويأتي بعد هذا كله فصل طويل عن إحدى عشرة طائفة صوفية وقد جعل لكل طائفة مقالاً خاصاً تناول فيه ناحية معينة من مذهبها. ويرى السواد الأعظم أن الخلاف الذي شب بين هذه الطوائف لم يكن ذا أهمية وأنه ليس الا وسيلة يستعان بها على تفسير المذاهب المختلفة، فالطائفة الأولى مثلاً تذكر الرضى من بين الأحوال بدلاً من أن تجعله بين المقامات. ويعقب الهجويرى على هذا بمقال عن الرضى. والطائفة الأخيرة تظهرنا على رأي المتصوفة في مسألة فلسفية نفسية ذات خطر. ذلك أنها كانت تؤمن بالتناسخ. ومن هنا ترى مؤلف (كشف المحجوب) يذيل كلامه عن هذه الطائفة بمقال عن الروح. وفوق هذا كله فان المؤلف قد بسط مذهب المتصوفة في صورة أخرى موضوعة في أحد عشر فصلاً مثلها في هذا العدد كمثل الفصول التي سبقتها. وانه ليجعل عنوان كل فصل من هذه الفصول هكذا:(كشف المحجوب الأول والثاني والثالث. . . إلى الحادي عشر) والمحجوبات هنا تقابل المسائل الجوهرية للدين الإسلامي (وحدانية الله - الإيمان - الوضوء - الصلاة. . . الخ) فكل مسألة من تلك لها تفسير صوفي. أو هي بعبارة أخرى تقابل فصلا من فصول التصوف. وأنك لتلاحظ في هذا القسم حرية التفسير والتأويل التي اصطنعها المتصوفة في فهمهم للدين. فأنت ترى مثلافي صفحة (301) من الترجمة الإنجليزية التي وضعها الأستاذ نيكلسون وطبعتها ونشرتها لجنة أحياء ذكرى جب: (الصلاة عبارة عن تعبير يجد فيه المريدون الطريق الموصل لله من البداية إلى النهاية. وفيهتنكشف لهم المقامات. والطهارة للمريدين هي التوبة. وأنت حين تولي وجهك نحو القبلة معناه انك تخضع نفسك للمدبر الروحي. وأنت حين تصلي واقفامعناه انك تذل نفسك. وتقابل تلاوة القرآن التأمل الباطني. وإطراق الرأس هو التواضع. والركوع والسجود هما معرفة الإنسان لنفسه والتسليم هو الانفصال عن الدنيا. ويحل محل الاعتراف بالإيمان الأنس بالله) وآية ذلك هي أن كل حركة عملية يمكن تأويلها تأويلا صوفيا وأن كل رياضة

ص: 25

جسمية تقابلها عاطفة روحية.

- 3 -

ولنترك الآن كشف المحجوبلنقف وقفة قصيرة عند الكتاب الثاني الذي أريد أن أحدثك عنه وأعني به (عوارف المعارف) ويمتاز هذا الكتاب بأنه أكثر تقسيما وأوفر تنظيما من سابقه. ثم هو أقدر على أظهارنا على منشأ العلوم الصوفية والإبانة عن آداب المتصوفة ومذاهبهم وأخبارهم وأقوالهم بحيث يمكن اعتباره كتاباتعليميا بكل معاني الكلمة. وليس أدل على قيمة هذا الكتاب من أن ويلبرفورس كلارك قد ترجمه. ومن أن بعض المستشرقين ينظر إليه كأنه تحفة أدبية لها قيمتهابين الأسفار العربية الكلاسيكية التي تسودها روح المنطق ويسيطر عليهاأسلوب البحث والاستقصاء. ومن أن البارونكارا دي فو قد تكلم عن هذا الكتابفي مؤلفه عن الغزالي ثم أعاد الحديث عنه مرة أخرى في كتابه (مفكري الإسلام). فهذا كله يظهرك على ما للكتاب من خطر وما فيه من غناء.

أما مؤلف الكتاب فهو شهاب الدين السهروردي أحد أعقاب أبي بكر رضيالله عنه. كان تلميذا لعمه أبي النجيب وللصوفي المعروف عبد القادر الجيلي. وكان شيخا لمشايخ بغداد. التف حوله عدد ضخم من المتصوفة والزهاد وله غير مؤلفه الذي نحن بصدده طائفة لابأس بها من الأشعار، مات في بغداد سنة 632هجرية. وأبو النجيب عم المؤلف الذي أشرنا إليه آنفا صوفي أيضا. أورد شهاب الدين الذي ذكرهكثيرا في كتابه فهو يبدأ كل أبواب هذا الكتاب أو جلها بهذه العبارة:(حدثنا شيخنا شيخ الإسلام) يعني عمه.

وقد كتب عنه ياقوت في معجمه مقالا بديعا اعتبره فيه أذكى أبناء سهرورد. سافر في شبابه إلى بغداد حيث درس الشريعة والفقه. ثم إلى أصفهان. وكان يعمل كسقاء ولم يكن يعيش إلا من عرق جبينه. وبعد أسفاره هذه عاد إلى بغداد حيث كان يلقى تلاميذه الذين درسوا عليه الشريعة وحيث تولى رياسة النظامية. ثم قصد بعد هذا إلى دمشق سنة 558 هـ حيث أولاه نور الدين الزنجانى شرفاً كبيراً. وهناك أسس طائفة من الصوفية، ويعقّب ياقوت على كلامه عن أبي النجيب بقوله: أن ابن أخيه مؤلف عوارف المعارف كان من أبرز شخصيات عصره لما له من مواهب، ولما كان عليه من صلاح وتقوى، أجلّه الخليفة الناصر وخلع عليه لقب شيخ مشايخ بغداد. ولهذا الخليفة ألّف شهاب الدين السهروردى

ص: 26

كتابه عوارف المعارف. ويقول عنه ابن خلّكان في وفيات الأعيان انه كان فقيهاً شافعي المذهب تخرج عليه خلق كثير من الصوفية في المجاهدة والخلوة وصحب عمه أبا النجيب والشيخ أبا محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي. . . . ولد بسهرورد في أواخر رجب سنة 539 هـ وتوفي في المحرم سنة 683 هـ.

هذه ترجمة موجزة لحياة مؤلف عوارف المعارف. أما الكتاب نفسه فقد بلغ من الخصوبة والطول بحيث أنه وضع في أكثر من ستين باباً. ولابد لنا من وقفات عند أهم هذه الأبواب التي بسط فيها المؤلف منشأ علوم الصوفية، وآدابهم وأخلاقهم وإشاراتهم وأحوالهم ومقاماتهم. فكل أولئك مسائل خليقة بالبحث، جديرة بالدرس. وهذا ما أرجو أن أعرض له منذ الفصل التالي بحيث أكوِّن لديك صورة صادقة لهذا الكتاب تمكنك من أن تتعرف مكانته وتقدر قيمته وتتبين ما له من خطر وما فيه من غناء.

محمد مصطفي حلمي. ماجستير في الآداب

ص: 27

‌الزينة عند قدماء المصريين

أناقة الرجال، الزي والحلاقة والحلي، زبرجة النساء، الثياب،

الأصباغ، العطور

للأستاذ حسن صبحي

(تلبس ثيابا من الكتان الناعم

وتركب الخيل وتحمل لهاالسوط الذهبي في يدك

لك سرج جديد شغلته أيدي الشوام

وتجري أمامك العبيد يصدعون بما يؤمرون

يدهن جسمك كبير معطريك بطيب الكيمي

وفمك مليء بالنبيذ والخمير. . . . . . الخ)

(من قصيدة تحية المعلم. . من الشعر المصري القديم

يالها من أناقة وفخامة! ثياب من كتان ناعم! وسوط الركوب موشى بالذهب! وسرججديد من صنع أهل الشام! وعبيد سياس يجرون أمام السيد المعلم يفسحون له الطريق ويصدعون لما يأمرهم به! وعطور وطيب يدهن به جسمه! وأية أناقة تعدل هذه الأناقة! وأين هاتيك الأناقة الرائعة، والفخامة في الثياب وفي المركبوفي الخصاصية مما نحن عليه الآن ، ومما نظنه منتهى ما وصلت إليه مدنية القرن العشرين بعد الميلاد!

لسنا نحن نصف أزياء المصريين فنتهم بالتحيز لأجدادنا ، بل هم المصريون أنفسهم يتحدثون عن أزيائهم في هذا الشعر القديم، ولا يتركون لمتشكك فرصة ما في أن يظن بهم غير ما يصفون، فيخلفون في قبورهم الثياب الكتانية البيضاء الناعمة، والحلي الذهبية المطعمة بالجواهر والأحجار، ويخلفون القفازات. والصنادل الجلدية الفاخرة، ويخلفون السروج المزركشة، بالذهب والفضة، والسياط المنقوشة الموشاة بالذهب والفضة وكرائم الأحجار، وآنية مرمرية وأخرى رخامية تحوي عطوراً فيها السوائل وفيها الصلب وفيها ما بينهما من معاجين ومقشطات، ويخلفون غير هذا وذاك صورا على الجدرانتمثلهم في هذه الثياب الرقيقة، وهاتيك الحلي الثمينة، وتلك الأناقة الرشيقة، وتمثلهم وهم يدهنون، وهم

ص: 28

يعطرون، وهم يتزينون!. . . أفنستطيع بعد هذا أن ننكر على القوم ما كان لهم من (تواليت)!؟ وتواليت دي لوكس أيضا؟!

أناقة الرجال:

نظر المصريون إلى الرجل من نواحي الرجولة التي تبعده كل البعد عن المرأة ونواحي الأنوثة فيها؛ فالرجل يجب أن تبدو منه عضلاته دليلاً على القوة والبأس، ألم يخلق للعمل والحرب؟ إذن: فليترك صدره ليبرز ما عليه من الفورسبس (عضلات الصدر) أمام الأعين، دليلاً على قوة الرجل أو هزاله، وليخلي عن ذراعيه من الثياب ليظهر ما فيها: بايسبس وترايسبس (عضلات الذراعين فوق الرسغ والكتف) فيميز الناس فيه القدرة والعجز، ولتحلى تلك الصدور البارزة القوية بالعقود والمدليات وتلك الأذرع والمعاصم بأساور من ذهب أو ما يشبه الذهب، كي تستلفت العين إلى ما فيها من شدة وبأس وكمال في النمو، هي ما يقترن بلفظ (الجمال) في الرجل، وما يميز جمال الرجل عن جمال المرأة. هذا الجمال في النمو وفي الشكل توجده الطبيعة في الأصل، ولكنها تكل للرجل تعهده والعناية به، فهو لابد مستمر في القيام على إظهاره في أجمل صورة له، وهل يتم له هذا الإظهار إلا لمداومة النظافة والرياضة والعناية؟ والنظافة لم تكن بعيدة المنال على المصريين فقد كان النيل دائماً الأب الرحيم، يغتسلون فيه، وفي ترعه، وفي مياهه يجرونها في قنوات إلى بيوتهم، ونقرأ في قصصهم عن أحواض الاستحمام التي كانت تبنى في القصور، كما نقرأ عن ضرورة الاغتسال قبل الصلاة، لضرورتها لرفع الحدث الأكبر، أي أنها جعلت ركناً من أركان دينهم كما ينص الإسلام على ضرورة الوضوء والاغتسال قبلالصلاة وبعد الحدثين. وإذا عرفت أن المصري القديم لم يكن يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يعمل إلا بعد أن يؤدي صلاته لألهه، وعرفت أن الدين كان في دم المصري القديم إلى حد أن أفقر الناس كان يبني دار دنياه من طين، بينما يبتنى لنفسه في حياته قبراً من أغلى الأحجار التي يستطيع شراءها، ويسمى هذا القبر:(البيت الأبدي) بينما يدعو مسكنه الدنيوي (بيت الاختبار)؛ إذا عرفت هذا كله أدركت مبلغ تدخل الدين في كل شيء، ومكان النظافة الشخصية من نفس كل مصري تبعاً لعقيدته.

الحلاقة

ص: 29

والنظافة عند المصري القديم ليست الاغتسال بالماء فقط، إذ نرى من صورهم الكثيرة جداً، أنهم كانوا يقصون شعور رؤوسهم، ويقصرونها لتميز رؤوسهم عن رؤوس النساء، ثم كانوا حليقي الوجوه، لا لحى ولاشوارب، ولم يكونوا يكتفون بقصها أوقطعها، ولكنهم كانوا يحلقونها بالأمواس لتكون وجوههم نظيفة خالية المسام، تميزهم عن غيرهم من الشعوب التي كانت ترخي ذقونها وشواربها كشعب فلسطين وشعب ليبيا وغير هؤلاء ممن ظهرت صورهم على الآثار بلحى وشوارب سوداء طويلة. وقد يعجب القارئ إذ يعلم أن المصريين عرفوا أمواس الحلاقة منذ خمسة آلاف عام، لكنها حقيقة خلفوا آثارها لنا، إذ يحوي المتحف المصري طائفة كبيرة من هذه الأمواس مصنوعة صناعة متقنة من شظايا الجرانيت والاردواز والبازلت الصلبة التي تتحمل الترقيق والتشحيذ، وتقاوم استمرار استعمالها في الحلاقة. وإذ نمر بالاغتسال وبالحلاقة بعد الزي، وهي أوليات التواليت، فإننا نصل إلى أقصى مراتب التواليت، وهي ما سميته من قبل (تواليت دي لوكس).

التواليت العالي

لم يكن للرجل العادي نصيب في التواليت العالي، الذي لم يكن يعرفه غير أفراد الطبقة الممتازة. من الملوك والكهنة والوزراء والكتاب والأعيان. هؤلاء كانوا يستمدون من ثروتهم وسلطانهم ما يستطيعون أن يقتنوا به العطور والأدهان يطلون بها أجسامهم كي تطيب رائحتها وينعم جلدها وتبرق بشرتها، فيبدو كل ما فيها من جمال الرجولة وأناقتها. وكانوا يلبسون في أيديهم القفازات، لا يتقون بها البرد، وصدورهم وظهورهم عارية، ولكن ليقبضوا بها على الأقواس ويشدونها حين يطلقون منها السهام، ويكملون بها زينتهم وأناقتهم. ثم يضعون في أقدامهم صنادل أنيقة من الجلد الموشى بالخيوط الذهبية، مبالغة في الأناقة والرفاهية. هذه صورة حقيقية للرجل المصري من الطبقة الممتازة: رجل كامل النمو في جميع أجزاء جسمه، لا يستر منه غير عورته، بسروال قصير من الوسط إلى الركبتين مصنوع من الكتان الأبيض المثني (بليسيه)، يلبس فوق صدره عقوداً وخرزا وفي معصميه أساور من ذهب، حليق الوجه منسق شعر الرأس قصيره، لا يضع على رأسه شيئاً، يلبس قفازا من الجلد وصندلاً من الجلد ويمسك بيده سوطا من الجلد موشى بالذهب

ص: 30

يسوق به فرسا يمتطيه وتحوطه مظاهر الفخامة والأناقة والرجولة! هل منكم من يعطيني صورة أكمل لأناقة الرجولة من هذه الصورة بعد مضي خمسة آلاف عام على هذه الأناقة وعلى هذا التواليت؟!

زبرجة النساء

لم تكن المرأة المصرية القديمة محجبة، ولم تكن للرجل مجرد متعة، إذ كانت تشاطره العمل في الملك، وفي الكهانة، وفي الحقل، وتقوم في نصيبها في البيت أيضاً. تربى أطفالها، وتجهز بيتها، وتطهي طعام أسرتها، وتحيك ثياب زوجها وصغارها ونفسها. وكل هذا يضعنا وضعاً صحيحاأمام حالة المرأة المصرية كي نفهم على أي أساس كانت تقوم المرأة بعمل تواليتها في مصر. كانت المصرية (ربة بيت) فثوبها يجب أن يكون طويلاً يستر ذراعيها وصدرها وكعبها، لكنهكان أنيقا ليجاري أناقة رجلها، فهو إذن ثوب يجمع بين الحشمة والأناقة، يستر أنوثتها المغرية، ويبرز أنوثتها الطبيعية غير المثيرة. ثوب طويل ضيق ذو ثنيات (بليسيه) يكون في معظم الأحوال أبيض ناصعا تتجلى فيه نظافتها وأناقتها، يسدل عليه في بعض الأحيان ثوب شبكي من خيوط ذهبية أو فضية، ويتدلى فوق هذا الثوب شعرها الأسود الفحمي الطويل، مصفوفا منسقا في ضفائر ملتوية، هي آية في الأعجاز والأناقة إذا قيست بتنسيق الشعر في العصر الحاضر.

ولم يكن السمن من سمات الجمال المصري، فقد حرص المصريون القدماء على تصوير نسائهن في نحافة ورشاقة كأمثلة ونماذج للجمال النسوي، وامتدحوا نحافة السيقان في أشعارهم وغزلهم، إذ يقولالملك خوفو لكبير أمنائه حين أراد النزهة في قارب:(هيا احضر عشرين فتاة نحيفات السيقان والأذرع، ناهدات الصدور، لم يخلق مثلهن من قبل) من قصة الملك خوفو والسحرة: قصص البردي.

العطور

لم يكن نصيب هذا الجسم المستور الجمال، من العناية والتواليت لأقل من نصيب جسم الرجل، فاتنا نقرأ في النصوص: إن المرأة كانت تطلي جسمها بالعطور والأدهان لتصقله وتجعله براقا ناعما تحت ثيابها، ونرى في الصور فوق شعر المرأة قطعة من الدهن

ص: 31

العطري الأبيض، ينحل دهنها فوق الشعر شيئا فشيئاً كي يحفظ له طراوته ولمعانه، وفي وصف المرأة في نصوص المصريين كثير يدل على طيب أريج ثيابها وجسمها.

الأصباغ

لم يكن بياض البشرة في مصر القديمة يعتبر جمالا، ذلك أن شمس مصر اللافحة تخرج ذلك اللون الخمري البديع، الذي يجعل من بشرة المصريات خلابة وظرفا لاتصل إليه البشرات الأوروبية البيضاء الناصعة، إذن فقد كانت النسوة المبيضات اللون تسعى إلى الوصول للمثل الأعلى في جمال البشرة، فيعمدن إلى الحناء وهي من النبات المصري الأصيل فيصبغن بها أجسامهن ووجوههن لتصبح لهن تلك البشرة النحاسية الخمرية الظريفة. وهذا ما يطابق تمام المطابقة الغرض الذي استعملت فيه (البودرة) الأوربية. أليس منشأ البودرة هو الحصول على بياض يقترب من بياض المثل الأعلى للجمال الأوربي؟

والأحمر؟ فيم تحتاجه المرأة الخمرية اللون؟ المحمرة البشرة بطبيعتها؟ ثم أي جمال تشاهده الآن في تلك الشفاه الحمراء في لون (الطماطم) بين خدود خمرية وشعر أسود في لون الفحم؟ أنها تبعث في العين تنافراً قل أن يرضي أحدا. لهذا لم يعرفه المصريون في زينتهم مع معرفتهم للونه ومسحوقه في تلوين الجدران البيضاء، وفي التصوير على الفخار، وفي الكتابة على البردي. لكنهم عرفوا (الكحل) ووضعوه في عيونهم، وجعلوا منه ألوانا متباينة بين الأسود الفحمي والأخضر القاتم، والأزرق الداكن، والعسلي الغميق، وكلها لتطابق ألوان الشعر والعيون والأهداب، وتتمشى مع تناسق ألوان هذه الأجزاء من الجسم. وإليك صورة جميلة للمرأة المصرية القديمة:

امرأة رشيقة في ثوب رقيق ناعم من الكتان ذي ثنيات طويلة يستر كل جسمها ويدل على مواضع الجمال الطبيعي فيه، ذات وجه خمري يبدو فوق هذا الثوب الأنيق بجماله الطبيعي، خفيفة حمرة الشفاه، بيضاء الأسنان، سوداء العينين مكحولتهما بكحل يطابق لونه لون حبة عينها، ومرسلة الشعر الأسود في ضفائر على كتفيها، ينتشر أريجه وطيبه وعطوره، وتضع في قدميها صندلا رقيقا يزيدها رشاقة وأناقة. .

هذه هي مثل الأناقة المصرية، والتواليت المصري منذ خمسة آلاف عام!. . . .

ص: 32

‌حي بن يقظان

لمحة عن النظريات والمذاهب الفلسفية التي توحيها مطالعة الكتاب

لكتاب حي بن يقظان مقام جليل في تاريخ الفلسفة العربية، سجل

لصاحبه شهرة واسعة في القرون الماضية لاسيما في بدء نهضة

الإفرنج. ولا نزال نذكر إلى الآن مؤلفه ابن الطفيل كلما طالعنا كتاب

(روبنسن كروزو) لديفو الإنجليزي، فنحن وإن كنا بغير حاجة في هذا

العصر إلى ما في هذه القصة من نظريات عقلية أو مذاهب عملية

نرتب عليها أعمالنا في الحياة، لا نزال نحفظ لمؤلفها فضل الأسبقية

في مثل هذا الفن القصي الفلسفي ونريد أن نذكرها كلما أتينا على ذكر

ديفو وبطل قصته روبنسن كروزو. ولست أريد من ذلك أن قصة

روبنسن هي ككتاب حي بن يقظان قلباً وقالباً ولكن أريد أن أشير إلى

شبه في الفكرة ومجانسة في الفن القصصي.

ولننتقل بعد هذه الكلمة إلى ما نحن بصدده من استخراج النظريات والمذاهب الفلسفية من قصة حي بن يقظان لنتبين قيمة هذا التراث الفلسفي الخيالي في أدبنا العربي. لا نريد أن نقول (قبل أن نأتي على تلخيص القصة) أن ابن الطفيل قد ضمنها زبدة التعاليم الفلسفية العربية، والمذاهب العملية وصاغها في قالب خيالي جذاب تستشف من وراءه شخصية الفيلسوف الوادعة، وفكرته الخاصة التي تنهتك سراعاً للخبير، فكان بذلك سابقاً لديفو وإضرابه من الإفرنج القصصيين: فأول ما يستلفت نظرك أيها القارئ الكريم من هذا الكتاب هو عنوانه الرمزي الغريب: حي بن يقظان. فمن هو هذا (حي)؟ وابن من؟ ابن يقظان. . . هذا الاسم رمزي في مدلوله وهو في عرفهم ابن من لا ينام أي الله عز وجل. وتفتح الكتاب فإذا هناك مقدمة وجيزة في نقد الفلاسفة الإسلاميين، ونظرة سريعة في الحكمة المشرقية سيشرحها لك مفصلا عند الحديث على بطله حي.

كل الكتاب نظريات وثبت للمذاهب الفلسفية، فأول ما تفاجأ به أيها القارئ هي هذه

ص: 34

النظرية، نظرية التوليد من غير أم وأب، فيدهشك هذا القول من فيلسوف إسلامي ويغضبك خصوصا إذا كنت من أصحاب الإيمان الحار، ويأخذ بك ابن الطفيل في منعرج هذا المذهب الوعر الذي يصعب علينا حله واتباعه، ويستطرد في كيفية تخمر الطينة تحت أشعة الشمس وعلوق الروح بها، فيلذك الاستطراد ولا يعجبك الأِعتقاد، والحق يقال أن هذا المذهب الطبيعي الذي يبني مبدأ الخلق والتكوين على الصدف والتصادف والذي يعتنقه الكثيرون في عصرنا (وما أكثر المذاهب والآراء في هذا العصر) غير مبني على أساس متين ولا براهين جلية بحيث تقتلع من صدرك الإيمان بصحته. فالمذاهب الفلسفية، الأقوال فيها كثيرة ومختلفة، وليس هناك دستور واحد في البحث تتمشى عليه، وحقيقة واحدة تتفق عليها. ففي المسألة الواحدة تجد قولين أو ثلاثة أو أربعة والإنسان عندما يكون مترددا في مسألة ما، تكثر تعاليله وحدسياته. فابن الطفيل مثلا لا يجزم بصحة هذا المبدأ الطبيعي كما هي عادته، فيأتيك بقول آخر أعم وأشهر، ولكنه ليس بنظرية بل تعليل ثانوي لكيفية وجود حي بن يقظان في جزيرة من جزائر الهند تحت خط الاستواء، فقد اختلفوا في وجود هذا الشخص في هذه الجزيرة المنقطعة عن السكان المقفرة من بنى الإنسان. فيقولون أن حياً كان إبناً غير شرعي وأن أمه أخت ملك قد وضعته في صندوق وقذفت به في اليم، فقاده المجرى المائي إلى هذه الجزيرة (الاستوائية) وهذا القول أقرب وأخف وطأة على القارئ من الأول، إذ يعرف أن موسى أيضاً قد قذف به في اليم، ولديه على ذلك نص وهو القرآن.

قد فرغنا من استخراج هذه النظرية وسللناها من طيات هذا السفر الجميل. فاتبعني أيها القارئ الكريم لنستطلع بعد ذلك خبر ما آلت إليه حال هذا الطفل البائس الذي سيكون له فيما بعد شأن يذكر. رمت به الأمواج إلى شاطئ جزيرة تحت خط الأستواء، وكم يكون جزعك على هذا الطفل عندما تعلم أن هذه الجزيرة خالية من السكان. ترى من يغذي هذا الطفل، ومن يشفق عليه ويشمله بحنانه، إذ لا إنسان يعطف عليه ويحسن رعايته ويوفر له أسباب الحياة؛ ولكن كم يكون فرحك عظيماً عندما ترى أن ظبية من بنى الحيوان قد رامت به، ووجدت فيه تسلية وعوضا عن ابنها المفقود، فغدت تغذيه بلبانها وتشمله بحنانها، حتى درج وأصبح قادرا على المشي والعدو مع أمه في البرية، وما أن صار على رأس أسبوع

ص: 35

من عمره أي سبع سنين، حتى صار يرافق أمه في غزواتها، يناشدها بأنغامها وتناشده، فإذا سمع تغريدة عندليب حاول تقليده، وإذا سمع فحيح أفعى أو زئير أسد لم يحاول الابتعاد ولم يوجس خيفة، وتكررت هذه الأصوات على سمعه فوعاها، وغدا يرددها فيجيدها. وهنا أيها القارئ الكريم تعرض لنا نظرية غامضة ولكنها جميلة ومشوقة، فلنتئد في درسها وتحليلها قليلا. النظرية هي نظرية النطق والكلام. أخلق الإنسان متكلماً لغة أجاد فهمها منذ البدء أم علمه الله إياها؟ وإذا كان ذلك فلماذا لم تتفق البشر عليها؟ وما تعليل كثرة اللغات واللهجات التي نسمعها وما هو علة هذا الاختلاف؟ كل ذلك، أظن، جدير باسترعاء خاطرك وانتباهك، وهو يوقظ في نفسك حب الاطلاع والتعليل، وتريد أن تفكر وأن تجد تحليلا فلا تجد، فيؤول بك التفكير إلى حدس بحدس. وتخمين بتخمين لا طائل تحتهما ولا جدوى. فابن الطفيل لا يبدي لنا إلا قولا واحدا في كيفية نشوء اللغة عند الإنسان وهو ليس من أرباب الوحي والإلهام الذين يقولون أن الله خلق الكلام وخلق في الإنسان المقدرة والقوة على نطقه. كلا ليس ابن الطفيل في شيء من هذا، وهو على مذهب البعض من المحدثين في القرن التاسع عشر؛ فهؤلاء يعللون نشوء اللغة أي النطق بأن الإنسان في طوره الهمجي طور الغريزة الحيواني يتلقى أصوات الحيوان ويقلدها في جرسها ونغمتها، ويضعون لذلك مقاطع طبيعية دارت على ألسنة البشر أجمع في طور وحشيتهم، توجد في جميع اللغات الحية وهي إد، آر، آد. . . وما أشبه ذلك، على أن الاختلاف الذي نراه ناتج عن سنن التباعد والتقارب في أخلاق البشر وأميالهم الطبيعية.

فأنت ترى أن ابن الطفيل من هذا الرأي وأن (حيا) قلّد الحيوانات في أصواتها ولم يجد التكلم في بدء أمره بدليل أن ابن الطفيل يتيح لبطله حي مصادقة أسال فيعلمه الكلام وأمور الدين. فحياة حي هي إذن نفس حياة البشر في طور وحشيتهم وهمجيتهم. ولكن ابن الطفيل لا يقف عند هذا الحد، ولا يريد أن يسرح بطله مع الحيوانات بل يرقى به إلى مستوى فكري سام تقصر عنه المدارك، ويريه أشياء لم تقع على سمع أحد (ولا خطرت على قلب بشر). فأنه بعد أن يعلمه الأصوات يريد أنبعلمه الطب كما تعلمه كلية الطب في بيروت لتلامذتها، وأن يطلعه على علم التشريح وما فيه من سر دفين. وماتت الظبية أمه، وقعد للبكاء عليها ولزم الحزن أياما يناديها فلا تعي ولا تجيب، ويندبها فلا تأبه لتحرقه وبكائه

ص: 36

وأراد ان يعرف موطن الآفة في جسد أمه محاولا إنقاذها مما هي فيه، وبطريق النظر والاستدلال يفتح جوفها ويتوصل إلى القلب المركز الرئيسي لجميع الأعضاء، ومنه إلى الدماغ فلم يجد بها آفة حتى إذا ما انتهى من البحث والاستقصاء أتى على علم التشريح بكامله، وتحصل له من ذلك: إن ما يحرك الجسد إنما هو بخار يتولد فيالتجويفات القلبية فيصعد منها إلى الدماغ، وهذا بدوره يحرك الأعضاء. وهذا ما قال به ديكارت معبرا عن هذا البخار بالأرواح الحيوانية. قد يدهشك مثل هذا البحث المنظم الذي يقوده حي بن يقظان، وهذا الاستدلال الثاقب، ويضؤل في نفسك شخص ابن الطفيل القصصي ليتجسم لك في شخص حي الطبيب الحاذق والمشرح اللبق؛ والحق يقال أن ابن الطفيل بعد أن يرتفع بخياله يكبو به جواد هذا الخيال ليحطه إلى الأرض. لذلك كان الفيلسوف الطبيب، ولم يكن الفنانالقصصي بالمعنى الواسع لهذه الكلمة. فمن الغريب أن يكون حي قداستكشف مثل هذه النظريات والتطبيقات العملية في مثل هذه المدةالوجيزة، فإننا نرى فكرا ساميا يتوصل بمحض فكره إلى الحقيقة، لا فكراً وحشياً غريزياً يليقبمثل حي؛ ولكن هي قصة أقرب إلى:(الاوتوبيا) منها إلى الحقيقة الملموسة. ولا نجزم بأنها نظرية، ولا نريد أن نناقشها بل نترك ابن الطفيل وتلميذه يعلمه ما يشاء وكيف يشاء، على أننا نستشف من خلال البحث عن كيفية تعلم حي بن يقظان علىنظرية النشوء والارتقاء في العناصر الطبيعية وفي مدارك البشر، وكيف أنها تنتقل من الملموس إلى المحسوس إلى المعقول، وكيف أن الحواس تتصل بالأشياء الخارجية فتؤثر هذه فيها وتنفعل عنها فتحولها (أي الحواس) إلى دائرة التفكير والتفهم فتصوغ ما أحست بقالب السبب والقانون.

ويفقد حي أمه ويخرج إلى معترك الحياة وحيداً طريداً فكل شيء في قطر وجوده يستلفت نظره ويسترعي انتباهه، فهو كآلة واعية (إذا كانت آلة تعي) وضعت في مكان ما تلتقط كل ما أوحي لها من حيث ألقي أو أوحي. فتسجل حركات الأشياء وتنفعل عنها، وهل الإنسان (كما عرفه بعض علماء النفس) الا مجموعة من المؤثرات الداخلية والخارجية تجمعت فشكلت هذه النفس التي تعي وهذه النفس التي تفهم وتتذكر؟

ويستكشف (حي) النظريات ويستدل بمحض فكره السامي وثاقب ذهنه على وجود (واجب الوجود) وهذه النظرية هي محور القصة بكاملها وهي التي شغلت جميع فلاسفة الإسلام.

ص: 37

ويستكشف (حي) مبدأين: المادة والصورة؛ بواسطتها يتوصل إلى اكتشاف وجود الله، فاعتبر:(أن كل حادث لابد له من محدث) فتلمس هذا المحدث في المحسوسات فلم يعثرعليه، وانتقلت فكرته إلى الإجرام السماوية ورسخ في ذهنه أنها تعقل ذواتها، وأنها صادرة عن فلك واحد وهو الأعلى. وهنا يجب علينا أن نقف قليلا ونشير إلى هذه النظرية التي كانت شائعة عند اليونان والتي اقتبسها العرب ولا سيما ابن سينا، ووسعوا دائرتها. فانهم اعتقدوا أن الإجرام السماوية تعقل وتحيا وفيها العقل الفعال الصادر عن الله عز وجل، وأن الله يعلم ما في الكون بواسطتها وهي أشرف الموجودات. وقديما دعوها أنصاف آلهة. ونتجاوز عن تفنيد هذه النظرية الخرافية التي تعد (إلى جنب المباحث الفلكية العصرية) خرافة من خرافات القدماء.

ولما عرف (حي) حقيقة نفسه وأنها غير جسمانية وبها عرف (الموجود الواجب الوجود) حدث له شوق حثيث إلى معرفة الخالق عساه يراه، فشرع في تفحص الأعمالالتي تقربه إلى الله عز وجل، فوجد أن الطريقة المثلى هي: في ترك المادة وتثقيف الروح التي هي مبدأ روحاني صادر عن الله تعالى، ولما كان يعلم أن الإجرام السماوية تعرف الله، التمس لنفسه الصلاح بالتأسي بها ليتوصل إليه. وهنا يعتنق حيي مذهب الاتصال وترويض النفس والعزوف عن الأشياء المادية كما كان يفعل متصوفة المشرق، الا أن هناك فرقاً كبيراً بين المذهبين يجب أن تنتبه إليه أيها القارئ ألا وهو: أن المتصوفين يصلون إلى الله عز وجل عن طريق العاطفة الدينية والعلم الإلهي؛ أما حي المتصوف النظري فيتصل بالله عز وجل عن طريقالبحث والنظر، ويجهل تماما طرق الصوفية الدينية، وعلى هذا المذهب مذهب التصوف النظري سار فلاسفة الأندلس فولدوا بذلك نزعة جديدة ضد التصوف الديني الشرقي. على أن ابن الطفيل إن اختلف مذهبا لم يختلف عنهم نتيجة بل أدى به هذا المذهب إلى القول بالفناء والحلول، ولكنه حلول معتدل مغشى بستار القصة الخيالي. فانه عندما يفنى حي في الذات الإلهية ويوشك أن يعتقد أن ذاته لا تغاير ذات الله، وأنه هو الله. يبادر ابن الطفيل ليبدد هذا الاعتقاد، ويقول على لسان بطله (حي): إن هذه الهواجس التي عرضت له وأقنعته أنه ذات الحق، لم تكن الا من بقايا المادة والأشياء الدنيوية. وهذه النظرية هي ما ندعوها بنظرية الشمول ` نريد أننبحث في مثل هذه النظريات الإلهية

ص: 38

بل نترك الخوض فيها إلى أولياء الله العارفين، تعالى الله عما يصفون.

فأبن الطفيل إذا يفضل الوصول إلى الله عن طريق البحث العلمي النظري، ويمثل لنا هذه النظرية ويدافع عنها في شخص (حي) وأنه استطاع بنظره وفكره السامي اكتشاف الحق تعالى، بدليل أن ابن الطفيل يدخل في القصة شخص آخر (أسال) وهو العقل المهتدي إلى الله عن طريق الدين والاجتهاد، فيعجزه عن الوصول إلى المقام الذي توصل إليه حي (وطلب حي مقامه الجليل فبلغه واقتدى به أسال حتى اقترب منه أو كاد) فلا ريب بعد ذلك في أن فيلسوف الأندلس يفضل الطريق النظرية على الطريق الدينية؛ وأنه ما استطاع أن ينجو من ورطة هذا القول الذي كثيراً ما جر على آخرين التعذيب والتنكيل، الا بواسطة هذا الوشاح القصصي الذي يلقيه على النظريات والمذاهب الفلسفية في رسالته النفيسة.

على أن ابن الطفيل لم يخل من اللوم، وأرباب الدين يؤاخذونه على أربعة:

1 -

بإهماله أمر النعمة وسقوط الطبيعة البشرية. 2 - بتفضيله المعرفة بالعقل على المعرفة بالإيمان. 3 - باعتقاده ان الإنسان قادر على رؤية الله عز وجل في الدنيا. 4 - بأقواله المنتجة مذهب تأليه الكل أو البانتيسم الشمولي.

وما كان أحد ليخلو من عتب أهل الدين ولومهم. ومدار القصة بكاملها هي أن معرفة الله الفلسفية أسمى من المعرفة الدينية ، وهذا ما لاقى في سبيله ابن رشد وإضرابه من التعذيب والاضطهاد ما لاقى. هذه لمحة (ربما تكون سطحية في قصة حي بن يقظان) عن النظريات والمذاهب الفلسفية التي تضمنتها، وربما عدنا إلى الموضوع في بحث آخر نفصل فيه العناصر الأجنبية في فلسفة ابن الطفيل وتعاليمه، ونختم الآن هذا الفصل في أن: فيلسوف الأندلس قد أجاد كل الإجادة في سبك قصته الفلسفية وأسلوبه فيها جميل وسهل وجذاب يقرب إلى ذهن القارئ الأقوال الفلسفية، ومع أن إنشائها سهل وبسيط رائق لم تخل أحيانا من التعقيد والغموض. ونتيجة القول أن هذا الكتيب النفيس مشحون بالتعاليم الفلسفية الإسلامية ترفرف عليه روح الافلاطونية الحديثة. ومن يطلع على هذه القصة يوافق الإفرنج على حكمهم:(إنها آية من آيات القصص العربية الحكيمة ومختصر فلسفة العرب).

طرطوس. سوريا. أحمد المحمود

ص: 39

‌بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام

للأستاذ محمد عبد الله عنان

وكان الجيش الإسلامي في حال تدعو إلى القلق والتوجس، فان الشقاق كان يضطرم بين قبائل البربر التي يتألف منها معظم الجيش، وكانت تتوق إلى الانسحاب ناجية بغنائمها الكبيرة. وكان المسلمون في الواقع قد استصفوا ثروات فرنسا الجنوبية أثناء سيرهم المظفر ونهبوا جميع كنائسها وأديارها الغنية، وأثقلوا بما لا يقدر ولا يحصى من الذخائر والغنائم والسبي فكانت هذه الأثقال النفيسة تحدث الخلل في صفوفهم وتثير بينهم ضروب الخلاف. وقدر عبد الرحمن خطر هذه الغنائم على نظام الجيش وأهبته وخشي مما تثيره في نفوس الجند من الحرص والانشغال وحاول عبثاً أن يحملهم على ترك شيء منها؛ ولكنه لم يشدد في ذلك خيفة التمرد. وكان المسلمون من جهة أخرى قد أنهكتهم غزوات أشهر متواصلة مذ دخلوا فرنسا، ونقص عددهم بسبب تخلف حاميات عديدة منهم في كثير من القواعد والمدن المفتوحة. ولكن عبد الرحمن تأهب لقتال العدو وخوض المعركة الحاسمة بعزم وثقة. وبدأ القتال في اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر منأكتوبر سنة 732م (أواخر شعبان سنة 114 هـ) فنشبت بين الجيشين معارك جزئية مدى سبعة أيام أو ثمانية احتفظ فيها كل بمراكزه. وفي اليوم التاسع نشبت بينهما معركة عامة فاقتتلا بشدة وتعادل حتى دخول الليل. واستأنفا القتال في اليوم التالي، وأبدا كلاهما منتهى الشجاعة والجلد حتى بدا الإعياء على الإفرنج ولاح النصر في جانب المسلمين. ولكن حدث عندئذ أن افتتح الفرنج ثغرة إلى معسكر الغنائم الإسلامى، وخشى عليه من السقوط في أيديهم، أو حدث كما تقول الرواية أن ارتفعت صيحة مجهول في المراكز الإسلامية بأن معسكرالغنائم يكاد يقع في يد العدو. فارتدت قوة كبيرة من الفرسان من قلب المعركة إلى ما وراء الصفوف لحماية الغنائم، وتواثب كثير من الجند للدفاع عن غنائمه. فدب الخلل إلى صفوف المسلمين، وعبثا حاول عبد الرحمن أن يعيد النظام وان يهدئ روع الجند، وبينما يتنقل أمام الصفوف يقودها ويجمع شتاتها، إذ أصابه من جانب الأعداء سهم أودى بحياته، وسقط قتيلا من فوق جواده، وعم الذعر والاضطراب في الجيش الإسلامي، واشتدت وطأة الفرنج على المسلمين وكثر القتل في صفوفهم، ولكنهم صمدوا للعدو حتى جن الليل، وافترق الجيشان دون فصل. وكان

ص: 41

ذلك في اليوم الحادي والعشرين من أكتوبر سنة 732 م (أوائل رمضان سنة114 هـ)

وهنا اضطرم الجدل والنزاع بين قادة الجيش الإسلامي، واختلف الرأي وهاجت الخواطر وسرى التوجس والفزع. ورأى الزعماء أن كل أمل في النصر قد غاض فقرروا الانسحاب على الأثر. وفي الحال غادر المسلمون مراكزهم وارتدوا في جوف الليل، وتحت جنح الظلام جنوبا، صوب قواعدهم في سبتمانيا، تاركين أثقالهم ومعظم أسلابهم غنما للعدو. وفي فجر الغد لاحظ كارل وحليفه أودو سكون المعسكرات العربية فتقدما منها بحذر وإحجام فألفياها خاوية خاليةالا من بعض الجرحى الذين لم يستطيعوا مرافقة الجيش المنسحب، فذبحوا على الأثر. وخشى كارل الخديعة والكمين فاكتفا بانسحاب العدو ولم يجرؤ على مطاردته وآثر العود بجيشه إلى الشمال. هذه هي أدق صورة لحوادث تلك الموقعة الشهيرة طبقا لمختلف الروايات. والآن نورد ما تقوله الرواية الإفرنجية الكنسية ثم الرواية الإسلامية. أما الرواية الإفرنجية الكنسية فيشوبها كثير من المبالغة والتحامل والتعصب، وهي تصف مصائب فرنسا والنصرانية من جراء غزوة العرب في صور مثيرة محزنة، وتفصل حوادث هذه الغزوة فتقول إحداها:(لما رأى الدوق أودو أن الأمير شارل (كارل) قد هزمه وأذله وأنه لا يستطيع الانتقام إذا لم يتلق النجدة من إحدى النواحي، تحالف مع عرب إسبانيا ودعاهم إلى غوثه ضد الأمير شارل وضد النصرانية. وعندئذ خرج العرب وملكهم عبد الرحمن من أسبانيا مع جميع نسائهم وأولادهم وعددهم وأقواتهم في جموع لا تحصى ولا تقدر، وحملوا كل ما استطاعوا من الأسلحة والذخائر كأنما عولوا على البقاء في أرض فرنسا. ثم اخترقوا مقاطعة جيروند واقتحموا مدينة بوردو وقتلوا الناس في الكنائس وخربوا كل البسائط وساروا حتى بواتيو. . .)

وتقول أخرى: (ولما رأى عبد الرحمن أن السهول قد غصت بجموعه اقتحم الجبال ووطئ السهول بسيطها ووعرها، وتوغل مثخنا في بلاد الفرنج ومحق بسيفه كل شيء، حتى أن أودو حينما تقدم لقتاله على نهر الجارون وفرّ منهزماً أمامه لم يكن يعرف عدد القتلى سوى الله وحده. ثم طارد عبد الرحمن الكونت أودو، وحينما حاول أن ينهب كنيسة تور المقدسة ويحرقها التقى بكارل أمير إفرنج أوستراسيا وهو رجل حرب منذ فتوته، وكان أودو قد بادر بأخطاره وهنالك قضى الفريقان أسبوعا في التأهب واصطفا أخيرا للقتال ثم وقفت أمم

ص: 42

الشمال كسور منيع ومنطقة من الثلج لا تخترق وأثخنت في العرب بحد السيف). (ولما أن استطاع أهل أوستراسيا (الفرنج) بقوة أطرافهم الضخمة، وبأيديهم الحديدية التي ترسل من الصدر تواً ضرباتها القوية أن يجهزوا على جموع كبيرة من العدو، التقوا أخيرا بالملك (عبد الرحمن) وقضوا على حياته. ثم دخل الليل ففصل الجيشان والفرنج يلوحون بسيوفهم عالية احتقارا للعدو. فلما استيقظوا في فجر الغد ورأوا خيام العرب الكثيرة كلها مصفوفة أمامهم تأهبوا للقتال معتقدين أن جموع العدو جاثمة فيها ولكنهم حينما أرسلوا طلائعهم ألّفوا جموع المسلمين قد فرت صامتة تحت جنح الليل مولية شطر بلادها. على أنهم خشوا أن يكون هذا الفرار خديعة يعقبها كمين من جهات أخرى فأحاطوا بالمعسكر حذرين دهشين. ولكن الغزاة قد فروا. وبعد أن اقتسم الفرنج الغنائم والأسرى فيما بينهم بنظام عادوا مغتبطين إلى ديارهم). وأما الرواية الإسلامية فهي ضنينة في هذا الموطن كل الضن كما أسلفنا ويمر معظم المؤرخين المسلمين على تلك الحوادث بالصمت أو الإشارة الموجزة كما سنرى، غير أن المؤرخ الإسباني كوندي يقدم إلينا خلاصة من أقوال الرواية الأندلسية المسلمة عن غزو فرنسا وعن موقعة تور ننقلها مترجمة فيما يلي: -

ص: 43

‌في الأدب العربي

عكاظ والمربد

للأستاذ أحمد أمين

وكان لكل شاعر من شعراء المربد حلقة ينشد فيها شعره وحوله الناس يسمعون منه؛ جاء في الأغاني (وكان لراعى الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة). وكان الناس يخرجون كل يوم إلى المربد، يعرف كل فريق مكانه فيجلس فيه ينتظر شاعره، فقد روى الأغاني أيضا أن جريرا بات يشرب باطية من نبيذ ويهمهم بالشعر في هجاء الفرزدق والراعي، فما زال كذلك حتى كان السحر وقد قالها ثمانين بيتا في بنى نمير فلما ختمها بقوله:

فغمض الطرف انك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا

كبر ثم أصبح حتى إذا عرف أن الناس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد، وكان يعرف مجلسه ومجلس الفرزدق دعا فادهن ولف رأسه ودعا غلامه فأسرج له حصانا وقصد مجلسهم وأنشدها فنكس الفرزدق وراعي الإبل. ونرى بجانب هؤلاء الفحول أعنى جريرا والفرزدق والأخطل طائفة أخرى من كبار الرجاز يقصدون المربد وينشدون رجزهم، فالعجاج الراجز يخرج إلى المربد عليه جبة خز وعمامة خز على ناقة له قد أجاد رحلها ويقف بالمربد على الناس مجتمعين، ويقول رجزه المشهور:(قد جبر الدين الإله فجبر) ويهجو ربيعة فيأتي رجل من بكر بن وائل إلى أبي النجم ويستحثه على الرد عليه فيخرج أبو النجم ويستحثه على الرد عليه فيخرج أبو النجم إلى المربد ويقول رجزه: (تذكر القلب وجهلا ما ذكر)

ورؤية الرجاز ينشد رجزه: (وقاتم الأعماق خاوي المخترق) ويجتمع حوله فتيان من تميم فيرد عليه أبو النجم في رجزه:

(إذا اصطبحت أربعا عرفتني) كذلك نرى ذا الرمة يقف بالمربد وعليه جماعة مجتمعة وهو قائم وعليه برد قيمته مائتا دينار؛ وينشد دموعه تجري على لحيته: (ما بال عينيك منها الماء ينسكب) وينشد كذلك بعض قصائده فيقف خياط فينقد شعره نقدا شديدا ويسخف بعض تشبيهاته، فيمتنع ذو الرمة عن الذهاب إلى المربد حتى يموت الخياط. والأمراء والولاة قد

ص: 44

يتدخلون فيسكتون بعض الشعراء. وقد يهجون بعضهم على بعض خدمة لأغراض حزبية أو سياسية فعبد الملك ابن مروان يأمر أبا النجم بالمفاخرة مع الفرزدق. وعباد بن حصين (وكان على أحداث البصرة) يعين جريرا على الفرزدق ويعير جريرا الدرع والفرس والسلاح. وهكذا كان المربد في العهد الأموي معهدا كبيرا أنتج أدبا غزيرا من جنس خاص. وكاد هذا الشعر يكون امتدادا للشعر الجاهلي. لاتحاد الأسباب والبواعث، فأما الشعر الغزلي كشعر عمر بن أبي ربيعة وأمثاله فليس له كبير أثر في المربد لأنه فوق النزال والمهاجاة والمفاخرة. فليس مجاله حياة المربد التي وصفناها.

المربد في العصر العباسي:

بقى المربد في العصر العباسي. ولكنه كان يؤدي غرضاً آخر غير الذي كان يؤديه في العهد الأموي. ذلك أن العصبية القبلية ضعفت في العصر العباسي بمهاجمة الفرس للعرب. وأحس العرب بما هم فيه جميعا من خطر من حيث هم أمة لا فرق بين عدنانيهم وقحطانيهم، فقوى نفوذ الفرس وغلبوا العرب علىأمرهم. وبدأ الناس في المدن كالبصرة يحيون حياة اجتماعية هي أقرب إلى حياة الفرس من حياة العرب؛ وانصرف الخلفاء والأمراء عن مثل النزاع الذي كان يتنازعه جرير والفرزدق والاخطل وظهرت العلوم تزاحم الأب والشعر؛ وفشا اللحن بين الموالي الذين دخلوا في الإسلام؛ وأفسدوا حتى على العرب الخالصة لغتهم؛ فتحول المربد يؤدي غرضا يتفق وهذه الحياة الجديدة.

أصبح المربد غرضا يقصده الشعراء لا ليتهاجوا؛ ولكن ليأخذوا عن أعراب المربد الملكة الشعرية، يحتذونهم ويسيرون على منوالهم؛ فيخرج إلى المربد بشار وأبو نواس وأمثالهما، ويخرج إلى المربد اللغويون يأخذون اللغة عن أهله ويدونون مايسمعون، روى القالي في الأمالي عن الأصمعي، قال:(جئت إلى أبى عمرو بن العلاء فقال لي من أين أقبلت يا أصمعي؟ قال جئت من المربد؛ قال هات ما معك، فقرأت عليه ما كتبت في الواحي: فمرت به ستة أحرف لم يعرفها، فخرج يعدو في الدرجة وقال: شمرت في الغريب. . أي غلبتني). والنحويون يخرجون إلى المربد يستمعون من أهله ما يصحح قواعدهم ويؤيد مذاهبهم، فقد اشتد الخلف بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة في النحو وتعصب كل لمذهبه؛ وكان أهم مدد لمدرسة البصرة هو المربد؛ وفي تراجم النحاة تجد كثيرا منهم من

ص: 45

كان يذهب إلى المربد يأخذ عن اهله، ويخرج الأباء إلى المربد يأخذون الأب من جمل بليغة وشعر بليغ وأمثال وحكم، مما خلفه عرب البادية وتوارثوه عن آبائهم؛ كما فعل الجاحظ؛ يقول ياقوت: إن الجاحظ أخذ النحو عن الأخفش وأخذ الكلام عن النظّام وتلقف الفصاحة من العرب شِفاها بالمربد. وبذلك كان المربد مدرسة من نوع آخر تغير برنامجها في العصر العباسي عن برنامجها في العهد الأموي وأدت رساله في هذا العصرتخالف رسالتها في العصر السابق.

آخر الأخبار عن المربد:

في ثورة الزنج التي ظهرت في فرات البصرة والتي بدأت سنة 255هجرية حدث قتال بالمربد بين الزنج وجيش الخليفة، فاحترق المربد؛ روى الطبري قال: يقول ابنسمعان: فاني يومئذ لفي المسجد الجامع إذ ارتفعت نيران ثلاث من ثلاثة أوجه: زهران والمربد وبنى حمان في وقت واحد، كأن موقديها كانوا على ميعاد، وجل الخطب وأيقن أهل البصرة بالهلاك. وتوالت فيه الحرائق وعوتب شاعر البصرة أبو الحصين بن المثنى على أنه لم يقل شيئا في حريق المربد؛ مع أن المربد من أجل شوارعها، وسوقه من أجل أسواقها، فقال ارتجالا في آخر حريق لها:

أتتكم شهود الهوى تشهد

فما تستطيعون أنتجحدوا

فيا مربديون ناشدتكم

على أنني منكم مجهد

جرى نفسي صاعدا نحوكم

فمن أجله احترق المربد

وهاجت رياح حنيني لكم

وظلت به ناركم توقد

ولولا دموعي جرت لم يكن

حر يقكم أبداً يخمد

ويذكر ابن الأثير في حوادث سنة499 م أن سيف الدولة صدقة بن مزيد تقاتل مع إسماعيل فنهبت البصرة وغنم من معه من عرب البر. . . ولم يسلم منهم الا المحلة المجاورة لقبر طلحة والمربد. فان العباسيين دخلوا المدرسة النظامية وامتنعوا بها وحموا المربد وعمت المصيبة بأهل البلد سوى من ذكرنا. ويقول ياقوت (إن المربد كان سوقا للإبل، ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس وهو الآن: (عاش ياقوت حتى سنة 626هـ) بائن عن البصرة؛ بينهما نحو ثلاثة أميال، وكان ما بين ذلك كله عامرا وهو الآن خراب،

ص: 46

فصار المربد كالبلدة المفردة في وسط البرية). ثم عفا أثر المربد، ولم نعد نجد له ذكرا ذا قيمة، وأخنى عليه الذي أخنى على عكاظ؛ ومات بموته معهدان أدبيان اتصلت حياة الثاني منهما بحياة الأول فقاما نحو ستة قرون يخرجان شعراً وأدبا ونقدا كان من خير تراث العرب.

ص: 47

‌من طرائف الشعر

ذقته مرتين

للأستاذ بشارة الخوري

أتت هند تشكو إلى أمها

فسبحان من جمع النيرين

فقالت لها: إن هذا الضحى

أتاني وقبلني قُبلتين

وفرَّ فلما رآني الدجى

حباني من شَعره خصلتين

وما خاف يا أم بل ضمني

وألقى على مبسمي نجمتين

وذوَّب من لونه سائلاً

وكحلني منه في المقلتين

وجئت إلى الروض عند الصباح

لأحجبَ نفسي عن كل عين

ناداني الروضُ يا روضتي

وهمَّ ليفعل كلأولين

فخبأت وجهي ولكنه

إلى الصدر يا أم مدّ اليدين

ويا دهشتي حين فتَّحتُ عيني

وشاهدت في الصدر رمانتين

ومازال بي الغصن حتى انحنى

على قدمي ساجداً سجدتين

وكان على رأسه وردتان

فقدم لي تَيْنِك الوردتين

وخفت من الغصن إذ تمتمت

بإذني أوراقهُ كلمتين

فرحت إلى البحر للأبتراد

فحملني ويحه موجتين

فما سرت إلا وقد ثارتا

بردفي كالبحر رجراجتين

هو البحر يا أمكم من فتىً

غريق وكم من فتى بين بين

فها أنا أشكو إليك الجميع

فبالله يا أمأتريْن

فقالت، وقد ضحكت أمها

وماست من العُجب في بُردتين

عرفتهم واحداً واحداً

وذقتُ الذي ذقته مرتين

ص: 48

‌حلم

رأيتُ أمسِ حُلمُاً

روعني في مضجعي

رأيتني مع الحبي

ب في عتاب موجع

آلمتهُ من غيرتي

ظلماً بلا تورع

ثم طلبتُ صفحه

لكنه لم يسمع

فقد تولَّى مُغْضَباً

ولم يُفد تضرّعي

وعندما أمسكتُه

من ثوبه صاح: دعِ

لكنني عند انتبا

هي من منامي المُفْزع

وجدتُهُ بجانبي

مستغرباً من جزعي

يسألني في رقةٍ

عن حُلُميوأدمعي!

كرمة ابن هاني. حسين شوقي

ص: 49

‌ليل المعذَّب

هذا عُبابُ الظلام وافي

يسحبُ فوقَ الثرى خُطاهُ

أعشَى عيونَ الورى عَماهُ

وأفزعتْ في الكرى رُؤاهُ

// ليلٌ كلونِ الغرابِ داجٍ

غُفْلٌ أغَمُّ اكتسى وقارا

كأنما النور في حَشاهُ

عن مستهلِّ الصديعِ جارا

تَحسبهُ لجَّةً غَضوُباً

كلُّ سَبوُحٍ بها غريقُ

أو مهمهاً موحشاً مُريعاً

عُمَّارُه الدهرَ لا تُفيق

يَزْفِر وجداً به المعنىَّ

فيستحيل الأسى دموعاً

ويستحيل العذابُ جمراً

والقلبُ في كهفه صُدوعا

سورية، حمص. رفيق فاخوري

ص: 50

‌حياة ثانية

أيُّ نورٍ ألقَي علىَّ غرامي

فاشتريتُ الآمال بالآلامِ

كان ذا الجسمُ عُصبةً من جراحٍ

تتنزى في هيكل من حطامِ

كان ذا القلبُ شعلةً من عذاب

وشجون ولوعة وضرام

كان ذا الطرف منهلاً سرمَدِياً

يغمر الروح بالدموع الدوامي

كنتُ واللهِ في شبابي شيخاً

لاح للناس في مُسُوح غلام

كان ذا الشِّعرُ غنوة اليأس في القل

ب وناياً أنعى به أحلامي

كان عمري كأنه حلكة اللي

ل على الدُجَى المترامي

كنتُ لا أعرف التَبَسُّم حتى

عوَّدتنى المنى ابتذال ابتسامي

شفَتَاي الحزينتان وقلبي

وعيوني مدينة لغرامي

عالَمٌ أنتِ من جلال وسحرٍ

وجمالٍ وفتنةٍ وسلامِ

فيك أمر غير الجمال سيبقَى

أبد الدهر حيرة الأيامِ

فيكِ سحرٌ من السذاجة والطه

ر يمدّ الشعور بالا لهام

قد هجرتُ الكروم والحان والس

اقى وصوت الكؤوس والأنغام

وأبيتُ الحياةَ الاَّ خيالا

وعشقتُ الحياة بالأوهام

تساقي بها الكؤوس من الس

حر ونحيا في روضة الأحلامِ

والأزاهير حولنا تَتَثنَّى

راقصاتٍ بغير جرحٍ دوامي

وطيور الخيال فيها تَنَاغَي

برقيق الغناء عذب الكلام

كل شئ حتى الأنين أراهُ

مستحبَّا مُوَقَّعَ الأنغام

أشربي الكأس واتركي ليَ فيه

قُبلةً تستقر بين عظامي

قبلَ أن يخطر النسيم فيمضي

بأمانِ الهوَى ويذروُ حطامي!

صالح جودت

ص: 51

‌الذكرى

// لمن آهاتيَ الحرى

إذا ما أظلمَ الكونُ

ودمعةُ مقلة شكري

يغالبُ سكبَها الجفنُ

ذكرتُ هوايَ مذ شبّا

مع الأحلام فتانا

فَرُحْتُ أقطع القلبا

وأذري الدمع هتانا

ذكرتُ شفاهنا تدنو

وما تفترُ في اللثمِ

كلانا مدنف يحنو

كأنّ العيش في حلمِ

ذكرت البدر والأفُقا

ونجمة قلبيَ الدامي

ذكرت بخدها الشفَقا

وفي العينين أحلامي

ليالي الأنس لم تبْق

لقلبي غير ذكراها

يعانقُ طيفها عُنقْي

وثغري لاثم فاها

أشاهد طيفها الباكي

مع الأدمع جوَّالا

وأسمع صوتها الشاكي

يذيب القلب منهالا

سلاماً أيها الحبُ

وإن أورثتني شجوا

يخلد عهدَك القلبُ

على ما فيك من بلوى

دمشق. م. جميل سلطان

ص: 52

‌على لسان شاب مصري في الثلث الأول من القرن

‌العشرين

ألاكم مر جيل بعد جيل

وماضي المجد لا يبغىإيابا

تنقل في بلاد الأرض طراً

وغادر مهده منه يبابا

إلى أن عاده شوق لأم

تكابده من تنائيه عذابا

فحياها وأرسلها إليها

رياحاً قد رددن لها الصوابا

سرين وقد حملنلنا جلياً

نداء للمكارم مستجابا

كذا قمنا بعزم ليس يخبو

لنرفع مصر في الدنيا شهابا

نعيد لها الشباب وكان حتما

علينا أن نعيد لها الشبابا

صحا فينا (الضمير) فماد شعب

صحا للمجد يطلبه طلابا

يعد الفكر في ثقة سفينا

لبحر العيش مصطخبا عبابا

علينا الواجبات هناك شتى

وطرح الضيم أولها حسابا

فما نشطت بذاك العبء قوم

إلى فضل ولا شرفوا جنابا

بنى مصر الكرام سلام بدء

إذا ما نلتم العلياء طابا

ص: 53

‌في الأدب الشرقي

من الأدب التركي الحديث

عبد الحق حامد

للدكتور عبد الوهاب عزام

نشرت في (الرسالة) الماضية ترجمة المقدمة المنثورة التي كتبها شاعر التركالأكبر للمرثية الكبرى التي رثى بها زوجه فاطمة وسماها (المقبر) ووعدت أن أنشر في هذا العدد مثالا من شعر هذه المرثية. ولا أكتم القارئ أنى حين وضعت الكتاب أمامي (وهو زهاء ألف بيت تدفق بها قلب الشاعر الحزين على غير ترتيب) لم أدر كيف أختار: الرسالة لا تتسع للإسهاب، والإيجاز لايفي بالإبانة. ولولا وعد لقراء الرسالة سبق ما كلفت نفسي هذا الشطط. عبرت الكتاب أنتقي من صفحاته، أبدأ ترجمة الفكرة ثم يضطرني إطناب الشاعر إلى الوقوف دون غايتها. وأجد البيتالفرد البديع مكملا ابياتا كثيرة فلا أستطيع أن أترجمه وحده، ولا أن أترجم كل ما اتصل به، على أن في بعض الأبيات إبهاما وغموضا وفي بعضها اضطرابا. وقد وصف الشاعر كتابه في المقدمة التي يذكرها القارىء، وقد ترجمت عجلان حين ضاق الوقت، حتى أرسلت المقال بالبريد على قطعات، من خوف (الزيات):

أواه لم يبق الحبيب ولا الدار، وبقى قلبي ملؤه الأحزان والأكدار. كانت هنا الآن فصفرت منها اليد؛ جاءت من الأزل وذهبت إلى الأبد.

ذهبتُ وبقيت هي ترابا، وحلت رفاتها قفرا يبابا. أواه إنما بقى من أنس القلب الكريم، قبر في بيروت مقيم.

أين أين أفتش عن هذا الحبيب؟ ومَن أسائل عن هذا الغريب.

ياربَّ! أين أين هي: في الأرض أم السماء؟ ربّ! من قذف بي في هذا الشقاء؟

يقولون: إنس خِلّ الوفاء، فقد سلك طريق البقاء. هل يسع الخيال هذهالحقيقة، وهل ترى العين هذه الفجيعة؟

ما أسرع ما انقلبت بي الحال! انقلابٌ لا يصدقه الفكر والخيال. أرى شيئا، أراه يشبه القبر! ويشبه الحبيب حين أنعم النظر.

ص: 54

تمضي بي على الشك الليالي، ويزيد على مرّها حزني ووبالي. إنها صدمة انقلاب قتّال، فليت شعري هل حُم لي الزوال؟

هلمّ فاطمة أصعدي من اللحد، وارجعى سيرتك التي أعهد.

لاتكتمي عنى هذا السّر. وأفصحى بكلمة. أواه إنما أريد كلمة منك.

ابتسمي ابتسام الورد، وداوي جرح القلب. وأتمي أيام حياتي بنظرة معسولة، أو بسمة ساحرة.

أقبر هذا؟ ما هذا الذي أرى؟ أمكان الحبيبة هذا الثرى؟ إنها لمحنة، إنها لحيلة، إنها لفنائي وسيلة.

أنظر أنظر كيف حال الياسمين المنوّر، وانظر إلى الوجه الوردي كيف اغبرّ: تعسا لك تعسا أيها الجَدّ الأعسر، وياويلتا إلى يوم المحشر.

ربّ ما غاية هذا العيش الأغبر؟ وما غَدُ هذا البشر؟ أبلغ فكري روحها، أو سيِّر روحي إلى ترابها. . . . .

ربّ ما هذا الصفر في الحساب، لكل الأرقام إليه انقلاب. أهو عدم ذو وجود أو قبر في اضطراب؟. . . . . . .

لقد تولاّها السقام، وملأت صدرها الآلام، تضحك وضميرها في عذاب، تخفي بضحكتها خفي الأوصاب.

وكم حسبها الناس في سرور، وما سرورها إلا الحزن المكتوم، حتى ملأت باليأس نفسي، وأثارت الفتنة في قلبي.

القبر منتهى هذه الدقائق، وسر عجيب من أسرار الخالق. نور كلما مال للغياب، هبط إلى كومة من التراب.

هذا أعلى الشواهق، وهذا أروع الحقائق، أيها الشقي تلك حقيقة لا تدرك. هذا شأنك، وهذه في الدنيا حالك. . . . . . . .

لقد كانت شعرا بليغا مهما، كان فكرها شاعرا ملهما. (صحراء وتزر وأشبر) من وحيها وما كنت الا واسطتها. . . . . . . . .

كنت أفهم هذا الوجه الشاحب، الذي منح شعري اللون المعجب. تأبى أفكاري أن يكتب

ص: 55

ويُفهَم، وهل تنحت الجبال بقلم؟

اجتمعت ضروب الآلام في صدرها، والناس في غفلة عن أمرها؛ كان كل من رآها يشفق عليها ويحبها، ولا يدرى لماذا؟. وكانت ملكة الخلق الكريم، والفكر السديد. تشعر بخطرات نفسي وتقرأ أسارير وجهي.

وكانت وإن لم تكثر الكتابة ملهمة لاتخطيء الإصابة، وكم فتنت منها بالكلم الدقاق والذكاء العجيب، قد عمر بها شعري الخراب، وتلألأ فيه صنعها العجاب. كانت نجى الأفكار في نفسي خبيرة بالكلمات التي تندّ عنّي.

تذبل الوردة الناضرة فتخلفها وردة أخرى تضئ مكانها وتفترّ، كأن الأولى لم تتغيّر. وتغرب الشمس المنيرة فإذا هي في الصباح مشرقة. ولكن شجرة الورد هذه لن تزدهر، ولكن هذا النجم في غروب مستمّر.

سلكتْ بي الفِكَرُ ألف سبيل وراءك أيها القمرَ فعيّ العقلُ دونك وأقصر. صاعقة ولكن لا يسمع صوتها، ونور يسقط ولكن لا يبين ضياؤه.

يا رب أين أين الحقيقة؟ أجعلت الغم سر هذه الخليقة؟

مهما طال بي الأنين واستمر، فما هو الا كأنين الشجر. . . . . .

لاريب أن حياتي سم أتجرعه، فيدنيني من الموت الذي أرتقبه،

شرِّح هذا الوجود فهو عدم، وقلِّب هذا السرور فهو ألم،

ليت شعري أفي الموت نجاتي؟ ليت شعري ماذا يحبب إلى حياتي؟ قد أنهدمت خليقتك عليَّ يا رب فكيف تحتها ثباتي؟

حسبي حسبي سموم هذا القهر، حسبي حسبي طغيان هذا النهر. أليس لهذه السيول تناهي؟ حسبي جرعة واحدة يا الهي.

ما بقائي في الدنيا! أعضو أنا في جسم الدهر؟ أأنا يا رب مرآة جلالك أم أنا شعاع من جمالك؟. . . . .

أمامي مسجد التوحيد الوضاء، وفي عقلي الشك وفي قلبي الرجاء. وفوقي لقاء السرمدية وتحتي فناء الآدمية.

أرجو من الخالق خلودا، فيبدو لي التراب والحجر وعيداً وأقول أن الإنسان لا مرية، إلى

ص: 56

الفناء، فتصيح روحي: كلا إنه للبقاء. إن لم يكن للبشر مزية في الوجود، فلماذا توحي إليه المشيئة الخلود؟ أيها القبر إنما هذا السكوت، خطاب الحي الذي لا يموت.

(يستمر الشاعر يقيم الحجج على خلود الإنسان ثم يرجع إلى خطاب حبيبته ثم يخاطب الله بين الاعتراض والتسليم إلى أن يقول)

رب كيف لا أشكو؟ ألا يصيح الجريح؟ ما هذا القبر الذي أمامي؟ وضعت فيه حبيبا جميلاً، وجعلت التراب حدود عقلي، وحبست إدراكي على هذا الحجر. واعتصمت بك فهويت عليَّ. إن لم يكن للبكاء جدوى فكيف يسكت القلب اللجوج عن الشكوى؟ لماذا تئن الطيور في الأوكار؟ أليس لقلبي أغنية كهذه الأطيار؟

قالت لى يوما في اضطراب: جئت إلى الهند لأموت في اغتراب. فضحكت من قولها وتكلفت الثبات، ولكني أحسست أن قلبي قد مات. ثم ودعنا الهند بين الموت والحياة. جاوزنا القناة في غم وكرب، وليس القوت الا دم القلب. كلما سألت أجاب السعال الظالم. ذلك الجورب المظلم. حتى إذا لم يبق الا رمق، لاحت بيروت في الأفق. ومر يوم ولم أدر بما كان وسألتها فإذا النعش عِيَان.

النعش هذا الدليل دليل المقبر، النعش ذلك الهيكل الأغبر، النعش ذلك الخطيب الأصم الأبكم، النعش ذلك الهمود المجسَّم، النعش هذه السكتة المحيرة، النعش تلك المصيبة المكررة، النعش ذلك الانقلاب الصموت. ذلك الحدِّ المتحرك للعقل المبهوت. النعش خرابة الأمل الخامد، النعش ذلك الاغبرار الخالد. النعش ظل المحشر على الأكتاف، النعش ذلك الموت المتموج ألتفَّت على هذه الروح ألواحه ففتحت ذراعيَّ للموت. . . أيها التراب المضيء، تراب الحبيب الصامت! أيها النور الأسود الثابت! إن قلبي ليتحطم من جمودك، وان روحي لتموت من خمودك.

لا لا، ليس ترابا انه موت نابت. لا لا، ليس موتا انه جؤار صامت. لتحرس الملائكة هذا القبر ولتضيء عليه الثوابت.

ليس تراباً كله قبر الحبيب، أن له قبرا آخر من النسيان الرهيب. النسيان أسفل المقابر، النسيان مقتل الأكابر. وقبر آخر ذلك القلب الهباء فهو والتراب سواء. فالحبيب ذلك الملك المسافر، طائر بين هذه المقابر. . .

ص: 57

يارب ما أعظم محبتك التي أرى وما أعظم رحمتك التي تفيض بها الأرجاء كلها! ألا يفنى في هذا كله الفراق المنبعث من القبر؟ هذه الأنجم ضياء وحدتك، ورحى كذلك أحد كواكبك، والحبيبة التي كانت ملكا (طارت لاريب) إلى جنَّتك، كلما ذكرتك اتسع خيالي، وصارت فجرا منيرا هذه الليالي. ما أعظم اسمك أنسا للروح، انه يسير إليك في صيحات الفؤاد المجروح؛ أقول (الله) فيتفسح المجال، أقول (الله) فيفارقني الزوال. بحركة هذا الصوت الأعظم، يطير جناحي وإن حَطَمَه الغمُّ، أنتَ أقرب إلى الله يا محمد، أيها العقل المعظم المؤبد، أنت الذي سلكت بنا السبيل، وكنت إلى الله الدليل. ليصمت بعدُ هذا النواح، فلا تضيق به الأرواح، هذه الآهة التي تفيض من الروح، لن يسمعها بعدُ الا قلبي المجروح سأكون في الدنيا قبرها، تطوف فوقي روحها، سأصمت عن هذا النحيب، لأفرغ للتفكر في الحبيب.

ص: 58

‌في الأب الغربي

وإذا أتى يوماً؟

قصيدة لموريس ماترلنك

للأستاذ أبي قيس عز الدين علم الدين. عضو المجمع العلمي العربي

بمناسبة ما نشرته الرسالة البارعة في العدد الرابع عشر من رواية بلياس ومليزاند ترجمة الأستاذ حسن صادق، أبعث للرسالة بقصيدة تعد من روائع الأب الرمزي، وقد نقلت إلى معظم اللغات الغربية، وأما شاعر هذه القلادة المروية فهو الأديب البلجى الكبير موريس ماترلنك ولد في غاند سنة 1862، وقد نشأ مفطوراً على حب الأب، فحذق الصناعتين ويعده البلجيون من عباقرة شعرائهم وكتّابهم الخالدين: وقد أدخل في الأب البلجى أسلوباً جديداً وامتازت قصائده بطابع حزن عميق يثير مكنون الأسى، وأما رواياته التمثيلية فإنها تقنع مطالعها بأن حياة الناس خاضعة لعوامل خفية، وأن العالم الأرضي مفضي عليه بقضاء وقدر مضاعف: قدر الحِمام، وقدر الغرام. وأهم آثاره: بيوت الزجاج (1889)، الأغاني الاثنتا عشرة (1897)، الأميرةمالين (1889)، العميان (1890)، بلياس ومليزاند (1892)، العصفور الأزرق (1911)، كنز المتواضعين (1896)، الحكمة والقدر (1898)، حياة النحل (1901). والآثار الثلاثة الأخيرة تدل على براعة ماترلنك وعبقريته، وعلى رسوخه في فلسفة الأخلاق وعلى شاعر يته الجبارة. وأما قصيدته الخالدة الموسومة بعنوان (وإذا أتى يوماً؟) فهي من مرويات أغانيه الاثنتيعشرة، ويعود تأثيرها البليغ إلى تأثير موقفها الفاجع، ولعمري أي أمر أفجع من موقف شقيقتين تحتضر إحداهمافتسألها الأخرى عما تجيب به أسئلة خطيبها إذاما عاد يوماً من دار هجرته إلى دار مهجته، فتجيبها، ولم يبقى من شقيقتها إلا حشاشة، بأجوبة رمزية تشبه غصص المنية، وإليك الآن هذه الأغنية تلتاع القلوب الشاعرة لزفراتها، وتنتزع العقول العبرة من عبراتها. . .

سوإذا أتى يوماً وعاد=فما أقول لمن يعود؟

جقولي له: انتظرتك حتى=فارقت هذا الوجود

ص: 59

سوإذا ألحّ وليس يع=رفني ليكتشف الحقيقة؟

جفتحدثي معه كما=تتحدثينإلىشقيقه

سوإذا تساءل: أين أنت=فما يكون جوابه؟

جأعطيه خاتم خطبتي=الذهبي فهو جوابه

سوإذا إستراب وقد رأى=في المخدع الخالي العجاج؟

جفأريه أن الباب مف_توح مذانطفأ السراج

سوإذا استزاد مروَّعاً=عن حال ساعتك الأخيرة؟

جقولي له: ابتسمت مخا_فة أن تنوحَ على الكسيرة

ص: 60

‌بوفون

تمخضالعالم عن شخصية (جورج لكلارك قونت بوفون) في مدينة (مونت بار) عام 1707. ولما يفع وترعرع دخل معهد الآباء اليسوعيين، ليحتلب من ضرعيه علوم القرن الثامن عشر؛ ولكن نفسه الجبارة، نزعت إلى الطبيعة الخلابة، فودع بقية العلوم في ذلك المعهد، وراح يضرب في أنحاء إيطاليا وإنجلترا، يتحرى قوانين الطبيعة فيأماكنها، ويدرس طبائع الحيوان والنبات عن كثب، شأنالبحاثة المدقق الذي لا يرضى بما لاح من صيد، ولا يعود من مغامرته بالقشور دون اللباب. فانكب على العلوم الطبيعية، يقتلها درساً وتحقيقاً، حتى ضرب فيها بسهم صائب، وبلغ منها ما أمل وما أراد؛ ولم يَدرُ مع الأرض حول الشمس 26 دورة حتى انتخب عضواً في (أكاديمية) العلوم. وبعد هذا التاريخ بست سنوات عين ناظراً عاماً (لبستان الملك) الذي يطلق عليه الفرنسيون اليوم اسم (بستان النبات). كان (بوفون) إذا أراد الكتابة، اعتزل الضوضاء في غرفة منزوية، وارتدى ثوبه ذا الأكمام الموشاة، والناطق باسم مقامه العإلى، وتقلد سيفه المحلى بحلي ثمينة، ثم جلس إلى مكتبه يتخيرلافكاره أشرف المباني، ولعواطفه أرق التعابير، وحينما ينتهي من كتابته يعيد قراءة ما دبجته براعته، بصوت مرتفع أجش، وجنان تتجاوب في إرجائه عواطف الحماسة والعظمة، حتى إذا ما هذَّب ونقح، وتلا ما كتبه ثالث مرة: غادر مكتبه وماء البشر يترقرق في وجهه، ونشوة السرور تدب في جسمه. اشتغل بوفون مدة خمسين عاماً في تأليف كتابه (التاريخ الطبيعي) جوهرة ألامس ودرة اليوم، ولكن المنية شعبته فحالت دون تدوين دراسته المستفيضة بكاملها، فظل الكتاب مبتورا تنقصه أبحاث مهمة كالأفاعي والأسماك، والحشرات والنبات، وقد سد هذه الثغرة في هذا الروض الاريض (لاسيد) تلميذ بوفون المخلص، وصديقه الحميم.

ومهما يكن من شيء فان شهرة (بوفون) مازالت تطوي المراحل وتجوب الأمصار، وسمعته ما نفكت تسير بذكرها الركبان، وتتجاوب بصداها المحافل. وقد عرف له مواطنوه نبوغه، فانتخبه المجمع العلمي الفرنسي عضوا فيه، وانعم عليه لويس الخامس عشر بلقب (قونت). ولم تحترمه يد المنون في عام 1788 حتى رأى تمثاله منتصباً في مدخل متحف التاريخ الطبيعى، وقد حفر عليه باللغتين الفرنسية والألمانية:(إن عظمة الطبيعة تساوى عبقريته) ولست لأعرض الآن لأدبه بالتحليل والنقد، فعساي أن أعود إليه في يوم آخر،

ص: 61

ولكنى مترجم هنا آية من آياته الخالدة، في وصف الصحراء العربية.

صحراء جزيرة العرب

تصور بلاداً لا تتنفس عن اخضرار، ولا تترقرق في مآقيها المياه! شمسها تتقد اتقاداً، وسماؤها أشد جفافاً من الضرع الذاوي. تستر الرمال أدُمَ وديانها، وتسيطر جنود الجدب على جبالها!! تطل عليها الباصرة فيضل البصر فيها دون أن ينعم برؤية شيء تتجاوب فيه خطرات الحياة. أرض جر عليها الموت أذياله، قد عصفت فيها أعاصير حاصبة، نزعت عنها غلالتها الرملية، فلا يصطدم فيها نظرك العُقابي، إلابهياكل عظمية، وحصباء منتثرة، وصخور منتصبة، وأخرى مستلقية.

صحراء ليس بينها وبين وهج الشمس من حائل، فليس بمقدور المسافر أن يفيء إلى ظلال بليلة. هنالك لا صاحب فيؤنس وحشته، ولا شيئاً حياً فيذكره بالطبيعة الحية: عزلة مطلقة، وارفة الجناحين، ترعب أكثر من ألف مرة من عزلة الغابات، لأن الأشجار كائنات حية في نظر المنفرد المسكين الضال في هذه المهامه الخاوية، والمتمردة على سلطان الحدود. يتراءى للمسافر حيثما أشاح بوجهه، أن قبره منبوش في هذه الفيفاء: فيرى نور النهار الساطع، أكأب من حلوكة الليل الدامس، لأن هذا النور لا ينبعث الا لينير له عن خوره وارتخاء مفاصله، وإلا ليمثل له هول موقفه وحراجته، ذلك أنه ينأى عن عينيه حدود الخلاء. ويزيد في بسطة هوة الأتساع، تلك الهوة التي تفصله عن الأراضي الآهلة. رقعة واسعة تكفيه مؤونة التطواف، ففيها جوع كاسر للطرف، وفيها ظمأ عاصب للفم، وفيها حرارة قادحة للثقاب. هذه كلها تضغط على ما بقى لديه من لحظات تتردد بين اليأس والموت).

حلب ـ عبد الوهاب حومة

ص: 62

‌بحر ناعس

لجون فريمان

بحر

كالطفل الغارق في سباته.

يحتفظ

بخوالج وجدانه في نهاره ليرددها على لسانه في ليله

لا تكاد

تطفح لجته المرتفعة حتى تخور فتتراجعفي هوادة وبطء

والبحر

في هدوئه كركود الطفل في غفلته. القمر من هزاله كلهب الشمعة يذوي ويحتضر.

لا صوت

بالبحر كالطفل الحالم وفي سكرة نومه الحادة يئن بخفوت مؤلم. ثم يرسل من أعماق صدره زفرات حارة في تأوهات صامتة. لقد تشابها.

منوف. أحمد محمد البيه

ص: 63

‌اللقاء العجيب

لأندره شينه

هي: أيها الغاب هل رأيت حبيبي=قرب ماء الغدير عند الغروب؟

كم صباح أتاك بل كم مساءٍ

عند همس الصَّبا وشَدْو الجَنو

سوف أصغي لكل صوت بعيدٍ

فلعلِّي أحظى به من قريب

هو: إِيه يا موجة الغدير سلاماً=يا عروس الماء النمير السَّكُوب

احملي لي حبيبتي فهي عندي

زهرة الحب فوق غصن رطيب

كم لثمت العشب الذي وطئته

قدماها في الغاب دون رقيب!

هي: آه لو يعلم الحبيب بشوقي=وحنيني وحرقتي وشحوبي

هل أراه في الغاب؟ إن خيالي

لَيراه في ذا المكان الرحيب

سوف أدعوه بابتسام وعطف

فعساه يكون بعدُ مجيبي

هو: رب هب لى رحماك صبراً جميلاً=إنما الصبر جُنَّة المكروب

هل أتاها أني ليخفق قلبي

لسماع اسمها الجميل الطروب؟

سأنادي دوماً بصوت حنونٍ

علَّها أن تجيب صوت الحبيب

هي: آه إني رأيته فأعنيّ=يا لساني في ذا اللقاء الرهيب

إيه يا ناظري ويا شفتيا

إهدَآ ساعة اضطراب القلوب

هو: ما لهذه الأوراق تهتز دوني؟ =قد بدا لي ثوب الفتاة اللعوب

إنه ثوبها فيا مقلتيا

عبرا عن غراميَ المحجوب

هي: أهنا أنتَ؟ إن ذا لعجيب=أنا وحدي في ذا المكان الجديب

لم أفكر في أن أراكَ ولكن

جُزْته نحو بيتيَ المحبوب

هو: أنا ألهو برؤية الموج وحدي=وذُرى الزيزفون تجلو كروبي

لم أفكر في أن أراكَ أمامي

لم أفكر في ذا اللقاء العجيب!

دمشق. محمد ناجى الطنطاوي

ص: 64

‌العلوم

نشوء الكائنات الحية على وجه البسيطة

للأستاذ السر آرثر طمسن

خلال الأدوار الأولى لتاريخ الأرض لم يكن في مقدور أي مخلوق حي نتصوره أن يعيش وسط تلك الظروف، فقد كانت الحرارة مرتفعة جدا، وكان الهواء والماء معدومين في وجه البسيطة، إذن فلابد من ظهور المخلوقات الحية منذ عصور سحيقة في القدم لا نستطيع معرفة تاريخها؛ أما كيفية ظهور الحياة للمرة الأولى فلا يعلم أحد ذلك بالضبط، وكل ما هنالك احتمالات متباينة نأتى على ذكر أهمها:

منذ القديم كان الاعتقاد السائد ان الحياة نشأت من طينة الأرض بطريقة خارجة من نطاق البحث العلمي، على أن هذا الرأي يفسد علينا فهم المسألة لتسرعه في الحكم عن نشوء الحياة بهذا الشكل، فإذا كنا لا نعتبر هذا الرأي علميا فذلك لأن العلم لا يعطي قرارا جازما ولا يبت في أمور لها من الشك نصيب كبير. وذهب فريق من العلماء وعلى رأسهم الأستاذان (هلمهلتز و (اللورد كلفن إلى ان المخلوقات الحية البسيطة لم تنشأ من صميم الأرض بل جاءت إليها من الخارج محمولة بقطع الشهب المتساقطة أو بواسطة الغبار الكوني، على أن تلك الكائنات ظلت في حالة السبات لعدم ملاءمة الظروف لها حينذاك، وبهذه المناسبة يجب أن نتذكر ان بذور النباتات تستطيع أن تقاوم البرودة والجفاف زمنا طويلا، كما أن (البكتريا) تستطيع احتمال درجات مرتفعة من الحرارة دون أن تفقد حيويتها. وكما يرى الأستاذ انه طالما لا يحدث انحلال جزيئي ففي إمكان الأفعال الحيوية ان تتوقف عن العمل مؤقتا ريثما تعود الظروف الملائمة. إذن فنظرية اللورد كلفن تنسب أصل الكائنات الحية إلى غير الأرض.

وذهبت فئة أخرى من العلماء تقول بان المخلوقات الحية البسيطة نشأت على سطح الأرض من مواد غير حية أى من مركبات كربونية نصف سائلة بتأثير بعض الخمائر. وتعزز هذهالنظرية بما وصلت إليه أبحاث علماء الكيمياء التركيبية الذين نجحوا في تركيب بعض المواد العضويةكحامض الاوكساليك والنيل، وحامض الساليسليك والكافئين، سكر القصب بطرق صناعية بحتة. على أننا لا نعلم بالضبط من يقوم مقام العالم الكيميائي

ص: 65

في مختبر الطبيعة!، ومهما كان الأمر ففي المسألة غموض وتعقيد كبيران لا نتخلص منهما الا بنتيجة واحدة وهي أن العلم لا يستطيع إلى الوقت الحاضر أن يقول كلمته فيها.

أول جسم عضوي على الأرض

إن أول ما يتبادر إلى ذهننا التساؤل عنه هو كيفية نشوء المخلوقات الحية الأولى على الأرض أو بالأحرى عن الحياة التي كانت تغطي وجه البسيطة في ابتداء طور تكونها. ولأدراك ذلك علينا أن نستعين بابسط المخلوقات الحية في الوقت

الحاضر كبعض أنواع البكتريا أو العضويات الأحادية الخلية وخاصة المسماة منها بالأحياء الأولى التي لايمكن تعيين انتسابها إلى المملكة الحيوانية أو النباتية. لاشك أن الجزم في مثل هذه الأمور يعد تطرفا لا يجيزه العلم: إنما يميل العلماء إلى التسليم بالنظرية القائلة، أن المخلوقات الاولى كانت كريات مجهرية من مادة البروتوبلازم الحية، لا تختلف عن أبسط أنواع البكتريا في الوقت الحاضر الا بكونها تستطيع المعيشة في الهواء والماء والأملاح الذائبة على السواء. ويظن أن العضويات البحرية الأحادية الخلية نشأت من هذا الأصل وكانت قادرة على صنع الكلوروفيل أو ما يشبهه وربما كانت هذه الوحدات الصغيرة الحية محاطة بغلاف سليلوزي. غير أن طاقتها الكامنة عظمت فتمخضت عن ذينبات أو شعيرات صغيرة مكنتها من تسيير نفسها في الماء للتفتيش عن الغذاء. ولا يزال من أمثال هذه العضويات كثير في الوقت الحاضر أغلبها يعيش في الماء والبعض منها (وهي نباتات بسيطة أحادية الخلية) تصبغ سوق الأشجار وحتى الصخور الرطبة باللون الأخضر وتدعى الخزيات ويرى الأستاذ ان البحار التي كانت تغطي وجه البسيطة في مستهل تاريخها كانت مأهولة بهذه المخلوقات المذنبة الخضراء التي وضعت الحجر الأساسي لعالم النبات. ويظن أن الأحياء الاولى ولدت سلسلة أخرى من المخلوقات المفترسة البسيطة لم يكن في وسعها أن تكوّن المادة العضوية (الغذاء) من الهواء والماء والأملاح فكانت تعيش على افتراس ما يجاورها من العضويات. إن هذه الوحدات كانت عديمة الغلاف السيليلوزي بحيث يسهل للمادة الحية أو البروتوبلاسم القيام بالعمليات الحيوية المتنوعة على نحو ما نراه الآن في الأميبا أو في كريات الدم البيضاء وغيرها. من هذه العضويات المفترسة نشأت المملكة الحيوانية بأسرها. نستنتج مما سبق أن

ص: 66

الحيوانات الاولى والنباتات الاولى نشأت من الأحياء الابتدائية البسيطة ثم أخذ كل منها يسير في اتجاه خاص.

بداية نشوء النباتات البرية:

من المحتمل جداً أن المياه كانت تغطي وجه الأرض في أدوارها الأولى، وأن ذلك البحر المترامي الأطراف كان مأهولا بالنباتات الابتدائية من ذوات الشعيرات على أن انكماش القشرة الأرضية أحدث مرتفعات ومنخفضات في قاع البحار، واقتربت على أثر ذلك الطبقات الصلبة في بعض الأماكن نحو سطح الماء، فسمحت للنباتات العائمة أن تستقر هناك على مقربة من النور. هذا ما يصوره لنا الأستاذ (شرش) عن مبدأ النباتات وهي خطوة ذات شأن عظيم في سير التطور. ويظن أن أول نجاح صادفته الحيوانات كان بين هذه النباتات القديمة. وقد أخذت اليابسة بالظهور عندما ارتفع قاع البحر في الأماكن الضحلة تدريجيا. إن تلك النباتات الثابتة كانت أسلاف حشائش البحر التي تعيش على الشواطئ البحرية الآن.

الحيوانات الأولى

إن الحيوانات التي هي تحت مستوى (الحيوانات والاسفنجيات تدعى بالحيوانات الابتدائية أو البروتوزوا ومعنى هذه الكلمة الحرفي (الحيوان الأول) وكل ما نستطيع أن نقوله عن هذه الحيوانات أن أبسطها قد ينيرنا عن بساطة تركيب الحيوانات الأصلية الاولى. والواقع أن أغلب الحيوانات الابتدائية المعروفة في الوقت الحاضر هي على درجة من التعقيد لا نستطيع معه أن ندعوها (أولية) بالمعنى الصحيح، ومع أن أغلبها مجهرية الا أن كلا منها حيوان تام قائم بذاته يقوم بنفس العمليات الحيوية التي نقوم بها نحن، وتختلف عن الحيوانات العليا في عدم تكونها من الوحدات التي نسميها (خلايا) فهي إذن خلية واحدة مستقلة عديمة الأنسجة وعديمة الأعضاء (بحسب المفهوم العلمي لهذين الاصطلاحين) على أننا في كثير منها نعثر على تعقيد كبير في البنية الداخلية أكثر مما نقع عليه في الخلايا الاعتيادية التي تبنى منها أنسجة جميع الحيوانات الراقية، وبهذا الاعتبار نستطيع أن نقول أن المخلوقات الابتدائية هي مخلوقات حية تامة لم تكتسب التكوين الجسمي بعد.

ص: 67

بدء تكون الجسم

قال العالم الطبيعي (لويس إن أكبر فراغ وجد في العالم العضوي كان مابين الحيوانات الأحادية الخلية والمتعددة الخلايا وبعبارة أخرى ما بين الحيوانات الابتدائية وما وراء الابتدائية ولكن لم يبق ثمة فراغ بين الفرعين بتطور الاسفنجيات وأمعائية الجوف والديدان البسيطة وظهورها بأجسام للمرة الأولى. فكيف نعلل تكون الجسم وهو في خطوات التطور الكبرى؟. ليس في استطاعتنا أن نعلم كيف حدث ذلك على وجه اليقين إنما يمكننا أن نبسط هذا الرأي المستمد من دراسة عميقة وبحث دقيق، عندما ينقسم الحيوان الابتدائي إلى شطرين أو اكثر (وهي طريقة التكاثر التي يتبعها) تنتشر الانسال وتعيش مستقلة بعضها عن بعض؛ ولكن بعض الابتدائيات لا تنفصل أنسالها بل تبقى مرتبطة مع بعضها فالفولفوكس وهو حيوان كروي أخضر اللون جميل يوجد في بعض الأفنية، ما هو الا مستعمرة لألف أو عشرة آلاف خلية ومن مجموع هذه الخلايا نبدأ بتمييز الجسم. على أن خلايا الفولفوكس هي من نوع واحد بينما نجد في خلايا الحيوانات التي تلي الابتدائية تخصص في العمل مما يدل على رقيها في توزيع الأعمال. فالجسم يبدأ بالتكون من تجمع قسم من المادة الحية حول كل نواة، ويرتقي تكوينه كلما حصل توزيع في العمل وتميزت الخلايا الجرثومية (أو التناسلية) فيه عن الخلايا الجسدية.

اكتسابات عظيمة

إن تناظر الجسم العام في حيوانات كشقائق البحر وقنديل البحر يكون شعاعيا أي لا يوجد له جهة يمنى أو يسرى ويمكن تنصيف الجسم بأكثر من سطح واحد. وهذا النوع من التناظر ملائم جدا لحياة الارتكاز أو الانحراف مع التيار. على أن حياة الديدان كانت تتطلب الحركة فاستدق طرفاها وصار لها جهة أمامية وجهة خلفية وأصبحت أغلب الحيوانات من الديدان إلى الإنسان ذات تناظر جانبي تتميز في جسمها جهات أربع ولا يمكن تنصيفها الا بسطح واحد. لاشك إن هذا النوع الآخر من التناظر يلائم حياة أكثر نشاطا من الحياة التي تستلزم التناظر الشعاعي، لذلك كان في وسع هذه الحيوانات الجانبية التناظر أن تفتش عن طعامها وتتجنب الأعداء وتتربص لاقتناص الزوج أو الزوجة. وقد

ص: 68

رافق هذا التناظر تخصص القسم الأمامي من الحيوان للتحسس بالمؤثرات الخارجية، وهكذا تميز الرأس عن الجسم وكانت تلك خطوة أولى في تكوين الدماغ. ثم ارتقى الحيوان في مدارج التطور خطوات واسعة فكان له رأس نام فيه أعضاء للحس وتكون في جوفه سطوح داخلية واسعة كالجدار الهضمي ومناطق الامتصاص في قناة الطعام، ثم نمت فيه عضلات تتقلص وتنبسط فيه بسهولة، وأخيرا تأسس فيه نظام الدوران الذي جعل الدم وسيطا لنقل الأوكسجين والمواد الغذائية إلى كافة أنحاء البدن وحمل الإفرازات الضارة بالجسم لتفرز خارجا.

الهرمونات

وارتقت الحيوانات العظمية درجة أخرى بتكون غدد الإفراز الداخلي كالغدة الدرقية، والغدة الأدرينالية وغيرهما، وفائدة هذه الغدد تحضير مواد كيمياوية يوزعها الدم على جميع أقسام البدن، ولها أثر كبير في تنظيم العمليات الحيوية. وتعرف المواد الكيماوية التي تفرزها هذه الغدد باسم (هرمونات) التي تزيد في فعالية الأعضاء والأنسجة. إن بعض هذه الهرمونات تنظم النمو وتغير ضغط الدم وتركيبه بسرعة، والبعض الآخر يستدعي بعض أقسام البدن إلى النمو الفعال كغدد الحليب في الأم التي تتنبه بفعل بعض الهرمونات.

الموصل. تلخيص: بشير الياس اللوس

ص: 69

‌الاقيانوغرافيا

أو تقويم المحيطات

بقلم الدكتور حسين فوزي. مدير إدارة أبحاث المصائد

- 2 -

أرموريك بلاد الأنواء! رابضة في درعها الجرانيتي عند الطرف الشمالي الغربي من فرنسا بين المانش والأطلنطيق. نشأ حول أخاديدها وجوناتها وخلجانها قوم من المجازفة عركوا أهوال البحر جنوبي أسلندة وشرقي الأرض الجديدة. ومن تلك الخلجان والجونات خليج دوارنينيه تشرف عليه من نواحيه المحمية من الريح الصرصر غابات الصنوبر. وهو في أغلب أنحائه عار أجرد تحف به منازل صيادي السردين قائمة إلى جانب الكنائس البريتونية المنحوتة من الجرانيت. عابسة للمحيط عابس لها. صامدة للعواصف تتلقاها على أسنة أبراجها الغوطية. الوقت منتصف الليل وقد شهدت نسوة الصيادين عند غروب اليوم عودة النوارس فازعة من عرض البحر. فوجفن للعاصفة وارتفعت أبصارهن إلى صور العذراء وتماثيلها في أركان القرية وتحت أعطاف الكنيسة وفوق الأسرة الخشبية يتعوذن بها لتحمي أزواجهن وأولادهن وعشاقهن من هول النوء المهاجم. وفي أشد ما يكون صرير النوء تنصت نساء سانتان دي لايالود وأوديرن ودوارنينيه إلى أصوات نواقيس تتصاعد من أعماق الخليج. تلك نواقيس عاصمة كورنواي الغارقة. (أيس) حاضرة الملك جرالون حامي حمى المسيحية الأولى في أشخاص قديسيها رونان وكورنتان وجينوليه. من دون أبنته داهوت التي ركبت مركب الشيطان ففتحت المغاليق التي تحمي مدينة أيس من الاقيانوس. يصيح سان جينوليه (البحر يا مولاي. بادر إلى جوادك) فيمتطي الملك جواده. وتقفز داهوت خلفه. ويحاول عبثا أن يلحق بالقديس السابح بجواده فوق العباب.

- النجدة ياجينوليه!

- ألق تلك الملعونة في اليم أو أنت من الهالكين.

وإذ تبتلع الأمواج داهوت يواصل الملك سراه حتى يوقفه جينوليه فيتلفت خلفه باحثا عن عاصمة كورنواى فإذا (أيس) لا أثر ولا عين طغت عليها أمواج خليج دوارنينيه.

كذا جاءنا حديث الخرافة بخبر مدينة (أيس) الغارقة. وخبر غيرها من المدائن. ليونيس

ص: 70

وأسمايدا وسان يرندان.

ولو أن الأمر وقف عند حد الخرافة لارتحنا إلى قصص السندباد. وتهريف بعض كتاب العرب إذ يقصون نبأ الجزيرة التي ينزل إليها النواخذة فما أن يوقدوا نيرانهم حتى تميد بهم وإذا هي حوت هائل يتأهب للعودة إلى الأعماق. ولم نتساءل إن كان هذا حوتا أو تنيناً أو دابة من دواب البحر الأخرى على حد قولهم. ولكن فيلسوفنا له في نفوسنا إجلال وإعظام. هو أفلاطون ردد ما ذكر عن سولون من أنه عرف عن كهنة مصر بأمر جزيرة (أطلانطيس) الواقعة عبر أعمدة هرقليس في البحر المحيط وهي بلاد (أكبر من آسيا الصغرى وليبيا مجتمعين) غزا أهلها جميع شعوب البحر الأبيض الا شعب أثينا من تسعين قرنا خلت قبل ميلاد سولون. وعاد أفلاطون في موضع آخر إلى الإشادة بثراء (أطلنطيس) وحدّث بانخسافها في مياه الأقيانوس الغربي (الأطلنتي فيما بعد) فكانت عائقا للملاحة فيما وراء أعمدة هرقليس. أبى الخلف الذي يجل اليونان وفلاسفتها الا أن يصدق افلاطون فاعتقد بوفون ومونتيني وفولتير بحقيقة تلك البلاد المغمورة. وحاول الكثير أن يثبت أن الجزر السعيدة (الخالدات) هي البقية الباقية من (أطلانطيس) الجنة الأرضية. كذا كان هذا شأن الجزيرة التي قيل بأن القديس برندان عبر إليها المحيط. توجهت إليها بعثات الاستكشاف الأسبانية والبرتغالية حتى أتفق في سنة 1759 على أن جزيرة (سان برندان) لم تكن سوى سراب بحري. ولكم حدثنا جواب البحار بأحاديث بنات الماء معسولات النغم. يغررن بالنوتي فيلقى بنفسه بين أحضانهن فيحملنه إلى قصر ملك البحر في أعماق المحيط. وهو قصر (جدرانه من المرجان ونوافذه من أرق ما يكون القهرمان. سقوفه من أصداف تتفتح عن لآلئ. تظلله أشجار عجاب تسبح بينها أسماك ذات ألوان كأنها طيور لا تعرف الأسجاع).

وإذا كان النواخذة اهتموا بتعرف سطح المحيطات منذ أقدم العصور لأغراض الملاحة، فقد ظل باطن البحر سراً أمعنت في إغلاقه خرافات رواد البحار وأقاصيصهم بل وتلك المخلوقات الغريبة التي اصطنعوها اصطناعا ليدللوا بها على تهريفهم. ولا زلنا نذكر تلك السمكة التي اصطنع لها وجه قرد أو إنسان للتمويه بها على الناس بأنها من عجائب البحار. وقد رأيناها معروضة في متحف موناكو كأثر من آثار تلك العهود. ولم نذهب بعيدا

ص: 71

وما فتئ صياد البحر الأحمر يتحدث إليك عن أسماك ذات أظلاف وشوارب أو شعور وصدر ناهد. وليس العهد ببعيد إن نشرت إحدى كبريات صحفنا صورة وحش بحري كبير لاصقة به سمكة صغيرة قيل عنها بأنها (تقوده لضعف بصره وتسعى لغذائه) وكأني بها تقود أوديب الأعمى خارج أسوار طيبة. ليس من العسير إذن أن نكون صورة عن رأى الناس في أعماق البحار وسكانها في أواخر القرن الثامن عشر. وبيننا من لا يزال يعتقد (بالنص سمكة والنص بنى آدم) و (الهايشة) وما إليها من مخلوقات تبتلع المدائن في لمحة البصر بلّه الآدميين. فإذا كانت استكشافات الملاحين في القرنين الرابع والخامس عشر قضت على خرافة (أقيانوس) المحيط (باويقومينا) المحيط المتفجر عيونا وغدرانا وانهارا. ورحلات الكابتن كوك في أواخر القرن الثامن عشر أثبتت أن لا وجود لقارة جنوبية تصل أفريقيا بآسيا وتجعل المحيط الهندي بحرا داخليا فقد لبث الناس حتى القرن الثامن عشر جاهلين بأعماق البحار سوى النزر اليسير.

قيل في موت ارسطا طاليس أنه ألقى بنفسه في دوامات مضيق أوريبوس يأساً من تفهم تيارات ذلك المضيق. وهو موت (غير قمين لا بفيلسوف ولا بعالم اقيانوغرافي). الا إننا أقرب إلى احترام الرجل الذي يحمله على الانتحار يأسه من تفسير ظاهرة طبيعية منا إلى احترام بلينيوس وهو يقول منذ نحو الف عام (أي وهرقليس لا يعيشن في البحر ولا في المحيط مهما عظما مخلوق ليس لنا به علم. بل الحق العجاب أننا أعرف بتلك المخلوقات التي غيبتها الطبيعة في الأعماق منا بأي أمر آخر). فهذا الغرور وتلك الحماقة من عالم كبير ينمان عن روح لم يسلم منها بعض العلماء وهي روح خطرة في العلم سيئة الأثر على تقدم العالم. فذاك البلينيوس وهو لم يصف سوى نيف ومائة نوع من الأحياء البحرية (أي أقل مما وصفه أرسطاطاليس قبله) يتمشدق بمعرفته جميع الأنواع التي تعيش في البحار. ما عساه قائل لو علم بالآلاف العديدة من تلك الأحياء التي كشف عنها علماء البحار بعده؟

لم ينتحر هؤلاء العلماء يأسا من تفهم المحيطات كما زعموا عن ارسطاطاليس. ولم تتملكهم صفاقة بلينيوس فيشيدوا بعلمهم الواسع العريض ولكنهم جهزوا البعثات الاستكشافية ورعوا البحار منذ القرن الماضي إلى اليوم، يخرجون منها عجائب ليست من (الاطلانطيس) ولا

ص: 72

(أيس) في شيء ولا هي من بنات الماء وما إليها من خوارق. ولكنها بدائع ذلك الكوكب الذي نحيا على سطحه نسقتها الطبيعة تنسيقا يتفق وما أودعته فيها من قوى وما فرضته عليها من نواميس. وانا لنستسمحن القارئ أن نقدم إليه بعض أولئك الأعلام الذين أقاموا ذلك الصرح البديع بين قصور العلم. أعني صرح الاقيانوغرافيا. ولعل القارئ راغب معنا أن يعرف طرفا مما قاموا به في هذا السبيل.

اكتشافات وأسماء أعلام

كان العالم بواش في سنة 1752 ممن اعتقدوا بالطوفان فقال بأنه إذ غيض الماء كشف عن الجمال فالأودية. ولو واصل الماء هبوطه لظهرت أعماق البحار وديانا تتوسطها جبال أخرى، فالجبال المغمورة بمياه الاقيانوسات تكمل سلسلة جبال اليابسة. وهي تقسم البحار أحواضاً متصلة فوق قممها المغطاة بالماء. هذا النوع من التفكير قائم معظمه على أساس من المنطق ولكنه غير علمي إذ يتعدى ما يمكن استنتاجه من المشاهدات المباشرة. الا أن ما يعجبنا من بواش هو أن الاكتشافاتالاقيانوغرافية أثبتت أن قاع البحار أغوار سحيقة وجبال مرتفعة وأنه قد يمكن اعتبار تلك الجبال حلقات من السلسلة الأرضية. وأن في شواطئ بعض الجزر وانحدارها السريع إلى أعماق بعيدة ما يدعو إلى اعتبار هذه الجزر قناة جبال شمخت برأسها على سطح المحيط. وأن المحيطات مقسمة إلى أحواض تفصلها أسوار جبلية، وأن هذه الأحواض إن ظهرت متصلة فلأن مياهها تغطى أعالي فواصلها الجبلية. قال صيادو المرجان (البحر لا قاع له) فهزأ مراسيمي بقولهم ووعد لوعنى أحد الأمراء بتجهيز سفائن خصيصا لدراسة الأعماق. ومراسيمى رجل فرنسي مفكر يرتكز تفكيره على قواعد الموازنة والتقابل ولما كان مجرد وجود الجبل يعني وجود الوادي فقد استنتج أن الشواطئ الجبلية تعني انحدار الشاطئ عاجلا إلى الأعماق. ولم يقف مراسيمي عند هذا المنطق. بل عنى بدراسة الأعماق القريبة وقسمها بحسب أنواع رواسبها وكان أول من وضع خرائط الأعماق مبينا عليها نوع القاع من صخري ورملي وطيني. ولقد قيست درجة حرارة الماء تحت سطح البحر أثناء رحلات الكابتن كوك التي كشف فيها عن البحار الجنوبية. ولم يكن في المستطاع قياس حرارة الماء إلى عمق بعيد بدقة قبل اختراع ترمومترات النهاية الصغرى والنهاية العظمى وغيرها مما تسجل درجة الحرارة عند عمق

ص: 73

معلوم ثم تبقى على تسجيلها فلا تتأثر بطبقات الماء التي تخترقها وهي عائدة إلى سطح السفينة. الا أن دي سوسور تمكن في سنة 1780من قياس حرارة مياه البحر الأبيض على عمق600و1000 متر بواسطة ترمومتر أحاطه بموصل رديء للحرارة.

تصل بنا هذه الملاحظات التي ترددت بين التخمين والملاحظة المباشرة إلى أوائل القرن التاسع عشر حين انتشر نوع من الهواية هو عمل المجموعات الحيوانية والنباتية. وكان ذلك فاتحة عهد (الطبيعيين في الخلاء) أو أولئك الذين يجوسون بالأحراج والجبال والأودية يلاحظون الأحياء في وسطها الطبيعي وينتخبون منها مجموعات تمثل سكان المنطقة من حيوانات في ذلك العهد استعان دوناتي ومارسيلين على دراسة أحياء القاع الضحل قرب الشواطئ والمجرفة كيس شبكي يحيط بفوهته إطار من حديد ذي أسنه. تسحب على القاع فيجرف الإطار الحديدي حبات الرمل أو الطين ويتلقى الكيس مايجرف من تربة ومن أحياء تعيش على تلك التربة. وانتشرت المجرفة بين علماء أوربا فبدأ مملن أدوار باستعمالها في فرنسا سنة 1830 وفوربس في إنجلترا سنة 1832 وسارس في النرويج سنة 1835.

كان من أثر امتحان الرواسب البحرية بالميكروسكوب في إيطاليا في أواخر القرن الثامن عشر أن لوحظت ظاهرة كان لها أحسن الأثر في استثارة حب الاستطلاع البحري عند علماء القرن التاسع عشر، ذلك أنهم لاحظوا تشابها في الحفريات التي وجدها الجيولوجيون في باطن الأرض على أبعاد كبيرة من البحر. وبين مخلوقات بحرية تعيش قرب الشاطئ. . والحفريات كما يعلم القارئ بقايا أحياء انقرضت في غابر عصور الأرض. وهنا دخل في روع الباحثين أنهم لابد مهتدين في قاع البحار إلى نماذج حية من تلك المخلوقات التي لم يعثروا الا على آثار انقراضها في قطاعات الجبال والأودية، وامتد خيال العلماء (وما حرم العلماء ملكة الخيال) إلى يوم يكشفون فيه عن صورة حية لما كانت عليه الأرض منذ بضع ملايين من السنين. وكاد فوربس الاسكتلندي يقضي على هذا الحلم الشائق إذ أفتى بعد رحلة إلى بحر إيجة: بأنه لا أثر للحياة في البحار بعد عمق600متر.

ومع أن فوربس أدى إلى الاقيانوغرافيا اجمل الخدمات فهو أول من لاحظ بأن الأحياء البحرية تعيش جماعات لكل عمق معلوم جماعة خاصة منها تختلف عن جماعة عمق آخر

ص: 74

ومع انه وصف كثيراً من حيوانات الأعماق الضحلة حول الجزر البريطانية فقد كان خاطئا في زعمه أن لا حياة بعد عمق 600متر. وحصل سيرات على مخلوقات تعيش في البحر الأبيض على عمق 3000متر. وجاء عهد وصل البلاد بالأسلاك التلغرافية عبر قاع البحر فكانت سبباً في سبر أعماق بعيدة. وكان أبعد غور وصل إليه ثقل مقياس العمق في سنة 1840أثناء بعثة سير كلارك روس إلى القطب الجنوبي وهو 6000متر. وحدث في سنة 1860 أن قطعسلك من أسلاك التلغراف البحري على عمق 2500متر فوجدت عالقة به مخلوقات حية. كان طبيعيا أن تثير أمثال هذه الاكتشافات في جميع الشعوب الحية الرغبة في الاستزادة من تعرف أعماق البحار. وإذ علم ويفيل تمسون الاسكتلندي بأن سارس النرويجي عثر على عمق 600متر في فيورد لوفوتن على حيوان حي من فصيلة كانت تعد من الفصائل المنقرضة، توجه إليه لمشاهدة ذلك الحيوان. وكان ويفيل تمسون من أولئك العلماء الذين بنوا كبار الآمال على اكتشاف مثل حية من الفصائل المنقرضة في الأعماق البعيدة. فارتاد الاطلانطيق على ظهر السفينة (لايتننج) مرة والسفينة (بوركوبين) مرة أخرى. وسبر حتى عمق 4500مترا فوجد فيه مخلوقات حية منها ما يتصل بفصائل انقرضت منذ العهد الثلاثي والطباشيري. طارت شهرت ويفين تمسون في آفاق أوربا وأمريكا نتيجة اكتشافاته ولكنه بلغ قمة مجده حين ألقيت إليه مقاليد أكبر بعثة في تاريخ الاقيانوغرافيا. وهي بعثة (تشالنجر)

تشالنجر: (أعظم البعثات الاقيانوغرافية)

قامت تلك البعثة على ظهر (تشالنجر) وهي سفينة شراعية حمولتها 2306 طن. ذات محركات بخارية مساعدة. خرجت من الجزر البريطانية في سنة 1872 وعادت في سنة 1876 بعد أن قطعت 69000 ميل في الأطلنطيق والباسفيك، وصلت فيهما حتى الحاجز الثلجي للقطب الجنوبي. أسند قيادها إلى ويفيل تمسون وكان من أهم أعضائها جون موري وبكنان، وقيدت مشاهدتها في 362محطة حصلت منها على مجموعة ضخمة من الأحياء البحرية ونماذج المياه ونماذج القاع وسبرت حتى نيف و 8000 متر. ومهما أشيد بأبحاث من تقدموا (تشالنجر) فقد كانت هذه البعثة فتحا مبينا في دراسة المحيطات. ولا غرور أن تؤرخ الاقيانوغرافيا تبعا لها فيقال عهد تشالنجر وما قبله وما بعده.

ص: 75

استغرقت دراسة النماذج التي جمعتها البعثة 20عاما كانت فيها أدنبرة محط رحال العلماء من كل صوب. يتقاسمون شرف دراسة تلك المجموعات التي وزعت عليهم دون نظر إلى جنسيتهم. لذا ظهرت مجلدات هذه البعثة الخمسين متوجة بأسماء أكبر علماء الحيوان والنبات والجيولوجيا والكيمياء والطبيعة. وبرغم السنين وتقدم الأبحاث الاقيانوغرافية وابتداع الآلات الدقيقة فلا تزال تلك المجلدات مرجعا من أهم مراجعنا. وما تزال دراسة السير جون موري والأب رينار لرواسب المحيطات أكبر عمدة لمن يختصون بهذا النوع من الدراسة. ليس في مكنتنا ونحن نستعرض سراعا بعثات الاستكشاف الاقيانوغرافي أن نقف طويلا ببعثة تشالنجر. وستعرض لنا فرص عديدة للعودة إلى نتائجها. ونكتفي هذه المرة بتلخيص جد مقتضب لتلك النتائج.

بعض نتائج رحلة (تشالنجر)

- وضع خرائط لأحواض المحيطات والقضاء على المبالغات التي شاعت عن أعماقها وكان أبعد عمق سبرته البعثة نيفاً و 8000 متر في شمال الباسفيك

- ثبات أن لا علاقة لحرارة مياه المحيطات بتغير الفصول بعد عمق 200 متر.

- اكتشاف درجة حرارة ثابتة للمياه العميقة في مساحات واسعة من المحيط، من ذلك أن اكتشفت البعثة ثبات حرارة مياه الاطلانطيق الشمالي بعد عمق 4000 متر عند درجة5و2 سانتجراد. كما أن حرارة مياه القاع في الباسفيك ثابتة عند درجة - 83و0 سانتجراد.

دراسة كثير من تيارات السطح والأعماق في المحيطات.

- محاولة فهم تكوين الشعاب المرجانية. وقد تعارضت نظرية موري (وهي المؤسسة على نتائج بعثة تشالنجر) ونظرية داروين في أصل تكوين هذه الشعاب. ولا تزال المعضلة قائمة إذ لم يصل أحدهما إلى نظرية مقنعة. ولعل بعثة (السير جون موري) في المحيط الهندي تلك البعثة التي تقوم على ظهر السفينة الأقيانوغرافية المصرية (مباحث) توفق إلى تفسير مقنع.

- إصلاح الخرائط الجغرافية فيما يختص بكثير من الجزر والشعاب.

- تقدم المعارف الحيوانية تقدما كبيراً وخصوصا ما عرف عن فصيلة الأحياء ذات الخلية الواحدة من (الراديولاريا) و (الجلوبيجرنيا). واكتشاف مئات من أنواع الإسفنج منها ذلك

ص: 76

الحيوان البديع الذي أطلق عليه اسم (سلة أزاهيرفينوس)

- أثر الأعماق على الحياة. ففي الظلام الدامس الذي يغمر تلك الأعماق تعيش مخلوقات كف بصرها أو لا عيون لها أصلا. وأعاضتها الطبيعة أعضاء فسفورية تضيء سبيلها في الغياهب.

تلك بعض نتائج بعثة (تشالنجر) نمر بها سراعاً على كره منا فقد كانت حادثا له خطره في عالم العلم. وكانت الأقيانوغرافيا في مهدها فنشأت ودرجت وتقدمت بخطوات الرجال في الماضي القريب إلى حد أن الدهشة تعرونا إذ نعلم أن آخر مجلد من تقارير البعثةصدر في سنة 1907 وأن بكنان أحد أعضاء البعثة لا يزال حيا. وان السير جون موري قتل في حادثة سيارة سنة 1914وكان قد حبس مبلغ 20الف جنيه يصرف في سبيل بعثة جديدة. وتشاء الصدف أن يقترن اسم مصر باسم السير جون موري إذ تقوم هذه البعثة على ظهر السفينة المصرية (مباحث) في سبتمبر المقبل رافعة العلم المصري.

بعثات أخرى

كانت (تشالنجر) نتيجة منطقية لتلك الحركة الواسعة التي اتجهت منذ القرن الثامن عشر إلى دراسة الطبيعة. وقد وافق قيام هذه البعثة ونجاحها تلك اللحظة العظيمة في تاريخ الإمبراطورية البريطانية حين بلغت تلك الإمبراطورية في أواخر القرن الماضي أوج عزها وشأو رفعتها. وبعثة (تشالنجر) إن امتازت فلا تمتاز بانفرادها، ولا بأسبقيتها ولكن بأنها طمحتطموحا كبيرا وحققت مطمحها. بيد أن أمريكا وجهت بعثة إلى الباسفيك معاصرة لتشالنجر. معاصرة لها أيضا رحلة السفينة الألمانية (غزال) حول الأرض. والبعثة النرويجية إلى شمال الاطلنطيق. معاصر لها العلامة الاقيانوغرافية اسكندر أجاسيز. وهو سويسري مولدا ونشأة هاجر إلى أمريكا ورفع علمها العلمي على السفينة (بليك) والسفينة (الباتروس).

ولم تقف فرنسا ولا إيطاليا وراء الصفوف بل قامت الاولى بقسطها العلمي على ظهر (ترافيور) و (تالسمان) في شرق الاطلنطيق من سنة 1880 إلى سنة 1883. وأدت الثانية واجبها نحو البحر الأبيض المتوسط بواسطة السفينة (واشنجتن) وطوفت سفينتها (فيتور بيزاني) حول الأرض.

ص: 77

حتى تلك الأمارة السعيدة. الضاحكة وسط ابتسام الرفييرا قدر لها أن يجلس على عرشها أمير عالم من سلالة الجريما لدى الأبطال. هو البير الأول أمير موناكو. ارتاد المحيطات بين سنة 1885 حتى وفاته في سنة 1922 على يخوته الفخمة (أيروندل) الاولى والثانية و (برنسيس أليس) الاولى والثانية. وهو صاحب الأيادى البيضاء على الأقيانوغرافيا إذ ابتنى لها معهدا في قلب الحي اللاتيني بباريس. ومتحفا على صخرة موناكو العالية هو كعبة القاصدين، سواء من العلماء لدراسة مجموعاته النادرة أو من أهل اللهو فيمونت كارلو لمشاهدة الاكواريوم.

وسواء كانت روسيا بالسفينة (فتياز) التي طافت حول الأرض. أو النمسا بالسفينة (بولا) التي درست الحوض الشرقي للبحر الأبيض واخترقت قناة السويس وجابت البحر الاحمرأو نانسن على ظهر (فرام) في المحيط المنجمد الشمالي. أو الدانمارك بسفينتها (أنجولف) فلم ترض لنفسها دولة من الدول الحية (تلك الدول التي يعتقد كثير منا أننا ساويناها أو نكاد لبضع طرقات فتحناها أو مباني أقمناها أو أعلام وضعناها على غير مسميات) أن تتقاعس في القيام بواجبها نحو نفسها ونحو الإنسانية جمعاء. كلا لم تتريث بلجيكا عن توجيه بعثتها إلى القطب الجنوبي بين سنة 1897 وسنة 1899. ولم تتوسد ألمانيا أوراق غار هابل بل عادت إلى كتابة اسمها في تاريخ علوم البحار إذ وجهت (الفالديفيا) إلى الأطلانطيق والمحيط الهندي والمحيط المنجمد الجنوبي ما سمحت ثلوجه. كلا ولا هولندة التي أضافت جوهرة إلى تاج العلم ببعثتها على ظهر (السيبوجا) حول جزر الهند الشرقية (سنة 1899 - سنة 1900). وكما اختتم القرن الماضي بتلك الدول وهي في ميدان العلم أفراس رهان فقد افتتح القرن العشرين ببعثات أخرى تحمل أسماء مجيدة. ويكفينا ختاما لهذا المقال أن نذكر أسماء الدول التي اشتركت في دراسة المحيطات منذ أوائل هذا القرن. فهي هي موناكو وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وإنجلترة والنرويج والد نمارك وهي هي دواما وتكرارا.

ص: 78

‌القصص

إلى الواحات الخارجية

جنة الصحراء الغربية

(وجزيرة الناعمين) في عرف قدماء المصريين

من الأصقاع الجديرة بالزيارة في مصر الواحات الغربية تلك التي نجهل عنها كل شيء ولا نذكرها الا في مقام التشويه أو العقاب أو النفي كأنها شقة من الجحيم. فكرت في زيارة تلك الناحية المنبوذة لأرى ما فيها من رهبة ووحشة فإذا بي أنتقل إلى جنة يانعة هواؤها رائق عليل، وتمرها وافر عميم، وماؤها دافق غزير، يحف بكل أولئك كثبان من الرمل الناعم النقي تعلو ورائها نجاد صخرية تمتدإلى الآفاق مما جعل الواحة في ظني خير مزار في الربيع وشطر من الشتاء. أقلني إليها القطار من مصر إلى مواصلة الواحات في عشر ساعات وهناك انتقلت إلى قطار الواحات الصغير الذي سار بنا بين ست ساعات وسبع إلى الخارجة فأخذ ذاك القطار يشق طريقه وسط الحقول الزراعية مسافة هي دون خمسة كيلومترات بعدها بدأ يصعد تدريجيا وقد استحال الطمي الراسب على الأرض رمالاً. وعند الكيلو السادس وقفنا بمحطة: القارة وهي محطة عند اتصال الهضبة الصحراوية بالسهول الفيضية الخصبة. بعدها أوغل القطارفي الصحراء صاعدا وسط واد مجدب ظل يختنق تدريجيا وتقارب القطار جوانبه الصخرية المشرفة حتى إذا قاربنا الكيلو 40 كنا فوق هضبة تنتثر بالحصى. وكلما قطعنا ثلاثين كيلو مترا كنا نقف في محطة موحشة ليأخذ القطار منها الماء ولا يقطنها من الآهلين نفر. وبعد نصف الهضبة دخلنا شبه وادي فسيح غير محدود الجوانب يسميه القوم (وادي البطيخ) لأنه يغص بكرات الصخر المسودة في أحجام مختلفة فتبدو وكأنها البطيخ. وعند الكيلو 146 بدأنا نهوي خلال مجرى جاف جوانبه رائعة وكان الهبوط سريعا وعرا حتى أن القاطرة حبست بخارها فكانت تهوى المسافة كلها بقوة انحدار ليس غير، ولبثنا نتلوى ليات متعاقبة وسط ذاك الصخر المجدب حتى خرجنا إلى سهل أدى بنا إلى محطة: المحاريق: عند الكيلو 165 وهي بدء الوهدة التي تتوسطها الواحات ولذلك كنا نبصر على بعد بقاعا تزينها الخضرة في شبح فاتر.

ص: 79

والمحار يق محلة لابأس بمبانيها. كانت قد اتخذت مقرا للنفي الإداري وكان يرسل إليها المحكوم عليهم من كافة الطبقات حتى علية القوم من المغضوب عليهم وكانوا يتركون أحرارا بعائلاتهم يتجولون إلى حدود معينة ورائها يقف الهجانة لكيلا يتجاوز المجرمون الحدود، والفقير منهم كان يكلف عملا يؤجر عليه خمسة قروش في اليوم، لكن الحكومة رأت في النفي أداة للتشفي والانتقام وبخاصة من العمد الذين كانوا يسعون إلى نفي من يكرهون. هذا إلى المبالغ الطائلة التي تكلفتها الحكومة في الإنفاق على النفي لذلك قررت إلغاءه.

قمنا إلى محطة الشركة: وسميت كذلك لأنها كانت المستودع الرئيسي لشركة سكة حديد الواحات وكانت شركة إنجليزية سعت بمجهود كبير أن تبيع متاعها للحكومة لأنها خسرت خسائر فادحة ولم يسد الخط شيئاً يذكر من نفقاته وتمت الصفقة سنة 1909 ودفعت الحكومة ربع مليون جنيه فأيدت بذلك ما يعلمه الأجانب عن سخائنا العميم. وهي لا تزال تخسر فيها كل عام، إذ من إيرادها البالغ أربعة آلاف جنيه يخص خط الواحات ألف جنيه وهذا المبلغ لا يذكر بجانب النفقات. وجل الإيراد وقف على البلح في شهور الصيف.

أخيرا عند الكيلو 195 دخلنا محطة الواحات الخارجة وقادني الغلام إلى نزل بديع ما كنت أتخيل وجوده في تلك الناحية النائية هو (فيلا) أنيقة تزينها الأشجار الباسقة وتحوطها كثبان الرمل الناعمة. يديرها مصري يدعى (مصطفي عمر) ويقوم على خدمة النزلاء والسائحين خير قيام، ولقد تصفحت سجل الزائرين عنده فكان من بينهم الكثير من الوجهاء، مصريين وأجانب وبينهم بعض الأمراء. على أني أسفت لما علمت أن الرجل لا يكاد يتكسب من وراء عمله هذا شيئاً ولا تكاد تساعده مصلحة السكة الحديد بشيء حتى ولا بزيادة الدعاية لمنطقة الواحات وتخفيض أجور السفر إليها كي يزيد إقبال السائحين عليها كما كانت الحال في عهد الشركة الإنجليزية التي كانت تروج للواحات فكان عدد من يؤمها يفوق المئات سنويا، أما اليوم فلا نكاد نحن المصريين نسمع عن الإقليم شيئاً رغم ما فيه من جاذبية كبيرة.

قمت أتجول في المدينة فبدأت بزيارة آثارها التاريخية فالواحة كانت عامرة أيام قدماء المصريين، وابان حكم الرومان ولعل اجل آثارها: معبد هيبيس الذي بناه دارا الأول في

ص: 80

القرن الخامس قبل الميلاد تمجيدا لآمون، والمعبد عظيم الامتداد شامخ العمد فاخر البنيان يكاد يحاكي معابد الكرنك. وهناك مدافن رومانية قديمة بها بضع مئين من المقابر أقامها الروم من اللبن في قباب صغيرة تزينها في البعض صور القديسين وفي البعض الآخر أشباه البوائك والأعمدة. وسكان الواحات يمتون بصلة إلى المصريين القدماء وإلى الرومانيين، وقد لاحظت ذلك في سحنهم المصفرة وتقاطيعهم النحيلة الممطوطة، ولا يزال للعائلات الرومانية الصرفة هناك بقية في اثنتين: عائلة الصنديدية، عائلة الأدارسة. ويمتازون بأدمغتهم المنبطحة من نواصيها. والعجيب أن أهل البلاد اعتنقوا الإسلام جميعا فلا تجد منهم مسيحيا واحدا ويظهرانهم اسلموا مجبرين وكانوا يعتصمون بالصحراء هروبا من أراضى الريف وما أثقلها من ضرائب إبان حكم المماليك، وهم لا يزالون يحتفظون بالكثير من الشعائر المسيحية رغم انهم مسلمون، فمثلا شاهدتهم يعدون سعف النخيل الأبيض لضفره في أشكال عدة احتفالا (بحد الزعف) على نحو ما يفعل إخواننا الأقباط هنا. وبينهممسجد ذو مئذنة قصيرة كان من قبل كنيسة.

ومن أعجب ما راقني مباني القوم ومساكنهم فهي من طابق واحد أو أثنين تبنى باللبن وتتجمع كلها في كتلة واحدة تشقها سراديب سقوفها واطئة لا يستطيع الإنسان السير فيها الا منحنيا ولياتها من الأعاجيب، ولا تتخللها فتحات أو نوافذ قط، لذلك كانت حالكة الظلام في رائعة النهار، ومنها ناحية يسمونها (الهدرة) أرضها صخرية زلقة مغضنة وعرة. وسط ذاك الظلام الدامس زلقت قدماي فيها مرتين. ولقد كانت تلك السراديب وسيلة من وسائل الدفاع ضد غارات البدو والدراويش الذين طالما باغتوا البلاد بغاراتهم، فكان الواحد من الآهلين يعتصم بتلك المفاوز ليمنع العدو من اختراق حرمة داره، وفوق ذلك فهي تقيهم وهج الشمس المحرقة صيفا، ولما رأت مصلحة الصحة اليوم ما يخلفه ذلك الضيق والظلام من الأوساخ وخطر الأمراض، فتحت خلال الطرق كوى صغيرة في مسافات متباعدة أنارتها اليوم بعض الشيء على إني رغم ذلك كنت أسير في سراديب كأنها السرابيوم أو التيه ظلاما ووحشة، وكثيرا ما كنت اصطدم بالمارة خصوصا عند مفاجآت الثنيات العديدة لتلك المفاوز. وقد استرعى نظري السقامون وكلهم من مكفوفي البصر، يسيرون في تلك الطرق بخفة عجيبة وعلى ظهورهم قرب الماء، ولا يخطئون البيوت ولا تزل أقدامهم أبدا. ولقد

ص: 81

أضافني رب بيت من تلك البيوت، فكنت أتوقع أن أوي إلى كوخ صغير أو قاعة وسط تلك المطاوي الحالكة، ثم دخلنا البيت من كوة صغيرة وأشد ما كانت دهشتي عندما رأيتني وسط بيت مشيد البناء طلي بالملاط ورصف بالبلاط على نحو ما نقطن هنا في مصر.

والعيون والينابيع منثورة في الواحات في كثرة لا يكاد يحصيها العد حتى قيل أن في الواحة الخارجة وحدها ثمانمائة عين بين صغير وكبير، وهذا الماء الغزير يتفجر من طبقة من الخراسان الرملي على عمق يتراوح بين 100و150مترا والواحات في وهدة متوسط ارتفاعها عن سطح البحر يزيد على خمسين مترا وتحف بها النجاد الجيرية والطباشيرية من جميع الجوانبتعلو في مدرجات أعلاها فوق أربعمائة متر وبخاصة ناحية الغروب وزرعتلك الواحة 300ك م في الطول وبين 30و80 في العرض. ومن صدوع ذاك الصخرالجيرى تتفجر العيون العديدة، وغالب العيون كانت مستغلة في عهد الرومان فكانوا يحفرون حولالعين متسعا إلى عمق كبير ويضعون منقور الخشبوجذوع النخل في شكل الأنابيب لحصر الماء، ثم تطمر الحفرة، ويستدل القوم على وجود العيون كلما رأوا منخفضا رطبا يبدو نزر الماء فيه، وتجاوره ربوة.

ص: 82

‌بلياس ومليزاند

للفيلسوف البلجيكي موريس ماترلنك

ترجمة الدكتور حسن صادق

بلياس - أخاف عليك السقوط. . . سأمسك يدك. . .

مليزاند - لا تفعل. أريد أن أغمس يدي في الماء. . . من ينظر إليهما، يظن أن بهما اليوم مرضا!

بلياس - أوه! أوه! حذار، حذار من الوقوع في الماء! مليزاند! أوه! شعرك!

مليزاند - (تنهض) لا أستطيع أن أبلغه!

بلياس - شعرك انغمس في الماء

مليزاند - نعم. انه أطول من ذراعي. . . انه أطول منى (سكوت)

بلياس - لقد وجدتك على حافة عين مثل هذه تبكين. أتذكرين؟

مليزاند - نعم

بلياس - وماذا قال لك؟

مليزاند - لاشيء. . . . لم أعد أذكر. . . نسيت كل كلماته

بلياس - وهل دنا منك؟

مليزاند - نعم. وأراد أن يقبلني

بلياس - وأنت؟ هل أرضيت رغبته؟

مليزاند - كلا

بلياس - ولماذا؟

مليزاند - أوه! رأيت في قاع الماء شيئاً يتحرك!

بلياس - كدت تسقطين في الماء!. . . بماذا تعبثين؟

مليزاند - بالخاتم الذي أعطاني إياه

بلياس - لا تلعبي به فوق هذا الماء العميق

مليزاند - يداي لا ترتعدان

بلياس - ما أشد بريقه! لا تقذفيه في الفضاء هكذا!

ص: 83

مليزاند - أوه!

بلياس - هل سقط؟

مليزاند - سقط في الماء!

بلياس - أين هو! أين هو؟

مليزاند - لم أره أثناء وقوعه

بلياس - أعتقد أني أراه يشع في الماء بريقا

مليزاند - خاتمي؟

بلياس - نعم. نعم. . . انظري جيدا

مليزاند - أوه! إنه منا بعيد! لا. لا. ليس إياه. . . لقد فقد وغاب عن البصر. . . لم يعد إلا دائرة كبيرة على سطح الماء. . . ماذا نصنع الآن؟

بلياس - لا تجزعي من أجل خاتم. هذا أمر ضئيل الشأن. سنجده أو نجد غيره

مليزاند - كلا لننجده ولن نجد غيره أيضا! كنت أعتقد أنه في يدي. . . وكانت يدي حريصة عليه، ولكنه وقع في الماء على الرغم من هذا الحرص. . . قذفته في الفضاء بقوة شديدة كأني أردت له أن يبلغ الشمس!

بلياس - تعالي سنعود للبحث عنه في يوم آخر. . تعالي لقد حانالوقت. سيبحثون عنا بعد قليل. . . سمعت ساعة البرج تدق اثنتي عشرة مرة تعلن إلى الناس منتصف النهار، وقد سقط الخاتم في الماء قبل أن تتلاشى الضربة الأخيرة في الهواء!

مليزاند - ماذا نقول لأخيك (جولو) إذا سأل عنه؟

بلياس - الحقيقة، الحقيقة، الحقيقة! (يخرجان)

المنظر الثاني

(غرفة في القصر، جولو راقد على فراش ومليزاند جالسة بالقرب منه)

جولو - آه آه: خلي عنك الجزع فليس ما أصابني بذي خطر إني في حال حسنة ولن يكون لجراحي أثر سيئ. . . ولكن لا أستطيع تفسير ما حدث! كنت أصيد في الغابة مبتهجا هادئا. . . . ثم جمح جوادي دفعة واحدة دون أن أعرف السبب. . . هل رأى شيئاً غريبا مخوفا أدخل على نفسه الرعب والفزع؟. . سمعت ساعة البرج تدق اثنتي عشرة مرة تعلن

ص: 84

إلى الناس منتصف النهار، وقبل أن تتلاشى الضربة الأخيرة في الهواء، أقبل الجواد فجأة وجرى كغرير مجنون. . . . وظل في عدوه حتى صدم شجرة غليظة. . . وقعت على الأرض، وأعتقد أن الجواد وقع على صدري. . شعرت في تلك اللحظة بأن الغابة كلها تثقل علي وتنتزع مني الحياة في ألم مبرح. . . وأيقنت أن قلبي يتمزق. . . ولكنه والحمد لله سليم في مكانه. . . لا تجزعي ولا تخافي. ستلتئم الجراح وتعود إليّ العافية الشاملة

مليزاند - أتشرب جرعة من الماء؟

جولو - ليس بي ظمأ. شكرا لك

مليزاند - أتريد مصدغة أخرى؟. . . أرى على هذه نقطة صغيرة من الدم

جولو - كلا. لست في حاجة إلى مصدغة أخرى

مليزاند - أصدقني القول يا جولو، هل تتألم من جراحك كثيرا؟

جولو - كلا. كلا. ليست هذه أول مرة تصيبني فيها الجراح. . . خلقت من حديد ودم

مليزاند - أغمض عينيك وتملق النوم. سأقضي الليل كله بجوارك

جولو - جنبي نفسك التعب فلست في حاجة إلى شيء. سأنام كالطفل الوديع. . . ماذا جرى؟ مليزاند! لماذا تبكين دفعة واحدة

مليزاند - (تستخرط في البكاء) إني. . . إني مريضة

جولو - مريضة؟! ماذا بك؟

مليزاند - لا أدرى. . . الحياة هنا تغمز على المرض. . . آثرت أن أقول لك ذلكاليوم. . . لست بسعيدة هنا

جولو - ماذا حدث؟! هل أساء إليك أحد؟

مليزاند - كلا. ليس هذا ما أعنيه. . .

جولو - إنك تخفين عني شيئاً في أغوار نفسك. أنفضي إلى جملة حالك. من الذي يكدر عليك صفو حياتك؟ أهو الملك، أم أمي أم أخي بلياس؟

مليزاند - لا أحد يكدر علي صفو الحياة. إنك لا تستطيع إدراك نفسي. . . شيء أقوى مني. . .

جولو - لا تسلمي زمام نفسك إلى أوهام تبلبل بالك وتشقيك. ماذا تريدين أن أفعل؟! هل

ص: 85

عدت طفلة غرة تتلاعب بلبك أفكار الخيال؟! هل زهدت في زوجك ورغبت في هجره؟

مليزاند - أوه كلا. ليس هذا هو. . أتمنى أن أذهب معك. . . لا أريد أن أعيش هنا بعد اليوم. . . أشعر بأن عمري قصير ولن أستمتع بالحياة طويلاً!

جولو - ولكني أريد أن اقف على علة ذلك. . . سيعتقد الناس إذا سمعوا قولك، أنك فقدت رشدك، أو أنك طفلة يغرر بها حلم ساذج. تكلمي أهو بلياس الذي. . .؟ يقيني انه لا يتحدث إليك كثيرا

ص: 86

‌الكتب

الفجر - مجموعة من الشعر

يا ويح مصر من الشعر والشعراء! يا ويحها من هذا الشعر الزائف الذي يملأ الصحف والدواوين! فكل من اهتزت في يده يراعة في هذا البلد يريد أن يكون شاعرا، حتى غصت بالشعراء حجرات المدارس!! الشعر في كل أقطار الأرض عبقرية لا يسمو إليها إلا الأقلون، أما في مصر، فهي ألعوبة اللاعب ولهو اللاهي.

عندي أنه إن لم يرتفع ديوان الشعر بقارئه إلى مستو أعلى من مستواه الشعوري والفكري، بحيث لو كان هائما في الأرض حلق به في السماء، وان كان القارئ في السماء الأولى، سما به الشعر إلى السماء السابعة، أقول إن لم يكن الشعر كذلك، فأولى به أن يحبس في صدور قائليه، فلا يجد سبيلا إلى المطابع والمكاتب ثم إلى رؤس القراء. أما هذا الهراء الذي يتردد كل يوم، في كل صحيفة وفي كل مجال، فيجب أن ينبذ، لأن الحياة أثمن من أن تضيع في مثله، وأقسم بالله لو أن الأمر بيدي، لأنزلت العقاب (العقاب الأبى على الأقل) بهذه الفئة المتشاعرة التي ضقنا بها ذرعا.

أقول ذلك بمناسبة الديوان الذي أطلق عليه صاحبه اسم (الفجر)، ودفعه إليَّ الأستاذ الزيات لأقرأه وأعلق عليه، فانطلقت أبحث فيه عن شعور قوي واحد أو فكرة عالية فلم أجد! فيم إذن قيل، وفيم طبع ونشر، لست أدري. استمع إليه حين يقول في استقبال صديق:

مرحبا، مرحبا، بخير صديق

غاب عنا عاما فخلناه دهرا

مرحبا، مرحبا، بخير صديق

كان من أصدقائه مزورا

رام بعدا عنا، ورام خصاما

فجفانا واستبدل الوصل هجرا

بينما نحن لا نطيق فراقا

لصديق، وان تباعد شهرا

وبعد فأنى أتوجه بالرثاء والاشفاق، لا إلى مؤلف الديوان ولكن إلى قرائه: فهو شعور ضعيف في لفظ ركيك، سيئ الطبع خشن الورق.

ز. ن. م

القصاص

ص: 87

هذه القصة من تأليف الكاتب الإنجليزي المعروف جون جالزورثي وهي من أشهر قصصه إن لم نقل أنها أقوى قصة له على الإطلاق. وقد نقلها إلى العربية الأستاذان صالح بكتاش والسيد كامل الشرقاوي.

يهاجم المؤلف في هذه القصة العدالة كما تفهمها القوانين الصارمة التي لا تحتسب للمشاعر المختلفة والمواقف المتباينة حسابا. فهي مأساةتدور حول زوجة لاقت من زوجها الغليظ عيشة مريرة. ومع ذلك فلا يبيح لها القانون أن تنفصل عنه لتتزوج من شاب آخر أحبها وأحبته. كذلك انتقد المؤلف نظام السجون وبين كيف أنها أقرب إلى إفساد النفوس الطيبة منها إلى إصلاح النفوس الشريرة.

ونحب إن نلاحظ انحرافا في ترجمة عنوان القصة، فقد كان أولى ان يكون العدالة أو القضاء لأنهما أصدق تعريبا من هذا العنوان الحالي.

ز. ن. م

1.

القوميات

2.

روح المبدأ والوطن

هما مجموعتان من الشعر نظمهما الأديب السوري حسن حفار وهما كما يدل عليهما العنوانان، يفيضان بحماسة الشباب وقوة الوطنية وسمو الطموح، فلا يسعك حين تلاوة ما يحويان من شعر الا أن تحس مع الشاعر نزعة وثابة إلى الحرية والعزة القومية كما تلمح حنينا ظاهرا إلى الأقطار العربية عامة.

ولكننا يجب أن نشير إلى ضعف في اللفظ يسود الكتابين. ونرجو أن يتاح لهذا الشعور المتدفق لفظ يناسبه قوة وجزالة.

ز. ن. م

1

ص: 88