الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 160
- بتاريخ: 27 - 07 - 1936
الطَّماطم السياسي.
. .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
كان (م) باشا رحمه الله داهية من دهاة السياسة المصرية. يلتوي مرة في يدها التواء الحبل، ويستوي في يدها مرة استواء السيف، ولا يرى أبداً منكمشا متحرزاً كأن له عدواً لا يدري أين هو ولا متى يقتحم عليه، ولكنه كغيره من الرؤساء الذين كانوا آلاتٍ للكذب بين طالب الحق وغاصب الحق - يعرف أن عدوه كامنِ في أعماله. وكان ذكياً أريباً، غير أن ملابسته للسياسة الدائرة على محورها - جعلت نصف ذكائه من الذكاء ونصفه من المكر. فكان في مراوغته كأن له ثلاثة عقول: أحدهما مصري والآخر إنجليزي والثالث خارج من الحالين
وبهذا تقدم وعاش أثيراً عند الرؤساء من الإنجليز، واستمرت مجاريه مطردةً لديهم حتى بلغوا به إلى الوزارة إذ كان حسنَ الفهم عنهم سريع الاستجابة إليهم؛ يفهم معنى ألفاظهم، ومعنى النية التي تكون وراء ألفاظهم، ومعنى آخر يتبرع هو به لألفاظهم. . . فكان هو وأمثاله في رأي تلك السياسة القديمة رجالاً كالأفكار، يوضع أحدهم في مكانه من الحكم كما توضع صيغة الشك لإفساد اليقين، أو صيغة الوهم لتوليد الخيال، أو صيغة الهوى لإيجاد الفتنة
وكان صديقي (فلان) رحمه الله صاحب سره (السكرتير) وقد وثق به الباشا حتى إنه كان يعالِنه بما في نفسه، ويبثه همومه وأحزانه، ويرى فيه دنيا حرة يخرج إليها كلما ضاقت به دنيا وظيفته، ويستعير منه اليقين أحياناً بأنه لا يزال مصرياً لم يتم بعد تحويله في الكرسي. . . .
فحدثني الصديق بعد موت هذا الباشا قال: إنه دعاه يوماً ليفاتحه الرأي في أمر من أموره، ثم قال له: إن الرئيس الإنجليزي غير مطمئن إليك لأن حقيقة من الحقائق الصريحة ظاهرة على وجهك فأنت تنظر إليه وكأنك تقول له بعينيك إنك مصري مستقل
قال صاحب السر: لئن كان ذلك ما يغضبه إن الخطب لهين، فلست أنظر إليه بعد اليوم إلا من وراء نظارة سوداء. . . .
فضحك الباشا وقال: يا بني هذا الإنجليزي عندنا كالشيطان (إنه يراكم هو وقبيله من حيث
لا ترونهم)، ووالله يا بني إني لأشد أنفَةً منك وأن صدري لشجيُ مما أنا فيه من هذا الكرب، ولكننا نحن الشرقيين قد ضعنا منذ فقدنا الشخصية الاجتماعية
أتراك تفهم شيئاً لو قلت لك: رجل، أسد، جبل، مدينة، أسطول؟ أن تركيبنا الاجتماعي شيء كهذا الكلام فيه من ضخامة اللفظ بقدر ما فيه من انحلال المعنى واضمحلاله. ولكل كلمة إذا أفردت معنى صحيح يقوم بها وتقوم به غير أنه يتحول في الجملة إلى معنى كلا معنى
أصبح الشرقي يعيش في أمته على قاعدة أنه منفرد لا صلة بينه وبين الأطراف لا في الزمان ولا في المكان. ونسى معنى الحديث الشريف: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً) فماذا كان يريد أعظم المصلحين الاجتماعيين من قوله (كأنك تعيش أبداً) إلا أن يقرر لأمته أن الفرد ينبوع الأجيال المقبلة كلها فليعمل لها ولنفسه كأنها موقوفة عليه وكأنه مستمر فيها
هذه حكمة إسلامية دقيقة عندنا نحن لفظها ولسنا نعرف معناها، وعند الإنجليز معناها ولا يعرفون لفظها. أهم المسلمون أم نحن؟
وعلى قاعدة الانفراد انفرد كل شيء، فآثر الشرقي حياته على وطنه، وقدم لذته على واجبه، وتعامل بالمال في مواضع المعاملة بالأخلاق؛ وكان طبيعياً مع هذا أن يختصر الدين اختصاراً يجعله مقداراً بين مقدارين فلا هو دين ولا هو غير دين، وبذلك يناسب فرديته ويقعد تحت حكمه وهو خارج عليه. فترى الرجل من هذه الملايين يؤمن بالله وهو يحلف به كذباً على درهم، ويصلي ويفجر في يوم واحد، ويتعبد في نفسه ويخون سواه في وقت معاً
ومتى كانت الحالة النفسية للأمة هي هذه الفردية ومصالحها ودواعيها كان الكذب أظهر خلال هذه الأمة، إذ هو انفراد الكاذب بحظه ومصلحته وداعيته؛ ولا يكذب عليك إلا من يرجو أن تكون مغفلاً أو من قدر في نفسه أن المعاملة العامة في الأمة هي على قاعدة المغفلين. . . ويكذبون في هذا أيضاً فيسمونه حذقا وبراعة (وشطارة)
وإذا عمَّ الكذب فشا منه الهزل؛ فكل كاذب هازل، وهل يجدٌّ الكاذب وهو يكذب إلا إذا كان مجنونا؟ ومن الهزل ضربٌ هو المباسطة بالكذب، ومنه ضربٌ من كذب الحقائق، ومنه من كذب الخيال، وكيفما دارت الحال لا تجده إلا كذباً
ومتى صار الكذبٌ أصلاً يعمل عليه، تقرَّر عند الناس أن الكلام إنما يقال ليقال فقط أفلست ترى الرجلين إذا أخبر أحدهما صاحبه بالخبر فيه شيء من الغرابة أو البعد، لا يكلمه الآخر أول ما يتكلم إلا أن يسأله: صحيح؟ صدق؟
ولا اضر على الأمة من هذه العقيدة - عقيدة أن الكلام يقال ليقال فقط - فإنها هي طابع الهزل على أخلاق الأمة وعلى كل أحوالها وعلى حكومتها أيضاً
ومن الهزل والكذب ترانا مبالغين في كل شيء حتى ليكون لنا الواحد كالآحاد في غيرنا فنجعله مائة بصفرين نجيء بأحدهما من اعتيادنا الكذب على الحقيقة، ونجيء بالآخر من حقيقة إفلاسنا. هذه مبالغة خطرة وأخطر ما فيها أننا نريد بها المبالغة في الدلالة على الأشياء، فتنقلب مبالغةً في الدلالة علينا نحن وعلى كذب طباعنا وعلى فوضى العقل فينا. نعم وحتى تثبت أننا لا عزم لنا من كونها مبالغة لا تدقيق في معناها، وأن لا صبر لنا من أنها لا ثبات لحقيقتها المهزومة، وأن لا شدة لنا في طلب الحق لأننا بها من أهل الغفلة في وصف الحق، وأننا لا نتمثل العواقب إذ نرسل الكلام إرسالاً ولا نخشى ما يكون من عاقبته. وأيسر ما يفهم من هذه المبالغات التي أصبحت طريقة من طرق الشعب في التعبير - أن هذا الشعب لا يصلح في شيء إلا بالحكومة، فهو نفسه كالمبالغة، والحكومة له كالتصحيح. وهذه هي العلة في أن الشعب الكذوب يلجأ إلى حكومته في كل كبيرة وصغيرة في العمل، كما أنها هي العلة في أن حكومته تكذب عليه بكل صغيرة وكبيرة في السياسة
ومن أثر الكذب الشعبي والمبالغة الشعبية ما نراه من اهتمام كل فرد بما يقول الناس عن أعماله فيديرها على ذلك وإن قلت منفعتها، وإن فسدت حقيقتها، وإن جلبت عليه من الضرر في ماله ونفسه ما هي جالبة؛ فقاعدتهم هي هذه: ليس الشأن في الحياة للعمل في نفسه ولكن فيما يقال عنه، فإن لم يقل شيء فلا نعمل شيئاً. . .
هذه يا بني أمة لا يكون حكامها إلا مبالغات أيضاً
قال صاحب السر: وأرتفع من الطريق صوت بائع ينادي على سلعته: أحسن من التفاح يا طماطم. . .
فضحك الباشا وقال: هكذا يقولون لنا عن الطماطم السياسي العفن، إنه ليس تفاحاً وحسب، بل هو أحسن من التفاح
إن الأمة لن تكون في موضعها إلا إذا وضعت الكلمة في موضعها، وإن أول ما يدل على صحة الأخلاق في أمة كلمة الصدق فيها، والأمة التي لا يحكمها الصدق لا تكون معها كل مظاهر الحكم إلا كذباً وهزلاً ومبالغة.
(سيدي بشر بإسكندرية)
مصطفى صادق الرافعي
عفواً أيها النقاد!
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
أطلب إليكم العفو يا معشر الناقدين، فإني لا أقصد بهذه الكلمة إلا الدعابة والمفاكهة - فقد رأيت الصيف قد اشتد، واحتدمت وقدته، وأردت أن أتقرب إليكم بما يزيل لسعته أو يخفف منها - ولا أدري ما الذي أغراني بهذه المداعبة المخطرة، فوالله لقد كنت أرى أن مداعبة الفهود والنمور أهون أمراً وأسلم عاقبة من مداعبة نقاد الأدب. ولقد كانت دوني لو أردت مندوحة عن ذلك التعرض، فلو شئت لداعبت الأدباء كافة، ولم يكن علي بأس منهم، فإني لا أخشى من الأدباء بطشاً ولا صولاً، لأنهم يسيلون رقة وليونة، وقد طبع الله في قلوبهم وداعة وسلاماً، فمنهم من يأخذه الجمال فيسلم له قياده حتى ليصير كالحمل يصرفه أضعف الخلق كيف يشاء، وإن منهم قد استغرقه الفكر وغلب عليه فلا تراه إلا حالماً لا يكلف أحداً مؤونة في تصريفه ولا مشقة في معاملته - فهؤلاء لا يأتي خوف من قبلهم ولا يتكلف المرء حيطة في معابثتهم - ولكن الناقد - والله يكلؤنا بحمايته، فبه صلابة وله شوكة؛ فهو دائماً معقود الجبين على الصرامة، محملق العينين على اليقظة، كثير التجهم واللوم، فإذا أخذته الرقة أحياناً رأيته يربت على كتف الناس متنازلاً من عليائه، وكل حركة من حركاته تنم عن دخيلة نفسه وكمين عقيدته، إذ كأنما يقول عند ذلك:(إنا نعطف على هؤلاء المساكين تشجيعاً لهم حتى لا تنكسر قلوبهم)
لست أدري ما الذي أغراني بهذه المداعبة إلا أن يكون هذا الصديق العجيب التأثير الأستاذ أحمد حسن الزيات، فإنه منذ كتب في النقد وأنا أمانع نفسي وأغالبها لكي أمتنع عن الخوض في الميدان الذي أثار غباره - ثم هاأنذا تغلبني نفسي على الأمر، فأكتب للنقاد متعرضا ًلما يتعرض له الداخل إلى حظائر السباع
على أني مع ذلك قد قدمت في أول قولي إني إنما أداعب ولا أقصد إلا المفاكهة - فلعل تقدمي على هذا النحو يلوي عني الشوكة التي أخشاها، ويكف عني الغضب والنقمة
لقد جعل الأستاذ أحمد الأمين يحن إلى عصر مضى من عصور الأدب في مصر، وجعل يعير نقاد العصر الحاضر بالتقصير والميل حتى لقد استعبرت من فرط الأسى على ما فات من عصرنا الحاضر من جليل النفع. ولكني ما لبثت أن أفقت من أثر قوله وجعلت أرجع
بالذهن إلى العصور التي شهدتها فلم أجد ذلك العصر الذي يؤبنه ويذكر محاسنه؛ فلعله يشير إلى عصر لم أشهده ولم أعرف شيئاً عنه، وذلك أني لم أعد بعد حلقة الخمسين من السن ولا علم لي بما كان قبل ذلك، وأني لم أدرك ما كان حولي إلا نحوا من ثلاثين عاما، وليس في هذا ما يكفي لأن أرد على الأستاذ حكمه، فرجائي إليه أن يحدد ذلك الماضي أين وقع؟ وهل كان منذ ثلاثين عاما أم كان منذ أربعين أو خمسين، فهو أعلم بما يقول مما شهد في حياته المباركة إن شاء الله
على أني إذا كددت الذاكرة في السنوات الثلاثين التي أدركت فيها ما كان حولي لم أذكر إلا محاولة ضئيلة في النقد كان أكثرها من شبان أكبر همهم أن تذكر أسماؤهم إلى جانب الأسماء النابهة في عصرهم - ولقد كانت وسيلتهم دائماً أن ينالوا من مقام أديب نابه لهجت الألسنة بذكره، لا يقصدون النقد والحق، ولكن يقصدون أن تتحول الأنظار إلى شخوصهم
ولست أذكر فيما أذكر من تلك السنوات أن تعرض نقد تعرضاً يذكر إلا لأمثال شوقي وحافظ - كأنما النقد قد صب صباً في قالب واحد، فهو لا يتسع لغير الشعر وقصائده ودواوينه، وأما ما عدا ذلك فلا أذكر أن قامت معركة على كتاب من الكتب التي نقلها الأستاذ الكبير فتحي زغلول، ولا على كتاب مثل (التربية الاستقلالية)، بل لا أذكر نقداً يذكر قابل به النقاد ترجمة حافظ لجزء من البؤساء، أو قصة (زينب) الهيكلية، أما ما ألفه المنفلوطي، أو الأستاذ فريد وجدي
وإني كلما أدرت الفكر في ذلك العصر الماضي لم أجد إلا محاولات بسيطة تشبه محاولات الطفولة في النقد - وقد صدق الأستاذ هيكل في تصوير ذلك إذ قال إن النقد أول ما يعانيه الأديب الناشئ من المحاولات
فإن كان لنا من تعرض إلى ذلك الأمر فإنا نحمد الله إذ انقضى ذلك العصر بما كان فيه
فهل في شرعة الأنصاف أن يتوفر مؤلف على كتاب لا يزال دائباً على البحث من أجله، ويقضي النهار والليل في التحقيق والتثبت ليخرج به على الناس فيجلو لهم أموراً كانت من قبل مظلمة، ويبين لهم مواطن كانت مبهمة غامضة، فإذا به يرى ناشئاً من الشباب يريد أن يحول الأنظار إليه فيتناول ذلك الكتاب المسكين بالنقد ولا يزال به حكا وتجريحاً بيد ثقيلة غير صناع حتى يدميه ويلهبه؟ إن هذا إذن لشبيه باليتيم المسكين الذي يذهب إلى الحلاق
ليسوي له شعره ويزيل عنه الشعث والأغبار فإذا بذلك الحلاق يدفعه إلى أحدث صبيانه وأقلهم مهارة ليتعلم الصناعة في رأسه. لا. لا. فاللهم حوالينا ولا علينا. فما كان لنا أن نلوم شباب اليوم كما يحب لنا الدكتور هيكل أن نفعل، بل إن علينا أن نحمد فيهم ذلك العقل الراجح وهذا الذوق الجميل الذي حدا بهم إلى تجنب النقد في هذه الأيام؛ وإنها لمفخرة لعصرنا أن موجة النقد قد ركدت فيه مادام ذلك النقد لا يقوى إلا إذا أخذ به الشباب الناشئ ليجعله وسيلة ليظهر للناس مقدرته على الكلام والكتابة وتدوير المعاني وتلفيفها
على أني أرجو أن يغفر لي النقاد إذا قلت لهم إن هذا العصر لا يشكرهم على يد أطول من انصرافهم عن النقد. فإن الأدباء قد وجدوا في صمتهم متنفساً. وإنها لفرصة لمن شاء أن يؤلف فليغتنمها المؤلفون في غفلة من الدهر. وأي شيء أعدل وأسمح من أن يؤلف المؤلف إذا شاء فإذا وجد من يقرأ له كان سعيداً مجدوداً. وللناس عقولهم، فإذا أعجبهم ما قرأوا له أقبلوا على مؤلفاته وألقوا إليه بأنواع التحية وأشاروا إليه بالبنان كلما رأوه كما كان يفعل الناس في الأعصر الخوالي. وأما إذا كره الناس ما قرأوا للمؤلف انصرفوا عنه، وحسبه بعد ذلك أن يخسر ما بذل من ثمن الحبر والورق والطبع. .
إن القوامة مكروهة أينما كانت؛ فإذا اتخذ النقد شكل القوامة كان حرياً بأن يكون مكروهاً. هذا إذا كان القيم ممن يحسنون السيطرة ويعدلون في الهيمنة - فما بالنا به إذا كان يسرف ويدل؟ وإلا فوايم الله إن من النقاد من لو حكمت في أمره لأمرت جميع بائعي الأقلام من كل الأنواع بأن يمتنعوا عن أن يبيعوه قلماً واحداً. وإني لأذكر أحد هؤلاء وهو ممن تزعموا في العروبة وقد نقد كتاباً مترجماً عن الإنجليزية في تاريخ مصر. ولم يشأ أن يجعل نقده لذلك الكتاب في مقالة مفردة فقرن بينه وبين كتاب في فن (الطهي الحديث) وأطايبه. ولقد رأيت ذلك الكاتب المفضال بعد ذلك يتنقل في النقد ما بين العلوم والفنون فضرب عافاه الله في التاريخ والتصوف والحديث واللغة والدين والفلسفة. ولا أعلم بعد إذا كان قد بلغ حضائر الطب والموسيقى والفلك أم هو سائر في طريقه إليها. ولم يكن هذا الناقد فذاً في هذا النهم العلمي! بل لقد رأيت علماً من أعلام النقد في مصر يستعرض سلسلة من المؤلفات ويبدي رأيه في كل منها، ويهز رأسه عند الانتهاء من نقد كل منها، ويلمس لحيته لمس الفلاسفة الأقدمين! وكأني به قد نسى أن العصر قد تقادم على عهد
سقراط وأفلاطون وأرسطو، وأن الناس قد أخذوا لحاهم أخذا شديداً فلم يدعوا فيها شعرة واحدة. ولقد رأيت كاتباً عبقرياً أخذ على نفسه أن ينقد الأدباء. وواتاه القلم على عادته وأصاخ له الناس على عادتهم، وهو إذا تكلم أو كتب فالناس كلهم أسماع
ثم استعرض بين حين وحين كتاباً فكان كل ما استعرضه أو جله دواوين للشعر، وهذا حسن، فلعله قد خصص نفسه للغة وما يتعلق بها، وقرأت نقده كما قرأه الناس فكان لبقاً كعادته حلو الحديث مما وهبه الله في اسلوبه، ولكني لم أستطع أن أفهم ما قال. فلقد كان قوله إما مدحاً يسر الخاطر ويشرح الصدر - أقصد صدر المؤلف الممدوح، وإما ذما يكسر القلب ويدمي الفؤاد - وأني لم أكن أحد هؤلاء الشعراء فلهذا لم ينلني ذمه بألم ولا مدحه بفرح، وعلى ذلك خرجت من كل ما كتب، ولم أفقه شيئاً، ولم أعرف ماذا أراد أن يقول
إن أغلب ظني أن الغباوة هي التي قد حالت بيني وبين فهم ما قال ذلك الأديب الكبير، ولكني لم أسأل أحدا من أصدقائي عن رأيه إلا وجدته على مثل حظي من الغباوة وقلة الإدراك
ولهذا السبب كان ذلك الأديب كثير التردد والتقلب في رأيه، فبينا هو اليوم يصفق إعجابا بشاعر أو يصيح تقديراً لأديب، إذا به بعد قليل وقد لمح من ذلك الشاعر أو من ذلك الأديب نكراناً لفضله أو جحوداً لجميله فينقلب مدحه إلى ذم يكاد الدم يسيل من وقعه
ولقد حسبت مرة أن ذلك الأديب الكبير قد خصص نفسه للنقد حقاً، فأرسلت إليه بمؤلف حقير لي ثم تواريت خجلاً وجعلت أنتظر نقده وأقرأ جرائده كل يوم مدة طويلة حتى مللت ولم أظفر بشيء. ثم نسيت ذلك الأمر وعدت بعد سنوات إليه فأرسلت إليه بمؤلف آخر لا يقل في حقارته عن المؤلف الأول، وقلت في نفسي إنه في هذه المرة لابد واثب على كتابي، وممزقه كل ممزق - ولبثت أنتظر طعنته وأنا متوار، وطال بي الانتظار على غير جدوى، فعرفت أن من الكتب ما ينحط عن مقدار النقد، ولو قد تكرم ذلك الناقد فقال لي كما قال مرة لأحد الشعراء:(إنك لا تعرف شيئاً) لما تألمت مثل تألمي من سكوته عني، لأني كنت عند ذلك أفاخر الناس بأن ذلك الأديب قد قرأ كتابي، وحكم عليّ بأني لا أعرف شيئاً. ولا عجب في ذلك، فقد كان من أجدادي رجل - كما كان من أجداد كثير من القراء مثل جدي - أقول كان من أجدادي رجل إذا امتنع عن دفع المال للحاكم أمر المدير فأحضره
وألهب ظهره بمائة سوط - فكان إذا أفاق من غشيته بعد الضرب يضحك ويقول: الحمد لله إذ ضربني المدير بنفسه) ثم نظر إلى الحاكم الغاضب وضحك مرة أخرى وقال: (ضربك شرف يا سعادة البك!)
وبعد فلقد آنساني آخر الكلام أوله، ولابد من أن أعود إلى ما كنت فيه. أقول إني أخالف الأستاذ أحمد الأمين في رأيه كل المخالفة، ولا أذم النقاد في عصرنا الحاضر، بل أني أشكرهم وأعدها لهم مكرمة عظيمة أن فتروا في النقد وخشعوا عنه. ولعل فيما قدمت من قولي ما يقنع الأستاذ ومن يرى رأيه بأن واجبنا أن نحمد الله على قلة النقد وتعفف الناقدين عنه، واقتصارهم على الإعلان والمجاملة أحياناً، أو التجهم أو التنكر أحياناً أخرى بحسب مكان المؤلف منهم وهل هو صديق أم هو بغيض؛ فلقد أدرك الناس منهم ذلك واطمئنوا إليه. فإذا أراد الأستاذ بعد ذلك أن يستمر في المحاجة والمناقشة فإني مضطر إلى أن ألجئه إلى ركن لا يستطيع فيه المقاومة ولا يجد لنفسه مناصاً من الإقرار لي بالغلبة - وذلك أنه قال إن التأليف قد زاد في عصرنا - أليس كذلك؟ ثم قال أن النقد قد ركد كذلك في عصرنا - أليس كذلك؟
أفلا يرى الأستاذ اللوذعي أن هاتين الحقيقتين منذ تلازمتا كانت إحداهما نتيجة للأخرى؟
فإذا أراد الأستاذ أن يستمر التأليف على نهضته كان عليه أن يترك النقد نائماً ولا يوقظه
أيحاول الأستاذ الأمين بعد هذا مجادلة؟
محمد فريد أبو حديد
ذات الثوب الأرجواني
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(تنبيه: الكلام كله تخيل ولا أصل أو حقيقة له)
- 7 -
طلبت من الريف ما لا سبيل إليه في هذه المدينة العظيمة ذات العمائر الشامخة، والبنى الرفيعة، والهواء الحبيس، والنفوس المروضة على تكلف غير طباعها. وكان بعض قومي قد سبقوني؛ فأنبأتهم أني لاحق بهم، وإذا ببرقية تردني منهم يقولون فيها (هات فتنة معك) فلم أدرِ ما - أو من - (فتنة) هذه. . أقطة هي يا ترى؟ أم فتاة؟ أم كلبة؟ أم ماذا؟. . . وكنت أعد حقائبي، ومكتب البرق بعيد مني، وحدثتني نفسي أنهم يعرفون أني لا أعرف (فتنة). فالأرجح أن يكونوا قد أبرقوا إليها لتتصل بي، أو لأصاحبها إذا كانت حيواناً. وقلت سأسافر على كل حال في الوقت المعين. جاءت (فتنة) أم لم تجئ. وأقبلت على الحقيبة أحشر فيها - فما لي قدرة على الترتيب والتنظيم - ما اقدر أن سأحتاج إليه، وإذا بالباب يقرع قرعاً مزعجاً لا عهد لي به، ففزعت ومضيت إليه على عجل مخافة أن يكسره الطارق. ودار في نفسي أن هكذا دق (تيمون الأثيني) باب الآخرة حين انحدر إليها بعد أن وافاه حينه الذي كان ينتظره بصبر فارغ من فرط كرهه للناس، فإن أساطير اليونان تزعم أن الناس يهبطون بعد موتهم إلى وادي الظلال، وهناك يحشدون في الفجر ويعدون وتقيد أسمائهم ثم يركبونهم زورقاً - غير بخاري بالطبع - إلى وادي القنوط حيث يكون الحساب. ومن غرائب هذه الأسطورة أن على كل راكب أو محمول في هذا الزورق أن يؤدي أجرة العبور إلى وادي القنوط. . . وقد ضحكت وأنا أذكر هذا إذ أمشي إلى الباب، وقلت لنفسي والله أن بيتي لكوادي القنوط بفضل (ذات الثوب الأرجواني) وما أخلقني حين أفتح الباب لهذا الزائر المستعجل أن أرحب به بهذه الأبيات القديمة التي نظمتها لمناسبة شبيهة بهذه:
(دارنا مغرب أنوار الحياءْ
…
من رآها لم ير الضوء الطليق
ما لمن يهوى إليها من نجاءْ
…
ما لما يغرب فيها من شروق
وهي، في الأكوان، دنيا عاقرُ
…
كل زخّار له فيها ركودْ
ضرب السحرَ عليها ساحرُ
…
فهي عنوانٌ على عقم الوجود)
ولكن شيئاً - لعله الإلهام - صرفني عن هذه التحية غير الطيبة، فقد كان الزائر فتاة أشهد إنها من أجمل - إذا لم تكن أجمل - من رأيت في حياتي؛ وكانت رشيقة ممشوقة، ووجهها وضاح؛ أما عينها فأعوذ بالله منها! أعني أن البراقع ما اتخذت إلا لتقي الناس سحر مثلها
وقالت وهي تنساب كالماء الرقراق: (لست تعرفني بالطبع. . ولكني أنا أعرفك)
قلت: (تفضلي. . أعني أولاً. . وبعد ذلك يتسع الوقت للسؤال والجواب)
قالت: (متى تسافر؟)
قلت: (هل تعلمت في إنجلترا. . أو لعل أباك إنجليزي؟)
قالت: (لماذا. . أنى سمراء. أو لوني أقرب إلى السمرة. . ثم أني لا أعرف الإنجليزية. . تعلمت في (الميردة دييه (فقط))
قلت: (هذا أحسن. . على كل حال إنما عنيت إنك تمضين إلى غرضك بلا لف ولا تضيعين الوقت. . سأسافر في الفجر)
قالت: (سأبعث إليك أذن بالحقائب الليلة وأجيء أنا قبيل الفجر)
قلت: (بفرح أنت إذن (فتنة)؟؟ لقد صدق الذي سماك)
فقالت وهي تنهض عن الكرسي وتمضي إلى المنضدة وتقلب ما عليها: (أليس عندك سجاير؟. أم أنت لا تدخن؟.)
قلت: (إنك صغيرة جداً. . ولكن خذي)
فأخذت سيجارة وانطلقت تدخن وهي ساهمة وأنا أنظر إليها ولا أقول شيئاً، فقد خطر لي أني سأشهد فصولاً كثيرة متعاقبة لهذه الرواية. وإذا بها ترمي السيجارة من النافذة وتقول (إلى الملتقى إذن. . وشكراً لك)
وليس أبغض إلي من أن يرى الناس ما أصنع أو يشهدوا خروجي ودخولي وسفري وإيابي. ولكني احسب الدنيا - دنيا شارعنا على الأقل - قد علمت أني مسافر بالسيارة، وأن معي فتاة جميلة ستريني النجوم في الظهر الأحمر. . واطلعت - أعني الدنيا الخاصة - على ما في حقيبتي الصغيرة وحقائبها الكثيرة المنتفخة فقد كانت لا تفتأ تأمرني بأن أغير
كل ما رتبت. هذه الحقيبة لا يجوز أن تكون تحت غيرها لأنها من جلد طري فهي تخشى عليها التلف. . وهذه الكبيرة فيها ما قد تحتاج إليه في الطريق فيجب أن تكون فوق. فأقول ولكن الطرية يجب أن تكون فوق فماذا أصنع؟؟ فتقول هات الطرية معنا في السيارة فأطيع وأحل ما عقدت، وأعقد ما حللت. ثم يتضح أن فيما ربط خلف السيارة أشياء لا بد منها كل يضع دقائق في الطريق، فأسأل مثل ماذا؟ فتقول مثل زجاجة الكولونيا الصغيرة وملحقاتها من أدوات الزينة المعروفة التي لا غنى عنها - حتى الفتيات الصغيرات مثل (فتنة) صرن لا يستغنين عن ذلك، فأعود إلى الحل والعقد وأفتح لها الحقائب - في الطريق من فضلك - ولم تكن الشمس قد طلعت، ولكنه كان هناك خلق كثير أحتشد لمكيدتي!! وقد عنيت بأن أحصي هذا الخلق وإليك البيان:
(1)
سائق مركبة (كارو) - سكران على الأرجح
(2)
ستة من عمال الطرق عائدون يمشون صفين ومعهم المكانس يحملونها كما يحمل الجنود البنادق. وقد وقفوا ينظرون إلينا مسرورين
(3)
قطتان: واحدة على رصيفنا والأخرى على رصيف (ذات الثوب الأرجواني)
(4)
أربعة غلمان كانوا سائرين فلما رأونا راقهم منظرنا فوقفوا ينظرون ويتبادلون الملاحظات ولا أدري من أين جاءوا ولا إلى أين كانوا ذاهبين في هذه البكرة
(5)
رجل من عمال شركة النور كف حين رآنا عن إطفاء المصابيح وجاء ووقف مع الغلمان
ولم أحسب المارة الذين أبى لهم أدبهم - أو ذهولهم - أن يقفوا ويتفرجوا. وقد كان هؤلاء جميعاً يضحكون منا حتى القطتان
ولا أمل القارئ بوصف هذه الرحلة وما جرى فيها فليس لهذا آخر، فقد كان كل كيلو فيها لا يخلو من حادثة، وصار لي في هذه السكة الزراعية من الذكريات بعدد ما على جانبيها من الأشجار. ولما دنونا من البلدة قالت:(هل هذه هي. . .)
قلت: (قربنا)
قالت: (أراهن أنك لن تقبل بعد اليوم أن تحمل في سيارتك فتاة أخرى) ثم التفت إلي لأعني أنها انحنت قليلاً إلى الأمام وواجهتني وهي تبتسم وقالت: (قد تكره أن تسمع مني هذا
ولكني شاكرة. . . شاكرة جداً. . وقد أتعبتك. . لا تقل شيئاً فإني واثقة أني أتعبتك. ولكنك كنت حليماً جداً)
فقلت: (كلام فارغ. . قولي شيئاً آخر)
قالت: (لا أدري متى يتاح لي أن أراك مرة أخرى ولهذا عجلت بشكرك في الطريق)
فضبطت نفسي بجهد، ومع ذلك كانت (إيه؟) التي ندت عني كالصيحة فقالت:(نعم فأني مرتبطة بأهلي فإذا رحلوا - كما ينوون أن يفعلوا - إلى الإسكندرية رحلت معهم وإلا بقينا. . وأنا أرجو أن يبقوا فأني أريد أن أتملى بـ. . . وبـ. . .)
فصحت بها: (ماذا تعنين؟؟ أعني ما الفائدة من حملك كل هذه المسافة من القاهرة إلى هذه القرية السحيقة إذا كنت ستختفين غداً؟؟)
قالت: (وماذا أصنع؟. وعلى كل حال كيف يعنيك هذا؟. ماذا يهمك؟)
قلت مغالطاً: (لا شيء بالطبع! لك الحق)
قالت: (لقد كنت أهم بأن أقول لك أكتب إلي إذا شئت ولكني عدلت الآن. . من فضلك أنتظر لحظة. . دقيقة واحدة فإن جوربي أتسخ جداً وأريد أن أغيره قبل أن ندخل البلدة)
فوقفت ونزلت من السيارة وذهبت أتمشى فلما عدت - إجابة لندائها - قالت: (الآن أنا نظيفة وجميلة)
فقلت: (أنت دائماً هكذا)
قالت: (صحيح؟) وكنت صادقاً فما فقدت ذرة من نضارتها ورونقها بعد مائة وثمانين كيلو متراً
فقالت: (إن خير ما فيك أنك تعني ما تقول. . فأنا أعرف الآن أني دائماً جميلة. . وأنا أعرف بغير معونتك أن ساقي جميلتان لا تكابر. . لقد قلت هذا. . ولكن عيني. . و. . و. . وشعري. . أنا مضطربة. . لم أسمع منك ثناء على عيني وشعري)
فقلت باختصار: (خير ما رأيت)
فابتسمت وقالت: (ثناء وجيز. . وجيز جداً. . ولكنه يكفي للاطمئنان. .)
فلم يسعني إلا أن أقرصها وأنا أصيح بها (يا ملعونة)
وأعود إلى الريف الذي نشدت في ظله الروح والراحة فأقول أن هذه الزروع التي تمتد إلى
النهر والتي كانت تبدو لي في الظلام سوداء أنعشت روحي وبردت دمائي التي كانت تغلي في عروقي ووهبتني السكينة والهدوء لأعصابي التي أثارها الغيظ والغضب، والروح لقلبي الذي أجهده حب عقيم، ولكنه مع ذلك مضطرم. وقد كلمتني الأشجار الوارفة، والمياه الجارية، والهواء الندي، والظلال المديدة تحت الألفاف المتشجّنة. وقالت لي كلها أني مخطئ في ثورتي وغضبي وأني يجب أن أعرف وأدرك أني لا شيء في حياة ذات الثوب الأرجواني، ولما كنت لا شيء فإن من التطاول والغرور أن أحاول أن أحشر نفسي في حياتها، وأن أزحمها بوجودي وأن أهيمن عليها وأسيطر. نعم أنا لاشيء. وليس لي عند ذات الثوب الأرجواني شيء. . لا اختلاجه واحدة من جفنها. ولا نبضة من عروقها. ولا خفقة مفردة من قلبها، ولا خاطراً مما يجول في رأسها أو يدور في نفسها. . ولا نفساً واحداً من هذه الآلاف والملايين من الأنفاس التي يعلو لها صدرها ويهبط. . حتى هذا الذي هو للهواء ليس لي منه شيء!!
وقضيت يومين بين أحضان الطبيعة الصريحة فكانت أشجارها ومياهها وأطيارها تعيد على مسمعي هذا المعنى في كل ليلة وتكرره وإن اختلفت الأنغام وتعددت الأصوات، وما كانت تعيد أو تسمعني إلا ما كانت نفسي تحدثني به، وقلبي يخبرني أنه الحق الذي كنت أحاول بالأمل أن أخنقه كل ليلة في ظلمة الليل على وسادتي كأنه صوت (ديدمونه) إذ يميل على عنقها عطيل بيديه الكبيرتين الغليظتين.
وعدت وقد وطنت نفسي على اليأس، وخيل إلي أنها سكنت واطمأنت، فجلست في شرفتي ملفوفا في سواد الليل، وفي قلبي برد السكينة، أنظر إلى النجوم المتلامحة، ولا أنظر إلى شرفتك وإذا بصوتك يهفو إلي منها. . . صوتك إذ تنادين أخاك. . فذهبت سكينة نفسي ومزقتها العاصفة الكامنة في أعماق البحر، وأحسست أن روحي كلها تهزها نبرات هذا الصوت العجيب. . . وخفت صوت الطبيعة التي ناجتني به في الريف في ظل الشجر وعلى سيف النهر. . وكنت تميلين على حافة الشرفة وترسلين الصوت مجلجلاً في سكون الليل، وتهيبين بأخيك أن يرتد إليك قبل أن يذهب في شأنه، فوددت لو أقف وأصيح به وأعينك على أسماعه ورده! ونهضت فعلاً، ولكني وضعت يدي على فمي، وكتمت ما كان يوشك أن ترتفع به عقيرتي ثم انحططت على مقعدي وقد شاع فيّ اليأس (علوا وسفلا) كما
يقول النواسي - اليأس من الشقاء - والسخط على نفسي إذ ذهبت إلى الريف وحرمت نفسي مرآك يومين كاملين بلا جدوى.
كلا. . لست ذلك (اللاشيء) الذي زعمتني الطبيعة الساذجة!. وليس صحيحاً أن أنفاسك كلها ذاهبة في الهواء كما تذهب أنفاس الناس. . ولا أن خفقات قلبك ليس لي منها نصيب. . ولقد غافلتك ومضيت إلى غرفة مظلمة واستعنت بمنظار مكبر، فإذا عينك على شرفتي، وإذ أنت تتلفتين ثم تحدقين لتتبيني ولتعرفي أباقٍ أنا في الشرفة حيث كنت أم دخلت؟. وكنت قد غالطتك وخادعتك فأسندت شيئاً على الكرسي مكاني لتظلي متوهمة أني هناك حين تنظرين، ولأستطيع أن أعرف أين تنظرين حين تفعلين. . فزال الشك فقد طال تحديقك ثم كأنما رابك شيء من جمود هذا القائم على الكرسي فجعلت تتحولين إلى كل موضع في الشرفة وتنظرين، ولبثت هكذا زمناً ثم دخلت، فما كان مني إلا أن أسرعت وعدت إلى الكرسي فقعدت عليه مطمئناً كما كانت الحبشية التي وضعتها قاعدة! إذن كانت لي تلك الوردة الحمراء التي نفضت عنها طلّها وشممتها. . ولي هذه الإشارة إذ تظهرين على الشرفة فترفعين أناملك إلى خصل شعرك المرسل وتردينها عن أذنك. . ولي هذه الابتسامات الوضيئة حين يسرك من جليسك أو جليستك ما تسمعين. . . وأذن لم يكن عفواً أن الفتاة التي زارتك عصر يوم كانت لا تنفك تدير وجهها وتنظر إلى ناحيتي كأنما تريد أن تراني. ولقد عجبت يومئذ لكثرة تلفتها ونظرها إلي وظننت أن هذا من الفضول المألوف، ثم ترددت وشككت فقد رأيتك تتكلمين ورأيتها تتلفت، فتخفين أنت وجهك حتى ترد هي وجهها إليك. وتكرر هذا مع زائرة أخرى جلست معك في الشرفة - وكنت أحسبها قديماً أختاً لك متزوجة لمشابه رأيتها فيها منك - وكان ظهرك إليّ وجهها هي إليك وإليّ، وكان الكلام يدور بينكما، ولكن عين الزائرة لم تكن إلا عليّ أنا، وأنا أتشاغل عنكما ولكني أراكما، وقديماً قالت أمي عني أن لي عيناً في قفاي. . وإذن ليس عفواً أن أهلك جميعاً معنيون بي وأنهم لا يزالون يراعونني وينظرون إلي بل يراقبونني - لولا أني أكره هذه اللفظة - حتى ليبدو لي أحياناً أنهم يصطفون في الشرفة ويبعثون إليك وأنت في الحجرة بأخباري وأنبائي لتعرفي أباق أنا أم خارج. كأنما يحجرون عليك ويمنعونك أن تظهري لي، ولا يسمحون لك بالبروز إلا بعد أن يوقنوا أني خرجت وأن في الوسع اتقاء شري. .
كأنما في الأمر شر. . ويكبر هذا في وهمي أحياناً حتى لأترك البيت لغير سبب أو داع سوى أن أعفيك من عنت أهلك، وأطلق لك الحرية التي يقيدونها بسببي. . وإذا جلست في الشرفة تعمدت أن أحول عيني إلى ناحية أخرى وإن كان هذا حرماناً لي لا حق لهم فيه، ولكني من أجلك أحتمله وفي سبيلك أصبر عليه. وليت من يدري بأي شيء لفت نظر أهلك إلى حبي لك وأنا أتحاشى كل إشارة؟ بل أنا أجتنب أن أنظر إليك حين يكون معك أحد ولو كان طفلاً صغيراً. . فهل ترى حدثتهم أنت بما أحسست من ناحيتي؟؟ ربما. . فإن كنت قد فعلت فأنت طائشة، فقد جعلت على نفسك منهم رقباء بلا موجب، فما بيننا شيء سوى النظر (وهل ذاك نافع؟) كما يقول الشاعر القديم. . وقد حدثت نفسي أمس أن أشتري ورداً أحمر، فأنك تحبينه على ما يظهر، وأن أشير به إليك، ولكني لم أفعل وقلت لنفسي: (ما الفائدة؟. هبني أشرت وأشرت وهبها أجابت وأجابت؟؟ أفنظل أنا أشير إليها من بعيد، وهي تجاوبني من بعيد؟؟ ثم لا شيء غير ذلك. . عرفنا أنا محبان ثم ماذا بعد هذا؟؟ هي تظهر في الشرفة، وأنا أنظر إليها من الشرفة. . هي في السماء نجم لامع، وأنا فوق الأرض عين يرفعها إليه قلب واجف!! كلا! لا ورد ولا شبهه!. ما الفائدة؟. ما الفائدة؟. إني أراني أرجع القهقرى قروناً. . بل أنا لا أرجع ولا أتقدم. . وإنما أرى الحياة تركد وتأسن من حولي لأن ذات الثوب الأرجواني شاءت أن تكون قطعة من أثاث بيت فهي فيه لتكون زينة له لا لتحيا وتنعم بالحياة. . وأثارني هذا الخاطر فغضبت وسخطت وأحسست أن نفسي امتلأت مرارة حتى لو وجدت طعمها على لساني. . . سخطت على نفسي لأني خيل إلي أني إنما أحب فتاة ساذجة يسرها أن تكون محبوبة وتقنع من الحب بأن تنظر إلى الرجل وترى الرجل ينظر إليها. . . وغضبت لأني رأيت أن هذه مهزلة فأنا أذوي نفسي، وأمزق أعصابي، وأحرق دمي، وهي تظن أني مغتبط راض قانع بمرآها في هذه الأثواب العديدة التي لا تنفك تخلع منها واحداً وتلبس آخر؟. وما أكثر ما آليت لأسحقن هذا الحب ثم ما هو إلا أن أراها ناظرة إلي حتى يتحلل العزم وينقض ما كنت أبرمته منه. فالحق أن هذه مصيبة لم تكن لي في حساب ولا كان يخطر لي في بال أنها ستنصب يوماً على أم رأسي. . وانظر ماذا تصنع معي!! تبدو لي في الأرجواني، وتبقى فيه حتى أراها - أعني حتى توقن أني رأيتها فأني أراها كثيراً وهي لا تراني - فإذا وثقت دخلت وغيرته!! أليست هذه
مكايدة متعمدة. .؟
إبراهيم عبد القادر المازني
المقري مؤرخ الأندلس
حياته وتراثه
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 1 -
عرفت المقري - صاحب نفح الطيب حدثاً، وشغفت بأثره الجامع عن الأندلس، وأعجبت بجهده الجلد، وأدبه الممتع، واستطعت بعد أعوام طويلة من البحث والتنقيب في تاريخ الأندلس، أن أدرك أهمية الشذور الضافية والوثائق الجمة، التي وقف عليها المقري في عصره، وألهم أن ينقلها إلينا في كتابه، ولولاه لغاضت مع مصادرها الأصيلة إلى الأبد، وحيل بيننا وبين الانتفاع بذلك التراث الحافل الذي يقدمه إلينا المقري في كتابيه نفح الطيب وأزهار الرياض
وقد خطر لي غير مرة أن أكتب ترجمة موجزة للمقري، وأن أستعرض مجهوده وتراثه؛ وأحسب الآن أن فرصة خاصة تعرض للوفاء بهذه المهمة، ذلك أني قد أزمعت - بعون الله - الرحلة إلى تلك الأندلس التي ملأت حياة المقري، وأذكت أدبه وبيانه، وأجرت قلمه أعواماً طوالا، وأزمعت أن أحج إلى تلك الربوع والمروج والمعالم التي أفاض المقري في وصفها، والتغني بمحاسنها الذاهبة، وآثار أطلالها الدارسة، والتي مازالت ذكرياتها قبل المقري وبعده تسيل عبرات التاريخ الإسلامي
هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد الشهير بالمقّري نسبة إلى مقّرة، موطن أسرته القديم، وهي بلدة من أعمال قسطنطينية، واليها ينتسب عدة من أدباء المغرب الأكابر. ولد، كما يحدثنا في مقدمة كتابه (نفح الطيب) بمدينة تلمسان ونشأ بها، ولم يذكر لنا تاريخ مولده، وهو تاريخ يضعه بعض الباحثين المحدثين في نحو سنة1000 هـ (1591 - 1593)؛ بيد أنه يلوح لنا من تتبع نشأة المقري وحوادث حياته حسبما يقصها علينا، أنه ولد قبل ذلك التاريخ بعدة أعوام، فهو أولاً يذكر لنا أنه (نشأ بتلمسان إلى أن رحل عنها في زمن الشبيبة إلى مدينة فاس سنة تسع وألف)، فلو كان مولده سنة1000 لما تحدث هنا عن الشبيبة، إذ يكون عمره عندئذ تسعة أعوام فقط، أعني غلاماً حدثاً، وهو ما لا ينصرف إليه
الشباب؛ ثم هو يشير حين التحدث عن اعتزامه كتابة موسوعته عن الأندلس إلى شبابه الذاهب الذي قضاه بالمغرب قبل وفوده على مصر سنة 1027هـ، وفي هذه الإشارة أيضاً ما يدل على أن المقري حين مقدمه إلى مصر، كان قد طوى مرحلة الشباب الأولى؛ وربما كان يومئذ في نحو الخامسة والثلاثين من عمره؛ وعلى ذلك يكون مولده قبل الألف بنحو ثمانية أعوام؛ أعني حوالي سنة 992هـ (1584) م
ونشأ المقري في تلمسان، التي نشأ بها أبوه وأجداده من قبل، وتلقى بها دراسته الأولى، ودرس الأدب والحديث والفقه المالكي دراسة حسنة، وكان بين أساتذته عمه أبو عثمان سعيد المقري مفتي تلسمان؛ وكانت تلمسان مازالت حتى عصره من أهم مراكز الدراسة الدينية بالمغرب، وزار فاس لأول مرة سنة 1009هـ، وقضى بها حيناً في الدرس؛ ثم زارها مرة أخرى في سنة 1011؛ ثم استقر بها منذ سنة 1013. وكان ذلك في فاتحة عصر السلطان أبي المعالي زيدان السعدي؛ وسنحت له في فاس عاصمة المغرب الدينية والعلمية فرص الدرس المستفيض، ولاسيما في المكتبة السلطانية؛ واتصل بمولاي زيدان وآله الأشراف السعديين أمراء مراكش، وولي الإمامة والخطابة لجامع القرويين الشهير، ثم ولي الإفتاء، واستمر في منصبه حتى سنة 1027هـ
وفي أواخر سنة 1027هـ، اعتزم المقري الرحلة إلى المشرق. والظاهر أنه لم يعقد هذا العزم مختاراً، وأنه أرغم عليه لأسباب وظروف يشير إليها، ولا يوضحها؛ فهو يقول لنا أنه (لما قضى الملك الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقب أورد. . . برحلتي من بلادي، ونقلتي عن محل طارفي وتلادي، لقطر المغرب الأقصى، الذي تمت محاسنه لولا أن سماسرة الفتن سامت بضائع أمنه نقصاً، وطما به بحر الأهوال. . . وذلك في أواخر رمضان من عام سبعة وعشرين بعد الألف، تاركاً المنصب والأهل والوطن والألف. . .) أما هذه الظروف التي يشير إليها المقري والتي قضت عليه بالرحيل عن الوطن، فنستطيع فهمها على ضوء الحوادث التي كانت تجوزها مملكة فاس يومئذ؛ فقد تولى مولاي زيدان الملك دون أخويه المأمون، وأبي فارس (سنة 1013هـ) ولم يلبث أن نشبت بينهما حروب أهلية متوالية؛ وهزم مولاي زيدان أولاً، وفر إلى تلمسان، ثم استعاد ملكه بعد عدة محاولات دموية، وبعد أن أجلي عنه غير مرة، في سنة 1108هـ؛ بيد أن عهده كان
مضطرباً، فياضاً بالحروب والفتن؛ ولا ريب أن المقري لم ترقه هذه الحياة المضطربة، وأنه اضطر إلى مغادرة المغرب تفادياً من عواقب الفتن والدسائس المستمرة التي كانت تكدر صفو الحياة في فاس، وعلى كل حال فقد غادر المقري وطنه في أواخر سنة 1027هـ، وركب البحر إلى مصر، وعانى من اضطرابه وروعته أهوالاً يصفها لنا في عبارات قوية مروعة؛ والظاهر أيضاً أن سفينته كانت تخشى مطاردة القرصان النصارى، فكان الخوف مضاعفاً؛ وقد كانت مياه البحر الأبيض المتوسط يومئذ مسرحاً لمعارك هائلة مستمرة بين سفن المسلمين والنصارى، ووصل إلى مصر بعد رحلة شاقة مزعجة في أواخر سنة 1027هـ؛ ونزل بالقاهرة فبهرته معالمها ومحاسنها برغم ما أصابها في ظل الحكم التركي من عفاء وتدهور؛ وأقام بها أشهراً، ثم اعتزم الرحلة إلى الحج في أواخر سنة 1028هـ (1618م) فركب البحر إلى الحجاز وطاف بالأماكن المقدسة، وعاد إلى القاهرة في المحرم من العام التالي؛ ثم زار بيت المقدس في شهر ربيع الأول، وعاد إلى القاهرة واستقر بها؛ وتزوج سيدة مصرية من سيدات الأسرة الوفائية؛ ولكنه لم يكن زواجاً موفقاً، وقد فصمت عراه كما سنرى بعد أعوام من الحياة الزوجية الكدرة. وكرر المقري الرحلة إلى الحجاز، وأدى فريضة الحج مراراً، فلم تأت سنة 1037هـ حتى كان قد أداها خمس مرات؛ وجاور أثناء الحج في مكة، وألقى فيها كثيراً من دروسه، وأملى الحديث في المدينة، وعاد إلى مصر من حجته الخامسة في فاتحة سنة 1037 (1627م)
واستقر المقري في القاهرة طوال هذه الأعوام، ولازم الدرس والتدريس بالجامع الأزهر، وتبوأ مكانته في مجتمع مصر العلمي والأدبي، وفي رجب سنة 1037هـ زار المقري بيت المقدس مرة أخرى، وألقى بعض دروسه بالجامع الأقصى، ثم غادرها بعد بضع أسابيع إلى دمشق، فبهرته محاسنها كما بهرته القاهرة من قبل؛ ورحب به كبير علمائها ومفتيها الشيخ عبد الرحمن عماد الدين؛ واتصل بكثير من أدبائها وأعيانها وبالأخص بالمولى أحمد أفندي شاهين وهو من أعيانها الأدباء؛ وألقى بعض دروسه في الحديث في الجامع الأموي فاحتشد الطلاب حوله من كل صوب، وحفل به المجتمع الدمشقي. وكان يبكي السامعين بخطبه ومواعظه، ويتسابق العلماء والطلاب إلى لثم يده؛ وكان أثناء إقامته بدمشق يكثر الحديث في حلقاتها الأدبية عن الأندلس ومحاسن تاريخها وذكرياتها وبالأخص
عن وزيرها الكبير ابن الخطيب، فاقترح عليه صديقه المولى أحمد شاهين أن يضع كتاباً في التعريف بابن الخطيب، ومناقبه، وتراثه من نظم ونثر؛ فاعتذر أولاً بكثرة مشاغله، وقلة مادته ومراجعه، وخصوصاً لأنه ترك معظمها في المغرب، ولكنه اضطر إزاء الإلحاح أن ينزل عند هذه الرغبة، ووعد بالوفاء منذ عوده إلى القاهرة
وعاد المقري إلى القاهرة بعد أن أنفق في دمشق بضعة أسابيع، وعكف حيناً على إنجاز المهمة التي أخذها على نفسه، أعني كتابة ترجمة ابن الخطيب والتعريف بمآثره وتراثه؛ ويقول لنا أنه استطاع غير بعيد أن ينجز منه قسماً لا بأس به، ولكن عاقته عن إتمامه مشاغل وهموم؛ والظاهر أن المقري لم يكن في مقامه النائي عن وطنه، هانئاً قرير البال، فهو يحدثنا غير مرة عن آلام الغربة ومتاعبها. ومما يقول في ذلك: (وليت شعري علام يحسد من أبدل الاغتراب شارته، وأضعف الاضطراب إشارته، وأنهل بالدموع أنوائه، وقلل أضوائه، وكثر علله وأدوائه، غير عنده التأمل رواءه، وثنى عن المأمول عنانه، وأرهف بالخمول سنانه، حتى قدح الذكر حنانه، وملأ الفكر جأشه وجنانه. . . وشتان ما بين الاقتراب والاغتراب، والسكون في الركون، والنبو عنها والاضطراب، فذاك تسهل غالباً فيه الأغراض والمآرب، وهذا تتعثر فيه المقاصد وتتكدر المشارب
وما أنا عن تحصيل دنيا بعاجز
…
ولكن أرى تحصيلها بالدنية
وإن طاوعتني رقة الحال مرة
…
أبت فعلها أخلاق نفس أبية
وقوله:
تركت رسوم عزي في بلادي
…
وصرت بمصر منسي الرسوم
وصنت النفس بالتجريد زهداً
…
وقلت لها عن العلياء صومي
مخافة أن أرى بالحرص ممن
…
يكون زمانه أحد الخصوم
كان المقري إذن في منفاه متعباً معنى؛ والظاهر أنها كانت متاعب العيش فوق شجون الاغتراب؛ فقد كانت سوق العلم والأدب يومئذ كاسدة، وكان المجتمع القاهري قد فقد في ظل النير التركي بهاءه وسعته ورخاءه، وعفت روعة الأزهر الذي كان من قبل موئل الوافدين من كل صوب
ولكن المقري عاد فاستأنف الكتابة نزولاً على إلحاف صديقه أحمد شاهين واستنجازه،
واستطاع أن يتم كتابه عن ابن الخطيب بصورته الأولى في بضعة اشهر فقط لعودته من دمشق، وذلك في أواخر شهر رمضان سنة 1038هـ (1628م)؛ وفيه يتناول حياة ابن الخطيب، ويستعرض صفاته وخلاله ومآثره، وكثيراً من نثره ونظمه؛ ويقول لنا أنه سمى مؤلفه لأول مرة (عرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب)
غير أن ذلك المؤلف الأول لم يكن هو (نفح الطيب) كما انتهى إلينا. ذلك أن المقري خطرت له بعد الفراغ من التعريف بابن الخطيب فكرة أخرى هي أن يمهد لكتابه بذكر الأندلس وتاريخها ومحاسنها وذكرياتها، وتطورت هذه الفكرة حتى غدت هيكل الكتاب الأصلي؛ فاستمر في الكتابة عاماً وبضعة اشهر أخرى، وأتم مؤلفه حسب وضعه الجديد، كما يحدثنا في خاتمة مؤلفه، في آخر ذي الحجة سنة 1039هـ (1629 - 1630م) واختار عندئذ لكتابه اسما جديدا، هو الذي انتهى به إلينا، وهو:
(نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب)
والواقع أنه من التواضع أن يسمى (نفح الطيب) كتاباً، فهو كما سنرى موسوعة ضخمة عن الأندلس، تاريخها، وجغرافيتها وآدابها؛ ومن المدهش حقاً أن يستطيع المقري أن يضع مثل هذا الأثر الضخم في مثل هذه المدة القصيرة؛ ولكن سنرى أن فضل المقري في وضعه يرجع إلى الاقتباس أكثر مما يرجع إلى التأليف؛ وسنرى مع ذلك أن للمقري في هذا الاقتباس فضلاً لا يقدر وأن نفح الطيب هو أقيم مصادرنا العربية عن تاريخ الأندلس وآدابها
وكان المقري منذ عوده من دمشق قد طلق زوجته الوفائية، ووضع بذلك حدا ًلتلك الحياة الزوجية الكدرة؛ وما كاد يتم مؤلفه حتى أزمع العودة إلى دمشق ليتصل فيها بأصدقائه وليطلعهم على مؤلفه الذي وضعه نزولاً على إشارتهم؛ ولكن الموت عاجله، فتوفى في جمادى الآخرة سنة 1041هـ (يناير سنة 1632م)، ودفن في بقرافة المجاورين بالقاهرة
(للبحث بقية - النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان
مقتل أبي الطيب المتنبي
بمناسبة مرور ألف سنة على وفاته
للدكتور عبد الوهاب عزام
خرج أبو الطيب من شيراز لثمان خلون من شعبان قاصداً بغداد فالكوفة
ويقول بعض الرواة إن أبا الطيب لما قدم على عضد الدولة ومدحه وصله بثلاثة آلاف دينار وثلاثة أفراس محلاّة، ثم دس إليه من يسأله أين هذا العطاء من عطاء سيف الدولة؟ فقال: إن سيف الدولة كان يعطي طبعاً وعضد الدولة تطبعاً. فغضب عضد الدولة وأوصى إلى جماعة أن يقتلوه. وروى صاحب الإيضاح أن عضد الدولة قال إن المتنبي كان جيد الشعر بالغرب. فلما بلغت المتنبي قال: الشعر على قدر البقاع
وهاتان روايتان لا تثبتان على النقد. فأبو الطيب قد أفرغ وسمعه في مدح صاحبه ونال من جوائزه ما ملأه شكراً. فكيف قال ما نسب إليه؟ وكيف وهو يعلم أن كلامه حري أن يبلغ عضد الدولة؟
وعندنا رواية تخالف هذه:
قال صاحب الصبح المنبي: حكى عبد العزيز بن يوسف الجرجاني كاتب الإنشاء عند عضد الدولة قال: لما دخل أبو الطيب المتنبي مجلس عضد الدولة وانصرف عنه أتبعه بعض جلسائه، وقال له سله كيف شاهد مجلسنا وأين الأمراء الذين لقبهم منا. قال: فامتثلت أمره وجاريت المتنبي في هذا الميدان. وأطلت معه عنان القول. فكان جوابه عن جميع ما سمع مني أن قال ما خدمت عيناي قلبي كاليوم. ولقد اختصر اللفظ وأطال المعنى وأجاد فيه. وكان ذلك من أوكد الأسباب التي حظي بها عند عضد الدولة
فهذه الرواية أشبه بحزم أبي الطيب. ولماذا يقول الشاعر في أمير أفاض عليه عطاءه إن هذا عطاء متكلف وسيف الدولة كان يعطي طبعاً؟ أكان يبغي إرضاء سيف الدولة وهو في شيراز ولا يبالي إغضاب عضد الدولة وقد قصده وبذل في مدحه وسعه، ونال من عطاياه ما أثقله شكراً. ورواية (الشعر على قدر البقاع) سبيلها في الرد والدحض سبيل أختها
ثم ما الذي يغري ابن بويه بقتل شاعر عظيم أشاد يذكره وآثره بالمدح على ابن عمه معز الدولة ووعده أن يرجع إليه ليخلد مآثره. إن أعداء عضد الدولة أولى بهذه التهمة. وقد
أدرك بعض المعاصرين أن قتل أبي الطيب إخفار لذمة عضد الدولة فأنشأ أبياتاً يحرضه فيها على عقاب من أخفروا ذمته
سار الشاعر بمراكبه وأحماله وغلمانه حتى بلغ الأهواز وبين الأهواز وشيراز واحد وخمسون فرسخاً. ثم سار خمسين فرسخاً حتى بلغ واسط. وهنا نقف لنعرض على القارئ روايتين: الأولى مروية في الصبح المنبي عن الخالديين قالا:
(كنا قد كتبنا إلى أبي نصر محمد الجبلي نسأله عما صدر لأبي الطيب المتنبي بعد مفارقته عضد الدولة وكيف قتل - وأبو نصر هذا من وجوه الناس في تلك الناحية وله فضل وأدب جزل وحرمة وجاه - فأجابنا عن كتابنا جواباً طويلاً يقول في أثنائه: (وأما ما سألتما عنه من خبر مقتل أبي الطيب فأنا أسوقه وأشرحه شرحاً بيناً) وفي هذا الشرح يذكر أبو نصر قتل أبي الطيب وسببه. ثم يبين تربص فاتك الأسدي في طريق الشاعر وعزمه على قتله فيقول:
(وأما شرح الخبر فان فاتكا هذا صديق لي. وهو كما سمي فاتك لسفكه الدماء وإقدامه على الأهوال في مواقف القتال. فلما سمع الشعر الذي هجا به ضبة اشتد غضبه. ورجع على ضبة باللوم وقال له كان يجب ألا تجعل لشاعر عليك سبيلاً. وأضمر غير ما أظهر)
واتصل به انصراف المتنبي من فارس وتوجهه إلى العراق. وعلم أن اجتيازه بجبل دير العاقول. فلم يكن ينزل عن فرسه ومعه جماعة من بني عمه رأيهم في المتنبي مثل رأيه من طلبه واستعلام خبره من كل صادر ووارد
وكان فاتك خائفاً أن يفوته. وكان كثير ما ينزل عندي. فقلت له يوماً وقد جاءني وهو يسأل قوماً مجتازين عن المتنبي فقلت له أكثرت المسألة عن هذا الرجل. فأي شيء رجل تريد منه إذا لقيته؟ فقال ما أريد إلا الجميل وعذله على هجاء ضبة. فقلت له هذا لا يليق بأخلاقك. فتضاحك ثم قال: يا أبا نصر والله إن اكتحلت عيني به أو جمعتني وإياه بقمة لأسفكن دمه، ولأمحقن حياته. قلت له كف عافاك الله عن هذا القول، وأزل هذا الرأي من قلبك فان الرجل شهير الاسم، بعيد الصيت. ولا يحسبن منك قتله على شعر قاله. وقد هجت الشعراء الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام. فما سمعنا بشاعر قتل بهجائه. وقد قال الشاعر:
هجوت زهيراً ثم إني مدحته
…
ومازالت الأشراف تهجى وتمدح
ولم يبلغ جرمه ما يوجب قتله. فقال يفعل الله ما يشاء وانصرف
ولم يمض لهذا القول غير ثلاثة أيام حتى وافاني المتنبي ومعه بغال موقرة بكل شيء من الذهب والطيب والتجملات النفيسة والكتب الثمينة والآلات. لأنه كان إذا سافر لم يخلف في منزله درهماً ولا شيئاً يساويه. وكان أكثر إشفاقه على دفاتره لأنه كان قد انتخبها وأحكمها قراءة وتصحيحاً)
قال أبو نصر (فتلقيته وأنزلته داري، وسألته عن أخباره وعمن لقي. فعرفني من ذلك ما سررت له وأقبل يصف ابن العميد وعلمه وكرمه وكرم عضد الدولة ورغبته في الأدب وميله إلى أهله
فلما أمسينا قلت يا أبا الطيب على أي شيء أنت مجمع؟ قال على أن أتخذ الليل مركباً فإن السير فيه يخف علي. فقلت هذا هو الصواب رجاء أن يخفيه الليل ولا يصبح إلا وقد قطع بلداً بعيداً. وقلت له والرأي أن يكون معك من رجالة هذه البلدة الذين يعرفون هذه المواضع المخيفة جماعة يمشون بين يديك إلى بغداد. فقطب وجهه وقال لم قلت هذا القول؟ فقلت لتستأنس بهم، فقال أما والجراز في عنقي فما بي حاجة إلى مؤنس غيره. قلت الأمر إليك، والرأي في الذي أشرت عليك. فقال تلويحك ينبي عن تعريض، وتعريضك ينبي عن تصريح. فعرفني الأمر وبين لي الخطب. قلت إن الجاهل فاتكا الأسدي كان عندي منذ ثلاثة أيام وهو غير راض عنك لأنك هجوت ابن أخته ضبة. وقد تكلم بأشياء توجب الاحتراز والتيقظ، ومعه أيضاً نحو العشرين من بني عمه قولهم مثل قوله. فقال غلام أبي الطيب وكان عاقلاً: الصواب ما رآه أبو نصر. خذ معك عشرين رجلاً يسيرون بين يديك إلى بغداد. فاغتاظ وشتمه شتما قبيحاً. وقال والله لا أرضى أن يتحدث عني الناس بأني سرت في خفارة أحد غير سيفي. قال أبو نصر فقلت يا هذا أنا أوجه قوماً من قبلي يسيرون بمسيرك وهم في خفارتك. فقال والله لا فعلت شيئاً من هذا
ثم قال: يا أبا نصر! بخرء الطير تخوفني ومن عبيد العصا تخاف علي؟ والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد معطشون بخمس وقد نظروا إلى الماء كبطون الحيات ما جسر لهم خف ولا ظلف أن يرده. معاذ الله أن أشغل فكري بهم لحظة
عين. فقلت له: قل إنشاء الله تعالى، فقال هي كلمة مقولة لا تدفع مقضياً ولا تستجلب آتياً
ثم ركب فكان آخر العهد به.) اهـ
نقف هنا لنتأمل في هذه الرواية المطولة قبل أن نقيسها إلى رواية أخرى:
يقول الخالديان إنهما كتبا إلى نصر محمد الجبلي ثم يقولان: (وأبو نصر هذا من وجوه الناس في تلك الناحية) ليس في الرواية تصريح باسم ناحية ولكن ذكرت ضمناً في نسبة أبي نصر (الجبلي). والذي أراه أنها نسبة إلى جَبُّل وهي بلدة بين النعمانية وواسط على دجلة تبعد عن النعمانية خمسة فراسخ إلى الشرق الجنوب، وعن دير العاقول ثلاثة عشر فرسخاً. فهذا الراوي من بلدة تبعد عن مقتل أبي الطيب نحو أحد عشر فرسخاً وهو صديق للشاعر وقاتله. وخلاصة روايته:
1 -
أن فاتكان الأسدي خال ضبة العيني الذي هجاه أبو الطيب كان يكثر السؤال عن الشاعر ليقتله انتقاماً لأخته التي هجاها. وقد صرح بهذا لأبي نصر
2 -
وأن أبا الطيب نزل على أبي نصر بجبَّل فأخبره ونصحه بالحذر فلم يقبل. واحتقر فاتكا وقومه احتقاراً شديداً وغلا في كلامه غلواً لا يليق برجل عاقل
وفي خزانة الأدب نقلاً عن الإيضاح رواية أخرى نصها:
(وأخبرنا أبو الحسن السوسي في دار الوقف بين السورين، قال: كنت أتولى الأهواز من قبل المهلبي. وورد عليه المتنبي ونزل عن فرسه ومقوده بيده وفتح عيابه وصناديقه لبلل مسها في الطريق وصارت الأرض كأنها مطارف منشورة. فحضرته أنا وقلت قد أقمت للشيخ نزلاً. فقال المتنبي إن كان ثم فهاته. ثم جاء فاتك الأسدي يجمع وقال قدم الشيخ هذه الديار وشرفها بشعره والطريق بينه وبين دير قُنّة موحش قد احتوشته الصعاليك وبنو أسد يسيرون في خدمته إلى أن يقطع هذه المسافة، ويبر كل واحد منهم بثوب بياض. فقال المتنبي ما أبقى الله بيدي هذا الأدهم وذباب الجراز الذي أنا متقلده فإني لا أفكر في مخلوق. فقام فاتك ونفض ثوبه من رتوت الأعاريب الذين يشربون دماء الحجيج حسوا سبعين رجلاً ورصدوا له. فلما توسط المتنبي الطريق خرجوا عليه، الخ)
هذه الرواية تؤيد الأولى في أن أبا الطيب أبى أن يسير في خفارة أحد، وتخالفها في أن فاتكا هو الذي عرض على الشاعر أن يخفره. ومعنى هذا أنه ما كان مبيتاً شراً له وأنه لو
قبلت خفارته ما قتله. وفي الرواية مطاعن:
فقول: أبي الحسن السوسي: (كنت أتولى الأهواز من قبل المهلبي الخ. يؤخذ منه أن مرور أبي الطيب بالأهواز كان في عهد المهلبي، والمهلبي توفي سنة 352 كما تقدم
ولو أن فاتكا لقي أبا الطيب في الأهواز فعرض عليه خفارته فأبى فعزم على قتله أو سلبه ما صبر عليه حتى قطع المسافة من الأهواز إلى واسط وهي خمسون فرسخاً، ثم سار من واسط حتى جاوز النعمانية، كما سيأتي، وذلك أكثر من عشرين فرسخاً.
وقول فاتك إن الطريق إلى دير قنة موحش بعيد أن يقال في الأهواز وبينها وبين دير قنة مراحل كثيرة وبلدان عامرة، وإنما يقال مثل هذا في موضع قريب من دير قنة النعمانية أو جبل.
ثم عرض فاتك خفارته على أبي الطيب وفي نفسه منه ما فيها مستبعد كذلك
فرواية أبي نصر أجدر بالقبول بعد حساب المبالغة فيها كقول أبي الطيب عن بني أسد (ابخرء الطير تخوفني الخ.) فالرجل مهما تكبر وتهور كان أعقل من أن يقول مثل هذا القول: وأحسب أبا نصر حينما سئل عن مقتل أبي الطيب أراد أن يبين عن نصيبه في هذه القصة التي يتشوف الناس إلى سماعها فأدخل شيئاً من الصنعة، ومبالغة القصاص، وبالغ في نصحه أبا الطيب وفي إباء هذا قبول النصيحة وهكذا
- 2 -
سار أبو الطيب من الأهواز إلى واسط فنزل بها، قال علي ابن حمزة البصري عن القصيدة الكافية التي ودع بها الشاعر عضد الدولة:(هذه القصيدة آخر شعر قاله أبو الطيب. وكتبتها والتي قبلها عنه بواسط يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة)
بين واسط وبغداد زهاء أربعين فرسخاً، وعلى الطريق بلاد نذكر منها ما ذكر في روايات مقتل أبي الطيب: وهي النعمانية ودير قُنىّ ودير العاقول والصافية
النعمانية في نصف الطريق بين واسط وبغداد غربي دجلة وهي قائمة اليوم. وكانت تسمى بغيلة فأعيد أسمها القديم. ودير العاقول كان على شاطئ دجلة الشرقي، وكان عنده مدينة مسماة باسمه، وكان على ميل من النهر أيام ياقوت. وبينه بين بغداد 15 فرسخاً، وبينه
وبين النعمانية زهاء خمسة فراسخ
وإلى الجنوب الشرقي من دير العاقول على مقربة منه دير مرماري الذي يسمى دير قُنىّ أو (قُنّه) وهو على 16 فرسخاً من بغداد يبعد على الشاطئ قليلا
وأمام دير قُنى على الشاطئ الصافيةُ على فرسخين إلى الجنوب والشرق من دير العاقول. وكانت على ميل من الشاطئ في زمن ياقوت.
وعلى نحو ثمانين كيلاً من بغداد إلى الجنوب والشرق توجد اليوم أرض تسمى أرض الدير. ذهبت إليها يوم الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة خمسة وخمسين وثلاثمائة. فإذا تلال كثيرة متقاربة قليلة الارتفاع عليها حطام من الآجر والخزف تبعد عن شاطئ دجلة الشرقي نحو كيل واحد
وقد سألت أعراباً نازلين هناك من قبيلة شّمر عن أرض أخرى تسمى أرض الدير في هذه الناحية فنفوا هذا. وسألت عن أسماء العاقول وقنى والصافية، أتعرف اليوم هي أو ما يقرب منها؟ فنفوا جازمين
وإذا نظرنا إلى المسافة بين هذه الأرض وبغداد فهي تقارب خمسة عشر فرسخاً. وهي المسافة المقدرة بين بغداد ودير العاقول في معجم البلدان وغيره
ومهما يكن فأكبر الظن أن هذه التلال بقايا دير قنى أو دير العاقول. وكانا متقاربين، وهذا يدل على أن دجلة لم تغير مجراها كثيراً في هذه الناحية
وأما الصافية فأحسب موضعها الآن في مجرى النهر، فقد كانت أيام ياقوت على ميل من دير قنى، ويؤيد هذا القول صاحب مراصد الإطلاع عن الصافية، (وقيل موضع دجلة)
- 3 -
الروايات في مقتل أبي الطيب متفقة في جملتها، ولكن بعضها أبين وأكثر تحديداً من بعض، وهي في التحديد قسمان:
1 -
روايات تجعل مقتله قرب النعمانية أو قرب دير العاقول دون ذكر الموضع الذي قتل به
2 -
روايات تذكر الصافية على أنها موضع القتل أو قريبة منه وهي على مقربة من دير العاقول، بينه وبين النعمانية، فليست تناقض الروايات الأولى، بل تزيد عليها تحديداً
3 -
رواية ابن خلكان التي تحاول الجمع بين الروايات فتقول: (بالقرب من النعمانية في موضع يقال له الصافية من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول بينهما مسافة ميلين)
وحق أن الصافية قريبة من دير العاقول ولكنها ليست قريبة من النعمانية إلا قرباً نسبياً
4 -
رواية ابن جني ونسخة بغداد ونسخة في الموصل تذكر مكاناً محرّفاً مضطرباً بين فرع ونيزع وشرع. ولم أجد لها ذكراً في الكتب
يستطيع الباحث بعد هذا أن يقول إن أبا الطيب قتل على مقربة من الصافية، ولكن ابن خلكان وابن الأنباري يقولان:(من الجانب الغربي من سواد بغداد) والصافية على الشاطئ الشرقي، فكيف هذا؟
رواية ابن خلكان متناقضة بلا ريب، فهو يقول في موضع يقال له (الصافية من الجانب الغربي) وهذا خطأ، وأحسبه اتبع ابن الأنباري فالعبارتان متقاربتان. فهل عبارة ابن الأنباري مقبولة؟
هو يقول (حيال الصافية من الجانب الغربي) فيمكن أن يقال إن مقتل الشاعر في الجانب الغربي حيال الصافية على الضفة الشرقية - وكلمة حيال هذه صحفت في بعض الروايات إلى جبال وليس عند الصافية جبال
يمكن قبول رواية ابن الأنباري بهذا التفسير لو لم نعرف الطريق بين واسط وبغداد أتساير الضفة الشرقية أم الغربية من دجلة، ولكننا نعرف من كتب المسالك أن الطريق شرقي دجلة. وقد عرفنا أنه مر بجبّل وليس لنا أن نفرض أنه سار شرقي النهر من واسط إلى جبل حيث نزل على ابن نصر ثم عبر إلى النعمانية ليعبر إلى الشرق مرة أخرى
وخلاصة هذه الكلمة أن جمع هذه الروايات ونقدها وتعّرف مواقع البلاد التي ذكرت في الروايات والطريق بين واسط ودار الخلافة. كل أولئك يبين لنا أن مقتل أبي الطيب كان عند الصافية شرقي نهر دجلة على نحو ستة عشر فرسخاً من بغداد
- 4 -
سار أبو الطيب من واسط يؤم بغداد في طريقه إلى الكوفة وكان مسيره يوم السبت سابع عشر رمضان. وفي هذا اليوم كتب عنه علي بن حمزة البصري روايته القصيدتين
الأخيرتين من شعره كما تقدم
وبلغ جبّل بعد أن سار زهاء سبعة عشر فرسخاً فنزل عند أبي نصر الجبلي كما تقدم. ثم أخذ طريقه حتى حاذى النعمانية وهي في نصف الطريق بين واسط وبغداد ثم سار فمر بجرجرايا على أربعة فراسخ إلى الجنوب والشرق من دير العاقول ثم تقدم حتى قارب الصافية وبينه وبين بغداد ستة عشر فرسخاً
وهنالك خرج عليه فاتك بن أبي جهل الأسدي خال ضبة ابن يزيد الذي هجاه أبو الطيب. وكان فاتك في نيف وثلاثين فارساً رامحين وناشبين وكان مع أبي الطيب ابنه محسد وغلمانه الذين وصفهم في القصيدة الميمية التي رثى فيها فاتكا وفي قصيدة توديع ابن العميد كما تقدم
ولا ندري كم كان غلمانه ولكنهم كانوا ولا ريب أقل عدداً من عدوهم
قاتل الشاعر الشجاع حتى قتل. وقتل ابنه. وأكثر الروايات تخص من بين غلمانه غلامه مفلحاً. وفي الخزانة أنهم قتلوا كل من كان معه. وما أحسب الغلمان ثبتوا كلهم بعد قتل سيدهم. وفي رواية الخزانة أيضاً (وحمل فاتك على المتنبي وطعنه في يساره ونكسه عن فرسه. وكان ابنه أفلت إلا أنه رجع يطلب دفاتر أبيه فقنع خلفه الفرس أحدهم وحز رأسه)
(قال أبو نصر: ولما صحّ خبر قتله وجهت من دفنه ودفن ابنه وغلمانه وذهبت دماؤهم هدراً)
ردي حياض الردى يا نفس واتركي
…
حياض خوف الردى للشاء والنعم
إن لم أذرك على الأرماح سائلة
…
فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
عبد الوهاب عزام
بين عالمين
نظام الطلاق في الإسلام
(بقية المقال المنشور في العدد السابق)
للأستاذ أحمد محمد شاكر
هذا عن الدليل على وجوب الإشهاد في الطلاق وفي الرجعة، وأما الدليل على أنه شرط في صحتهما، وأن من طلق أو راجع بغير إشهاد فقد بطل طلاقه وبطلت رجعته، ولم يصح واحد منهما - فان الطلاق عمل استثنائي صرف، يخالف القواعد العامة في العقود والفسوخ، وكذلك الرجعة، لأن كلا منهما تصرُّفٌ في عقد بين اثنين، يقوم به أحد طرفي العقد وحده، وهو الرجل من غير اختيار أو مشاركة له فيه من الطرف الآخر، وهو المرأة، أَذِنَ بهما الشارع الحكيم، في حدود معينة، وبنظام خاص، وليسا مما يملكه الرجل وحده بطبيعة التعاقد، لأن الزواج عقد كسائر العقود، لا يملك أحد طرفي العقد التصرف فيه بالإلغاء أو الإنهاء وحده، لولا ما أذن به الله للرجل من حق الانفراد بالطلاق؛ وكذلك الرجعة، هي إعادة للعقد الذي نسخه الرجل وحده بما جعل الله له من الحق في ذلك، وهي إنما يملك الرجل الانفراد بها - دون الطرف الثاني من العقد - بما أذن الله له فيها، ولو لم يأذن الله بالطلاق وبالرجعة للرجل، لم يكن له أن ينفرد بواحد منهما من غير رضا الطرف الآخر في العقد
وقد أذن الله في شريعته للرجل بالاستقلال بإيقاع الطلاق، وبالانفراد برد المطلقة إلى عصمته، بصفات معينة، وفي أوقات خاصة، فتكون كلها شروطاً في صحة ما يفعله المطلق حين طلاقه، والمراجعُ حين رجعته. فإذا تجاوز الصفات التي رُسمت له فيهما، أو الأوقات التي أُقِّتَتْ له، كان عملاً باطلاً، لأنه خرج عن الحدّ الذي ملك فيه الانفراد بالتصرف بالإذن من الشارع الحكيم
ولذلك قلنا ببطلان الطلاق لغير العدة، وببطلان الطلاق من غير إشهاد، وببطلان سائر أنواع الطلاق الذي يسمى (الطلاق البدعي). وقلنا أيضاً ببطلان الرجعة من غير إشهاد، وببطلانها إذا قصد بها المضارّة ولم يقصد بها الإصلاح، كما قال الفقهاء جميعاً ببطلان
الرجعة إذا كانت بعد انقضاء العدة، وببطلانها إذا كانت بعد الطلقة الثالثة وهكذا
وهذا المعنى قد أوضحته مراراً في كتاب (نظام الطلاق في الإسلام)، فمما قلته (ص60 - 63):
(وليس المقصود من الطلاق اللعبَ واللهوَ، حتى يزعم الرجلُ لنفسه أنه يملك الطلاقَ كما شاء، وكيف شاء، ومتى شاء؛ وأنه إن شاء أبان الْمَرْأَةَ بَتَّةً، وإن شاء جعلها معتدةَ يملك عليها الرجعة)
(كلا، ثم كلا، بل هو تشريع منظم دقيق من لَدُنْ حكيم عليم، شَرعَهُ الله لعباده ترفيهاً لهم، ورحمة بهم، وعلاجاً شافياً لما يكون في الأسرة بين الزوجين من شقاق وضرار، ورَسمَ قواعدَه، وحدَّ حدودَه بميزان العدالة الصحيحة التامة ونهى عن تجاوزها، وتوعد على ذلك. ولهذا تجد في آيات الطلاق تكرار ذكر حدود الله، والنهيَ عن تعديها وعن المضارَّة: (تلك حدود الله فلا تعتدوها. ومن يتعد حدود الله فأؤلئك هم الظالمون). (وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون). (ولا تمسكوهن ضِراراً لتعتدوا، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه، ولا تتخذوا آيات الله هزُوا)(واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فأحذروه))
(وهو تشريعٌ تَقَطَّعَتْ دونه أعناق الأمم قبل الإسلام وبعده، وهأنت ذا ترى الأمم العظيمة التي تزعم لنفسها المدنية ويزعمها لها الناس: - تحاول إصلاح نظام الأسرة، وتشريع القوانين لديها للطلاق، فلا تصل إلى شيء معقول، بل هي تتخبط في الظلمات، وتأتي بالبلايا والمضحكات وذلك أنها تصدر في تشريعها عن العقل الإنساني القاصر. أما التشريع الإسلامي فأنه وحيٌ الهي كريمٌ، أَرسَل به أعظم رجل وأعقل رجل ظهر في هذا الوجود، وأمره أن يفسره للناس ويبينه لهم، ثم يحملهم على طاعته والعمل به)
(وإنما المقصود من الطلاق في هذه الشريعة النقية الواضحة الكاملة: أن بين الزوجين عقداً - كسائر العقود - على المعايشة والمعاشرة بالمعروف، فإن هما فعلا تحقق المقصد الصحيح من الزواج وطاب عيشهما، وإن هما تباغضا وتنافرا وخافا ألا يقيما حدود الله ورغبا في الفراق، فهما كغيرهما من كل متعاقِدَيْن: لهما أن يتفقا على الانفصال في مقابل عوض من المرأة للرجل، كما تعاقدا في أصل النكاح في مقابل الصداق من الرجل للمرأة. وبذلك جاء نص القرآن الكريم: (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت
به) فشرع لهما الخلعَ والمبارأة، وكانت المرأة به بائناً تملك أمر نفسها، وليس للرجل عليها حق المراجعة إلا بعقد جديد واتفاق آخر؛ ولم يكن عليه للمرأة حقوق أخرى من حقوق العقد، كالصداق والنفقة وغيرهما، إلا أن يتشارطا على شيء: فالمسلمون عند شروطهم)
(واختار الله لعباده - لحكمة سامية - أن يستثني النكاح من القاعدة العامة في فسخ العقود، فأباح للرجل أن ينفرد بفسخ هذا العقد بإرادته وحده، بشرائط خاصة ونظام واضح، ورَتَّب لكل من المتعاقدين حقوقاً قِبَلْ صاحبه، لا يجوز لأحدهما أن يتهرب منها. فمن وقف عند حدود الله وفَسَخَ عقد النكاح الذي بينه وبين زوجه في دائرة الحدود التي حدَّ الله له، كان قد استعمل حقاً يملكه بتمليك الله إياه، وجاز عمله، وترتبت عليه آثاره. ومن تجاوز حدود الله، واجترأ على حل عقدة النكاح على غير المنهج المرسوم له. كان عابثاً، وكان عمله باطلاً لغواً، كما إذا انفرد أحد المتعاقدين بإلغاء عقد البيع أو عقد الرهن مثلاً، فإن عمله لاغٍ لا أثر له في العقد. فكذلك المطلق في غير الحدود التي أذن فيها)
وقلت أيضاً (ص71): (إذنْ، فقد منح الله الرجلَ حق الانفراد بالطلاق، وهو حل لعقدة النكاح: بين الزوجين عقد كسائر العقود، وهو عقد الزواج، فإذا أراد أن يطلق بمحض إرادته وحده، فلن يملك من ذلك إلا أن يتبع أمر ربه الذي شرع له هذا الحق وأذنه به)
فهذا التفسير لمعنى الطلاق ولمعنى الرجعة هو المطابق كلَّ المطابقة لنصوص القرآن الكريم. ولمقاصد الشارع الحكيم، ولقواعد العقل السليم، وللفقه الصحيح في الدين. وليس من المعقول أن تترك هذه الشريعة الدقيقة - شريعةُ الطلاق والرجعة - لأهواء الناس وآرائهم وألاعيبهم في الألفاظ. إنما هي مقاصد سامية، تتعلق بأدق الشؤون الاجتماعية وأشدها خطراً في حياة الإنسان وأشرف الروابط بين الناس وأعلاها وأنفعها للنوع الإنساني، وهي رابطة الحياة الزوجية. (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودَّةً ورحمةً، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)
فلم يكن الطلاق - في الشريعة الإسلامية - حقاً مطلقاً للرجل من غير قيد، كما يفهم ذلك أكثر الناس، بل عامتهم، وإنما هو مقيد بقيود كثيرة، بعضها قيود في نفس إنشاءه وإيقاعه، وهي شروط في صحته عندي وفي رأيي، وبعضها قيود تتعلق بحال المطلق وظروف طلاقه، وهي تعليم من الشارع وتأديب، لأنها ترجع إلى أمور نفسية وأحوال دقيقة في
المعايشة والمعاشرة، لا تدخل تحت القواعد القضائية التي تكاد تكون مادية، فجعل الرجل فيها أمينَ نفسه، ورقيباً على أعماله، أو جعلت تحت رقابة ضميره - كما يعبر الكتاب من أهل هذا العصر -
فإن أتبع في ذلك أوامر الله في كتابه وفي سنة رسوله ووقف عند حدود الله: كان طلاقه صحيحاً، وبريء من أثم العدوان في الطلاق، وإن لم يتبع ما أمر به، ولم يجعل طلاقه في الحدود التي حدت لإنشائه وإيقاعه، فكأنه لم يعمل شيئاً ولم يوقع طلاقاً، وإنما كسب خطيئة وإثماً بمخالفة أمر ربه
وإن جعل طلاقه في الحدود التي حدت للإنشاء والإيقاع ولكنه تجاوز في القيود الأخرى التي تتعلق بحاله وظروف طلاقه كان طلاقه واقعاً، ولكنه كان آثماً بمخالفته وعدوانه، لأن هذه الشؤون ليست مما يدخل تحت سلطان الحاكم وتقدير القاضي، وإنما يحاسب عليها بين يدي ربه يوم القيامة
لأن الشريعة الإسلامية يمتزج فيها - دائماً - التشريع القانوني القضائي بالشؤون الدينية النفسية والخلقية التهذيبية، وتجمع في أحكامها بين الوجوب أو الإباحة أو الندب أو الكراهة أو الحل أو الحرمة: وبين الصحة أو البطلان أو الفساد، وهكذا فهي شريعة ودين معاً
وكذلك الرجعة: ليست من حقوق الرجل بإطلاق من غير قيد، بل هي مقيدة بقيود كالطلاق، ولكنها أقل قيوداً منه، تيسيراً من الشارع الحكيم، وترغيباً في وصل ما انقطع من علائق الزوجية
فمن قيودها ما هو راجع لأصل إيقاع الفعل وإنشاءه، فيكون شرطاً في صحته، وكلها منصوص عليه في القرآن نصاً: فمن ذلك ما اتفق عليه أهل العلم ولم ينقل فيه خلاف عن أحد منهم، وهو أن تكون المطلقة مَدْخولاً بها، وألا يكون ذلك بعد الطلقة الثالثة، وأن تكون الرجعة وهي في عدة المطلق
ومن ذلك ما اختلف فيه، واخترنا انه شرط في صحة الخلع أيضاً ونصرنا القول به، وهو أن تكون الرجعة بإشهاد شاهدين على ما بينا أنفاً، (واشهدوا ذوي عدل منكم) وأن يريد برجعتها إصلاح ما أفسد الطلاق، وإصلاح حاله وحالها (وبعولتهن أحقّ بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً) لا يقصد بها الإضرار والعدوان (ولا تمسكونهن ضراراً لتعتدوا)
وقد بيّنا ذلك في كتابنا بوضوح (ص121 - 124) ومما قلنا هناك: (إن الطلاق والرجعة بإرادة الرجل وحدة عملان مستثنيان من القواعد العامة، أذنه الله بهما بصفات خاصة فلا يملك منهما إلا ما أُذِنَ به. والشأن هنا في الرجعة أقوى، لأن الله سبحانه جعل الرجلَ أَحَقَّ بها بشرط صريح، وهو إرادة الإصلاح، فإذا تخلف الشرط لم يكن الرجل أحقَّ بردها، فصار لا يملك هذا الحق)
وهذا الذي اخترناه وذهبنا إليه لا ينافي ما ذكره أستاذنا شيخ الشريعة (مما هو أدق وأحق بالاعتبار، من حيث الحكمة الشرعية، والفلسفة الإسلامية، وشموخ مقامها، وبعد نظرها في أحكامها)، لأن القيود التي قيد بها حق الطلاق أوثق وأقوى مما اشترط في صحة الرجعة، (على القاعدة المعروفة من أن الشيء إذا كثرت قيوده، عزَّ أو قَلَّ وجوده)
وما اشترط في صحة الرجعة إنما اشترط ضماناً لبقاء الحياة الزوجية صحيحة سالمة من إرادة العبث بها، وبعداً بها عن مواطن الشبهات، وعن الأضرار بالمرأة عن إرادة النكول والجحد لإضاعة حقها
ولست أظن أني بحاجة إلى بيان وجه (الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية) في اشتراط إرادة الإصلاح في صحتها، إذ هو واضح بالبداهة، وصريح من نص الكتاب الكريم
وأما اشتراط الأشهاد فأنه ليس قيداً يفوت به مقصد الشارع في تقليل وقوع الطلاق والفرقة، وفي إرادة التعجيل بالرجعة، وإنما هو شرط يقيد في ضمان ثباتها وبقائها، وفي حفظ عزة المرأة وكرامتها
فالرجل حين يطلق يُشهد على طلاقه، وهو إعلان له واثبات، ثم يذهبُ فيراجع سرّاً من غير حضرة الشاهدين؛ ولعله قد يبدو له أن يندم على رجعته، أو يرى له فائدةً مادية حقيرة في إنكار ما فعله وجَحده، وتعجز المرأة عن إثبات حقها واثبات إجرامه، ولا ترى لها شاهداً ولا دليلاً؛ وقد يفعل ذلك ورثتُه إذا مات قبل إعلان رجعته، فيضيع في الحالين حقها، وتهدر كرامتها، ويُمس عرضها، وهي عاجزة في أول أمرها وآخره
ولو رأى الأستاذ - حفظه الله - ما نرى في مجالس القضاء من ألاعيب الناس وحيلهم، وإقدامهم على إضاعة الحقوق، وحرصهم على أكل أموالهم بينهم بالباطل، وجرأتهم على تعدي حدود الله، لعلم أن هذه الشروط ليست قيوداً يعزُّ معها وجود الرجعة أو يقلُّ، ولا
يستيقن أنها تطابق الحكمة الشرعية، والفلسفة الإسلامية، وتدل على شموخ مقامها، وبعد نظرها في أحكامها
وبعدُ: فإني أرسل تحياتي إلى أستاذي الجليل على صفحات (الرسالة) الغراء، مجدداً ذكرى صداقةٍ لم تزدها الأيام إلا ثباتاً وقوة، مذ كان الأستاذ حفظه الله في مصر، من نحو خمس وعشرين سنة، وكنا نقتبس من بحار علومه، ونقتدي به في مكارم أخلاقه، وكنت له كالتلميذ الخاص، ألازمه في غدواته وروحاته. بارك الله فيه، ونفع به الإسلام والمسلمين
وأخيراً: أدعو المثقفين من المسلمين، وقادتهم من علماء الدين، لينظروا في مسائل الزواج ومشاكله، وهي جمة متوافرة، لا بالنظر التقليدي القديم، ولا بالنظر الإفرنجي الحديث، ولكن بالنظر الإسلامي الصحيح.
أحمد محمد شاكر
القاضي الشرعي
2 - دانتي ألليجييري والكوميدية الإلهية
وأبو العلاء المعري ورسالة الغفران
عرفنا من الكلمة السالفة أن أبا العلاء كتب رسالته يرد بها على ابن القارح وهو طرب أيما طرب لأنه وجد فيه. . . عنقاءه والخل الوفي! وعرفنا أن ابن القارح لم يكن يقل زندقة وإلحاداً عن أبي العلاء لأنه استهزأ بالأبرار والأطهار الذين ورد ذكرهم في سورة الدهر، ولأنه عاب عليهم خوفهم يوماً كان شره مستطيراً. . . يوماً عبوساً قمطريراً. . . ولو كانوا مثله. . . مثل ابن القارح. . . لما نذروا، ولما وفوا. . . ولما خافوا شر ذلك اليوم
وعرفنا كذلك أن ابن القارح لم يكن صادقاً حقاً في (تغيظه على هؤلاء الزنادقة والملحدين) الذين حشدهم وجمع أقوالهم في رسالته من غير ما مقتض لحالها. . . اللهم إلا أنه كان يخاطب أبا العلاء بلغة العصر الذي كانت تهدر فيه الدماء لمجرد الريبة تحوم حول الرجل في دينه، فاضطر أن يلغز هذا الإلغاز الذي لا يجوز مظهره على ذكاء أبي العلاء. . .
ونريد اليوم أن نعرف السبب الذ ي حدا بدانتي إلى كتابة كوميديته؛ فلا نرى بأساً من أن نضع بين يدي القارئ ترجمة سريعة لهذا الرجل الذي كان يعيش ملء عصره، ويساهم بقلبه وعقله ويده في شؤون إيطاليا عامة وفلورنسا خاصة
ولد دانتي في مايو 1265، أي بعد أن وضعت الحرب الصليبية أوزارها (1096 - 1244)، وفي زمان كان فيه اختلاط الشرق بالغرب شاملاً كل شيء ولا سيما الثقافة، وكان الغرب يرشف من مدنية الشرق ما يشاء عن طريق الشام ومصر وصقلية وتونس والأندلس. واختلف المؤرخون في منشأ أسرة دانتي. . . فبعضهم يقول إنها من رومه، وبعضهم يقول إنها من فرّارا، والبعض يقول إنها من بارما، أو من فيرونا؛ على انهم متفقون على أن الفتى نشأ في فلورنسا وفيها، وأنه تثقف على أشهر علمائها في ذلك الزمن (برونتو لاتيني)
وقد كان أبوه أليجييرو رجلاً فقيراً من وسط برجوازي مكروه من الحزب الديمقراطي، وقد ماتت أمه مونّا بللا بعد أن وضعته بزمن قصير. وفي التاسعة من عمره رأى فتاته وحبيبته بياتريس، فنفثت في قلبه السحر، وحلت عن لسانه عقدة الشعر، وجعلت حياته دراما رومانتيكية بارعة من الحب الأفلاطوني الحزين. . . وترعرع دانتي. . . ونظم
الشعر في بياتريس. . .
وفي الثامنة عشرة، نظم أولى غرر قصائده يطلب فيها تفسير حلم جميل (من كل مغرم دنف، برح به الحب، ولفح قلبه بارح الهوى. . .) وكانت قصيدة رائعة لفتت إلى الشاعر الشاد نظر كبير شعراء إيطاليا إذ ذاك جيدو كفالكانتي، فكانت عربون الصداقة بينهما، ورمز المحبة والوفاء
واشترك الشاعر الفتى في حملات حربية سخيفة، وحضر معركة كمبلدينو سنة 1289. . . ثم انغمس في النضال الحزبي الذي كان يجرف فلورنسا وإيطاليا في ذلك العهد، وكان ناشباً بين حزبين قويين ما يلبث أحدهما أن ينتصر حتى تكون للآخر الكرة عليه؛ وكان دانتي في جانب الجلفيين. وحدث إن كان في بعثة سياسية لدى البابا حين انقض الجبليون - الحزب الآخر - على المدينة وانتزعوا مقاليد الحكم من الجلفيين، وقضوا على دانتي بالنفي المؤبد، وبالإعدام حرقاً إذا فكر في الرجوع إلى فلورنسا
وكانت بياتريس قد ماتت قبل ذلك، وكان الشاعر قد فقد صداقة جيدو كفالكانتي من جراء الحزازات الحزبية التي كثيراً ما قضت على روابط وأواصر وصداقات. . . وكان قد تزوج كذلك وإن لم يسْلُ بياتريس - التي كانت قد تزوجت من غيره - من الفتاة جمَّادوناتي التي كانت تنتمي إلى حزب الجبليين. . . فكانت حياته معها سلسلة متلاحقة من الآلام لدرجة إنها رفضت أن تلحق به من منفاه وحرمته بذلك حتى من النظر إلى أبنائه. . . ومن أجل ذلك لم يتورع دانتي من الإشادة بذكرى حبيبته بياتريس في كتابه (الحياة الجديدة) ومن الوعد في آخر هذا الكتاب بتأليف معجزته الخالدة (الكوميدية الإلهية) في تخليد ذكرى بياتريس. بل هو لم يتورع كذلك من أن يدس جمَّادوناتي في أشد دركات جحيمه في هذه الكوميدية. . . كما سيجيء ذكره
وقد طَوَّف دانتي في أنحاء إيطاليا، وذاق في منفاه مرارة العيش وشقوة التشرد، وجاب الرحب فزار باريس، ويقال إنه ارتحل إلى إنجلترا وألقى عصاه في أكسفورد. ولعل حظ الأدب من مرارة ذلك العيش، وشقوة ذاك التشرد كان عظيماً جداً، فقد قسم لدانتي أن يبر بوعده بتأليف الكوميدية إذ هو مشرد في الآفاق، طريد من فلورنسا، بعيد عن أحزابها، بنجوة من قلق السياسة واضطراب السياسيين. ففي سنة 1300 ألف كتابه الجميل (الحياة
الجديدة) أو الفيتانوفا الذي يصف له خلجات قلبه وضمنه ترجمة طلية لحياته وصلته بالفتاة الفتانة بياتريس دبورتيناري وجمع فيه كل الأشعار التي تغزل فيها بحبيبته. والكتاب رائع حقاً، ويعتبره المؤرخون أول كتب من نوعه في فجر النهضة وآخر ومضة من الأمل في العصور الوسطى
ولقد كان دانتي يحل ضيفاً على أمراء الولايات الإيطالية الشمالية فيقابل بالترحاب من الجميع، وكان الجميع يكرمون وفادته ولا سيما كين دلّلاسكالا أمير فيرونا الذي لبث دانتي في ضيافته حتى عام 1320، ثم ارتحل إلى جيدو نوفللو دابولنتا عظيم رافنّا ومن ثم ذهب إلى البندقية في بعث سياسي. . . ولكن البندقيين استخفوا به فأثر ذلك في نفسه حتى قيل إنه حم، فعاد أدراجه والمرض يفتك به. . . ولقي حتفه عقب ذلك بزمن قصير
وفيما بين سنة 1306، 1308 ألف دانتي كتابه الفلسفي (الوليمة) وقد حاول فيه تبسيط الآراء والنظريات الفلسفية لتسيغها أفهام العامة، وهو في رأينا أقل قيمة الفيتانوفا. وإن يكن دانتي نفسه قد فضله على الفيتانوفا
ويقولون إنه ألف قبل ذلك (1304) كتابه العجيب (في فصاحة اللغة العامية) حاول فيه خلق لغة قومية للإيطاليين يكتبون بها ويؤلفون فيها كتبهم بدل اللغة اللاتينية التي كانت مستعملة في ذلك الوقت
وفي سنة 1309 ألف كتابه - وفيه يتغنى بالإمبراطورية الرومانية القديمة ويحفز همم الإيطاليين لإحيائها (لأنها نظام فرضه الله على البشر، وهي وحدها التي تأخذ بأيدي الناس إلى السلام والنظام والعدالة، وهي سلسلة متصلة في التاريخ لا انفصام لها. . .) وتلك نُعَرة عرف بها دانتي، انتقلت بعجزها وبجرها إلى زعيم إيطاليا الحديثة
ويرجح مؤرخو دانتي أنه كتب الكوميدية الإلهية إذ هو ضيف كريم على أمير فيرونا ثم أتمها في رافنّا قبيل وفاته في سبتمبر سنة 1321
وهاك ما أختتم به الفيتانوفا بصدد الكوميدية الإلهية:
(. . . أبتهل إلى الله القدير أن يمد في أجلي - إذا شاء - كي أكتب في ملاكي ما لم يكتبه أحد في امرأة من قبل. . . حينئذ. . . كم تكون روحي سعيدة حين تسبح في ملكوته الأعلى لتتزود نظرة من. . . بياتريس!)
وقد مد الله في أجله فعلاً، وكتب في ملاكه ما لم يكتبه أحد في امرأة من قبل، وذهب في إثر رائده فرجيل يخوض دركات جهنم، ويوقل في شعاف المطهر، ليلقى بياتريس في ظلال الخلد، ونعيم لا يفنى
جحيم دانتي
(1)
رأى دانتي كأنه يضرب على غير هدى في تيه لا أول له ولا آخر، ثم رآه يضل طريقه في غابة مظلمة تعج بالأفاعي وتضج بالوحوش، حتى إذا بلغ طوداً رفيع الذرى وحاول أن يرقاه زأرت في وجهه أسود وهمهمت حوله ذؤبان أوشكت أن تفتك به، لولا أن أبصر فرأى الشاعر الروماني الخالد فرجيل يقترب منه فينقذه من الكواسر المحدقة به، ثم يذكر له أنه قادم من لدن حبيبته بياتريس ليهديه سواء السبيل، وليخوض به دركات الجحيم ليريه من آيات ربه، ثم ينفذ به إلى جبال المطهر. . . وليتركه عند باب الفردوس، حيث تلقاه حبيبته، فتمضي به إلى جنات النعيم (لأني غير مأذون لي بدخولها)
(2)
ويتلكأ دانتي قليلاً، ولكن فرجيل ما يزال به يغريه حتى يتبعه (3). . . وينطلقان حتى يكونا عند باب جهنم. . . وينظر دانتي فيرى كلمات نقشت من نور على لوحة علقت أعلى الباب. . . هي كلمات الإله العزيز من غير شك. . . ويؤذن لهما فيدخلان، ويسمع دانتي إلى أنين المعذبين، فيخبره فرجيل أنهم أولئك الذين قضوا حياتهم الدنيا في لهو ولعب، لا يعنيهم أن يقدموا عملاً صالحاً ينفعهم في الدار الآخرة. ثم يبلغان عدوة نهر أشيرون، ويريان جباره العتيد ذا الطول (خارون) منتصباً كالوحش في زورقه الذي ينقل فيه أرواح الأشقياء من هذه العدوة إلى العدوة الأخرى. . . وهنا. . . تدور جهنم برأس دانتي فيعروه من الغثيان والغَشْيَة ما يهوي به إلى الأرض (4). . . ثم يدوي رعد قاصف في أركان جهنم فيهب دانتي من غيبوبته، ويتعلق بأذيال فرجيل، وينطلقان حتى يبلغا الدرك الأول من دركات الجحيم واسمه (لمبو حيث يشقى أولئك الذين استهتروا بتقاليد الكنيسة، فلم يبالوا أن (يُعَمَّدوا)!! ولو أنهم كانوا مع ذلك بررة أخياراً، (5) ويبلغان الدرك الثاني من النار، ويرى دانتي إلى مينوس أحد قضاة الجحيم الذي يسائله كيف نفذ إلى هذه الدار وهو ما يزال حياً من أهل الدار الفانية، وينذره أنه لن يحتمل زفير سقر. . . وينظر دانتي فيرى إلى جموع الفجار الشهوانيين من أهل الفسق تعصف بهم ريح السموم، وتنثرهم هنا
وهناك كما ينثر الريش في يوم عاصف. . . ومن هؤلاء هيلين التي شبت بسببها حروب طروادة، وكليوبطرة، ثم يرى الزوجة المفتونة فرنشسكا التي أحبت أخا زوجها (باولو) حين كان يقرأ لها قصة لانسلوت الغرامية (فلما بلغنا هذا الحد من القصة، ورأينا باولو يطبع قبلة حارة على فم فرنشسكا، نظر باولو إلي، واغرورقت عيناه بالدموع، وأهوى على فمي يقبله. . . واستسلمت. . . فلم أقاومه!!) ويألم دانتي أشد الألم وأبلغه، فيغشى عليه حزناً على فرنشيسكا التي كانت تقص عليه خبرها (6) وينهض من غشيته، ويبلغان الدرك الثالث، حيث الحمأ المسنون والوحل المركوم تسبح فيه أرواح المنهومين الطماعين، وتنصب فوقهم شآبيب من برد وثلج، ويمزق الكلب سيربيروس أبدانهم شر ممزق. ويلقيان (كياشو) أحد الأشقياء فيتنبأ لهما بما سيجتاح فلورنسا من شدائد (7) وينطلقان حتى يكونا في الدرك الرابع حيث تعذب أرواح البخلاء والمبذرين الذين يعير بعضهم بعضاً، ويبلغان الدرك الخامس حيث تعذب أرواح العابسين وأهل الشر في بحيرة (ستيجيا). ويطوفان قليلاً حول البحيرة ثم يصلان إلى سفح برج منيف (8) فيقبل نحوهما نوتي اسمه فلجياس فيحملهما في زورقه إلى شاطئ البحيرة المقابل - ويصلان أيضاً إلى مدينة ديس حيث تعذب أرواح الجن والعفاريت ولكن هؤلاء الجن لا يسمحون لهما بدخول مدينتهم ويذودونهما عن أبوابها (9) ولكن ملكا كريماً يهبط عليهما فيدخل بهما إلى ديس حيث يريان أضرحة فيها نار مشبوبة تعذب فيها أرواح المجدفين والمهرطقين (10) ويأخذ دانتي في مجادلة بعضهم (11) ويبلغ دانتي الدرك السابع حيث يلقى كبيراً من هؤلاء الهراطقة ويتمنى لو أن جميع من لقيهم في الجحيم (في الدركات السابقة) كانوا في ديس ليتعذبوا كعذاب هؤلاء! وينظر دانتي فيرى إلى بعض المرابين (12) ويبلغان الدرك السابع حيث يقودهما سنتور عظيم فيقفز بهما من صخرة إلى صخرة حتى يكونوا في قرار الدرك. وهناك ينظرون إلى نهر من الدم تسبح فيه أرواح شريرة هي أرواح الذين آذوا جيرانهم. ثم يحملهما سنتور آخر إلى الشاطئ المقابل (13) فيشهدان طوائف من الأشقياء (14) في أقسام مستقلة من الدرك السابع. ويتحدث فرجيل إلى دانتي عن تمثال كبير كان في جبل إيدا (أولمب)؛ وهو الآن ينصهر منها في نيران الجحيم (15) ويقابلان حشداً من الأرواح الهائمة فوق الحصباء المتأججة تتلمس شاطئ النهر، ويشهد دانتي بينهم أستاذه (!) برونتو
لاتيني فيحادثه طويلاً (16) وينطلقان مع النهر حتى يصب في الدرك الثامن فيقابلهما فوج من مواطني فلورنسا العسكريين فيتحدث إليهم دانتي حتى يحجزهم عنه وحش من وحوش الجحيم (17) ويلقيان التنين جيريون فيرجوه فرجيل أن يحملهما إلى الدرك الثامن ويكون دانتي قد انتهز فرصة تحادثهما وانطلق يكلم الأشقياء الذين يعذبون هنا من أجل محاربتهم للفنون في الدار الأولى - ويركبان فوق ظهر جيريون (18) فينطلق بهما إلى الدرك الثامن الذي ينقسم إلى عشر دركات يصف الشاعر اثنتين منها فقط في هذا الفصل وهما درك المزورين ودرك المخادعين ويتعذبون في حميم آن وحمأ وروث (19) ويبلغان الدرك الثالث من الدرك الثامن حيث يثوي الخبثاء من رجال الكنيسة الذين دأبوا على بيع وظائفها بالمال (20) ثم ينتقلان إلى الدرك الرابع حيث يأوي الدجالون والمشعوذون (21) ثم إلى الدرك الخامس حيث يسبح المختلسون وآكلوا التراث في صديد يغلي وقار، عليهم حراس من زبانية شداد (22) وتقودهما طائفة من الجن في الدرك الخامس أيضاً ويحدث أن يحاول أحد المجرمين الإفلات من ربقة الزبانية (23) ويصلان إلى الدرك السادس حيث المنافقون يلبسون عباءات من نار وطراطير من جمر، وحيث إخوان الصفاء من أهل بولونا (24) وينطلقان إلى الدرك السابع حيث اللصوص والنشالون تقذف الحيات والأفاعي سمومها في وجوههم وحيث الطواعين تصطلمهم (25) ويلقيان شيخ المجدفين (فوشي) حيث تمزقه الثعابين وتنفث فيه سمها الأراقم، ويلقيان أيضاً بعض الفلورنسيين المارقين. (26) ويهطعان إلى الدرك الثامن حيث يعذب نصحاء السوء في لهب مندلعة ونار ترمي يشرر كالقصر كأنه جمالات صفر! وهنا يلقيان الفارسيين الإغريقيين ديوميد وأوليسيز فيتحدث ثانيهما عن كيفية موته (27) وجيد وذامونتفلترو (أحد الفلورنسيين من خصوم دانتي!!)(28) ويصلان إلى الدرك التاسع من الدرك الثامن حيث حشد الشاعر المتعصب من سماهم زراع الفتن وتجار الضلالات وحيث جعل منهم نبينا صلى الله عليه وسلم محمد بي عبد الله وابن عمه عليا ابن أبي طالب اللذين أتهمهما هذا الكاثوليكي الوقح بأنهما من أهل الشهوات وأهل الشقاق والنفاق (29) ويعبران إلى الدرك العاشر حيث المزيفون والكيميائيون تفتك بهم الطواعين وتضنيهم الأمراض (30) وفي هذا الدرك أيضاً يلقيان طوائف أخرى من النصابين والممالقين (31) ويسمعان نافخاً في صور يدوي في
آفاق جهنم فيقصدان إليه، فإذا هما الدرك التاسع من النار حيث المردة والشياطين وكل خناس عظيم. ويأخذهما أحدهم (أنتيوس) في قبضته فيجعلهما في قرار الدرك (32) حيث زمهرير وبرد وثلج وحيث بعض الإيطاليين جاثمون يتعذبون (33) ويتحدث إليه بعض هؤلاء بما كان من خيانة أحد مواطنيه ويحدثه عن جريمة قتل حدثت في فلورنسا ولم يعرف مقترفها (34) ويصلان إلى الدرك الرابع من الدرك التاسع فيريان الذين أساءوا إلى من أحسنوا إليهم، مطمورين في ثلج وجليد إلى أذقانهم. ثم يحملهما السنتور لوسيفي فيكونان في هذه الدار مرة أخرى ويريان النجوم تتلألأ في السماء كأنه لم يكن شيء!! وبذا ينتهي طوافهما بالجحيم
(لها بقية)
د. خ
شعراء الموسم في الميزان
نقد وتحليل
للأديب عباس حسان خضر
- 3 -
ثورة القدر
نظم الأستاذ أحمد محرم في هذه القصيدة قصص الأنبياء المقصوصة في القرآن ليشيع فيها فكرته: ثورة القدر؛ ففي كل من تلك القصص ناس ثار عليهم القدر. وليس فيما قصه (نظما) من جديد سوى أن يخبر عن أولئك الناس بأن الذي نزل بهم هو من ثورة القدر. ولقد حاول، في أبيات، أن يستخلص العبرة فكأن القدر وقف في سبيل توفيقه في ذلك. . . وليته ترك العبرة لتؤخذ من الخبر كما قال في القصيدة:
ما حياة المرء إلا خبر
…
فخذ الحكمة من معنى الخبر
على أن قوام ذلك من استخلاص العبرة أو أخذها من الخبر، أن يمزج بأحاسيس الشاعر، ويؤدي إلى أحاسيس الناس فيطربهم، أو يجتذب ارتياحهم، أو ما بين ذلك من درجات التأثير. فماذا في القصيدة من ذلك؟ إليك المطلع تليه قصة آدم وإبليس:
عاصف ما قيل أمسك فازدجر
…
زلزل الأقطار واجتاح البشر
هاجه من قبل في مربضه
…
طائف ما مسه حتى انفجر
أخذ الخصمين في هبوته
…
وهوى غضبان يرمي بالشرر
من طريد أهلكته سجدة
…
وشريد غاله شؤم الشجر
ثورة في الأرض من آثارها
…
كل يوم ثورة تزجي العبر
شمخ الكبر بهذا فهوى
…
وأراد الخلد هذا فدثر
ثورة خاطئة لو لم تقم
…
في ظلال العرش ما ثار القدر
تجمح النفس فلا تنفعها
…
بينات الأمر من خير وشر
وجلال الحق في صورته
…
مظهر العزة في هذى الصور
فاز بالرضوان من أكبره
…
فتجافي عن هوان وصغر
فترى أن أكثر العناية في قوة الألفاظ وقوة القافية، وهذا موائم لحال المعنى؛ ولكن هذه الأبيات، بل القصور المؤلفة من صخور الكلم وجلاميد القوافي لا تملأ جوانبها روح الشعر، ولقد وصف الشعر في هذا البيت من القصيدة:
ومن الشعر قصور فخمة
…
وقبور موحشات وحفر
بما ينطبق على شعره، فهو يقدم الشعر، من حيث الجودة والرداءة إلى القصور الفخمة والقبور الموحشة، فيعبر عن الشعر العالي بالقصور الفخمة وإن كانت غير آهلة!
سرد الشاعر القصص مبيناً فيها مواطن ثورة القدر، وفي جميعها لم يثر القدر إلا على أقوام أبوا إجابة دعوة الرسل وسخروا منهم وأفسدوا في الأرض فكان ما نزل بهم عقاباً لهم على طغيانهم؛ ثم أخذ يصف هذا القدر المعاقب بالظلم والبغي، فيقول:
ينصب الظلم على مخلبه
…
ما تمنى من قصور وسرر
وترى البغي على أنيابه
…
ناعم الروحات ريان البكر
فكيف يتفق رميه القدر بالظلم والبغي مع ما قدمه قبل ذلك من الإشادة بعدله في صرع المتجبرين العاصين؟!
والشاعر يتحدث في آخر القصيدة عن الشعر وعن موسم الشعر بدون مناسبة للموضوع، ولو كان ثمة مناسبة لكان استطراداً مقبولاً
ولقد أحسن في وصف من أغرقهم الطوفان بقوله:
غمر القوم فهم في جوفه
…
فتنة غرقى وكفر مستسر
أمم كالملح ذابت وقرى
…
ذهبت كالحلم أو وهم خطر
فقد ألم في هذين البيتين بمعان سرية ودل عليها بأوجز لفظ
لامية نسيم
بي فوق ما بك منهم أيها الطلل
…
لك البلى ولي التبريح والعلل
محتك من عاصيات الريح سافية
…
وواكف من شآبيب الحيا هطل
أود أن أعرف أين الطلل الذي يخاطبه الأستاذ أحمد نسيم هذه المخاطبة، فما أظن من كان يحبها إلا ساكنة في (عمارة) أو (فيلا) أو في بيت عادي على الأقل. وإذا ارتحلت عن مسكنها فلابد أن يحل محلها من يعمره؛ وهو إذا بكى فلابد من هدمه وبنائه من جديد، فلا
الريح السافية تمحوه، ولا واكف المطر يهطل على رسومه. لقد كان الشعراء الأولون يقفون على أطلال حبائبهم، فتملأ نفوسهم تشوقاً وحسرة على ما مضى، فيقولون الشعر فيما يحسون، أما نحن في هذا العصر فلا نقف - بعد زوال عهد الصبابة - إلا على ما تحتويه أدراج المكاتب من الرسائل الغرامية والصور الفوتوغرافية وما إلى ذلك، فمن يقف منا على طلل فإنما يقف على طلل الزمن القديم لا على طلل الأحبة
على أنه مهما يكن من شيء فان الأستاذ نسيم يكاد يبلغ في هذا المعنى مبلغ المجيدين من قدامى الشعراء، وخاصة في قوله:
(لك البلى ولى التبريح والعلل)
والقصيدة ليست في موضوع خاص، وإنما هي (لامية نسيم) أي أن موضوعها ما يقوله نسيم على قافية اللام. . . وهي مع هذا منسجمة المعاني، متآلفة الأجزاء، يزينها البيان، وأبياتها عامرة بالمعاني، منها قوله في وصف المشيب:
قل للمشيب إذا ما لاح مشتعلاً
…
ما أنت إلا لظى في القلب مشتعل
إلى أن يقول:
كأنه أحرف بيض يسطرها
…
في مفرقي كاتب للعمر مختزل
وأناشدك الشعر أن تقف معي برهة عند هذا القصر الفخم، لا البيت، ولا الطلل الذي وقف عليه الشاعر؛ لنجتلي ما يحتويه من الغرائب، فهذا كاتب يتعبه الحساب: حساب سني العمر الطويلة، فيعمد إلى اختزالها بطريقة غريبة، وهي تسيطر الحروف البيضاء في المفارق
ومن محاسن القصيدة قوله:
شرٌّ من الخطب مثر رحت تحسبه
…
أهلاً لغوثك وهو العاجز الوكل
يختال في حلل خز ولو عقلت
…
لنسلت نسجها من خزيها الحلل
وكيف يفخر مغتر بحليته
…
وصدره من قلادات النهى عطل
شأن الغني الذي يضحي بلا عمل
…
شأن الغبي الذي يزري به الكسل
ولكن وصفه لنفسه، بضمير الغائب، في قوله:
كأنه شامخ لا الحزن يوهنه
…
ولا يحرك من أركانه الجذل
لا يليق بالشاعر الذي من خصائصه أن يكون مرهف الحس فلا بد أن يطرب ويحرك
الجذل من أركانه
اجتماعيات
قصيدة الأستاذ السيد حسن القاياتي، وهي قصيدة قديمة تردد مجالس الأدب بعض أبياتها كقوله:
كأن وساما يعتلي صدر جاهل
…
جنى من الأزهار يحمله قبر!!
ويتنادرون بأنه أنشدها المرحوم حافظ بك إبراهيم فلما جاء عند قوله:
لو إن المساعي تكسب المجد لم يلح
…
بأوج العلا إلا أنا وأخي البدر
قال له حافظ: أيه يا أخانا. . يورى بأنه البدر
وهي - كسائر شعر القاياتي - نبيلة الأغراض، مركزة المعاني، وكثيراً ما أغار على معانيها لصوص الشعر كأن صاحبها قد أنهبها. . تضيق ألفاظها بمعانيها، فبعض المعاني يعوزه البسط في التأدية مثل قوله:
حبيب إلى الإنسان كل طريفة
…
ولو بات في أثناء بردته البدر
فهو في حاجة إلى أن يبين بأن الملازم ممل ولو كان البدر؛ على أن أكثر المعاني يؤديها اللفظ بإيجاز بليغ كقوله:
شمائل غر أصبحت وهي سؤدد
…
ويانعة الأثمار أولها زهر
والقاياتي عميق الفكرة، دقيق الالتفات، ولعل هذا هو الذي يجعله ضنيناً بالبسط، فهو يرى أنه أبان بتأديته المعاني بذلك الإيجاز، فالزيادة حشو، وهو يعلو في أسلوبه مترفعاً بالجزالة عن السهولة والتبذل، أنظر إلى قوله:
أًشَفُّ وصال الغانيات ملاحة
…
تُلهِّيك بالحسناء ليس لها مهر
فأنك وأنا إذا أردنا أن نعلم ما يقول لابد أن نشحذ الذهن لينفذ إلى عمقه، وهناك نقف على معناه، يقول: ملاحة الحسناء التي لا تتزوجها فلا تدفع لها مهراً أشهى وصال الغانيات وأشده قتلاً للكلف المدلَّه
والقاياتي شاعر مجدد. . من المجددين الحقيقيين لا الذين يرددون كلمة التجديد، ويتحلون بمضغها، فهذه قصيدته قل أن تجد فيها معنى من المعاني العامة، فأكثرها مشابه من خواص المعاني التي لم يسبق إليها كقوله:
كأن وساماً يعتلي صدر جاهل
…
جنىّ من الأزهار يحمله قبر!
وقوله:
تطالعنا تحت البراقع أوجه
…
حسان كما يغري دُجُنَّته الفجر
وقد تناول في القصيدة بعض النواحي الاجتماعية بالنعي والنقد المر كقوله يصف المجالس والمجتمعات:
مجالس حفل بالقبيح كأنها
…
مغاني بغايا ملؤها الفحش والهجر
إلى أن يقول في ذلك:
تحياتهم سب الجدود فكاهة
…
وكم نيل فيمن يشتهون فتى برر
سباب تهاداه الثغور بواسما
…
كأن الذي أهداه بينهم عطر!
وقد صور نوازعه وأحاسيسه في القصيدة تصويراً بارعاً صادقاً والأبيات الآتية تدل على نبل خلقه، وتصور ميول نفسه، قال:
إلى الله أشكو أنني لست واجدا
…
سوى لذة من دون تحصيلها العهر
أشف وصال الغنيات ملاحة
…
تلهيك بالحسناء ليس لها مهر
إذا أمكنت من ريقها الخمر صاح بي
…
نذير الهدى: ما أنت والخمر
أمر بها في الكأس حمراء عذبة
…
فأحسبها جمراً وفي كبدي جمر
وفي البيت الأخير يقول أنه يمر بالكأس حمراء عذبة، فإذا كان يشهدها حمراء فكيف علم عذوبتها؟!
قد يباح للشاعر أن يتردد ويتناقض في قصائد من شعره لاختلاف الظروف التي تحيط بمشاعره، فان للشاعر من ذلك ما ليس للعالم الباحث؛ ولكن لا يجوز له أن يتردد أو يتناقض في قصيدة واحدة، فكيف يجمع شاعرنا بين قوله:
كفى ضيعة للحسن خدر يصونه
…
أرى الطيب كل الطيب أن يهتك الخدر
وقوله:
كناسكم يأيها الغيد أنني
…
ضمنت لكم أن ينهب اللؤلؤ النثر
هو العار فليقن الحياء وإنه
…
لكالنحر للعشاق أن يكشف النحر
وفي البيت التالي مغالطة:
يقولون إن الراح للفكر صيقل
…
وربك ما في الراح عقل ولا فكر
فإن خلو الراح من العقل والفكر لا يمنع من أن تصقل الفكر، وهناك كثير من الأشياء تصقل الفكر وليس لها عقل ولا فكر
الشباب
والأستاذ حسين شفيق المصري لا يذكر الشباب إلا بالهوى والشراب كأن الشباب ليس فيه ما يذكر وما يتحسر عليه إلا الأوانس والحميا، فهو يقول في المطلع:
تذكر بعد أن شاب الشبابا
…
فأنَّ وقد دعاه فما أجابا
وشاقته الأوانس والحميا
…
فود من التشوق لو تصابى
وليس في القصيدة ذكر للشباب بغير اللهو والمجون، فهي لا تعني الشباب إلا بما فيه من التماجن، أما ما يلابس الشباب من نواحي الجد فلا أثر له فيها
والقصيدة عليها مسحة من الجودة، وفيها أبيات مطربة كقوله في وصف الكأس والنديم:
أيا حزناً عليَّ ولست أنسى
…
ليالي كنت أحسوها شرابا
ينادمني غضيض الطرف صاح
…
ذكي يستبيك إذا تغابى
يميل بكأسه يسقيك منها
…
صفاء بعد أن رشف الحبابا
فلا أدري أكانت من رحيق
…
كنفح الطيب أم كانت رضابا
سحرت وهل شرابك غير سحر
…
وضوء الشمس بين يديك ذابا
حنانك أَبق من عقلي قليلاً
…
لأعلم حين تسألني الجوابا
وهذا في الحق إبداع وفي قوله: (ذكي يستبيك إذا تغابى) جمال يستبيك
وشعر الأستاذ حسين شفيق خفيف الظل، تشييع فيه روح الفكاهة. ويظهر أن هذه الروح تلازمه حتى أنك تجدها في التحسر على سالف الشباب، وكم هو ظريف في قوله:
ومن يكتم حساب سنيه يوماً
…
فصفحة وجهه تبدي الحسابا
كأن صفحة الوجه (عداد) للسنين. . .
وهو في هذا البيت:
ولولا أن يقال دهاه مس
…
فخولط ما تأبيت الخضابا
لا يأبى الخضاب إلا خشية اللوم، أي أن الخضاب عنده إن لم يكن يوده فهو أمر لا غبار
عليه، ولكنه في البيت التالي:
ومن ظن الشباب صبيغ شعر
…
فان الصقر قد أمسى غرابا
يسخر من صبغ الشعر، فيقول أن صبغ الشعر لا يجتلب الشباب، وإنما يشوه، كما يمسخ الصقر غرابا إذا صبغ بالسواد، والخضاب والصبغ من قبيل واحد، فودادته الخضاب في البيت الأول لا تتفق من السخرية من صبغ الشعر في البيت الثاني
وقد تعارف الناس على أن شارة الحداد السواد، ولكنه يقول:
اتخذت بياض رأسي لي حدادا
…
على عمر الشباب فوا شبابا
فكيف يتخذ البياض حدادا؟
غريب في باريس
ليس يكفي هذا العنوان وعِلْمُ الناس أن الدكتور زكي مبارك قضى فترة من الزمن في باريس يطلب العلم في إحدى جامعاتها، لأن تصف هذه القصيدة غريباً في باريس، بل لابد أن تفي القصيدة نفسها بهذا الغرض، لابد أن تصف غريباً وتصور نوازعه وحنينه إلى وطنه، ولابد أن يكون هذا الوصف ملابساً لباريس مشتملاً على خصائصها. أما عن الشطر الأول فقد فعل وأحسن، وإن كان لم يُجد الإجادة التي تنبغي للدكتور زكي مبارك؛ تألم من الغربة فقال:
يا جنة الخلد كيف يشقى
…
في ظلك النازح الغريب
الناس من لهوهم نشاوى
…
ودمعه دافق صبيب
يقتات أشجانه وحيداً
…
فلا صديق ولا قريب
أقصى أمانيه حين يمسي
…
أن يهج الخفق والوجيب
وهذه الأبيات أحسن ما في القصيدة
وحن إلى وطنه فقال:
مغاني النيل كيف أقصت
…
ربيب أزهارك الخطوب
وكيف ألقينه بأرض
…
أصح أحلامها كذوب
وصور نوازعه إلى المجد الذي وقد اغترب من أجله فقال:
يسدد السهم ليس يدري
…
أيخطئ السهم أم يصيب
يطارد المجد في زمان
…
إقباله غادر لعوب
الشهم من ناسه شريد
…
والحر من أهله غريب
وهذه الأبيات - وإن كانت عادية - فيها روح من يطارد المجد
وأما باريس، فلها الله باريس! كل ما أثنى به عنها قوله في المطلع:(يا جنة الخلد) وقوله بعد ما ذكر أنه ألقى بأرض أصح أحلامها كذوب:
أديم أجوائها سواد
…
فلا شروق ولا غروب
وحب غاداتها موات
…
فلا سكون ولا هبوب
أكل ما يقال عن باريس أن الضباب يملأ أجوائها وأن حب غاداتها موات؟ وهل تعد هذه الأشياء من خصائص باريس التي تميزها من غيرها؟ أو لا يصح أن يطلق على القصيدة بدلاً من (غريب في باريس): غريب في أي بلد من بلاد الله التي يصح أن تشبه بجنة الخلد، ويكثر فيها الضباب ويكون حب غاداتها مواتاً. .؟
ألا إن الغريب في باريس يقول قصيدة لم يقلها بعد الدكتور زكي مبارك
ثلاثة شعراء
هم الأساتذة: سيد إبراهيم، عزيز بشاي، كامل كيلاني. أنشد كل منهم قصيدة كنا نود لو أنشأ أو أختار من شعره غيرها تكون أدنى إلى الغاية المرجوة من الموسم، فالناس يبتغون من موسم محتفل له شعراً يشعرهم بجزالته وعلو معانيه وسمو أخيلته أن للموسم خطراً. . . أما الأول والثاني فكان قولهما تافهاً: معان عامة وأفكار عادية وأسلوب خال من القوالب والتعبيرات الشعرية مثل قول الأول يناجي ولده:
جذلان تفرح لو يز
…
يد على نصيبك درهم
وقول الثاني يصف حال الأغنياء:
لا يملؤون بمليم عقولهم
…
ويملؤون بطوناً بالجنيهات
وما إلى هذا مما لا نطيل بذكره لعدم فائدته. وإنه لخير للأستاذ إبراهيم أن يقتصر على خطه الجميل ويدع الشعر للشعراء
أما الثالث وهو الأستاذ كامل كيلاني فقد ألقى قصيدته (الباز والقبرة) وهي تحكي أن (بازاً) اصطاد (قبرة) فجاءه (لقلق) يأخذ عليه استبداده بالقبرة الضعيفة، فقال له الباز: وأنت أيضا
تصطاد الضفدع الضعيف فهلا تركته كما تريد مني أن أدع القبرة. ثم علق الأستاذ على الحكاية بعد أن ساقها نظما بقوله:
كم خطيب على المكا
…
رم قد حث معشره
إن رأى ناكباً عن الخي
…
ر لحاه وعيره
هفوات الورى يرا
…
ها ذنوباً مكبره
ثم يلقي ذنوبه
…
هفوات مصغره
مثل هذا منافق
…
جعل النصح متجره
نصحه كله خدا
…
ع وغش وثرثره
وموضع قصيدة مثل هذه كتاب من كتب الأطفال، لا موسم الشعر؛ وأسلوبها سليم، ونظمها طبيعي لا تكلف فيا أما نقدها من حيث الموضوع فمن اختصاص أهل العلم بتربية الأطفال، فلا نقول فيما لا نعلم
عباس حسان خضر
3 - أثر الحرب الكبرى في بريطانيا
للأستاذ رمزي ميور
أستاذ التاريخ الحديث في جامعة منشستر سابقاً
تتمة
ترجمة الأستاذ محمد بدران
ناظر مدرسة بمباقادن الابتدائية
وفي أيرلندة أيضاً لاح أن الحرب قد أتاحت لها فرصة العمل على نيل ما كانت تطلبه منذ زمن بعيد من تقرير حقها في الحكم الذاتي. وكانت أيرلندة هي الجزء الوحيد من أجزاء الإمبراطورية الذي انتهز فرصة الحرب للثورة مع أن هذه البلاد كانت من الوجهة القانونية جزءاً من المملكة المتحدة ممثلاً في البرلمان البريطاني أتم تمثيل. وقد فعلت أيرلندة ذلك من قبل فثارت في كل حرب من الحروب الأوربية الثلاث التي اشتبكت فيها بريطانيا في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر. شبت الثورة فيها علنا سنة 1916، ثم أخمدت ولكن الحكومة شعرت أن من الخطر أن تطالب أيرلندة بما كانت تطالب به إنجلترا واسكتلندة وويلز من الرجال، ومع أن كثيرين من الأيرلنديين قد تطوعوا للحرب باختيارهم فقد بقي الشعب الايرلندي بوجه عام في معزل عنها يدعوا الله أن يخذل بريطانيا. ولما وضعت الحرب أوزارها شبت فيها من جديد نار الثورة التي كان يلوح وميضها خلل الرماد، ودارت فيها رحى حرب أهلية طاحنة انتهت بإذعان بريطانيا وتسليمها للقوة بما لم ترض أن تسلم به للنزاع الدستوري فأعطت الايرلنديين أكثر مما كانوا يرتضونه قبل ذلك الحين، ذلك أنها قبلت في سنة 1921 أن تتكون من أربعة أخماس أيرلندة (دولة أيرلندة الحرة) وهي دولة ذات استقلال داخلي تام تتمتع بنظام (الأملاك المستقلة) وبحق تقرير ضرائبها الجمركية وإنشاء جيشها وسن قوانينها وسك عملتها. وبذلك كان جزء الإمبراطورية الوحيد الذي ظل طلبه الحكم الذاتي يرفض على الدوام جزءها الوحيد الذي نبذ كل فروض الطاعة والولاء أثناء الحرب، وكان أعظم النتائج السياسية للحرب وأعجبها أن انتهى بهذه الطريقة الحاسمة ذلك الكفاح الطويل الذي دام أربعة قرون، وتلك مقارنة
ذات مغزى جليل تثبت أن الحرية لا الإرغام هي التي تمسك أجزاء الإمبراطورية وتمنعها من التصدع والانهيار، وهي أول إمبراطورية قامت في تاريخ العالم ينطبق عليها هذا المبدأ
وأول ما نشأ عن مطالبة أجزاء الإمبراطورية أن تشترك اشتراكا أوسع من ذي قبل في الإشراف على شؤونها أن دعيت طائفة من الساسة يمثلون الأملاك المستقلة والهند لينضموا إلى عضوية (المجلس الحربي) وكان لهؤلاء الأعضاء شأن كبير في تقرير السياسة التي اتبعت في آخر أدوار الحرب، وكان يظن أن هذا سيؤدي إلى وضع نظام للتعاون بين أجزاء الإمبراطورية أدق وأوفى بالغرض من النظام القديم. لكن شيئاً من ذلك لم يحصل لسبب رآه المتتبعون لسير الحوادث نذيراً بانحلال الإمبراطورية في المستقبل، ذلك أنه لما عقد مؤتمر الصلح حضره مندوبون عن الأملاك المستقلة والهند، ولكنهم لم يحضروه من حيث هم أعضاء في وفد الإمبراطورية البريطانية فحسب، بل من حيث هم ممثلون لبلادهم أيضاً، ثم وقعوا المعاهدات كممثلين لدول مستقلة، ولما تكونت عصبة الأمم ظهرت الأملاك المستقلة والهند مرة أخرى وإن كان ظهورها في هذه المرة اختلف بعض الاختلاف عنه في المرة السابقة؛ فقد جعلت الإمبراطورية البريطانية من حيث هي وحدة قائمة بذاتها عضواً دائماً في مجلس العصبة، لكن كندا واستراليا وزيلندة الجديدة وجنوب أفريقية والهند أصبحت كلها أعضاء في الجمعية العمومية للعصبة لها ما للدول المستقلة، وأصبحت كندا بالفعل عضواً من أعضاء المجلس غير الدائمين. ويرى البعض في هذه الظواهر دليلاً على أن الإمبراطورية لا ينظر إليها في هذه الهيئة العالمية كما ينظر إلى وحدة سياسية، بل يعامل كل جزء من أجزائها معاملة دولة مستقلة ذات سيادة، ويعزز هذا أن تلك الأملاك أعطيت حقها كاملاً غير منقوص في بحث المسائل الدولية داخل العصبة أو عن طريقها، وأن الذي تبحثه ليس هو السياسة التي يجب أن تسير عليها الإمبراطورية المؤلفة من هذه الأملاك، بل إنها تشترك في البحث اشتراك الدول المستقلة
وهكذا أظهرت الحرب ولاء أعضاء الإمبراطورية لها، ولكنها أعقبها ضعف ظاهر في الروابط التي تؤلف بين هؤلاء الأعضاء. فالأملاك المستقلة تطلب لنفسها حق تعيين سفراء من قبلها لدى الدول الأجنبية وأصبحت تتمتع بهذا الحق دون معارضة، فقد عينت كل من
كندا وأيرلندة سفيراً لها في واشنجتن، وتطالب هذه الأملاك أيضاً بحق عقد المعاهدات مستقلة مع الدول الأجنبية. وقد عقدت جنوب أفريقية بالفعل معاهدة مع ألمانيا. واعترفت بريطانيا نفسها بهذا الانحلال التدريجي وبتفكك وحدة الإمبراطورية السياسية فقد نص في معاهدات لوكارنو صراحة على أن بريطانيا وحدها هي التي تربط بالتعهدات المدونة في هذه المعاهدات وأن الأملاك المستقلة لا شأن لها بها. ووضع هذا النص بناء على طلب الأملاك المستقلة نفسها لأن السياسة التي قامت عليها هذه المعاهدات لم تكن وليدة اتفاق عام بين أجزاء الإمبراطورية بل قررتها بريطانيا بمفردها إذ لا توجد أداة لوضع سياسة عامة تسير عليها الإمبراطورية
وبهذه الطريقة أصبحت الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب هيئة سياسية مفككة العرى؛ فليست هي دولة واحدة إلا في خضوعها خضوعاً اسمياً لتاج واحد، وليست هي دولة تعاهدية أو حلفاً قانونياً أو عصبة مجتمعة تعرف بها، وذلك لأنه لا توجد معاهدة تحتم على أعضائها الاشتراك في العمل. وإنما هي شركة مفككة مكونة من دول مستقلة تربطها بعضها ببعض عاطفة ومصالح مشتركة ولكل عضو فيها كامل الحرية في أن يختط لنفسه الخطة التي تلائمه في أي وقت شاء. واعترف بهذا اعترافاً كاملا صريحاً في المؤتمر الإمبراطوري الذي عقد في عام 1926 والذي كانت قراراته من أهم الحوادث البارزة في تاريخ الإمبراطورية البريطانية. وقد يرى فيها المؤرخون في المستقبل تسجيلاً نهائياً لترك كل محاولة ترمي إلى تدعيم وحدة الإمبراطورية السياسية واعترافاً بانحلال هذه الإمبراطورية انحلالاً ودياً نهائياً. والدليل على ذلك أن الأملاك المستقلة أعضاء في عصبة الأمم تربطها بها روابط وثيقة وليست أعضاء مرتبطة في جسم الإمبراطورية
ومع هذا فإن الأملاك المستقلة (مع جواز استثناء دولة أيرلندة الحرة وجنوب أفريقية) تعد نفسها مرتبطة بالإمبراطورية برباط أقوى مما بينها وبين العصبة. وإنما الفارق بين الهيئتين أن العصبة أوجدت أداة للاستشارة المشتركة، والعمل المشترك أحكم من كل ما فكرت فيه الإمبراطورية. فللعصبة جمعيتها العمومية التي تنعقد بانتظام في كل عام والتي تدور فيها المناقشات العامة، وللعصبة مجلسها الذي يجتمع ثلاث مرات في السنة. أما الإمبراطورية فليس لها إلا المؤتمر الإمبراطوري الذي يجتمع مرة في كل أربع سنوات
والذي حددت له واجباته. وللعصبة سكرتيرية بديعة النظام ذات هيئات خاصة من الخبراء تبحث المشاكل الحربية والاقتصادية ومسائل العمال والصحة وما إلى ذلك؛ أما الإمبراطورية فليست لها هيئة مركزية إلا وزارة المستعمرات التي هي جزء من الأداة الحكومية لعضو واحد من أعضائها وهي لذلك لا تستطيع أن تعمل معتمدة على تأييد جميع الأعضاء
ويرى الجنرال أسمطس الذي ربما كان أعظم ساسة الإمبراطورية كلها والذي كان منذ ثلاثين عاماً يقاومها بقوة السلاح، ويرى هذا الجنرال أن الحكومة اللامركزية في الإمبراطورية وصلت إلى أبعد حد حتى أصبحت انحلالاً حقيقياً، وهو قوي الاعتقاد بأن الرابطة السياسية التي نشرت لواء السلام على ربع بلاد العالم هي رابطة جليلة القدر يجب ألا يسمح لها بالانحلال تدريجياً، ولذلك يدعو إلى العمل فوراً لتقوية هذه الرابطة بوسيلة لا تنقص من استقلال أجزاء الإمبراطورية كما لا تنقص عصبة الأمم من هذا الاستقلال
فإذا ما شرع في العمل لهذه الغاية فان أربعة أمور تجب مراعاتها بنوع خاص: أولها أن توجد وسيلة للتشاور الدائم في السياسة الخارجية تضمن اتحاد الإمبراطورية كلها في العمل داخل دائرة العصبة وبهذه الوسيلة يتسنى للإمبراطورية (التي هي أكبر قوة لنشر لواء السلم في العالم) أن تضطلع بقسط كبير في تقوية دعائم السلم العالمي. والأمر الثاني أن توضع سياسة مشتركة للدفاع الإمبراطوري يمكن بواسطتها تنفيذ العهود التي يلقيها على عاتقها ميثاق العصبة ونشر لواء السلم والقانون في الأصقاع الواسعة المتأخرة غير المستثمرة داخل الحدود الإمبراطورية. والأمر الثالث أن توجد وسيلة للتشاور والإتقان على الطريقة التي تعامل بها الشعوب المتأخرة التي تكون الآن قسماً كبيراً من سكان الإمبراطورية. ذلك بأن تبعة حكم هذه الشعوب المتأخرة يقع معظمها الآن على عاتق بريطانيا. غير أن أفريقية الجنوبية تقع عليها أيضاً تبعات كبيرة من هذا القبيل. كذلك انتدبت استراليا وزيلندة الجديدة بعد الحرب لإدارة أرضين واسعة في غانة الجديدة وجزائر المحيط الهادي. وتعاني كندا مشاكلها الخاصة في كيفية حكم الهنود الحمر في غربها والإسكيمو في شمالها. ومع أن الشعوب البريطانية أخذت على عاتقها هذه التبعات العظيمة وهي إرشاد الشعوب المتأخرة ونشر المدنية بينها فإنها لم تعن إلا عناية قليلة بدراسة
المشاكل الناشئة من هذا الواجب دراسة علمية، ولم تحاول الشعوب البريطانية أن تتبادل الرأي للاتفاق على المبادئ التي يجب أن تسير عليها في تحضير هذه الشعوب. وأخيراً إن الإمبراطورية في حاجة شديدة إلى اشتراك أجزائها في العمل في الميدان الاقتصادي. لقد أخذت الشعوب البريطانية على عاتقها القيام بعمل كبير هو تنمية موارد أصقاع واسعة في العالم، لم تنمَّ بعد، حتى تنتفع الإنسانية بهذه الموارد، ولكنها لم تعر هذا العمل ما يستحقه من العناية. وليس لها أن تعده مجرد وسيلة لاستغلال هذه البلاد أو تتركه للظروف والأقدار أو تكله لإشراف الاتحادات التجارية الكبيرة غير المنظمة بل يجب عليها أن تفكر فيه وتنظمه على قاعدة تعاونية بالاتفاق مع جميع الدول الداخلة في دائرة الإمبراطورية والتي تشترك معها في تحمل تبعته كما أن عليها عندما تقوم بهذا الواجب أن تراعي جانب العدل في معاملة الشعوب الهمجية
إن المجال لا يتسع هنا لبحث ما يتبع من الوسائل في أداء هذه الواجبات أو الأداة اللازمة لأدائها، ولكن الذي لا مرية فيه أنه إذا لم يشرع العاملون على تنمية موارد الإمبراطورية في عملهم بمثل هذا الروح الذي وصناه وهم عالمون بما في وسعهم أن يصلوا إليه بمجهودهم، إذا لم يفعلوا ذلك فان الأمل قليل في بقاء الإمبراطورية البريطانية كهيئة سياسية عاملة. لقد أخذت هذه الإمبراطورية تسير بعد الحرب نحو الانحلال السلمي بخطى سريعة، وإذا ظلت تسير في هذه السبيل كان ذلك دليلاً على إفلاس السياسة البريطانية
ولقد كان من نتائج شعور الإمبراطورية بحاجتها إلى سياسة تعاون قومية أن وضعت عدة اقتراحات ترمي كلها إلى تدعيم وحدتها بتقوية الروابط المالية بين أجزائها المختلفة. ومن هذه الاقتراحات أن تترك الأملاك المستقلة والهند سياسة الاكتفاء بالنفس من الناحية الاقتصادية أو تعدلها بعض التعديل على أن تعود الإمبراطورية مجتمعة إلى السياسة التي كانت تسير عليها بين عام 1660 وثورة المستعمرات الأمريكية فتبدأ بإقامة سياج جمركي حول الإمبراطورية كلها بصد تجارة البلاد غير البريطانية ثم يتبع في داخل هذا السياج بالتدريج نظام التجارة الإمبراطورية الحرة. ويرجو أنصار هذا الرأي أن تؤدي هذه الوسائل إلى تمكين الإمبراطورية البريطانية بصفة عامة من الاكتفاء بنفسها وهو ما تعجز عنه بريطانيا وحدها بطبيعة الحال. وبذلك تصبح الإمبراطورية وحدة مالية على نمط
الولايات المتحدة الأمريكية وتحقق الفكرة التي يدعو إليها بعضهم لتكون علاجاً لما نزل بأوروبا من الكوارث وهو إنشاء ولايات متحدة أوربية وإن كان الأمل في تحقيق هذه الفكرة ضعيفاً. على أن الصعاب القائمة في وجه هذا المشروع البريطاني كبيرة جمة. منها أن الأملاك المستقلة والهند لم تظهر دليلاً على استعدادها لترك سياسة الاكتفاء بالنفس التي تسير عليها أو تسمح بدخول البضائع البريطانية التي تنافس منتجاتها إلى بلادها، ومنها أن الرخاء الذي تتمتع به معظم البلاد التابعة للإمبراطورية ناشئ من قدرتها على الاتجار بكامل حريتها مع جميع بلاد العالم وان الأمم التجارية الأخرى تعارض في نقص هذه السياسة. وزيادة على ذلك فإن المعاهدات التي تحتم على كثير من الأملاك البريطانية وبخاصة ما كان منها تحت الانتداب أن تسوى بين بضائع جميع الأمم في بلادها وحتى إذا أمكن التغلب على هذه الصعاب فان كثيرين من الناس يعتقدون أن الإمبراطورية إذا استحالت وحدة مالية مستقلة عن غيرها أصبحت سبباً للاحتكاك والحرب بدل أن عاملاً من عوامل السلم، وإن إتباع سياسة الاكتفاء بالنفس والاستقلال عن الغير إلى هذا الحد الكبير يجر الخراب على العالم، ومن الناس من يعتقد أن بريطانيا نفسها لا تستطيع وهي آمنة أن تغامر هذه المغامرة الخطرة فتضحي بثلثي تجارتها مع البلدان الأجنبية لكي تنمي الثلث الباقي وهو تجارتها مع سائر أجزاء الإمبراطورية
على أن الجدل الذي قام حول هذه المشكلة المالية لا يمت بصلة إلى المشكلة الأخرى الكبيرة التي قد تطغى عليها المشكلة المالية وهي: هل يسمح أن تستمر عملية التفكك التي يلوح أنها أخذت تدب في جسم الإمبراطورية بعد الحرب دون أن تتخذ الوسائل لوقفها عند حد؟ وهل تستمر الإمبراطورية على إنها أخوة من الأمم لا يرتبط بعضها ببعض إلا برباط العواطف وأن يكون ما فيها من أداة للتعاون أقل صلاحاً للعمل من أداة عصبة الأمم وهي الهيئة التي ليس بين أعضائها من الروابط ما بين أجزاء الإمبراطورية؟ أو هل يستطاع إيجاد وسائط للتشاور والاشتراك في السياسة الخارجية والدفاع وحكم الشعوب المتأخرة وما اضطلعت به من إنماء موارد البلاد الواسعة من غير أن يمس ذلك استقلال أعضائها الداخلي بحال من الأحوال؟ إن هذا النظام إذا أنشئ لا يتعارض بطبيعة الحال مع الأغراض التي قامت من أجلها عصبة الأمم بل يقوى بناءها ويمكن أساسها، كما أنه لا
يزيد في أخطار الاحتكاك والنزاع إلا إذا اتبعت فيه سياسة العزلة التجارية. ولن يكون له إلا معنى واحد وهو أن أكبر إخاء من الشعوب المختلفة رآه العالم في تاريخ حياته يستخدم ما يخوله التعاون من قوة في استثمار موارد ربع أنحاء المعمورة وتهيئة هذه الموارد لخير هذا الإخاء ولخير العالم المتمدين كله ولترقية الشعوب المتأخرة
ليس بين المشاكل التي خلفتها الحرب وتركتها من غير حل أعقد من هذه المشكلة وأعصى منها على الحل.
محمد بدران
مقطوعات شعرية
للأستاذ عبد الرحمن شكري
صلاح الحياة أم غايتها
قل كيف نحيا ولا تقل لي
…
ما حكمة العيش والبقاءْ
فمطلب للعلاء يحدو
…
وآخر كله عناء
كم سأل السائلون قدماً
…
ما الكون ما العيش ما الفناء
مسألة ما لها جواب
…
وليس يُلفَى لها غناء
كساخط من طروق داء
…
وتارك خلفه الدواء
ود الأسى
يا رفاقاً طالما أَنْسَتْهم
…
لذةُ العيش حزيناً، يا رفاق
قد وجدت الصدق في ود الأسى
…
مِقَةُ اللذات كسب ونفاق
غبي ذكي
يا غبياً رأى الذكاء شقاء
…
ورأى النحس أن يكون أريبا
أنت أذكى من الذكيِّ الذي يح
…
يا شقياً لكي يكون أديبا
وإذا كانت الغباوة نعمى
…
فمن الحمق أن تكون لبيبا
البصير الأعمى
يا قلب صبراً ولا تعتب على قسَم
…
قد استوى الناس في عتب على القِسَمِ
الحظ أعمى لدى من لم ينلْ أرباً
…
وهو البصير لدى من فاز بالنعم
خطة الضعة
في كل نفس من نفوس الورى
…
شيء من الحقد وسوء الظنون
إن كَذَّبَ المُثنى على نفسه
…
صَدَّقَ من يُزْري بفضل القرين
لذاك يُعْلى الخب من نفسه
…
إن هَدَّ من فضلٍ بمدح قمين
أكثر من إعلائه نفسه
…
بأن يزكي النفس عند الفطين
ناجح
كل بِشْرٍ منه فَخٌّ
…
كل لفظ منه غدرْ
بلغ النجحَ بلؤم
…
إن بعض النجح وِزْرْ
الكذب
للكذب في الناس أوساط مُجَنَّحةٌ
…
والصدق يسعى لديهم كالسُلَحفَاةِ
يهوون ما لا يسيغ العقل من كذب
…
وينبذ الحق من حرص المجاراة
كأنما الكذب ملح يستلذ به
…
طهي الحديث وإشباع السخيمات
إخفاء السريرة بالنطق
أتحسب أن الله أعطاك منطقاً
…
لتبسط من لغو الكلام على الصدق
وإن لسانا بين فكيك ناطق
…
لإخفاء ما دون السريرة بالنطق
وتكتم ما قد يُظهِر الوجه أمرَه
…
بقولك قولاً باطلاً مشبه الحق
عجائب الحقد
عجبت للمرء في بغض وفي مِقَةٍ
…
هما العجيبان إن آخى وحين عدا
يرمي النِّفَايةَ لا يبغي لها ثمناً
…
حتى إذا ما حواها راغب حسدا
ويغفر الذنب من إحسان فاعله
…
حتى إذا ما نفدت آلاؤه حقدا
فخر الناجح
قبيح نجاح المرء إن هو شأنه
…
بفخر فلا يقْبُح نجاحك بالفخر
كأن لم يكن أهلاً له حين ناله
…
هو الصمت قد يُطري إذا الفخر لا يطري
جلا منه عيب النفس من بعد ستره
…
كذاك حديث العهد بالمال واليسر
ويا رُبَّ نُجْحٍ يسلب المرء رشده
…
ويبدي خصالاً منه تقتل أو تُزري
نذالة الحسد
عدوك مرجوٌّ فإن كان حاسداً
…
فلا رحمة ترجى لديه ولا عدل
وليس بنذل كل من صال أو عدا
…
وتاب ولكن الحسود هو النذل
مغفل لمغفل
قالوا الأنام إذا اختبرت أمورهم
…
وبلوت من أحوالهم ما يبتلي:
غر يخادعه لئيم عاقل
…
ولبئس حظ المرء إن لم يعقل
كذبوا، فما عيش الأنام وهزله
…
إلا خداع مغفَّلٍ لمغفل
يتهارشون على الحياة ورجسها
…
فعل الكلاب على خبيث المأكل
عبد الرحمن شكري
جهاد فلسطين
للأستاذ أمجد الطرابلسي
ثارَ فهل تستطيعُ إِخمادَهُ
…
عزْمٌ أراد الله إيقادَهُ
لا يأْتلي مُضطرِماً لاهِباً
…
أو يلقَفَ الظلُّمَ وأجناده
ويصرَعَ البَغيَ وأنصارهُ
…
ويحطِمَ الذُّلَّ وأصفاده
قد وَثَبَ الشعبُ يرُدُّ الأذى
…
وينزعُ الغُلَّ الذي آدَهُ
يُرخِصُ للأوطانِ آمالَهُ
…
طوعاً، وَدُنياهُ وأولاده
والدَّمَ فوّاراً يُروّي الحِمى
…
أغوارهُ العطشى وأنجاده
يسكُبُهُ كلٌّ فتىً سيِّدٍ
…
لا يرهب البَغيَ وإيعاده
الدَّمُ في أعراقِه صارِخٌ
…
يدعوه أن يبعثَ أمجاده
والثأْرُ في خَفّاقِه ثائرٌ
…
يدعوهُ أن يُطفِئَ أحقاده
والسيفُ، قبل النصر، في كفِّهِ
…
أقسمَ لا يسكُنُ أغماده
أما سمعتم أمسِ تَزْآرَهُ
…
يُطبِّقُ الأرضَ، وإِرعاده
ذاكم وَعيدُ اللَّيثِ؛ ويلٌ لمن
…
ينتهكُ الغابَ ليصطاده
تُمَزِّقُ العاديَ أنيابهُ
…
وقد يصيدُ الليثُ صيَّاده
قُومي فِلَسطينُ على المعتدي
…
وقَوِّمي بالحقِّ مُنآده
قومي على الذلِّ، على واغلٍ
…
سِيمَ هوانَ الذلِّ فاعتاده
قد تَخِذَ الختْلَ إلَهاً له
…
والمالَ والباطِلَ أعضادّه
قومي فإن النصر ما عَلّهُ
…
مِثلُ دَمِ الأحرارِ أوجاده
غيرُ دمِ الأحرارِ لا يُزْهِقُ ال
…
بَغيَ ولا يحطِمُ أقياده
غيرُ دمِ الأحرارِ لا ينقَعُ ال
…
ثأْرَ ولا يُطفِئُ وَقّاده
غيرُ دمِ الأحرارِ لا يبعَثُ ال
…
مَجدَ ولا ينشُرُ أعياده
قومي فهل أمجدُ من أَمَّةٍ
…
لا تَرهبُ الجوْرَ وإزْباده
قومي فهل أخلَدُ ممن قضى
…
فشادَ للتاريخ ما شاده
ماتَ ليحيا وَطَنٌ مُرْهَقٌ
…
عانٍ يريد اللهُ إسعادَه
قومي وَغنّينا نشيد الرَّدى
…
لا تسأمي في النقع ترداده
فالموتُ للمغلولِ حُرِّيةُ
…
والموت لا يمنعُ وُرّاده
يأيها العادِي رَبيبَ الأذى
…
يا عِترةَ الشرِّ وأنداده
يا شيعةَ الغدرِ وأنصارَهُ
…
يا عصبةَ المال وعُبّاده
القبلةُ الأولى، على جودِها،
…
لا تُكْرِمُ الذُّلَّ وأحفاده
لا تُنزِلُ الشذّاذَ، في قُدْسِها
…
طرائدَ الغربِ وأوغاده
من ذا الذي ارتادَ لكم مَنزِلاً
…
في الشامِ؟ إن القبر ما ارتاده!
زُمّوا رِحال الشؤمِ من قبل أن
…
نبتلع الظلمَ وأسناده
فازَ الذي يجمع أطمارَه
…
للْبَيْنِ، أو ينزِعُ أوتاده
الغِيلُ من يجعلُهُ دارَهُ؟
…
والسُّمُّ من يجعلُهُ زاده؟
غرَّتكمُ استجمامةٌ للحِمى
…
فَخِلتُم للهُونِ إخلاده
والغابُ لا تستطيعُ إخضاعَهُ
…
حتى تَخطي قبلُ آساده
يا عربُ هيا فانصروا مَوْطِناً
…
للعُرْبِ، هاجَ القِدُّ أفراده
هناكَ شعبٌ عربيُّ الهَوى
…
يحاولُ الغاصبُ إنفاده
يسومُهُ الخسْفَ وأغلالَهُ
…
ويدَّعي بالنارِ إِرشاده
ثارَ على ظُلاّمِهِ مُكرِماً
…
تُراثَه الأسمى وأجداده
مجاهداً أقسمَ لا ينثَني
…
أو تُعْتِقَ الأطواقُ أجياده
شعبُ فلَسْطين يناديكم
…
مُستبْسِلاً، يصرَعُ جلاِّده
تُدَمِّرُ النيرانُ أبياتَهَ
…
وتحصُدُ الأسيافُ أجساده
أخاكمُ يا قوم! لا تُهِملوا
…
إرفاده اليوْمَ وإمداده
رِقّوا لِبَلْواهُ وَثوروا لهُ
…
حتى يُبيدَ الحقُّ أضداده
فُذُلُّهُ تُكْسوْنَ أبرادَهُ
…
وننَصروُهُ تَجنونَ أورادَهُ
أمجد الطرابلسي
القصص
من الحياة
أهل ووطن
للأستاذ كامل محمود حبيب
أرخى الليل أستاره السود القاتمة على دنيا غضبى تزمجر في صوت عاصفة هوجاء، وسماء ينهمر منها سيل دافق، وقد قر كل إنسان في داره، ونامت الحياة في كل حي، والفتى جالس إلى موقد في زاوية الحجرة، تغمره لجة من الأفكار المضطربة، والخواطر المتناقضة، فتحجبه عن دنيا الناس. لقد رأى نفسه تعصف بها حادثات الأيام فتذرها بددا، فإن مد يده ليجمع أشتاتها لم يجد منها إلا صبابة من نفس لا تستطيع أن ترد إليه جمال الحياة التي عاش شطراً منها بين أهله وذويه، في وطنه الأول حيث ملاعب الطفولة ومراتع الشباب. وجاءته الذكريات من أقصى الطفولة تحمل على أجنحتها لذائذ ولذائذ لتنصَّب في قلبه هموماً وهموماً، واضطربت جوانح الفتى أن وقف خياله عند الساعة التي أفزع فيها هن وطنه وأهله فبكى بكاء الثكلى تفقد صبرها حين تفقد قلبها. ما الذي أزعجك عن وكرك أيها الطير وأنت ناعم على فنن تغرّد، ترى كل مباهج الحياة عند هذا العش الصغير؟ لقد ضاقت بك الدنيا لأنك تركت قلبك هناك. . . هناك في هذا العش. . .!
لم يكن الفتى كَلاً على أحد، ولم يكن معدماً، ولم يكن ضعيفاً ولا عاجزاً، ولكنه هجر وطنه وأهله حين لم يجد فيها جمال الوطن ولا عطف الأهل، وحين لم يجد بين أهله قلباً كقلب أبيه ينبض له نبضات الحنان والرحمة، ولا رجلاً في رجولته يفيض عليه من بسمات نور الحياة وجمالها. ووقف خيال الفتى عند الساعة التي همَّ فيها يفارق وطنه وأهله تتجاذبه عاطفتان: قلبه من خلف، وتأبِّيه أن يقيم على الضيم من أمام! ثم غلبته كبرياؤه فانصاع لها تقوده إلى حيث يجد أهلاً غير أهله، ووطناً غير وطنه؛ أو لا يجد. . .
ماذا كان؟ ماذا كان أيها المنزوي في ناحية من حجرة تحدث نفسك حديث الماضي؟
مرض الفتى فراح يَطبّ لمرضه في عزم الشباب وقوته، وأريد على أن يلبث في مستشفى حيناً، فما خاطب أهله في شأنه، وغاب عنه أن المرض ألم في الجسم وقلق في النفس، وأن
الشفاء يحمل إلى المريض على كفين: كف الأسى وكف الطبيب معاً
لقد خاف - بادئ الرأي - أن يفزع أهله أن ساق إليهم الخبر في صورته المزعجة، فاستأنى حتى ينزع الطبيب مشرطه، ليرسل إليهم خبراً هادئاً فيفدون على مهل. ونفض جملة حاله أمام ابن عمه الشاب فلم ير هذا في حديثه إلا صفحة من الاعتداد بالذات، والتفاني في الوثوق بالنفس؛ ثم نظر إليه نظرات ذات معنى وقال:(أيضيرك أن تستعينهم على مرضك ووحدتك؟) فقال الفتى: (لا ضير؛ غير أنى أريد أن أفاجئهم بالخبر) قال الشاب (أفتراني أملأ فراغ قلبك حيناً من الدهر؟) قال: (ولم لا وقد عرفتك منذ نشأتي تفيض عطفاً وحناناً، وتسدي النصيحة خالصة للحب وللقرابة، وتنير لي طريق الحياة بحكمتك فأسير في سنا ضوء عقلك. لقد كنت لي جماعة في فرد. والآن. . . والآن أريد أن أعرفك في مرض.) فصمت الشاب وقد حمَّله الفتى العبء وحده. . .
وحمل البرق رسالة الشاب (فتاكم في مستشفى (كذا) يطب لمرضه وينتظر قدومكم، لا خوف. . .) ثم انطلق الشاب يحمل إلى مريضه خبر الرسالة
هل وعى المريض ما قاله الشاب الباسم؟ لقد كانت وخزات الجرح تنفذ إلى قلبه في مثل طعنات الخنجر وهو يصمد لها في ثبات وصبر، وعلى وجهه علامات الضجر؛ وكان العرق ينضح من جبينه بارداً غزيراً ليرسم عليه صورة ناطقة لآلامه ومتاعبه. وأربد وجه الشاب حين رأى الفتى تتعاوره الآلام، وتتناهبه الأسقام، ثم ابتسم في رقة وهدوء ليداعب صاحبه وينزعه من آهاته العميقة، ولكنه كان يجهد نفسه ليرتد إليه جهده خائباً مخذولا
وفي أنة المحزون انقلب المريض إلى ابن عمه الشاب يقول: (ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟ أنني أريد أخوتي وأعمامي وأهلي. . . آه ما شعرت بالوحدة كاليوم. . .!) ورن صدى هذا الصوت الضعيف في قلب الشاب طعنات من يد القدر فراح يقول له. . .
ومضى يوم ويومان وثلاثة. . . ويد الطبيب تمر رفيقة على جرح المريض فيلتئم صدع منه على صدع، وتنفرج في قلبه صدوع وصدوع، لأنه لم يفز بعد برؤية أحد أقربائه؛ ولم يستشعر لحنان إلا من قلب هذا الشاب الذي يختلس من أوقات عمله فترات من فراغ يقضيها إلى جانب مريضه يواسيه ويعطف عليه ويحمل إليه - فيما يحمل - هدية صغيرة، تنتزعه حيناً من أفكاره المظلمة. . .
واستطاع الفتى أن يجلس إلى ابن عمه يحدثه: (ماذا جرى كأنك لم تقص على أهلي خبري. لقد مضى أسبوع ولم يزرني سواك. أنك تملأ قلبي سلوة وعزاء بجمال جلساتك القصيرة، ولكن. . .) وراح الشاب يتلمس لأهله الأعذار: (من ذا يستطيع أن يقول سأفعل. . . لعل حادثاً لم يترام إلينا خبره حال بينهم وبيننا. . . واضطربت الكلمات على شفتي الشاب حين أراد أن ينزع عن صاحبه بعض أفكاره، وحين أراد أن يقول له أنه أصاب الهدوء والراحة حين عاقهم ما عاقهم عن أن يسرعوا إليه. اضطربت الكلمات على شفتيه لأنه كان يسمع من أقصى ضميره صوتاً يقول: (أن لا عذر. . . لا عذر اليوم!) وكان يرى في إبطائهم استخفافاً وامتهاناً، غير أن حكمته أبت إلا أن تسدل على عيني الفتى ستاراً من الوهم. وما كان للفتى أن يسمع، وأن سمع فما كان له أن يصدق، فهو وحده يشعر بالوحدة حين يخلو إلى نفسه، وهو وحده يحس ألم الصدمة. لقد أراد أن يفجأهم بخبر هادئ فانصرمت أيام وما رآهم. وتماثل العليل للشفاء، وهمَّ يريد داراً غير هذه ولم ير منهم أحداً. يا ويح هذا الفتى! لقد راح يطلب الشفاء من علة في جسمه، فملأت الأيام قلبه عللاً سلبته لذة الشفاء
وجلس الفتى إلى عمه يعاتبه: (أفكان من العطف أن أنبذ في حجرة، وحيداً، متألماً، مريضاً، أقاسي ما أقاسي فلا أجد منكم من يزورني أو يكتب إلي؟ لقد كان أبي منكم بالمكان الذي تعرفونه، وكنت من أبي من تعرفون؛ أفلا ترعون حقه في أبنه الملقى على سرير في حجرة موحشة لا يجد من يواسيه إلا ابن عمه الشاب؟) وأحس العم عظم الخطيئة فراح يعتذر: (لقد حجبنا عنك موت إحدى قريباتك) وانطلق الفتى يقول: (لقد سعيتم إلى الميت وقد انتهى، ولبثتم حول قبره أيام تبكون، لتتركوا الحي الذي لا هو بالحي ولا هو بالميت يستروح نسمات الحياة منكم فما يجدها. أفبعد هذا تزعمون، وتزعمون. . .؟) وسبقت زلة من لسان العم: (ولكن. . . أن لك لهنات!) فأسقط في يد الفتى أن سمع عمه يتشفى، وآلمه أن ينتقم أهله. لقد زل الفتى مرة وكل فتى يزل، وما كان لهم أن يعاقبوه وهو يحن إلى بعض عطفهم، وما كان لهم أن ينبذوه في الهاجرة وهو المشوق إلى فيء ظلهم. أي أهل؟ وأي أنسانية؟ واندفع الفتى المغيض: (هذا وقت تنسى الهنات، وتنطوي الزلات. أن لي لهنات لأني لم ابلغ سن العقل، ولكم أخرى لأنكم لم تبذلوا النصيحة. ولقد كفاني أن تبدي
لي الأيام ما كان خافياً، وأن تكشف لي الشدائد عن أشياء كنت أجهلها، وعن أخلاق ظننتكم تترفعون عنها. . .) ثم غمرت الفتى آلامه فأمسك، وترقرقت في عينه عبرة حبستها الكبرياء فما تبرح، غير أن أحزانه ثارت في نفسه فقال:(لقد ظننتكم أهلي، وركنت إليكم لأنكم أهلي، وشمت الخير فيكم لأنكم أهلي. أما الآن فيا خيبة الرجاء ويا ضيعة الأمل!)
ونزت في العم سورة من غضب أن رأى الفتى الطائش يلومه فيشتد في اللوم، ويعاتبه فيسرف في العتاب، وأَلَّم أن يقع بينهما تنابذ، ولكن الفتى كان قد صهرته الفكرة في بوتقة من الأحزان حين رأى عمه يتعلق بأوهى الأسباب بعد إذ عاقبه أهله على غير جريرة، في جفاء وغلظة، فرجع إلى نفسه يحدثها ويرغمها على أن تلقي السلم، فألقت واضطربت الخواطر في رأس الفتى، فتركته موزعاً ينحى على نفسه باللائمة أن قال. .
ولشد ما آلمه أن يكون هو ابن أبيه، ووحيده، واقتراحه على الله حين أعجزته الأيام عن أن يكون له ولد، والأمل الباسم في شيخوخة الشيخ وهو يدب على عصاه في طريق الفناء؛ ثم يرى أهله ينبذونه في مستشفى، ملقى على سرير، في حجرة موحشة، لا يأنس إلا بوجه ابن عمه الشاب عصر كل يوم، ثم هم يغلظون له في الحديث، ويشتطون في العقاب. ولشد ما أحزنه ألا يكون له في هذا العالم إلا ابن عمه يحنو عليه، وينظر إليه نظرات فيها العزاء وفيها السلوة، ويدخل إلى نفسه بكلام في رقة الأصيل لينسيه بعض ما همه؛ وهو كان يرى - عن كثب - الفتى أو الشيخ من أسرته يصيبه بعض ما أصابه هو فينطلق إليه أبناء الأسرة زمراً زمراً يواسونه، ويعطفون عليه، وينزعون عنه آلامه وأحزانه. أما هو. . . أما هو. . .! وتناهبته الآلام: آلام المرض، وآلام الوحشة، وآلام عزوف أهله عنه، فأخفى ضعفه المنسكب من عينيه في منديل
وخرج الفتى من لدن عمه مطوياً على آلام مبرحة تحز في نفسه، وتعض على قلبه حين رأى قلوباً تأكلها أحقادها، وعقولاً تعصف بها ترهاتها، وضاقت الدنيا في عينيه حين انهار مثله الأعلى حجراً حجراً بعد ما رأى من عمه وما سمع، فهام على وجهه يطلب الفُسحة في أرض الله. . .
وهبت أول نسمة من نسمات الفجر تشهد قلباً كبيرا ًينزح عن وطنه، ويهجر أهله إلى حيث تتقاذفه مطارح النوى، إلى حيث لا ينبض لذكره قلب. . .
وانصرمت سنون ألبست الفتى شيخوخة باكرة، ورسمت على فوديه آثار حادثة مروعة استقرت في خياله فما تريم، لقد سكن إلى وطن وأهل غير وطنه وأهله، وقلبه ما يزال عند الساعة التي أفزع فيها عن وطنه وأهله يبكي ويبكي. . .
ليتك نسيت أيها المنزوي في ناحية من حجرة تحدث نفسك حديث الماضي، ليتك نسيت أنك كنت. . .!
كامل محمود حبيب
مأساة من سوفوكليس
3 -
أنتيجونى
للأستاذ دريني خشبة
- 6 -
(تدخل إسمنيه فيخاطبها الملك)
- (ها! هلا! أيتها الحية الرقطاء التي ما تبرح تتحوى هي وأختها تحت عرشي! ماذا عندك من سموم تنفثينها؟ خبري! ألست ذات ضلع في هذه المأساة؟ أم أنك ستحلفين بأغلظ الأيمان أنك لا تعرفين منها قلاً ولا كثراً؟)
- (إن كانت هي قد حدثت عني بشئ، فأنا شريكتها في كل شئ، ولن أقول شيئاً أتحلل به من نصيبي في القصاص!
فتقول أنتيجونى: (حاشا! تأبى العدالة أن يحمل البريء وزر الجاني! أنا وحدي اضطلعت بكل شئ، ولقد رفضت أن أشركك في أي شئ!)
- (ولكني لن أدعك في تلك الملمة وحدك!)
- (الحنان من طرف اللسان لا يعنيني يا أختاه! الآلهة وحدها تعلم من فعل الفعلة)
- (أوه! أنت تأبين علي أن أقاسمك شرف الموت معك من أجل شقيقي!)
- (لا ينبغي أن تموتي معي من أجل شيء لم تجنيه! حسب أخي أن تموت أخت له واحدة في سبيله!)
- (وماذا أسيغ من مباهج الحياة بعدك يا أختاه!)
- (سلي كريون يجبك! إنه كفيل لك بكل هذه المباهج!)
- (وماذا يسرك من إيلامي ووخزي هكذا؟!)
- (قلبي مفعم بالألم، ومن أجل ذلك فشفتاي تضحكان عليك!)
- (وهل لك حاجة أستطيع أن أؤديها لك الآن يا أختاه؟)
- (أجل! حاجتي إليك أن تنجي بحياتك!)
- (وا أسفاه! أهكذا يحال بيني وبين مشاركتك هذا الجد؟)
- (ولمه؟ قد اخترت الحياة، أما أنا فقد فضلت الموت!)
- (لقد نصحت لك!)
- (أجل! لقد نصحت لي! وقد يحمد لك تيهك في هذا العالم الفاني، أما أنا، فستحمد لي الآلهة تفانيّ وحكمتي في العالم الباقي!)
- (ولكنا سيان في هذه الزلة
- (لا تنزعجي يا عزيزتي! ستعيشين طويلاً! أما أنا، فقد قدمت حياتي قرباناً للموتى منذ زمن طويل. وإذ يبلغ حوارهما هذا الحد، يقول الملك: (إحدى الفتاتين قد فقدت صوابها كله، أما الأخرى. . . فلا صواب في رأسها البتة!!
فتقول إسمنيه: (مولاي! في مثل هذه المحنة لا يملك أحد صوابه!)
فيقول الملك: (على كل حال لقد فقدت صوابك بمحاولتك مشاركة هذه المجرمة في إجرامها!
- (وما قيمة الحياة لدي إذا فقدت أختي يا مولاي؟
- (لا تقولي أختي! إنها لا شئ! لا شيء منذ الآن!
- (ماذا!! أتقتل خطيبة ولدك؟ أتقتل أنتيجونى؟)
- (النساء كثير يا إسمنيه!)
- (والحب!! الحب الذي ألف بين قلبيهما يا مولاي؟)
- (ومن يبتغي رفيق إفك وعرس خبث لولده؟)
وما كاد الملك يقولها حتى تنتفض أنتيجونى انتفاضة هائلة وتقول:
- (هايمون! حبيبي هايمون! كم ذا يسيء أبوك إليك!)
فيقول الملك: (بل أنت وزيجتك النكراء شجو علي، وظلام في حياتي!
ويتساءل رئيس المنشدين: (وهل تفصل بينهما يا مولاي؟ أتحول بينها وبين ولدك؟)
فيقول الملك: (أنه الموت وحده سيحول بينهما!)
- (إذن. . . انقشعت سحب الريب! ستقتل الفتاة!)
- (ما في ذلك شك! أيها الجنود! هلموا بها إلى السجن! ستذوب شجاعتها حين يقترب الموت من عينيها العنيدتين!
(يقودها الجنود إلى الداخل وتذهب إسمنيه في أثرها)
- 7 -
ويأخذ المنشدون في نشيد طويل حلو مليء بالعبرة مبلل بالدموع، ويذكرون محنة بيت قدموس منشئ طيبة وجد أوديب، ثم يرتلون صلاة شعرية لزيوس ما يوشكون يفرغون منها حتى يقبل هايمون المسكين العاشق - خطيب أنتيجونى - فيخاطب رئيس الخورس الملك قائلاً:
- (هايمون أيها الملك! ولدك الأوحد، وآخر عُسلوج في دوحتك! هاهو ذا مقبلاً وقد حطمه الهم، وهدمته المصيبة الفادحة. . . أوه! أنه يبكي! يا للآلهة! أيذرف الدمع من أجل حبيبته. . . الضحية؟ أم هو قد جاء يلتمس منها نظرة للوداع؟!)
(يدخل هايمون)
- (من يستطيع أن يحدس؟ سنعلم كل شيء فانتظر. (مخاطباً ولده) أحق يا بني أنك جئت إلى هنا مدفوعاً بثورة من الهم مما آل إليه أمر خطيبتك؟ أكبر ظني أن حبك أباك سيرجح عندك كل حب، وطاعتك إياه ستبرر لديك تصرفاته مهما تكن!)
ويصبر قليلاً كمن جف لسانه من الظمأ والغشية، ويقول:(أنا ابنك يا أبتاه! سأخضع لكل ما ترى من رأي، ولن أوثر على محبتك أجمل حسبان الخلد)
- (بورك فيك يا ولدي لقد كان هذا أكبر رجائي في رجاحة عقلك وعظم قلبك! إنه ليس أحب إلى الآباء من ذرية صالحة طيّعة يخزون بها الأعداء، ويسرون بها الأصدقاء؛ وإني لأثق أن هايمون اللبيب لن يفقد صوابه من أجل امرأة! اسحقها يا بني كما تسحق ألد أعدائك، وأبعث بروحها الشريرة تبحث لها عن زوج شرير في ظلال هيدز!! لقد ثارت وحدها على الملك وعلى مجلس طيبة، وقد صممنا على إعدامها من أجل ذلك، ولن ننكص على أعقابنا فيما أبرمنا! إننا هنا لا يُملى علينا ونحن أصحاب الأمر والنهي، وقد ركزت المدينة الخالدة سلطانها المبين في شخصنا فيجب أن نطاع إطلاقاً ولو كانت أوامرنا ضرباً من الشطط. . . إنه لا يهدم عظمة الشعوب كقيام الرعية ضد ملوكها ولا يهزم الجيش العرمرم ذا الأيد كعصيان جنوده قواده! وسيرى الجميع أنني هنا لأحمي القانون، وأنني لست هنا لأذل أو أتقهقر أمام امرأة!)
ويقترب رئيس الخورس من الملك فيقول: (الحق قلت، والحق دائماً تقول!)
ويتقدم هايمون إلى أبيه الملك، ويشهق شهقة هادئة ويقول:
- (مولاي! السداد بذرة صالحة تغرسها الآلهة في نفوس الصالحين! ألا كبرت كلمة أن أقول إنك أخطأت يا أبي! ولكني كابنك الأمين أرى لزاماً على أن أتقصى أقوال الناس وأفعالهم، بل وآراءهم أيضاً في ملكي الذي هو والدي؛ وأكبر ظني أن سلطان الملك يلجم أفواه الناس فما يحيرون؛ بيد أنني سمعت همساً أن الطيبيين على بكرة أبيهم يذرفون الدمع مدراراً من أجل الفتاة التي أمرت بإعدامها، وإنهم يرون في قضية القتيل رأيها ويؤيدونها كل التأييد. على أنها ماذا صنعت هذه الفتاة؟! لقد دفنت أخاها الذي غودر مضرجا بدمه، معفراً بثرى الجلبة، وأشفقت أن تدعه لكلاب الفلاة وبواشق الطير تنوشه وتغتذي به. . . . ألا وآلهة الأولمب إنها بالمكافأة أخلق، وبالعطف والإعجاب أحرى! بذلك تتلحلج ألسن القوم يا أبتاه، وهم يرددونه في كل مكان، فمن لك بمن يبلغك أقاويلهم غير ابنك الذي يحرص على سمعتك ونقائك كما تجهد أنت أن تبني له مستقبله وشهرته!! أبداً لا تسمع للذين يفتنونك عن نفسك حين يقولون لك أنك لا تعمل إلا الصواب ولا تنطق عن الهوى. فمثل ذلك لا يكون بشراً، في حين يخطئ البشر ويصيبون! ألا وأن من يدعي أنه أحكم الناس وأطيبهم كلمة يكتشف لك إذا خبرته عن خواء، وعن فؤاد هواء! أبي! ليس في الاصاخة للحق ما يُخجل، ولا في الرجوع عن الخطل ما يخزي! ألا وإن أضعف الكلأ ليقف لسيل العرم لأنه يلين له، في حين يجرف سيل العرم أذهب الدوح في السماء لأنه يأبى أن يلين لشيء! ألا وأن الملامح الذي لا يرخي العنان لهوج الرياح يكسر قلاعه ويفقد في اللجة آماله، فأي عار في أن تلين يا أعز الآباء؟! أنني ما أدعي الحكمة، ولا أقول بعلم كل شيء، ولكنك غذوتني، ونشأتني على الرأي السديد والتبصر، فأنا أعظك أن تكون ممن لا يرى إلا رأيه، أو يتبع هواه فيردى!)
ويلمح رئيس الخورس وجوماً بين الأب وابنه فيتدخل قائلاً:
- (مولاي! لا ضير أن تصغي لما في نصيحته من حق وأنت يا هايمون ينبغي أن تنتفع بتجاريب مولاك!)
فيقول الملك: (ها. . . هاها. . . بعد هذه السنين وذلك الشيب يرشدنا هذا الصبي
الطرير!!)
فيقول هايمون: (بما هو حق فحسب؟ ولا حساب للسنين في ضرورة تنزل بك قاهرة!)
- (وأي ضرورة في أن تلوذ بأذيال الثائرين؟)
- (أبداً لم ألذ بأذيال مجرم أفاق يا أبي!)
- (ولمه؟ أليست قد نهضت عليها الأدلة ودمغتها البراهين)
- (حاشا! إن طيبة كلها تنكر ذلك؟!)
- (وهل طيبة تحكمني أم أنا الذي أحكم طيبة؟)
- (في الحق أنها هي. . . لولا أن تسفِّه نعومة سني وتنسبني للنزق!
- (أي أن آخرين يشركونني في أمري؟!)
- (أن رجلاً بمفرده لا يقوم مقام مدينة بأسرها يا أبي!)
- (أو ليس كل مدينة في قبضة ملكها؟)
- (هذا إذا كان الملك يحكم كثباناً في صحراء!
ويكون الملك قد عيل صبره فيقول:
- (إذن. . . أنت حامي المرأة أيها البطل الصغير؟)
- أنت هو المرأة!. . . وأنت وحدك الذي تعنيني!!)
- (وقح!! تأبى إلا أن تناقش أباك. . . سفسطة!!)
- (بل أجهد أن أردك عن التمادي في خطئك!)
- (وأي خطأ في أن أؤيد سلطاني وأحفظ وقاري؟)
- (وأي وقار في تحقير الآلهة؟)
- (أيها الشرير! يا من تأخذ بزمامك امرأة؟)
- (أجل. . . ولكنها لن تقودني إلى مفسدة!)
- (ولذا بذلت لها دفاعك!)
- (بل بذلته لك ولي. . . وبذلته من أجل الآلهة في الدار الآخرة!)
- (إنها لن تعيش حتى تكون زوجتك في هذه الدار الأولى!)
- (أعرف. . . وأعرف أيضاً من تكون سبب خرابه وانهياره بموتها!؟)
- (هه! أنت تهدد وتتوعد أيها العاق (يا قليل الأدب!))
- (ليس يتوعد ولا يهدد من يقول قولة الحق. . . والحق الصراح!)
- (هه. . . هاها. . . ستدفع ثمن هذه القحة! أيها الناصح الغبي!)
- (لو لم تكن ملكي وأبي، لزعمتك مذهوباً به!!)
- (أنت! أيها المفتون! يا من تصيبك امرأة! أصمت! لا ترد علي!)
- (ليكون كل الكلام لك!)
- (محال! هذا محال! لابد أن تجرع كأس المنون بين يدي عشيقها! لابد أن تردى أمام ناظريه وملء عينيه! إلي بها. . .)
- (بل هذا هو المحال! لا تحلم يا أبتاه بتجريعها كأس الموت من يديك أمام ناظري. . . بل لا تحلم بأن تراني آخر الدهر بعد الآن!)
(وينطلق هايمون)
- 8 -
ويقول رئيس المنشدين: (مولاي! لقد أخذ الغضب منه كل مأخذ، والشباب المغضب يركب رأسه إذا أهين كبرياؤه، وقد يأتي من الفعال ما لا تحمد عقباه!
- (ليفعل ما بدا له! ليركب رأسه في طريق من الشوك انه لن ينقذ الفتاتين مما قسم لهما)
- (الفتاتان! وهل تُقتلان كلتاهما؟)
- (معك حق! بل الطائشة وحدها. . . تلك التي فعلت الفعلة!)
- (وبأية طريقة توقع عليها عقوبة الإعدام؟)
- (في القبو!! القبو المظلم تحت هذا القصر. ستنفرد فيه وسيفرش لها مهاد من الشوك يخز روحها وبدنها حتى تموت ولتعبد ولتبعد هنالك آلهتها. . . آلهة الفناء. . . حتى تقضي فيها قضاءها. . .)
(ويخرج كريون)
(لها بقية)
دريني خشبة
البريد الأدبي
الأدب الهندي في مختلف أطواره
تتكون اللغة الهندية الحديثة من ثلاثة عناصر؛ من أصول سنسكريتية خالصة ومن أصول سنسكريتية حورت بحسب الحاجة، ومن أصول حديثة مبتكرة أو مشتقة من اللغات الأخرى وهذه الأصول الثلاثة هي اليوم قوام اللغة الهندية المعروفة (بالهندستاني) أما اللغة الهندية التي اشتقت من الأصول الفارسية والعربية فتسمى باللغة الأوردية
ويبدأ الأدب الهندي، كما تبدأ معظم آداب العالم، بالشعر؛ وينقسم الشعر الهندي القديم إلى ثلاث مراحل تتمشى مع سير التاريخ الهندي. فمنذ القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر حيث تكثر الحروب الأهلية والغزو الأجنبي، يسود الشعر عنصر الفروسية، وكان الملوك يومئذ يلحقون الشعراء بحاشيتهم، ليثيروا الحماسة في الصدور بشعرهم. وكان أعظم شاعر في هذا العصر هو شاندبارداي صاحب المقطوعة الشعرية الخالدة:(برتفيراج رازو)، ويليه الشاعر بوشان صاحب مقطوعة (شيفاباواني)
وبعد الفتح الإسلامي ضعف شعر الفروسية في الهندية؛ فقد رأى الهنود ما أصاب دينهم من الذلة ومعابدهم من الهدم، فاتجهوا نحو الشعر الديني، واستمرت هذه المرحلة من القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر؛ وينتمي جماعة من أقطاب الشعر الهندي إلى هذا العصر مثل كبير، وجورو، وناناك، وجياسي، وميرابي، وكيشافا، وصور، وتولسي، وتولسيداس وقد وهب هؤلاء الشعراء الأدب الهندي تحفاً رائعة من الشعر الخالد؛ وكان تولسيداس بالأخص نبياً كما كان شاعراً عظيماً؛ وكانت تحفته الخالدة (راميان) عاملاً في توثيق أواصر الوحدة الهندية. وقد ساهم الكتاب المسلمون في نهضة الشعر الهندي في ذلك العصر، وإن لم يكن شعرهم كله من النوع الديني
وأما المرحلة الثالثة من شعر العهد القديم، فقد عرفت بمرحلة الشعر الشرعي؛ وقد ساد فيها السلام نوعاً، واتجه الشعراء إلى التنوع والابتكار؛ وكان أشهر شعرائها بهاري، وماتيرام، وبوشان، وصردهار كاويرايا
وبعدئذ طرأ على الشعر الهندي تطور عظيم، وأخذت الهندية الحديثة تحل تدريجياً مكان الهندية القديمة؛ وتطور الشعر ذاته فأخذ الشعراء يصفون الطبيعة والمسائل الاجتماعية
والسياسية، وكان البنديت شريدار باتالا في مقدمة الشعراء الذين استعملوا الهندية الحديثة، ومن مشاهير الشعراء المحدثين أيضاً، أبوديا سنغ أو باديايا، ومهابير دفيدي، ورمشاريت أو باديايا، وسريماتي ماديفي فارما
وأحدث أطوار الشعر الهندي، هو توجهه نحو (التصوف) وقد كان البادئ بهذا النوع الحديث من الشعر الشاعر الأمريكي والت هويتمان
وكان في الأدب الهندي قبل مجيء الإنكليز قليل من كتب النثر، وكان سادا سكلال، وانشاء الله، وسادالا مسرا طلائع النثر في الأدب الهندي، ثم جاءت البعثات التبشيرية بعد ذلك وترجمت الكتب النصرانية إلى الهندية؛ وألف الكاتب ساراسواتي كتبه بالنثر ومنها كتابه الشهير (ستيارث براكاشي) وذلك لكي ينشر دعوته الشهيرة (الآرياسماج)، وكان أعظم الكتاب الناثرين في هذا العصر بارتندو هاريشاندرا، فكتب بالنثر عدة قصص تمثيلية وأذاع دعوة النثر بين أصدقائه؛ وظهرت في ذلك العهد أيضاً بعض المجلات التي تكتب بالهندية المنثورة، ويعرف هذا العهد بعهد بارتندو
ويعرف العهد الثالث من النثر الهندي بعهد (ماهابير براساد)، ففي سنة 1903 انتخب هذا الكاتب الشهير لتحرير مجلة (ساراسواتي) في الله آباد، وقد كانت أشهر مجلة أدبية في ذلك العهد، وقد استطاع ساراسواتي أن يخلق بواسطة هذه المجلة معيارا جديدا لكتابة النثر الهندي، وأن يعاون على الظهور كثيراً من كتاب الشباب
ويبدأ النقد الأدبي في الأدب الهندي من ذلك التاريخ، وكان أشهر النقدة يومئذ المهابير براساد دويفيدي، والنبديت شارما، وبابوشيامسوندرداس، والنبديث شوكلا
ويمتاز العهد الحاضر من النثر الهندي بنشاط جم في جميع الفنون، وقد أدت ترجمة القصص البنغالية الحديثة إلى العناية بوضع قصص هندية مسرحية، وفي مقدمة مؤلفي المسرح اليوم جاباشانكار براساد، بيد أن الرأي العام لا يهتم الآن كثيراً بهذا النوع من الأدب بعد أن زاحمه القصص العام والسينما
وأهم أنواع الأدب الهندي المنثور اليوم هو القصص، وقد أدخلت القصة القصيرة إليه حديثاً، وأعظم كتاب القصص الهندي هو (مونشي برمشاند)، وقصصه من أعظم وأرفع الأنواع، ولو إنها توصف أحياناً بأنها مغرقة في المثل، وأسلوبه نموذج للشباب
وأما جاياشانكار براساد فهو فنان وشاعر يضع قطعاً مسرحية فوق مستوى القارئ العادي
وأشهر كتاب القصص في الهند اليوم هم سودارشان، وأورجا وشاتورسن ساستري، وجانندار، وهنالك مئات الكتاب الشبان الذين ينقطعون لكتابة القصة؛ ومادة القصص هي في الغالب المسائل الاجتماعية والسياسية، وهنالك قليل من الكتاب الفكهين
وهنالك مجلات هندية كثيرة من الدرجة الأولى، ومن أشهرها: شاند، وسارسواتي، وهانس، ومدهوري، وآرج، وبرأتاب، ونافيوج، وفارتمان، وغيرها
أما الأدب العلمي فلم ينضج في الهندية بعد، ولم يكثر إنتاجه. ذلك أن الهندية ليست وسيلة للتعليم الفني؛ ومع ذلك فقد ظهرت بالهندية عدة كتب علمية وفنية
ومن الظواهر الجديدة في الأدب الهندي، أن كثيراً من الكتاب الذين لا يتكلمون بالهندية يكتبون اليوم بها؛ ومن هؤلاء أمير خوسرو، ورحيم، وأمير علي مير، وغيرهم من الكتاب المسلمين
كتاب جديد لماري ستوبس
صدر أخيراً كتاب جديد للدكتورة ماري استوبس التي اشتهرت بمباحثها عن الحياة الزوجية، عنوانه (تطور الحياة عند الرجال والنساء) وتعالج الدكتورة استوبس في كتابها الجديد ناحية جديدة من الحياة الزوجية هي التطورات التي تطرأ على علائق الزوجين وعواملها النفسية والاجتماعية، وتحول عواطف الشباب إلى عواطف الكهولة؛ وتتناول بين موضوعات كتابها ما يأتي: التقدير الحسن والأزمات، التطور في الرجل والمرأة. بعض عوامل فسيولوجية في الرجل، بعض عوامل فسيولوجية في الجنسين، بعض هذه العوامل في المرأة، بعض وسائل المعالجة. . الخ وللدكتورة ستوب شهرة واسعة جدا بين الشباب الإنكليزي وهو يقبل على قراءة مؤلفاتها بشغف؛ مثال ذلك أنه بيع من كتابها عن (الحب الزوجي) نحو مليون نسخة في عشرين عاماً؛ ولها عدة كتب أخرى تلاقي في إنكلترا وأمريكا مثل هذا الانتشار المدهش
أثر تذكاري للموسيقي لست
من أنباء النمسا الأخيرة أن الحكومة النمسوية قد أعدت أثراً تذكارياً للموسيقي النمسوي
المجري الكبير فرانز لست لينصب في مدينة ايزنشتات من أعمال مقاطعة بورجنلند النمسوية، وذلك بمناسبة مرور خمسين عاماً على وفاته ومرور مائة وخمسة وعشرين عاماً على مولده؛ وقد ولد لست في سنة 1811 في ريندج من أعمال المجر يوم كانت قطعة من الإمبراطورية النمسوية ودرس في فينا وباريس، ونبغ في الموسيقى تأليفاً وعزفاً، وطاف عواصم القارة وبهر مجتمعات ذلك العصر ببراعته وسحر عزفه؛ وفي سنة 1865 اعتزل الحياة الدنيا واعتنق الرهبنة، ولكنه اشتغل بالموسيقى الكنسية، وألقى في كنائس أوربا الكبرى عدة قداسات موسيقية اشتهرت في ذلك العصر، وحجت إليها الجماهير من مختلف أنحاء العالم، وتوفي لست في سنة 1886، ومع أن لست كان مجرياً بمولده، فهو نمسوي التربية والفن، ولذلك رأت الحكومة النمسوية أن تكرم ذكراه بصنع هذا الأثر التذكاري ونصبه في مدينة ايزنشتات وهي التي عاش فيها لست أعواماً طويلة، وهذا الأثر عبارة عن تمثال رائع قام بصنعه المثالان الشهيران باراي وتسانباور؛ وقد أجرى رفع الستار عن الأثر التذكاري في حفل رائع في مدينة إيزنشتات، خطب فيه وزير المعارف ونوه بعبقرية الموسيقي الشهير، واختتمت الحفلة بعزف بعض قطع شهيرة من تأليفه