المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 161 - بتاريخ: 03 - 08 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٦١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 161

- بتاريخ: 03 - 08 - 1936

ص: -1

‌البك والباشا

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وحدثني صاحب سرّ (م) باشا رحمه الله قال: جاء يوماً إلى زيارة الباشا رجلٌ دخل عليَّ متهللاً مُشرقَ الوجه كأنه مُضَاءٌ من داخله بشمعة. . . ويترنح غِطفاه كأنما تهزُّه أسرار عظمته، ويمشي متخلِّعاً كالمرأة الجميلة التي أثقلها لحمُها وأثقلتها المعاني الكثيرة من أعين الناظرين إليها، وعلى شفتيه خيال من فكرة هؤلاء الكبراء المغرورين الذين لا يأمر أحدهم رجلاً صغيراً إلاّ ليُعلمه إنه هو كبير فيكون في الأمر شيئان: الأمر واللؤم. وأقبل عليّ في هيئة شامخة لو نطقت لقالت: سبِّح اسمَ ربك الأعلى. سبِّح اللهَ الذي خلق في الأسد شعرةً جبارة خرج منها الأسدُ كله. . . .

سبحان الله ولا إله إلا الله. هذا (فلان باشا) الذي قرأت في الصحف أمس إنهم أنعموا عليه برتبة الباشوية؛ خلقه الله من تراب وحوَّلت الرتبة هذا التراب الذي فيه إلى ذهب خالص. . . ينظر إليَّ ويرغمه أن تقف عيناه عليَّ وعلى الحائط؛ ولا تجد نفسه المزهوَّةُ سبيلاً إلى التعبير عن الرتبة إلا هذا الازدراء المنبعث من شخصه العظيم لمن لم يكن كشخصه. ما بين أمسِ واليوم زاد هذه الزيادة الآدمية، أو كأنما كانت صورته خطوطا فقط فوضعت فيها الألوان. . .

(باشا)! هذه الباء وهذه الألف وهذه الشين الممدودة ليست حروفا خارجة من الأبجدية العامة، فإن الأبجدية قد تجعل الباء في بليد مثلاً، والألف في أبله، والشين الممدودة في شاهد زور مثلاً مثلاً. . . . بل تلك حروف من حروف الدولة منتزعة من قوة قادرة على أن تجعل لحياة صاحبها من الشكل ما يسبغه الفن على الحجر من شكل تمثال ينصب للتعظيم

قال: وكنت أعرف هذا الرجل وهو رجل أميُّ لا يحسن إلا كتابة اسمه كما تكتب الدجاجة في الأرض. . . فكانت الرتبة عليه كإطلاق لفظ الحديقة على صخرة من الصخور الصَّلدة؛ وهذا مما يحتمله المجاز بعلاقة ما. ولكن الذي لا يسوغ في المجاز ولا في مبالغات الاستعارة ولا في خرافات المستحيل أن تزعم الصخرة للناس أن لفظ الحديقة الذي أطلق عليها قد أنبت فيها أشجار الحديقة

ص: 1

قال صاحب السر: واستأذنت له على الباشا فسهل له الإذن وقال: هذا رجل أصبح كالورقة المبصومة بخاتم الدولة فلتكن ما هي كائنة فان لها اعتبارها. ثم تلقاه تلقي الهازل المتهكم وقال له: أهنئك بالنحوي. . . مباركون يا باشا. . . وأقبل عليه وبسط له وجهه

وكان في الباشا دعابة ظريفة يعرف بها، وهو كثير النوادر والمُلَح، وله خصيصة عجيبة فيكون بين يديه كدس من الأوراق التي تعرض عليه ينظرفيها ويقرؤها ويتدبرها، وهو في ذلك يستمع إلى محدثه ويراجعه ويرد عليه، فيصرف الناس والأوراق في وقت واحد، ويستعمل ناحيتين من فكره استعمالاً واحداً لا يخل بالإصابة في شيء من هذه ولا من تلك

ثم قال للباشا الحديث وعينه إلى ما بين يديه: هذه أوراق سرقة ثور عظيم فكم يساوي الثور العظيم الآن. . .؟

قال صاحبنا الذكي الفطن: إذا كان من الثيران التي تعرض في المعارض وتنال المداليات الذهبية فقد يبعد سعره ويغالي به

قال الباشا: نعم نعم. إن من الثيران ثيرانا ينعم عليها بالأوسمة، ولكن هذا الثور الذي سألتك عنه يا باشا هو ثور محراث لا ثور معرض. . .

قال الآخر: إذا كان ثور محراث فمثله كثير فلا يكون ثورا عظيما كما قلت وليست له إلا قيمة مثله

قال الباشا: أراني أخطأت ولعن الله العجلة؛ فهذه أوراق سرقة حمار. . .

قال صاحب السر: وانصرفتُ عنهما بأوراقي وقد رأيت يدَ الباشا مملوءة لصاحبنا بتحيات كلها صفعات. فلم يكن إلا يسير حتى خرج مبتهجاً يميد السرورُ بعطفيه. ثم دعاني الباشا ودفع إليَّ بطاقة بالحاجة التي جاء فيها الرجل ثم قال:

يا ليت لنا في ألقاب الدولة لقب رحمه الله. . . ينعم به على مثل هذا. أتدري يا بني أن هذه الرتب وهذه الألقاب لم تكن في القديم إلا كوضع علامة الشر على أهل الشر ليهابهمُ الناس حتى كأنما يكتب على أحدهم من لقب بك أو باشا: مُلْحَق بالدولة. . .

وكان الشعب أمياً جاهلاً. لا يستطيع الإدراك ولا يحسن التمييز. فكانت الألقاب كالقوانين الشخصية الموضوعة في صيغة موجزة مفهومة متعينة الدلالة، وكان كل من يحمل لقباً من الحكومة يستطيع أن يقول للناس: لقد وضعت الحكومة كلمة الأمر في شفتّي. . . .

ص: 2

وكأن اللقب إعلام من الحكومة المستبدة لشعبها الجاهل: إن هذا البك والباشا ممن يحقُّ له أن يخشى فيجب له أن يحترم

من الهزل أن يشتري اسمُ النصر الحربيّ أو يوهب أو يُعار؛ وأقبح منه في باب الهزل أن ينعم على مثل هذا الأمي بلقب باشا. وأنا أعرف إنه قد بذل في سبيله ما بذل وأضاع ما أضاع فكأن الذين منحوه إياه لم يفعلوا شيئاً إلا وضع توقيعهم على أخذ الثمن. . .

ولقد أصبح الرجل تحت تأثير الكلمة العظيمة مخبولاً بسحرها الوهمي فحسٍبَ ذلك إدخالاً له في وظيفة كل حاكم وإشراكاً له في الحكم متى اقتضته مجاري أموره وأحواله أو حاجات أسبابه وأتباعه، وها هو ذا قد جاء يطلب حقه فان مثله لا يفهم من لقب (باشا) إلا إن الحكومة قد سوَّغت سلطَته الظهورَ والعمل فمدَّتْ باعه وقوَّت أمره ونوَّهت باسمه لمصالحها وعمالها؛ فهو عند نفسه قد التحم منذ اليوم بالنسب الحكومي: وفي كلمة واحدة هو قد وُلد من بطن الحكومة. . .

ألا ترى إن الشعب لو استردَّ سلطته الكاملة وان الناسَ لو أيقنوا إن هذه الألقاب ألفاظ فارغة من الأمر والنهي والوسيلة والشفاعة لما بقي من يعبأ بها ولكان حاملها هو أول من يسخر منها؟ فهي إذن شعبذة من الحكومة وتظليل في مثل هذا الرجل الأميّ، وهي ضرب من التهويل والمبالغة في سواه من الكبراء والعظماء؛ كأن الوزير الذي يلقب بالباشا يجعل فيه لقبه وزيرين، وكأن مثل هذا الأميّ المغفل يجعل فيه لقبه شخصاً آخر غير الأمي المغفل

أنا قلما رأيت رجلاً يحتاج إلى ألقاب يتعظم بها إلا وهو لا يستحقها؛ وقلما رأيت رجلاً يستحقها إلا وهو لا يحتاج إليها؛ فأين يكون موضع هذه الرتب والألقاب؟

(سيدي بشر بإسكندرية)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 3

‌ذات الثوب الأرجواني

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(تنبيه: الكلام كله تخيل ولا أصل أو حقيقة له)

- 8 -

لو كانت ذات الثوب الأرجواني مع (موسى) عليه السلام لمّا ذهب إلى فرعون يدعوه إلى ربه لكان الأرجح أن يؤمن ولا يكفر، ولكان من المحقق - عندي على الأقل - ألا ينزل بمصر ما نزل بها من البلايا والضربات والمصائب الكبَر. ولكن موسى عليه السلام دائماً - لم يكن على ما يؤخذ من تاريخ حياته - يعرف مبلغ تأثير الأرجوانيات فلم يسأل الله أن يشد أزره إلا بأخيه هارون؛ وقد فطن قومه إلى هذه الحقيقة، ولكن بعد خراب البصرة. على إني لا أرى ذات الثوب الأرجواني تقيني شيئا ولا أعرفها تدفع عني بلاء. وإن المكاره جميعاً لتحيق بي تحت عيها ومع ذلك لا تحرك ساكناً، ولا ترفع إصبعاً كابحاً، فأي حب هذا بالله؟؟. . . . لكأني بها تشمت بي ويسرّها أن يصيبني كل يوم سوء، وكأنما تظن أن حسبي كلما مسني ضرّ أن أنظر إليها وهي قاعدة على كرسيها، وإحدى ساقيها على الأخرى، وذراعاها على حانة الشرفة، وخدها على ظهر كفها، وأصابعها تنقر على الحجر، وقدمها الدقيقة تتحرك متابعة نقر الأصابع، كأنها تحلم بصوت أو كأنما تدندن لنفسها بصوت خفيض. . . وليتني مع ذلك أسمع!! إذن لكان لي بعض العزاء. . . ولقد سمعت صوتها إذ تكلم جارتها أو تدعو أخاها - أو هو لا بد أن يكون أخاها - ولكني لم أسمع غناءها. وما من شك عندي في أنه شجي وأن صوتها رخيم فأنه خالص كالفضة. ولكنها بخيلة. . . جداً. . .

وآخر ما حدث مما لم تدفع عني شره إني بعد أن كتبت فصلاً من هذه الفصول كان في البيت لفيف من الأهل والأنسباء - قبحهم الله جميعاً - فقالوا ما هذا؟ قلت: (فصل في ذات الثوب الأرجواني). قالوا: من عساها تكون؟ فكرهت هذا الفضول منهم - ولكنهم يحسبون أن كونهم أقارب يشفع لهم في كل فضول - غير أني كتمت مقتي لفضولهم - لا لهم هم - وقلت: (إنها من مخلوقات الخيال) فجعل هذا يزوم، وذاك يحدق في وجهي، وثالث يقول لي:(عيني في عينك؟) ورابع يقول: (طبعاً. طبعاً) إلى آخر ذلك. ثم اقترح واحد منهم -

ص: 4

هو أخبثهم - أن أقرأه لهم، فقلت: حتى ينشر. قالوا: بل الآن وهل ثم مانع؟ وما الفرق بين أن نسمعه الآن وأن نقرأه مطبوعاً في (الرسالة)؟؟ فاقتنعت - لا أدري كيف؟ - وشرعت أقرأ لهم، وليتني ما فعلت فقد كنت كأنما بعت نفسي. .

وقال أحدهم: (اسمع. . مادام أن الأمر كما تقول فان من الواجب تغيير كذا وكذا وإبداله بكيت وكيت. . .)

فقلت: (هذا مستحيل. . لقد كتبت ما خطر لي وانتهى الأمر)

قال: (كلا. . يجب أن تجعل الرجل الذي تتحدث بلسانه أرق مما يوهم كلامك)

قلت: (ولكنه هكذا. . وقد خلقه الله كذلك فكيف أشوهه أنا؟؟)

قال: (إذا هو شخص حقيقي.؟)

قلت - وقد أحسست إني وقعت - (يا أخي وما لك أنت؟. إن صورته في ذهني هي كما أصف. . ولست أستطيع أن أغيرها إلا إذا استطعت أن أغير طريقة تفكيري وصبغة خيالي. . وهذا شيء لا قِبلَ لي به فاقصر بالله عليك)

فشرعوا يتهكمون ويسخرون. وقال أحدهم: (هل قلت إن أنفه أقنى؟؟)

قلت: (كلا فإني أستقبح هذا النوع من الأنوف)

قال: (إني واثق انك كنت تتصورني وأنت تصف هذا العاشق المدنف، ولهذا أرى من حقي أن أُستشار فيما تكتب عنه)

قلت: (إن عاشقي ليس مدنفاً. . . هو على العكس صحيح معافى. . . ثم إنك آخر من يصلح لهذه المواقف الإنسانية. . . ولست مجنوناً حتى أصفك في قصة)

قال: (هل تسمعون؟؟ لا بأس!. عض اليد التي تطعمك وتغذيك!!. هذا جزاء من يسمح لك أن تصور شخصيته البارعة. . لا بأس!! ولكني لا أفهم كيف تكون هذه الحبيبة عصرية ولا يكون لها كلب؟. أو على الأقل جرو صغير؟؟. . نعم لا بد من كلب فقم أدخله في القصة)

فقلت بغيض: (يكفي لأنك ستقرأها فيتحقق مرادك) فلم ينهزم وقال: (صحيح؟؟ ولكن هذا لا ينفي أن الفتاة المسكينة لا كلب لها إلاّ على بعد ثلاثين مترا!! كلاّ. هذا لا يليق!! اسمع مني وغير ما كتبت. . وهاأنذا مستعد أن أساعدك. . إن المناسبة توجد الرجل الصالح. .

ص: 5

وأنا أسألك بإخلاص أي شيء أوفق من أن أمد يدي إليك لأشد أزرك؟ وهل يليق بي أن أقعد ساكتا وأنا أراك تخلط وترسم لنا صورة رجل وامرأة لا يمكن أن يمشي مثلهما في الدنيا؟؟ كلاّ - على التحقيق. . . (والتفت إلى الموجودين وسألهم) أهذا ينتظر مني؟؟.)

ولأول مرة في هذه الجلسة سررت إذ سمعتهم جميعاً يقولون بلسان واحد (نعم)

ولكنه لم يعبأ بهم ومضى يقول: (هاأنذا. . أجيء في اللحظة الحافلة بالاحتمالات متنكراً في زي رجل هرم وفي قدمي حذاءان قد يليقان بأبينا آدم - فقد زعموا أن طوله والعياذ بالله أربعون متراً - وبفم ليس لحلقه سقف. . حسن. . ولا يراني أحد. . ولا تفطن إلى وجودي الفتاة ذات الثوب الأرجواني، على الرغم من حذائي المهولين. . . فأخرج منهما، وأتسلق أنابيب المجاري حتى أبلغ الشرفة التي تتخذها ذات الثوب الأرجواني، غرفة جلوس، وحجرة استقبال وبستاناً للنزهة، وملعبا للتنس ومرصدا للأفلاك!! فأفاجئها وهي قاعدة تفكر في حبيبها المخرف الذي لا يستطيع حتى أن يحرك إصبعاً يشير به إليها وأقول لها بخ بخ. . فتفزع وتصيح ياي. . ياي. .)

فلما سكنت الضجة قلت: (إني أكتب قصة ولست أصف ملعب مهرجين أو سرك حيوانات)

قال: (ما أحسن هذا الأدب!! أنت لا تستطيع أن تفهم المواقف الروائية ولهذا. . .)

فصاحت إحدى الفتيات الموجودات. . (هس. . أظن أن هذه هي ذات الثوب الأرجواني. . الحق إنها جميلة. . ويجب أن نعترف أنه معذور)

فعاد اللعين يقول: (آه. . لا شك. . لا شك. . جميلة جداً. . ولكن انظروا ماذا صنع بها؟؟ لقد صارت في يده. . أعني في وصفه لها. . ثوبا أرجوانيا لا فتاةً من لحم ودم. . ولو أنه استمع لي. .)

وهنا ضاق صدري ونفذ صبري ولم تبق لي طاقة على احتمال هذه السخرية فتناولت الورقات التي كانت مكتوبة وكنت أقرأها لهم ومزقتها كل ممزق

وليس هذا سوى مثل لبعض ما ألقى في سبيل ذات الثوب الأرجواني، وهي لا تعبأ ولا تبالي!! والحق أقول إني لم أعد أفهم شيئاً من أمرها. فأما أنها معنية بي فهذا ما لا يخالجني شك فيه. ولقد حرصت مرات على أن أتبين هل في العمارة التي أسكن إحدى شقاتها من يغازلها أو يناجيها أو يصنع ما يصنع المعجب أو العاشق أو المفتون، فلم أجد أحداً وكثيراً

ص: 6

ما انحدرت إلى الشارع ووقفت على الرصيف الآخر المقابل لرصيفنا ونظرت إلى عمارتنا، وقد وجدت في كل مرة أن النوافذ جميعاً إما موصدة أو لا أحد فيها. ثم إني أعرف متى يكون مساكنيّ في بيوتهم ومتى يخرج كل منهم؛ فقد لاحظتهم جميعاً وعرفت عاداتهم - حتى الشبان الملاعين الذين تخشى مزاحمتهم - فلا أحد هناك تنظر إليه أو ينظر إليها سواي في هذه العمارة الضخمة ذات الطبقات السبع. فهي لا شك تعنيني وحدي بكل ما يبدو عليها من ارتياح واشمئزاز، ومن نفور وإقبال، وأنا المقصود بكل ذلك. ومؤدى هذا أن لها عناية بي، وليس المهم أن تكرهني أو تحبني فإن المآل واحد في الحالتين؛ ومتى نجح الرجل في لفت المرأة إليه فانه يستوي أن تظهر له البغض وأن تبدي المودة؛ فان المهم أنها صارت تعني به، وأنها أصبحت مشغولة بأمره، ولا بد أن يؤدي هذا إلى الحب آخر الأمر. فليس للحب أول عند المرأة إلاّ العناية مهما كان باعثها والداعي إليها، ولا ريب في عنايتها بي. بل في وسعي أن أقول وأنا آمن ومطمئن إنها تدرسني في الصحة والمرض، والسرور والحزن، والضحك والكآبة، والجد واللعب. بل هي ترصد كل حركة لي، وكل إشارة، وتتبع ما يصدر عني وما يكون مني ما دمت بادياً لها، وقد كنت أمس أنظر من الشرفة إلى الطريق وأتأمل الرائحين والغادين وأسرّي عن نفسي بمناظر الناس وما يكون منهم، فاتفق أن رأيت فتاة في ثوب بني محبوك وحذاءين خيل إلي أن أحدهما أبيض والآخر أسود، فاستغربت أن تلبس فتاة حذاءين مختلفي اللون، ودعوت إحدى من في البيت إلى النظر فوقفت مستغربة مثلي، وكانت الفتاة تروح وتجيء على الرصيف في انتظار الأمنيبوس، وقد أبطأ عليها فطال تمشيها أمامنا، وطال عجبنا من حذاءيها المختلفين، وكنت أشير إليها وأنا أتحدث عنها ثم رفعت رأسي إلى شرفة الأرجوانية فإذا فتاتي قد نهضت وانحنت تطل على هذه الأعجوبة، وقد ظهر لنا أن الحذاءين ليسا مختلفين وأن كل منهما نصفه أبيض والنصف الآخر أسود. ولما كانت الفتاة تسير وجانبها ألينا فأنه لم يكن يبدو لنا من لوني كل حذاء إلاّ جانب واحد، ولهذا ظنناها بالغت وأسرفت في الأناقة إلى حد اتخاذ حذاءين: واحد أبيض، والثاني أسود

أريد أن أقول إن بال الأرجوانية إليّ - لا شك في ذلك - وأن عينها على كل حركة لي وأنها تتعقب إشاراتي - وكلامي أيضاً - وتحاول أن تدرك المقصود منها والمراد بها، ولم

ص: 7

أقص حكاية الحذاءين وصاحبتهما إلا على سبيل التمثيل. وثم قصص أخرى تجري هذا المجرى وتؤدي إلى هذه الدلالة، وفي ذكرها تطويل لا موجب له. ومع ذلك تجاهد ذات الثوب الأرجواني أن تخفي حبها - أو على الأقل عنايتها الشديدة - وتروح تغالطني فتبدي لي صفحة الأعراض بعد أن تشير لي بوردة وتطمعني بهذه الإيماءة الرقيقة. وما أكثر ما تنتفض قائمة كأنما شكها أحد بسيخ محمي وتخرج ثم لا تلبث أن تعود ضاحكة مشرقة الديباجة!! ويجن الليل فتجعل من شرفتها مرصداً لأنها هي في الظلام وأنا في النور. وتظن أني لا أراها. وأنا يحلو لي أن أجلس في الصيف في شرفتي وأتعشى فيها أيضاً، فإن الغرف حارة حامية كاوية، كنار الله الموقدة، والعياذ به تعالى

وليس أحلى من ليالي الصيف إذا لم يركد الهواء. فإذا جلست في شرفتي جعلت ذات الثوب الأرجواني تراعيني من مكمنها المظلم وهي تحسب أني غافل عنها، أو أني لا أرى في الظلام ولها العذر. ومن أدراها أن لي عينا كعين القطة؟ - ترى في الظلمة كما ترى في النور. . . وأحسب أن الأرجوانية قد صارت تعرف كل شيء عني فليس عندي ما أكتمه. وإذا كان أحد من خلق الله يؤمن بالسر فإني لا أؤمن بذلك، ولا أعتقد أن في الدنيا شيئاً يبقى سراً مكتوماً. ولهذا أرى أن من العبث أن أحاول كتمان أمر. وما دام ليس هناك ما يخزيني فلماذا أتكتم وأتستر؟؟ ولا بد أن يعرف الناس ما تحاول إخفاءه، فأولى بك أن تدعهم يعرفونه منك اتقاء للتشويه، واجتناباً للغلط وسوء التصوير. ولكني لا أعرف عنها إلا القليل البادي لأنها فتاة وليست رجلا مثلي. وللرجل من الحرية ما ليس للمرأة. وقد لا يضير الرجل أن يعرف عنه الناس أنه عاشق، ولكن فتاة صغيرة غضة السن قد يضيرها ذلك، ولا سيما إذا كانت لا تعرف آخرتها مع الرجل الذي ترى قلبها مجذوباً إليه. ومن هنا أعذرها، ولكن الذي لا أستطيع أن أتبين وجه العذر فيه أو الحكمة هو هذا التقلب، فإنها تارة ترضى وأخرى تغضب، ومرة تقبل وطوراً تنفر. وإنها لتقبل أحياناً حتى لا تبقي ذرة من الشك في سرورها بحبي لها وحتى لأحس برغبة شديدة في أن أقفز من النافذة إذ يخيل لي في هذه اللحظات أني أستطيع أن أطير إليها من فرط الخفة والسرور، ثم تعرض وتنفر فيثقل على نفسي ذلك حتى لأهم بأن أضرب حجارة الشرفة بيدي وأركلها برجلي كأنها هي المسؤولة عما أرى من إعراضها. . ولا سبب أعرفه لإقبالها ولا لإعراضها فما بيننا أكثر

ص: 8

من النظر. . ولو شاءت لكان بيننا ما يختصر هذه الثلاثين متراّ ويجعلها متراّ أو نصف متر أو شبراّ أو اقل من ذلك. . ولكنها لا تشاء. وأكبر الظن أن ليس لمشيئتها دخل في الأمر وأن رغبتها لا تقدم أو تؤخر. . كان الله في عونها. . وفي عوني أنا أيضاً، فان ضيق صدرها بما تجد من القيود التي حولها ينقلب على أم رأسي أنا. . ومالي ذنب ولكن العامة صدقوا في قولهم (ضربوا بتاع الكسبري. . .)

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 9

‌المقري مؤرخ الأندلس

حياته وتراثه

للأستاذ محمد عبد الله عنان

- 2 -

يقسم المقري كتابه عن الأندلس إلى قسمين كبيرين؛ يخصص أولهما للتعريف بالأندلس وتاريخها وآدابها. والثاني للتعريف بابن الخطيب. ويشتمل كل قسم على ثمانية أبواب، فيشمل الأول وصف الأندلس وجغرافيتها وفتحها على يد موسى وطارق وتاريخها في عهد الولاة وبني أمية وملوك الطوائف، ووصف قرطبة ومعاهدها وضواحيها ومتنزهاتها ثم التعريف بالراحلين من الأندلس إلى الشرق، والوافدين من المشرق على الأندلس. واستعراض آداب الأندلس ومنثورها ومنظومها، ثم تاريخ الصراع الأخير بين الأندلس وأسبانيا النصرانية وسقوطها الأخير في يد النصارى. ويشتمل القسم الثاني على نشأة ابن الخطيب، وتدرجه في طريق المجد وما لقي من الأحداث والمحن حتى وفاته وذكر أساتذته وأشياخه، وما وجه إليه من الرسائل الملوكية ومن أكابر عصره، ومقتطفات كبيرة من كتبه ورسائله ونثره ونظمه، وذكر مؤلفاته وذكر بعض تلامذته الآخذين عنه، ثم ذكر أولاده ووصيته

ويشغل الكتاب كله أربعة مجلدات ضخمة، كل قسم مجلدين؛ فهو كما قدمنا موسوعة صحيحة سواء من ناحية حجمه أو محتوياته؛ ذلك أن المقري يحشد في كل باب من هذه الأبواب العامة كثيراً من المعلومات والشذور والوثائق والرسائل والمختارات؛ ويكاد كل منها يضارع كتاباً بأسره. ويجري المقري على قاعدة الاستطراد فينتقل بقارئه من موقف إلى موقف، ومن شذرة أو رسالة أو قصيدة إلى أخرى حسبما تسوقه شجون الكلام والرواية. وقد ترد خلال حديثه أهم المعلومات والوثائق حيث لا ينتظر ورودها. وفي كثير من الأحيان ينقل المقري إلينا رسالة بأسرها أو كتاباً بأسره؛ ولا يعني المقري بالتنظيم والتناسق، وإنما يعرض مادة كتابه مبعثرة حسب التقسيم البسيط الشامل الذي ذكرناه

ذلك أن المقري لم يكن مؤرخاً بالمعنى الحقيقي، بل كان أديباً فقط؛ وهو لا يزعم انه مؤرخ

ص: 10

أو محقق أو ناقد، وإنما يقول لنا انه ناقل فقط يورد من المعلومات والشذور ما اتفق ولا يعني بتمحيصها أو تحقيقها. ولكنا مع ذلك نشعر أن للمقري في كتابه شخصية قوية، ونشعر بالأخص بأن حرارة خاصة تنبعث من هذه الصحف الأندلسية؛ ذلك أن المقري يكتب عن الأندلس بروح يضطرم إعجاباً وأسى؛ ولا غرو فقد كانت ذكريات الأندلس ما تزال في عصره حية مضطرمة في المغرب، ولم يكن قد مضى أكثر من قرن على سقوط الأندلس النهائي في يد إسبانيا النصرانية؛ بل لقد وقع في عصر المقري بالذات حادث أذكى هذه الذكريات الشجية، هو نفي (الموريسكيين) أو العرب المتنصرين من إسبانيا (في سنة 1609م - 1017هـ) والعرب المتنصرون هم بقية الشعب الأندلسي المجيد أرغموا على التنصر بعد سقوط الأندلس؛ وقد وفدت منهم عند النفي عشرات الألوف إلى ثغور المغرب وقواعده، وعاد معظمهم إلى الإسلام. وشهد المقري هذه الخاتمة المؤسية، وهو يومئذٍ بفاس، وشهد ألوفاً من أولئك العرب المتنصرين، وتركت هذه الذكريات والمشاهد المؤلمة في نفسه أعمق الآثار، وأذكت في نفسه بلا ريب شغف التنقيب عن تاريخ الأندلس وماضيها المجيد وأيامها الزاهرة

وقد وضع المقري كتابه عن الأندلس في القاهرة كما قدمنا، ولكنه كان قد جمع معظم مواده في المغرب. ويقول لنا المقري إنه عنا منذ شبابه بالتنقيب في تاريخ الأندلس وأحوالها وآدابها وأنه استخرج من مراجعه أغزر المواد وأنفسها، ولكنه تركها بالمغرب، ولم يستصحب معه حين الرحلة سوى القليل منها، ومنها أوراق سودها، وأشياء علقت بذاكرته. ويقول لنا أيضاً:(إنه لو حضره ما خلفه مما جمع في ذلك الغرض وألف، لقرت به عيون، وسرت ألباب. . .)؛ وإذا كان المقري يعني بهذا القليل من مادته ما ضمنه كتابه، فلا ريب أن ما جمعه من المواد الأصلية كان غزيراً جداً، ذلك لأن هذا القليل الذي ضمنه (نفح الطيب) هو في ذاته مجموعة حافلة من المواد والوثائق المختلفة التي تلقى أعظم الضياء على تاريخ الأندلس وآدابها

وقد قلنا إن المقري ناقل ومصنف؛ ولكن له في هذا النقل والتصنيف فضلاً لا يقدر؛ فقد نقل إلينا عشرات الشذور والوثائق من مصادر أندلسية جليلة لا وجود لها اليوم، بل نقل إلينا رسائل وكتباً برمتها بددت ولم نظفر بأصولها حتى اليوم؛ ولولا عناية المقري بنقلها

ص: 11

وتصنيفها لحرمنا إلى الأبد من هذه المراجع والوثائق الهامة. ولقد كان المغرب الأقصى حتى عصر المقري أعظم مستودع لتراث الأندلس الأدبي؛ وكانت مكاتب المغرب، ولا سيما مكتبة الأشراف السعديين، عامرة إلى ذلك العهد بكثير من الآثار الأندلسية النادرة؛ وكان لمولاي زيدان سلطان فاس لعهد المقري شغف خاص بجمع الكتب النادرة؛ وقد انتفع المقري بهذا التراث الحافل؛ واغترف منه وقيد ما شاء؛ ولكن الظاهر أيضاً أن هذا التراث قد بدد معظمه بعدئذ بقليل؛ ذلك انه قد حدث في أواخر عهد مولاي زيدان حادث يخيل إلينا انه ذو علاقة مباشرة بضياع الآثار الأندلسية؛ وذلك أن السفن الأسبانية أسرت مركباً مغربية مشحونة بآلاف من الكتب والتحف المملوكة لمولاي زيدان، وحملت شحنتها إلى إسبانيا؛ ويشير السلاوي في تاريخه إلى ذلك الحادث نقلاً عن الرواية الأسبانية، فيقول:(وقال منويل إن قراصين الأصبنيول غنمت في بعض الأيام مركباً للسلطان زيدان فيه آثار نفيسة من جملتها ثلاثة آلاف سفر من كتب الدين والآداب والفلسفة وغير ذلك) وتقول الرواية الأسبانية إن وقوع هذا الحادث كان في عهد فيليب الثالث ملك أسبانيا (1598 - 1621م)؛ والظاهر انه وقع نحو سنة 1030هـ (1630م) حينما اشتد اضطراب العلائق بين أسبانيا والمملكة الشريفية؛ وعلى أي حال فقد حملت كتب مولاي زيدان، وهي بلا ريب أنفس مجموعة من نوعها، إلى أسبانيا، وأودعت في دير الأسكوريال إلى جانب بقية التراث الأندلسي التي كانت مودعة فيه منذ سقوط غر ناطة، فاجتمع بذلك الأسكوريال نحو عشرة آلاف مخطوط عربي معظمها من تراث الأندلس؛ ولكن محنة نزلت بهذا التراث النفيس، وقد شبت النار في الأسكوريال سنة 1671، والتهمت معظم الكتب العربية، ولم يبقى منها سوى ألفين؛ وبقيت ضمن هذه المجموعات عدة من كتب مولاي زيدان لا تزال إلى يومنا في الأسكوريال

وهذا فيما نعتقد هو السر في اختفاء الآثار الأندلسية التي كانت تحفل بها قواعد المغرب ومكاتبه في عصر المقري؛ وقد جمع المقري مادته ودون مذكراته أثناء مقامه بفاس بين سنتي 1013 - 1017هـ (1603 - 1616م)، وكان بذلك من أواخر أولئك الذين استطاعوا من أدباء جيله أن يظفروا بمراجعة هذا التراث والانتفاع به. ومما يدل على أن المقري انتفع بنوع خاص بالمراجعة في مكتبه مولاي زيدان التي فقدت، أنه ينقل عن

ص: 12

نسخة وحيدة من مسند ابن مرزوق المغربي كانت ضمن هذه المجموعة ولا تزال في الأسكوريال، وكذلك يستقي معظم رواياته عن سقوط غرناطة وعن العرب المنتصرين من كتاب (أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر) ومنه نسخة وحيدة أيضاً في الأسكوريال

ولا يتسع المقام هنا لاستعراض المصادر العديدة التي نقل عنها المقري، ما ضاع منها، وما يزال قائماً؛ ويكفي أن نقول إن طائفة كبيرة من المصادر الأندلسية الجليلة التي ينقل عنها قد اختفت ودرست معالمها؛ ومن ذلك تاريخ ابن حيان الكبير مؤرخ الأندلس، وتواريخ الحميدي، والحجاري، وابن بشكوال والرازي وغيرهم، وكتب عديدة لابن الخطيب، وقد بقيت من تاريخ ابن حيان قطعة صغيرة نشرت أخيراً؛ ووجدت منذ أعوام بالمغرب نسخة كاملة من كتاب الذخيرة لابن بسام، وفيما عدا ذلك لم يظفر البحث الحديث بشيء من تلك المصادر الجليلة التي ينقل إلينا المقري عنها بسخاء يزيد اليوم في فضله وفي أهمية كتابه

ويتصل بمجهود المقري عن الأندلس كتابه (أزهار الرياض، في أخبار القاضي عياض)؛ وهو سفر كبير يخصصه لترجمة الفقيه الكبير عياض السبتي، واستعراض آثاره، على نحو ما يُكتب عن ابن الخطيب في نفح الطيب؛ بيد أنه يستطرد كعادته، ويذهب في الحديث شجوناً شتى، وينقل إلينا بعض الأقوال والوثائق المتعلقة بسقوط غرناطة وتاريخ الموريسكيين أو العرب المتنصرين، ولهذه الوثائق على قلتها وإيجازها أهمية خاصة، لأنها كل ما انتهى إلينا من الرواية الإسلامية في هذا الموطن، وهي أقوال معاصرين للمأساة شهدوا بعض حوادثها بأعينهم أو سمعوا أخبارها في الضفة الأخرى من الأندلسيين الوافدين على المغرب؛ منها رسالة لمجهول يظهر انه من معاصري سقوط غرناطة يصف فيها نقض ملك قشتالة لعهوده إزاء المسلمين، وما اتخذه النصارى من وسائل الإرغام والقهر لإكراه المسلمين على التنصر، وما فرضته محاكم التحقيق (التفتيش) على المخالفين من العقوبات المروعة؛ ومنها قصيدة طويلة لابن العباس أحمد الدقون أحد علماء المغرب في القرن التاسع الهجري عنوانها (الموعظة الغراء بأخذ الحمراء) يرثي فيها الأندلس؛ ومنها أيضا وثيقة ذات أهمية تاريخية خاصة؛ وهي رسالة كتبها أندلسي منتصر عقب سقوط غرناطة، إلى بايزيد الثاني سلطان الترك يستغيث به ويستصرخه لنصرة إخوانه العرب المتنصرين، ويصف له في شعر قوي التعبير على الرغم من ركاكته، ما يصيب العرب

ص: 13

المتنصرين من أهوال ديوان التحقيق ورائع مطاردته وعقوباته؛ وهذه وغيرها من الوثائق والشذور التي ينقلها إلينا المقري في أزهار الرياض قد ضاعت أصولها، ولولا عناية المقري بنقلها لما ظفرنا بها

وهذان الأثران الكبيران هما أهم ما في تراث المقري. بيد أن للمقري ثبتاً آخر من الكتب والرسائل الأدبية والدينية انتهى إلينا معظمه؛ ومن ذلك: (إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة)، (فتح المتعال في مدح الفعال المتشرفة بخير الأنام). (حسن الثنا في العفو عمن جنى). (قطف المهتصر في أخبار المختصر)(عرف النشق في أخبار دمشق). (روض الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام مراكش وفاس). (الدر الثمين في أسماء الهادي الأمين)، وغيرها

وقد كتب المقري معظم كتبه في القاهرة؛ والمرجح أنها كتبت جميعاً أو كتب معظمها قبل نفح الطيب، لأن المقري لم يعش بعد كتابته طويلاً كما رأينا؛ وكان المقري يحتل في المجتمع القاهري الأدبي مكانة رفيعة؛ ويكفي أن نذكر هنا ما وصفه به المحبي الذي ترجمه بعد ذلك بنحو نصف قرن:(حافظ المغرب. لم ير نظيره في جودة القريحة، وصفاء الذهن وقوة البديهة؛ وكان غاية باهرة في علم الكلام والتفسير والحديث، ومعجزاً باهراً في الأدب والمحاضرات)، والواقع أن المقري يكتب بأسلوب قوي، وبيان ساحر، يشهدان له بغزارة البلاغة في عصر كان الأدب العربي يجوز فيه مرحلة انحطاط قوي

وقد أخرجت مطبعة بولاق كتاب (نفح الطيب) كاملاً في 1279هـ (1862) في أربعة أجزاء كبيرة؛ وكان جماعة من المستشرقين على رأسهم العلامة دوزي قد عملت قبل ذلك لإخراج القسم الأول من كتاب نفح الطيب وهو الخاص بالأندلس بين سنتي 1855 و1861 تحت عنوان ' ' ومهد لهذه الطبعة المستشرق دوجا بترجمة للمقري؛ وطبع نفح الطيب بالقاهرة بعد ذلك أكثر من مرة في أربعة أجزاء أيضاً على نسق طبعة بولاق ونشر في تونس الجزء الأول من إزهار الرياض في سنة 1922؛ ونشرت بعض آثار المقري الأدبية، مثل كتاب (حسن الثنا في العفو عمن جنى)(القاهرة)، وظهرت في سنة 1840 في لندن ترجمة إنكليزية ملخصة للقسم الأول من نفح الطيب بقلم المستشرق الأسباني الدون جاينجوس تحت عنوان:(تاريخ الدول الإسلامية في أسبانيا)

ص: 14

مقروناً بتعليقات وفهارس قيمة، وترجم للمقري غير من ذكرناهم أكثر من مستشرق مثل فستنفلد في كتابه (مؤرخو العرب)(بالألمانية) وبروكلمان في (تاريخ الأدب العربي)(بالألمانية أيضاً) والأستاذ ليفي بروفنسال في كتابه (مؤرخو الأشراف)(بالفرنسية)، وآخرون غير هؤلاء

(تم البحث - النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان

ص: 15

‌أثر النحو في تقويم اللسان

للأديب محمد طه الحاجري

قالوا، في رسم النحو رسماً غائياً: انه علم تعصم مراعاته اللسان عن الخطأ في الكلام، ومضوا على هذا الاعتبار يضعون القواعد، ويقيمون الحدود، ويكدون الأذهان، ويحملون على النشء في ذلك ما لا يحتمل. فإذا رأوا أن التوفيق إلى الغاية النبيلة قد أخطأهم، وأن السبيل التي رسموها قد بعدت بهم، لم يلتمسوا طريقاً آخر يكون أهدى إلى الغاية؛ فحسبهم أن ينثروا الطريق بالأزهار، وان يزيحوا بعض ما فيه من الأحجار، حتى تتبدل - في زعمهم - طبيعته، وتستقيم نحو الغاية محجته، ويبلغوا بذلك ما اعجز الأجيال السالفة. . . وهكذا جعلوا كل همهم من الإصلاح اللغوي أن يهذبوا قواعد النحاة وينسقوها ويحذفوا فضولها. . . ليصلوا بذلك إلى عصمة اللسان، وهيهات هيهات!!

وأنا ما عرضت لأمر الصلة بين تعليم النحو وتقويم اللسان إلا اندفعت أمام ذهني صورة صبي صغير لا يكاد يبلغ التاسعة، وقد جلس على مقعده الصغير في المدرسة، وأمامه كراسة أكب عليها، وجعل ينظر في جمل منسوقة كتبت فيها؛ وكان المعلم قد طلب منه ومن رفاقه أن يضبطوا أواخرها، امتحاناً فيما عُلِّموه، وتثبيتاً لما قد عرفوه، فاخذ ذلك الصبي يتحسس ما كان قد ألقي عليه، ويحاول أن يضبطه في ذهنه، ويضبط به ما أمامه، فكان ذلك عبثاً لم يجد عليه شيئاً. . . وإذا فماذا يصنع ولابد من الإجابة صواباً أم خطأ؟ أخذ يقرأ الجملة ويجرب على كلماتها علامات الأعراب، فكان يشعر عند بعضها بارتياح، ويحسبها أدنى إلى ما يقرأه في كتاب المطالعة وغيره من الكتب التي اعتاد أن يبعث بها. . . فيثبت الشكل الذي ارتاح إليه؛ ثم يمضي إلى غيره، وهكذا، ثم يعطي الكراسة للمعلم لتصحيحها، فيغتبط حين ترد إليه فيعلم انه لم يخطئ إلا قليلاً

أكانت المصادفة هي التي تملي على ذلك الصبي المسكين، أم كان شيئاًآخر في طبيعته وكيانه هو البذرة الأولى المطمورة في أعماق النفس للسليقة العربية، قد ورثها لأنها بعض ما يقوم الجنس الذي ولد بجميع مشخصاته، ثم أخذت هذه البذرة تستروح نسيم الحياة في هذا الكلام العربي الذي يقرؤه صاحبها بين حين وحين، فلا عجب أن يبرز فيها شيء من مظاهر هذه الحياة، فتحاول تكييف ذوق ذلك الصبي، بمقدار ما أتيح لها من حياة هينة

ص: 16

ضعيفة مضطربة؟؟

أما التفسير بالمصادفة فهروب من المسلك العلمي، وأما السليقة العربية الموروثة فلاشك في وجودها؛ وفي أنها وحدها التي تقوم ألسنتنا، وتصحح عبارتنا، على قدر ما تلقى من العناية والرعاية، وعلى قدر ما نتعهدها به من التربية التي تناسب طبيعتها، فأين نلتمس هذا النوع من التربية؟

أنلتمسه في كتب النحو وقواعد العربية كما يفعل الناس جميعاً، فيظن الواحد منهم أن من تجرع جرعات من الألفية أو الدروس النحوية كان خليقاً أن تصح سليقته، ولا يخطئ من بعد في كلمة من الكلام؟

لو جاز هذا الجاز للرجل الضعيف المتهالك أن يقرأ مجموعة من مجاميع الرياضة البدنية، أو يستظهرها، أو يستبطن أسرارها ومواطن تأثيرها، فإذا هو قد اصبح، بسحر هذه المجموعة، قوياً نشيطاً مهزوزاً تتألق عليه الفراهة والعافية، وإذا هو قد اصبح كذلك الرجل (الفلاح) الذي يغذي موطن القوة فيه غذائها الطبيعي من الشمس والهواء والعمل. ولكن أحداً لا يقول هذا ولا يتوهمه، والأمر لا يعدوا هذا القياس في تربية الغريزة اللغوية

وأني لأعرف فريقين من الناس بأعيانهم معرفة صحيحة صادقة يمثلاًن طرفي هذه الحالة التي نتناولها ويثبتان القضية التي نقررها طرداً وعكساً

أما أحد هذين الفريقين فقد صرف عن النحو صرفاً، حتى لا يكاد يعرف من قواعد النحاة حرفا؛ ولكن مزاجه الفني أقبل به على ينابيع الأدب العربي فأقبل على الكتب الأدبية يقرؤها ويتذوقها ويملأ نفسه بما فيها من جمال ومتعة، فصفت بذلك سليقته، وصحت ملكته، حتى ليحس اللحنة في الكلام، كما يحس الموسيقي النشوز في الألحان. واستقام لسانه حتى لا يكاد يلحن أو يخطئ

وأما الفريق الآخر فطائفة من شيوخ الأزهر الذين أدركنا أعقابهم، قرءوا من كتب النحو الأجرومية والكافية وما بينهما، وأحاطوا بقواعد النحاة وما دار حولها من خلاف وجدل، وربما أدركوا سر الكثير منها، ثم كان الواحد منهم مع هذا لا يكاد يصيب فيما يقرأ أو يكتب إلاّ بعد تكلف شديد، فما أغنى عنه ما بذل من جهد جهيد وعمر مديد في قراءة النحو وتفهم مشكلاته واستيضاح غوامضه. فماتت سليقته اللغوية ولما تستروح الحياة، لأنه لم

ص: 17

يمدها بالغذاء الطبيعي الحي الذي يمكن أن يتمثل فيها، ويبعث فيها الحياة ماضية قوية، ولكنه ألقمها أحجاراً جامدة إن لم تقضي عليها فلم تبعث فيها شيئا من معاني الحياة الصحيحة

ولقد بقي لنا من عصر الحملة الفرنسية وثيقة من الوثائق التي تؤيد هذا المعنى تأييداً تاماً، وهي رسالة كتبها بخطه شيخ الإسلام ورئيس الديوان، الشيخ عبد الله الشرقاوي وهي حجة قاطعة في قيمة التعاليم النحوية من ناحية أثرها في تقويم اللسان وإصلاح اللغة على الأسلوب العربي، فلن يشك أحد في أن الشيخ الشرقاوي قد تلقى من (النحو) أوفر ما كان يتلقى في ذلك العهد

وهذه ملاحظة ظاهرة جلية لا نكاد نحسب أحداً يجادلنا فيها أو يخالفنا عليها، وقد لاحظها من قبل العلامة الدقيق ابن خلدون، فقال في مقدمته، بعد أن قرر أن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل:(ولذلك نجد كثيراً من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علما بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده أخطأ فيهما عن الصواب، وأكثر من اللحن، ولم يُجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي. وكذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة، ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئاً من قوانين صناعة العربية)

فليس عجيباً إذا ما يروي لنا من أن رجلاً جاء لابن خالويه - وهو من هو! - فقال له: أريد أن تعلمني من النحو والعربية ما أقيم به لساني. فقال له أبن خالويه: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو! ما تعلمت ما أقيم به لساني

فالأمر في اللغة هو أمر سليقة يجب أن تربى، وملكة يجب أن تكوَّن. ولن يكون ذلك بواسطة النحو، فانه قواعد ميتة، بل بواسطة البيان والأدب الذي هو مظهر اللغة ومجلى حيويتها. أما النحو الذي أبى على ابن خالويه أن يقوم لسانه، فلا مطمع لنا في أن يجدي علينا ما أباه على ذلكم الإمام

وكيف كانوا يقومون ألسنتهم عندما بدأت السلائق تضعف والألسنة تضطرب؟ كانوا - كما

ص: 18

يعرف الناس جميعاً - يذهبون إلى البادية، ويندمجون في الحياة العربية، فيهيئون بذلك لسليقتهم سبيل القوة، فتصبح من بعد ذلك المتحكمة في منطقهم والمصرفة لألسنتهم، وليس لدينا مثل هذه الحياة العربية التي كانوا يلجئون إليها، ويندمجون فيها؛ ولكن إذا فاتنا ذلك فإنا نستطيع أن نعيش بقلوبنا وعقولنا في حياة عربية اللسان، فيكون لهذه ما لتلك من الأثر الطيب المبارك. أما هذا النحو فقد أعلن إفلاسه فيما نطلبه من أجله، وهو عصمة اللسان من الخطأ في الكلام، منذ عهد ابن خالويه إلى أيامنا هذه. ولن تجد امرأ صحيح اللسان قويم المنطق إلا وهو يرجع الفضل في هذا إلى ما أمد به سليقته من الآداب العربية

ويعلل ابن خلدون وجود الملكة العربية في بعض المهرة في صناعة الأعراب بدراستهم لكتاب سيبويه، وطول مخالطتهم له لا من ناحية ما تناوله من تقرير القواعد. بل من ناحيته الأدبية (فانه لم يقتصر على قوانين الأعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة، فتجد العاكف عليه، والمحصل له، قد حصل على حظ من كلام العرب واندرج محفوظه في أماكنه، ومفاصل حاجاته، وتنتبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعليمها، فكان أبلغ في الإفادة

ولسنا نضع بهذا - معاذ الله - من قيمة النحو، وإنما نريد بهذا أن نضعه في مكانه الحقيقي، ونلتمس به غايته الطبيعية، وهو معرفة قوانين اللغة العربية، والنفوذ إلى أسرار التركيب فيها. وأكبر به من مكان، وأعظم بها من غاية!

ترى لو كان أمر اللغة كأمر العلوم الأخرى التي تتلقى قوانينها واحدة بعد الأخرى، ثم لا يشعر صاحبها إنها غيرت في كيانه الداخلي، لو كان الأمر كذلك في اللغة أكنا نشعر بهذا الاستهجان والمضض الشديد حين نسمع خطيباً يلحن أو يغير في الوضع العربي، ونحس بعباراته الملحونة كأنما أصابت موضع الكرامة أو العزة فنتململ ونتضجر كما نحس حين نسمع رجلاً يتناول ديننا أو وطننا أو قوميتنا بما نكره؟ وماذا لو أن رجلاً أخطأ في تقرير قاعدة أو تطبيق قانون علمي؟ فهذا الفرق القائم بين اللغة والعلوم الأخرى ينبغي أن يراعي في التربية والتثقيف. فكما لا يجدي تلقين القوانين الدينية والتعاليم الشرعية في تكوين الضمير وتربية العاطفة الدينية. وعصمة الرجل عن الزلل في الحياة، كذلك لا تغنى القواعد النحوية شيئاً في عصمة اللسان وتصحيح الكلام

ص: 19

وبعد فلا بد أن نكرر القول بأنا لا نريد الغض من مكانة النحو وخطورة درسه في اللغة العربية، بل إنا لنراه - مستيقنين - في المكان الأول منها، باعتباره المبين لنظامها، والكاشف عن قوانين التركيب فيها، وقد خطا النحاة منذ أول العهد بالنحو؛ خطوات موفقة في هذه السبيل، رغم ما غلب عليها في العهود الأخيرة من الشطط والتكلف والبعد عن روح اللغة. وقد خطت الجامعة في العصر الحديث - في دراسة النحو - خطوة جديدة مسددة بعيدة، نرجو أن تكشف عنها الأيام القريبة المقبلة إن شاء الله تعالى.

محمد طه الحاجري

ص: 20

‌في النقد الأدبي

للأستاذ إسماعيل مظهر

العصر الذي نعيش فيه عصر قوامه النقد. حتى لقد قال (إدورد كيرد) وهو من الفلاسفة المعاصرين في أول كتابه عن فلسفة كَنْت: إن النقد هو الذي هدَّ العروش المقدسة، ومنها عرش الدين قائماً من فوق العقيدة، وعرش القانون قائماً من فوق السلطان والجبروت. فإذا عني أعلام كتابنا بالنقد، فإنما يعنون بشيء قد تغلغل في صميم الحياة الحديثة، ونفذ إلى أبعد غور من أغوار الأشياء الإنسانية. وما حفزهم إلى الكلام في النقد، وفي النقد الأدبي على الأخص، إلا شعورهم - وقد ركدت حركة النقد - بأن في الجو الأدبي فراغاً جعلهم يستوحشون من الحياة التي يحيونها، وجعلهم يعتقدون شيئاً آنسوا فيه الحياة ألفوها. على أني لحظت في نزعة الكتاب الذين عالجوا هذا الموضوع شيئاً أو أشياء، على كبير علاقتها بالنقد الأدبي، وعلى عظيم خطرها، لم يعرض لها أعلام كتابنا ولو بإشارة، ومن طرف خفي، كأن الكلام في هذه الأشياء عسير على النقد أو هي من الأشياء التي يجب أن تخرج من مجال النقد، وكانت هذه الظاهرة فيما كتبوا بنية جلية، حتى لقد خيل إليَّ أن ما كتب في النقد جدير بأن ينقد، وخليق بأن يحلل تحليلاً لا هوادة فيه

سألت نفسي: أناحية النقد الأدبي وحدها هي الجديرة بالتقدير والوزن، أم إن ناحية النقد العلمي والفلسفي لها من المكانة والشرف ما يجعلها خليقة بأن تساوي النقد الأدبي قيمة ووزناً؟ ولم نخص النقد الأدبي وحده بقسط من العناية يستوفي كل جهودنا العقلية، ولا ننظر ولو التفاتاً وبقليل من الاكتراث إلى النقد العلمي والفلسفي؟ ألأنَّ الأدباء كثيرون، والعلماء والفلاسفة قليلون؟ كلا وإنما السبب أن عقليتنا لم تتكون بعد التكون العلمي ولا التكون الفلسفي. وهذا التكون سابقة ينبغي أن تسبق في الحياة العقلية ظاهرة النقد، في مجال ما من مجالات الحياة الثقافية. ذلك بأن وجود العلماء لا يكفي في تكوين العقلية العلمية، ولا وجود الفلاسفة بكافِ لتكوين العقلية الفلسفية

ثم سألت نفسي: أللنقد موانع؟ أيمنعنا من النقد عوامل خلقية؟ أيمنعنا من النقد عوامل تقليدية؟ أيمنعنا من النقد عوامل اقتصادية؟ أيمنعنا من النقد عوامل سياسية؟ أيمنعنا من النقد عوامل نفسية؟ وهل يمكن أن يفلت النقد من أثر هذه العوامل؟ وبعد أن أطلت النظر

ص: 21

في كل سؤال من هذه الأسئلة، بل إن شئت فقل في كل معضلة من هذه المعضلات، حكمت بأن هذه الموانع كائنة، وأن بعضها أقوى أثراً من بعض، وأن الناقد لن يفلت من دائرتها، أو يخرج من أقطار هذه الأرض منبوذاً مدحوراَ

وبعد هذا وذاك هل وضعنا للنقد قواعد يقوم عليها هيكله، وتشيد من فوقها أركانه؟ ألَنا في النقد مذاهب مقررة ينتحيها الناقدون؟ وهل لنا في النقد قواعد تحدد للنقد حدوده، وترسم تخومه، وتعين اصطلاحاته، شأن كل الأشياء العلمية والأدبية التي لها أثر في تطور العقليات والمعقولات؟

كلا. ليس لنا في النقد مذاهب، وإنما اتبعنا إلى الآن في النقد طريقة ميزانها الذوق والشعور، وهي طريقة إن مال ميزانها نحو اليمين قيد شعرة كانت إفراطاً في المدح والتقريظ، وإن مالت نحو الشمال شعرة كانت تفريطاً في كل ما يقتضي النقد من حكمة في تقويم الآثار الأدبية بميزان صادق الدلالة على قيمة ما في كفتيه. وجملة الأمر أننا ذهبنا في النقد المذهب التقديري، ولم ننزع إلى المذهب التقريري. ذلك بأن المذهب التقديري مذهب سهل المأخذ، لير المنحى، مطواع للأهواء، يسع الأثر الذي تمليه الصداقة على شعور الناقد، ويسع الأثر الذي تمليه العداوة والبغضاء على انفعالاته. وهو فوق كل هذا مذهب بُدائي لا ضوابط له ولا قواعد، ولا نظريات ولا حقائق؛ وبالأحرى نقول إننا مضينا ننقد حتى الآن ورائدنا في النقد الأثر الذي تتركه في أنفسنا مختلف المنتوجات الأدبية، بما فيها من علاقات ذاتية وميول وعواطف وأخيلة وأحاسيس؛ وعلى الضد من هذا كله مذهب النقد التقريري القائم على نظريات أو حقائق لها حدود مضبوطة ومصطلحات معينة ونماذج يمكن أن ينسج على منوالها؛ ناهيك بأن مذهب النقد التقريري قد تكون له في بعض الأحيان فكرة عامة شاملة ترمي إلى غاية معينة. فانك إن نظرت مثلاً في محاورات سقراط التي أثبتها تلاميذه في كتبهم، تبينت من خلالها فكرة جامعة وغاية أخيرة ترمي إليها، هي التي أبان عنها كل الإبانة في دفاعه عن نفسه أمام قضاته قبل الفتوى بإدانته. وعندي أن محاورات سقراط، أول ما وضع في تاريخ الآداب الإنسانية من نقد قائم على المذهب التقريري

ولقد ترى أثر هذا الرأي - رأي أننا ننقد على المذهب التقديري لا على المذهب التقريري

ص: 22

- ظاهراً جلياً في كل نواحي النقد، لا في النقد الأدبي وحده. فإن نزعتنا هذه قد تجلت بينة في النقد السياسي على الأخص، حتى لقد اتهم النقاد السياسيون في مراميهم وأوذوا في سمعتهم السياسية، لا لشيء إلا لأنهم نقدوا على غير مذهب، وكتبوا على غير نظرية سياسية، ومضوا يتكلمون في السياسة وليس أمامهم غاية عامة نهائية يرمون إليها، اللهم إلا أن تستقر الأحوال على صورة تقر ما كان قائماً قبل انقلاب حدث ولو كان ما يطلب الرجوع إليه من نظام فيه من أوجه النقد ما لا يقل قيمة أو أثراً عما يراد إدالته من نظام قائم

على أن ما ترى في النقد السياسي من شيوعية في المرامي واستهتارية في الغايات، قد تراه بذاته في أكثر النقود الأدبية التي تجري بها أقلام الذين يتصدون للنقد في هذا العصر. وما السبب في هذا إلاّ أننا نزعنا في النقد النزعة التقديرية، فأوسعنا المجال للخيال دون العقل، وفتحنا الباب على مصراعيه للذوق وحده، من غير أن نجعل للذوق ضابطاً من القيود المنطقية أو النظريات المقررة أو الحقائق الجامدة

لقد عاب الأستاذ أحمد أمين على النقاد أن ينتقدوا ما ليس من اختصاصهم، وأن الكاتب الأدبي عندنا يرى أنه يستطيع أن ينقد في يوم واحد كتاباً في تاريخ نابليون، وكتابا عن جزيرة العرب، وديوان شعر! ولا مرية في أن الأستاذ على حق فيما يقول. أما السبب في هذه الفوضى الغامرة فالذي أذهب إليه من أن النقد عندنا قد نزع النزعة التقديرية دون النزعة التقريرية. وهل أسهل من أن أقول إن كتاباً عن نابليون ضعيف الأسلوب، وإن كتاباً عن جزيرة العرب ثقيل الظل، وإن ديوان شعر بارد الأنفاس؟ ولكن غاب عن الأستاذ حقيقة أخرى هي أن الأدب والنقد عندنا، لقلة ما لهما من ضوابط وقواعد، قد هيأ للكتاب والنقاد سبيل الانسلاخ في هيئات جديدة تقتضيها ظروف الأحوال. فهذا كاتب سياسي أصبح مؤرخاً. وذاك مؤرخ أصبح شاعراً. وثالث كان أديباً فأصبح سياسياً، ثم ارتد ناقداً، ثم انسلخ في صورة ديماجوج، يضرب على نغمات تحبها آذان الجماهير. ورابع كان صحفيا فأصبح مصلحاً سياسياً. وخامس كان لاشيء أصلاً فأصبح علماً يشار إليه بالبنان في جميع ما تتخيل أن إنساناً يستطيع أن يبرز فيه من علم وفلسفة وأدب وفن، وما الله به أعلم من مظاهر الكفاية. وإن واحداً صار نصير الإنسانية، وآخر أصبح سادن الدين، وثالثاً

ص: 23

أبا الحرية، ورابعاً حافظ الديمقراطية، إلى غير ذلك من الألقاب التي تذكر المرء بألقاب أهل الدول إذا ارتج أمرها وكادت تميد بها الأرض، فيعمد خيال أهلها إلى الألقاب يضخمون منها بما يخيل إليهم أن فيه المنجى والملاذ

أليست هذه ظاهرة من ظاهرات الفوضى العقلية الدالة على أن النقد عندنا إنما يقوم على نزعة تقديرية لا تزن الأثر ولا تزن الشخص، وإنما تزن الأثر والشخص على مقتضى الظرف الحاصل؟ ولو أننا نزعنا في النقد النزعة التقريرية مؤمنين بعدد ثابت من الحقائق والنظريات والمثاليات، مؤتمنين بما توحي به من آداب اجتماعية عليا، إذن لاستطعنا أن نقضي على هذه الفوضى الغامرة التي تكاد تبتلعنا لججها

وما كان لي أن أتكلم في موانع النقد في بيئتنا الجديدة، اللهم إلا أن أكون قد قذفت بنفسي في أتون تترع نيرانه الشوى. فليتصد للكلام في هذا غيري ممن لا حاجة به إلى شواء

إسماعيل مظهر

ص: 24

‌بمناسبة المهرجان الألفي لأبي الطيب في دمشق

دين المتنبي

للأستاذ سعيد الأفغاني

عاش في هذه الدنيا قبل ألف عام رجل قضى إحدى وخمسين سنة يعمل في حياته للمجد؛ ركب إليه المكاره واقتحم الغمرات؛ أراد مرة من طريق الدين فخاب، ثم راوغه من طريق الولاية فأخفق، ثم مضى قُدُماً يجالد دون سبيله هذه جيوشاً من أذى الأعداء ونكاية الحساد وكلب الزمان وتخلف الجد

تقاذفته الأقطار ضارباً في الأرض: من حلب، إلى دمشق، إلى فلسطين، إلى مصر، إلى العراق، إلى فارس؛ حتى إذا ملأ الدنيا وشغل الناس وقفل راجعاً من شيراز وشارف بغداد وحط في سوادها الغربي، أحاط به أعداؤه في دير العاقول ليغتالوه، فقاتلهم قتال المستبسل المستميت حتى سقط دفاعاً عن نفسه وشرفه، فصعدت روحه إلى بارئها يحاسبها على ما قدمت في عاجلتها من خير أو شر

وإذا كان موضوعنا البحث في دين الرجل فلا بد أن ننبه قبل الشروع فيه إلى أنا سنخرج على ذلك السخف التقليدي الذي توارثناه في عصورنا الأخيرة جيلاً عن جيل، في تكفير الناس من أجل كلمة قالوها أو عمل قاموا به؛ نتعلق لذلك بأوهى الأسباب ونتكلف له كل التكلف لنخرج مسلماً عن دينه وإن كرهناه، أو نؤول له ما زل به لسانه إن أحببناه. تعقد لذلك المجالس في المساجد والمدارس وعند السلطان، وتؤلف الرسائل وتثار الفتن وتراق الدماء، حتى لقد سؤل الشيطان لبعض الحكام أن يتخذ من عبدة الهوى هؤلاء مطايا يركبها إلى غاياته فيمن يكره من كل آمر بمعروف أو جبّاه بحق أو ثائر على ظلم، فما أسرع ما كانت تخرج الفتيا بالتكفير، وما أسرع الحاكم حينئذ إلى البطش والفتك

ولولا الخروج عن الموضوع لأفضت في شرح هذه الناحية من تاريخنا وما أدت إليه من سوء العقبى، وما جرت على العلم والدين من ويلات وخراب، وخاصة أخريات عصور الجهل، يوم كان يضطلع بهذه المهازل شيخ الإسلام في السلطنة العثمانية. وحسب المرء أن يذكر على سبيل التمثيل آراء المحبين والمبغضين في أجلاء الصحابة رضي الله عنهم صدر تاريخنا، ثم أقوال هؤلاء وهؤلاء في الحلاّج ومحي الدين بن عربي وتلك

ص: 25

الطبقة. بل مالي أعمد إلى التاريخ البعيد وفي فجر نهضتنا مثل صالحة من ذلك. فاذكروا إن شئتم الأئمة جمال الدين ومحمد عبده ورشيد رضا ومن لف لفّهم. ألم يرفعهم قوم إلى درجات المصلحين المجتهدين، ويهبط بهم آخرون إلى دركات الكفار أعداء الدين؟!

وغريب منهم هذا الفضول والتطفل والله تعالى لم يجعل إلينا أمر الناس، حتى نزج أنفسنا في هذه المزالق. ومتى ملك بشرٌ أمر بشر والله يقول:(ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء.) أما كان في خوَيصة أنفسهم ما يشغلهم عن الناس والتحكم في آخرتهم؟ وما كان أقربهم من إنصاف لو عرضوا القول أو الفعل على الحق فسموا الأشياء بأسمائها وحكموا عليها بالخطأ أو الصواب ولم يحمّلوا النصوص ما لا تحمل ووكلوا أمر الناس إلى الله، إذن لو فروا على أنفسهم عنتاً طويلاً ووقتاً سيسألهم الله عن إنفاقه في هذه السفاسف والآثام، وجهوداً لم يرزقهم الله إياها ليفرقوا دينه شيعاً ويؤلبوا عباده بعضهم على بعض

وأنا إذ أعرض لدين المتنبي فإنما أحكم على أقوال قالها وعلى هنات صدرت عنه، فأعرضها على الحق، وسواء على الباحث، إذا اجتهد وأخلص، أكان المتنبي بعد ذلك مسلماً أم ملحداً، فما لنا إيمانه ولا علينا كفره، ولا يملك إنسان لإنسان عذاباً ولا ثواباً

أمهد لبحثي بكلمة عن الحالة الدينية في النصف الأول من القرن الرابع الهجري، وهو الأمد الذي عاش فيه شاعرنا؛ وأنا حين أفيض فيه إنما أتكلم عن المتنبي نفسه لشدة العلاقة بين الرجل وعصره، ولأن كل شيء من أحوال ذلك العصر كان يهيئ للدعوات السياسية والدينية. وسنرى أن تنبؤ أبي الطيب ليس بالأمر الأد في ذلك الزمن الذي يعج بالأحزاب والنحل وأهل الأهواء

كان الدين أروج التجارات حينئذ في جميع الأقطار الإسلامية؛ فمن بغى ملكا تذرع له بالدين، ومن أراد ثورة جعل شعارها الدين، ومن دعا إلى نحلة فإنما سلاحه هذا الوتر الحساس من النفوس؛ ودولة بني العباس إذ ذاك منكمشة في رقعة صغيرة في العراق، تعيش مع ذلك خاضعة لسلطان الأمراء المتغلبين من الفرس أو الديلم أو الترك، والانتساب إلى آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم أمضى سلاح يصرفه الخوارج وأرباب الأطماع

ص: 26

كان في حلب بنو حمدان وهم علوية، وأنقرض الأغالبة في المغرب فدعى للفاطميين في رقاده من أرض القيروان سنة 296 وهم ينتسبون إلى فاطمة، وكل خارج على الدولة إنما كان يدعو الناس إلى الرضى من آل محمد، وكان في تعاليم الشيعة ما يحفز الطامحين إلى شق العصا: كلٌّ يدعي انه الإمام المنتظر

وأعظم النحل تسلطاً ونفوذاً يومئذ ثلاث: الباطنية والشيعة والحنابلة، وهؤلاء الأخيرون انحصر سلطانهم في بغداد فترة من الزمن فقط، بينما انبث دعاة الشيعة والباطنية في كثير من الأقطار. وكان أهول الجميع خطراً وأبعدهم أثراً القرامطة، وهم طائفة مؤولة باطنية حلولية، جعلوا للشرع ظاهراً وباطناً، وبنوا مذهبهم على تأويل الأحكام والآيات. ظهروا 278هـ وانتشروا بالشام وسواد الكوفة ثم اشتد أمرهم حتى زحفوا على حمص، وخضعت لهم دمشق على جزية، ثم زحفوا إلى الكوفة وعظم خطرهم وتفاقم شرهم، وعجز جند الخلافة عن إخضاعهم (وما زال أمرهم إلى قوة حتى استولوا على أكثر بلاد الفرات وأسسوا دولة بالبحرين، ودحروا جيوش الخليفة المقتدر، وثارت منهم طائفة في نواحي الحجاز، فانقطع الحج سنين خوفاً منهم. ولما أرسل إليهم المقتدر جيشاً بقيادة منصور الديلمي دحروه وقتلوا الحجاج يوم التروية في المسجد الحرام قتلاً ذريعاً وطرحوا القتلى في بئر زمزم، واقتلع زعيمهم الحجر الأسود من مكانه في الكعبة، وأخذه معه إلى هجر حيث بقي اثنين وعشرين عام حتى رد إلى مكانه أيام المطيع العباسي سنة 393)

ذكر المعري في رسالة الغفران: (أن للقرامطة بالأحساء بيتاً يزعمون أن إمامهم يخرج منه ويقيمون على باب ذلك البيت فرساً بسرج ولجام، ويقولون للهمج والطغام: (هذا الفرس لركاب المهدي يركبه متى ظهر.) وإنما غرضهم بذلك خدع وتعليل، وتوصل إلى المملكة وتضليل. ومن أعجب ما سمعت أن بعض رؤساء القرامطة في الدهر القديم لما حضرته المنية، جمع أصحابه وجعل يقول لهم لما أحس بالموت:(إني قد عزمت على النقلة وقد كنت بعثت موسى وعيسى ومحمداً، ولا بد لي أن أبعث غير هؤلاء) فعليه اللعنة، لقد كفر أعظم الكفر في الساعة التي يؤمن فيها الكافر، ويؤوب إلى آخرته المسافر) أهـ

نجد أن القرامطة أخذوا بالحلول والتناسخ المتسربين إلى المسلمين من الهند وفارس، وشاركوا بعض فرق الشيعة في فكرة الإمام المنتظر، وأصبح من ديدن كل داعية إلى بدعة

ص: 27

أو خروج على سلطان، أن ينتسب إلى علي رضي الله عنه، أو أن يدعو إلى الرضى من آل محمد إن تعذرت عليه النسبة مباشرة. وكثر هؤلاء الدعاة والخارجون، وفشت فاشيتهم حتى امتلأت حوادث تلك الأيام بذكرهم. وكان سقوط هيبة الخلافة وانحلال العصبية العربية من أهم العوامل في كثرة تلك الطوائف والانقسامات. وأصبحت الدنيا في كل مكان لمن غلب، وجهر المتغلبون وجنودهم بضروب من المناكر أنفذت صبر البقية الصالحة، فثار في بغداد جماعة من الحنابلة، واضطرمت قلوبهم بالغيرة على الدين من أن تنتهك محارمه، فأجمعوا أمرهم وانتظموا معسكرات تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر بالقوة والسلاح؛ واستفحل شأنهم وقويت شوكتهم، حتى صاروا يكبسون بيوت القواد والعامة فحيثما (وجدوا مسكراً أراقوه، أو مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء.) ولم يطل بهم الزمان حتى أذعنوا لمؤثرات العصر، فتسرب إلى جماعات منهم أقوال هي إلى الحلول والتشبيه، واندس في غمارهم - على ما يظهر - أناس ليسوا منهم، فعظمت أذيتهم على الناس، فتقدم إليهم الخليفة بالإنذار فما أفاد، فأضطر إلى قمعهم بالقوة وإراحة الناس منهم

هذا إلى أناس كثيرين جعلوا الدين وسيلة إلى الدنيا يتاجرون به متاجرة، فيوماً تراهم معتزلة ويوماً شيعة؛ وحيناً باطنية وتارة حلولية يقولون بالتناسخ، يميلون مع الريح حيث مالت، ويعرضون في كل سوق ما يروج فيها، لا يرجعون إلى عقيدة، ولا يصدرون عن إيمان، بل هم أبداً متقلبون (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم)

تلك هي حال الدين في عصر أبي الطيب وفي البلاد التي حل فيها. فما ظنكم بفتى دون العشرين من عمره، يتوقد الذكاء، ويتفجر فصاحة، طماح مغامر، يعشق السيادة، وينشد المجد بكل قوته، التفت حوله فما رأى إلا جماهير بلا عقل، تتبع كل ناعق، عليهم رؤساء جهال، لا علم لهم ولا فضل ولا أدب، ما فهم على كثرتهم من يقاربه في ذكائه ومواهبه وعظم نفسه، ثم أبصر سوق الدعوات رائجة كل الرواج، وكان في طبيعة كثير منهم ما يدعو الطامح إلى محاولة السيادة عن طريق الدين

شاء هذا الفتى أن يقيم نسبة بين دعوتهم ودعوته تتسق هي والفرق بينهم وبينه، فإذا كان فيهم من ادعى انه الإمام المنتظر، والمهدي، أو الرضى، فان النسبة تقضي أن يدعي النبوة دفعة واحدة، وقد فعل

ص: 28

ولا مندوحة لي هنا عن القول بأن تنبؤه في الأعراب أمر وقع حقيقة ولا سبيل إلى الشك فيه، تضافرت على ذلك كل المصادر الموثوقة، حتى التي كانت تميل إليه كل الميل، فأنها لم تنف الأمر وإنما التمست له المعاذير. وما كان أغناها عن ذلك، فأن في السن التي وقعت فيها هذه الزلة العذر كل العذر؛ وليس من الأنصاف أن نلمز حياة خمسين سنة من أجل هناة كانت في سن الفتوة. فلأشرع في ذكر هذا التنبؤ بإيجاز؛ ثم لا فض في علاقة الرجل بالدين مدى حياته. وسأعتمد في قص الحادث على أبي العلاء خاصة، لفضله ولتحريه وقرب زمانه. وسأعفي نفسي من أشياء كثيرة وردت في (الصبح المنبي) لا يقبلها عقل ولا تؤيدها قرائن

وقع المتنبي إلى بادية السماوة وأظهر دعوته، فتبعه قوم من الأعراب من بني كلب، خلبهم بذلاقة لسانه، وحسن بيانه. وتلا عليهم كلاماً زعم أنه أنزل عليه. نقله الأنباري في طبقاته عن أبي علي بن حامد قال:

(وكان قد تلا على البوادي كلاماً زعم أنه قرآن أنزل عليه. فكانوا يحكون له سوراً كثيرة نسخت منها سورة ثم ضاعت وبقي أولها في حفظي وهو: والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار. امض على سننك واقف أثر من قبلك من المرسلين، فان الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه وضل عن سبيله).

وقد حفظ لنا التاريخ مشهداً من مشاهد هذه الدعوة في اللاذقية، ولا ريب أنه كان بعد أن توثق أمر المتنبي بعض التوثق في البادية. قال أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي:

(قدم أبو الطيب المتنبي اللاذقية في سنة 320هـ وكان عمره يومئذ سبع عشرة سنة وهو لا عذار له، وله وفرة إلى شحمتي أذنيه، فأكرمته وعظمته لما رأيت من فصاحته وحسن سمته؛ فلما تمكن الأنس بيني وبينه وخلوت معه في المنزل اغتناماً لمشاهدته واقتباساً من أدبه قلت له: (والله انك لشاب خطير، تصلح لمنادمة ملك كبير.) فقال:

(ويحك! أتدري ما تقول؟ أنا نبي مرسل.) فظننت أنه يهزل، ثم تذكرت أني لم أسمع منه كلمة هزل قط منذ عرفته فقلت له:(ما تقول؟) فقال: (أنا نبي مرسل.)

فقلت له: (مرسل إلى من؟)

قال: (إلى هذه الأمة الضالة)

ص: 29

قلت: (تفعل ماذا؟)

قال: (أملأ الدنيا عدلاً كما ملأت جوْراً)

قلت: (بماذا؟)

قال: (بإدرار الأرزاق والثواب العاجل لمن أطاع وأتى، وضرب الأعناق لمن عصى وأبى)

فقلت له: (إن هذا أمر عظيم أخاف عليك منه أن يظهر) وعذلته على ذلك فقال بديهاً:

أبا عبد الإله معاذ إني

خفي عنك في الهيجا مقامي

ذكرت جسيم مطَّلي وأنا

نخاطر فيه بالمهج الجسام

أمثلي تأخذ النكبات منه

ويجزع من ملاقاة الحمام

ولو برز الزمان إلى شخصاً

لخضب شعر مفرقه حسامي

وما بلغت مشيئتها الليالي

ولا سارت وفي يدها زمامي

إذا امتلأت عيون الخيل مني

فويل في التيقظ والمنام

بهذه القوة والاطمئنان يتحمس المتنبي لنصرة دعوته ويحاول تمكينها من القلوب، فلنصغ إلى أبي العلاء المعري في رسالة الغفران يحدث عن معجزات نسبت إلى أبي الطيب،

قال:

(وحدثت أن أبا الطيب لما حصل في بني عدي وحاول أن يخرج فيهم قالوا له وقد تبينوا دعواه: (ههنا ناقة صعبة فان قدرت على ركوبها أقررنا أنك نبي مرسل. وأنه مضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الابل، فتحيل حتى وثب على ظهرها فنفرت ساعة، وتنكرت برهة، ثم سكن نفارها ومشت مشي المسمحة، وأنه ورد بها الحلة وهو راكب عليها، فعجبوا له كل العجب، وصار ذلك من دلائله عندهم

وحدث أيضاً أنه كان في ديوان اللاذقية، وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين الأقلام فجرحته جرحاً مفرطاً، وان أبا الطيب تفل عليها من ريقه وشد عليها غير منتظر لوقته، وقال للمجروح: لا تحلها في يومك، وعد له أياماً وليالي، وأن ذلك الكاتب قبل منه، فبرئ الجرح، فصاروا يعتقدون في أبي الطيب أعظم اعتقاد ويقولون هو يحي الأموات

وحدث رجل كان أبو الطيب قد استخفى عنده في اللاذقية أو في غيرها من السواحل، أنه أراد الانتقال من موضع إلى موضع، فخرج بالليل ومعه ذلك الرجل، ولقيهما كلب ألح

ص: 30

عليهما في النباح، ثم انصرف، فقال أبو الطيب لذلك الرجل وهو عائد: إنك ستجد لك الكلب قد مات، فلما عاد الرجل لقي الأمر على ما ذكر

ولا يمتنع أن يكون أعد له شيئاً من المطاعم مسموماً وألقاه له وهو يخفي عن صاحبه ما فعل.)

هذا ما ذكر المعري من معجزاته وقد ذكر غيره معجزات أخر نضرب عنها صفحاً، لبعدها عن العقل ولأن راويها ليس في التثبت بمكان أبي العلاء

وفي ديوان أبي الطيب قصيدتان قالهما في صباه، تفيضان أملاً وطموحاً وكفاحاً، وأنا أجعل زمانهما فترة التنبؤ هذه، حين كانت نفسه تجيش بأبعد المطامع وتوقن بالفوز والنجاح. لما وجد تلكؤ الناس عن إجابة دعوته في نخلة - إحدى قرى بني كلب - ومظاهرته بالعداء، عزم على المضي بأمره وتحمل الأذى، ورسم لنفسه هذه الخطة الواضحة في قصيدته:

ما مقامي بأرض نخلة إلا

كمقام المسيح بين اليهود

مفرشي صهوة الحصان ولك

ن قميصي مسرودة من حديد

أين فضلي إذا قنعت من الده

ر بعيش معجل التنكيد

ضاق صدري وطال في طلب الرز

ق قيامي وقل عنه قعودي

أبداً أقطع البلاد ونجمي

في نحوس وهمتي في سعود

عش عزيزاً أو مت وأنت كريم

بين طعن القنا وخفق البنود

فاطلب العز في لظى ودع الذ

ل ولو كان في جنان الخلود

إن أكن معجباً فعجب عجيب

لم يجد فوق نفسه من مزيد

أنا ترب الندى ورب القوافي

وسمام العدا وغيظ الحسود

أنا في أمة تداركها الل

هـ غريب كصالح في ثمود

ولما رزقت دعوته بوارق من الإقبال في بني كلب سكر بنشوتها وطفقت نفسه تحدثه بقرب تحقيق الأمنية، ثم استمر خياله يبني له هذا المجد حتى أنس من نفسه قوة وتحفزاً، فراح يتحدث بإنفاذ ما رسم من خطة، ولو وقفت دونه ملوك الأرض، إلى أن تتم دعوته ويسود الناس. إن شئت فانظر في هذه الأبيات أهي لهجة شاعر يفتخر، أم إيمان طماح واثق من نفسه كل الثقة؟

ص: 31

سيصحب النصل مني مثل مضربه

وينجلي خبري عن صمة الصمم

لقد تبصرت حتى لات مصطبر

فالآن اقحم حتى لات مقتحم

لأتركن وجوه الخيل ساهمة

والحرب أقوم من ساق على قدم

وما قولك فيمن سيغني الأرض بالدماء عن الأمطار:

تنسى البلاد بروق الجو بارقتي

وتكتفي بالدم الجاري عن الديم

ويخاطب نفسه هذا الخطاب الناري، مشجعاً إياها، مهوناً عليها أمر الناس فيقول:

ردي حياض الردى يا نفس واتركي

حياض خوف الردى للشاء والنعم

إن لم أذرك على الأرماح سائلة

فلا دعيت إبن أم المجد والكرم

ثم انظر هذا الإنذار الشامل والوعيد الرهيب لأهل الأرض وملوك العجم والعرب:

ميعاد كل رقيق الشفرتين غداً

ومن عصى من ملوك العرب والعجم

فان أجابوا فما قصدي بها لهم

وإن تولوا فما أرضى لها بهم

هذه نفثة نفس جائشة تسلحت باليقين ورأت الخيال يلوح لها بقوة الحقيقة الواقعة، مؤمن بالفوز، واثقة من كفائتها وإضطلاعها بالأمور الجسام. وما أظن أبا الطيب حين قال هذه القصيدة كاذباً في نفسه، لا بل كان يحدث عنها أصدق الحديث، وإنما كان مخدوعاً ثائراً يريه شبابه الفائر ومواهبه المتقدة السراب ماء فذهب يصف ما تريه نفسه. وإلا فكيف تكون القصيدة أقوى ظهوراً منها فيما تلوت من شعره

تبعت أبا الطيب شراذم من عامة وأعراب، ثم نمى خبره إلى لؤلؤ أمير حمص من قبل الأخشيدية. وأنه يخشى أن يستفحل أمره (فخرج إليه لؤلؤ، فقاتله وأسره وشرد من كان معه من بني كلب وغيرهم من قبائل العرب. وحبسه في السجن دهراً طويلاً حتى كاد يتلف، فكانت حاله إلى الضراعة والاستكانة. وكانت هذه الضربة كافية في إعادة رشده إليه وفي يقظته من حلمه اللذيذ الذي نعم به زمناً يسيراً فاستفاقت تلك النفس التي كانت تهذي في حلمها وتقول:

إذا امتلأت عيون الخيل مني

فويل في التيقظ والمنام

وتقول:

ميعاد كل رقيق الشفرتين غداً

ومن عصى من ملوك العرب والعجم

ص: 32

وهبطت من عليائها إلى أسفل الدركات فقالت:

أمالك رقى ومن شأنه

هبات اللجين وعتق العبيد

دعوتك عند إنقطاع الرجا - ء والموت مني كحبل الوريد

ثم سئل لؤلؤ في أمره فاستتابه وكتب وثيقة وأشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام وأطلقه. وبهذا انطوت صحيفة من تاريخ أبي الطيب في صباه، على نزوة خلدها التاريخ على قلة ما يسجل للصبيان من نزوات

لم يفد أبو الطيب من مغامرته هذه إلا لقب (المتنبي) الذي لصق به على كره منه، فكان يستحي بعد توبته كل الاستحياء. ذكر عنه المعري أنه سئل عن حقيقة هذا اللقب:(هو من النبوة أي المرتفع من الأرض) ولما كان في بغداد قال له أحد الأكابر: (خبرني من أثق به أنك قلت إنك نبي؟) فقال أبو الطيب: (الذي قلته: أنا أحمد النبي)

قال أبو علي بن حامد: (كان المتنبي في مجلس سيف الدولة: إذا ذكر له قرآنه أنكره وجحده. وقال له ابن خالويه يوماً في مجلس سيف الدولة: (لولا أن أخي جاهل لما رضي أن يدعى بالمتنبي لأن معنى المتنبي كاذب، ومن رضي أن يدعى بالكذب فهو جاهل. فقال أبو الطيب: لست أرضى أن ادعى بذلك وإنما يدعوني به من يريد الغض مني، ولست أقدر على المنع)

ونقل صاحب طبقات الأدباء ص371 عن التنوخي قال: قال لي أبي: (أما أنا فسألته بالأهواز عن معنى المتنبي لأني أردت أن أسمع منه هل تنبأ أو لا؟ فجاوبني جواب مغالط وقال: (إن هذا شيء كان في الحداثة، فاستحييت أن استقصي عليه فأمسكت)

وزعم جماعة أن اللقب لصق به لتشبهه بالمسيح مرة، وبصالح مرة في أبياته التي مرت

وكيفما كان فان الذين عاشوا في زمن المتنبي وبعده مجمعون على ادعائه النبوة، وكان هو يجهد أن ينفي التهمة في حياته خجلاً وحياء. وليس بين الأمرين تناقض ولا داع إلى حيرة. وقد كان هذا اللقب على أبي الطيب من أشد ما كابد في حياته: فقد منعه كافور الولاية بسببه، ولما عوتب قال:(يا قوم، من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم ألا يدعى الملك مع كافور؟ فحسبكم) وكلما أراد عدو أو شاعر ايلام المتنبي هجاه ونبزه بهذا اللقب

ص: 33

(للبحث بقية)

سعيد الأفغاني

ص: 34

‌3 - دانتي الليجييري والكوميدية الإلهية وأبو العلاء

‌المعري ورسالة الغفران

المطهر

(1)

تنفس دانتي صعداءه حين انتهى من دركات الجحيم، وحين هب عليه أول أنفاس الفجر المنعش الندَّي! ونظر فرأى نجوماً أربعة تتألق في بنفسج السماء، ولجةً صاخبة ترغي وتزبد حول جزيرة نائية، ينهض فوقها جبل شامخ رفيع الذرى، كأنما يحمل القبة الأثيرية برَوقْيه؛ وسأل عنه فرجيل فأنبأه أنه جبل المطهر، وأنهما لا بد موقلان فوقه، ليصلوا منه إلى الفردوس

ويلتفتان فيريان شبحاً ميمماً شطرهما، وإذا هو شبح كاتو من يوتيكا، أقبل ينذرهما بما ينبغي لهما أن يتزودا به من الإيمان والصبر في سفرتهما الشاقة في أحياد الجبل، وفوق صياصيه. ويتقدمان من الشاطئ فينضح فرجيل الماء على وجه دانتي، ويلف حول خصره قصبة مما ينبت فوق الشاطئ (2) وما يكادان يفرغان حتى يريا زورقاً يثب في البعد فوق نواصي الموج، وفيه ملك كريم يجريه بين العُدْوَتين؛ وبين يدي الملك أرواح الموتى، أقبلت من الدار الفانية إلى دار البقاء؛ ويتبين دانتي بينهما روح صديقه كاسيللا المغني الفلورنسي المشهور، الذي طفق يملأ الفجر بأغنياته الحلوة يحيي بها دانتي، لولا أن استحثهما كاتو فانطلقا يهرولان شطر الجبل (3) وينظر دانتي فلا يرى إلا خياله، حين تشرق الشمس، منبطحاً على السفح وراءه، فينزعج ويحسب إن فرجيل قد غادره ورحل، ولكن فرجيل يطمئنه، ويخبره أن أرواح الموتى إن هي إلا أضواء شفافة لا تكون لهلا ظلال كما لأهل الدار الفانية. ويبلغان منحدراً صعباً لا يستطيعان تسلقه، ولكن بعض أرواح الموتى تدلهما على شِعبْ ضيق فينفذان منه ويلقيان فيه الملك منفريدي ملك نابلي الذي يعرف دانتي، ويرجوه، إذا رجع إلى الدار الأولى، أن يلقي ابنته كونستانزا ملكة أرجوان ويحدثها عن حكاية مقتل والدها التاعس الذي لا يدري أحد كيف قتل (4) ويُصعدان في الجبل، في طريق كلها نؤى وركام وأحجار، ثم يجلسان عند منعرج يستريحان مما عراهما من نصب. . . حيث يهتفُ بهما بعض أرواح الموتى، ويعرف

ص: 35

بينهما دانتي روح صديقه بيلاكوا، الذي يحدثه أنه استحق أن يكون خارج الفردوس دهراً لأنه لن يعجل بالتوبة قبل موته إلا حين أدركه المنون. (5) وينطلقان، فيلقيان أفواجاً ممن لم يعجلوا لتوبتهم فأمهلوا عن دخول الفردوس كما أمهل بيلاكوا. (6) ويلقيان أفواجاً أخرى فتتكبكب حول دانتي، تتألم وتبكي، وترجوه إذا عاد إلى الدار الأولى، أن يبلغ أهليهم تحياتهم، وأن يرجوهم أن يستكثروا لهم من الصلاة والدعاء، عسى أن يخفف عنهم، وأن يعجل بهم إلى الجنة!! ويعجب دانتي، ويسائل فرجيل (وماذا تفيد هؤلاء صلوات أهليهم؟ وهل للإنسان إلا ما سعى؟)، ولكن فرجيل يذكر بياتريس ويذكر أن صلاة دانتي قد نفعتها، وقد عجلت بها إلى الفردوس. ثم يلقيان سوردللو، فيشكو إليه دانتي تدابر الإيطاليين وتقاطعهم وقلة اهتمامهم بجمع كلمة إيطاليا وإنهاض الإمبراطورية الرومانية. (7) ويرخي الليل سدوله فيتقدم سوردللو ليهديهما سواء السبيل فيدلهما إلى منعرج مزهر يريان فيه أرواح بعض الملوك والأمراء كالإمبراطور رودولف، وأوتوكار ملك بوهيميا، وهنري الثالث ملك إنجلترا. . . الخ. . . ويتحدث دانتي إلى بعضهم (8) ويتنزل ملكان عظيمان من السماء، في يد كل منهما سيف من نور فيحرسان الوادي، ولكن سوردللو يستأذنهما فيأذنان له، فيقود الشاعرين إلى شِعب جميل يلقى فيه روح نينو قاضي جاليورا فيكلمه دانتي في بعض ما كان من مشكلات الدنيا، ثم يلقى أحد إخوانه من الموتى فيتنبأ له عما سيلقاه من نفي وتشريد ونزح عن الديار حين يعود إلى الدنيا (9) وينام دانتي، ثم يصحو بعد الشروق بساعتين فيجده قد حمله من يدعى لوسيا إلى باب المطهر حيث يأذن لهم حارسه، وهو من الملائكة، باجتيازه. (10) ولا ندري كيف ينتكس دانتي فيعطينا في المطهر صورة من أبشع صور الجحيم في هذا الفصل العاشر. . . فبعد أن يجتازوا (سوردللو وفرجيل ودانتي) طريقاً حلزونياً حول صخرة كبيرة يشرفون على واد سحيق مكتظ بأهل الكبرياء والخيلاء من موتى الدار الفانية وقد وقفوا فيه وفوق كواهلهم حجارة ضخمة من الرخام ينوؤون تحتها ويتضاغون ويبكون! (11) ويمرون بأقوام من أهل الدنيا الفانية قضى عليهم كِبْرهم أن يؤخروا في منزلق صعب عن الجنة جزاء صلفهم في دار الغرور (12) ثم يتقدم إليهم ملك فينقلهم من دارة المطهر الأولى إلى دارته الثانية. (13) حيث أهل الحسد والحقد والغيرة. . . وقد خيطت أعينهم بسلوك من حديد، ويجد دانتي من

ص: 36

بينهم السيدة سابيا السينية التي تتحدث إليه فتخبره عن سبب تخلفها هنا. (14) ثم يلقى واحداً من سكان وادي الأرنو (النهر الذي تقع عليه فلورنسا) فيحدثه عن سبب انحطاط الفلورنسيين وسائر سكان هذا الوادي، ثم انحطاط الناس في رومانا. . . . ويمضي الشاعران بين ضجيج الأرواح الهائمة، تلغط جميعاً بهراء من الحسد والأحقاد القديمة (15) ويحدوهما ملك كريم إلى الدار الثالثة من المطهر حيث تطَّهر الأرواح من سورة الغضب والجموح الدنيوي، وبعد أن يكلم دانتي بعض هذه الأرواح السادرة ينشر ضباب كثيف يغشى الوادي، ويظل فيه الجميع (16) ويتعرفون الطريق على أصوات الأرواح التي تصلي لبارئها، ثم يبرز من الضباب روح جريء (ماركو لومباردو) فيكلم دانتي ويقنعه أن الله القدير قد وضع في كل نفس إرادةً حرة تهدي إلى الرشد أو تنتهي إلى الضلال، وأن فساد الدنيا هو الثمرة المرة لهذا المزيج غير المتكافئ في نفوس الحكام من القوى الروحية والشهوات الحسية (17) وينجاب الضباب أو هم يخلصون منه آخر الأمر، ويتقدم إليهم ملك جميل فيقودهم إلى الدار الرابعة من دارات المطهر؛ حيث يقر أهل الكسل وعدم المبالاة ليخلصوا من أدرانهم (18 - 19) ويتحدث فرجيل حديثاً طويلاً عن الحب، فيقسمه إلى حب طهري وحب شهوي، ويعزو إلى الأول كل ما يصدر من خير وإلى الثاني كل ما يمسخ الحياة من شر؛ ثم يقودهما ملك آخر إلى الدار الخامسة حيث يطهر الطماعون وجماعو المال من خبثهم، ويلقي بين هؤلاء البابا أدريان الخامس فيكلمه (20 - 21) ويلقى دانتي الملك هوج كانت من ملوك فرنسا فيحدثه هذا عن أحفاده وذراريه من ملوك ذاك البلد. ثم تزلزل الجبل ويميد بمن عليه فتهتف الأرواح الهائمة على جنباته:(المجد لك يا رب. . . العظمة لك يا الله!). ثم يتقدم إلى الشاعرين روح قد تم تطهيره واخذ طريقه إلى الفردوس، ويدعى ستاتيوس فيشرح لهما سبب الزلزلة السالفة، ثم يتقدم إلى فرجيل فيعرفه ويكاد يطير من الفرح للقائه (22) ويخب الثلاثة في طريقهم إلى الدارة السادسة حيث يطهر المنهومون وأهل البطنة، وحيث يرون شجرة باسقة ذات طلع نضيد وفاكهة حلوة يفوح ارجها، في أوراقها أرواح تذكر الله وتسبح بحمده وتشكر له ما رزقها من عفة (23 - 24 - 25) وينظر دانتي فيرى روح صديقه فوريز الذي ينتقد بشدة هذا الملبس الجديد الشاذ الذي اتخذه أهل فلورنسا، ثم يرى دانتي جماعة من أصدقائه المتلبثين في

ص: 37

المطهر ومنهم خصمه السياسي الكبير كورسو دوناتي، ويصل الثلاثة إلى شجرة أخرى تخرج من بين أوراقها أصوات رائعة تردد أمثلة في النهم، ثم يتقدم إليهم ملك فيهديهم إلى الدارة السابعة والأخيرة من المطهر حيث يطهر أولئك الذي كانوا لا يستطيعون كبح نفوسهم وضبط عواطفهم ساعة الغضب. وهم يطهرون ثمة في نار حامية (26 - 27) وترى الأرواح الهائمة في النار ظل دانتي على اللهب فتدهش لوجود حي من بني الدار الفانية في هذا المكان الأخروي المقدس، ثم يتقدم إليه روح صديقه جيدو جوينيشبلي الشاعر الإيطالي المعروف فيتحدث إليه برهة كما يتحدث إليه روح آخر. ثم يقودهم ملك كريم عَبْر النار إلى المعراج المؤدي إلى السماء. . جنة الأبرار. . ولكن الليل يقبل، فيجلس الثلاثة (فرجيل ودانتي وستاتيوس) عند حنية رخية النسيم، حيث ينام دانتي فيرى رؤيا جميلة. ثم يهب مع الصباح فيودعه فرجيل، ويترك له الحرية الكاملة للتجول في السماء حتى يلقي بياتريس (28) ويذهب دانتي في السماء صعداً حتى يبلغ الغابة الفردوسية الوارقة، ولكن نهراً من أنهارها يحجز بينه وبين فتاة لاهية هيفاء وقفت في روضة ناضرة تقطف الزهر ذا الشذى؛ فيكلمها دانتي، ولكن الفتاة تأخذ معه في شرح جغرافية هذا المكان، وتخبره إن هذا النهر الذي يفصل بينهما هو نهر ليث، وإن يكن اسمه يونو في مكان آخر (29) وتخطر الفتاة، في عكس مجرى النهر، ويمشي دانتي تلقاءها، ويتحدثان حديثاً مشجياً، ثم يسمعان موسيقى بعيدة فينظران، فإذا حفل حاشد في أديم الفردوس يلوح في الأفق. (30) وتمضي لحظة، وإذا ملاك كريم يتيه في شفوف بيض يتنزل من السماء إلى مسرى دانتي، وينظر الشاعر، فيرى حبيبته بياتريس هي هذا الملاك الطاهر فيكاد يجن من الفرح. . . ولكن بياتريس تأخذ معه في عتاب حلو وعذل رفيقه (31) فيعترف الشاعر انه مخطئ في كل ما أخذت عليه حبيبته، ويركع بين يديها معتذراً ثم يسجد سجدة طويلة باكية، وتتقدم إليه ماتيلدا - الفتاة السابقة - فتأخذ بيده، وتخوض به لجج ليث، ثم تقدم إليه أربع عذارى فاتنات، يمثلن الفضائل الكنسية، وهؤلاء يقدنه إلى جريفون، رمز المخلص، السيد المسيح، وإلى ثلاث عذارى أخريات يمثلن الفضائل الإنجيلية، وهؤلاء يقدمنه إلى بياتريس التي تنسي دانتي جمالها الخلقي، وتشغفه بجمالها الروحي (32 - 33) وينطلق الجميع (دانتي وماتيلدا وستاتيوس وبياتريس) ويحذرون

ص: 38

دانتي الا يحدق النظر في حبيبته لئلا يعشى بصره من شدة لألائها. ثم يصلون إلى دوحة عظيمة هي شجرة المعرفة التي أكل منها آدم وطرد بسببها من الجنة، فيرى إلى أطيار وأشباح غريبة تهبط من علٍ فتكون فيها، ويتبين منها دانتي بازياً ونسراً وثعلباً وتنيناً. . . . وتتقدم بياتريس إلى الشجرة هي والعذارى السبع فينشدنه أنشودة من أناشيد الجنة، ثم يمضي الجميع وتكلم بياتريس دانتي، فتكشف له عن شؤون غيبية ستحدث له في الدار الفانية حينما يعود إليها. ويكونون عند النبع الأكبر الذي يفترق عنده النهران ليث ويونو؛ وهنا تشير بياتريس إلى ماتيلدا فتتقدم هذه إلى دانتي وتسقيه جرعة من مياه يونو، التي تكون هي وأمواه ليث عظمة الإله وحكمته وجبروته

(للبحث بقية)

(د. خ)

ص: 39

‌أندلسيات

أبو بكر بن العربي

للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي

نترجم اليوم لإمام عظيم من أئمة المسلمين، وعلم من أعلام هذا الدين، الذين أنجبتهم الأندلس فيمن أنجبت، فأثروا في العلوم الإسلامية تأثيراً، ونظروا فيها تنظيراً، وفصلوا ما أجمل منها تفصيلاً، وسجلوا من ثم أسمائهم في سجل الخلود تسجيلاً. .

هذا الإمام هو العالم الحافظ الأصولي المحدث الفقيه الأديب الثبت الثقة أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد المعافري الإشبيلي الأندلسي المعروف بالقاضي أبي بكر بن العربي. .

نجل هذا الإمام أبوان كريمان فاضلان معرقٌ لهما في الفضل والكرم، ومن ثم تداركته أعراق صدق وكان منه هذا النابغة العظيم، ولا جرم، فأن للوراثة أثرها، وللبيئة أثرها البالغ كذلك، هيأهما قدر من الله نافذ، وخط في أم الكتاب مسطور، وذلك أن أم المترجم له هي بنت أبي سعيد عبد الرحمن الهوزني صاحب صلاة الجماعة بقرطبة في عهدي عبد الرحمن الداخل وابنه هشام، وهو رأى أبو سعيد والد أبي القاسم الحسن الهوزني أحد العلماء الأعلام والسروات النابهين، وهو - أي أبو القاسم - والد أبي حفص عمر ابن الحسن الهوزني الكاتب البارع الألمعي. أما أبو المترجم له فهو أبو محمد عبد الله بن محمد أحد فقهاء أشبيلية ورؤسائها، وكان له عند المعتمد بن عباد أعظم ملوك الطوائف وعند أبيه المعتضد من قبله منزلة باسقة. . ولما انقضت دولة المعتمد بن عباد وسائر ملوك الطوائف باستيلاء يوسف بن تاشفين ملك مراكش على الأندلس خرج أبو محمد ومعه ابنه المترجم إلى الحج، وذلك سنة 485هـ - سنة 1092م - وسن المترجم له إذ ذاك زهاء سبعة عشر عاماً، إذ كان مولده سنة 1075م، وقد تأدب المترجم بأشبيلية قبل ارتحاله مع أبيه وقرأ القراءات وسمع أباه وخاله أبا القاسم الحسن الهوزني وأبا عبد الله السرقسطي وغيرهم، وفي ذلك يقول من كتاب له:(حذقت القرآن ابن تسع سنين ثم ثلاثة لضبط القرآن والعربية والحساب، فبلغت ستة عشرة، وقد قرأت من الأحرف نحواً من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه، وتمرنت في العربية واللغة ثم رحل بي أبي إلى الشرق.)

ص: 40

ولما ذهب إلى الإسكندرية سمع الأنماطي وغيره، وسمع بمصر أبا الحسن الخلعي وغيره، وبدمشق غير واحد، ولقي ببغداد أبا حامد الغزالي وغيره، وفي لقائه الغزالي يقول في كتابه قانون التأويل: (ورد علينا ذا نشمند - يعني الغزالي - فنزل برباط أبي سعد بازاء المدرسة النظامية معرضاً على الدنيا مقبلاً على الله تعالى فمشينا إليه، وعرضنا أخيلتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي كنا ننشد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم ولو رآه علي بن العباس - ابن الرومي - لما قال:

إذا ما مدحت امرأ غائباً

فلا تَغْلُ في مدحه واقصِدِ

فإنك إن تَغْلُ تَغْلُ الظنو - ن فيه إلى الأمد الأبعد

فَيَصغُرُ من حيث عَظّمتَه

لفضل المغيب على المشهد

ثم حج في موسم سنة 489 وسمع بمكة أبا علي الحسين بن علي الطبري وغيره، ثم عاد إلى بغداد ثانية وصحب أبا بكر الشاشي وأبا حامد الغزالي والخطيب التبريزي وغيرهم من العلماء والأدباء وقرأ عليهم الفقه والأصول والأدب، وقيد الحديث وإتسع في الرواية وأتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام (علم التوحيد) ثم صدر عن بغداد إلى الأندلس وعاج على الإسكندرية وأقام بها مدة عند أبي بكر الطرطوشي فمات بها أول سنة 483 ثم انصرف هو إلى الأندلس سنة 495 وقدم بلدة أشبيلية بعلم كثير لم يأتي بمثله أحد قبله ممن كانت له رحلة إلى المشرق - إلا الإمام الباجي كما يقول المترجم من كلمة له - وسنترجم للباجي - وكانت رحلة علماء الأندلس وأدبائها إلى المشرق - إلى أفريقية - تونس والجزائر - ومصر والشام والعراق والحجاز، وإلى خراسان وما إليها بل وإلى الهند والصين أحياناً - في حركة ودؤوب عجيبين، لا يكادان يفترقان على بعد المشقة وصعوبة المواصلات واختلال الأمن، كما كان كثير من المشارقة يرتحلون إلى الأندلس، غير أن رحلة الأندلسيين إلى المشرق كانت في الأعم الأغلب لنشدان التبحر في العلم والأدب واللغة والارتواء من سلسبيلها الثر الفياض إذ الأندلسيون يعلمون أن المشرق هو مهد العلوم والمعارف، فكانوا لذلك يقفون من المشارقة موقف الأبناء من الآباء، أو التلاميذ من الأساتيذ. كما كان من أغراضهم تأدية فريضة الحج. أما المشارقة فقد كان ارتحالهم إلى

ص: 41

الأندلس إما بدعوة من ملوكها للإفادة وبث العلم والفن والأدب كما كان الشأن مع أبي علي القالي إذ دعاه الحكم المستنصر ولي عهد الناصر، ومع زرياب الموسيقي العبقري إذ دعاه عبد الرحمن الأوسط، وإما للربح والاتجار كما كان من الرازي محمد بن موسى والد ابي بكر أحمد بن محمد الرازي كبير مؤرخي الأندلس، وإما للاستكشاف وحب الاستطلاع خدمة وللعلم من طريق والسياحات كما كان من مثل ابن حوقل، وإما للإقامة بالأندلس والاستمتاع بذلك الفردوس الإسلامي المفقود كما كان من كثير ممن نزحوا إلى الأندلس وأقاموا بها. . . (وبعد) فأنا في الحق لا نعلم أمة من الأمم كانت تعني بالعلم وتحصيله، وتعاني ما تعاني أراضيه في سبيله، عناية المسلمين الأولين. وكان ذلك منهم نزولاً على حكم دينهم وحضه على التعلم والتعليم وطلب العلم ولو بالصين. . . ولمناسبة السفر وصعوبته في العصور نورد هنا نبذة للمترجم له أوردها المقري، قال: (ولما ذكر القاضي أبو بكر ابن العربي في كتابه قانون التأويل ركوبه البحر في رحلته من أفريقيا قال: وقد سبق في علم الله تعالى أن يعظم علينا البحر بزَوْلِه، ويغرقنا في هوله، فخرجنا من البحر، خروج الميت من القبر، وأتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت كعب بن سليم ونحن من السغب، على عطب، ومن العرى، في أقبح زي. . . تمجنا الأبصار، وتخذلنا الأنصار. فعطف أميرهم علينا فأوينا إليه فآوانا، وأطعمنا الله تعالى على يده وسقانا، وأكرم مثوانا وكسانا، بأمر حقير ضعيف، وفن من العلم طريف. وشرحه أنا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاه، فِعْلَ السامدِ اللاّه، فدنوت منه في تلك الأطمار، وسمح لي بياذقته، إذ كنت من الصغر في حد يسمح فيه للأغمار، ووقفت بازائهم، أنظر إلى تصرفهم من ورائهم، إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خُلس البطالة، مع غلبة الصبوة والجهالة، فقلت للبياذقة: الأمير أعلم من صاحبه، فلمحوني شزراً وعظمت أعينهم بعد أن كنتُ نزراً، وتقدم إلي الأمير من نقل الكلام إليه، فاستدناني فدنوتُ منه، وسألني هل لي بما هم فيه بصر؟ فقلت: لي فيه بعض نظر، سيبدو لك ويظهر، حرّك تلك القطعة، ففعل، وعارضه صاحبه، فأمرته أن يحرك أخرى، وما زالت الحركات بينهم كذلك تترى، حتى هزمهم الأمير، وأنقطع التدبير، فقالوا: ما أنت بصغير وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشداً:

ص: 42

وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه

وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي

فقال: لعن الله أبا الطيب أوَ يشكّ الربّ؟

فقلت في الحال: ليس كما ظنّ صاحبك أيها الأمير، إنما أراد بالرب ههنا الصاحب، يقول: ألذ الهوى ما كان المحبُّ فيه من الوصال، وبلوغ الغرض والآمال، وعلى ريب، فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله، ونقاة لما يقع به، كما قال:

إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضى

فأين حلاوات الرسائل والكتب

وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض، في طرفي الإبرام والانتقاض، ما حرّك منهم إلى جهتي دواعي الانتهاض، وأقبلوا يتعجبون مني، ويسألونني كم سنّي، ويستكشفونني عني، فبقرت لهم حديثي، وذكرت لهم نجيثي، وأعلمت الأمير بأن أبي معي فاستدعاه، وقمنا الثلاثة إلى مثواه، فخلع علينا خلعه، وأسبل علينا أدمُعه، وجاء كل خوان، بأفنان الألوان، ثم قال - بعد المبالغة في وصف ما نالهم من إكرامه - فانظر إلى هذا العلم الذي هو للجهل أقرب، مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذا من العطب. . .

(لها بقية)

عبد الرحمن البرقوقي

ص: 43

‌جامعة الإسكندرية

بقلم إبراهيم جمعة

المتحف الإسكندري - جامعة على غرار الأكاديميات الأثينية

- وجه الخلاف بينهما - الغرض من إقامة المتحف - راعي

المتحف - جامعة الإسكندرية وجامعات العصور الوسطى في

أوروبا - الشبه بين كلية الملكة وكلية أول سولز في اكسفورد

وبين جامعة الإسكندرية - النظام الداخلي للجامعة - علماء

هذا العصر - مكتبة المتحف

- 1 -

تحققت في مصر سياسة الإسكندر الأكبر - تلك السياسة التي كانت ترمي إلىصبغ البلاد المفتوحة بصبغة إغريقية هلينية، وقد ساعد على تحقيق حلم الإسكندر إنشاؤه مدينة الإسكندرية لتكون مركزاً لتلك الثقافة الجديدة. وقد جرى أعقابه في مصر من البطالسة على سياسته، فجعلوا الإسكندرية من حيث التجارة وريثة لبيريه ميناء أثينا التجارية كما جعلوها وريثة لأثينا نفسها من الوجهة العلمية - وهكذا تكون الإسكندرية قد قامت في وقت هوى فيه لواء العلم من عل بمهمة سامية ظلت تقوم بأعبائها عدة قرون

وكان أكبر مظاهر هذه الوراثة تأسيس بطليموس سوتر لمتحف الإسكندرية - والمتحف الإسكندري جامعة علمية، وإنما سميت الجامعة متحفاً لقيامها في ركن من أركانه. وقد كانت تلك التسمية شائعة في العصر الإغريقي، فقد كان يطلق لفظ (الجمنازيوم) على جامعة بيرين. . وقد انحدرت هذه التسمية من العصور القديمة إلى العصور الوسطى فالحديثة، فما يزال يطلق لفظ المتحف (ميوزيوم) على بعض الأندية الأدبية في ألمانيا حتى الآن

فلا غرابة إذن إذا أطلقنا لفظ المتحف الإسكندري وأردنا به جامعة الإسكندرية، فقد كان كل ما في المتحف من شتى أنواع الحيوان والنبات ومن مجموعات الكتب النفيسة

ص: 44

والمخطوطات وما إلى ذلك عوناً على الدراسة العلمية المنظمة، والبحث في حياة الكائنات، وتقصي الحقائق والتأليف، مما كان في مجموعة أشبه شيء بمهمة الجامعات في العصور الحديثة

أنشأ سوتر هذا المتحف بمساعدة فيلسوف أثيني هو (ديمتريوس فاليرون) الخطيب اليوناني الذي استصحبه سوتر في عودته من حرب ديمتريوس ملك مقدونية. ومما يدعو إلى كثير من الأسف أننا لا نعثر الآن على كثير من معالم ذلك المتحف في حين استطعنا أن نلم بكثير من المعلومات عن المعاهد المعاصرة له. ومن عجب أن يكون هذا، لأن المتحف أنشئ في وضح التاريخ، وفي عصر عاهل شهير، وفي مدينة من أعظم مدن العالم القديم! ولعل التنقيب يكشف عن بعض معالم المتحف الإسكندري لو كان للتنقيب من سبيل

غير أنه لحسن الحظ استطعنا أن نصل إلى بعض إنتاج المتحف الإسكندري في النقد الأدبي وفي العلوم الرياضية والجغرافية وغير هذه وتلك من فروع المعرفة الإنسانية، فإذا لحظنا ضعفاً ظاهراً في الأدب والشعر والفلسفة، فإنما يعزى ذلك إلى ضعف هذا العصر الأول من عصور الجامعة في هذين النوعين من الإنتاج بالمقارنة مع أثينا وأيونيا اللتين كانتا إذ ذاك في أوجهما العلمي

إن فكرة جعل الإسكندرية مركزاً للتجارة ومستقراً للعلوم والآداب والفنون، اختمرت تدريجا في ذهن بطليموس سوتر اختماراً ساعد على إخراجه إلى عالم الحقيقة ذلك الفيلسوف الإغريقي. . وكان لا بد أن يكون تأسيس المتحف على غرار يوناني بحت، إذ أنه وليد فكر يوناني كما نرى. .

نشأت المدارس اللاتينية بادئ الأمر في شكل حلقات للدرس، تنتظم حول معلم يتحدث إلى تلاميذه في فرع من فروع المعرفة، وما لبثت هذه الحلقات أن استحالت إلى هيئات علمية منظمة، عرفت كل منهما باسم معلمها الأول، واتخذت اسم (الأكاديمي) وقد كانت هذه الهيئات العلمية في بلاد اليونان بعيدة عن أي إشراف حكومي، إلا في الأوقات التي كانت ترى فيها الحكومات ضرورة قصوى للتدخل في حريتها العلمية ابتغاء الحد من تلك الحرية، محافظة على سلامة الأداة الحكومية من أي شطط ينتجه التفكير الحر

أما في مصر فقد حتمت البيرقراطية الحربية أن يكون المتحف تحت الإشراف الحكومي

ص: 45

المباشر وفي رعايته. وهكذا كان المتحف، أو كانت الجامعة الإسكندرية، من بدء إنشائها هيئة حكومية تستمد وجودها مباشرة من الملك، ويستمد كل فرد من أفرادها حريته منه

لم يكن الغرض الذي قصد إليه بطليموس من إنشاء هذا المتحف هو أداء رسالة معينة تصدر عن ذلك المعهد، ولم يكن هو يدري في كثير أو قليل الفرق بين المعهد الذي أنشأه وبين تلك الأكاديميات الأثينية التي ازدهرت في أثينا، وإنما الظاهر للباحث أنه قصد من وراء إنشائه إلى غرض قد يكون سياسياً وقد لا يكون، قصد إلى أن يجعل المدينة التي جعلها الإسكندر عاصمة له مركزاً لحكم العالم الهليني بأسره، فمن أجل هذا كلف سوتر بالاستيلاء على مقدونية، وبفرض سيطرته المطلقة على البحر الأبيض الشرقي؛ ولا شك أن هذه السياسة شبيهة بسياسة التوسع التي جرى عليها الإسكندر مع فرق جوهري هو أن الإسكندر كان يجعل مقدونيا نواة لإمبراطوريته، بينما كان سوتر يرمي إلى جعل مصر التي آلت إليه بعد موت سيده نواة لإمبراطورية بطليموسية

والذي يتأمل في شخصية سوتر لا يرى غرابة في سعة أطماعه التي أصبحت الإسكندرية بحكم الظروف مركزها الطبيعي، لهذا لم يأل سوتر جهداً في توفير مظاهر الأبهة والعظمة لمدينته الخالدة، وإذا فقد كان الغرض الأول والأخير من إنشاء المتحف هو أن يجمع في الإسكندرية جمهرة من العلماء تفكر، وتحاضر، وتكلف بالبحث، امتازت بتفوقها العلمي والأدبي لأنها كانت جمهرة منتقاة ابتغاء التشبه بأثينا وعلمائها، أثينا عاصمة العام الهليني ومستودع علمه. . وبهذا تكون رغبات سوتر منحصرة في أن يسلب مقدونيا نفوذها السياسي ليتركز في مصر، وأثينا نفوذها العلمي ليستقر في الإسكندرية

وكانت هذه الجمهرة من العلماء تسكن المتحف، تحت إشراف رئيس ديني يعينه الملك من الكهنة، ويجدر أن نذكر هنا أنه لم يكن مصرياً كمعظم هيئة المتحف، وقد كانت مهمته قاصرة على رعاية المتحف رعاية دينية، وهو تقليد جامعي نقلته جامعة الإسكندرية عن جامعة أثينا بشيء من الاختلاف، إذا كان راعي الأكاديمية الأثينية ينتخب انتخاباً. أما راعي جامعة الإسكندرية فقد كان يعين تعييناً لمدة تطول وتقصر تبعاً للإرادة الملكية

ولما أن استطاع سوتر أن يجعل للإسكندرية مكانة سياسية ممتازة، وتمكن في الوقت نفسه أن يحيطها بجو علمي خاص، أمها الطلاب من جميع أنواع العالم الهليني يطلبون العلم

ص: 46

على خير أساتذته

وقد كانت مهمة هذه الجامعة الناشئة أول أمرها قاصرة على النقد العلمي، والنظر في مؤلفات السابقين، دون أن تكون مبتدعة أو مضيفة إلى الثورة العلمية. . وتعوزنا المعلومات عن عدد الطلاب المختلفين إلى حلقات الدرس في الجامعة، وعن نظام معيشتهم، وعن العلاقة بين هؤلاء الطلاب وبين أساتذتهم لنستشف من هذه العلاقة شيئاً عن الروح الجامعية في جامعة الإسكندرية

وفي هذا السبيل لم نصل إلى أكثر من أن عدداً من الطلاب الغرباء أم الإسكندرية طلباً للعلم، ولا بد أن يكون هذا العدد قد سكن المتحف أو سكن المدينة على مقربة من المتحف، حيث لم يكن لهم في المدينة غاية غير الدراسة

حقاً لقد كان بالمتحف أروقة، ولكن الشائع أنها كانت لسكن العلماء، ولكن حقيقة معينة تدعو إلى الاعتقاد بأن الطلاب عامة سواء أكانوا من الوطنيين أم الأجانب النازحين، كانوا يساكنون الأساتذة في تلك الأروقة، تلك هي التي يذكرها (مافي) في كتابه (الحياة والعقائد الإغريقية) ويقرر فيها أن نظام جامعة الإسكندرية كان كنظام (كلية الملكة) في اكسفورد في أول إنشائها، أشبه شيء بمدرسة داخلية يختلف فيها الطلاب إلى دروس يلقبها الأساتذة ثم ينصرفون في أوقات فراغهم إلى الاستذكار. وأقل ما يؤخذ من هذا أن الطلبة كانوا يعيشون مع أساتذتهم في بناء واحد، ومن شأن هذا أن يعطي مجالاً للتعاون العلمي بين الطلبة من ناحية وبين الطلبة وأساتذتهم من ناحية أخرى؛ ومن شأنه أيضاً أن يظهر الجامعة بمظهر لا يتفق مع سمو النظام الجامعي الذي يجب أن يكون أميز خصائصه البحث العلمي، وأخذ الطلاب به تدريجاً حتى تنمو فيه ملكته. وهذا ما فطنت إليه جامعة الإسكندرية، فنزلت عن النظام العتيق تدريجاً واشترك الطلبة في الأبحاث العلمية، وقاموا أحياناً بواجب الأساتذة تمريناً لهم على مزاولة التدريس الجامعي. ووقعت جامعات أوربا في العصور الوسطى - ولا سيما كلية الملكة في اكسفورد - في مثل ما وقعت فيه جامعة الإسكندرية من خطأ، ولكنها أدركت ما في هذا النظام من قصور؛ وجاءت كلية (أول سولز) في شكلها الأخير مصححة لهذا الخطأ في النظام الجامعي حيث يقوم (الرفقاء) بأبحاث علمية وأدبية بعد حصولهم من جامعة اكسفورد على درجاتهم العلمية

ص: 47

ويحق لجامعة الإسكندرية أن تفاخر جامعات العالم طرا بما سبقت إليه من جمع الآداب اليونانية، وتهذيبها، وتنقيتها من الشوائب، بما توفر لعلمائها وطلابها في زمن بطليموس فيلادلف من المقدرة الفائقة على النقد الأدبي

ولم تكن الجامعة معهد العلم الوحيد في المدينة، فقد كان إلى جانبها بعض المدارس اليهودية يتلقى فيها أبناء اليهود شرائع ديانتهم - وقد صحب دخول المسيحية نشأة بعض المدارس النصرانية، ناوأت الجامعة واليهودية معاً، وفيما نمت القومية المصرية، ونضج الشعور القومي، وانتقض في وقت ما على الآثار الإغريقية والرومانية كما سنفصله فيما بعد

ويذكر (مافي) في كتابه (إمبراطورية البطالسة) أن جامعة الإسكندرية اتخذت نموذجاً لكل الجامعات التي تلتها في أوربا، فعلى غرأرها تأسست جامعات أوربا في العصور الوسطى

أما المكتبة الشهيرة فلا تمدنا المصادر التاريخية بشيء قاطع في شأن مكانها: أكانت متصلة بالمتحف، أم كانت منفصلة عنه، وهل كان أمين تلك المكتبة - هو شخصية عرف عنها كثير من الفضل والأدب - عضواً من أعضاء المتحف. والغالب على الظن أن المكتبة كانت وثيقة الاتصال بالمتحف، تمد الباحثين فيه بحقائق العلوم التي وصل إليها الإغريق في أثينا وأيونيا من قبل

وترجح أن تكون أول مكتبة أنشئت مع المتحف في وقت واحد في حي البروكيون - ولا يذكر (سترابو) وقد زار الإسكندرية في عهد أغسطس شيئاً ما عن المكتبة أو عن احتراقها - وكل ما ذكره (ديودور) أنه اطلع على نشرات كانت تصدر في البلاط الملكي استمد منها بعض معلوماته

ويغلب أن تكون المكتبة قد جمعت بنفس الطريقة التي جمعت بها بعض المكتبات الإنجليزية الشهيرة كمكتبة (سنيردلاند) ومكتبة (سبنسر) كما تجمع وتقتني قطع الخزف الأثرية أو الصور التاريخية سواء بسواء

(للبحث بقية)

إبراهيم جمعة

ص: 48

‌من أدبنا المجهول - شاعر يرثي ولده بديوان

اقتراح القريح واجتراح الجريح

لأبي الحسن الحصري

(للأستاذ الزيات عزاء وسلوة)

للأديب السيد أحمد صقر

- 3 -

نموذج من شعره:

قال أبو الحسن علي الحصري من قصيدة - وهي الأولى -

حاشاك من نار على الأحشاء

يزداد ضِعفاً حرها بالماء

عزيتني فيما ترى وعزوتني

للصابرين ولات حين عزاء

من لي بأجر الصابرين وأعظمي

موهونة من أعظم الأرزاء

هل مستطيع أن يكفكف دمعه

من لا براح له على البُرَحاء

لهفي على ريحانة راحت إلى

مثوى ثواب ليت فيه ثوائي

سالت حشاشة نفسه من أنفه

فشهدت منه مصرع الشهداء

ونظرت في قطع الرعاف فلم تمط

حكم المنية حيلة الحكماء

فإذا أراد الله ميتة مدنف

أخفى على الآسى دواء الداء

داواه من أدواه حتى قال لي

لا تأتني من ذا الردى بدواء

لا أشتكي أني حرمت إجابة

لولا شعوب لدَعَّ عنه دعائي

والخير فيما اختار خالقه فقد

آلت به الضراء للسراء

ولقد يَسُرُّ الله بالبأساء في

أحكامه ويضر بالنعماء

عرضت له تفاحةً نفاحة

بعضُ الأماء فرد بالأيماء

ولو استطاع القول قال مشافها

تفاح جنات الخلود شفائي

عبد الغني لك المسرة غائبا

ولي المساءة مصبحي ومسائي

ص: 49

وقال من قصيدة:

كان عبد الغني للعين نورا

ولقلبي هدى وللعيش طيبا

كان شيبي به شبابا فلما

بان رد الشباب مني مشيبا

كنت في غربتي كأني به في

وطني، فانقضى فعدت غريبا

لم يدع فقده لمغناي معنى

فخلا آهلا وضاق رحيبا

لست أنسى مقامه ومقامي

وكلانا مثل القتيل خضيبا

أنفه ينثر العقيق وعيني

تنثر الدمع بالعقيق مشوبا

ضمني شاكيا إلي فقلبي

كلما يشتكي يطير وجيبا

وبودي لو احتملت فداء

عنه ذاك الضنى وتلك الكروبا

لو أطق فيه حيلة غير أني

مذ قضى نحبه ألفت النحيبا

مات من كنت أقطع البيد جرا

هـ وأرجو المنى وأخشى الخطوبا

ما أعز الحياة للمرء! ما اب

عد آماله وأدنى شعوبا

ما أقل الوفاء، ما أضعف الطا

لبَ في ذا الزمانِ والمطلوبا

يا حبيب الآله لولا المنايا

لشفي منك ما أَعل الطبيبا

يوم ناديتَ: (فرج الله كربي

إنني اشتقت مسجدي والأديبا

ولِداتٌ سبقتهم لحقوني

صار من كان غالباً مغلوبا

طال سقمي فارفع دواتي وأقلا

مي ولا تمح لوحي المكتوبا

فإذا ما أفقت أدركت من فا

ت وعادت عنقاؤهم عندليبا)

قُلتَ ما قلت ثم زاد سقام

ودم غادر البياض شحوبا

فجرت عبرتي وأحسب نفسي

فجرت، كان برّها أن تذوبا

ولدي! كيف نستوي؟ أنا في حرّ

الرزايا وأنت في ظل (طُوبى)

أنت حيث المقربون فأبشر

وسل الله أن أراك قريبا

خضعت بعده رقاب لداتٍ

كان فيهم معظما ومهيبا

كان يهدي قلوبهم ثم ولى

فمعوا الآن أعينا وقلوبا

حق لي أن أشق قلبي بكاء

لا أوفيك إن شققت الجيوبا

ص: 50

وقال:

إن قلوبا وجبت

حق لها أن تجبا

مثلك يا عبد الغنيّ (م)

البرّ لن أنتجبا

وقال من قصيدة:

يا نور عيني فقدتُهْ

ففي الفؤاد وجدتُهْ

يا كوكبا لقبوني

بالبدر يوم ولدته

لم يهد ركني سناه

حتى خبا فلحدته

أنت النجيب ولكن

أبى الردى ما أردته

حلت يد الدهر عقدا

قد كنت من قبل شدته

أعارني منك علقا

ثم اقتضى فرددته

بل سرني فيك ربي

وساء ني فحمدته

تقاصر اليوم باع

للفخر فيك مددته

سهرت بعدك ليلي

وطالما قد رقدته

وكم نضحت بدمعي

حر الحشا لو بَرَدته

يا رب وف المرا

دِي بولده ما وعدته

لا ضيع الله أجري

فأي وجد وجدته

أيوم مصرعه أم

يوم الحساب شهدته؟

كان ابن تسع ولكن

في الأكثرين عددته

لا حبذا العيش إني

على الممات حسدته

عبد الغني مفيدي

من الغنى ما أفدته

بيمنه كنت مهما

نصبت لليث صدته

وما زرعت رجائي

في الصلد إلا حصدته

يا ابني الذي كان يبني

مجدي وإن كنت شدته

حططتني يوم أودي

ت من منيف صعدته

قميص مصطبري من

قبل عليك قددته

ص: 51

وفي جوارك أحبب

ت مضجعي لو مهدته

لعل قربك يشفي

كربي كما قد عهدته

إني وربي هداني

لنوره فتبعته

ما غاض بعدك ثكلي

إلا بكيت فزدته

وقال:

بكيت من سكن في أضلعي سكنا

لو عاش لي لكفاني الدهر أوقاتا

في كل وقت على فقديه أذكره

وربما نسى الأحباب أوقاتا

وقال من قصيدة:

دهر حوادثه شتى الأحاديث

فاسمع بما شئت عن نوح وعن شيث

تغرنا دارنا الدنيا بزخرفها

ونحن في طلب للموت محثوث

تُوُفِّيَ الخلف الزاكي وعشت كما

ترضى العدى عيش مكروب ومكروث

حتى أعاف شراباً لست أمزجه

بعبرتي وطعاماً غير مغلوث

وكنت في جنة حفت جوانبها

بالزرع والنخل والأعناب والبوث

فأصبحت يوم أودي وهي خاوية

جرداء من كل مغروس ومحروث

ويلاه ويلاه لا أشفي بتثنية

حتى أزيد ولا أشفي بتثليث

بكيت مستسقياً للدمع حين جرى

فلم أزد نار قلبي غير تأريث

أحب لقياه والبقيا لأندبه

فيا شعوب إعجلي إن شئت أو رِيثي

أهم بنبشي قبرك الطيب الثرى

لعلي أستشفي وإن حرم النبش

كأني وقد أودعتك القبر طائر

كسير جناح لا فراخ ولا عش

إلى العيد

قد كنت هيمان مهموماً بلا جلد

فزدت ضعفين في همي وتهيامي

عهدتُ ليلتك البيضاء نيرة

فما لها كحلت عيني بإظلام

حتى تناسيت ما عودت من فرح

وقُبحُ يوم يُنَسى حسن أيام

فما لبست سوى الأحزان سابغة

ولا نحرت سوى إنساني الدامي

ولا برزت لزواري مخافة أن

أساء منهم بطلق الوجه بسام

ص: 52

ورافل في جديد كان يرفل في

مثاله ابني غداة العيد مذ عام

حبيبَ نفسيَ لو أعطيت ساكنها

أصاب نحري وأخطأ نحرك الدامي

كأنني لم أكلم منك نابغةً

ولا رأيتك ملء العين قدامي

ولا سمعتك تتلو الذكر في سحر

بصوت داود في إفصاح همام

مخايل فيك راقتني محاسنها

سَرَّت ببدء ولم تسرر بإتمام

الحمد لله عدل منك ما نفذت

به المقادير من نقض وإبرام

سيد أحمد صقر

-

ص: 53

‌من تلميذ إلى أستاذه

بقلم محمد عبد السلام بحر

منذ سنوات خلت كنت أجلس أمام معلمي الأستاذ عبد الله عفيفي في درسه وكلي أذن صاغية وقلب واع لما يدور في خلده من شتى المعاني والصور، فيجري على لسانه خير آيات وعبر

بين جدران الفصل الأربعة، وفي ذلك العدد القليل من زملائي، كنت أنتهل من مورده العذب في صمت مقتنعاً برأيه لا أنبس ببنت شفة - ولقد عودنا الأستاذ فيما عودنا حرية الرأي - فاليوم وقد نضجت في أثماره فليهنأ بجنيها - ولكن أما وقد كبر الشيخ وذهبت أسنانه بددا - فليعان قضمها، وليسمح لي بأن أجابهه بلسان الحق وعلى ملأ من الأدباء بمناقشة أدبية في قصيدته التي رثى بها المغفور له الدكتور شاهين باشا. ولكن في رفق كما كان يرفق بي، وفي أدب كما يجب أن يتأدب ولد مع والد

لقد قال الأستاذ:

أشكو الأسى ويد الآسي موسدة

لقد تمادين في الإسراف أيامي

ولقد سبق فضل الأستاذ علي فعلمني أن الفعل يطابق الفاعل إفراداً وتثنية وجمعاً، تذكيراً وتأنيثاً إذا جاء بعده، أما إذا سبقه فيجب إفراده؛ وترونه هنا يقول (تمادين أيامي). معاذ الله أن أقول إن الأستاذ نسي هذه القاعدة. أو إنه تغافل عنها لضرورة (الوزن)، وإنما أقول إنه يكشف عن آثار اللغات القديمة أمثال لغة (أكلوني البراغيث) التي كثيراً ما كان يعيب علينا وقوعنا فيها في موضوعاتنا الإنشائية

ثم يقول:

. . . . . . . . . .

كد لعقل وأشغال لأفهام

وهنا لا أقول إنني بحثت عن (أشغال) في معاجم اللغة فلم أجدها، وإنما أذكر الأستاذ بطرفة من طرفه الممتعة التي كان يخفف بها عنا عناء الدرس إذ قال: - كتب أحدهم مرة إلى ابن العميد - (أريد إشغالي عندك) - فرد عليه ابن العميد - (إن من يكتب لي إشغالي، لا يصلح لأشغالي)

ثم يقول:

ص: 54

. . . . . . .

عن نوح نائحة أو دمع أقلام

وفي بيت آخر:

. . . . . . . . . . . . . .

رقبي الهلال على ديباجة العام

هنا لا يمكنني أن أقول إنني لا أفهم (دمع الأقلام ولا ديباجة العام) - فان تأنيب الأستاذ في مثل هذه المواقف لا زلت أذكره ولا يزال يرهبني - وإنما تخلصاً من هذا المأزق أقول إن الأستاذ يتصرف في المعاني تصرفاً قياسياً، فهو يقول:(دمع الأقلام وديباجة العام) وأنا أطأطئ رأسي خاشعاً لهذه البلاغة العميقة فهي ليست على قياس (جناح الذل وماء الملام) فحسب، بل هي أبلغ من هذا وأسمى. على أنه في نفس الوقت كان يقصد (بديباجة العام) - ديباجة الشهر، ولكن استلزمته القافية لأن يخلق هلالاً سنوياً على رأس أهلة الشهور الاثني عشر لا يرقبه سواه

ثم يقول:

أبو الأطباء أودى ليت ناعيه

لاقى الردى قبل منعاه بارغام

هنا يخيل إليّ أن الأستاذ قد آلى على نفسه إلا أن تكون القصيدة أربعين بيتاً كاملاً، فقد زج بهذه الألفاظ في هذا القالب زجاً - أو أنه قال: أبو الأطباء أودي - وقد تورط فرأى أن يدعو على الناعي الذي لا ذنب له فأتى بباقي البيت التزاماً للقافية - وأما إذا كانت هذه هي سنته في كل مصرع فأولى به أن يدعو على سيدنا أبي بكر الذي نعي موت الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: (من كان يعبد محمداً فان محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حي لا يموت). ثم يقول:

مضى الطبيب الذي للطب من يده

إحياء أفئدة موتى وأجسام

هنا تأخذني الحدة ولا أذكر ورقة العقاب وأقول (لا حياء في العلم) وأعلن رأيي جهاراً بأن الأستاذ لم يتحفظ في هذا البيت بل كبا كبوة ما لها من مقيل. متى أحيا شاهين باشا الموتى؟ دون هذا وينفق أطباء العالم. ثم لأذكر فضل الأستاذ علي فلا أبارزه بحسامه، ولأهدأ قليلاً ثم أصلح له زلة كم أصلح لي من أمثالها فأقول:

مضى الطبيب الذي للطب من يده

شفاء أفئدة مرضى وأجسام

ثم يقول:

ص: 55

. . . . . .

وليس للموت من نقض وإبرام

هنا أنسته المشاكلة اللفظية أن الموت قضاء مبرم وانه هو ينفي إبرامه؛ ثم يقول:

. . . . . . . . . . . . . .

لو رامه الليل لم يلمم بإظلام

ولا أدري كيف قال هذا مع أنني أعلم جيداً أنه يمقت مثل هذه المبالغة المتطرفة وهو على يقين من أن الليل والنهار نظام لا يتغير (وكل في فلك يسبحون)

ثم يقول:

. . . . . . . . . . . . . .

من وحي طبعك لا من وحي أقلامي

فما أظن أحداً قبل هذا قال إن للأقلام وحياً - ما كان أصوبه لو قال (من محض إلهامي)

هذا إلى أنني تحاشيت أشياء أخرى مخافة أن يرميني بعض سيئي الظن بالعقوق، في حين أنني لم أكتب هذا إلا تحاشياً لمهاجمة ناقد متبجح يناقشه الحساب العسير، ولأبهج نفس الأستاذ بتلميذ له بلغت به الشجاعة الأدبية إلى الوقوف أمام أستاذه وقوف الند للند يسائله ويساجله مع احترامه لشخصه المبجل كمعلم فاضل وكأديب إمام

محمد عبد السلام بحر

ص: 56

‌الامتيازات الأجنبية

للأستاذ محمد الأسمر

ما عندكَ اليوم من معنًى ومن كلمِ

جلّ المقام عن القرطاسِ والقلمِ

أرضُ الفراعينِ ذلَّتْ بعد عزّتها

مَنْ جرَّأ الذل حتى حلَّ بالأجم

فلو ترانا ونحن المالكون لها

رأيتَنا وعلينا ميسمُ الخدم

جاء النزيلُ فأكرمنا وفادتَهُ

واليومَ نسألُه شيئاً من الكرم

فأعجبْ لمصرَ وكم في مصرَ من عجبٍ

وانظر إلى القلب في الأوضاع والنظم

كدنا لما صار من عكس الأمور بها

نمشي على الرأس لا نمشي على القدم

كنانةُ الله تلك اليوم حالتُها

وجودُها أشبهُ الأشياءِ بالعدم

لهوُ الأجانبِ فيها لهوُ منتصرٍ

عاثت كتائبُه في أرض منهزم

يُمثِّلون عليها من حقائِقهم

ما لا يمثلُه الكابوسُ في الحلم

روايةٌ هي مأساةٌ ومهزلةٌ

فإن تشأْ فابكِ أو إن شئت فابتسم

روايةٌ قذف الأتراكُ مسرحَها

عن أرضِهم مثلَ قذف البحر للرمم

رموا به أنفاً من أن يقال لهم

ما بالُه وهو عار غيرَ منهدم

ونحن لسنا بدون الترك منزلةً

ونحن لسنا بدون الصينِ والعجم

هُمْ حطَّموه فما مالَ الوجودُ بهم

ولا تداعت نواحي الأفْق بالسُّدُم

هم حطَّموه ورحنا نحن نحمله

فوقَ الكنانةِ حمل الهم والسقم

الأجنبيُّ على الوادي يسيرُ به

كما تسيرُ رعاة الشاء بالغنم

من يوم حلّ به ضيفاً تملكه

ينهى ويأمرُ فيه غيرَ محتشم

ينهى ويأمرُ فيه جائراً أبداً

فمن يقولُ له أخطأت فاستقم

ينال ما يشتهي منه وليس لنا

إلا الفتاتُ، وما يُلقي من اللُّقم

تشكو المجاعةَ بالوادي عشيرتُه

والأجنبيُّ به يشكو من التخم

الغرم قِسمتُنا والغُنم قسمتُهم

لبئس ما فرضوا فيه من القِسَم

لو لم نكن رمما في الناس ما ظفرت

بنا عصائبُ للغربان والرَّخم

حامت علينا، ولو ألفت بنا رمقا

لأجفلت مثل ما جاءت ولم تحم

ص: 57

حطَّت جِياعاً، فلما أتخمت نهضت

كما تطيرَ، فما اسطَاعتْ، فلم تقم

فهي الغداةَ بوادي النيل جاثمةٌ

مقيمةٌ أشبه الأشياء بالهرم

فما يزحزحها شعرٌ نصيح به

ولا البليغ من الأمثال والحكم

لا يدفع الضيمَ قولٌ أنت قائلُه

بل يدفع الضيم غرمٌ غيرُ منفصم

ويدفع الضيمَ بأسٌ لا مَردَّ له

ويدفعُ الضيمَ شَعْبٌ غيرُ منقسم

خاطبْ بكفك إن لم يستمع أحدٌ

لعلَّ في اليد ما يشفي من الصمم

وأعلمْ بأن براهينَ اللسان إذا

لم تدَّرع قُوَّةً شرٌ من البَكم

لولا أظافرُ للآساد مرهفةٌ

لم يرهب الناسُ زأرَ الضيغم القرم

لا يَنْزِلُ الظلمُ عن ظَهْرٍ طَواعيةً

إن لا يزلْ عنهُ رغم الأنف لا يَرِم

في (الامتيازات) ما أغرى النزيلَ بنا

فيا لها نِعَماً جرَّت إلى نِقَم

وغرسُك الخيرَ في الأرض التي خلقت

للشرِّ غَرْسُكَ للأعواد في الضرم

لا تنبتُ النارَ يوماً ما لكم شجراً

ولا تسوقُ إليكم هاطلَ الديم

تأبي طبائعُ قوم عنهمُ حِولا

فاستخلصوا ما وهبتم قبلُ للأمم

لو سِيمت العجمُ ما سيمَ الحمى غضبت

على الشكائم واستعصتْ على اللجم

ثوبٌ من العارِ قمنا اليوم نخلعه

كفى كفى ما لبسنا منه في القدم

كم فرَّ من يدك الشلاء متَّهمٌ

يأيها الوطنُ المرمىُّ بالتهم

وكم قتيل على الوادي وقاتله

في (الامتيازات) مثلُ الطيرِ في الحرم

صَعْبُ المنالِ على القانون ممتنعٌ

كالنجم في الأفقِ لم يدركْ ولم يُرَم

هذا هو الذلُّ لا ذلُّ الغريب ولا

ذلُّ الرقيقِ بسوق الأعْبُدِ القزم

وما ذليلٌ له أرضٌ لها علمٌ

مثلُ الذليل بلا أرضٍ ولا علم

لا يفعلِ الخيرَ بعدَ اليوم فاعله

مَنْ يفعلِ الخيرَ يندمْ أيَّما ندم

أقسمتُ بالله لو أغنى دمي لمشت

نفسي به، وقليلٌ للبلاد دمي

محمد الأسمر

ص: 58

‌جبل النار

(جبل النار لقب يطلق على جبل نابلس وهو سلسلة جبال تدور

فيها أشد المعارك بين الثوار المجاهدين وبين الجنود

البريطانيين)

للأستاذ أبو سلمى

جبل النار يا أعز الجبال

أنت لا زلت مقعد الآمال

ينبت المجد فوق سفحك فينا

ن وتسقيه من دم الأبطال

يفصح الصخر عن شمائل أبنا

ئك فوق اللظى وعند النزال

ما ذكرنا حماك إلا اُنتسبنا

وانتشت نخوة رؤوس الرجال

يفزع (التَّنْكُ) من صياصيك

(والرشاشُ) يخشى حتى من الأدغال

أيها الثائرون في جبل النا

ر سلاماً يا زينة الأجيال

لكم الله يا حماة فلسطي

ن زحمتم مصارع الآجال

تحملون الأرواح فوق أكف

وتبيعونها ولكن غوالي

ورصاصاتكم تمر على الأيا

م حمراً مضيئة في الليالي

تصرع الطائرات مثل طيور ال

جو تُهوى ما فوق تلك التلال

يسمع الجند في صداها لغي المو

ت فلا يثبتون يوم القتال

أيها الثائرون قولوا فان

الكونُ يصغي إلى لهيب المقال

والمعوا في غياهب الظلم تجلو

ها فان الجهاد رحب المجال

إنما الحق من بنادقكم يس

طع والعدل من وراء العوالي

انظر اليوم كيف يلتفت ال

تاريخ حتى يرى بريق النصال

جبل النار! زأرة تجعل الده

ر يُحيِّي محطم الأغلال

جبل النار! لم تخلدك إلا

ثورة في سبيل الاستقلال

جبل النار! اقذف النار حتى

نبصر النور يا أعزّ الجبال

(فلسطين)

ص: 59

أبو سلمى

ص: 60

‌القصص

قصة سورية واقعة

النهاية. . . .

للأستاذ علي الطنطاوي

في ليلة قمراء من شتاء 1929

بينما كان حيّ المهاجرين (في دمشق) يرفل في حلل الرخاء والترف، ويجر أثواب الدعة والنعيم، ويثب من الطرب، ويمشي على الذهب. . . وبينما كانت قصوره البُلْق تشتعل بالكهرباء فتأتي في الليل بالنهار، وشوارعه المتوازية الصاعدة إلى سرّة الجبل تتمايل أشجارها تمايل العروس، وتلوح أنوارها للعين، كأنها في تسلسلها وانتظامها حبال اللؤلؤ، ويسبغ عليها القمر حلة منسوجة من خيوط النور، وتتراقص على نسيمها المعطر نغمات الحاكي والمذياع. . .

. . . كان في الشارع العام الممتد على سفح الجبل، شيخ همّ، أبيض اللحية، متفكك العظام، مقوس الظهر، قد أخنى عليه الزمان، وحطمه الدهر، يسير منفرداً يتوكأ على عصا، لا أنيس له إلا ظله الذي يمشي معه، ينمو ويتطاول كلما ابتعد عن المصباح، ثم يضعف ويختفي، ثم يولد ظلّ جديد. ويبدأ قوياً واضحاً، كما تنمو الكائنات وتقوى، ثم يدركها الضعف، ثم تبيد لتأخذ مكانها كائنات أخرى أقدر منها على العيش، وأحق منها بالحياة. . . حتى بلغ (قصر الوالي)، هذا القصر الأبيض الفخم، المعتزل وسط الجنائن الواسعة، الذي يخطر أمامه الجندي الذي يحمي (حمى رئاسة الجمهورية. . .) فوقف على الدرابزين وجعل يحدق في القصر ويتأمل شرفه ونوافذه المضيئة، ويستمع إلى صوت الحياة الرغدة الناعمة ينبعث من غرفه وأبهائه، حتى علق بصره بغرفة بعينها ينبثق منها ضوء شديد، فجعل يحدق فيه حتى زاغ بصره وعراه شبه دُوار، فجلس على طرف الدرابزين وأمسك بحديده البارد، وألقى برأسه على كفه، وأنطلق يفكر. . . يفكر في دنيا بعيدة. . . بعيدة جداً، قد طم عليها لجّ النسيان؛ يعالجها بالذكرى، فيراها ينحسر عنها الماء، وتبدو له شيئاً بعد شيء، وتعرض عليه كما يعرض (فلم سينمائي) غريب عنه لا عهد له به، ولا صلة

ص: 61

بينه وبينه، وان كان من القائمين به، والممثلين فيه. . .

. . . ففتح عينيه، وراح يحدق في الظلام

رأى دمشق في أواخر القرن التاسع عشر - وهي ولاية عثمانية - ورأى ناظم باشا (والي دمشق) وقد اصبح ذات يوم لقسَ النفس ضيق الصدر، فأقبل على عمله فلم يجد له عزماً. فعمد إلى المطالعة والتسلية فلم يزد إلا ضيقاً. فأمر أعوانه أن يتمموا له منزلاً جميلاً مشرفاً، فينصبوا فيه خيامه، ويعدوا فيه مجلسه، ليصطبح فيه، وينزله بقية يومه. فتسابقوا إلى طاعته، وتباروا في خدمته، فلم تكن إلا ساعة واحدة حتى كان المجلس معداً. فلما جلس واطمأن نظر فرأى منظراً عجيباً، ما رأى له مثيلاً وقد جاب أنحاء المملكة: رأى كأن أمامه متحفاً للطبيعة فيه من كل مشهد صورة، ومن كل لون مثال؛ فحواليه تلال وسفوح ما لها حدّ، وعن يمينه جبال صخرية قائمة فيها روعة وعليها جمال، ومن أمامه (يزيد) يجري زاخراً مزبداً يحيط بهذه السفوح ويحدق بها، وهو يلمع في شعاع الشمس فتخاله العقد مستديراً بجيد حسناء، ومن وراء النهر الغوطة الخضراء، إحدى عجائب الدنيا، تمتد إلى نهاية الأفق، والمزة وصحراؤها الواسعة، وسهولها الفيح، فلم يكن يشاء أن يرى جبلاً ولا نهراً ولا خضرة ولا بادية إلا رآها، والسماء تبدو حيال الأفق كأنها البحر، يا لروعة البحر في دمشق. .!

ودمشق تظهر من بعيد، وهي نائمة على هذا البساط السندسي الأزلي، عليها غطاء من نسج الغصون موشي بالزهر، وقد هبت عليها نسائم الصباح الرخية، تمس وجهها مساً رفيقاً، وسقسقت في أذنيها العصافير توقظها برقة ولطف، وهدر في مسامعها بردي يهزها كي تفيق. . .

والجامع الأموي يظللها بقبته المشمخرة العالية، ومآذنه الطويلة السامقة، وبنائه الضخم الهائل، الذي يحمل أعباء القرون الثلاثين التي مشت عليه، مذ كان معبداً وثنياً - إلى أن صار - كنيسة نصرانية، إلى أن سما فكان مسجداً إسلامياً، يجهر فيه بالآذان، فيرن صداه على ضفاف الكنج، وشاطئ اللوار، ويقوم الناس إلى الصلاة صفاً واحداً ممتداً من قلب الهند إلى قلب فرنسا

فانتفي عنه الهم، وطار به السرور، فسأل من حوله:

ص: 62

- ما للدمشقيين لا يبنون هنا، ويقيمون على هذا السفح حياً لا يكون مثله مصيف في الدنيا ولا مشتى؟

فما بقي منهم إلا من وثب الضحك إلى شفتيه، وهم بقهقهة مجلجلة، ولكنه أمسك حرمة للوالي، وحياء منه، وقالوا له:

- ولكن يا مولانا، من يرضى أن يقيم في هذا المنفى ويسكن في جبل أجرد، لا ماء فيه ولا نبات، ويسافر كل يوم ساعة كاملة، ليصلي في الأموي، أو ليرد السوق؟

فأطرق الوالي يفكر ويجيل عقله الكبير وعزمه النافذ في كافة الممكنات ليجعل من هذه السفوح القاحلة أجمل حي في اجمل مدينة، ويحيل هذه الرمال رياضاً تجري من تحتها الأنهار!

ثم انقطع الفلم ودار ابيض يحمل أياماً وسنين خالية لا شيء فيها ثم وضحت فيه صورة. . .

فإذا هو يرى حادثة كريد (اقريطش) حين غدرت أوربا - على عادتها دائماً - بالمسلمين، وشردت أهل الجزيرة من آمن منهم بالله واليوم الآخر بين سمع الأرض وبصرها، فدعا بهم ناظم باشا والي الشام وجمعهم وبنى لهم من أموال الدولة بيوتاً صغيرة متشابهة، متشابهة كمحطات القرى، ضيقة كغرف الخفراء، بناها على سفح قاسيون فكان لهم عصمة ومأوى، وكانت للحي الذي يحلو بذرة ونواة

ثم استدار الفلم وإذا بدمشق خارجة تستقبل إمبراطور ألمانيا وقد جاء يزورها زيارته المشهورة، ففرشت له الحكومة الحرير وأوطأته الديباج، فلم يطلب من ناظم باشا إلا أن يزيره الجبلين العظيمين والأثرين الخالدين: قاسيون، وقبر صلاح الدين! فانطلق العملة والبناءون يقيمون له على سفح قاسيون (المسطبة) التاريخية التي تدعى اليوم وإلى الغد (مسطبة الإمبراطور) ويمهدون له الطريق إلى مقبرة صلاح الدين في الكلاّسة

وهناك في أصل جدار الأموي الشامخ، وعلى هذه العتبة الواطئة وقف إمبراطور ألمانيا، وأعظم ملوك العصر، مطأطئ الرأس خاشعاً خاضعاً، ثم ركع على ركبتيه، ثم سار حبواً حتى وصل إلى جانب القبر، فوضع عليه إكليلاً من الزهر، وقال:

- هذه لك يا سيد أبطال العالم

ص: 63

ثم أمَّ قاسيون، فلما استوى على (المسطبة) ورأى هذا المنظر استخفه الطرب فصاح:

- ما على الأرض أجمل من دمشق! ما على الأرض أجمل من دمشق!

فصحت عزيمة الوالي على إنشاء الحي، وبادر إلى الأمر ببناء هذا (القصر الأبيض)

واستدار الفلم فرأى ناظم باشا قائماً في شرفة القصر، يتأمل في الوفود الذين أتوا ساحة القصر، ليكرموا الرجل الذي تغلبت إرادته الماضية على الصخر الأصم فخرقته، وعلى البعيد النائي فقربته، حتى تم مد القناة العظيمة من الفيجة إلى دمشق لتسقي اهلها، وتسيل في هذا الحي الذي قام ليكون زينة دمشق وعروسها. . .

ورن في أذنيه صوت الخطيب وهو يقول للوالي:

(. . . . . . إن دمشق التي أحببتها وسقيتها وعمرتها، لن تنسى فضلك أبداً: ولن تحيد عن حبك وإكبارك، وسيظل منقوشاً على أفئدة أبنائها إلى آخر الدهر هذان الاسمان العظيمان اسما مصلحي دمشق: مدحت باشا. وناظم باشا)

ثم انقطع (الفلم) وتبدد الحلم، وأحس الشيخ بيد قوية تقبض على كتفه، فعاد إلى نفسه ورفع رأسه فإذا الجندي القائم على باب القصر، يصيح به:

ماذا تصنع هنا أيها المتشرد؟

ثم يكسعه ويضربه أم كيسان، فيقوم الشيخ ورأسه إلى الأرض من غير أن ينطق بكلمة. . .

عاد الشيخ أدراجه يطوف الحي، ويدخل من شارع إلى شارع، فلا يعرفه أحد ولا يفتح له باب، حتى إذا نال منه الجوع، وبرح به التعب، رأى زقاقاً ضيقاً فولجه، حتى إذا انتهى إلى بيت حقير من بيوت المهاجرين الأولين، وقف ينظر إليه، وتبرق عيناه كأن مرآه يذكره بشيء، ثم مد إلى حلقة الباب يداً مرتجفة فقرعه قرعة ضعيفة، ولبث ينتظر؛ فلما لم يرد أحد عاد وقرعه وشدد القرع، وسكت فلم يسمع إلا صدى أصوات الغناء والطرب تهبط عليه من أعالي الجدران، تهزأ بالفقراء، وتسخر من الحياة، فعاد يخبط خبطاً قوياً وينادي:

- كريتلي زاده. . . كريتلي زاده محمد أفندي. . .

فتحركت عجوز من أقصى الدار، وصاحت:

- من هذا الذي يسأل عن محمد أفندي؟

ص: 64

وخرجت تدب على عصاها حتى بلغت الباب فنظرت في الظلام وصاحت صيحة الفزع:

- من هذا الذي يسأل عن الرجل الذي مات منذ خمس عشرة سنة

فلما سمع الشيخ ما تقول وجم ولم ينطق

- فأقبلت نحو الضوء، حتى إذا اقتربت من الرجل رجعت تصيح بصوت مرعب:

- من أنت؟ قل لي من أنت أيها الرجل؟ ماذا تريد؟

- قال: أنا يا حاجة صفية، أنا؟

- من أنت؟ تعال، تعال إلى النور حتى أراك، فلما رأته واستبانته، صاحت:

- آه

- قال: هل عرفتني؟

- قالت: آه كيف لا أعرفك يا سيدي، ولكن. . . كلا كلا. أنا واهمة، هذا مستحيل. قل لي حالاً من أنت؟

- أنا ناظم. . . ذاك الذي كان يدعى يوماً ما ناظم باشا، ذاك الذي كان والي الشام. . . ألا تذكرين يا صفية كيف كنت تلعبين في رحبة القصر وأنت صبية صغيرة؟ وكيف كنت تتسلقين الأشجار وتطاردين الغزال الذي كان في الحديقة؟ هل تذكرين؟. . . حتى إذا مللت وتعبت عدت مع أبيك محمد أفندي إلى الدار

- آه يا مولاي آه! إذن أنت هو! لم أكن مخطئة. قل لي يا سيدي أين أنت؟ وما جاء بك؟ لا لا ادخل أولاً! أهلاً وسهلاً، ليس عندي شيء أقدمه لك، ليس عندي شيء

وانطلقت تبكي. . .

- إني عجوز فقيرة ليس لها إلا الله، لم يعد يسأل عنا أحد بعدك. إنني سأموت فقيرة تحت أثقال ذهب الجيران، وأختنق جائعة برائحة اللحم. إن هذه القصور ستبتلع كوخي الذي لم يبق غيره. . .

وألحت في البكاء. . .

إنني لا أستطيع أن أضع لك شيئاً، آه ليتني مت قبل أن أراك يا مولاي على هذه الحال

فمسح الباشا دموعه، وقال لها:

- ولكني لا أحتاج شيئاً. أنا في نعمة، وإنما جئت أزورك. والآن وداعاً. . .

ص: 65

فلما ابتعد فتش جيوبه، وقلبها كلها، فلم يجد إلا فرنكين كان يدخرهما لعشائه فدفعهما إليها، ومشى قبل أن تسمع ما يقول:

عاد يطوف في الحي يخرج من شارع إلى شارع منفرداً منكراً، ولقد فارق دمشق وهو ربها وسيدها، وصاحب الأمر والنهي فيها، ولكن هذه الأعوام التي كرت سريعة محملة بالأحداث الجسام قد بدلت كل شيء

لقد انفجر بركان الحرب، فهد هذا الفلك العظيم، فلك الخلافة الإسلامية، فتناثرت نجومه وكواكبه، وانطفأت شمسه وأظلمت نيراته، وعبست مكة للقسطنطينية وبسمت للندن، وصافحت الحلفاء، وقابحت الخلفاء، وولد استقلال سورية في القصر المنيف على بردى، ومات طفل في الصحراء القاحلة من ميسلون، وكان الانتداب وكانت ليلاته الحالكات

وذهب جيل من الناس كان يعرف الباشا حق المعرفة، وجاء جيل جديد ينكره أشد الإنكار

فنفض الباشا يده من كل شيء، وانحدر إلى الشارع الأعظم على سفح الجبل، فجلس على حجر قبالة القصر الذي بناه، وكان صاحبه ومولاه، فطرد الليلة عنه كما تطرد الكلاب. وأسلم رأسه إلى كفيه، وراح يفكر في غير شيء. . .

فما نبهه من ذهوله إلا ولد يقفز بقبقابه على بلاط الشارع، فاستوقفه يسأله:

- ما اسم هذا الشارع يا ولد؟

فارتاع الولد وفر، حتى إذا ظن انه قد فاته، صاح به:

- ألا تقرأ اللوحة يا أعمى؟ هذا شارع ناظم باشا

فابتسم الباشا ابتسامة صفراء وعاد إلى صمته، وهبت الرياح فلم تلبث أن أنشأت سحاباً حجب القمر، فشمل الشارع ظلام رهيب

ومر رجل فألقى على الباشا نظرة واحدة، ثم سار في طريقه ينحدر في طريق البساتين، حتى إذا ابتعد عن العمران رفع عقيرته يتغنى بصوت شجي محزن:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا

صروف الليالي والجدود العواثر

فصرنا أحاديثاً وكنا بغبطة

كذلك عضتنا السنون الغوابر

وناظم باشا يصغي إليه، وقد هاج في نفسه عواطف هائلة كادت تنسف كيانه نسفاً، حتى

ص: 66

ابتعد الصوت ونأى، ثم ابتلعه السكون

فقام ناظم باشا يجر رجله ليغادر دمشق التي نسيت إحسان المحسن كما تنسى (دائما) إساءة المسيئ، ليذهب فيموت حيث لا يعلم به إلا الله

واشتدت الرياح وصفرت صفيراً مرعباً، وهطل البرد مجنوناً ثائراً، بينما كان يسدل الستار الأخير على هذه المأساة. . .

علي الطنطاوي

ص: 67

‌مأساة من سوفوكليس

3 -

أنتيجونى

للأستاذ دريني خشبة

- 9 -

ويرسل الخورس أغنية عن الحب، وعن خضوع الآلهة والعباد لسلطانه على السواء

تدخل أنتيجونى وحولها حرس

- (سلام عليكم يا رعايا أبي وأمناء مملكته! شعاعة واحدة يا هكيوز الكريم أتزود بها لرحلتي إلى الدار الآخرة فتنير لي ظلمات طريقي! إنها تكفل لي أن أذهب إلى هيدز والحياة تدب في قلبي! أوه! ألا يتنفس لي فجر حلو بعد اليوم؟ وقداسي وأفراح عرسي؟ ألا تملأ أهازيجها سمعي؟ وهايمون!! آه يا حبيبي هايمون أشيرون وحده سيكون زوجي. . . لا أنت يا هايمون الحبيب. . . فوق شطئان نهره الفائض بالحمم!)

الخورس: (أجل يا بنية! لكنك تذهبين ثمة لا كما يذهب الموتى، بل تذهبين وفي قلبك الحياة تنبض وتنبض. . . وتذهبين باختيارك لا برغمك، لأن سيفاً لا يغمد في أحشائك، ولأن مرضاً لم يلم بك ولم يسلمك للردى!)

أنتيجونى: (هيه!. . . لي أسوة بابنة تنتالوس، وستهبني الآلهة نعاسا فلا أحس شيئاً)

الخورس: (ولكنها ربة وابنة إله عظيم!)

- (ويحكم يا رعايا أبي! أتستخفون بي حتى في طريقي إلى هيدز؟ ألا يروعكم ذهابي إلى القبو المظلم الذي من أجلي إلى مقبرة أحياء. . . أتجرأ فيه غصص الردى قطرة فقطرة!! يا لها من موتة!! ألا من لشبابك يا أنتيجونى؟!

- (تجلدي يا فتاة! إن جدود أبيك العواثر تكتسحك في طريقها!!)

- (أوه! إنكم تؤلمونني يا قوم! جدوده العواثر! ما كان أتعسها من زيجة تلك التي كشفت سرها أمي!! ويا لقساوتها أبوة تلك التي ابتلى بها أبي! أما أنت يا أخي. . . فما كان أتعسها من زيجة كذلك تلك التي أشقيت بها نفسك وجررت بها الموت عليك وعلي!. . .

- (لا ريب أنك صنعت جميلاًُ يا بنية (بدفنك جثته)، ولكن ما العمل فيمن يأبى إلا أن

ص: 68

يظهر سلطانه ويدل بجبروته!

- (ويلاه! أأساق إلى الموت غير مبكية. . . وفي يوم عرسي؟ الشموع! أين الشموع التي كانت تضيء لي تحية ليل وسلام إمساء؟ ألا يذرف أحد عبرة من أجلي؟!

(يدخل كريون)

- (ما تزال هنا؟ هلموا بها إلى القبو المظلم. . .! هلموا! لتساقط نفسها أنفساً! لتذب روحها ولتهو إلى الحضيض قطرة فقطرة! هي الجانية على نفسها. . . لم يجن عليها أحد! لتذق وبال أمرها في ظلمات السفل؟

- (القبو! مرحباً بالقبو والقبر معاً!! لتكن يا قبو غرفة عرسي! يا مقبرة الأحياء مرحباً مرحباً في جوار برسفونيه الجميلة التاعسة سأقضي حياة حدودها الأبد! ألا كم من حسناء حوراء ضمها الموت إلى سرب برسفونيه! لم لا أنظم إلى السرب زهرة اختضرها الموت قبل أن تفتح!! لم لا أطوي تلك المرحلة الأخيرة من هذه الحياة المفعمة بالآلام والمظالم لألقى أبي. . . وأمي وأخوي. . . في هيدز! وأنت خاصة يا بولينيسيز سألقاك وسأعانقك وستبتسم لي. . . أنا أختك. . . التي ضحت بشبابها الفينان من أجلك! ألا من للإنسان بعد أمه وأبيه وأخيه (الذي مثل بولينيسيز)! الابن إذا قضى فقد يجيء ابن غيره. . . ولكن الأب. . . ومثله الأم. . . لا عوض عنهما إن غالهما الردى! أما أخي! فسامح الله كريون الذي يأبى إلا أن يأخذني بمحبتي له وفدائي من أجله! آه يا أخي! انفض أطباق الثرى قليلاً وأنظر إليّ! أنظر إلى مسوقة إلى حتفي مصفدة بالأغلال، مسلوكة في القيود. . . إلى القبو المظلم الذي لا تؤنسني فيه غير أشباح الموت. أواه يا آلهة السموات! من نصيري وقد جد بي الجد؟ إن كنت قد أجرمت فعلي إجرامي. . . ولكن هؤلاء!! هؤلاء الذين داسوا شرائعكم أيها الآلهة! خذوهم بظلمهم، وابتلوهم بضعف الحياة الدنيا والآخرة أولئك المجرمون!. . .)

رئيس الخورس: (العاصفة تشتد في نفس الفتاة! وما تزيدها الآلام إلا اصطخاباً!)

كريون: (وكل من يلوذ بها أو ينافح عنها قد يشجي شجوها!)

أنتيجونى: (وا حرباً! إني أسمع دبيب المنايا في هذه الكلمات!)

كريون: (وهل بقى في ذلك ريب؟)

ص: 69

- (يا طيبة يا أرض المجد! يا مهد الجدود يا هيكل الآلهة الأطهار! وداعاً!! إلى هيدز، سأذهب إلى هيدز! أنا أنتيجونى آخر فنن من أفنان دوحة قدموس ولايوس! إلى هيدز! قرباناً لك يا آلهة، وفي سبيل شرائعك يا سماء!. . .)

(تخرج ومن حولها الحرس)

- 10 -

ويرثي الخورس للفتاة البائسة الشقية، ويرسلون ورائها لحناً بائساً شقياً

(يدخل تيريزياس الكاهن الأعمى يقوده ولده)

- (هيه! سلام على سادات طيبة! لقد وصلنا والسلام!)

الملك: (وماذا جاء بك يا تيريزياس؟)

- (سأنبئك. . . إ. . . إن أصغيت لي)

- (مرحباً بك يا كاهن طيبة! وهل يأبى أن يسمع لك أحد؟)

- (شكراً! إنك بمثل هذه المهارة قدت السفينة إلى بر الأمان!)

- (الفضل في ذلك لتجارب الزمان يا تيريزياس!)

- (هذا حق ولكن. . . برغم ذلك ينبغي أن تحترس! إنك على شفى جُرُف هار!!)

- (وأي شفى جرف يا تيريزياس؟ إنك تزعجني!)

- (إي وايم الحق! نبوءاتي! سأقص عليك نبوءاتي التي استوحيتها اليوم! لقد تنزل علي منها قدر عظيم أيها الملك! وليس يتنزل علي منها إلا الحق حين استوى على كرسي كهاناتي! طيور!. . . بواثق جارحة. . . كانت تحلق فوق معبدي! لقد ظلت تضرب الهواء بخوافيها. . . وكانت ترسل في السماء أصواتاً مزعجة كقصف الرعود. . .! قمت إلى المذبح وضرّمت النيران. . . وا أسفاه! لقد رفض إله النار أن يقبل منها قبسا! وتناثر القربان! وأنطلق الشرر في سماء الهيكل! وكفى بذلك نذير سوء أيها الملك! لقد شهد هذا غلامي هذا، وأنا أشهد به أمامكم الآن! الدمار يكاد يقضي على طيبة بسببكم يا مولاي! إن الآلهة قد تكلمت بألسن النسور والبزاة التي اغتذت بلحم ابن أوديبوس المسكين! من أجل ذلك رفضت قرابيننا أيها الملك، وقذفت بها في وجوهنا! والآن! خذ حذرك يا بني! كلنا بنو الموتى! وكل بني الموتى يخطئون! وما تزال في الوقت فسحة لمعالجة هذا الخطأ! الحمقى

ص: 70

فقط هم أهل العناد والاستبداد بالرأي! ما لنا وللموتى! إن أمرهم إلى الآلهة، وليس يفيدنا أن نمثل بالقتلى وقد فرغ حسابنا معهم! ألا قد بلغت! فأسمع وعِ. . . واشهدي يا سماء)

- (لم يبق إلا الكهنة أمثالك فأكون غرضاً لسهامهم يا تيريزياس! أنت تحاول عبثاً!. . . لن يدفن مهما حاولت! ولكن. . . آه! الذهب! قاتل الله الذهب ولو أنصب في يديك من منجم! الآلهة؟ ها. . . لترسل الآلهة نسرها الباشق فليغتد هو الآخر به!)

- (وي! أين الحكمة إذا؟ ألا من يتعظ!

- (من؟. . . أي شك؟)

- (كنوز الذهب الأبريز موعظة حسنة ورأي سديد!)

- (والجهالة آفة الآفات!)

- (أجل. . . الجهالة طاعون كاد يرديك!)

- وبعد؟. . . أوثر ألا أبادل الكاهن ضربة بضربة!

- (وأي ضربة لازب أشد علي من أن تُحمّقني؟!)

- (بل الذهب هو طاعون الكهنة!!)

- (والربح الخسيس هو آفة الملوك؟)

- (طاش صوابك إذا حين تخاطب مليكك بمثل هذا؟)

- (أجل! وإلا ساعدتك في تعجيل الخراب لهذا البلد؟)

- (نظرك بعيد أيها الأب! ولكنك غير أمين ولا وفي مع هذا؟)

- (ستندم لأنك لم تر أن تسمع إلى نصيحتي!)

- (هيه. . . تكلم. . . إهرف. . . فلو تنال مني ربحاً؟)

- (ومنك تحسبني ألتمس الربح وأنشد الغنم؟)

- (لن تربح تجارتك معي أيها الكاهن!)

- (آه! إن دمك فقط كفيل بأن يغسل وزريك العظيمين دفنك فتاة حية لتموت من غير ذنب في قبو مظلم. . . وتركك قتيلاً في البرية تنوشه السباع من دون أن تقام له شعائر الدين أو تؤدي من أجله مراسيم الآلهة! هذا تصرف مخز لن تقبله آلهة هيدز ولا من أرباب الأولمب! ويل لك؟ إن أرباب النقمة تتربص بك، وربات الذعر تكاد تنقص عليك! ولن

ص: 71

يأخذنك إلا بعملك ولا يجازينك إلا بوحشيتك! أنا جئت إليك ألتمس رفداً؟ يا لخباثتك! ستعلم عما قريب! سينقض هذا القصر فوق رأسك ليقول لك: لا! لا! وسترن في أذنك أصوات الصراخ والعويل والندبة من أجل موتى كثيرين، أعزاء عليك. . . وسترى! يا غلام! هلم! لتنطلق من هنا! وسيأتيه اليقين فيثوب إلى رشده ويطهر لسانه!)

(يخرج الكاهن يقوده الولد)

(البقية في العدد القادم)

دريني خشبة

ص: 72

‌البريد الأدبي

أسبوع المتنبي في دمشق

في الساعة الخامسة من مساء يوم الخميس الماضي، 27 يوليو 1936 أفتتح مهرجان المتنبي في مدرج الجامعة السورية بحضور فخامة رئيس الجمهورية ووكيل المفوض السامي ميريه ودولة رئيس الوزراء ومندوب المفوض السامي ووزيري العدلية والاقتصاد الوطني، فافتتحت الحفلة بآي من القرآن الكريم، ثم ألقى وكيل المفوض السامي خطبة وجيزة ضمنها عطف المفوضية العليا على هذه الحفلة وشعورها مع اللجنة القائمة بها ومع الأمة العربية جمعاء في احتفالها بمرور ألف سنة على وفاة سيد شعرائها بلا منازع وتتابع بعده الخطباء فألقى رئيس الوزراء كلمة وزارة المعارف، وألقى السيد الطباطبائي أستاذ الأدب الفارسي في الجامعة الأمريكية قصيدة شاعر الفرس خسرو داراني، ثم تكلم أحد المستشرقين عوضاً عن المستشرق الأستاذ بلاشير الذي تأخر وصول كلمته

ونهض بعده الأستاذ أحمد أمين مندوب الجامعة المصرية فألقى خطبة قيمة جاء فيها على ذكر ناحية واحدة من نواحي حياة المتنبي مستدلاً على أخلاقه من آثاره وأخيراً اقترح الأستاذ عبد المنعم رياض وضع جائزة سنوية شبيهة بجائزة نوبل تعطى للمبرزين من الأدباء والشعراء

وفي الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة - أمس - احتفل أمام بناية المعرض بإزاحة الستار عن نصب أقيم في الزاوية الغربية من الجدار المحيط بالبناء وقد نقش عليها عبارة (شارع المتنبي) وقد أفتتح الحفلة محافظ العاصمة بخطبة وجيزة شرح فيها الغاية منها، وعقبه الأستاذ عزالدين علم الدين سكرتير لجنة المهرجان بكلمة شكر فيها لمحافظة المدينة اهتمامها بإطلاق أسماء رجال الأمة العربية الخالدين على شوارع المدينة وأعلن أن هناك شوارع جديدة سوف تطلق عليها أسماء العظماء كأبي العلاء المعري والبحتري وغيرهما

وفي مساء اليوم نفسه غص مدرج الجامعة السورية بالمحتفلين وخطب الأساتذة الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد مندوب الجامع الأزهر والقيت كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندر وقصيدة للأستاذ خليل مردم بك ثم خطب الدكتور عبد الوهاب عزام فالأستاذ نجيب الارمنازي وأنصرف الخطباء والمندوبون بعد ذلك لتناول طعام العشاء على مائدة أعدها

ص: 73

المجمع العلمي

وعلى المنهاج الموضوع للمهرجان سيلقي في اليوم الثالث (السبت) كلمة الأستاذ معروف الرصافي مندوب العراق وقصيدة الأستاذ رضا الشبيبي (ذكرى شاعر) وقصيدة الأستاذ علي الشرقي (صوت الكوفة) وخطبة الأستاذ طه الراوي. قصيدة الأستاذ عزالدين التنوخي كاتب سر المهرجان. وليمة الصحة العامة

اليوم الرابع (الأحد) - خطبة الأستاذ نقولا فياض: مندوب لبنان (هل كان المتنبي مجدداً). خطبة الأستاذ أنيس المقدسي مندوب الجامعة الأمريكية. خطبة الأستاذ أمين الريحاني (المتنبي رسول العروبة) خطبة الأستاذ فؤاد البستاني مندوب الجامعة اليسوعية. قصيدة الأستاذ حليم دموس (مهرجان المتنبي) وليمة وزارة المعارف

اليوم الخامس (الاثنين) - خطبة الأستاذ أحمد رضا (روح الطموح في المتنبي) قصيدة الأستاذ سليمان ظاهر (حياة المتنبي) خطبة الأستاذ حبيب شماس مندوب المدرسة البطريركية. خطبة الأستاذ أديب التقي. قصيدة الآنسة ماري عجمي، وليمة الجامعة السورية

اليوم السادس (الثلاثاء) - خطبة الأستاذ خليل الخالدي، خطبةالأستاذ سامي الكيالي (المتنبي في بلاط سيف الدولة) خطبة الأستاذ عبد القادر المبارك (لغة المتنبي). قصيدة الأستاذ محمد البزم، وليمة معرض دمشق

اليوم السابع - كلمة الأستاذ مرشد خاطر: مندوب الجامعة السورية. قصيدة الأستاذ عمر يحيى. خطبة الأستاذ سليم الجندي، قصيدة الأستاذ عمر أبي ريشة خطبة الأستاذ جميل صليبا (فلسفة المتنبي) كلمة الختام، وليمة مدينة دمشق.

خطاب وكيل العميد السامي في مهرجان المتنبي

سيداتي وسادتي:

إذا ذكر المتنبي فلا يثير ذكره في قلبنا صورة أعظم عصر من عصور تاريخ حلب، وصورة أمجاد سورية الحمدانية فحسب، وإن يكن ذلك من الأسباب التي تحببه إلى نفوسنا، فلا بد لنا من القول إن المتنبي لا ينتمي إلى مدينة واحدة ولا إلى عصر واحد بل أنه يدوي صداه في خلال عصور الشعر العربي وخلال نواحي الشعور الأدبي المترامية الأطراف،

ص: 74

فقد ذهب شاعر الكوفة العالم العربي نماذج من الشعر خالدة، وضروباً من التعبير صافية ورفعة لا تطال، وفناً أنوفاً دقيقاً، وهدفاً شريفاً، وتشاؤماً عالياً؛ وجميع هذه الصفات المتغلغلة في أعماق نفسه تتفق مع أعرق مميزات الفكر الأدبية العربية، تلك الفكرة الطامحة إلى المعالي، الهائمة بالشرف، المغرمة بما عز وكرم من المعاني، الساعية وراء خير المثل العليا، تلك الفكرة التي تطلب في الشعر (حالة نادرة) كما قال في ذلك شاعرنا الفرنسي (مالارمه)

هذا ما أهل المتنبي أن يكون شاعر الأمة العربية؛ وهذا ما حدا بكم جميعاً للاعتراف له بهذا اللقب. إن الأمة العربية ترى في المتنبي بعض ميولها الجوهرية، وبعض شواعرها الثابتة، فيلذ لي والحالة هذه أن أحيي في هذا الحفل، إلى جانب السلطات العليا ورجال العلم في سوريا، ممثلي الدول المجاورة، والشعراء والكتاب والعلماء من جميع البلدان التي يرن فيها صوت لغتكم الجميلة، وأن أحي مندوبي المجامع العلمية ومؤسسات الثقافة العالية التي تحافظ في جميع البلاد الغربية على تقاليدها الروحية المشتركة، ولهذا أيضاً رغبت في أن أرحب بكم، وفي أن أحمل إليكم في هذا المهرجان حيث للفكرة والأدب المحل الأرفع، عربون عطف المفوضية العليا على هذا المهرجان واهتمامها به، وكذلك عطف الجمهورية الفرنسوية؛ من يشك في الفائدة التي تجنى من هذه الأحتفالات، إنها توثق عرى التضامن المكين، والتقارب الجوهري؛ وتدل على أن فوق المصالح الأنانية التي تفرق بين الناس وتبعدهم بعضهم عن بعض عبقرية لا يزال في وسعها أن تجمع بين ذوي النوايا السليمة جميعاً خلواً من كل ما يكدر صفاءه

سيداتي وسادتي: إني لأجد لذة عظيمة في إعلان افتتاح المهرجان الذي يحتفل فيه بذكرى مرور ألف سنة على وفاة الشاعر المتنبي

خطاب وزارة المعارف في مهرجان المتنبي

أرحب بجميع الوفود التي جاءت من مختلف الأقطار العربية لتشارك حكومتنا في إظهار عاطفتنا الصادقة نحو شاعر العربية العظيم أبي الطيب المتنبي وأتمنى لجميع العلماء والكتاب والشعراء الذين أموا دمشق لهذه الغاية مقاماً سعيداً وراحة طيبة، ولاشك أن جو الفيحاء الرطب وإقليم الغوطة العذب سيوحيان إلى كل منهم بأحسن الصور، ويرويان ما

ص: 75

أحتدم في قلوبهم من قوة العاطفة وشدة الخيال فيسكبون عواطفهم في قالب من الألفاظ السحرية التي تليق بالمتنبي وعبقريته الخالدة. إن فكرة هذا المهرجان ليست وليدة الساعة بل هي فكرة قديمة خطرت ببال حكومتنا منذ الصيف الماضي فحالت دون تحقيقها إذ ذاك عقبات كثيرة، ولما ذللت جميع العقبات أحبت الحكومة أن تجعل أيام المتنبي داخل أيام المعرض الصناعي لتبرهن بعملها هذا على رغبتها في إحياء النهضتين الأدبية والاجتماعية معاً

ونحن إذا أقمنا هذا المهرجان لمرور ألف عام على وفاة المتنبي فإنما نقيمه لأن بينه وبين سوريا صلة قوية. فقد جاء المتنبي من العراق إلى سورية وهو شاب معدم فعانى فيها ما يعانيه شبان اليوم من مشاكل العيش وضيق أبواب الرزق ولم يزل يتنقل بين منبج وانطاكية واللاذقية وطرابلس وحلب ويمدح أمراء سوريا حتى اتصل بسيف الدولة أعظم ملوك بني حمدان وصار شاعره الخاص وعاش في بلاطه فانكشفت قريحته وجاد شعره وتحسن خياله ورق لفظه بما لقيه من حفاوة الأمير وعنايته به، ولو بعث اليوم سيف الدولة لما اتخذ لنفسه شاعراً غير المتنبي لأن المتنبي لا يزال حتى اليوم يعبر بشعره عن عواطف كل منا، فهو شاعر العروبة ورمز العواطف القومية، يجد كل منا في شعره نزوة الشيوخ وصور العدل والرحمة كما وصف الظلم والقسوة وتغنى بالأباء والكرم والعز والشجاعة كما بكى على المجد المفقود والأمل الضائع، فنحن نفاخر بشاعر أمراء سوريا بل بشاعر سوريا والعراق ومصر وننقل إليه من وراء حجب الزمان عاطفة شعب تثقف بشعره وتغذى بإحساسه حتى خالط لحمه دمه

فإن تباعدت الأقطار فإنها حول المتنبي لتجتمع، وإن نفرت القلوب فأنها في أبي الطيب لتتحد، وليس أدل على هذه الوحدة من اجتماعكم لإحياء ذكرى هذا الشاعر الخالد. فأشكركم جميعاً على ما تحملتموه من المتاعب وتحملتموه من عناء السفر وأشكر فخامة رئيس الجمهورية على رغبته في جعل هذا الاحتفال احتفالاً رسمياً كما أشكر بصورة خاصة فخامة المفوض السامي على عنايته بهذا المهرجان وإعانته المادية والمعنوية معاً، وأشكر ممثلي الجامعات العربية والأجنبية المختلفة ووفود الأقطار العربية الشقيقة وجميع الخطباء والشعراء على ما أكسبوه إيانا من الشرف بكتاباتهم وما أحدثوه في هذا المهرجان من البهاء

ص: 76

والازدهار بقدومهم وأخص أعضاء مجمعنا العلمي من عرب ومستعربين بأحر الشكر على تعاونهم في إحياء ذكرى شاعر العربية ورمز نهضتها الأدبية الحديثة وأتمنى لهم نجاح السعي وطيب الإقامة والسلام

جمعية أدبية مختلطة في سورية ولبنان

دعت الجريدتان الفرنسيتان (لجور) في بيروت، و (لا كرونيك) في دمشق إلى تأليف جمعية أدبية كبرى في البلاد السورية واللبنانية بكون الغرض منها: السعي والدعاية لنشر الأدب والثقافة في البلاد، ثم الدفاع بمختلف الوسائل المشروعة عن حقوق المؤلفين ومصالحهم، وهذه الجمعية بعيدة عن الأحزاب السياسية والخلافات الدينية، تجمع نخبة من الكتاب السوريين واللبنانيين الذين يسعون إلى نهضة فكرية في البلاد، تجدد في الأدب الحديث مع العناية بالأدب القديم

وهي تتألف من الكتاب والمؤلفين في اللغة العربية أو في اللغة الفرنسية وتنتخب مجلساً يتألف من عشرة أعضاء ستة من المؤلفين في اللغة العربية وأربعة من المؤلفين في اللغة الفرنسية، ويرأس هذا المجلس مؤلف عربي له نائب من المؤلفين في اللغة الفرنسية

وتنتخب مكتباً دائميا لأمانة السر، ومكتباً للاستشارات القضائية والحقوقية، وتتصل بالاتحاد الدولي لجمعيات حملة الأقلام في جنيف، وتعني بغير ذلك من الأمور لتأمين سير الجمعية ورقيها

فلسطين تناشد العالم الإنساني

إن الأيام التي مرت على جهاد فلسطين العربية المقدسة وما لقيت في خلالها من هول الأحداث قد أصابها بأضرار فادحة وأنزل بها خسائر جسيمة في الأرواح والأموال مما لا يمكن حصره ولا تعوض خسارته، فهناك عشرات من القرى قد دمرت وأتلفت أرزاقها وأحرقت مزروعاتها وصودرت أموالها، وهذا غير ما أحدثه نسف مدينة يافا الفيحاء ذات الحدائق الغناء بالديناميت بعد إحراق معظم حي المنشية فيها بأيدي مجرمي اليهود، وغير حدائق البرتقال الكثيرة التي قطعت بأيدي الأشرار ودوساً بالدبابات. وغير المئات من أكواخ الفقراء في ضواحي يافا وأطراف حيفا، ومنازل مدينة اللد التي دوهمت بالدبابات

ص: 77

فانطمست آثارها

فهذه الأهوال العظيمة قد أسفرت عن مائة ألف نسمة نكبوا بصورة مباشرة فمنها عائلات الشهداء وأيتامهم وأراملهم، وعائلات المسجونين والمعتقلين وأقاربهم، وسكان المدن والقرى التي دمرت بعد أن فروا عند النسف والهدم من منازلهم، تاركين جميع حاجاتهم وأثاثهم وملابسهم، فتشردوا في العراء بلا فراش ولا طعام ولا مأوى. وقد كثرت في هؤلاء المنكوبين الأمراض والوفيات. ولولا أن بقية الأهالي قد قادوا وبذلوا كل شيء يستطيعونه لإغاثة إخوانهم بعض الغوث - وهو ما لا يفي بحاجة ولا يسد ثلمة - لكانت الكارثة أوجع والخطب أفجع

على أن الحالة برغم شهامة الناس هناك قد تجاوزت كل ما يتصور العقل من شناعة وفظاعة مما ستكشفه الأيام بعد حين وعندما يباح نشر الرسوم ووصف الخطوب

وسيتضح عند ذلك أن ما نزل بفلسطين إنما هو من النوع الذي أصاب البلاد العربية على الخصوص والإسلامية على العموم من جنكيز وهولاكو وتيمور. ويا حبذا لو تنتدب الأقطار المجاورة وفوداً تجوب نواحيها لترى بالعين وتسمع بالأذن ما أصابها وما حل بها. حيث لا تقع العين إلاّ على قتيل أو شهيد. ولا يصادف المرء في طريقه سوى الخراب والدمار في المدن والريف

فاللجنة الفلسطينية العربية في مصر توجه إلى هذه المحن الأليمة عواطف الإنسانية جمعاء، وتنادي كل قلب فيه ذرة من الحمية ليبادر المحسنون إلى نجدة المنكوبين وإغاثة الملهوفين بما يخفف هول النكبة ويلطف ألم البلوى. والله لا يضيع أجر المحسنين

وهذه اللجنة ترجو من أهل الخير أن يرسلوا تبرعاتهم إلى منكوبي فلسطين بواسطة جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة وهي تتولى توصيلها إلى الهيئة المختصة في فلسطين فتوزعه على المحتاجين

محمد علي الطاهر

رئيس اللجنة الفلسطينية العربية بالقاهرة

استدراك

ص: 78

جاء في أول هذا الباب تحت عنوان (أسبوع المتنبي في دمشق) أن افتتاح المهرجان كان في يوم 27 يوليو الماضي والصحيح أنه كان في يوم 23 يوليو

فتوى مشيخة الأزهر في (الحجاب) و (الختان)

نص الفتوى:

(كتب إلينا من البلاد الهندية أن طوائف من أهلها الهندوكيين يريدون أن يتخذوا الإسلام ديناً لهم، ولكن عادتي حجاب النساء والختان تثبطانهم عنه بعض التثبيط. وقد طلب إلينا أن نبدي رأينا في هاتين العادتين وعن علاقتهما بالدين الإسلامي، فلم نر بد من تلبية هذا الطلب راجين أن يكون فيه هدى للمسترشدين وبيان للمتثبتين

شرع الله تعالى الدين الإسلامي ليكون ديناً عاماً للبشر كافة في كل زمان ومكان، فجاءت شريعته مراعية لجميع الحاجات المادية والمرافق العمرانية للأفراد والجماعات، وضامنة كل ضروب الحريات الضرورية لهم في حدود الناموس الأدبي العام، بحيث لا تتعاكس هذه الحريات ومصالح الاجتماع، ولا تتضارب والأخلاق التي هي أساس العمران. فليس يوجد بين النظم الدينية والاجتماعية ما يوفق بين مطالب الأرواح والأجساد ويربطها برباط وحدة وثيقة غير النظام الذي جاء به الإسلام

لست بصدد تفصيل هذا الإجمال، فلا أتعرض له إلاً لبيان أمرين فيه هما مسألتا الحجاب والختان، وهما اللتان طلب إلينا بيانهما

الحجاب

إن حجاب النساء كان معروفاً ومعمولاً به قبل مجيء الإسلام بقرون كثيرة في جميع الأمم المعرقة في المدنية، وقد أخذه عنهم اليونانيون والرومانيون على أقصى ما يعرف عنه من التشديد قبل الإسلام بأكثر من ألف سنة، وكان الإسرائيليون جارين عليه أيضاً على عادة معاصريهم

فلما شرع الله الإسلام راعى في هذه المسألة ما راعاه في جميع المسائل الاجتماعية من الاعتداد بالمصلحة العامة في حدود الناموس الأدبي العام فأنزل قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل

ص: 79

للمؤمنات يغضضن من أبصارهم ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلاً لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الأربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)

هذه الآية هي أطول آيات الحجاب، وهي تنص على وجوب إتباع الجنسين على السواء للآداب الواجبة لأحدهما حيال الآخر

ولما كان النساء محلاً للفتنة خصوا بالأمر لضرورة التصون في مخالطة الرجال وعدم أبداء زينتهن لهم إلا مالا يمكن إخفاءه منها أثناء مزاولتهن أعمالهن من خاتم وسوار

وقد اجمع الأئمة على أن الوجه والكفين ليسا بعورة، وأن ليس على المرأة من بأس أن تزاول أعمالها خارج بيتها، وأن تمارس مهناً لكسب قوتها على شرط أن لا تظهر ما يثير العاطفة من جسمها وجيدها وزينتها

وما حدا بالإسلام إلى وضع هذه القيود إلا المحافظة على النفوس أن تفسدها الشهوات. والمجتمعات أن تحل روابطها الموبقات. وليس بخاف ما جرته هذه الشهوات على الأمم الخالية من الانحلال والزوال

فالإسلام لم يفرض على المرأة أن تعيش كما تعيش الأنعام، أو أن تسجن كما يسجن المجرمون؛ ولكنه على العكس أمر أن تحضر الصلوات في المساجد في صفوف خلف الرجال، وأن تحضر اجتماعات المسلمين العامة في الأمور الهامة، ولم تمنع قط من إبداء رأيها فيها، ومن أن تتعلم كما يتعلم الرجال، وأن تتصرف في أموالها بكل وجوه التصرفات بدون توقف نفاذها على زوجها أو والدها أو أي أحد غيرها، وأن تتعاطى ما تشاء من الأعمال الحرة

هذه حقوق منحتها الديانة الإسلامية للمرأة منذ نحو أربعة عشر قرناً، فلم تصل إليها أية امرأة سواها في العالم إلى اليوم

والإسلام إزاء هذا كله لم يشرط عليها إلا حفظ كرامتها كامرأة شريفة غير مبتذلة ولا متبرجة لتكون عضواً صالحاً في المجتمع بدل أن تكون عاملة فتنة فيه

ص: 80

هذه نزعة تقر الإسلام عليها كل نفس شريفة، ولا تصادف معارضة من أي فريق حتى أصحاب المذاهب المتطرفة

الختان

أما مسألة الختان - فلا تصح أن تكون عقبة أمان الذين يريدون الإسلام، فإن الختان كان معروفاً عند بني إسرائيل قبل مجيء الإسلام، وقد اقتبسه عنهم العرب الجاهليون. فلما جاء الإسلام أقره شأنه إزاء كل عادة نافعة أو عمل صالح

وقد قرر الأطباء أن الختان من انفع العادات واحفظها من الأمراض التناسلية، فإن القلفة بتغطيتها لرأس العضو تختزن في طيها الأقذار وتكون موطناً للجراثيم الضارة، وغسلها من باطنها مرات في اليوم من الأمور المتعذرة، فإزالة هذه القلفة مما يندب إليه قانون الصحة؛ وقد علم أن بقائها في الأمم لم تعتد إزالتها قد كان سبباً في انتشار الأمراض السرية، وهذه الأمراض لم تعرف في بلاد المسلمين إلا بعد اختلاطهم بجاليات الأمم من طرق العدوى

على إن الإسلام لم يوجب على أهله الاختتان إيجاباً كما هو مذهب الإمامين أبو حنيفة ومالك ولم يجعله شرطاً للإسلام، فهو في نظره سنة للرجال إن شاءوا أخذوا به تصوناً وتطهراً وإن شاءوا تركوه

أما النساء فلم يصل إلى درجة السنة في مذهب الإمامين السابقين، ولكنه عندهما كرامة لهن فقط. لذلك تجد أكثر المسلمين لا يختنون نساءهم؛ فالأتراك كافة والمغاربة والإيرانيون والهنود وغيرهم لا يعملون بهذه العادة فيما يتعلق بنسائهم

والعادة أن الاختتان يكون في السنين الأولى من الطفولة بين ثلاث وعشر غالباً، وليس فيه كبير مشقة ولا يتوقع من ورائه خطر إذ أنه لا يتعدى قطع الجلدة الزائدة المغطية للعضو مع عدم المساس بالعضو نفسه، ناهيك أنه يعمل بواسطة العارفين، واختتان الكبار كاختتان الصغار ليس فيه أقل ضرر

بقيت مسألة ربما تهم الذين يريدون الدخول في الإسلام جماعات غفيرة وهم كبار في السن، وهي أن يعرفوا ما حكم الإسلام فيهم، فإلى هؤلاء نوجه قول الحسن البصري رضي الله عنه، وهو إمام الأئمة المجتهدين، قال العلامة ابن قدامة الحنبلي في المجلد الأول من كتابه

ص: 81

(المغنى) في الصفحة السبعين عن الختان ما يأتي:

(والحسن يرخص فيه ويقول: إذا أسلم لا يبالي أن لا يختتن. ويقول: أسلم الناس الأسود والأبيض لم يفتش أحد منهم ولم يختتنوا)

وهذا ما رأينا أن نأتي به من حكم الدين الإسلامي في أمر الختان والحجاب، وقد تبين أن واحداً منهما لا يتأتى أن يكون عقبة في سبيله

والله يهدي من يشاء إلى سراط مستقيم)

مشيخة الأزهر

رأي أستاذ فرنسي في رواية شهرزاد

الأستاذ لوني بو - مؤسس مسرح الأوفر في باريس يعتبر بحق أحد الأركان التي قام عليها المسرح الحديث في أوربا وهو الذي أخرج رواية (سالوميه) لأسكار وايلد سنة 1892، وعرف الفرنسيين بابسن ومترلنك، ورأيه في الأدب المسرحي له من غير شك وزانته وقيمته. كتب خطاباً إلى ناشر (شهرزاد) للأستاذ توفيق الحكيم جاء فيه عن هذه الرواية:(لقد قال: (لكنت)(واضع مقدمة الرواية) فأحسن القول. والرواية تستحق أن تمثل على المسرح الفرنسي في ذوق وفطنة. وهي تبقى بعد كل شيء رائعة الجمال شديدة العمق)

ص: 82