الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 162
- بتاريخ: 10 - 08 - 1936
ساكنو الثياب.
. .
للأستاذ مصطفى الرافعي
قال صاحب سرّ (م) باشا رحمة الله: وجاءني يوما اثنان من شيوخ الدين من ذوى هيئاتهم وأصحاب المنزلة فيهم، كلاهما هامَةٌ وقامة، وجُبَّة وعمامة، ودرجة من الإمامة؛ ولهما نسيم ينفُحُ عِطْرا حسبتُه من ترويح أجنحة الملائكة، وعليهما من الوقار كظل الشجرة الخضراء في لهب الشمس تفيء به يمنةً ويَسْرةً. فتوجَّهتُ إليهما بنظري، وأقبلتُ عليهما بنفسي، ووضعت حواسي كلها في خدمتهما؛ وقلت هؤلاء هم رجالُ القانون الذي مادتُه الأولى القلب
ما أسخف الحياةَ لولا أنها تدل على شرفها وقدرها ببعض الأحياء الذين نراهم في عالم التراب كأن مادتهم من السُّحُب، فيها لغيرهم الظل والماء والنسيم، وفيها لأنفسهم الطهارة والعلوُّ والجمال. يثبتون للضعفاء أن غير الممكن ممكن بالفعل، إذ لا يرى الناسُ في تركيب طباعهم إلا الإخلاصَ وإن كان حرماً، وإلا المروءة وإن كانت مشقة، وإلا محبة الإنسانية وإن كانت ألماً، وإلا الجِد وإن كان عناء، وإلا القناعة وإن كانت فقراً
هؤلاء قوم يؤلَّفون بيد القدرة، فهم كالكتب قد انطوت على حقائقها وخُتمت كما وضعتْ لا تستطيع أن تخرج للناس من حقيقةٍ نصفَ حقيقة ولا شبه حقيقة ولا تزويراً على حقيقة
وما أعجبَ أمرَ هذه الحياة الإنسانية القائمة على النواميس الاقتصادية! فالسماءُ نفسها تحتاج فيها إلى سماسرة لعرض الجنة على الناس بالثمن الذي يملكه كل إنسان وهو العملُ الطيب
قال: ونظرت إلى الشيخين على اعتبار أنهما من بقية النبوَّة العاملة فيها شريعةُ نفسها، تلك الشريعة التي لا تتغير ولا تتبدل كيلا يتغير الناس ولا يتبدلوا. ثم سألتهما عن حاجتهما فإذا أحدهما قد عمل أبياتا من الشعر جاء يمدح بها الباشا ليزدلفَ إليه؛ فقلت في نفسي: ما أشبهَ خَجلَ الجبال بألوان صخرها! هذا عالِمُ دنيا يحدها من الشرق الرغيفُ، ومن الغرب الدينار، ومن الشمال الجاه، ومن الجنوب الشيطان
ثم نشر ورقةً في يده وأخذ يسرد علي القصيدة، وهي على رَويّ الهاء تنتهي أبياتها ها. ها. ها. فكان يقرؤها شعرا أو كما يسميه هو شعرا، وكنت أسمعها أنا قهقهة من الشيطان الذي
ركب أكتافَ هذا العالم الديني ها. ها. ها. ها. . . .
قال صاحب السر: وأدخلتهما على الباشا فوقف المدَّاح يمدح بقصيدته، وأخذت لحيته الوافرة تهتز في إنشاده كأنها مِنفضة ينفض بها المَلل عن عواطف الباشا. وكان للآخر صِمتٌ عاملٌ في نفسه كصمت الطبيعة حين تنفطر البذرةُ في داخلها، إذ كانت الحاجة حاجتَه هو، وإنما جاء بصاحبه رافداً وظهيراً يحمل الشمس والقمر والليث والغيث لتتقلب الأشياء حول الممدوح فيأخذه السحر، فيكون جواب الشمس على هذه اللغة أن تضيء يوم الشيخ، وجواب القمر أن يملأ ظلامه، وجواب الليث أن يفترس عدوَّه، وجواب الغيث أن يهطل على أرضه
والباشا لا يدع ظرفه ودعابته، وكان قد لمح في أشداق العالم المتشاعر أسناناً صناعية، فلما فرغ من نظمه الركيك قال له: يا أستاذ احسبني لا أكون إلا كاذباً إذا قلت لك لا فُضَّ فوك. . .
ثم ذكر الآخر حاجته وهى رجاؤه أن يكون عمدة القرية من ذوي قرابته لا من ذوي عداوته. فقال الباشا: ولقريتكم أيضاً أبو جهل. . . .؟
ولما انصرفا قال لي الباشا: لأمر ما جعل هؤلاء القوم لأنفسهم زياً خاصاً يتميزون به في الناس، كأن الدين بابٌ من التحرف والتصرف، بعض آلته في ثيابه؛ فهؤلاء يسكنون الجبب والقفاطين وكأنها دواوينُهم لا ثيابٌهم. . .
قد أفهم لهذا معنى صحيحاً إذا كان كلُّ رجل منهم محصوراً في واجبات عمله كالجندي في معاني سلاحه، فيكون التعظيم والتوقير لثوب العالم الديني كأداء التحية للثوب العسكري، معناه أن في هذا الثوب عملاً سامياً أوله بيع الروح وبذل النفس وترك الدنيا في سبيل المجتمع؛ هذا الثوب الموت يُفْرَض على الحياة أن تعظّمه وتجله، وثوب الدفاع تجب له الطاعة والانقياد، وثوب القوة ليس له إلا المهابة والإعزاز في الوطن
ولكن ماذا تصنع الجبة اليوم؟ تُطعم صاحبها. . .
أثر الجيش معروف في دفاع الأمم العدوة عن البلاد، فأين أثر جيش العلماء في دفاع المعاني العدوَّة عن أهل البلاد وقد احتلت هذه المعاني وضَربت وتملكت وتركت هذا العالم الديني في ثوبه كالجندي المنهزم يحمل من هزيمته فضيحة ومن ثوبه فضيحة أخرى؟
أنت يا بني قد رأيت الشيخ محمد عبده وعرفته؛ فرحم الله هذا الرجل ما كان أَعجبَ شأنَه! لكأنه والله سحابة مطوية على صاعقة. ولو قلتُ إنه قد كان بين قلبه ورأسه طريقٌ لبعض الملائكة لأشبه أن يكون هذا قولاً
كان يزورني أحياناً فأراني مرغماً على أن أقدم له مجلسين أحدهما قلبي. وكان له وجه يأمر أمراً إذ لا تراه إلا شعرت به يرفعك إلى حقيقة سامية
رجل نَبتَ على أعراقٍ فيها إبداعُ المبدع العظيم الذي هيأه لرسالته، فعواطفه كالعطر في شجرة العطر الشَّذِيَّة، وشمائله كجمال السماء في زرقة السماء الصافية، وعظمته كروعة البحر في منظر البحر الصاخب. وكثيراً ما كان يتعجب من هذا أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني فيسأله مندهشاً: بالله قل لي: ابن أي ملك أنت؟
لم يكن ابن ملك ولا ابن أمير، ولكنه ابن القوات الروحية العاملة في هذا الكون؛ فهي أعدته، وهى ألهمته، وهى أنطقته، وهى أخرجته في قومه إعلاناً غير كتمان، ومُصَارحةً غير مخادعة، وهى جعلت فيه أسدية الأسد، وهى ألقت في كلامه تلك الشهوة الروحية التي تذاق وتُحَب كالحلاوة في الحلوى
هذا هو العالم الديني؛ لابد أن يكون ابن القوات الروحية لا ابن الكتب وحدها، ولابد أن يخرج بعمله إلى الدنيا لا أن يدخل الدنيا تحت سقف الجامع
وأنا فما ينقضي عجبي من هؤلاء العلماء الذين هم بقايا تتضاءل بجانب الأصل. يبحثون في سنن النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يأكل ويشرب ويلبس ويمشي ويتحدث، كأنهم من الدنيا في قانون المائدة وآداب الولائم ورسوم المجتمعات. أما تلك الحقيقة الكبرى وهى كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل ويحارب لهداية الخلق، وكيف كان يسمو على الدنيا وشهواتها، وكيف كان بطباعة القوية الصريحة تعديلاً فعالاً في هذه الإنسانية للنواميس الجائرة، وكيف كان يحمل الفقر ليكسر به شِرَّةَ النواميس الاقتصادية التي تقضى بجعل الأخلاق أثراً من آثار السعة والضيق فتخرج من الغنيّ متعفّفاً ومن الفقير لصاً، وكيف استطاع صلى الله علي وسلم بفقره السامي أن يحول معنى الغنى في نفوس أصحابه فيجعله ما استغنى عنه الإنسان من شهوات الدنيا ما لا نال منها؛ أما هذا ونحوه من حقائق النبوة العاملة في تنظيم الحياة فقد أهملوه، إذ هو لا يوجد في الكتب وشروحها وحواشيها
ولكن في الحياة وأثقالها وأكدارها. وبذلك أصبح شيوخنا من الأمة في مواضع لم يضعهم فيها الدين ولكن وضعتهم فيها الوظيفة
ألا ليتهم يكتبون على أبواب الأزهر هذه الحكمة: سئل بعض العرب: بم ساد فلان فيكم؟ قالوا: احتجنا إلى علمه واستغنى عن دنيانا
(سيدي بشر بإسكندرية)
مصطفى صادق الرافعي
من ذكريات عابر سبيل
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان أحد الأخوان يصحح قول الشاعر: (وسافر ففي الأسفار خمس فوائد) فيقول - بعبارة لا أستطيع أن أرويها بحروفها - إن الفوائد ثلاث فقط: البعد عن المرأة، والنوم كيفما اتفق، وتكليم الناس بلا معرفة. فأما البعد عن المرأة - أي الزوجة - فإني لم أعد أدرى أهو مزية وخير أم ضرورة وعيب وشر؟. ولكن الذي أدريه أني حاولته مرة بلا لف أو مداورة، ثم عدلت عن التماسه ووطنت النفس على اليأس منه، ورضتها على السكون إلى القرب والمودة. وتجاربي في هذا الباب تخولني أن أنصح لمن يريد أن يسافر وحده أن يجازف ويلح على زوجته أن تكون معه، فإذا أبت كان هذا هو المراد من رب العباد، وإلا فلن يصيبه إلا ما كان مكتوباً عليه. على أنه يجب أن يكون مفهوماً أن المعول في هذا الأمر على أسلوب الحوار وطريقة الكلام. والزواج - كما هو معروف - من مزاياه أنه يكسب الإنسان مرونة في التعبير، وقدرة على الاحتياط، وبراعة في التحرز، وسعة في الحيلة. وإني لأذكر أنى كنت في سوريا مع أسرتي منذ نحو سنتين؛ فذهبنا مرة إلى بيروت لنشتري أشياء نهديها إلى أهلنا ومعارفنا عند عودتنا؛ فرأت زوجتي معطفاً من الفرو ثميناً جداً فأعجبها واشتهت أن يكون لها، ولكنى نظرت إلى ثمنه فدار رأسي، وأيقنت أنا إذا اشتريناه سنضطر إلى الاستجداء والتسول، فأصابتني فجأة نوبة عصبية حادة لم ترها زوجتي قط من قبل، ففزعت ودعت أصحاب المحل أن يدلوها على طبيب بارع في الأمراض العصبية، فقد خيل إليها أن هذا الذي أصابني لابد أن يكون ضرباً من الصرع أو التشنج أو لا أدرى ماذا غير هذا، فحملوني إلى طبيب فرنسي قالوا لها إنه هو الأخصائي الوحيد هنا، وإنه من آيات الله ومعجزاته في طب الأمراض العصبية، فأدخلوني عليه فاتضح له من استجوابي ومما عرفه من تاريخ آبائي وأجدادي من قبلي أن أهلي - في حداثتي - خوفوني مرة بدب صناعي له فرو كثيف، وكانت صدمة الفزع الذي انتابني في صغري شديدة جداً، فأنا من ذلك الحين أضطرب جداً جداً إذا وقعت عيني على الفرو. . . فسألته زوجتي التي لم تكن تعرف هذا الجانب من تاريخ حياتي الحافل بالمفاجآت - سألته عن العلاج فقال:: (أوه. . لا شيء. . لا داعي للقلق. . ولكن يجب ألا يرى الفرو أبداً. .)،
والحق أقول إنه كان طيباً بارعاً جداً، فإن مرضى العصبي لم يعاودني بعدها أبداً. . والفضل بعد الطبيب هو بلا شك لزوجتي التي حرصت أعظم الحرص على ألا أرى الفرو. .
وأما النوم كيفما أتفق فهذا أشهد أنه صحيح. . وأذكر بسرور أن قطاراً سافرت فيه مرة كان غاصاً بالركاب. وكانت المسافة طويلة والشقة بعيدة تستنفد الليل كله من النوم. ولو كانت الجلسة مريحة لنمت وأنا قاعد، ولكنى كنت كالبلحة في قفة عجوة، فحرت ماذا أصنع. ثم فتقت الضرورة لي حيلة فنحيت الحقائب عن الشبكة الممدودة لها فوق رؤوسنا ورقدت مكانها، ونمت أهنأ نوم إلى الصباح، ولو كنت ضخم الجسم لما تيسر لي ذلك فالحمد لله على الضآلة. .
وأما تكليم الناس على غير معرفة فهذا هو قانون السفر، ولست تحتاج أن يعرفك أحد بأحد في رحلة، وما عليك إلا أن تبدأ من تشاء بالكلام كأنما كنت تعرفه من عهد آدم، ولكن هذا لا يخلو من خطر؛ فقد تقع على ثقيل أو ثرثار فينغص عليك وقتك ويحرمك كل متعة يمكن أن تفوز بها وأقلها متعة الراحة وخلو البال من المنغصات؛ ولكثرة ما أصابني من ذلك صرت أكره السفر بالقطار وأوثر السفر بالسيارة؛ فإذا اضطررت إلى القطار عمدت إلى الحيلة وهي أن أضع حقيبتي في أي مكان حتى يتحرك القطار، ثم أتركها وأذهب أبحث عن مكان آخر أتوسم في أهله الطرف والإيناس، وهذا يتطلب فراسة صادقة، والفراسة استعداد ولكنها تكتسب إلى حد ما بالتجربة
ومن الفوائد المجربة في الأسفار أن يستصحب المرء معه كتاباً في فن الطبخ، ولست أعني أنه قد يحتاج أن يصنع طعامه بيده وإن كان هذا محتملاً، ولكني أقص ما وقع لي في هذا الباب - أو بعضه على الأصح - فقد كنت مرة في فلسطين وكنت ضيفاً على صديق لي، فأصابني برد شديد من كثرة التنقل بين البلاد فوق الجبال بالسيارة في الليل وعاودني مغص الكليتين، فلم يبق بد من الرقاد والحمية وانتظار مشورة الطبيب وإن كنت عارفاً بدائي ودوائه، ومضى يوم ثاني وثالث وطلع الرابع وأنا لا آكل إلا الموصوف من الأطعمة الخفيفة المأمونة، وهذه لا طعم لها ولا لذة لآكلها، وكل طعام يفرض على المريض يكون بغيضاً إليه، فاشتهت نفسي أشياء قالوا لي إنه لا سبيل إليها لأن الطبيب منع أن تقدم إلي،
فاعترضت على هذا وقلت لهم إن الألم قد زال وإن الصحة قد عادت ولله الحمد، وإني أستطيع الآن أن أفعل ما أشاء وآكل ما أحب، فقالوا (حتى يراك الطبيب) فقلت إن هذا طعن في ذمتي لا أقبله ولاسيما في أمر يعنيني وحدي، وأنا على كل حال أدرى من الطبيب بنفسي بل أدري من أطباء الدنيا جميعاً. وهل كان الطبيب قد أحس بالألم حين جاءني المغص. . هل عرف أني ممغوص إلا مني. . إذن انتهينا. . أنا أنبأته أني مريض ولولا ذلك لما عرف. وأنا أيضاً أنبئه أني شفيت وأنه صار من حقي أن أتمتع بمزايا الصحة. . وإذا كان الطبيب قد صدقني في واحدة فيجب حتماً أن تصدقوني في الثانية، فروحوا هاتو كذا وكذا من الآكال، وكيت وكيت من الأشربات. .
فضحكوا وأبوا أن يجيبوني إلى ما طلبت قبل أن يأذن لي الطبيب، فلم يسعني إلا أن أذعن للحرمان - فإني في بلد غير بلدي - ولكني طلبت أن يجيئوني بكتاب في فن الطبخ فاستغربوا وسألوني عما أنوي أن أصنع به فلم أعبأ بهم، فجاؤوني به فقلت لهم:(ألا تستطيعون أن تذهبوا عني إلى حيث تشاؤون فحسبي هذا الكتاب وكفى به أنيساً في وحدتي ومسلياً لي في غربتي)
وفتحته في موضع الفهرس وانتقيت الألوان التي اشتهيها وانطلقت أقرأ بنهم. وصدقوني حين أقول إن ريقي كان يجري وإني كنت أنعم بأقوى من لذة الشره المبطان وأنا أقرأ فيه
(كفتة الدجاج - تسيح الزبدة ويضاف الدقيق ثم اللبن بخفة مع استمرار التقليب حتى يصير المزيج في قوام القشدة، ثم يضاف الملح والبقدونس والفلفل، ثم تغلى مدة ثلاث دقائق، ويضاف لحم الدجاج ويخلط جيداً، ثم يصب هذا فوق طبق مسطح حتى يبرد ويؤخذ من المخلوط بملعقة كبيرة ويوضع في دقيق ويعمل على هيئة كور أو أقراص أو أشكال بيضاوية وتوضع في مكان بارد حتى تتجمد تماماً، ثم تتبل في فتات خبز، وتغطس في بيض مخفوق مخلوط باللبن، ثم في فتات الخبز ثانياً وتقلى في سمن ساخن جداً حتى تحمر ثم تنشف على فرخ ورق غير مصقول. . تنبيه - هذه الكمية تصلح أن يعمل منها أربع عشرة قطعة (ولكني نسيت أن أذكر الكميات والمقادير. . لا بأس. فليس هذا كلاماً عن الطبخ. . ولا عجب أن أذوق بالوهم والخيال مثل لذات الحقيقة فإن هذه حياتنا معشر الأدباء. . وما أكثر ما نترك الحقائق ونروح نجري وراء الظلال! ثم نحاول أن نعزي
أنفسنا بأن الحقائق المشتهاة كثيراً ما أثبتت التجربة أنها دون ما كان متوقعا، وأن الخيال أفسح رحاباً وأوسع آفاقاً؛ فهو أقدر على إمتاعنا. وأن الحقيقة نفسها إنما تكون ممتعة وجميلة بفضل الخيال، ولولاه لما كان لها طعم ولا فيها متعة. فعمل الخيال لابد منه للإمتاع على كل حال سواء أكنت آكلا بالفعل أم متوهماً أنك تأكل؛ والفضل والمزية للخيال لا للمادة فإنها بمجردها لا شيء، وإنما تكون شيئاً بما يفيضه عليها الخيال من السحر والفتنة وما يضفيه عليها ويفيضه إليها ويزينها به
وعلى ذكر فلسطين أقول إني أحب السفر إليها لأنها لا تكلفني إلا أجرة القطار. أما الأكل والنوم والنزهة فعلى الله والإخوان بارك الله فيهم. وقد حدث في العام الماضي أني تعبت من العمل المتوالي فأشاروا علي بالراحة. فقلت اذهب إلى فلسطين. وكان الوقت شتاء والبرد في جبال فلسطين يكون قارساً. فقال لي صديق اذهب إلى الأقصر فقلت: فلسطين أفضل، فاستغرب وبدأ يجادل، فضاق صدري وقلت له: يا أخي إن الأقصر تحتاج إلى مال كثير، أما فلسطين فيكفيني أن تكون معي أجرة القطار
ومن الغرائب التي لا أظن أن كثيرين وقع لهم مثلها أني كنت مرة في جزيرة مع إخوان لي، فقلنا: نصيد سمكا نشويه ونأكل منه في يومنا هذا، فاخترنا شرماً يضرب الماء فيه ويمعن في البر لأنا قدرنا أن يكثر فيه السمك، وجئنا بديدان اتخذناها طعاماً وجلسنا ننتظر أن يخدع السمك. فمضت ساعة وأخرى ونحن لا نظفر بشيء، فنفذ صبر أحدنا فتركنا وغاب شيئا ثم عاد بفونوغراف أداره وهو يقول مازحا:(لعل السمك يحب الموسيقى. . من يدري. . أليس له حاسة فنية؟) فسرنا أنا وجدنا شيئا نتسلى به في هذه الجلسة المملة، وإذا بالسنارة التي كانت معي تضطرب وتنجذب إلى الماء، فشددتها فخرجت سمكة حسنة، فصحت بصاحبي (أعد! أعد. . أعني للسمك فما جاء إلا على الموسيقى) وكنت أنا أيضاً أمزح، ولكنا ما لبثنا أن وجدنا هذا حقيقة. فكان السمك يكثر ويشتد إقباله على الناحية التي نكون فيها إذا أدرنا الفونوغراف، ويقل ويذهب عنا إذا سكت. ولو كانت معنا مجموعة وافية من الاسطوانات لا استطعت أن أجرب أي الأدوار أحب إلى أي أنواع السمك، ولعرفت أي الأسماك تحب التانجو وأيها يؤثر الفوكس تروت وهكذا. وقد اتفق منذ بضعة شهور وأنا في العراق أن كنا مدعوين إلى الغداء في بيت على نهر دجلة - والعراقيون
يسمون كل مسكن على النهر قصراً أو سراي ولو كان كوخاً - وكان بيت صديقنا هذا ضخما فخما وفيه جهاز للراديو، وكانت الساعة الأولى مساء - وهي بحساب الوقت في مصر الساعة الثانية عشرة - فخطر لي أن أجرب تأثير الموسيقى في السمك، فرجوت من صديقنا أن يفتح الراديو وأن يسمح لنا بالانحدار إلى الحديقة، وهي متصلة بالنهر، واتفق أنه كان مغرماً بالصيد، ولكنا لم نسمع من مصر إلا شريطاً مسجلا لأحد المغنين، ويظهر أن السمك لا يحب المعاد أو لعله لم يعجبه الغناء وإن كان يطربنا نحن الآدميين. فقلت أعود في المساء وأرى. غير أني لم أستطع أن أعود إليه قبل الساعة التاسعة مساء - أي الثامنة بحساب الوقت في مصر، واتفق أن كان الذي يذاع حديثاً فنفرت الأسماك جميعها نفوراً ظاهراً. وفي اعتقادي أن محطة الإذاعة تستطيع أن تساعد على ترقية المصايد المصرية - فتخدم السمك والناس - إذا هي عنيت بأن تدرس طبائع الأسماك وأمزجتها وما يوافقها من ضروب الموسيقى، وفي وسعها بالإذاعة المتخيرة أن تنظم صيد السمك، وأن تجعل لكل نوع منه وقتاً معيناً. فإذا كان المراد مثلاً صيد ما يسمى البوري وما يماثله أذاعت للصيادين بعض الأغاني الشجية التي تفتر النفس. وإذا كان المطلوب صيد ثعابين الماء أو حياته أسمعتها أغنية (هاتشي بشي) وهكذا فيكثر المحصول بلا عناء وينتظم الأمر كله. ويعرف الناس ماذا يستطيعون أن يأكلوا من السمك في كل يوم بمجرد الاطلاع على برنامج الإذاعة ومن غير خوف من أن يغشهم التاجر ويدخل عليهم صنفا باسم صنف آخر
والحجاز وإنجلترا هما - فيما أعرف - البلدان الوحيدان اللذان تستطيع فيهما أن تترك حقائبك أو أشياءك في الطريق فلا تمسها يد غير يدك ولا يسطو عليها سارق. فأما في الحجاز فقد سقطت مني عصاً في الطريق بين جدة ومكة فتعطل السير من الجانبين وانقطع المرور حتى اهتدى الشرطة إلى أني صاحبها فخاطبوني بالتليفون وأنا في الشمسية - قرب مكة - فرجوت منهم أن يردوا العصا اللعينة إلى جدة مخافة أن ترتكب إثماً آخر فيأخذوني بذنبها. وأما في إنجلترا فقد تركت حقائبي ساعة وصلت إلى لندن على الرصيف أمام البيت الذي اختاره صديق لي لأنزل فيه وذهبت معه - أي مع الصديق - إلى بيته حيث اغتسلت وحلقت ذقني وشربت القهوة واسترحت ثم عدت إلى الحقائب بعد ساعتين فوجدتها في مكانها كما كانت. وأغرب من ذلك أني راهنت صديقي هذا أن أقضي يوماً في
لندن لا أتكلم في إلا اللغة العربية فخاف أن نتورط فيما لا يحمد واقترح أن نقتصر على السعي للوصول إلى وستمنستر أبي (من غير أن ننطق كلمة بغير لغتنا. فوافقت وتوكلنا على الله وخرجنا من البيت - هو وزوجته وأنا - وكنا نعرف الطريق ولكنا تجاهلناه، فراقني منظر رجل واقف بجانب حانة ينتظر على الأرجح وقت السماح ببيع الخمر - فإن لذلك وقته المعين حوالي الظهر وفي المساء - فدنوت منه وحييته التحية المصرية - أي برفع يدي ثم مدها إلى يده لمصافحته، وسألته - بالعربية طبعاً - عن وستمنستر، وتعمدت أن أحرفها تحريفاً شديداً فنطقتها (وستمنصته)، وأقول الحق إن الرجل فزع واعتدل بعد الميل ونسي الخمر التي يحلم بها وينتظر أن يسعد باحتسائها؛ فأعدت السؤال برفق فلم يفهم طبعاً على الرغم من صدق رغبته في ذلك، فلما يئس قال تعال معي، وقادني إلى الشرطي وهو شيء ضخم جداً وأنا شيء ضئيل أو كما يقول ابن الرومي:
أنا من خف واستدق فلا يث
…
قل أرضاً ولا يسد فضاء
وقال له إن هذا الغريب يبدو لي أنه يسأل عن شيء لا أستطيع أن أتبينه، فمال علي العملاق الإنجليزي وقال يستحثني: نعم؟ فسألته عن (وستمنصته) فجعل يهز رأسه ويستعيدني، وأنا أهز له رأسي أيضاً كأني غير فاهم، وألح في السؤال عن (وستمنصته) فأحس أن في الكلمة شيئاً يمكن أن يهديه إلى مرادي وقال (قل هذا مرة أخرى) ولكني تغابيت وجعلت أتلفت، ثم قلقت وخفت، فقد رأيت صديقي وزوجته قد تركاني وذهبا فوقفا على الرصيف. وليت هذا كل ما حدث. . . إذن لما كان فيه بأس ولكنهما كانا يضحكان حتى لخيل إلي أنهما سيقعان على الأرض. وكان ضحكهما بصوت عال فخفت أن يفطن إلى أن الأمر مزاح فيستثقله أو يعده سخرية منه فتسوء العاقبة، فخففت التحريف فلم يلبث أن فطن إلى مرادي فأستوقفني حتى مرت سيارة أمنيبوس معينة فأمرني أن أصعد وتبعني صديقي وأمر الكمساري أن يأخذ منا الأجر إلى وستمنستر وأن يحرص على أن ينزلنا هناك، فأخرجت نقوداً ومددت بها يدي إلى الكمساري ليأخذ منها ما يشاء لجاجة مني في دعوى الجهل باللغة الإنجليزية. وهكذا كسبت الرهان وفي غير بوليس لندن لا تجد مثل هذا الصبر والرغبة المخلصة في المعاونة. وأذكر مثالاً آخر فأقول إن صديقاً لي أعارني سيارته لأذهب بها من لندن إلى اسكتلندا وأتمتع في طريقي بأجمل ريف في العالم، وهو
ريف إنجلترا، وكانت السيارة كبيرة ضخمة ويكفي أنها من طراز (ديملر)، فكنت إذا جاء الليل قبل أن أصل إلى بلد ما وخفت أن أضل، أميل عن الطريق إلى الأرض المعشاب وأتعشى بما أعددت من الطعام، ثم أنام في السيارة إلى الصباح الباكر، فاتفق يوماً أن فرغ البنزين وأنا سائر قبل أن أنتبه، فوقفت مضطراً حيث كنت. ولما كانت السيارة كبيرة وثقيلة فقد عجزت عن تحويلها عن الموضع الذي تشغله من الطريق، فجلست على سلمها وشرعت أدخن حتى يوفقني الله إلى شيء، فمر بي شرطي كان قد فرغ من العمل على ما أخبرني، فهو ماض إلى بيته، فسألني: هل بالسيارة خلل؟ قلت: لا، ولكنها أتت على كل ما في خزانها من الوقود. فقال: انتظر، ومضى عني إلى حقل قريب، وهناك استعار دراجة - بسكليت - ركبها وعاد بها، وما لبث أن رجع حاملاً معه مقدارا كافياً من البنزين وقمعاً لإفراغه في جوف السيارة، فشكرته وقدمت له كأساً من الوسكي الذي معي في السيارة، وبعد قليل حملت القمع والصفيحة معي وذهبت بهما إلى محل البنزين، وكان على مسافة ثلاثة أميال، فرددت الأشياء ودفعت الثمن. ومن الإنصاف أن أقول إنك لا تعدم شرطياً غير إنجليزي يفعل هذا، ولكن هذه الروح في الإنجليزي طباع
وأعود إلى فلسطين فأقول إن في عكة مسجداً كبيراً هو الآن مسجد ومدرسة في آن معاً، وقد بناه - على ما أظن - أحمد الجزار باشا الوالي التركي في ذلك الزمان، وهو رجل مشهور فلا أحتاج أن أحدثكم عنه، ولكني أقول إني وجدت مكتوباً على باب المسجد من الداخل هذا البيت العجيب في مدح الجزار باشا:
(ذاك الوزير الشهم أحمد من غدا
…
جزار أعناق العباد كما يجب)
وأظن هذا بيتاً يستحق التدوين. . . .
وفي بغداد دعانا الشيخ ابن معمر - القائم بأعمال المفوضية العربية في العراق إلى أكلة على الطريقة البدوية فاستحسنا ذلك جداً، وآثرناها على وليمة أخرى؛ فلما ذهبنا ألفينا السماط ممدوداً. . . وأصف ما رأيت فأقول إن السجادة غطيت بملاءة بيضاء وضع عليها جفنة ضخمة فوقها صينية عظيمة لا أدري من أين جاءوا بها، وقد قالوا لي إن عندهم ما هو أكبر منها بكثير، وفوق الصينية طشت هائل مليء أرزاً مخلوطاً بالزبيب واللوز والفستق، وعلى الأرز خروف عظيم مشوي - هذا في الوسط، وحول الجفنة وعلى
مستدارها أطباق عديدة لا يأخذها الحصر، فيها أنواع شتى من الطعام. . . كالدجاج والحضر والعصيدة والولائق المختلفة، وهي من دقيق وسمن ولبن، وقد عرفوا أننا لن نستطيع مجاراتهم، فأعدوا لنا أطباقاً وملاعق وسكاكين وأشواكا، فجعلنا نحن نأكل على طريقتنا، أي أن نأخذ ما نشتهي في أطباقنا. أما هم فأكلوا على الطريقة البدوية الصرف، وهي أن يتناول الواجد قبضة من الأرز ويطوي عليها أصابعه ويضغطها حتى تصير كالكفتة، وبعد أن يفتلها على هذا النحو يقذف بها في فمه. وهذا يبدو هيناً سهلاً، ولكن المصيبة أن الطعام يكون كالنار فيحرق الكف، فكيف بالفم واللسان؟ أما اللحم فيهبر منه ما تستطيع أصابعه قبل أن تقطعه أو تمزقه ويرمي به في فمه، وما يرمي في الحقيقة إلا جمراً مضطرماً. وعلى ذكر الجمر أقول إن للعرب - أو على الأصح للبدو - طريقة عجيبة في علاج الجروح، وقد جربتها فأنا أتكلم عن خبرة ويقين، ذلك أن راحتي أصابتها النار، فجعلت أوحوح وأنفخ فيها، ولا أدري ما أصنع لتسكين الألم على الأقل، فصاح أحد النجديين الذين كانوا حاضرين هناك: - هذا كان في الحجاز: (ملح. . . ملح. . .) فجاءوه بقليل من الملح الخشن فمد به يده إلي وقال (خذ قبضة)(فتناولت منه بيدي السليمة وأنا أضحك في سري وأقول لعله يظن أن الحروق يفيد فيها السحر) فصاح بي (بيدك المحروقة)، ففهمت وأخذت قبضة بيدي المحروقة فقال (أطو عليها أصابعك) ففعلت فقال (أبق هكذا) فظللت قابضاً على الملح الخشن دقائق ثم نظر في وجهي وقال:(استرحت الآن. . زال الألم. .) ففتحت كفي وأنا أبتسم ولا أكاد أصدق، فما كنت أشعر بأي ألم ولا رأيت أي أثر للحرق! فما قول الأطباء في هذا؟ وليكن رأيهم ما يكون فأني أنا لا أنوي أن أداوي الحروق التي تصيبني - وعسى ألا يصيبني شيء - إلا بالملح. . .
وفي لبنان أنقذتني فتاة لا أعرفها من هلاك محقق، وهذه الفتاة من أعاجيب الخلق، فإن لعينها نظرة تنيم الحية - كما عرفت بالتجربة المرعبة - وأنا قوي النظرة حادها وفي وسعي أن أحدق في قرص الشمس، ولكني لم أستطع أن أحدق في وجه هذه الفتاة العجيبة. وكنت كلما وقعت عيني على عينها لا أزال أطرف ثم لا أجد بداً من تحويل عيني إلى ناحية أخرى. وكنا قد لقيناها في الصباح ونحن نصعد في جبل في رأسه ينبوع أردت أن أرى الموضع الذي يتفجر منه ماؤه. وكانت تحمل جرة فيها من ماء هذه العين، وكنا نخاف
أن نضل، فسألناها عن الطريق واستملحناها فاستسقيناها وأردت أن أنقدها بضعة قروش فأبت، وأنبأتها أني أريد أن أرى مفجر العين فنهتني عن ذلك، فسألتها عن السبب فقالت وهي تهز كتفيها:(هيك) ولم تزد، ولما ودعناها عادت فحذرتني، فضحكت وشكرتها وأبيت إلا أن أصعد إلى حيث ينبثق الماء، وصعدت وحدي فقد رأى إخواني وعورة الطريق فانصرفوا عن مرافقتي، فوجدت كهفاً على بابه عشب ونبات طويل ورأيت الماء يخرج من الكهف، فقلت أدخل لأرى فنحيت النبات وإذا بي أرى عينين لامعتين فظيعتين ثابتتين تحدقان في عيني، وكانت نظرتهما من القوة بحيث لم أستطع أن أحول وجهي، وزاد فظاعة النظرة وعمق تأثيرها أن العين لا تطرف والجفون لا تتحرك وأن البريق شديد جداً في ظلام الغار. وكانت العينان ترتفعان عن الأرض شيئاً فشيئاً وتدنوان مني على مهل وأنا أنظر إليهما ويداي إلى جانبي وقد جمدت في مكاني وشعرت بالخدر في أعضائي. وكنت قد أدركت أن هذه حية وأنها من النوع الوثاب الذي تتحرك عيناه ولا تطرف جفونه، ومن هنا عمق تأثير نظرتها، ولم يخالجني شك في أني مقضي علي بالهلاك. وكيف أنجو وأنا مسمر في مكاني لا أستطيع حراكاً؟ ولو وسعني أن أتحرك لو ثبت الحية علي وأنشبت في أنيابها قبل أن أدور على عقبي. وكانت نفسي تنازعني أن أصرخ مستنجداً ولكن شفتي كانتا مطبقتين لا تنفرجان. وإذا بالعينين المرعبتين تتراجعان في الظلام وتهبطان إلى الأرض بعد أن كانت ترتفعان عنها وتزحفان إلي، وأحسست أن نظرتهما تفتر وأن تأثيرهما في نفسي صار أقل وأضال، وشعرت بأني صرت أملك أن أحرك أعضائي بعد طول الجمود؛ فتلفت فإذا الفتاة التي لقيناها في الصباح تحدق في عيني الحية بأقوى من نظرة الحية. ويكفي أنها ردتها بعينها. واختفت الحية فتشهدت وملت على الفتاة لأشكرها بقدر ما كان يسعني أن أفعل في مثل هذه الحالة، فلامتني على مخالفتها وذكرتني أنها حذرتني وقالت إنها أشفقت علي من المصير الذي كان لا مفر منه فأدركتني قبل أن أقضي نحبي فسكت ولم أقل شيئاً. . . وماذا أقول؟.
إبراهيم عبد القادر المازني
من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع
لغة الأحكام والمرافعات
للأستاذ زكي عريبي
دستور (البحث)
أي شئ يراد بهذا العنوان (لغة الأحكام والمرافعات)؟
الموضوع مطلوب للكتاب الذهبي بمناسبة انقضاء خمسين عاماً على إنشاء المحاكم الأهلية. فهل يجب أن يقتصر على المرافعات القومية كيف كانت لغتها قديماً وكيف تطورت وإلام انتهت وكيف يجب أن تكون؟
أهذا هو محور البحث؟ أم إن له مدى أبعد ودائرة أوسع؟
الحق إن نواحي الموضوع حسبما يوحي عنوانه أكثر من أن تعد أو تحصى. لقد كان للناس محاكم منذ أقدم العصور وفي جميع البلاد المتمدنة، ولكل عصر من عصور التاريخ، ولكل بلد من بلاد المعمورة، مميزاته في تسيير العدالة وما يرتبط بها، ومنه ما نحن بصدده. ثم إنك إذا تحدثت عن لغة المرافعات استحال عليك أن تقصر بحثك على نحو الكلام وصرفه وباقي صفاته اللغوية؛ بل أنت تريد إلى جانب هذا أن تنظر في الأحكام والمرافعات من حيث الأسلوب، واختيار اللفظ، وترتيب الكلام، ومراعاة المناسبة، وملاحظة الصوت والإشارة. ثم إن الموضوع ذو شقين بطبعه، إذ أن لغتك وأنت جالس للقضاء غيرها وأنت قائم للدفاع. ثم إن الحال في مصر تختلف عنها في أكثر بلاد الدنيا، فنحن هنا نطبق أحكام قانون نبت في بلاد أجنبية ولم تحتضنه لغتنا إلا منذ قريب. فأكثر المشتغلين بتطبيقه قد درسوا مبادئه ثم تعمقوا في أصوله بغير اللغة التي يكتبون بها أحكامهم أو يعدون بها دفاعهم
أي ناحية من هذه النواحي الكثيرة المتعددة يجب أن تعالج في مقال أكبر الظن أن الحيز المخصص له محدود وسط الأبحاث الهامة القيمة التي سوف ينطوي عليها (الكتاب الذهبي)؟
لقد فكرنا في الأمر ملياً فانتهينا إلى أنه خير لهذا المقال إذا انفرجت حلقة البحث فيه
فجاوزت الحدود المصرية البحتة إلى إلمامة بالحال عند غيرنا من المعاصرين ومن سبقهم من النابهين الذين يمكن أن يعدوا بحق واضعي أسس فن الكلام القضائي. فإذا فرغنا من ذلك، ولن نطيل فيه، عرضنا لتاريخ لغة القضاء عندنا ماضيها القريب وحاضرها وما ينتظر لها على يد حملة لواء نهضتها الحالية
ولا ننتظر من هذا المقال بحثاً لغوياً عميقاً؛ فليس لنا بذلك طاقة ولا المحل هنا محله. هذا إلى أن نواحي البحث الأخرى أجدى وأنفع. وسوف نعنى بالتفريق بين لغة المرافعات ولغة الأحكام، فإن لكل منهما مميزات تختص بها ونحب التنبيه عليها، ولو أن كلا منهما تلقى في مصر صعوبات مشتركة يجب على العائلة القضائية بأسرها التضافر على مغالبتها وتذليلها
ولنبدأ بهذا قبل أن تنفرج قاعدتا الزاوية بحكم اضطرارنا إلى الفصل بين شقي هذا البحث
متاعب اللغة العربية
المتاعب التي يلقاها المترافعون وصائغو الأحكام على السواء في مصر جزء من متاعب لغة قديمة كريمة نامت نومة أهل الكهف زمناً، ثم أوقظت على حين غفلة لتقف على قدميها دفعة واحدة فتتفهم والنعاس مايزال يغالبها ويعقد أجفانها أحوالاً جديدة ليس لها بها عهد ولا سابق معرفة. أوقظت بشدة ودفعت بعنف لضرورة ملحة لتساير وتلاحق في ميدان لا تحده سوى حدود العقل البشري لغاتٍ وثيقة الصلة بنهضة العلوم التي رفعت أوربا إلى مقامها الممتاز الحالي، وجعلت منها منارة العلم والفلسفة والأدب والتشريع والاختراع. لغات صقلتها قرون متعاقبة عامرة بجهود متواصلة ربطت طارفها بتليدها وهيأتها أداة مرنة صالحة لما يطلب منها في مختلف ميادين النشاط العقلي
وأنت في مصر كاتباً كنت أو أستاذاً في جامعة، محامياً أو قاضياً، مهندساً أو طبيباً، لا تكاد تذكر أمامك اللغة حتى تتجه بفكرك إلى مختلف الصعوبات التي تعانيها إذا طلب منك أن تكتب أو تحاضر في فرعك الخاص. لقد أخذت كما أخذ أفراد هذا الجيل والذي تقدمه العلم عن أوربا؛ أخذته سهلاً ميسوراً بلغة أجنبية لقنتها صغيراً في طرازها الأخير فحصلت بها على أداة دقيقة مطواعة لحاجات العصر قد استوفت دقائقها من مسميات وأفعال وتعبيرات لها دلالتها الخاصة المحدودة. درست بهذه الواسطة في لين وسهولة، ثم إذا بك وقد انتقلت
فجأة بمحصولك العلمي إلى محيط يريد أن يفهم منك ما فهمته ويأخذ منك ما أخذته، وليس سبيل للتفاهم مع هذا المحيط إلا لغة قد يكون معدنها ذهباً ولكنه ذهب ما يزال تبراً مخلوطاً بأتربة تراكمت منذ أجيال. فأنت مضطر إلى تطهيره من كل عنصر زائف، ثم عليك بعد ذلك صهره في بوتقة العصر ثم صقله ثم ضربه نقوداً من أعيرة وفئات مختلفة. فإذا ما استقام لك هذا كله لزم أن يجرب الناس عملتك هذه الجديدة وأن يتداولوها زمناً قبل أن تستقر نظاماً مألوفاً معمولاً به
ليس مركز المتكلم أو الكاتب باللغة العربية إذن سهلاً ميسوراً في هذا العصر. اللهم إلا أن يقول شعراً يحتذي فيه المتنبي، أو يكتب نثراً ينسج فيه على منوال عبد الحميد الكاتب أو ابن المقفع. أما أن يعرض بقلمه لشيء من مختلف العلوم والفنون الحديثة فهو أعزل إلا من العزم الذي تبعثه الصعاب، فقير إلا من عناصر الثروة المخبوءة في لغة مجيدة تتطلب كثيراً من الجهد في استكشافها ثم مثابرة وصبراً لإقرار ما يكتشف وإحلاله محله من نظام مقبول
ولكن أيمكن حصر هذه الصعوبات ومعالجتها؟
ليس في هذه العجالة متسع للخوض في موضع قلنا ونكرر إنه خارج اختصاصنا وفوق مقدورنا. ولكن ما نراه في عالم الحقوق يجيز لنا أن نعتقد أنه ليس في اللغة العربية أدواء أصيلة تمنعها من أن تأخذ مكانها تحت الشمس كلغة عصرية تضرب بسهم في مختلف العلوم والفنون. فقد سبق لها أن دعيت إلى مثل ما تدعى إليه اليوم وهي بعد أقرب إلى البداوة منها إلى استقرار الحضارة، فوثبت إلى غايتها العلمية وثبة الجواد الكريم. ودرس العرب حضارة الإغريق وفلسفتهم وطبهم بالعربية وحلوا محل الرومان في حمل مشكاة الحضارة قروناً يؤلفون في كل علم وفن بل ويزيدون في ثروة العالم العلمية بما استنبطوا من معارف جديدة. فهل تعجز العربية ولها هذه السابقة المجيدة وذلك التراث الباهر أن تصل فجرها الجديد المتألق بمسائها الباهر؟ إن لنا أن نأمل بل لنا أن نطمئن إلى غد سعيد أخذاً بالقياس
ولكن لنعد إلى ما كنا فيه ولنتحدث قليلاً عن صعوبات الحاضر فقد يتعين هنا التنويه باثنتين:
تجاوز القصد
كثيراً ما عيرنا - وأخشى أن نكون قد عيرنا بحق - بأننا نجاوز إذا جلسنا للكتابة أو قمنا للكلام الغرض الذي نتوخاه بأحدهما، وأن اللغة التي نستعملها في عصر اللاسلكي أو الكهرباء ما تزال تغشاها المحسنات اللفظية وتغمرها المترادفات ويفسدها الحشو ويرهقها استطراد يمكن التخفيف من كثير منه. فأغلب الكتاب إذا ذكر الظلم ألحق به الاستبداد، وإذا تكلم عن الرحمة أردفها بالشفقة والحنان. وليس الذنب في هذا على اللغة العربية بل على تقاليد سيئة وجهل بمقتضيات العصر. إن لغتنا موسيقية بلا مراء ولكن بإعرابها. وهي غنية غاية الغنى بأسمائها وأفعالها ونعوتها. ولكن هذه الثروة لم تجمع للزينة فحسب، ولم تدخر في بطون المعاجم لكي يتزن بها الروي وتستقيم القافية ويحسن السجع، وإنما لتكون منها وسائل لأداء معان مختلفة وان تقاربت. وأول واجب على الكاتب في هذا العصر أن يستعمل كل لفظ فيما أعد له من الأصل؛ فيعرف مثلاً متى ينعت صاحبه بالإقدام ومتى يسميه شجاعاً ومتى يصفه بالجرأة. وبعبارة أخرى نحن أحوج ما نكون اليوم إلى فقه صحيح دقيق للغة العربية نعرف منه متى نستعمل لفظاً معيناً في معنى معين. وهذا إذا تم استتبع حتما سير قلم الكاتب ولسان المتكلم في سبل مرسومة وطرق معبدة، فلا يكتب ولا يقول إلا بقدر حاجة الموضوع دون استطراد يحاول به تمكين المعنى في نفس القارئ أو سامع يخشى أن يفوته القصد
على أنه من الإنصاف أن نقرر هنا أن لغة الجدل الفقهي في مصر قد قطعت شوطاً بعيداً فيما نتمناه لأسلوب الكتابة على وجه العموم
وأول مثل يحضرني أسلوب أستاذي طيب الله ثراه المرحوم أحمد بك لطفي، فقد كانت لغته مرآة مصقولة لفكره الرائق المرتب: ألفاظ سهلة مختارة، وجمل على قدر حاجة الكلام لا أقل ولا أكثر لا تستطيع حذف عبارة منها حتى يختل المعنى وتضيع الفائدة
أنظر إليه يترافع عن الورداني في قضية اهتزت لها جوانب القطر كيف يروي وقائعها في بساطة وسهولة توطئة لبحثه القانوني:
(نزل رئيس الوزارة المصرية يوم الحادث من ديوانه يحيط به كعادته رجال الحكومة حتى بلغوا به سلم نظارة الحقانية ولم يكد يودع مشيعيه حتى ابتدره هذا الفتى فأفرغ فيه عدة
رصاصات طرحته على الأرض يتخبط في دمه؛ أطلقها من مسدس كانت تحمله يد لم تخنها قواها، يقلبه بقلب كأنه قد من الحديد، فأنفذ حشوها فيه كما ينفذ الجلاد حكم القضاء في المنكودين، ولكن مع الأسف لم يكن حول الفقيد يد شهم مخلص مقدام كيد أحمد البحراوي التي أنقذت سعادة حكمدار العاصمة من الرصاص الذي صوب إليه، ولذلك وجدت رصاصات ذلك الفتى سبيلاً إلى جسم رئيس الوزارة)
بل استمع إليه وهو يختتم هذه المرافعة بتوجيه الخطاب إلى المتهم كيف يطلق العنان للعاطفة دون أن يختل ميزان أسلوبه السهل الممتنع:
(أما أنت أيها المتهم: فقد همت بحب بلادك حتى أنساك ذلك الهيام كل شيء حولك. أنساك واجباً مقدساً هو الرأفة بأختك الصغيرة وأمك الحزينة فتركتهما يبكيان هذا الشباب الغض. تركتهما يتقلبان على جمر الغضا. تركتهما يقلبان الطرف حولهما فلا يجدان غير منزل معفر غاب عنه عائله. تركتهما على ألا تعود إليهما وأنت تعلم أنهما لا تطيقان صبراً على فراقك لحظة واحدة فأنت أملهما ورجاؤهما. دفعك حب بلادك إلى نسيان هذا الواجب وحجب عنك كل شيء غير وطنك وأمتك وأخيك فلم تعد تفكر في تلك الوالدة اليائسة وهذه الزهرة اليانعة ولا فيما سينزل بهما من الحزن والشقاء بسبب ما أقدمت عليه. ونسيت كل أملك في هذه الحياة وقلت إن السعادة في حب الوطن وخدمة البلاد، واعتقدت الوسيلة الوحيدة للقيام بهذه الخدمة هي تضحية حياتك: أي أعز شيء لديك ولدى أختك ووالدتك فأقدمت على ما أقدمت راضياً بالموت لا مكرهاً ولا حباً في الظهور. أقدمت وأنت عالم أن أقل ما يصيبك هو فقدان حريتك؛ ففي سبيل حرية أمتك بعت حريتك بثمن غال
فاعلم إذن أيها الشاب أنه إذا تشدد معك قضاتك ولا أخالهم إلا راحميك، فذلك لأنهم خدمة القانون، وهو هذا السلاح المسلول فوق رأس العدالة والحرية. وإذا لم ينصفوك ولا أظنهم إلا منصفيك، فقد أنصفك ذلك العالم الذي يرى أنك لم ترتكب ما ارتكبته بنية الأجرام، ولكن باعتقاد أنك تخدم بلادك. وسواء وافق اعتقادك الحقيقة أو خالفها، فتلك مسألة سيحكم التاريخ فيها وإن هنالك حقيقة عرفها قضاتك وشهد بها الناس، وهي أنك لست مجرماً سفاكا للدماء ولا فوضياً من مبادئه الفتك ببني جنسه ولا متعصباً دينياً، وإنما أنت مغرم ببلدك هائم بوطنك، فليكن مصيرك أعماق السجن أو جدران المستشفى، فإن صورتك في البعد
والقرب مرسومة على قلوب أهلك وأصدقائك، وتقبل حكم قضائك باطمئنان، واذهب إلى مقرك بأمان)
ومثل آخر لإيراد الكلام على قدر المعنى المطلوب تجده في مذكرات صديقي الأستاذ سليمان حافظ المحامي، وأغلب ظني أنه يحتذي إمامنا الراحل. قال في صدر إحدى هذه المذكرات يحدد موضوع البحث ويبين ما سبق من الرأي، وينتهي إلى غرضه من الاستشهاد بحكم محكمة النقض. وهذا كله في أسطر معدودة
(بيعان أحدهما من مورث والثاني من وارث عن عين بذاتها. وبيع الوارث أسبق تأجيلا. فأيهما أحق بالتفضيل؟ وأي المشترين تملك؟ المشترى من المورث أو المشترى من الوارث؟ ذلك هو موضوع البحث ومناط الفصل في هذه الدعوى
قد يقال إن العقد الأسبق تسجيلاً هو العقد الأحق بالتفضيل؛ غير أن نظرية التفاضل بالتسجيل لا محل لها ما لم يكن البيعان صادرين من مالك واحد. وهنا يحق البحث فيما إذا كان الوارث والمورث شخصاً واحداً بمعنى أن الوارث استمرار لشخص المورث، أو أن لكليهما شخصية قانونية مستقلة عن الأخرى؟
وقع الخلاف فيما مضى على هذه المسالة فقال فريق إن شخصية الوارث تكمل شخصية المورث أخذاً بقواعد القانون الفرنسي. وقال فريق آخر إنها مغايرة لشخصية المورث طبقاً للشريعة الإسلامية. وتزاحمت الأحكام بين الرأيين، وانقسم الفقهاء المصريون إلى شطرين، حتى طرحت هذه المسألة أمام محكمة النقض وأصدرت فيها حكمها بتاريخ 3 ديسمبر سنة 1931: أخذ بالرأي الثاني ووضع نهاية للخلاف السابق)
ترجم هذا الكلام حرفاً بحرف إلى اللغة الفرنسية أو إلى الإنكليزية التي اشتهر أهلها بحب الإيجاز فلن يجد فيها الفرنسي أو الإنكليزي أثراً لحشو أو تزيُّد مما يؤخذ على كثيرين من كتابنا
(يتبع)
زكي عريبي
المحامي أمام محكمة النقض والإبرام
خواطر في السياحة
مجاز الشرق والغرب
للأستاذ محمد عبد الله عنان
للسياحة أدب خاص. وربما كان أدب السياحة أقدم أنواع الأدب بعد أدب الأساطير والفروسية. فمنذ القرن الخامس قبل الميلاد نجد هيرودوت أبا التاريخ يجوب أنحاء آسيا الصغرى وفارس والشام ومصر، ويقدم لنا دراسته ومشاهداته في أثر ممتع هو الأول من نوعه. وقد جرى أكابر الرحل والرواد في كل عصر وقطر على تدوين رحلاتهم ومشاهداتهم. ولدينا في تراثنا العربي طائفة كبيرة من الآثار الهامة التي تعتبر وثائق نفيسة عن أحوال العصور التي كتبت فيها والبلاد والمجتمعات التي تناولتها
وقد كانت السياحة من قبل مغامرة محفوفة بالمشاق والمخاطر، ولكنها أضحت في عصرنا هينة ميسورة، بل غدت متاعاً ونزهة بما مهد لها من وسائل المواصلة السهلة الأمينة في البر والبحر والهواء، وتنوعت سبلها ووسائلها ومرغباتها، وأضحت في كثير من البلاد التي حبتها الطبيعة بمحاسنها صناعة قومية تنظم لاجتذاب الموسرين والمترفين
ومن الحقائق المعروفة أن السياحة تذكي الخيال وتلهم القلم؛ ذلك أن السياحة تقدم إلى الكاتب مادة غزيرة من الجديد في كل شيء: في الطبيعة والإقليم، وفي الأشياء والناس، وفي مختلف نواحي الحياة الاجتماعية؛ وهي بما تحمل من متاع للنفس والعين والروح تمد الكاتب بذلك الغذاء الروحي الذي يستمد منه صوره، وتبعث إليه في معظم الأحيان رغبة ملحة في التحدث والإفضاء بما رأى وشاهد
وصلنا إلى مرسيليا بعد أن قضينا في البحر خمسة أيام في جو هادئ وسير ناعم مريح، وأرسينا في الصباح الباكر في مرفئها الشاسع. ومرسيليا ثغر عظيم، ولكنها لا تمتاز عن غيرها من الثغور الكبيرة في مظاهر حياتها ونشاطها؛ بيد أن ما نلاحظه عادة في حياة الثغور من تباين في الناس والمجتمع يبدو في مرسيليا أقوى وأشد وضوحا. فهنالك يلتقي الشرقيون والغربيون من مختلف الأجناس والأمم، وتغص بهم شوارعها ومقاهيها وفنادقها، ولكن هذا المجتمع المتباين يجوز دائماً حياة طائرة غير مستقرة؛ ذلك أن مرسيليا مجاز فقط بين الشرق والغرب، تجتازها الجموع مسرعة، سواء إلى المشرق أو إلى المغرب، ولا
تترك فيها أثراً، ولا تحمل منها ذكريات ذات شأن
وليس في مرسيليا ما يجذب السائح المتجول من المشاهد الاجتماعية ويترك في نفسه أثراً خاصاً سوى حبها الشهير المسمى (الكانبيير فهو قلبها النابض، يضطرم دائماً بحركة زاخرة مستمرة، وتجتمع فيه أهم مرافقها التجارية؛ وهو ثغرها الباسم، يغص من الجانبين بالمقاهي الأنيقة، ويغدو بالليل قطعة من الأنوار الساطعة، ويؤمه المجتمع الأنيق المرح، وهو أشبه الأحياء بشارع عماد الدين عندنا، بيد أنه أكثر منه ظرفا وبهاء
ومما يجدر ذكره أن هذا الحي الأنيق (الكانبيير) كان منذ عامين مسرحا لفاجعة دموية مروعة اهتزت لها أوربا، وكادت تودي بالسالم الأوربي؛ تلك هي مصرع الملك اسكندر ملك يوجوسلافيا، ومسيو لوي بارتو وزير الخارجية الفرنسية الذي كان يرافقه في العربة الملوكية؛ وقد وقع الحادث على مقربة من ملتقى (الكانبيير) بالميناء القديم؛ ورأت الحكومة الفرنسية أن تخلد ذكرى تلك الفاجعة المرسيلية بإقامة نصب تذكاري إلى جانب المكان الذي وقعت فيه، وقد سطرت في رأسه هذه العبارة:(هنا سقط اسكندر ملك يوجوسلافيا، والرئيس لوي بارتو في سبيل قضية السلام والحرية، في 9 أكتوبر سنة 1934)
أما عن المشاهد الأثرية فليس في مرسيليا منها ما يستحق الذكرى سوى أثرين: الأول في داخلها، وهو قصر لونشان، وهو قطعة بديعة من الفن تزين واجهته نافورة ضخمة رائعة الجمال، وتحيط به حدائق عظيمة، نصبت فيها تماثيل عديدة، رأينا منها تمثالاً لمسترال الشاعر البروفنسي الشهير، وأخر لشاعر الحب والجمال الفونسى دى لامرتين
وأما الأثر الثاني فهو خارج الميناء، في جزيرة صخرية صغيرة، وهو حصن (ايف)(شاتوديف) الشهير
وليس لحصن ايف في ذاته أية أهمية فنية أو أثرية، ولكنه يلفت النظر بقواعده وجدرانه المنيعة التي قدت من الصخر الهائل، والتي يتكسر عليها الموج المزبد
وقد ارتبطت بهذا الحصن الصغير الذي أنشأه فرانسوا الأول في أوائل القرن السادس عشر ليكون سجناً سياسياً، ذكريات مروعة، مازالت أوكاره المظلمة الضيقة تحمل أثارها؛ ذلك أن هذه الأوكار السحيقة التي لا يكاد يدخلها شيء من الهواء أو الضوء كانت مثوى لطائفة من أكابر الزعماء والساسة، منهم (ذو القناع الحديدي) الشهير الذي ماسزالت شخصيته
لغزا على التاريخ، والذي يعتقد فولتير أنه أخ غير شرعي للويس الرابع عشر، قضى بسجنه وإخفاء وجهه بقناع دائم حتى لا يعرفه إنسان قط. ومنهم (ميرابو) خطيب الثورة الفرنسية، و (فيليب دورليان) ابن عم لويس السادس عشر، و (لويس فيليب) الذي تولى الملك فيما بعد، وغيرهم من الزعماء والأكابر الذين سطرت أسماؤهم جميعاً فوق الغرف التي سجنوا فيها
ومن ذكريات (ايف) المروعة تلك المخادع الشاسعة المنخفضة التي تسمى (بمخادع النسيان) والتي كان يزج إليها بعض المغضوب عليهم، فلا يذكرهم بعد ذلك أحد من أولى الشأن، وربما تركوا فيها حتى يهلكوا في غمر الظلام والنسيان
بيد أن لحصن (ايف) ذكرى شهيرة أخرى، أوحت إلى اسكندر ديما أعظم قصصه وأبدعها ونعني قصة (الكونت دي مونتي كريستو)
مَن مِن عشاق القصص الرائع لا يعرف (الكونت دي مونتي كريستو) تلك الشخصية العجيبة التي خلقها اسكندر ديما من شخصية أدمون دانتيس سجين شاتوديف؟ ومن ذا الذي لا تطربه وتشجيه محنة أدمون في سجنه السحيق، وقصة اتصاله بالأب فاريا صاحب الكنز العجيب، ثم فراره من أسره الهائل بعد مخاطرات مروعة، وحصوله على كنوز جزيرة (مونتي كريستو) وظهوره بعد ذلك على مسرع الحوادث في ثوب تلك الشخصية الخرافية التي يفيض من حولها الذهب والجوهر؟
في حصن إيف وكر صغير مظلم قد في الصخر، وفيه ثلمة صغيرة تصل بينه وبين مخدع آخر في مثل روعته وظلامه؛ ففي أواخر عهد نابليون زج أدمون دانتيس في المخدع الأول بتهمة مؤامرة ملفقة؛ وكان جاره في المخدع الثاني راهب شيخ يدعى الأب فاريا سجن قبله بأعوام طويلة لأسباب مجهولة؛ ولبث أدمون أعواماً يرسف في وكره، وهو يدبر وسائل الفرار حتى وفق إلى حفر ثلمة صغيرة في جدار كان يظن أنه يفضي إلى فناء السجن أو إلى البحر، ولكنه ألفاه يفضي إلى مخدع مجاور، فتعرف بجاره وشريكه في الأسر، الأب فاريا، ووثقت بينهما المحنة أواصر الصداقة؛ وكان الأب فاريا قد وقف قبل محنته من وثائق كانت في حوزة بعض الأحبار على سر كنز عظيم من المال والجوهر خبأه الكردينال سبادا في جزيرة (مونتي كريستو) على مقربة من الشواطئ الإيطالية، فأطلع
أدمون على سره حتى إذا فر دونه استطاع الحصول عليه
ثم توفي الأب فاريا فجأة؛ وكانت العادة أن السجين المتوفى يكفن ويلقى في البحر، فدبر أدمون وسيلة عجيبة للفرار خلاصتها أنه بعد أن كُفن الأب فاريا، وترك في مخدعه حتى موعد إلقائه، نفذ أدمون إلى ذلك المخدع من الثلمة الشهيرة، ووضع نفسه في الكفن مكان الأب المتوفى، ووضع الجثة في مخدعه؛ وانتظر حتى جاء عمال السجن وحملوه، وهو مستتر بالكفن وألقوه إلى البحر ظناً أنه هو الأب المتوفى؛ فاستطاع أن يخرج من كفنه، وأن يسبح حتى الشاطئ؛ ونجا بتلك الوسيلة العجيبة؛ وسافر إلى الجزيرة، وبحث عن الكنز المنشود حتى عثر به، وتسمى بالكونت دي مونتي كريستو، وعاش في بذخ عجيب، وهو يعمل للانتقام من أعدائه الذين أوقعوا به حتى أفناهم أو نكبهم جميعاً
تلك هي الحوادث والسير العجيبة التي يثيرها منظر ذينك المخدعين المروعين المتجاورين في حصن إيف: مخدع أدمون دانتيس وزميله الأب فاريا
ولقد ذكرنا منظر حصن إيف بحصن أقدم وأروع يماثله في النشأة والغاية هو حصن سانت أنجلو في رومة، وهو معقل هائل يرجع إلى العصور الوسطى، وبه مخادع مظلمة مروعة كانت معقلاً لطائفة من الأكابر، مثل بنفو نوتوتشلليني الفنان الشهير، والعلامة جوردانو برونو؛ وكان مدى عصور سجناً رسمياً لديوان التحقيق (التفتيش) الروماني، وكان مسرحاً لكثير من المآسي الدموية وحوادث الفرار الشائقة
هذا بعض ما أوحته المناظر والمشاهد المرسيلية إلى الخاطر. ومما يجدر ذكره بهذه المناسبة قصة (البقشيش)(البوربوار) التي قرأنا عنها في الصحف قبل السفر، وعلمنا أنها كانت موضع اهتمام خاص من الوزارة الفرنسية الجديدة؛ فقد استصدرت وزارة مسيو ليون بلوم من البرلمان في أوائل يونيه تشريعاً يقضي بإلغاء (البقشيش) في جميع فرنسا، وذلك لما رأته من تغلغل هذا الداء في جميع المعاملات تغلغلاً يجعله أشبه بضريبة غير رسمية؛ وقد اعتقدنا حين وصلنا إلى مرسيليا أننا تخلصنا من هذا الداء المنغص بفضل المسيو ليون بلوم، فإذا نحن واهمون، وإذا البقشيش لا يزال عماد المعاملة في كل خطوة، وكل شيء وكان أول ما لفت نظرنا في الفندق إعلان جاء فيه: إنه نظراً لإلغاء البقشيش فقد رأت الإدارة أن تضيف إلى جملة الحساب عشرة في المائة نظير الخدمة! فتساءلنا عندئذ ما الذي
ألغاه القانون الجديد، وما الذي فعلته وزارة المسيو ليون بلوم؟
ومما يلاحظ الآن في فرنسا بنوع خاص أن الجبهة الشعبية التي تؤيد الوزارة الجديدة تلقى تأييداً شديداً، وأن النزعة الديموقراطية التي كانت قد فترت في العهد الأخير قد عادت إلى حدتها؛ وفي ذلك ما يدل على أن الشعب الفرنسي يشعر اليوم شعوراً قوياً بما يهدد الديموقراطية من الأخطار، ويزمع أن يتمسك بنظمه الحرة العريقة، على رغم ما يعتورها أحياناً من أوجه الفساد والضعف، وأن يدافع عنها ضد تلك النظم الطاغية الهمجية التي تسود اليوم بعض الدول العظمى، والتي تحاول أن تسود أوربا القديمة كلها
بورفاندر (سفح البرنيه) في أواخر يوليه
محمد عبد الله عنان
بمناسبة المهرجان الألفي لأبي الطيب في دمشق
2 -
دين المتنبي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
للأستاذ سعيد الأفغاني
أنتقل الآن إلى الكلام عن اعتقاد أبي الطيب، وهو الموضوع الذي زلت فيه أقدام كثيرين، إما لميل إلى الرجل أو عليه، وإما لاكتفائهم من البحث بأدنى نظرة، وتعلقهم مظاهر من القول دون نفاذ إلى حقيقته ولا تطلع إلى ما حف به من قرائن. والحيطة في هذا ضرورية لمن يريد استنباط أمور من الشعر العربي وخاصة في عصر كعصر أبي الطيب فشا فيه المدح والغلو والتلاعب بالألفاظ، وأصبح كل مادح على مذهب ممدوحه في الأغلب، فإن كان شيعياً أشاد الشاعر بسراة الشيعة ورفع من مقالتهم، وإن كان يقول بالتناسخ مال الشاعر إليه، وان كان معتزلياً أو سنياً فالشاعر معتزلي أو سني. . وهكذا دواليك
فشت هذه الظاهرة من النفاق في الناس وكانت أشد ما تكون في الشعراء، حتى لقد شهد المعري عليهم وعلى عصرهم بذلك؛ وحسب التاريخ شهادة شيخ المعرة، فقد أيدها بالدليل، وأرسل فيها قولاً حكيما يعرف رشده وصوابه كل من أمعن الفكرة، ولم يكتف بالنظرة. قال بعد أن ذكر تنبؤ أبي الطيب والأبيات تدل على تألهه:
(وإذا رجع إلى الحقائق فنطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان، لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق، ويحتمل أن يظهر الرجل بالقول تديناً وإنما يريد أن يصل به إلى ثناء أو غرض؛ ولعله قد ذهب جماعة هم في الظاهر متعبدون وفيما بطن ملحدون. وما يلحقني الشك في أن دعبل بن علي لم يكن له دين، وكان يتظاهر بالتشيع وإنما غرضه التكسب؛ ولا أرتاب في أن دعبلاً كان على رأى الحكمي وطبقته، والزندقة فيهم فاشية ومن ديارهم ناشئة.)
وقال في موضع آخر: (وفي الناس من يتظاهر بالمذهب ولا يعتقده، يتوصل به إلى الدنيا الفانية، وكان لهم (يعني القائلين بالتناسخ) في المغرب رجل يعرف بابن هانئ وكان من شعرائهم المجيدين فكان يغلو في مدح المعز غلواً عظيما حتى قال فيه وقد نزل بموضع
يقال له رقَّادة:
حل برقَّادة المسيح
…
حل بها آدم ونوح
حل بها الله ذو المعالي
…
وكل شيء سواه ريح
فمن الضلال البين إذن أن نلزم أبا الطيب عقيدة ذكرت في شعره عرضاً، إلا إذا صحبتها قرائن تقويها وتدل على اعتقاده إياها. وليس من الصواب في شيء اعتبار الشعر - وحاله ما بيّنا - مصدراً من مصادر التاريخ وما أجهل المؤرخ إذا حكم على أخلاق سيف الدولة أو كافور بشهادة شعر المتنبي فيهما
بهذا الحذر أخوض الكلام في اعتقاد المتنبي مع علمي بأنه لم ينظم شيئاً يبين فكرته في الدين خاصة، وإنما هي أبيات وقعت في جملة شعره، بوسع المؤرخ أن يستأنس بها بعد أن يدرس سيرته
جاء في خزانة الأدب للبغدادي كلام عن اعتقاد أبي الطيب منقول عن الأصفهاني وهذا نصه:
(وهو (أي أبو الطيب) في الجملة خبيث الاعتقاد؛ وكان في صغره وقع إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوّسه وأضله كما ضل. وأما ما يدل عليه شعره فمتلون، وقوله:
هون علي بصر ما شق منظره
…
فإنما يقظات العين كالحلم
مذهب السوفسطائية. وقوله:
تمتع من سهاد أو رقاد
…
ولا تأمل كرى تحت الرجام
فإن لثالث الحالين معنى
…
سوى معنى انتباهك والمنام
مذهب التناسخ. وقوله:
نحن بنو الدنيا فما بالنا
…
نعاف ما لابد من شربه
فهذه الأرواح من جوه
…
وهذه الأجسام من تربه
مذهب القضائية. وقوله:
فإن يكن المهدي من بان هديه
…
فهذا، وإلا فالهدى ذا، فما المهدي؟!
مذهب الشيعة (كذا). وقوله:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم
…
إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل: تخلد نفس المرء باقية
…
وقيل: تشرك جسم المرء في العطب
مذهب من يقول بالنفس الناطقة. ويتشعب بعضه إلى قول الحشيشية، والإنسان إذا خلع ربقة الإسلام من عنقه وأسلمه الله عز وجل إلى حوله وقوته وجد في الضلالات مجالاً واسعاً، وفي البدع والجهالات مناديح وفسحاً.) اهـ
فأبو الطيب في رأى هذا الفاضل: سوفسطائي، تناسخي قضائي شيعي حشيشي. . مجموعة مذاهب لو فُرقت على مملكة عريضة لخربتها في يومين؛ فما الحال إذا اضطلع بها كلها قلب رجل واحد؟
على أن الشواهد التي استند إليها في أحكامه هذه لا تحمل ما حمّلها: فالشاهد الثاني (تمتع من سهاد. . البيت) ليس فيه ما يصرح بالتناسخ. وقوله: (فإن يكن المهدي. . .) يخرجه من الشيعية إخراجاً، لأنه شك في المهدي أول البيت، ثم جعل ممدوحه هو المهدي إن كان هناك مهدي، ثم ختم البيت بهذا الاستفهام التهكمي: ما المهدي!!؟
وإن دل الشاهد الأخير (تخالف الناس. . البيتين) على شيء فعلى تردد أبي الطيب بين القولين وعلى شكه وحيْرته بدليل البيت الذي بعدهما:
ومن تفكر في الدنيا ومهجته
…
أقامه الفكر بين العجز والتعب
والذي استفدناه من كل ذلك أن المتنبي وقع في حداثته إلى رجل من المتفلسفة فهوّسه وأضله، والظاهر أن أثر هذا الأستاذ كان في أبي الطيب بالغاً، فقد بقي ضعف العقيدة وعدم الاعتداد بآداب الدين ملازماً أبا الطيب حتى مات
ومهما يكن فقد ألم المتنبي بكثير من النحل الشائعة في عصره دون اعتقاده بواحدة ما. وذكر بعضها في شعره منزّلة خير تنزيل: مدح طاهراً العلوي مرة فقال:
إذا علوي لم يكن مثل طاهر
…
فما هو إلا حجة للنواصب
والنواصب الخوارج الذين نصبوا العداء لعلي
وذكر المانوية أصحاب الاثنين الزاعمين أن الخير كله من النور وأن الشر كله من الظلام فقال:
وكم لظلام الليل عندك من يد
…
تخبّر أن المانوية تكذب
وعرض لذكر المجوس ومذهبهم في نكاح الأخوات حين أراد الثناء على حسن امرأة ود أخوها لو كانت تحل له لفرط جمالها فقال:
يا أخت معتنق الفوارس في الوغى
…
لأخوك ثَمّ أرق منك وأرحم
يرنو إليك مع العفاف وعنده
…
أن المجوس تصيب فيما تحكم
ووقع في شعره ذكر كلمة يصح أن يتعلق بها من يريد جر أبي الطيب إلى طائفة ما، وهي كلمة (الوصيّ) في قوله:
هو ابن رسول الله وابن وصيه
…
وشبههما شبهت بعد التجارب
وقوله:
وتركت مدحي للوصي تعمداً
…
إذ كان نوراً مستطيلاً شاملاً
وقد فرغت من بيان أن مثل هذا لا يدل على شيء، ولا ينهص دليلاً ولا بعض دليل، لجريان عادة الشعراء بمجاراة الممدوح في عقيدته ورأيه
وبعد، فإن لم يكن للحكم على دين المتنبي مجال في شعره، ففي تلك الشناعات القبيحة التي زجه فيها الغلو في المدح حتى قل أدبه مع الله ومع رسله وكتبه، حين زعم لممدوحيه علواً يرفعهم إلى ذلك المستوى. والمدح متى جاوز الواقع فهو محظور في كل الأديان فكيف إن بالباطل وإلى التغالي. دع ما يريق من ماء وجه المادح وما يكسر من عزته ويضيع من كرامته. ومتى كان مسلما من لا حياء له ولا عزة ولا كرامة؟
وودت والله لو أن شعراءنا هجروا هذا الباب، باب المديح، مرة واحدة بمحاسنه ومقابحه، وشغلوا عنه بغيره من فنون القول الواسعة، فما هو بالفن المشرف ولا المأسوف عليه إن فقد. وقد حفظ الأدب العربي كثيراً من المبالغات الممقوتة والغلو الشنيع، ولكن ما في ديوان أبي الطيب وحده هو بكل ما في مكتبتنا قبحا وشناعة وإساءة أدب:
مرة يحاول السجود لممدوحه فلا يكفه إلا الزجر:
طلبنا رضاه بترك الذي
…
رضينا له فتركنا السجودا
ومرة يشرك هذا الممدوح بالله فيقول:
ما يرتجي أحد لمكرمة
…
إلا الإله وأنت يا بدر
ويقول:
ترى القمر والأرض والملك الذي
…
له الملك بعد الله والمجد والذكر
ويقول:
إذا بقيت سالما أبا علي
…
فالملك لله العزيز، ثم لي
ويقول:
أنا مبصر وأظن أني نائم
…
من كان يحلم بالإله فأحلما
ويقول:
تتقاصر الأفهام عن إدراكه
…
مثل الذي الأفلاك فيه والدنا
يعني الله سبحانه. ويستخف تارة بالمصطلحات الدينية استخفافا ظاهراً فيقول:
يترشفن من فمي رشفات
…
هن فيه أحلى من التوحيد
وقد أرادوا تأويل هذا البيت فكان التكلف والتعسف ظاهريْن في تأويلهم. وقال:
وأعطيت الذي لم يعط خلق
…
عليك صلاة ربك والسلام
وجعل ممدوحه أعظم معجزات النبوة في قوله:
وأبهر آيات التهامي أنه
…
أبوك وأسمى مالكم من مناقب
وهو لا يرى لممدوحه شبيها أبداً فيقول:
لم يخلق الرحمن مثل محمد
…
أبداً وظني أنه لا يخلق
ويقول:
إن كان مثلك كان أو هو كائن
…
فبرئت حينئذ من الإسلام
وانظر هذا الغلو الممقوت في قوله:
لو كان علمك بالإله مقسما
…
في الناس ما بعث الإله رسولا
لو كان لفظك فيهمُ ما أنزل ال
…
قرآن والتوراة والإنجيلا
وفي قوله:
أو كان صادف رأس عاذر سيفه
…
في يوم معركة لأعيا عيسى
أو كان لج البحر مثل يمينه
…
ما انشق حتى جاز فيه موسى
يا من نلوذ من الزمان بظله
…
أبداً ونطرد باسمه إبليسا
وهذا الهذيان ما معناه؟
يأيها الملك المصفى جوهراً
…
من ذات ذي الملكوت أسمى من سما
نور تظاهر فيك لا هو تِيُّهُ
…
فتكاد تعلم علم ما لن يعلما
وهو حيناً كالمسيح (ما مقامي بأرض نخلة. . . البيت)
وحيناً كصالح (أنا في أمة. . . البيت) ولا يخجل بعد هذا الادعاء أن يضرع إلى من سجنه بهذه العبودية:
أمالك رق ومن شأنه
…
هبات اللجين وعتق العبيد
هو من حداثته مهوس مضلل لم يستنر قلبه بنور عقيدة، ولا شعر صدره ببرد يقين. فلم ينشأ تنشئة دينية في صباه، ثم طرح إلى هموم الحياة وأتعابها فاضطر إلى التكسب بالمدح من صغره، وشغل عن عبادة الله والتدين بعبادة الناس والمال لهذا السبب، لا (لأنه صاحب مطامع دنيوية وعقل موكل بالأعمال والوقائع لا بالعقائد والعادات) فليس هناك تناف بين التوكيل بالأعمال والتدين، ولم يخل المتدينون يوماً عن مآرب ومطامع في هذه الحياة
وهذا وليس للمتنبي فلسفة إلهية حتى نقول إنه استهان بالدين تفلسفا؛ وليس لعقله ما لعقل أبي العلاء من مواهب تؤهل صاحبها للنظر والحكم في المقالات والمذاهب، بل هو في هذا الاستخفاف الذي نم عليه شعره لا يترفع كثيراً عما نرى عليه بعض العامة المستخفين
كان إلى جانب المحن والثورات الداخلية التي منى بها المسلمون في القرن الرابع غارات أجنبية متواصلة تشن على ثغور المسلمين؛ وكان أمراء العرب في تأهب مستمر لرد هذه الغارات فيظفرون تارة وتارة يغلبون، وسيف الدولة أحد هؤلاء الأمراء الذين أصلوا الروم بنيرانهم وشغلوا برد غاراتهم
ونزعة الحروب في الشرق - قديما وحديثا - دينية أبداً ما تغيرت يوما من الأيام، إلا أن الروم كانوا في القرن الرابع الهجري صريحين، لم يهتدوا بعد إلى هذا الطلاء الكاذب الذي أسموه تمدينا بعد عشرة قرون
وشاعرنا أبو الطيب شارك سيف الدولة في جهاده الديني فقاتل بجسمه وتعرض للخطر، وناضل بلسانه. وفي شعره من مواطن الغيرة على الدين وأهله من تسلط الروم ما يحمل المنصف على عدها في حسناته، كان يرى هذه الحروب كما كان يراها غيره من أهل زمانه وكما هي في الواقع - دينية لا قومية، وهذ1 هو الفارق بينها وبين حروب سيف
الدولة مع خصومه من الأمراء. فكانت قصائد أبي الطيب التي يصف فيها هذه الحروب تطفح بالحمية الدينية والنزعة الإسلامية، فهو يثني على سيف الدولة الذي هزم الدمستق وأنقذ المسلمين من إكراه الروم لهم على الردة فيقول:
فخرُّوا لخالقهم سجداً
…
ولو لم تغث سجدوا للصُلُب
ولم تعجبه هدنتهم مع الروم فقرعهم ومدح سيف الدولة لتدينه فقال:
أرى المسلمين مع المشرك
…
ين فإما لعجز وإما رهب
وأنت مع الله في جانب
…
قليل الرقاد كثير التعب
ومن هنا تلقيبه سيف الدولة بسيف الرب وسيف الدين في أقواله:
أيا سيف ربك لا خلقه
…
ويا ذا المكارم لا ذا الشطب
يا سيف دولة دين الله دم أبدا
…
وعش برغم الأعادي عيشة رغدا
يا سيف دولة ذي الجلال ومن له
…
خير الخلائف والأنام سميا
خضعت لمنصلك المناصل عنوة
…
وأذل دينك سائر الأديان
ونعته بنفرته الشديدة من الردة وتعلقه بالإسلام فقال:
كأن سخاءك الإسلام تخشى
…
إذا ما صلت عاقبة ارتداد
وهو رجاء الإسلام والموقي من الرحمن ونصير التوحيد:
ولست مليكا هازماً لنظيره
…
ولكنك التوحيد للشرك هازم
هنيئاً لضرب الهام والمجد والعلا
…
وراجيك والإسلام أنك سالم
ولمْ لا يقي الرحمن حديك ما وقى
…
وتفليقه هامَ العدا بك دائم
أبو الطيب يذهب أبعد من هذا: لا يكتفي باستنكار سلطان الروم على قومه، بل يأنف لهم أن يحكمهم مثل كافور، وإن كان مسلماً مثلهم، ولا يرضيه سكوت الناس عليه؛ ويغضبه أن يعظموه فيصرخ فيهم هذه الصرخة ويعرض بأم كافور:
نُوَببيّة لم تدر أن بنيها ال
…
نوبي دون الله يعبد في مصر
ثم يرسلها ملعلعة تتنزى بالألم والحسرة والأسف على ما صار إليه الإسلام فيقول:
سادات كل أناس من نفوسهم
…
وسادة المسلمين الأعبد القزم
رحم الله أبا الطيب! ما تراه كان قائلاً لو بُعث اليوم فشاهد ما نشاهد! إذن لرأى هؤلاء
الأعبد القزم شرفاء قياساً إلى غيرهم، بل أنبياء
لصاحبنا إزاء ما تقدم من أبيات يأباها الدين والعقل، أبيات أخرى هي من صميم الدين وروحه، يتقاضاني الإنصاف ذكر شيء منها كما ذكرت تلك، فقد نص في بعضها على أنه لا يخضع لمخلوق أبداً
تغرب لا مستعظماً غير نفسه
…
ولا قابلاً إلا لخالقه حكما
وقد جعله أبو العلاء بهذا البيت من المتألهين. ويعترف بتصرف الله المطلق في الكون:
ألا إنما كانت وفاة محمد
…
دليلاً على أن ليس لله غالب
وأن الله هو الملحوظ في كل فعل وحركة:
فأنت حسام الملك والله ضارب
…
وأنت لواء الدين والله عاقد
وهذا البيت ينظر إلى قول الله مخاطباً نبيه: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وهو يجعل شكر الله واجباً في دوام النعمة حين قال في ممدوحه:
مقلداً فوق شكر الله ذا شطب
…
لا تستدام بأمضى منهما النعم
وكما أبى قبول الحكم من غير خالقه أبى الشكوى إلى الناس وهذا غاية ما يأخذ به الموحد نفسه:
ولا تَشَكّ إلى خلق فتشمته
…
شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
ولنذكر أن صاحب دمشق وكان يهودياً يعرف بابن ملك حمل المتنبي على مدحه فأبى أنفة، وكذلك فعل مع ابن كيغلغ وكان رومياً
هذا ما رأيت في شعر أبي الطيب من تعلق بالدين سلباً أو إيجاباً، ذكرته على حقه بحرية وصراحة. أما سيرته العملية فقد ذكروا له أخلاقاً يحمده عليها الدين وهي عفة المذهب والصدق. وقد كان المتنبي - كما ذكروا - لم يؤثر عنه فسوق قط. وقوله
إني على شغفي بما في خمرها
…
لأعف عما في سراويلاتها. . الخ
صحيح كل الصحة في الدلالة على عفته، فقد أيدته سيرته طول حياته. وكذلك في التزامه جانب الصدق:
ومن هوى الصدق في نفسي وعادته
…
رغبت عن شعر في الرأس مكذوب
ثم ذكروا له خلالاً ثلاثاً دلت على أن الرجل لم يأخذ نفسه بشيء من التكاليف الشرعية، أي
لم يكن مسلماً بالعمل. قال أبو حمزة البصري:
(بلوت من أبي الطيب ثلاث خلال محمودة: هي أنه ما كذب ولا زنى ولا لاط، وبلوت منه ثلاث خلال مذمومة وهي أنه ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن.)
فإذا أضفت إلى ذلك ما تعرف في سيرته من البخل والتعاظم وسلاطة اللسان، وأن له في القذف فحشاً ما عرف أقبح منه ولا أدنس، استقام لك من كل ما قدمت رأي لعله أن يكون أقرب الآراء من صواب
وأنا لست أقول فيه ما قالوا من أنه: (خبيث الاعتقاد قد خلع ربقة الإسلام) ولا أتكلف له التأويل والمحال، فقد قدمت الإشارة إلى بطلان المذهبين معاً
ولكني ألاحظ أنه شاعر، والشاعر كثيراً ما يبيع دينه بدنيا غيره، فإن خرج على الإسلام في غلوه فما قصد إلى هذا الخروج قصداً، وإنما أراد الزلفى عند الممدوح، فأداه الغلو إلى الخروج
وليس من الحق أن نحكم على آخرة رجل بنزوة كانت منه في الحداثة، أو حماقات صدرت في فترات من حياته. ومن ذا زعم أن أبا الطيب كان يعتقدها اعتقاداً حتى نجعله بها صاحب مذهب في الدين، وقد علمنا أن عقله لم يفرغ لهذا قط؛ فمن سره أن يجر النوابغ المشهورين إلى طائفة بالسلاسل والأغلال، يكثر بهم سوادها فما أراني مضطراً إلى شيء من هذا، وقد فرغ أهل البصر من هلهلة هذه الطريقة التي سلكها بعض المؤلفين الحديثين في كتب التراجم جهلاً وعصبية، فما هي إلى علم ولا إلى أمانة. والحكم على دين رجل أبعد منالا من أن يكتفي فيه بورود اسم هذا الدين في كلامه، فما بالك إن كان ذكره له مجاراة أو حكاية أو ردا أو شتيمة؟
وقد ذكر المتنبي في شعره هذه الديانات: المانوية، المجوس، اليهود، النصارى. . . الخ أفيستقيم في هذا الزمان أن ينهض منتسب إلى العلم فيعد أبا الطيب مانوياً أو مجوسياً؟
إن العلم والأدب أمانة، فلينظر قارئ في كتاب ما ترك مؤلفه من عقله وأمانته وما أخذ
أما أنا فأستطيع الآن بعد ما قدمت من بحث تحريت فيه بجهدي، ودعمته بما رأيت من برهان أن أرسل كلمتي مطمئناً في دين أبى الطيب فأقول:
آمن لسانه وتخلف عمله، ولم يكن الدين همه يوما من الأيام
(دمشق)
سعيد الأفغاني
في النقد أيضاً
بقلم محمد مظهر الجلاد
إلى الأساتذة الأكابر:
كان للفصول التي كتبتموها في النقد أثر كبير في كشف غوامض العلل التي أصابت الأدب والنقد معاً، وما أراني تكلفت الصبر في شيء كما تكلفته في انتظار (الرسالة) حين كتابة هذه الفصول. وإني لها لعلى انتظار واشتياق
كتب الأستاذ الزيات مقالين في (الرسالة) افتتح بأحدهما باب النقد واختتمه بالآخر، وكانت بينهما معركة، وكانت بينهما نفحة من نفحات النصر الجميل تخطَّر لها الأدب، وانتعش بها النقد، والتذت بها الفكرة؛ حتى إذا تمتع الطرف، وأرهف الحس وثارت العاطفة علا هُتاف الإلهام يقول: ألا إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها
كتب الأستاذ أحمد أمين مقالين ألقى فيهما مسؤولية النقد على الشيوخ ردَّ في غضونهما الدكتور طه حسين على الأستاذ الأمين؛ ثم كتب الدكتور هيكل فصلاً رمى فيه تبعة النقد على الشباب، ثم ختم الأستاذ الزيات مقاله قائلاً:(الحق إن ركود الأدب وفوضى النقد لا يرجعان إلى الشيب ولا إلى الشباب، وإنما يرجعان إلى تهريج الصحف وكسل الكتاب)
وأنا لا أجد بأساً من التعليق المجمل على ما كتبه السادة الأدباء في هذا الموضوع، لا لأني سأزيد على ما كتبوه شيئاً لم يكن، وإنما هي كلمة الأستاذ الزيات أثارت في نفسي شيئاً حملني على الكتابة، ووجدتني مضطراً إلى التعبير عن هذه الثورة، وألجأتني إلى الخجل والاستحياء من أساتذتي الكرام، حيث كتبت فيما يكتبون، في حين أن البون شاسع بيني وبينهم؛ غير إني لم أنس أيضاً أن للتلميذ حقاً كما أن للأستاذ حقاً، ولكل منا مقام
أبدع الأستاذ الأمين فيما كتب؛ غير أني أعتقد أن علة النقد ترجع إلى أساسين اثنين: أحدهما العلم، وثانيهما الخُلُق. فأجاد هو في شرح أكثر الأول، ولا أدري علامَ أرجأ الثاني. إنه سطوة الهوى، وفتنة الغرور، وغلبة العاطفة
إن الأدب والذوق والعلم عدة النقد الكافية، وإن هذا الأدب والذوق والعلم ليثقف العقول ويرهف المشاعر، وإن هذه العقول وهذه المشاعر لتبدع النقد، وتجيد التمحيص، وتعرف موضع الداء والدواء. وبقي أن نعرف أن هذه الملكة الأدبية الصافية قد تتحوّل عند النقد
أحياناً أو أبداً إلى ملكة نفسية تتصرف بالقلم لا كما يشاء الأدب والفن، بل كما يشاء الغرور وكما يريد الهوى
ليت شعري أي رجل من الرجال يتقلد مفاتح النجاة من حق فاضح، وحكم صحيح، ونقد نزيه، ثم لا يفر من خصمه بأي أساليب الحيلة شاء، وبأي ضروب القول أراد، إذا لم يؤت سَعَة في الصدر وقوة في الخُلق ترغمه على قبول الحق مهما يكن مُراً؛ ولاسيما من أوتي قوة الجدل المنطقي والحوار اللانهائي
أين ذلك الخُلق الذي يقول: أخطأ عمر وأصابت امرأة: هناك ناس يخبطون في النقد خبط عشواء، فلا يحملون في نفوسهم غير الضغينة، ولا تعرف ألسنتهم غير البذاء. وكم يتعجرف هؤلاء وكم يجدون لأنفسهم من مكانة، ولأدبهم من شعر وفن وجمال، ولنقدهم الصحة والدقة والذوق؛ فهم يتطاولون ليجثموا فوق القمر، ويجلسوا على النجم، ليكون للناس منهم نصيب وافر وحظ عريض
وهناك من ينقد عن بصيرة وعلم، فهو يفتش عن علل العيب في خصمه، لا لينقده ويرشده إلى الصواب، بل ليحط من قدره وينال من كرامته. فأنت تجد في نقده الصحة والذوق والسمو، ولكنك لا تجد طهر السريرة ونزاهة النقد. على أن هناك أساتذة أدباء وهبهم الله العلم والذوق والخُلق الجميل يكتبون بلغة الناس وروح السماء، لا تكاد تقرأ لهم شيئاً حتى تخال نفسك طائراً ملائكياً يسبح في عالم الجمال، فيه الملائكة والروح تتنزل بإذن الله على من يشاء من عباده
لابد من الأخلاق في هذا الموضوع إذن، وإنها لمن أكبر ضروراته وأعظم مميزاته؛ وأنا أعرف أن النقد شيء والخلق شيء آخر، ولكن شدة الصلة بينهما وقرب الوشيجة دعواني لربط أحدهما بالآخر، وما أرى أن أحداً ينكر عليَّ هذا
وأرى أيضاً أن في النقد الحاقد المشوه هدماً لكيان أمة برمتها وسبباً من أسباب الأحن الفتاكة التي تكبر وتكبر حتى لكأنها دولة فيها الجند والأسطول والمدفع والغاز لا تهدأ إلا لتثور، ولا تخمد إلا لتستقر، وهكذا دواليك
لعل قائلاً يقول: إن النقد اللاذع يبعث على النضج الأدبي السريع إذ تشحذ الأذهان، وتبرى الأقلام، وتلتهب الغيرة، ولن يتاح هذا الإنتاج السريع بهدوء النفس وفتور المشاعر، فنقول
له: إن ما يخسره الأدباء من الصلة الأدبية بينهم وما يكون من اجتماعاتهم وروابطهم حيث تعطى عصارة الرأي وناضج الأدب وصرف الجمال، أكبر من الربح السريع فيه معاني التجزئة، وحقيقة التشويه، وذل الأمة
النقد النزيه وحده كاف لأن يكون أثراً فعالاً وقوة ريّضة لإيقاد الشعور وتحفيز الهمة. ولِمَ لا وقد يجد المنقود في النقد النزيه أخاً يجادله في حب، ويناظره في لين، ويكاتبه في ابتسام وسرور. وكم يجد لعزائه من سلوة حينما يجد ناقده النزيه يكشف له عن عيبه في رقة وعن خطئه في إشفاق. ولا تنس أن ذكر المحاسن في النقد والتماس التشجيع في امتداح الجودة وشكر الجميل وسيلة كبرى في نشر الثقافة ورقي الأدب وانتصار النقد
قد يحجم أكثر المتأدبين عن النقد ويركنون إلى الدعة والراحة إذا ما رأوا كاتباً من الكتاب يحترق في لهيب النقد الغاضب راضين من الغنيمة بالإياب، وتلك هزيمة منكرة تشنها الفوضى الأخلاقية على العقل والعلم والأدب والنقد جميعاً، كما أني لا أقصد الإفراط في التلطف والشكر على قبيح يشوه حقيقة النقد من أجل رعاية الخلق والأخلاق. لا. وإنما أريد الاعتدال والنصفة، حيث يلتقي كلا الخصمين على شاطئ الإخاء يقودهم الأدب إلى حيث اللقاء الدائم والصفاء المستمر
محمد مظهر الجلاد
شعراء الموسم في الميزان
نقد وتحليل
للأديب عباس حسان خضر
- 4 -
ميلاد الرسول
كانت هذه القصيدة من أقوى العمد التي قام عليها نجاح الموسم، وقد عرف الأستاذ محمد الأسمر كيف يحكم فيها الصلة بين وجدانه ووجدان المستمعين باختيار الموضوع، وحسن الالقاء، وبراعة التأدية. وإذا كانت الطبيعة الشعرية خصبة، وكان التعبير عما تنتجه، وتوصيل هذا التعبير إلى (مستهلكي) الشعر جيدين، فقد بلغ الشاعر ما يرمي إليه من غرض الإجادة. فما حظ هذه القصيدة من ذلك؟ إليك منها في وصف يوم ميلاد الرسول:
يوم أغر كفاك منه أنه
…
يوم كأن الدهر فيه تجمعا
ويكاد غابر كل يوم قبله
…
يثني إليه جيده متطلعا
فلو استطاع لكر من أحقابه
…
وثبا على هام السنين ليرجعا
ويكاد مقبل كل يوم بعده
…
ينسل من خلف الزمان ليسرعا
فلو استطاع لجاء قبل أوانه
…
وانساب يخترق السنين وأتلعا
تتنافس الأيام في الشرف الذي
…
ملأ الوجود فلم يغادر إصبعا
فانظر كيف يمثل الزمان في ركب يبرز في وسطه يوم الميلاد كأنما هو المقصود من الدهر كله، فالأيام قبله تتطلع إليه وتود الرجوع إليه، والأيام المقبلة توشك أن تفلت من نظام الركب لتسرع اليه، وكلها تتنافس لنيل شرف الميلاد النبوي، ومجمع هذه المعاني قوله:(كأن الدهر فيه تجمعا) فهذا التعبير في تفرعه إلى تلك المعاني يشبه مقذوف النور الذي ينبعث في الجو على شكل شرارة مقتضبة، فلا يلبث أن ينبسط متفرعا إلى شجرات أو طائرات أو غير ذلك، وهكذا يكون في المولد النبوي!
فهذه الطبيعة التي تنتج هذا الخيال، هي - ولا شك - صالحة لإنتاج الشعر الذي تتم جودته بمثل ذلك التبيين الذي يزاوله
ومن أبيات القصيدة التي لا تصدر إلا عن طبيعة فنية قوله:
والحق أخفى ما يكون مجردا
…
وتراه أوضح ما يكون مدرعا
بعد أن تنظر إلى التركيب من حيث تأديته للمعنى التأدية العادية، قف عند كلمة (أوضح) فهي بعد أن تعبر عن وضوح الحق والانصياع له إذا كانت تلابسه القوة، تومئ إيماءة لطيفة إلى وضوح الحق ملبساً بالدروع الملتمعة
وقوله معبراً عن زوال ملك فارس والروم بالفتح الإسلامي:
من لم تزعزعه العواصف قبلها
…
بعثت له بنسيمها فتزعزعا
فقد صور الشاعر روح الشريعة السمحة وما تشمله من لطف ورقة بالنسيم، ولكنه أوضح أن النسيم الإسلامي كان قوياً في لطفه ورقته قوة زعزعت ما تقاصرت عنه عاتية العواصف
والأستاذ الأسمر يسوق المعاني في الألفاظ، فتطربك من ذلك وحدة مركبة، وهذا قوله في مطلع القصيدة:
فجر أطل على الوجود فأطلعا
…
شمسين شمس سنا وشمس هدى معا
ظلت مطالع كل شمس لا ترى
…
من بعده شيئاً كمكة موضعا
قبس من الرحمن لاح فلم يدع
…
لألاؤه فوق البسيطة موضعا
فليس من الميسور الفصل بين جمال هذه المعاني وجمال قوالبها
ومن الغريب أن القصيدة مع تجاوز معظمها أصل الموضوع وهو ميلاد الرسول قد جاءت وحدة منسجمة، فقد تخلص الشاعر - بعد نحو ثلث القصيدة - من القول في ميلاد الرسول إلى الإفاضة في الدعوة الإسلامية ومدح الرسول: فذلك الخير الذي أصاب الناس بميلاده، والسنا الذي أزاح الله به الظلمات قد
وافى وليل الجاهلية مطبق
…
فإنجاب عن جنباتها وتقشعا
ومن هنا ينقطع الحديث عن الميلاد الذي هو موضوع القصيدة، ويشغل معظمها مدح الرسول والإشادة بدعوته؛ ولكن ما غاية الميلاد؟ أليست وجود هذا الرسول العظيم، وأثر دعوته للناس إلى الهدى؟ قد يقال هذا، وقد تكون عليه مسحة من الوجاهة، ولكن كان ينبغي أن يكون أكثر القصيدة في أصل الموضوع. ولن يخدعنا الشاعر عن ذلك بصنعته في جمع
الشتات والتأليف بين الأجزاء
وفي القصيدة كثير من المعاني المطروقة التي اعتورها جمهور الشعراء قديماً وحديثاً، حتى أصبحت (منافع عامة) كقوله:
نادى إلى الحسنى فلما أعرضوا
…
واستكبروا شرع الرماح فأسمعا
والحق أعزل لا يروع فإن بدا
…
مستلئما لاقى الطغاة فروعا
وقوله:
بعض الأنام إذا رأى نور الهدى
…
عرف الطريق، ولم يضل المهيعا
ومن البرية معشر لا ينتهي
…
عن غيه حتى يخاف ويفزعا
التجديد والتقليد
الأستاذ محمد الهراوي على رأس المحافظين من الشعراء، فهو يسخر من دعوة التجديد، ويعلن هذه السخرية في هذه القصيدة. على أنه يجب أن ينصف نفسه، فما أظنه يكره التجديد في ذاته، وإن كان يحمل على أدعياء الجديد الذين يسترون سخفهم بدعوى التجديد. . ولما كان هؤلاء قد ملأوا الجو بصيحاتهم الجوفاء، فقد أصبح التجديد في نظر الشعراء كلمة مقرونة بذلك السخف، وأصبح السخف من مدلولات التجديد! والحق أن التجديد مظلوم بين هؤلاء وهؤلاء. ويشير الأستاذ الهراوي إلى ريبته في الجديد بقوله:
يا قادة الرأي الجديد تحية
…
لو صح زعمكمو، وألف سلام
فهو يرتاب في زعمهم أنهم مجددون، وأنهم قادة الرأي الجديد. وهو في القصيدة كلها يفند دعاواهم في التجديد، ويردها إلى تقليد الغربيين: فالقصص ليست جديدة، فأسواق الغرب مزدحمة بها، على أن مهد القصة هو الشرق، وهذه قصص ألف ليلة وليلة والشهنامة قد نشأت فيه، وهذا القرآن زاخر بالقصص السامية
وملاحم اليونان أهي جديدة
…
وحديثها من قبل ألفي عام
أتعيد ثرثرة الحديث مجدداً
…
ونرده لخرافة الأصنام
ثم جعل الأستاذ الهراوي يتهكم على تعبيرات (المجددين) بقوله:
فتقول: (في اثنين يوم) مثلهم
…
لا (في مدى يومين في الأيام)
وتقول: (مثل الثلج غرة وجهه)
…
لا (مثل وجه البدر حين تمام)
وتقول: (مثل الأرز مبسم ثغرها)
…
لا (الدر في نسق وحسن نظام)
وتقول: (أوكازيون) يا من يشتري
…
وتقول: هذا السعر (للركلام)
وفي هذه الأبيات ركاكة مرجعها العبارات التي يحكيها عن (المجددين) فالإسفاف في الأصل، وناقل الإسفاف ليس بمسف، والشاعر يهجو بهذه الأبيات صنيع المجددين؛ ويقولون:(إذا هجوت فأضحك) فهو ينحو فيها منحى الفكاهة، وهذا المنحى يقتضي التبذل في التعبير. واستمع إلى ما قاله بعد ذلك، وقد جد الجد:
أنكرتمو الأعلام في أوطانكم
…
في ذكر ما للغرب من أعلام
فكأنما الغربي في آدابه
…
هو وحده المختص بالأحكام
ماذا من التجديد في تقليدهم
…
غير الرجوع لأظلم الأيام
لم يضربوا مثلاً لنا من صنعهم
…
بكراً ولا جاءوا برمية رام
لقطوا فتات الأجنبي وأقبلوا
…
يتلمظون لنا بشبه طعام
ورموا بما التقطوا كأنا عندهم
…
قطط الموائد تكتفي بعظام
هذا هو (الكلام الجد) يقوله (زعيم المحافظين)
إلى هنا ينتهي شأن الشاعر مع المجددين، ويبتدئ مع النقاد شأناً آخر، فيقول:
مالي وللنقاد أسمع رأيهم
…
ما قادني عقلي إلى الأوهام
لي خطة وحدي وملء عقيدتي
…
رأيي وعقلي رائدي وإمامي
وطني هو المملي عليّ قصائدي
…
جددا وشعري لوحة الرسام
فكيف لا يسمع رأي النقاد؟ وهل خطة الشاعر ورأيه وعقله وإملاء وطنه عليه قصائده - هل هذه الأشياء تمنع من سماع رأي النقاد؟
وطني
قبل أن أسطر هذه الكلمات محوت كلمات وسطوراً، إذ أنني عند ما شرعت أكتب عن هذه القصيدة شككت في كل كلمة كتبتها، فأنا أريد فيما أكتبه عن هذه القصيدة خاصة أن أطبق المفصل، كما يقولون، فليس ينبغي إلا أن يقال عنها مثل ما قيل فيها. . ولعل هذا إيحاء من القصيدة وما صنعه فيها الأستاذ محمد الهيهاوي من الدقة والتجويد، وليس هذا كل ما صنعه، وليس هو فحسب الذي أوحى إلى المهابة، إن الذي أوحى إلى المهابة هو ما أُوحىَ
إلى الشاعر من المعاني السامية والروائع الوطنية التي ضمنها القصيدة، والتي ألهمته إياها مصر، كما قال:
أبدا يلج بك الحني
…
ن لذات ملهمة الحنين
فجعل يبعث إيحاءه إلى النفوس فتمتلئ بما امتلأت به نفسه وتتأثر بما تأثرت به. وهاهو ذا يقول فيما تعانيه مصر من سالبي حريتها:
قل للذي بر اليمي
…
ن على يديه ردى اليمين
أضنى المئين من الوعو
…
د الخلف أو فوق المئين
أنت الذي أفتى السجي
…
ن بحسن منقلب السجين
وضع القيود وقال ما
…
أشجى رنينك من رنين
فاشرب على شدو الحدي
…
د حلاوة الرق الحنون
واغنم رخاء الطوق جا
…
ور حبله حبل الوتين
فترى في هذا الشعر آلام مصر مصورة تصويراً دقيقاً، تنتظمه الروح المصرية الصميمة، تكسو كل ذلك أردية عربية متينة. وقوله:(فاشرب على شدو الحديد. . الخ) من الشعر المرقِص
وقد ظهر لي مأخذ في الأبيات الآتية، وهو من المآخذ التي لا تظهر إلا في الشعر الجيد، قال يخاطب مصر:
أجريت فيض مدامع
…
من نيلك الباكي الحزين
حمراء حيناً كالدم ال
…
جاري على الداء الكمين
فإذا تطامن جأشك ان
…
هملت كصافية الشؤون
فهو يقول إن المدامع تكون حمراء في حين، ولم يبين هذا الحين، ثم يقول إذا تطامن الجأش انهملت الدموع صافية، فكيف تنهمل الدموع في حالة سكون الجأش؟ إن الدموع لا تكون إلا في حالة الاضطراب وجيشان العاطفة، أما احمرارها وصفاؤها فيكونان على درجتين من درجات الاضطراب؛ على أن الصفاء لا يقابل الاحمرار ولا يقاسمه، فقد يكون الأحمر صافياً والصافي أحمر
أنة شاعر
وهذا شاعر يئن من هجر حبيبته، وهو الأستاذ محمد عزيز رفعت، والقصيدة كلها مبنية من الكلمات والعبارات المبتذلة التي كثر استعمالها في الشكوى من فعل الجوى وتبريح الصبابة، يقول:
أشكو هوى بين الجوانح شفني
…
في هجعتي - سقماً - وفي يقظاتي
وتظهر في بعض أجزائها محاولة الإجادة، وتبدو في قليل من أبياتها مخايل الشعر كقوله:
عبثاً شكوت فيا لصب مغرم
…
لم يجن غير اليأس من ثمرات
(واليأس إحدى الراحتين) لو أنني
…
لما يئست ذهلت عن صبواتي
وفي القصيدة ركاكة في الأسلوب، وتكلف في النظم، وأخطاء في بعض المعاني والألفاظ؛ قال:
واسود وجه الرأي لا لي حيلة
…
لنوال عطفك أو لكبت وشاة
النوال: العطاء، وهو يريد النيل مصدر نال ينال، فاستعمال النوال هنا خطأ
وركاكة البيتين الآتيين لا تحتاج إلى بيان، قال:
وصددت عني حين أنت مدينة
…
بالعهد عهد سرائر المهجات
وقطعت لأرسل إليك شفيعة
…
لي في رضاك ولا صدى هتفاتي
وما معنى قوله: (ولا صدى هتفاتي)! أيعني أن صدى الهتفات لم يشفع في رضاها؛ وكيف يشفع الصدى؟!
ويقول:
والله واليوم الأخير ووقفة=لله أنذرها على عرفات
لو كنت في نزع المنون مخيراً
…
ما بين قربك لحظة وحياتي
لاخترت قربك والمنون ولم أشأ
…
نعمى الحياة على سرير مماتي
ولو استبنت الدمع يوم منيَتي
…
في مقلتيك سعى إليك رفاتي
فلماذا كل تلك الأيمان المغلظة؟ وما معنى هذا النذر؟ أيعني أنه إن اختار الحياة على قربها مع الموت يلزمه أن يقف على عرفات! ثم كيف يستبين الدمع في مقلتيها وهو ميت؟!
ميتة سكير
قصيدة الأستاذ محمود رمزي نظيم، وهي قصيدة عذبة رقيقة، تنساب فيها روح خفيفة ساحرة، وأسلوبها من السهل الممتنع، وإليك الدليل، وما من شيء يبلغ في التدليل على جمالها مبلغها هي في ذلك؛ قال في مطلعها:
سقطت أسنانه في ال
…
كأس سنا جَرَّ سنا
وأراق الخمر في هي
…
كله دنا فدنا
جن بالكأس وهل ين
…
هى الذي بالكأس جنا
يحسب الناس الألى لا
…
يشربون الخمر جنا
تخذ الحانة دارا
…
واحتساء الراح فنا
عاش للراح حبيبا
…
واجف القلب معنى
لو تمنيه بغير ال
…
كأس شيئاً ما تمنى
إن مشى تحسبه في
…
سكره غصناً تثنى
وشمالاً ويميناً
…
مال تيهاً وأرجحنا
ما صحا من سكره إلا
…
إلى الحانة حنا
فهذا كلام تتراقص فيه الروح الشعرية تراقص الحباب في الكأس. ونأخذ من بين هذه الأبيات قوله:
يحسب الناس الألى لا
…
يشربون الخمر جنا
فما الصلة بين الذين لا يشربون الخمر وبين الجن حتى يحسبهم السكير كذلك؟ اللهم إلا أن يكون قد ضعف تصوره من شدة السكر. .
والأستاذ رمزي نظيم شاعر متفنن، وتراه في هذه القصيدة يفتن في الانتقال من صورة إلى صورة في حذق ومهارة؛ فهو بعد أن يصف السكير ينتقل إلى التعبير عن خواطره فيقول:
طالما أوحى إلى النصا
…
ح ردوا النصح عنا
إن من يترك شرب ال
…
راح عمداً ليس منا
إن في الحانة للخا
…
ئف تشجيعاً وأمنا
نحن للكأس خلقنا
…
وبها في الكون عشنا
إلى أن أتى على مصرعه فقال:
أشبه الوهم فما يس
…
مع إن ناح وأنا
وقضى بالأمس لم تح
…
زن عليه الناس ضنا
وكنا نحب أن يتفادى الشاعر السناد الذي وقع في قوله:
ورق الكرم أكف
…
تحمل الكأس إلينا
الشباب والزواج
قصيدة السيدة منيرة توفيق. وهي الشاعرة المصرية البارزة الوحيدة في هذا العصر، إذ أن مصر تكاد الآن تكون مقفرة من الشواعر؛ والمرأة المصرية تستمد صمتها من أبي الهول، ولا أعني إلا الإمساك عن التعبير عن الإحساس والعواطف تعبيراً صادقاً؛ فمن شعرت من بنات مصر فإنما تقول في الأخلاق والنصائح، متجاوزة خوالج النفس ودقائق الحس، لأن طبعها الصموت الحيي يأبى الحديث عنها. وأعتقد أنها لو فعلت، وكانت موهوبة التعبير والأداء، لأتت بالغرائب
وهذه السيدة الفضلى توجه القول إلى الشباب، محذرة إياهم من الزواج بالأجنبيات، ناصحة لهم أن يقبلوا على الزواج من بنات وطنهم فتقول:
وتزوجوا من عرضكم
…
تبقوا على العرض السليم
ودعوا زواج الأجنبي
…
ة فهو شر مستديم
عجباً! أَللدور احتلا
…
ل آخر فيها يقيم؟
والقصيدة وإن كانت معنونة بـ (الشباب والزواج) إلا أنها مقصورة على التحذير من الزواج بالأجنبيات، فلا تعرض لأعراض الشبان عن الزواج إلا بهذين البيتين:
فدعوا الغواية إنها
…
باب يؤدي للجحيم
وخذوا الزواج فإنه
…
باب السعادة والنعيم
وقد أحسنت في قولها:
لا يخدعنكمو جمال ال
…
أجنبيات الوسيم
كلا ولا سحر الكلا
…
م ورقة الصوت الرخيم
هذا لعمري مظهر
…
والله بالخافي عليم
وإن كان فيه ظلم لفتياتنا، فهن في هذه الصفات مجلّيات على ما أرى، والله أعلم.
عباس حسان خضر
أندلسيات
أبو بكر بن العربي
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
أسلفنا أن المترجم له قدم الأندلس من رحلته بعلم كثير، واتخذ بلده أشبيلية مقاما له، وأخذ يذيع علمه، وجلس للوعظ والتفسير والإفادة، ورُحِل إليه للسماع، وصنف في غير فن تصانيف كثيرة حسنة ضخمة، حتى يروى أنه ألف أربعين مؤلفا في موضوعات شتى فُقِد معظمها، ذكروا منها كتاب العواصم والقواصم، والمحصول في أصول الفقه، وكتاب المسالك في شرح موطأ الإمام مالك، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وكتاب أنوار الفجر في تفسير القرآن، قالوا إنه ثمانون ألف ورقة في ثمانين مجلدا، وكتاب عارضة الأحوذي على كتاب الترمذي الخ ولمناسبة كتابه أنوار الفجر في التفسير نورد كلمة له قالها عند تفسير قوله تعالى:(إنْفِروُا خِفَافا وثِقاَلاً)، تدل على أنه كان إماما طليقا واسع آفاق الفكر عصريا كما نعبر اليوم. . . وهي هذه:(ولقد نزل بنا العدو - الأسبانيون - قصمه الله سنة 527، فجاس ديارنا وأسر جيرتنا، وتوسط بلادنا في عدد حدّد الناس عدده، وكان كثيرا وإن لم يبلغ ما حددوه، فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتكن منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط بهم فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له، فغلبت الذنوب، ورجفت بالمعاصي القلوب، وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوي إلى وجاره، وإن رأى المكيدة بجاره، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل. .) وقد أسند إلى المترحم له قضاء بلده. قال تلميذه القاضي عياض: فنفع الله به أهلها لصرامته وشدته ونفوذ أحكامه، وكانت له في الظالمين سورة مرهوبة، وتؤثر عنه في قضائه أحكام غريبة، ثم صرف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثه. . .
تلاميذه
وقد تتلمذ للمترجم له عدة ممن تخرجوا عليه وكان لهم شأن يذكر، فمنهم القاضي عياض صاحب الشفاء، وسنترجم له إن شاء الله - ومنهم الإمام الحافظ ابن بشكوال صاحب كتاب
الصلة وخلافه، ومنهم الإمام السهيلي صاحب كتاب الروض الأُنف في شرح سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من التواليف، وصاحب هذه الأبيات المشهورة التي أنشدها للإمام الحافظ أبي الخطاب بن دحية وقال له: ما سأل الله تعالى بها حاجة إلا أعطاه إياها، وكذلك من استعمل إنشادها، وهن:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع
…
أنت المُعَدُّ لكل ما يتوقع
يا من يُرجّى في الشدائد كلها
…
يا من إليه المُشْتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول كن
…
أُمْننْ فإن الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة
…
فبالافتقار إليك فقريَ أمنع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة
…
فلئن رُددتُ فأي باب أقرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه
…
إن كان خيرك عن فقيرك يمنع
حاشا لمجدك أن تقنط عاصياً
…
الفضل أجزل والمواهب أوسع
أقوال مؤرخي الأندلس فيه
وإليك نتفاً مقتطفة مما قاله في حق المترجم له مؤرخو الأندلس ممن عاصره وتتلمذ له. قال الحافظ بن بشكوال في كتابه الصلة: هو الحافظ المستبحر، ختام علماء الأندلس وآخر أئمتها وحفاظها. . كان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها مقدماً في المعارف كلها، متكلما في أنواعها، نافذاً في جميعها، حريصاً على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، يجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة ولين الكنف وكثرة الاحتمال وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود الخ الخ وقال أبو نصر الفتح بن خاقان صاحب المطمح والقلائد:
الفقيه الحافظ أبو بكر بن العربي علم الأعلام الطاهر الأثواب، الباهر الألباب الذي أنسى ذكاء إياس، وترك التقليد للقياس، وأنتج الفرع من الأصل، وغدا في بدء الإسلام أمضى من النصل، سقى الله به الأندلس بعدما أجدبت من المعارف، ومد عليها منه الظل الوارف، وكساها رونق نبله، وسقاها ريق وبله. وكان أبو محمد باشبيلية بدرا في فلكها، وصدرا في مجلس ملكها، واصطفاه معتمد بني عباس اصطفاء المأمون لابن أبي دؤاد، وولاه الولايات الشريفة، وبوأه المراتب المنيفة؛ فلما أقفرت حمص (يريد أشبيلية) من ملكهم وخلت،
وألْقتهم منها وتخلت، رحل به إلى المشرق، وحل فيه محل الخائف الفرق، فجال في أكنافه، وأجال فيها قداح الرجاء في استقبال العز واستئنافه، فلم يستردّ ذاهباً، ولم يجد كمعتمده باذلاً له وواهباً، فعاد إلى الرواية والسماع، وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب ما دوّح، وفي روض الشباب زهر ما صوّح، فألزمه مجالس العلم رائحاً وغادياً، ولازمه سائقاً إليه وحادياً، حتى استقرت به مجالسه، واطردت له مقايسه، فجد في طلبه، واستجدبه أبوه متمزق أربه، ثم أدركه حمامه، ووارته هناك رجامه، وبقي أبو بكر منفرد، وللطلب متجرداً، حتى أصبح في العلم وحيداً، ولم تجد عنه رياسته محيداً، فكَرّ إلى الأندلس فحلها والنفوس إليه متطلعة، ولأنبائه متسمعة، فناهيك من حظوة لقى، ومن عزة سقى، ومن رفعة سما إليها ورقى، وحسبك من مفاخر قلدها، ومحاسن أنس أثبتها فيها وخلدها، الخ الخ. . وقد وصفه القاضي عياض بما أوردنا بعضه عن حاله في القضاء، وفي هذا القدْرِ غناء. .
مقتطفات من منظومه ومنثوره
وأظنك لا تجهل أن أكثر علماء الأندلس وفلاسفتها وسائلا مثقفيها يقرضون الشعر، وقلّ أن تظفر بأندلسي لا يقول الشعر، ومن ثم لا تستغرب أن يكون مثل القاضي أبي بكر بن العربي شاعراً وشاعراً ظريفاً. . . فمن شعره وقد ركب مع أحد الأمراء الملثمين، وكان ذلك الأمير صغيراً، فهزّ عليه رمحاً كان في يده مداعباً، فقال:
يهزّ عليّ الرمح ظبي مهفهف
…
لعوب بألباب البرية عابث
ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته
…
ولكنه رمح وثان وثالث
ولعل الرمح الثاني والثالث القد واللحظ. . ومن بديع شعره:
أتتني تؤنبني بالبكا
…
فأهلاً بها وبتأنيبه
تقول وفي نفسها حسرة
…
أتبكي بعين تراني بها
فقلت إذا استحسنت غيركم
…
أمرت جفوني بتعذيبها
وحكى رحمه الله قال: دخل على الأديب بن صارة - وهذا ابن سارة أو صارة شاعر فحل من شعراء الأندلس - وبين يدي نار عليها رماد، فقلت له: قل في هذه، فقال:
شابت نواصي النار بعد سوادها
…
وتسترت عنا بثوب رماد
ثم قال لي أجزْ، فقلت:
شابت كما شبنا وزال شبابنا
…
فكأنما كنا على ميعاد
ويروى أنه كتب كتاباً فأشار عليه أحد من حضر أن يذرْ عليه نشارة، فقال قف، ثم فكر ساعة، وقال اكتب:
لا تشنه بما تذرّ عليه
…
فكفاه هبوب هذا الهواء
فكأن الذي تدرّ عليه
…
جُدَري بوجنة حسناء
ومن شعره:
ليت شعري هل دروا
…
أي قلب ملكوا
وفؤادي لو درى
…
أي شِعب سلكوا
أتراهم سلموا
…
أو تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى
…
في الهوى وارتبكوا
وشعر هذا القاضي الجليل كثير جميل يدل على صفاء نفس وحِسّ مرهف وقريحة خصبة مواتية. ونكتفي بهذا القدر ونورد هنا بعض فوائد هن فرائد لهذا الإمام العظيم ذكرها في رحلته وغيرها وأوردها المقري. فمن هذه الفرائد قوله: سمعت الشيخ فخر الإسلام أبا بكر الشاشي، وهو ينتصر لمذهب أبي حنيفة في مجلس النظر يقول: يقال في اللغة العربية لا تَقْرَبْ كذا بفتح الراء، أي لا تلتبس بالفعل. وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن من الموضع. . وهذا الذي قاله صحيح مسموع. . . ومنها ما نقله عن ابن عباس رضي الله عنه: لا يقل أحدكم انصرفنا من الصلاة فإن قوما قيل فيهم ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم؛ وقد أخبرنا محمد بن عبد الملك القيسي الواعظ، أخبرنا أبو الفضل الجوهري سماعا منه: كنا في جنازة فقال المنذر بها: انصرفوا رحمكم الله. فقال: لا يقل أحدكم انصرفوا، فإن الله قال في قوم ذمهم، ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم، ولكن قولوا انقلبوا رحمكم الله فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم: فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء. . . ومنها قوله في تصريف المحصنات: يقال أحصن الرجل فهو مُحصَن بفتح الصاد في اسم الفاعل وأسهب في الكلام فهو مسهَب - بفتح الهاء - إذا أطال البحث فيه وألْفَج فهو مُلْفَج إذا كان معدما - فقيراً - فهذه الثلاثة جاءت بالفتح نوادر لا رابع لها. . ومنها قوله: سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام - بغداد - أبا الوفاء علي بن عقيل يقول: إنما تبع الولد الأم في
المالية وصار بحكمها في الرق والعبودية لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة مبثوثة عليه، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلذلك تبعها، كما لو أكل رجل تمراً في أرض رجل وسقطت منه نواةٌ في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها، وهذا من البدائع. . ومنها قوله: كان بمدينة السلام إمام من الصوفية وأيُ إمام يعرف بابن عطاء، فتكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما ينسب إليه من مكروه، فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة، فقال: يا شيخ، يا سيدنا، إذن يوسف همّ وما تمّ، فقال: نعم لأن العناية من ثم. . . فانظروا إلى حلاوة العالم والمتعلم، وفطنة العامي في سؤاله، والعلم في اختصاره واستيفائه؛ ولذا قال علماؤنا الصوفية إن فائدة قوله تعالى: ولما بلغ اشده آتيناه حكماً وعلماً أن الله أعطاه العلم والحكمة أيام غلبة الشهوة ليكون له سبباً للعصمة. . . ومنها قوله: تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي حديث أبي ثعلبة المرفوع: إن من ورائكم أياماً للعامل فيها أجر خمسين منكم. فقال: بل منهم. فقال: بل منكم، لأنكم تجدون على الخير أعواناً وهم لا يجدون عليه أعواناً. . . وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم أسسوا الإسلام، وعضدوا الدين، أقاموا المنار، وافتتحوا الأمصار، وحموا البيضة، ومهدوا الملة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. . فتراجعنا القول وتحصل ما أوضحناه في شرح الصحيح، وخلاصته: أن الصحابة رضي الله عنهم كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد ولا يدانيهم فيها بشر، وأعمال سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلَّصها من شوائب البدع والرياء بعدهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام، وهو أيضاً انتهاؤه. وقد كان قليلاً في ابتداء الإسلام صعب المرام لغلبة الكفار على الحق، وفي آخر الزمان يعود كذلك لوعد الصادق صلى الله عليه وسلم بفساد الزمان وظهور الفتن وغلبة الباطل، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق، وركوب من يأتي سنن من مضى من أهل الكتاب كما قال صلى الله عليه وسلم: لتركَبُنَّ سَنن مَن قبلكم شبرا بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جُحْر ضب خرب
لدخلتموه. . .
وقال صلى الله عليه وسلم: بدا الإسلام غريبا، وسيعود غريباً كما بدا. . . فلابد والله أعلم بحكم هذا الوعد الصادق من أن يرجع الإسلام إلى واحد كما بدأ من واحد، ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إذا قام به قائم مع احتواشه بالمخاوف وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكنا منه معاناَ عليه بكثرة الدعاة إلى الله تعالى، وذلك قوله: لأنكم تجدون على الخير أعواناّ وهم لا يجدون عليه أعوانا حتى ينقطع ذلك انقطاعاً باتا لضعف اليقين وقلة الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله. . يروى بفتح الهاء ورفعها، ورفع على معنى لا يبقى موحد يذكر الله عز وجل، والنصب على معنى لا يبقى آمر بمعروف ولا ناه عن منكر يقول أخاف الله، وحينئذ يتمنى العاقل الموت كما قال صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني كنت مكانه. . . .
(وأما بعد)، فهذا هو تاريخ القاضي أبي بكر بن العربي، سردناه لك في أخصر قول وأجزأ اختصار؛ وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. ومن هذه الترجمة تتبين منزلة هذا الإمام والمكان الذي يشغله بين علماء الإسلام، وأنه كان إلى فقهه في الدين كأكثر السلف الصالح أديبا كاتبا شاعراً فصيحا كثير الملح مليح المجلس وهكذا كان أكثر علماء الأندلس
وقد كانت وفاة هذا الإمام سنة 543. وقال القاضي عياض: وتوفي منصرفه من مراكش من الوجهة التي توجه فيها مع أهل بلده إلى الحضرة بعد دخول الموحدين مدينة أشبيلية، فحبسوا بمراكش نحو عام ثم سرحوا، فأدركته منيته ودفن بفاس وقبره هنالك مقصود رحمة الله عليه.
عبد الرحمن البرقوقي
رئيس قلم المراجعة بمجلس النواب
السيرة النبوية وكيف يجب أن تكتب
للأستاذ إبراهيم الواعظ
كنت كلما ظهر كتاب حديث عليه اسم (محمد)(ص) أسارع لاقتنائه؛ ذلك لأنني كنت ولا أزال في رغبة شديدة أن أسمع عن الرسول العربي العظيم، وعن سيرة النبي الكريم شيئاَ جديداً. والعامل الوحيد الذي أوجد فيّ هذا الشعور، وحرّك فيّ ذلك الاحساس، هو الاطراد الموجود في السير المكتوبة اطراداً يكاد أن يكون نسخةً مطابقة لأصل واحد، ومحررة على غرار واحد
إنني لم أرسل كلمتي هذه منتقداً بها ما دونه الأقدمون في السيرة، وصاحب السيرة، كلا، وإنما أردت أن أقول للذين تناولوا السيرة وصاحب السيرة، بأن الواجب كان يقضي عليكم أن تأتوا للناس بحديث جديد عن محمد (ص) بحديث يصور للناس محمداً كما هو لا كما أراده كتاب السير
طلعت علينا في الآونة الأخيرة عدة كتب كتبت مؤخراً لتحليل شخصية محمد (ص)، وما انطوت عليه نفسه من العظة والعبقرية، فمنهم من أصاب المرمى ومنهم من قارب؛ فذهب الأستاذ جاد المولى في كتابه (محمد المثل الكامل) إلى ناحية لم يتطرق إليها الأستاذ محمد رضا في كتابه (محمد)؛ وإن هذين الأثرين من حيث الترتيب والتنسيق جديدان، ولكنهما من حيث المادة لا يزيدان ولا ينقصان عن السير القديمة. على أن هناك أستاذا كبيرا يكاد أن يكون فرداً فذاً في تأليفه هو (مولانا شبلي النعماني) فإن هذا العالم الكبير أراد أن يستخرج من السير الموضوعة سيرة مستندة إلى أرجح الأقوال وأصح الروايات، ويبرز الرسول الأمين للناس صورة حقيقية كما هي، فألف كتابه الذي أسماه (تاريخ الإسلام) والذي أفرد منه أربعة مجلدات في السيرة المحمدية. هذا ولا أريد أن أرسل الكلام في وصف هذا الكتاب جزافاً، ولا أريد أن اخرج بالقارئ عن الموضوع والصدد، وإنما قصدي أن أحث كل من يريد أن يتعرف محمداً (ص) كما هو أن يطلع على هذا الكتاب الذي أوضح شخصية محمد (ص) إيضاحاً، وحلل نفسيته الزكية تحليلاً عجز عنه المتقدمون من كتاب السير والمتأخرون منهم
وقد جرى على غرار هذا المؤلف الأستاذ الكبير محمد حسين هيكل بك فإنه كان قد كتب
فصولاً في السياسة الأسبوعية جمعها في كتاب أخرجه للناس، كتابا رد به طعن الطاعنين ودحض به زعم الزاعمين؛ وكأني بالأستاذ وقد كتب مؤلفه هذا لمن لا يؤمن بنبوة محمد مباشرة متوخياً في عمله ذلك الدعاية والتبشير لا نقل ما هو مكتوب في كتب السير من حادثات ووقائع
وإنني لا أتفق ومنتقدي كتاب الأستاذ هيكل من أنه أغفل كثيراً من الأمور المهمة في السيرة بأنه أنكر المعجزات. والتطرق لهذا الموضوع يحتاج إلى إفراد بحث بكامله لهذا فليس من الأصول أن أقول كلمة في ذلك سوى أنني أكتفي بالإشارة إلى ما أورده الأستاذ هيكل في الطبعة الثانية من كتابه وأضيف إلى ذلك تعريف الكتاب لجمهور القراء من الشيخ محمد مصطفى المراغي العلامة الأكبر، فإن هذا التعريف لكتاب مثل هذا الكتاب له أهميته العلمية
هذا وقد سكتت الأقلام وجفت الصحف كأن (حياة محمد) التي دبجتها يراعة هيكل كانت خاتمة ما يكتب في هذا الموضوع، ولكن سرعان ما أتحفنا الأستاذ (الحكيم) بكتابه (محمد)(ص) فقد تفنن في أسلوبه الجديد، وجدد في طريقته الفنية، ولكنه لم يزد ولم ينقص عما ورد في كتب السير، فلم نكبر له الموضوع وإنما أكبرنا له الأسلوب
ثم كان بعد ذلك أن خرجت علينا الرسالة في عددها (148) بمقال تحت عنوان (رسالة الأزهر في القرن العشرين) بتوقيع الأستاذ لبيب الرياشي المسيحي وبها دعا الكاتب إلى أن تكون رسالة الأزهر في القرن العشرين المسيحي، والقرن الرابع عشر المحمدي، دورته الأولى لرسالة الأزهر في هذا القرن كالقرن الأول المحمدي فيقابل الدور الأول دور التحنث والتعبد، دور تحقيق ودراسة من ينتخبهم الأزهر من عشاق التضحية، وعشاق الحق من طلابه، فيثقفون ثقافة عالية، ويتعلمون تعليما سامياً، فيتخصص كل فريق ممن وقع عليهم الاختيار نتيجة الفحص والاختبار باللغات الحية وبكل فرع من فروع العلوم العالمية العالية، علاوة على ما أتقنوه من علوم القرآن والدين والشريعة والسنة والسيرة واللغة العربية؛ وبعد هذا فرسالة الأزهر أن تكتب سيرة محمد (ص) بصورة تتفق وما جاء في القرآن الحكيم وعقلية الرسول البريئة وأعماله الحق
وقد ضرب الأستاذ في مقاله أمثلة مهمة خطيرة حذر الأزهر من أن يقع في مثل ما وقع
فيه غير واحد من متخرجيه
وإذا بهذا الأستاذ قبل أن كتب مقاله هذا في الرسالة أخرج لنا كتاباً من قلم مسيحي يحلل نفسية محمد بن عبد الله (ص)، تحليلا فلسفياً، ويطرح كتابه هذا أطروحة - كمثل أعلى - لمن يريد أن يكتب السيرة. سيرة الرسول الأعظم (ص)
لقد نحا الأستاذ الرياشي ناحية في كتابة السيرة لم ينحها قبله ولا بعده أحد من كتاب السيرة؛ ولقد أظهر للملأ جديداً في حياة محمد بن عبد الله ووجد ضالته حين كان ينقب عن (السبرمن)، فوجده مجسدا في شخصية الرسول الكريم قبل أربعة عشر قرناً
وقد أبدع الأستاذ الكبير الشيخ عبد القادر المغربي في تعريف الكتاب بمقدمته المحمدية، كما أحسن الأديب أمين نخلة في تقديم الكتاب بمقدمته المسيحية
وبعد، فإني قد وجدت ضالتي المنشودة في كتاب الرياشي، وفي مقدمتيه المحمدية والمسيحية، فأدعو الأزهر ورجال الأزهر كما دعاهم الأستاذ الرياشي أن يكوّنوا جماعة تكتب حياة محمد وسيرة محمد كما كتبها الرياشي
فعلى هذا النسق، وعلى ذلك الأسلوب، وعلى تلك الطريقة، يجب أن تكتب السيرة النبوية
(بغداد)
إبراهيم الواعظ
المحامي
الواحة المجهولة
للأستاذ فخري أبو السعود
مأنوسةُ الأفياء والأكناف
…
موصولة الحسنات بالألطاف
عبق الشذا فيها وأصبح دوحها
…
نُصْباً لكل مباكر وكّاف
وتألقت أزهارها وتمايلت
…
أغصانها منضورة الألفاف
وتتابعت فيها الثمار شهية
…
فتانة الألوان والأوصاف
وجرى النمير بها ألَذّ مذاقة
…
للوارديه من رحيق سلاف
أنى تصرّف مقلة لك تكتحل
…
بجداول رقراقة وضُفاف
ما تنتهي من فتنة إلا إلى
…
أخرى ومن صوَر إلى أطياف
وتشابهت فيها الفصول فحسنُها
…
سيان في مشتى وفي مصطاف
يا حُسنها من واحة لو أنها
…
أهلَتْ وفاز بها الفتى بمطاف
لكنها مجهولة ممنوعة
…
من دونها حَزن وقفر فيافي
هيهات ما تُنبي صحائفُ عَالم
…
عنها ولا تَهدي رُؤَى عرّاف
لم يدْرِ غير سرَّها فأنا الذي
…
في أضلُعي حُمِّلْتها وشغافي
هي قلبيَ النائي الذي من دونه
…
غُم الطريق على الحبيب الوافي
ولو أُهتدى يوماً لباَء إلى حمى
…
خصبٍ وفاَء إلى ظليل ضاف
ولقد أبحْتُ صحابةً ليَ حقبةً
…
أفياَء تلك الروضة المئناف
فتمردوا في ظلها من بعد ما
…
نعموا بأثمار بها ونطاف
فقبضتُها عنهم وصنت جنانها
…
عن كل جاس في القلوب وجاف
فهي الغداةَ تميس في فتناتها
…
والكون أجمع عن حُلاها غاف
نضرت أزاهرها ولا مًنْ يجتلي
…
وزَكَتْ دواليها لغير قطاف
وانساب سلسلها وما من راشف
…
وذكت نسائمها للامُستاف
هي جنة الود الخلي من القذى
…
جمعت أفانينَ الوداد الصافي
تنْدى وتألق في الأزاهر والسنى
…
في مهمه وعر المسالك خاف
وغداً سيذوي حسنها ورواؤها
…
ويجف منها يانع الأفواف
لم يفتقد منها المحاسنَ فاقدٌ
…
أو يبكها بالمدمع الذراف
وتَغُولها تلك القفار وينثني
…
يذرُو معالمها الترابُ السافي
فخري أبو السعود
البحر
للأستاذ عبد الرحمن شكري
ألا ليتني لج كلجك زاخر
…
أعبُّ كما تهوى النهى والبصائر
فكم عبت النفس اللّجوج وحاولت
…
كبعض سطاك الآبيات النوافر
وأخفت من الدر النفوسُ ومن حُلًى
…
كما اختبأت فيك اللهى والذخائر
كأن بها أُفقاً كأُفقك نائياً
…
ومن دونه كل المَدَى يتقاصر
أتطرب من لحن الخرير كأنه
…
خواطر تتلوها عليك السرائر
كما طرب النشوان من لحن صوته
…
فجاشت لديك الراقصات الزواخر
وإلا فما للموج في اليمِّ راقصاً
…
دعاه عذارى البحر شادٍ وشاعر
خريرك يحكي صدحة الدهر صامتاً
…
كأنك دهر بالحوادث مائر
هو الدهر لا يخشى المنايا ولا يَهِي
…
صِبَاه ولا تقضي عليه المقادر
وأنت شبيه الدهر لا أنت هارم
…
ولا أنت منقوص ولا أنت خاسر
ويصطخب الآذيُّ فيك كأنما اص
…
طخابك من حكم المنية ساخر
أخَفْقٌ وإعصار ودفع وهبَّة
…
كأنك حيٌّ نابض القلب شاعر
فريحك أنفاس وموجك نابض
…
كنبض قلوب أعجلته البوادر
خلوتَ من السٌّمَّار كالبيد وامَّحت
…
معالم لا تُبْقِي عليها الأعاصر
سِوى شِلْو فُلك قد حدرت إلى الردى
…
يلوح كما لاحت رسوم غوائر
وكم جُزُرٍ مثل الجِنان مضيئة
…
كأنْ جهلتها الصائلات الدوائر
لَخِيلَتْ نجومً السعد والحب والمنى
…
فحنًّ إليها الشّحشحان المُخَاطر
كما حنَّ للآل الخلوب قوافل
…
تَخُبُّ بها في البيد إبلكٌ ضوامر
لخلَّفتَ في قلب المخاطِر همة
…
على الدهر لا تبلي وتبلى العمائر
يحن إلى ما خلف أُفْقِكَ ناظر
…
كما تنشد الغيبَ النهى والبصائر
كأن مُنًى للنفس من خلف أفقه
…
تلوح كما لاح السراب المبادر
أو أن محال السعد دُرٌّ مُنظَّمٌ
…
على الأفق ينحوه الطلوب المُغامر
بلى كل نفس للغريب مشوقة
…
وإن خَوَّفتها من سطاه المحاذر
ويصغر في مرآك عيش ابن يومه
…
ويكْبُرُ رأيٌ ذاهب فيك سائر
خواطر مثل الفلك فيك شوارد
…
يضل عليها عازب اللب حائر
تنائت بك الأمواج وهي نوافر
…
وجاءت بك الأمواج وهي ثوائر
كأن بها عجز المشيب إذا انثنت
…
وعزم الشباب الغر وهي بوادر
فنم نومة الظل البطيء مسيره
…
وثِبْ وثبة الغضبان حين يُساور
فيا رُبَّ حلم خامل البطش هادئ
…
ضمنت وجهلِ شره متطاير
كأن لنا من لج مائك واعظاً
…
بليغاً له مما أثرت زواجر
رأيتك والأمواج في وثباتها
…
عساكر حرب قد تلتها عساكر
فبينا يريق الضوء فوقك ماءه
…
وتجري عليك الريح وهي خواطر
ويتلو عليك الصائدون غناءهم
…
يرجِّعه لحن من الماء مائر
ويُسمِعك الملاح من شجو قلبه
…
أحاديث قد تاقت لهن الحرائر
إذ الجو جهم والرياح كتائب
…
وإذ أنت مقبوح السريرة غادر
ورب سفين يقرع النجمَ مجدُه
…
تقاذفها مستوفز اللج هامر
يُرَوِّعها في كل هوجاء مُوعِدٌ
…
ويسعى لها قبر من الماء سائر
وما ذلك اللج الذي في سمائها
…
بأهدأ من لج نمته الزواخر
إذا ذكر المَلاّح زوجاَ وصبية
…
طغى شجن في مِرْجَلِ الصدر فائر
وتذهل عن مهد الوليد رءومه
…
إذا ما رَمتْها بالوعيد الزماجر
وما هي إلا صولة ثُمَّتَ انجلت
…
وأكبر غرقاها المساعي البوائر
كما غرقت في لجة الدهر دول
…
زهت ما زهت والدهر للناس غامر
عبد الرحمن شكري
فخر المصايف المصرية
رأس البر. . .!
للأستاذ محمد يوسف المحجوب
مهْدَ الهدوءِ وفُرضة الأحباب
…
ها قد لقيتكَ بعد طول غياب
أقبلت نحوك ظامئاَ، أُلْقى لدى
…
عطفيكَ أعبائي، وأنفض ما بي
قد هدَّ سعى العام أوْصالي بما
…
عانيتُ من درس ومن أوصاب
فإذا أتيت فحسب قلبي أنني
…
لاقٍ بظلك منتهى آرابي. . .!
داويْتُ بالصحو الجميل متاعبي
…
ورأيت فيك الشمسَ دون حجاب
وظفرتُ عندك بالسُّكون يلُفُّني
…
ويريح من ذهني ومن أعصابي
وغمرتُ روحي قبل جسمي بالمُنى
…
لما استنمت لِمَوجك الصخاب
غَطَّى على صخب الحياة ولَفَّهُ
…
فمضى وضاع بلُجِّه المُنساب
لا الفكرُ عندك سابح في مؤلم
…
حاشا ولا الوجدان عندك خابي!
أصحو مع الصبح الجميل، فتنتشي
…
روحي بشمسٍ أشرقت وعباب
شمس أراها، لا يصدُّ شعاعها
…
عنا رُبًى، أوْ ناطحات سحاب
وأرى الخضمَّ ولا شعاب تحدُّه
…
في ناظري. . . فتضِلٌّ فيه شعابي
وأرى ظباَء الأنس حول كِناسها
…
يطفِرْن في مرَج ووقْدِ شباب. .
ترنو إليهن العيونُ، وترتعي
…
حسناً يزلزلُ راسيَ الألباب!
يُقْبلْنَ في ساعِ الأصيل ترائباً
…
تختال بينَ مُفّوَّف الأثواب
وَيَسِرْنَ أسْرَاباً، يمايِلُ عِطْفّها
…
فَرْطُ الصِّبا، ويَعُدْنَ في أسراب!
لا يستطيع الصَّبُّ تكليما، ولا
…
يّقْوّى على شيءٍ. . . سوى الإعجاب!
يَرْنو إلى ذاك الجمالِ كأنما
…
يَرْنو إلى المعبود في محرابِ. .!
جَوٌّ عليه من العَفَاف رِقابةٌ
…
صانته عن عبَثٍ يُرادُ وعابِ
جَوٌّ يضُمُّ كرائماً وحَرَائراً
…
باتَ الحياءٌ لهُنَّ خيرَ نِقَابِ
وشبيبةً لا يرتضون من الهوَى
…
دَنَساً يَشينُهُمُ على الأحقاب
الكلُّ فيه (أُسْرَةٌ) قد زانَها
…
أنْ ليس فيها سَيِّئُو الآداب. .!
سَهِروا على الأخلاق واعتصموا بها
…
وَرَعَى الْحضُورُ أَمانةَ الغُيَّابِ
هذا هو العَيْشُ النبيل، وهكذا
…
يَسْمُو (المَصيفُ) بإخوَةٍ وصِحَابِ. .
. . . لا ما تَراه من الغَوَاية والخَنَا
…
في (الرَّمْلِ) من همَلٍ وَمِنْ أَوْشَابِ!
سَلْ شاطِيَء (اسْتَانْلي) وسل أترابه
…
كم قد بَرِمْنَ بفاسدي الآداب. . .؟
ظنّوا الحياةَ مجانةَ وخلاعةَ
…
فطوَوْا من الأخلاق خير كتابِ
ورَأَوْا لدى نَزق الشبابِ نعيمَهم
…
فسَعَوْا له ومضَوْا بغير حساب!
بذرَ (الفِرِنْجةُ) كل مُهْلكةٍ لهم
…
وأتَوْهُمُ بالبَهْرَج الخَلاَّبِ
وَجَنَوْا لهم حُرِّيةً مزعومةً
…
طاحَتْ بهم في هُوِّةٍ وخرابِ!
يأيها (الرأسُ) الجميلُ: تحية
…
من صادق في الوُدِّ ليس يحابي. . .
لا غَرْوَ أَنْ صُغْتُ القَرِيضَ مُخَلِّداً
…
ذكراك أنتَ، على مَدَى الأعقابِ:
وَهَبَتكَ دٌنْيَاكَ العفيفةُ بيننا
…
مَعْنًى سَمَوْتَ به على الأترَاب
محمد يوسف المحجوب
القصص
أعصاب
للقصصي الروسي تشيكوف
بقلم محمود البدوي
عاد المهندس المعماري ديمتري اسيبوفتش فاكسن من المدينة إلى كوخه الذي يقضي فيه عطلته وهو متأثر غاية التأثر مما سمعه في جلسة استحضار الأرواح التي تشرف بحضورها!
وعندما خلع ملابسه، ومشى إلى فراشه المنعزل، ولا أنيس معه فيه - فقد بارحت مدام فاكسن المنزل إلى عمل يستغرق طيلة الليل - لم يستطع أن يطرد عن ذهنه تصور كل ما سمعه ورآه في هذه الليلة التي لم يكن الحديث فيها ممتعاً على الإطلاق! فلقد مضوا الليل كله في حديث مروع بدأته سيدة في رونق صباها - على ذكر لا شيء - بالكلام عن التفكير عند القراءة، ومن هنا تشقق بهم الحديث دون أدراك إلى الأرواح، ومن الأرواح انتقلوا إلى الأشباح، ومن الأشباح تشعبت بهم سبل الكلام إلى أناس يدفنون أحياء. . .! وقرأ سيد قصة مرعبة عن جثة تسير وهي مدرجة في الكفن. . . وطلب فاكسن نفسه فنجانة وأخذ يشرح للسيدات الصبايا الطريقة المثلى لمخاطبة الأرواح! وأحضر من بين الموتى روح عمه كلافدي ميرونتش وسأله:
(ألم يحن الوقت بعد لنقل ملكية منزلنا إلى زوجي؟)
فأجابته روح عمه: (كل الأشياء حسنة في حينها)
وفكر فاكسن وهو مضطجع على سريره وقال لنفسه:
(في الطبيعة أشياء كثيرة. . . سرية. . . ومفزعة. . . فالمجهولات لا الأموات هي المروعة حقا)
ولما دقت الساعة واحدة انقلب فاكسن على جنبه الآخر، وأخذ يرمق من تحت غطائه نور المصباح الأزرق المحترق أمام الصورة المقدسة، وقد ارتعش لهبه، وألقى نوره الخابي على قاعدة الصورة، وظهرت أمام سريره صورة عمه كلافدي الكبيرة المعلقة على الحائط
وومض هذا الخاطر في ذهنه: (وماذا. . . إذا ظهر في هذه اللحظة شبح عمي كلافدي ولكن بطبيعة الحال. . . هذا محال)
ومع أن الأشباح - كما نعرف جميعاً - خرافات من ذرية الذكاء المحدود. . . فقد ضم فاكسن غطاءه عليه حتى غطى رأسه وأغمض عينيه تماماً! على أن الجثة التي سارت وهي ملفوفة في كفنها عادت إلى ذهنه بعد برهة قليلة، ورفعت أمام مخيلته صور المرحومة حماته، وزميل له شنق نفسه، وفتاة أغرقت نفسها أيضاً. . . وحاول فاكسن أن يطرد عن ذهنه هذه الصور السوداء ولكنه كان كلما أمعن في الطرد أمعنت هذه الصور في الثبات، وأحاطت به خيالات مخوفة، وأخذ يحس بالرعب المتمكن والجزع الشديد
وقال لنفسه:
(إلى المشنقة بهذه الخواطر جميعاً. . . هأنذا خائفاً في هذا الظلام كطفل. . . معتوه. وسمع الساعة تدق في الغرفة المجاورة: (تك. . تك. . تك)
ورن ناقوس الكنيسة في فنائها القريب مبيناً الوقت. . دق الناقوس في بطء وانقباض وحزن. . وسرت رعشة شديدة في عنق فاكسن امتدت إلى عموده الفقري، وخيل إليه أنه يسمع إنساناً يتنفس فوق رأسه بثقل! كأن العم كلافدي قد رأى أن يبرح إطار صورته وينحني فوق ابن أخيه. . . وشعر فاكسن بالرعب الذي لا يحتمل، فصرَّ بأسنانه، وعلق أنفاسه في هول
ولما قفزت حشرة من الحشرات الطائرة إلى النافذة المفتوحة وانقلبت تطن فوق فراشه لم يستطع الاحتمال أكثر مما احتمل فجذب زر الجرس بعنف
وسمع بعد هنيهة صوت الحاضنة الألمانية واقفة على بابه تقول بالألمانية:
(ما الذي تريده يا ديمتري اسيبفتش؟)
فصاح فاكسن فرحاً (آه. . أأنت يا. . . روزاليا كارلوفنا لماذا تتعبين نفسك؟. . أين جافريلا؟ لا بد أن. . .)
(بعثت أنت بنفسك جافريلا إلى المدينة. . . وجافريلا مضت تقضي الليل في بعض الجهات. . . وليس في المنزل أحد سواي. . . فما الذي تريده من فضلك؟)
(حسنا. . . الذي أريده. . . هو. . . ولكن من فضلك ادخلي. . . لا داعي للقلق. . أنه. .
ظلام. . .)
ودخلت روزاليا كارلوفنا وهي امرأة بادنة حمراء الخدين!! ووقفت على الباب وقفة المنتظر
(اجلسي من فضلك. . . أنت ترين. . . أن الأمر هكذا. . .)
وعجب وقال لنفسه: أي شيء أسألها فيه وعنه. .؟ وسارق صورة عمه النظر وشعر بروحه تعود تدريجياً إلى الهدوء
(الذي أوده منك في الحقيقة هو. . . آه. . . لما ينطلق الخادم إلى المدينة لا تنسى أن تخبريه بأن أ. . . أ. . . يجيء ببعض أوراق السجاير. . . ولكن من فضلك اجلسي)
(ورق سجاير. . . حسناً. . . وما الذي تريده أيضاً؟؟)
(الذي أريده. . . لا شيء أرغب فيه ولكن. . أجلسي. . سأفكر في شيء آخر بعد دقيقة)
(العذراء. . . تخاف البقاء وحيدة في غرفة رجل يا سيد فاكسن. . . فهمت! إن حاجتك إلى ورق سجاير. . . كانت في الواقع لا تستدعي إيقاظ أحد. . . فهمتك)
وانقلبت روزاليا كرلوفنا على عقبيها وغادرت الغرفة، وسكن روع فاكسن لما تحدث معها وخجل من جبنه للغاية، وغطى رأسه، وأغمض عينيه، وشعر مدة عشر دقائق كاملة بالراحة التامة، وبعد هذا زحفت إلى ذهنه نفس الخزعبلات الماضية. . . فتحسس الثقاب وأشعل شمعة وهو مغمض العينين! وأصبح النور بعد الهلع الذي هيمن على كيانه عديم الجدوى، فقد صور له خياله المضطرب أشباحاً طلعت من الأركان وبدت عيون عمه تتحرك. . .!!
فقرر قاطعاً:
(سأدق لها الجرس مرة أخرى. . . لعنة الله على المرأة. . . سأخبرها بأني أشعر بالتعب وفي حاجة إلى بعض أقراص من الحلوى)
وشد فاكس الجرس فما جاوبه أحد. ودق ثانية فسمع جرس الكنيسة يدق كأنما يجاوب على دقاته بمثلها. واستولى عليه الرعب وشاع في جسمه البرد فقفز من فوق سريره وغادر مخدعه يعدو راسماً علامة الصليب، وأخذ يلعن نفسه لجبنه وخوره وجرى حافي القدمين في قميصه الليلي حتى بلغ غرفة الحاضنة
وقال راجف الصوت وهو يطرق بابها:
(روزاليا كرلوفنا. . . أنمت؟ أشعر. . . باني ر. . . ر. . . تعب. . . أود قليلاً من أقراص الحلوى)
فما جاوبه أحد وخيمي الصمت
(أرجوك! أفهمت. . . أرجوك. . . لماذا هذا القرف؟. . لا أستطيع أن أفهم. . . خصوصاً إذا كان الرجل. . . مريضاً. . . أي عبث. . . أنت في الحق. . . وفي مثل سنك) فقالت له:
(سأخبر زوجك. . . أنك لا تدع عذراء شريفة في أمان. . . لما كنت عند البارون انزيج. . . جاء إليَّ سعادته يطلب أعواداً من الثقاب. . . ففهمت في الحال معنى هذه الأعواد من الثقاب.!! وأخبرت البارونة. . . فأنا عذراء شريفة) فقال لها:
(إلى المشنقة بشرفك هذا. . . أنا مريض. . . قلت لك هذا. . . واطلب منك بعض أقراص من الحلوى. . . أتفهمين. . إني مريض) فأجابته:
(زوجك امرأة شريفة وطيبة. . . ومن الواجب عليك حبها. . . أجل. . . إنها نبيلة طيبة. . . ولن أكون لها عدوة)
فقال لها: (إنك غبية. . . غبية. . . أتفهمين. . . غبية)
اعتمد فاكسن على سارية الباب، طاوياً ذراعيه، ومنتظراً أن يذهب عنه هلعه الشديدة، فإن رجوعه إلى غرفته حيث يرتعش المصباح ويحملق فيه عمه. . . أمر لا يجرؤ على مواجهته، وأن وقوفه على باب الحاضنة وليس عليه سوى قميص نومه أمر غير لائق من جميع الوجوه!! فما الذي يعمله؟؟
ودقت الساعة الثانية وما بارحه جزعه؛ وكان الممر مظلماً فبدأ له خيال أسود طلع من كل ركن واستدار ليواجه عقب الباب. على أنه تصور في هذه اللحظة إنساناً جذب قميص نومه من الخلف ولمس كتفه
فأعول ثم صاح:
(عذاب الجحيم. . . روزاليا كارلوفنا)
ولما لم يسمع صوتاً فتح فاكسن الباب متردداً ودخل؛ وكانت الألمانية الفاضلة غارقة في
سبات لذيذ، وقد أظهر ضوء المصباح الخافت ما على وجهها من بشاشة، ثم انساب إلى داخل الغرفة ووقف بجانب حقيبة عند الباب، وشعر بارتياح تام وهو في حضرة مخلوق حي، حتى ولو كان هذا المخلوق نائماً
ثم قال في نفسه:
(خل الألمانية البلهاء غارقة في نومها. . . سأجلس هنا. . . وحينما يبزغ النور أرجع إلى مكاني. . فالصبح يبكر في هذه الأيام. . .)
استلقى فاكسن على الحقيبة ووضع ذراعه تحت رأسه مترقباً طلوع الفجر
وتأمل!!
(أي شيء. . . لما يكون المرء عصبياً. . . ورجل متعلم ذكى. . . لنشنق جميعاً. . . إنه عار شنيع)
وعندما تسمع إلى تنفس روزاليا كرلوفنا الرقيق عادت إليه نفسه وثاب حسه وهدأ تماماً
وفي الساعة السادسة عادت زوجه فاكسن من عملها الذي استغرق طول الليل ولما لم تجد زوجها في مخدعه دلفت إلى الحاضنة تسألها عن (فكة) للحوذي
ولما دخلت الغرفة رأت منظراً غريباً!!! بصرت على السرير بروزاليا كارلوفنا غارقة في النوم. . . وعلى قيد ذراعين منها ينكمش زوجها على الحقيبة وينام نوم العادل!! ويغط غطيطاً عالياً
أما الذي قالته لزوجها وكيف كان حاله عند ما استيقظ فسأدع لغيري تصويره فهو فوق طاقتي
محمود البدوي
هاجر العانس
للسيدة وداد السكاكيني
تسألينني يا صديقتي عن كآبة (هاجر) ووجومها، وتتساءلين ملحة عن تجافيها وإيثارها العزلة والانفراد. إنك تريدينني على أن أفضي إليك بخبرها، وأصرح بما أعلمه عنها؛ ولاشك أن طلبك هذا يثير في نفسي ذكريات الطفولة ويحملني على أن أنحدر إلى أغوار الماضي، حين كنت أعرف هاجر في المدرسة تلميذة في صف الشهادة، وكم كان يشتد فرحي حين تدخل هذه الفتاة بيتنا في البكور لتأخذني معها، فإن عمتي أوصتها بمرافقتي إلى المدرسة، وكانت رحمها الله صديقة حميمة لأسرة هاجر
كانت تدق باب بيتنا دقات مستعجلة، فأبادر إلى صداري الاسود، وأعلق إلى جانبي محفظة كتبي بنجاد قصير، فإذا أسرعت هاجر في سيرها عدوت خلفها، فأتعثر بمحفظة كتبي التي تتدلى على جنبي أو على ظهري، وكنت لا أقف لاصلاحها حتى لا تتأخر هاجر عن ميعاد المدرسة فتحرمني مرافقتها في الطريق
وكان يعظم سروري حين تغيب معلمتنا العجوز الشمطاء ذات النظارة التي تربطها بالخيط إلى أذنيها وتحدرها إلى أرنبة أنفها فتطالعنا بنظرها المخيف من فوقها، كنت أفرح وأمرح حين تغيب هذه المعلمة الغاشمة فترسل إلينا المديرة (هاجر) كبرى تلميذات المدرسة لتحل محل المعلمة الغائبة، وتعلمنا الدرس فأزهو يومئذ وألهو، وألمس بأناملي رؤوس رفيقاتي اللاتي أمامي فيتلفتن وراءهن فإذا أنا صنم لا يتحرك
هذه صورة أولى لهاجر ما تزال في ذاكرتي جلية بينة؛ إنها كانت غضة الأهاب، أنيقة الثياب، ذات وجه أسمر مجدور، وشعر جعد أسود، قسمته ضفيرتين كثيفتين تنوسان على كتفها؛ وكانت صَناع اليد تغزل من الصوف أردية شتوية لأختيها سعاد ومليحة، وقد كان أبوها قاسياً جامداً ندم على تعليمها بعد أن حازت الشهادة، لكيلا يفتح العلم بزعمه قلبها وعينها، فحلف ألا يعلم أختيها
ومرت الأيام فإذا مليحة وسعاد فتاتان ناهدان، تلوح عليهما ملامح الجمال، وتبسم لهما الحياة والشباب، فراحتا تحلمان بالزواج، وقد خطرت للوالدين هذه الفكرة فتمنيا تحقيقها قريباً، وكانا يرتاحان لكل من يفاتحهما في خطبة الفتاتين؛ أما هاجر فكانت تضطرب
أعصابها كلما رأت أبويها يسعيان لتوفير الزينة والدلال لأختيها، ولاسيما بعد أن رأياهما تستويان على عرش الأنوثة والجمال
ولا تسألي يا عزيزتي عن أحزان هاجر حين كانت تختصها أمها بتدبير المنزل والخياطة لأختيها، وإعداد ما تستطيع من الجهاز لهما، خشية أن تخطبا معا ويضيق الوقت عن تهيئة المعدات اللازمة في حياتهما العتيدة
وكانت هاجر تنمو آلامها وتشتد، وتحس الغصة تقطع نياط قلبها، وكثيراً ما خلت إلى نفسها، وتحدثت عن جدها العاثر عند والديها، فتلعن الجمال الذي بدا على أختيها، فحرمها الدلال وجعلهما تستأثران بعناية الأم واهتمام الأب
وأخذ شعورها يطغي على نفسها فلا تستطيع إلى كبته سبيلا، ولاح الوجوم في وجهها، وكان تفكيرها في دمامتها يبعث في روحها القلق والعذاب
كانت تناجي ربها حين تلجأ إلى فراشها وتحاول النوم فلا يرنق في عينيها، فتستعرض مظاهر الاهتمام بأختيها وإهمال أمها لها فتطفر الدموع من عينيها حزناً على حياتها الجافة البغيضة. وا رحمتاه لهاجر! كم كانت تتكلف الهناءة والهدوء أمام والديها وأختيها فتتظاهر بالانشراح لخطبتهما!
وكان لسوء مصيرها أن تلألأ حظهما وتكاثر الأخطاب، ففي عصر يوم جاء بيتهن ثلاث نسوة فاستقبلتهم الأم وهاجر بملابس البيت وأوعزت الأولى إلى سعاد ومليحة بأن تتزينا بأحسن ما عندهما من اللباس الجديد وتتضمخا بأزكى العطور، وما استقر المقام بالسيدات حتى أقبلت مليحة وسعاد وكأنهما عروسان ليلة الزفاف، فلما رأينهما بهرتاهن وعلقت بهن أنظارهن، فتجاذبن أطراف الحديث بسهولة وسرعة كأنهن صديقات العمر، وبعد قليل طلبت إحداهن من الفتاتين شربة ماء، ولم يكن بها ظمأ ولا حاجة إلى نقع غلة، بل كان مرامهن جميعاً، أن يرين انقلابهما بالمشي وانتقال أرجلهما على الأرض، وأن ينعمن النظر في طولهما وحركاتهما
كل هذا حدث وهاجر المسكينة جالسة إلى جانب أمها تنظر الحظ يضحك لأختيها ويقهقه، وتفكر في نفسها فترى حظها عابساً مكفهراً، ثم أخذت تطالع في عيون الخاطبات ومضات الافتتان والإعجاب بأختيها، فلم يسعها البقاء في الغرفة فخرجت منها خشية أن تهي إرادتها
وتستحيل كآبة نفسها دموعاً كاوية فتفضح وجومها وآلامها
وآن ذهاب السيدات فقمن يودعن الأم والفتاتين بالسلام والتقبيل، فلثمن ثغري سعاد ومليحة ليشممنها فيعلمن إذا كانت فيهما رائحة تكره، وعانقنهما لينشقن إبطيهما لعلهما تعرقا، وهصرنهما إلى أجسامهن ليحسسن هل هو عظم جاثم أم لحم وهو لطيف، وكانت الأم والبنتان يشيعن الزائرات بمنتهى المجاملة والإغراء
كانت هذه الزورة المأنوسة يوم سعادتهن المشهود، فما أغلق الباب خلف السيدات حتى انثنت الأم إلى ابنتيها الجميلتين تدعو الله لهما بفتح البخت ومجيء النصيب السعيد، وأن يقيض لهما زوجين من أحسن الرجال وأغناهم، ثم سكتت إذ شعرت أنها استرسلت في الدعاء لهما دون هاجر فقالت وهي تشير إلى غرفتها وأنت يا (هاجر) الله لا ينساك يا حنونتي)!
بعد أسبوعين كنت ترين يا صديقتي في إصبعي سعاد ومليحة خاتمي الخطبة، وكنت أتردد على بيتهما لأساعد الأم وهاجر في إعداد الجهاز، أما هاجر الكئيبة فكانت ترنو بعينيها إلى الخاتم الجاثم في يد أختها فيحز في روحها الشعور المؤلم بالحقيقة الراهنة، فتجاهد حسها وتكابد العذاب في مغالبة ما تعانيه من قلق واضطراب لئلا يقال: إن غمامة من الغيرة والحسد تخيم على نفسها فتسيء إلى سمعتها، وبرغم ذلك كله كانت تنتابها من حين لآخر نزوات من السخط، فتدعي بأنها تبرم بأعمال البيت المرهقة واستعجال الأهل في تهيئة الجهاز بوقت حرج قريب
لقد تزوجت الأختان ويعلم الله كيف حضرت هاجر عرسيهما، إنها لم تسمع الغناء بأذن واعية، ولا أبهت للرقص، ولا ذاقت من صفوف موائد الحلوى
لم تحقد هاجر على أختيها وإنما كان في قلبها غضب على الأيام كالنار في الحشا تتمنى لو أن الله خلقها جميلة فاتنة أو خلقها ذكراً
أصبحت هاجر وحدها في البيت مع أمها وأبيها، وقد جاوزت الثلاثين فكانت تعيش في نضال دائم بين الأمل والقنوط، وتتساءل بحرقة وحيرة عما تتوقع من الأيام وهي تمر وشيكة عجلى، أيشفق الحظ عليها وإن تقدمت سنها، أتهيئ الأقدار لها حياة زوجية كأختيها؟ ألا يوجد بين الرجال من يؤثر جمال الخلق والنفس على جمال الجسم والوجه؟ فتزدحم في
مخيلتها صور من الأحلام والآمال تكبح جماح نقمتها وتبعث في نفسها قليلاً من الاطمئنان، ثم تقوم إلى كتبها فتواسيها بحوثها وتسليها وتبحث فيها عن مآسي الحب والحياة، ولبثت ردحاً من الزمن تساورها الأماني برغم ما كان يبعدها من الواقع عن تحقيقها فتلمست في هذه الظاهرة الجديدة لوناً من العزاء والجمام
لقد صبرت هاجر بضع سنين انقلب عزاؤها بمرور الأيام ثورة نفسية أليمة جعلتها غريبة الأطوار قليلة الكلام، فأهملت العناية بألبستها وتسريح شعرها الذي عدا عليه الشيب كما أنها هجرت الاكتحال والصباغ وغارت عيناها وبرز جبينها المستدير وبدا في وجهها الشاحب ما يبدو للمراهق الطرير
عاشت هاجر البائسة في هذه الحقبة القصيرة يغمرها يأس عاصف وتصدمها الحقيقة الواقعة، ثم عبثت يد السآمة برغبتها في المطالعة فأعرضت عنها ونشدت السلوة في المتنزهات القريبة
كانت أمها تشهد اضطرابها وتديم التأمل والتفكير فيها، وتطالع في عينيها إمارات القلق والنقمة فتحس في نفسها عذاب الضمير لأنها كثيراً ما حالت دون خطبتها بشتى المعاذير، فكانت ترد أخطابها دون علمها؛ وكان هاجر إبان ذلك في ميعة العمر وريق الشباب، فأدركت الأم أن أنانيتها الحمقاء هي التي كانت تسول لها الازدراء بفتاتها الكبرى كلما أسرعت بها الأعوام حتى آثرت أن تبقيها عزبة لخدمة شيخوختها، ولولا أثرتها وإهمالها لكانت هاجر مثل أختيها زوجاً سعيدة وأما حنوناً
وطغى على روح الأم شعور الندم، وران عليها الغم والاكتئاب، فأحبت أن تكفر عن خطيئتها بتوفير الخدمة والمداراة لهاجر، وترغيبها في ممارسة التعليم الخاص في بيتها وزيارة صديقاتها
واستمرت السنون في سيرها فمات أبوها ولم يترك لها ما يؤمن معيشتها، وبقيت أمها عندها، أما أختاها فشغلهما عنهما الزوج والأولاد، وكان لكل منهما حماة غاشمة لئيمة، لا ترتاح لزيارة الأم والأخت لها، فأهملت المتزوجتان أمهما لئلا تعصف في بيتهما عواصف السوء والأحقاد
وفي جو هذا العيش الغائم الخانق كانت هاجر تناقش نفسها في مصيرها فرأت من الحكمة
وفصل الخطاب أن تحترف التعليم فعينت في المدرسة التي نشأت فيها وثقفتها
كان بين هاجر العانس ومديرة المدرسة دالة ومودة، فكانت تستشف في أحاديث هاجر حسرة ومرارة وتبرما بتكاليف الحياة، فتنفس عنها - بعطفها ولطفها - بعض ما يحتدم في نفسها من ضيق وانقباض
وعهد في المدرسة إلى هاجر بتعليم العربية لبعض الصفوف الابتدائية، فكانت شديدة العناية بتعويد التلميذات حسن الإلقاء وتجويده، وكلما آنست منهن تقدما ونجاحاً أوصتهن بالمثابرة على لهجتهن التي أخذنها عنها، إذ كان أملها القديم الذي غدا أوهن من بيت العنكبوت يعاودها الفينة بعد الفينة، ويوقظ فيها ما رقد من رجاء في الزواج، فتقول للتلميذات: حافظن على لهجة الإلقاء فربما لا أعود إليكن في العام القابل
جالت المديرة مساء يوم أرجاء المدرسة وراقبت صفوفها، فوقفت بباب صف سمعت فيه لغطا ولغوا، فاقتحمته وهي تظن أن ليس ثمة معلمة فيه، وشد ما شدهت حين رأت هاجر تحدق بنظرها في الأفق البعيد دون أن تتنبه لوجودها
تقدمت إليها المديرة بلطف وابتسام، وسألتها: فيم تفكرين يا هاجر؟ فأجابت: إنني أتأمل هذه الطفلة الجالسة ههنا، وأشارت إليها ثم أردفت قائلة:
انظري يا سيدتي مآسي الدهر ومهازله؛ إنني أفكر في أم هذه الطفلة، فلقد كانت تلميذتي!.
(دمشق)
وداد سكاكيني
مأساة من سوفوكليس
4 -
أنتيجونى
للأستاذ دريني خشبة
تتمة
- 11 -
الخورس: (مولاي! إن تيريزياس لم ينطق عن هوى قط! لقد أشعلت السنون رأسه بشيب التجارب، وإن هذه لنبوءة. . . إنها لنبوءة!!)
الملك وقد بدا عليه الفزع: (أنا أعرف ذلك! وا أسفاه! لشد ما أزعجتني نبوءة تيريزياس! ولكن. . . ماذا أصنع! إن التقهقر يؤلمني!
- (ما تزال فسحة من الزمن للتبصر يا مولاي!)
- (ماذا أصنع؟ انصحوا لي! سأطيع! سأخضع! انصحوا لي!
- (انطلق من فورك فاستنقذ الفتاة من قبرها، وابن قبرا للقتيل!)
- (أهذه نصيحتكم؛. . . ها. . . ها ها. . . لا. . . لن أستسلم! لن أستخزي!
- (البدار البدار! أسرع ما استطعت! إن السماء نفسها تتجهم. . . إنها تنذرك بلسان الكاهن
- (أواه! أنا مجبر! أنا مغلوب على أمري! أنا ما أستطيع مغالبة القضاء!
- (هلموا الساعة فاصنع كل شيء! بيدك أنت! لا تشرك يداً أخرى!
- (هلموا في إثري يا شعبي العزيز! هاتوا عدتكم! سأبني القبر، وسأحل العقدة التي أحكمت رباطها! لشد ما يضطرب الجزع في حنايا ضلوعي! لماذا حدث عن طريق قومي؟ يا للشجو!!
(يخرج الملك عجلا)
- 12 -
ويردد الخورس عظة الموقف، ثم يدخل رسول فيقول:
- (سلام على جيرة قدموس وأحباء أمفيون! قضي الأمر، فلا سعادة تنفع ولا شقاء يبقى! الجميع سواء! المُلْك! ما الملك! ما هو إن كان موحشاً هكذا! حلَك شديد وظلمة تتدجى!
- (ما وراءك يا رسول! أي ضِغْث ناء من جديد بكلكله على هذا البيت؟
- (ماتوا!! وقتلتهم ما يزالون أحياء!
- (من القاتل ومن القتيل، أفصح يا رسول!
- (هايمون! قتل هايمون! انتحر المسكين!! قتله يأسه وأودى به قنوطه، وحزنه على الفتاة التي قتلها أبوه!
- (ويحك يا كاهن طيبة، ما قلت إلا حقا! ويْ! الملكة! إنها قادمة! مسكينة يا أم هايمون! لشد ما تحزنين اليوم
- 13 -
(تدخل الملكة يوريدس)
- (فيم تناجيكم أيها الأعزاء! أحقاً قتل هايمون نفسه؟ لقد سمعتكم تقولون مثل هذا؟! نبئوني! لا تنزعجوا! ليست هذه أولى مصائبي، أحقاً مات ولدي!؟ تكلموا!!
- الرسول: (أيتها الملكة! سأقص عليك كل شيء، لقد شهدت المأساة بنفسي! كلنا سواء في الحزن وشركاء في الأسى! لقد ذهبت في إثر الملك إلى بطحاء طيبة حيث جثمان بولينيسيز، وحيث عمل الملك بيديه في حفر مقبرة لبقايا القتيل التي أبقت عليها عقبان الجو وذؤبان الفلاة. . . ثم انثنينا إلى القبو المظلم الفظيع الذي أمر بأنتيجونى أن تموت فيه. . . وما كدنا نقترب حتى سمعنا نشيجاً مؤلماً وأنيناً مفزعاً. . . ثم إذا صرخة داوية تتردد في حنايا القبو. . . وامرنا الملك أن نتقدم حين أدرك أن الصوت صوت هايمون. . . تقدمنا أيتها الملكة! وا حزناه! لقد بلغنا أقصى زاوية في القبو! يا للهول؟ أنتيجونى؟! مسكينة! لقد شنقت الفتاة نفسها بغُلالةٍ حريرية في سقف القبو!! وركع هايمون على ركبتيه. . . بجانبها. . . وأخذ يعانقها. . . ويبكي. . . وينعى حظه. . . ويبث شكواه! وكان يندب حبه بكلمات مُئنّة تقطّع نياط القلوب!. . . وكلمه أبوه. . . ولكن حدجه بنظرات غائرة، ثم انتزع سيفه وجعل زُجه إلى أرض القبو، وسِنَّه في صدره، واتكأ المسكين بكلكله عليه، فبرز الجراز يلمع من ظهره. . . وسقط قليلاً على الثرى، وظل ذراعه الضعيف الواني ملتفاً حول خصر أنتيجونى.!! وتدفق الدم مختلطاً بتراب القبو. . . وذهبت روحه البريئة محوطة بأرواح الآلهة إلى هيدز!!)
(تخرج الملكة كالمجنونة لا تلوي على شيء)
- 14 -
- (ماذا تستنتج من هذا؟ لقد انطلقت الملكة دون أن تنبس ببنت شفة؟!
- عجيب حقاً!! ربما كرثها الخطب، فهي ذاهبة تجمع له وصيفاتها ثم يبكي الجميع شباب هايمون!
- (. . . أ. . . الملك!. . . الملك قادم. . . ماذا يحمل؟. . . وي؟ إن الحزن كاد يصعقه!!
(يدخل كريون حاملا جثمان هايمون)
- (ويل لي من قتيل قاتل! ويل لي مما جنيت على نفسي! يا رحمتا لك يا ولدي! ويح لك يا هايمون! أنا قاتلك فاعف عني! اصفح عن والدك يا هايمون! آه!. . . أه. . .!
الخورس: (مسكين! يندم الآن ولات حين مندم! انبلج الحق لعينيه. . . ولكن. . . بعد أن لم يكن شيء!
الملك: (وا أسفاه عليك يا ولدي! الساعة فقط ألمس أخطائي! لكأنما كان القدر يعصب عيني!!)
(يدخل رسول ثان)
- (مولاي! أنت هنا تبكي ولدك. . . وفي القصر. . . بكاء جديد يا مولاي؟!
- (بكاء جديد ماذا؟ ماذا تخبأ لي الأقدار بعد هذا؟
- (الملكة يا مولاي. . . الملكة. . .
- (الملكة؟. . .
- (إي. . . ماتت!
- (ماتت! وا حربا لي آه يا برزخ الموت لم يجرف تيارك قطع نفسي؟ وأنت يا رسول الشؤم! لقد قتلتني مرة أخرى! ألا حدث أيها الرسول! أهي مضرجة بدمائها مثل هذا. . .
(ترفع ستار عن جثة الملكة فتبدو للعيان)
- (وا حسرتاه على ما قدمت! بكاء جديد وشجو آخر، أي خطوب أنكى تتربص بي أيضاً؟ آه يا ولدي الحبيب. . . ويح لك. . . ولأمك. . . أمك التاعسة. . .!)
الرسول: (لقد كانت تصلي للآلهة أمام المذبح، وكانت أيضاً تبكي ولديها ميجاريوس
وهايمون قبل أن تطعن نفسها بخنجرها)
الملك: (ألا من يطعنني أنا الآخر بخنجر ذي شعبتين، فلا يبقي ولا يذر!. . . وا حزناه!. . .
الرسول: (لقد طعنت نفسها بعد أن انطلقت من هنا وبعد أن سمعت بانتحار هايمون!
الملك: (أنا القاتل يا رفاق! أعترف! أنا القاتل! لقد قتلتهم جميعاً. . . اقبضوا علي!
مرحبا بالموت! مرحبا به من منقذ! لن أعيش ليوم آخر، لن تشرقي على يا ذكاء مرة أخرى
الخورس: (الزمن كفيل بكل شيء! والقدر يبرم نهايته!)
الملك: (لقد صليت صلاتي وأودعتها كل أماني!)
الخورس: (وماذا تجدي الصلاة؟ إنها لا تدفع حشرجة المحتضر!)
الملك: (هلموا بي! هلموا بالرجل المتجبر الذي قتل ولده. وقضى على. . . زوجه!. . . إن الدنيا بأجمعها تَهاوى فوق رأسي حجراً حجراً! يا للمقادير! يا لشجوي!. . .)
الخورس: (العمل الصالح طريق السعادة الممهد! وطاعة السماء فرض قدسي! الكبرياء تحطم الكبرياء! والخيلاء تورث الشقاء. . . والسعيد من اتعظ)
دريني خشبة
البريد الأدبي
عطف المسلمين على منكوبي فلسطين
كان من أثر ما نشرته (الرسالة) من الوصف الناطق لمآسي فلسطين الدامية أن دفعت الأريحية العربية إخواننا في (تلمسان) إلى أن يؤلفوا جمعية لإعانة منكوبي فلسطين، فجمعت في أول اجتماع ألفا وخمسين فرنكا فرنسيا؛ أرسلت بها تحويلا إلى إدارة الرسالة على بنك الكريدي ليونيه في باريس. وقال الفاضل السيد المختار الصبان أحد أعضاء هذه الجمعية في كتابه إلينا:(وقد اقتضى نظر اللجنة المكلفة بجمع الإعانات في (تلمسان) أن يُبعث هذا المبلغ بأسمكم، راجين من فضلكم أن تبلغوه أنتم من هناك إلى من هو قائم بقبض الإعانات وتلقيها بفلسطين. وهذا مبلغ أول اجتمع بيننا، وسنوافيكم بعده إن شاء الله بكل ما يجتمع لدينا، لأننا مازلنا فاتحين باب الإعانة ودائبين في العمل. . .)
و (الرسالة) باسم فلسطين تشكر لأهل تلمسان أريحيتهم، ويسرها أن تكون واسطة خير بين إحسانهم وبين لجنة الإعانة
مسألة الأجناس
وجهت مجلة (النوفيل لترير) الباريزية إلى طائفة من أكابر الأخصائيين الفرنسيين في علوم الأجناس البشرية (البيولوجيا والانتروبولوجيا) عدة أسئلة تثيرها اليوم مسألة الأجناس في أوربا؛ وأخصها ما يأتي: (1) ما هو مبلغ نظرية جوبينو عن مزايا نقاء الأجناس أو تمازجها من الصحة؟ وهل يمكن أن تعتبر من الوجهة العلمية من عوامل التأثير في الحياة العقلية والمادية للأمم؟ (2) هل يمكن أن يعتبر وجود الأجناس النقية المنعزلة في عصرنا حقيقة بيولوجية؟ أم هل تقتصر هذه الحقيقة على بعض الميول العقلية والمصطنعة التي تتأثر بها اليوم بعض الأمم؟
وقد أجاب على أسئلة المجلة الباريزية عدة من أكابر العلماء منهم الأستاذ ريبو أستاذ البيولوجيا في كلية العلوم الباريزية، والمسيو رفيير مدير متحف الأنتروبولوجيا، والدكتور فرنو أستاذ الأنتروبولوجيا في معهد باريس. وتتلخص أجوبة هؤلاء العلماء فيما يأتي:
(1)
إن الأجناس أو السلالات النقية نادرة الوجود في عصرنا حتى في أعرق الأمم حضارة، ولا يوجد أي نموذج منها في أوربا. وهي من الوجهة النظرية يجب أن تكون
وحدات بيولوجية. ولكن الواقع أن الجماعات التي تزعم أنها قد احتفظت بنقاء الجنس لا تقوم إلا على المصلحة المشتركة، ولا تجمعها سوى ميول عقلية أو مصطنعة، وهذه ليست سوى عواطف يستغلها القادة في الجمهور الساذج
(2)
إن امتزاج الأجناس الرفيعة بالأجناس المنحطة لا ينتج دائماً من الآثار السيئة ما يقول بعض العلماء؛ فقد ثبت من المشاهدات البيولوجية الحديثة أن هذا الامتزاج ينتج أحياناً نماذج جنسية بديعة. مثال ذلك امتزاج الأسبان والبرتغاليين بالهنود في البرازيل، فقد أنتج في بعض الأقاليم جنساً خلاسياً هو أذكى وأنشط وحدات الشعب البرازيلي
وقد أنتج امتزاج المستعمرين الهولنديين في جنوب أفريقية بالهوتنتوت شعباً ذكياً قوياً من الوجهة الحيوية
ويلاحظ الأطباء الفرنسيون أن امتزاج الفرنسيين بالهند الصينيين ينتج نسلاً بديعاً خصباً
وقد لاحظ رحالة إنكليزي كبير أن امتزاج السود بالبيض في الجزر الجنوبية في المحيط الهندي ينتج نسلاً جميل التكوين وافر الذكاء؛ وقد لاحظ بنوع خاص أن النساء الخلاسيات في هذه الجزر يتمتعن بجمال في الوجه والجسم يندر أن يوجد في كثير من الأجناس الأوربية
والخلاصة أن آراء أولئك العلماء تكاد تتفق على نقطة جوهرية هي أن نظرية نقاء الأجناس لا تقوم من الوجهة العلمية على أسس صحيحة
رواية عن مصر الفرعونية
كان أول من أتخذ أساطير مصر الفرعونية وتاريخها موضوعا للقصة العصرية الكاتب والرحالة الألماني الشهير جورج إيبرس، فقد أخرج لنا عن مصر الفرعونية عدة قصص امتازت بحسن السبك والخيال؛ ولم تكن المباحث الأثرية الفرعونية قد تقدمت في عصر ايبرس، أعني منذ نحو قرن تقدماً يذكر، وقد أثارت الاكتشافات الأثرية الأخيرة في تراث مصر القديمة اهتماماً كبيراً، وألفى فيها جماعة من الكتاب من مختلف الأمم مادة حسنة للقصة الممتعة. ومن هذه القصص التي ترجع بنا إلى الماضي الغابر، قصة صدرت أخيراً بقلم الكاتب الإنكليزي جاك لندسي عنوانها (جولات وينامين) وهي قصة تدور حوادثها على أواخر عصر طيبة حينما أشرفت مصر على هاوية الفوضى والحرب الأهلية، وبطلها
موظف حكومي يدعى وينامين أوفده الكاهن الأكبر (آمين) إلى لبنان ليشتري خشباً من الصندل ليصنع منه قارب مقدس، ويصف المؤلف أحوال مصر المضطربة خلال الرحلة وما يلاقيه وينامين من الأحداث والمفاجآت الخطرة، ويصف بالأخص ظروف الحياة في طيبة القديمة، ويقارنها بالحياة في مصر الشمالية (الدلتا)، ويبدي مستر لندسي براعة خاصة في تنسيق الحوادث التاريخية وسبكها في قالب القصة المبتكرة دون أن يجني على روحها أو صبغتها التاريخية، وهذه مقدرة تشهد له بالتوفيق في فهم روح مصر الفرعونية كما يجب أن يفهمها قصصي يحاول أن يعرض الحقيقة في ثوب الخيال. ويرى بعض النقدة أن مستر لندسي هو أول قصصي إنكليزي استطاع منذ تشارلس كنجسلي مؤلف (هيباسيا) التي تدور حوادثها على العصر اليوناني في مصر أن يقدم عن مصر القديمة رواية جديرة بالتقدير الأدبي
رحلة في بلاد العرب
الآنسة فرييا ستارك رحالة إنكليزية تجولت كثيرا في الجزء الجنوبي من بلاد العرب. وقد أصدرت أخيراً كتاباً عن بعض رحلاتها عنوانه (أبواب جزيرة العرب الجنوبية وفيه تصف رحلتها في حضرموت، التي اخترقتها وحيدة في غمر من الصعاب والمشاق الهائلة. وقد كانت حضرموت منذ الأزمان الغابرة أعظم مركز لتجارة (البخور) والعطور الدينية التي لبثت مراكز إنتاجها قروناً في معزل عن العالم ولاسيما أوربا؛ وقد استطاعت الآنسة ستارك أن تنفذ إلى هذه المراكز وأن تتجول فيها؛ وفي كتابها نحو مائة صورة التقطتها بنفسها تمثل كثيراً من المناظر المدهشة عن طبيعة هذه البلاد وسكانها
ذكرى مؤلف المارسييز
احتفل أخيراً في أنحاء فرنسا بذكرى مؤلف النشيد القومي (المارسييز)، روجيه دي ليل لمناسبة مرور مائة عام على وفاته ونظم الاحتفال الرئيسي في مدينة ستراسبورج مسقط رأس المحتفل بذكراه، وألقيت الخطب الرسمية تنويهاً بروعة النشيد القومي وعظمة واضعه. وكان روجيه دي ليل ضابطاً في جيش الثورة، وكان شاعراً بفطرته، فوفق إلى وضع هذا النشيد الذي مازال منذ نحو قرن ونصف قرن يثير ضرام الحماسة القومية في
فرنسا كلما هبت عليها الأزمات أو قرع نذير الحرب؛ وقد وضع روجيه دي ليل نشيده لجيش الرين الذي كان ينتمي إليه، ولكن جماعة من المتطوعة المرسيليين (أهل مرسيليا) نقلوا هذا النشيد وأذاعوه في أنحاء فرنسا، فسمي نشيد المارسييز منذ أيام الثورة إلى يومنا، ومازال هذا النشيد القومي الفرنسي يعتبر من أروع الأناشيد القومية؛ وقد وصفه الكاتب الإنكليزي الكبير توماس كارليل بأنه أسعد تركيب موسيقي، وأعظم غذاء للعزة والحماسة
وفاة كاتب ألماني كبير
توفي في باريس أخيراً كاتب سياسي ألماني كبير هو جورج برنهارت محرر جريدة (باريز - تسيتونج) التي تصدر بالألمانية في باريس. وكان برنهارت قبل قيام الحكومة الهتلرية عضواً في مجلس الريخستاج (البرلمان)، وكان ديمقراطياً متطرفاً، فلما قامت حكومة النازي هرع إلى المنفى فيمن هرع من أكابر الكتاب والساسة اتقاء لبطش طغاة ألمانيا الجدد؛ ووقف قلمه على محاربة الدعوة النازية في الخارج؛ وكان يكتب بالفرنسية في بعض المجلات والصحف الباريزية بمثل براعته في اللغة الألمانية
ومعظم أقطاب الكتاب الألمان يعيشون اليوم في المنفى وعلى رأسهم توماس مان، وأخوه هنريش مان، وأميل لودفيج، وليونارد فرنك، وغيرهم. ومنهم من غادر ألمانيا بسبب يهوديته مثل لودفيج؛ بيد أن معظمهم غادرها لأسباب سياسية، ولأن الحكومة الجديدة لا تسمح بذرة من الحرية للكتاب أو المفكرين
وهكذا يموت أكابر الكتاب الألماني في المنفى تباعاً لأنهم لا يستطيعون أن يتنفسوا في وطنهم
الكتب
سعد زغلول
سيرة وتحية
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
بقلم الأديب عبد الرحمن صدقي
آية هذا الكتاب أن اجتمعت له خصال ثلاث تجعله في عداد كتب السيرة المشهود لها لأعلام المترجمين، وتلك الخصال هي: التحقيق التاريخ، والتحليل النفساني، والتأثير العاطفي
يقول العقاد في كلمة التمهيد لترجمته: (إن الصديق والمؤرخ في الكتابة عن رجل كسعد زغلول يستويان أو يتقاربان، لأن الصديق لن يقول فيه ما ينكره المؤرخ، والمؤرخ لن يقول فيه ما ينكره الصديق. ومن النقص في جلاء الحقيقة أن يكتب المؤرخ ترجمة لعظيم ثم لا يكون على مودة لذلك العظيم. ولأن يكون الكاتب مؤرخاً وصديقاً خيرٌ للتاريخ نفسه من أن يكون مؤرخا وكفى، لأن الترجمة فهم حياة، وفهم الحياة لا يتسق لك بغير عطف ومساجلة شعور)
ولما كان الاستقصاء في طبيعة مؤلفنا الكبير، فقد ابتدأ موضوعه من البداية، فتناول (الطبيعة المصرية) بالبحث الضافي، وعرض لمحك النقد أقوال المؤرخين فيها من أقدم عصور التاريخ، وأخذ باطل المبطلين منهم بالتفنيد المدعم بالأسباب والأسانيد. ثم أبان في فصل آخر عن وجه الحقيقة فيها بما لا يدع بعده زيادة لمستزيد
وانتقل إلى أصل المترجم له، فلم يسكت عن تلميح البعض إلى نسبته إلى غير الأرومة المصرية، ومن هؤلاء من يرد أعراقه إلى المغول والترك، وآخرون إلى البدو أو عرب المغرب، ولقد سرد المؤلف مثار الشبهات عند أولئك المتقولين ليعيد فيها النظر على ضوء علم الأجناس، ثم باستقراء ما هو معروف من طريق القبائل العربية النازحة، فانكشف لمرأى العين ضعفها وصرف عنها الأذهان مقررا أن عراقة سعد في بيئة الفلاح المصري لا تفوقها عراقة زعيم من أبناء الأمم الأخرى
ثم يجيء الكلام عن جيل سعد وطابعه المميز من طلب الإصلاح والدعوة له والغيرة عليه، وبيان الدوافع لهذه الحركة الإصلاحية من الداخل والخارج، وما كان لهذا الجيل من شأن في نشأة سعد واتجاه همته، وصفة أعماله في مستقبل أيامه، ومن هذا الوصيد الكريم، يتطرق القارئ إلى حمى البيت القديم، ويتعرف إلى جد زغلول وأبويه وقرابته وطبائع قومه وأسرته، ومظاهر الحياة في بلدته، وإذا بك بعدها ترى سعداً في مدارج طفولته، وتتوسم مخايل نجابته، وتتتبع خطواته من مكتب القرية، إلى الجامع الدسوقي، إلى حلقات معهد الأزهر الكبير
وفي هذه القاهرة المعزية، اندمج الفتى سعد في حركة دعاة الإصلاح وألقى بسهمه مع سهامهم، وكان يحضر الدرس على الشيخ محمد عبده، ويختلف إلى مجلس السيد جمال الدين الأفغاني؛ وكان الأول أستاذاً له في الدرس وقدوة في الخلق، وأما لقاؤه للثاني بطبيعته الثورية فكان مرآة مجلوة لنفسه الجائشة وحافزاً لملكاته البيانية والخطابية
ومن ذلك الحين يصح الجزم بأن سعداً قد أتجه فعلاً إلى وجهته، واستقام على متن طريقه المقدورة له
ويتسع الأفق فإذا الثورة العرابية ومقاديرها ومعقباتها من نفي وتشريد وحبس. وتشاء العناية لسعد أن تقوم على خدمته ظروف وملابسات، فيفرج عنه على كره من أولياء الأمر. ولا يلبث طويلاً حتى يشق طريقه من المحاماة إلى منصة القضاء، ثم تحمله رغبة الحاكمين في إرضاء القومية المصرية وقتئذ إلى دست الوزارة
هنا تزخر حياة هذا الرجل بالأحداث، ويظهر أنه المدخور لنهضة وطنية عارمة تعم البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وتؤلبها في قوة وإيمان على الغاصبين. ويمضي المؤلف في تاريخه الضخم يصورها أروع تصوير، ويدفع عنها المغالطة والنكير، في فصول حافلة طوال: في طريق الوزارة، سنة 1906، وزارة المعارف ووزارة الحقانية، سعد الوزير، الحركة الدستورية، الوزير المصري في المعاش، في ميدان الانتخاب، الجمعية التشريعية في خمسة أشهر، قبيل الحرب، الحرب العظمى، تأليف الوفد المصري، بدء العمل، القارعة، الثورة، من القاهرة إلى مالطة إلى باريس، تأليف الوفد الأول، موقف الوزارة الرشدية، برنامج الوفد والامتيازات، الوفد في أوربا، من سفر الوفد إلى لجنة ملنر،
المفاوضة في لندن، في مصر أثناء المفاوضة، بعد عودة الأعضاء، الوزارة العدلية، العودة، الخلاف على المفاوضة، القطيعة بين سعد والوزارة، فضل المفاوضات الرسمية، النفي، تصريح 28 فبراير، من المنفى إلى الوزارة، في رآسة الوزارة، الملك فؤاد وسعد، من رآسة الوزارة إلى رآسة النواب، في رياسة مجلس النواب
وهذه الفصول الطوال تنتظم التاريخ المعاصر كله لمصر الحديثة في صور حية رائعة تتعاقب على أنظارنا وكأنما كاتبها لا يخط أحرفاً وإنما يرسم تهاويل مجسمة كالتي اشتهر برسمها على جدران المعابد شيخ الرسامين ميشيل انجيلو. على أنه يتخللها هنا وهناك مواقف شتى يقف فيها الفنان موقف المحلل الشارح، كما يلبس أحياناً رداء المدره المنافح
ويختتم المؤلف كتابه كما استهله بفصول دقيقة عميقة لا تتاح لغيره عن زعامة سعد وأثرها، وعن سعد وخصومه، وعن شخصيته وأخلاقه، وعن ثقافته. ويبلغ العقاد منتهى حنو العاطفة في كلامه عن سعد في بيته، ومبلغ حدبه على أهله، وكيف كانت السيدة الجليلة أم المصريين بنفسها المحبة وفطنتها الألمعية وقلبها الكبير، شريكته بحق في حياته ومجده. وكذلك يعرض عليك المؤلف الناحية اللينة إلى جانب الناحية الصلبة في وصفه للقاء الأول واللقاء الأخير. وأما كلمته عن فاجعة الوفاة فإنها في عبارتها الصادقة المؤثرة يطالعها القارئ فيغلبه التأثر مهما يكن جلده، فإذا هو لا يملك وجده، وإذا الدمع يخنقه والزفرة تكظ صدره ثم لا تبرح ذهنه هذه الصورة آخر العمر:
(ثم ضعف النبض دفعة واحدة، بعد انتظامه في جميع الأدوار الماضية، فغلب اليأس على الرجاء. وعاده الأطباء للمرة الأخيرة في التاسعة والدقيقة الخامسة والأربعين، ونزلوا إلى المكتب لكتابة تقريرهم الأخير. وإنهم لكذلك، إذ دعي فتح الله بركات باشا إلى غرفة خاله وهو يجود بنفسه في غيبوبة لم تنقطع منذ الصباح. فاشرأبت الأعناق وأمسك الناس أنفاسهم يترقبون. وما هي إلا دقائق معدودات حتى عاد فتح الله باشا إلى المكتب يمشي كالشيخ الهائم شاحب الوجه مذهول العينين. ولم يجرؤ أحدٌ على سؤاله مخافة أن يكون الجواب المحذور. ولكنهم علّقوا أنظارهم جميعاً بعينيه ولبثوا شاخصين ينتظرون. دقيقة واحدة أو دقيقتين، ولكنهما كانتا من أزمان الأبد في روع الشاخصين المنتظرين. وفي تلك اللحظة ارتفع صوت ناحب عند الشرفة المطلة على المكتب، فضرب فتح الله باشا يديه
على ركبتيه، وجلس وهو في جمود الأموات. . . . . . ومضت ثوانٍ أخرى. مضت والناس في سكون عميق مرهوب، وكان كل ما في بيت الأمة، وكل ما حوله على أعمق ما يكون السكون، لا صدى في المنزل ولا في الطريق طوال اليومين الماضيين، حذراً من إزعاج المريض العظيم المأمول الشفاء. فلما ارتفع الصوت الناحب وجم الحاضرون ثواني قلائل، كأنما كانوا يستطيلون الأمل المدبر، أو كأنما كانوا بين تصديق وتكذيب. ثم انفجروا صيحة واحدة بالنشيج والعجيج، فلم يكن أرهب من ذلك السكون إلا هذا الضجيج الذي اتصل صداه في لحظات معدودات بكل مكان في القاهرة، وكل مكان في أرجاء البلاد. .)
ولو أرخينا العنان لإعجابنا لأوردنا الكتاب كله شاهداً على فضل كاتبه في كل ما سطره فيه، وتبريزه في نواحيه المتعددة، وبلوغه الغاية من الفن والوفاء والصدق
ولكننا نقتضب، فنقول إن جملة القول في كتاب سعد زغلول للعقاد إنه أعظم نَصَبِ أقيم للبطل العظيم الراحل
عبد الرحمن صدقي