المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 163 - بتاريخ: 17 - 08 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٦٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 163

- بتاريخ: 17 - 08 - 1936

ص: -1

‌الأخلاق المحاربة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وحدثني صاحب سرّ (م) باشا بهذا الحديث قال: كنا في ثورة سنة 1919 سنة الهزَاهِز والفتن، وقد تفاقمت الثورة وأخذ الشباب يعمل ويفكر فيما يستطيع أن يعمل وما يجب أن يعمل؛ وكان السّخط العام هو ميراث الوقت، فكانت قلوب الشعب تلهم واجباتها إلهاماً إذ لم يكن في هذه القلوب كلها إلا لذعة الدم تعين اتجاه أعمالها وتحددّه.

كانت الثورة زلزلةً وقعت في التاريخ فجاءت تحت زمن راكد لا يتغير إلا بأن ينسف، ولا ينسفه إلا مادة إلهية كالحركة الكونية التي تخرج اليوم الجديد من اليوم القديم؛ فكان القدر يعمل بأيدي الإنجليز عملاً مصرياً ويعمل بأيدي المصريين عملاً آخر. وتعلم الشعب من دفن شهدائه كيف يستنبت الدم فينبت الحرية، وكيف يزرع الدمع فيخرج منه العزم، وكيف يستثمر الحزن فيثمر له المجد.

وكان رصاص الإنجليز يصيب هدفين معاً، فيصرع شهداءنا، ويقتل الموت السياسي الذي احتلّ معهم هذه البلاد. وقد أنعموا على الشعب بالصدمة الأولى فنشبت المعركة التي تقاتل فيها الأخلاق القومية لتنتصر؛ وشعرت مصر في جهادها بأنها مصر فالتمس روحها التاريخيّ رمزه العظيم في الأمة ليظهر فيه عاتياً جباراً؛ فكان هذا الرمز الجليل العظيم هو سعد زغلول.

قال صاحب السر: وكان الطلبة قد غدوا من أول النهار يتظاهرون، وقد جعلتهم الثورة كالأرواح تخلّصت من الموت بالموت فلا تخشاه ولا تبالي به، واستقلّت عن العقل بتحولها إلى شعور محص، وخرجت عن القوانين كلها إلا القانون الخفي الذي لا يعلم ما هو.

كانوا في معاني قلوبهم لا في غيرها، فلست تراهم إلا عظماء في عظمة المبدأ الذي ينتصرون له، أقوياء في قوة الإيمان الذي يعملون به، أجلاء في جلال الوطن الذي يحيون ويموتون في سبيله. وكانوا في الشعب هم خيال الأمة العامل المدرك، وشعورها الحي المتوثب، وقواها البارزة من أعماقها، وأملها الزاحف ليقهر الصّعوبة. يُفَادُون بأنفسهم الغالية، ويؤثرون عليها، وليس في أحدٍ منهم ذاته ولا أغراض شخصه. فما أجلَّ وما أعظم! وما أروع وما أسمى! أيتها الحياة! هل فيك أشرف من هذه الحقيقة إلا حقيقة النبوَّة؟

ص: 1

قال: وكان أخي هو زعيم هؤلاء الطلبة في مدنيتنا؛ قويٌّ على الزَّعامة وفيٌّ بها، يحمل قلباً كالجمرة الملتهبة وله صوت بعيد تحسب الرعد يُقَعْقع به. إذا مشى في جهاده كان كل ما على الأرض تراباً تحت قدميه فلا يمشي إلا محتقراً هذه الدنيا وما فيها، غير مقدّس منها إلا دينه ووطنه. وسلاحه أن كل شيء فيه هو سلاح على الظلم وضد الظلم.

وكان في ذلك اليوم يقود (المظاهرة) وحوله جماعة من خالصته وصفوة إخوانه يمشون في الطليعة تحت جو متَّقد كأن فيه غضب الشباب، عنيفٍ كأنما امتزج به السخط الذي يفورون به، رهيب كأنه مُتهيئ لينفجر فلما بلغوا موضعاً من الطريق ينعطفون عنده انصبَّ عليهم المدفع الرشاش. . . .

قال: فإني لجالس بعد ذلك في الديوان إذ دخل علي أخي هذا ينتفض غضباً كأن المعاني تنبعث من جسده لتقاتل، ورأيت له عينين ينظر الناظر فيهما إلى النار التي في قلبه، فخشيت أن يكون القوم أطلقوا عليهم الجنون والرصاص معاً.

واستنبأته خبر أصحابه فقال: إن الذين كانوا حوله وقعوا يتشَحَّطون في دمائهم فوقف هو شاخصاً إليهم كأنه ميت معهم وقد أحسَّ كأنما خلع عن جسمه نواميس الطبيعة فلا يعرف ما هي الحياة ولا ما هو الموت. وكان الرصاص يتطاير من حوله كأن أرواح الشهداء تتلقاه وتبعثره كيلا يناله بسوء. قال: وما أَنس لا أنس ما رأيته في تلك الساعة بين الدنيا والآخرة؛ فلقد رأيت بعيني رأسي الدم المصري يسلّم على الدم المصري ويسعى إليه فيعانقه عناق الأحباب.

ثم قال: أين هذا الباشا وما باله لم يصنع شيئاً في الاحتياط لهذه الفَوْرة؟ يكاد الخزي والله يكون في هذه الوظائف على مقدار المرتب. . . .

قال صاحب السرّ: ولم يتم كلمته حتى خرج علينا الباشا متكسر الوجه من الحزن وقد تغرغرت عيناه فأخذ بيد أخي إلى غرفته وتبعتهما قم قال: هَوْناً ما يا بني، إن العلة فيكم أنتم يا شباب الأمة، فكل ما ابتلينا أو نُبتلى به هو مما يستدعيه خمولكم وتستوجبه أخلاقكم المتخاذلة. إننا من غيركم كالمدافع الفارغة من ذخيرتها لا تصلح إلا شكلا، وبهذه العلة كان عندنا شكل الحكومة لا الحكومة.

أتدري يا فتى ما هي الحكومة الصحيحة في مثل حالتنا؟ هي أن تحكموا أنتم في الشعب

ص: 2

حكومة أخلاقية نافذة القانون فتضبطوا أخلاق النساء والرجال وتردّوها كلها أخلاقاً محاربةً لا تعرف إلا الجد والكرامة وصرامة الحق، وإلا فكما تكونون يُوَلىَّ عليكم. . . .

هذا وحده هو الذي يعيد الأجانب إلى رشدهم وإلى الحقيقة، فما أراهم يعاملوننا إلا كأننا ثياب معلقة ليس فيها لابسوها. . .

كيف يتصعلك المصري للأجنبي لو أن في المصري حقيقة القوة النفسية؟ أترى بارجة حربية تتصعلك لزورق صيد جاء يرتزق؟

إن في بلادنا المسكينة الأجانب، وأموال الأجانب، وغطرسة الأجانب، لا لأن فيها الاحتلال، كلا، بل لأن فيها ضعف أهلها وغفلة أهلها وكرم أهلها. . . . بعض هذا يا بني شبيه ببعض، وإلا فما هو كرم الشاة الضعيفة إلا لذة لحمها. .؟

نريد لهذا الشعب طبيعة جدية صارمة ينظر من خلالها إلى الحياة فيستشعر ذاته التاريخية المجيدة فيعمل في الحياة بقوانينها. وهذا شعور لا تحدثه إلا طبيعة الأخلاق الاجتماعية القوية التي لا تتساهل من ضعف، ولا تتسمح من كذب، ولا تترخص من غفلة. والحقيقة في الحياة كالحقيقة في المنطق إذا لم يصدق البرهان على كل حالاتها، لم يصدق على حالة من حالاتها. فإذا كنا ضعفاء كرماء، أعزاء، سادة على التاريخ القديم، فنحن ضعفاء فقط. . .

إن الكبراء في الشرق كله لا يصلحون إلا للرأي، فلا تسوموهم غير هذا، فهم قد تلقوا الدرس من أغلاطهم الكثيرة، وبهذا لن تفلح حكومة سياسية في الشرق الناهض ما لم يكن شبابها حكومة أخلاقية يُمدُّها من نفسه ومن الشعب في كل حادثة بالأخلاق المحاربة.

يا بني إن القوي لو اتفق مع الضعيف على كلمة واحدة لا تتغير لكان معناها للأقوى أكثر مما هو للأضعف. فإن هذا القوي الذي يعمل مع الضعيف يكون فيه دائماً شخص آخر مختف هو القوي الذي يعمل مع نفسه.

هكذا هي السياسة؛ أما في الإنسانية فلا، إذ يكون الحق دائماً بين الاثنين أقوى من الاثنين.

(سيدي بشر. إسكندرية)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 3

‌من ذكريات الحداثة

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كان ذلك في (العيد الكبير) - كما كنا نسمي (عيد الأضحى) - وكنا يومئذ تلاميذ في مدرسة ثانوية، ومساكننا بعضها قريب من بعض، فنحن لهذا أصدقاء وإخوان. فاقترح أحدنا في صباح يوم أغبر أن نذهب في ليلتنا تلك إلى (دار التمثيل العربي) - أو تياترو الشيخ سلامة حجازي كما كنا ندعوه - لنشهد رواية (روميو وجوليت) فاعترضت على ذلك وقلت: إنه يكلفنا نفقة لا قِبَلَ لنا بها، فقد كان الواحد منا يأخذ في اليوم من أبيه أو ولي أمره قرشاً في اليوم، وكنا كثيراً ما نعجز عن إنفاق القرش كله لأنا لم نكن نجلس على (القهاوي) ولا كنا ندخن أو نشرب خمراً، ولم تكن السينما قد ظهرت في تلك الأيام، فكان يتفق أن يبقى مع كل منا في آخر الأسبوع بضعة قروش - اثنان أو ثلاثة، أو أربعة في بعض الأحيان - فنفرح، ونركب النيل بزورق، بضع ساعات. ولكن هذه القروش القليلة لا تكفي للذهاب إلى مسرح الشيخ سلامة، فما العمل؟؟ وأصر الإخوان على ذلك وقال قائلهم: أمامنا النهار كله، فلنحتل وليدبر كل منا أمره. فخجلت أن أقول إني عاجز عن الاحتيال والتدبير، ومضيت عنهم ببال كاسف وقلب حزين.

ورأتني أمي وكانت هي أبي وأمي - فقالت (مالك؟) ولم أكن أستطيع أن أكذبها أو أكتمها شيئاً إذا سألتني، فقلت:(إن زملائي قد اتفقوا على الذهاب في هذه الليلة إلى تياترو الشيخ سلامة، وليس معي ما يكفي لذلك، فأنا لهذا مهموم مكروب).

قالت: (كم معك؟).

قلت: (ثلاثة قروش ومليمان).

قالت: (وكم تريد؟).

قلت: (ريال).

قالت: (أما ريال فلا. . . اذهب إليهم وأنبئهم أنك لست معهم).

قلت: (ولكنني أريد أن أذهب).

قالت: (لا شك. . . ولو كان معي فضل مال لأعطيتك منه، ولكن كل ما عندي - على قلته - لازم لمطالب البيت إلى آخر الشهر، ولن يستطيع أحد منا صبراً على الجوع، فاذهب

ص: 5

وافعل ما أشرت عليك به).

فتركتها وزاد كربي وثقل همي، وفتحت الباب ووقفت على رأس السلم أفكر فيما أقول لأصحابي، وأنا مطرق ويدي على الدرابزين، وكانت عندنا فتاة صغيرة في مثل سني، تخدمنا، فخرجت ورائي ثم قالت لي:

(ما لك يا سيدي؟).

قلت: (لا شيء!). وأشرت لها بيدي أن تدخل.

قالت: (ولكنك مطرق. . . .).

قلت: (ولم لا أطرق إذا شئت؟؟ هل هذا ممنوع؟).

قالت: (لا. . . ولكنك مكتئب!).

قلت: (ربما. . . .).

قالت: (يعز عليَّ أن أراك هكذا. . . .).

قلت: (أشكرك).

قالت: (ألا تخبرني ماذا بك؟).

قلت: (لا شيء!).

وماذا بالله أقول لها؟؟ إنها خادمة، فكيف أطلعها على سري؟؟ وصحيح أنها رُبّيت في بيتنا - معي - وأنا جميعاً ننظر إليها كأنها واحدة منا، ولكني لم أعتد أن أرفع الكلفة بيني وبينها على الرغم من ذلك. فلم يسعني إلا أن انحدر وأتركها.

ولكني لم أقل لإخواني شيئاً، واكتفيت بأن أجلس على كرسي أمام الباب وأنا أقول لنفسي:(من الآن إلى العشاء يفرجها ربك. . . ولست أعرف لي الآن عذراً غير الإفلاس أعتذر به لإخواني، ولكن الله قد يفتح عليَّ ويلهمني العذر المقبول).

ولم أفكر قط في وسيلة لتدبير الريال المطلوب، فقد كنت من ذلك على يأس كبير؛ واقتنعت بما قالت لي أمي، فصار همي أن أهتدي إلى عذر يقتنع به الإخوان، ولا أخجل أنا منه. وإني لكذلك وإذا بالفتاة الخادمة تدنو مني وتهمس في أذني أن تعال، فأسألها فتقول:(كلّم) وتسبقني إلى الفناء فالسلم، وأصعد درجات فتستوقفني فألتفت إليها فتمد يدها بريال تضعه في كفي فأعجب وأنظر إليه وإليها وأسألها:

ص: 6

(ما هذا؟).

فتقول: (ألست تريد ريالاً؟ هذا هو).

فأقول - وقد زاد عجبي -: (ولكن من أين لك هذا الريال؟).

فتقول: (إنه من مرتبي).

فأسألها: (هل طلبته من أمي؟).

فتقول: (نعم).

فأعود أسألها: (وماذا قلت لها؟؟ لأي شيء طلبته منها؟).

فتقول: (طلبته والسلام).

فأقول: (كلا. . . إن أمك هي التي تقبض مرتبك كل بضعة شهور، ولم يحدث قط أن أخذت أنت شيئاً منه، فكيف رضيت أمي أن تعطيك الريال هذه المرة؟ قولي الحق. . كيف أخذته؟).

فأغضت وقد اتقد وجهها - وكانت بيضاء حسناء - وقالت: (سرقته لك!).

فصحت وقد فزعت: (إيه؟).

قالت: (لا تصح هكذا!! أتريد أن يقتلوني؟).

قلت: (ولكن السرقة؟؟ كيف تجرئين؟).

قالت: (وهل هذه سرقة؟ إنه من مرتبي وسأخبر ستي بعد أن تذهب أنت إلى التياترو).

قلت: (ولكن من أين عرفت أني أريد ريالاً؟).

قالت: (سمعت ستي وستي تتكلمان) - تريد والدتي وجدتي -

قلت: (ثم غافلتهما وسرقت؟ أليس كذلك؟).

قالت وهي مطرقة: (نعم).

قلت: (ولماذا ارتكبت هذا الأثم؟).

قالت: (لم أستطع أن أراك هكذا).

قلت: (شكراً لك. . . ولكن هذا الريال يجب أن يرد إلى مكانه. . . حالاً. . . فمن أين أخذته؟).

فوصفت لي المكان الذي كان فيه. فقلت لها: (يجب أن تعلمي أني لا أريد أن أذهب إلى

ص: 7

التياترو، ولو كانت لي رغبة لألححت على أمي، ولأعطتني ما أريد. ثم يجب أن تقسمي ألا تعودي إلى مثل هذا العمل فإنه إثم كبير، وإلا أخبرت ستك، وأنت أدرى بما يكون إذا علمت).

وصعدت قبلي، وعدت أنا والريال معي إلى كرسيّ على الباب أمام البيت، فمر أحد أخواني فناديته وقلت له: إني آسف، وإني لن أكون معهم الليلة، وليس هذا لقلة المال (وأخرجت الريال من جيبي وبسطت به كفي له ليراه، ولكن سبباً آخر يحول دون الذهاب.

ولما تركني صعدت إلى غرفة والدتي، وكانت مشغولة بإعداد الطعام في المطبخ ففتحت خزانة الثياب وهممت بأن أدس الريال حيث كان وإذا بوالدتي إلى جانبي تسألني:

(ما هذا الذي بيدك؟).

فمددت يدي إليها بالريال وقلت وأنا مضطرب والعرق يتصبب: (ريال، كما ترين).

قالت: (ريال؟ أخذته؟).

فلم أدر ماذا أقول؟! أأقول الحق فيحل غضبها بالفتاة المسكينة التي دفعها العطف إلى السرقة؟؟ أم أتهم نفسي وأنا بريء؟! ولم يكن أحد الأمرين أخف على نفسي من الآخر، ففكرت بسرعة، فلم أجد أن في مقدوري أن أشي بالفتاة وأعرضها لنقمة أمي، وأجعل جزاءها هذا السوء على ما أرادت من الإحسان إلي وإن كانت قد أخطأت السبيل.

فقلت: (نعم. . . أخذته من هنا. . . ثم راجعت نفسي، فندمت وقد كنت أريد أن أعيده إلى مكانه. . . فهل تصدقينني).

قالت: (نعم: ضعه حيث كان).

وتركتني.

وفي تلك الليلة، قبل أن أنام، خلت بي أمي وقالت:

(أصدقني. . . أنت لم تأخذ الريال. . . هه؟).

قلت: (عديني أن تصفحي وتغفري وتطوي الأمر فلا تذكريه).

قالت: (لك ذلك).

فقصصت عليها الحكاية، فقالت:(الحمد لله! حسبي أن يقيني فيك قد صدق. . .).

قلت: (والفتاة؟).

ص: 8

قالت: (لا تخف أن أخلف وعدي لك. . . ولولا أني أعرفك وأطمئن إليك لما أبقيتها في بيتي ساعة واحدة، وإن كنت لا أطمع أن أظفر بخادمة مثلها في وفائها وحسن قيامها بعملها. . . على كل حال غفرت لها من أجلك. . . قم إلى نومك).

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 9

‌من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع

لغة الأحكام والمرافعات

للأستاذ زكي عريبي

- 2 -

خلق الألفاظ والتعبيرات العلمية

وثمة صعوبة أخرى يلقاها المترافع المصري: تلك هي صعوبة العثور على اللفظ اللازم أو التعبير اللازم في المحل اللازم.

قدمنا أن كثيراً من المشتغلين بالقانون في مصر - بل قل غالبيتهم المطلقة - درسوا القانون بلغة أجنبية استجمعت شروط الصلاحية للتعبير عن كل فكرة أنتجها الفقه الحديث. وجميع هؤلاء، محامين كانوا أو وكلاء نيابة أو قضاة، مطلوب منهم أن يصوغوا ما تعلموه بالفرنسية أو الإنكليزية كلاماً عربياً فصيحاً.

دعك من صعوبة التفكير بلغة والكتابة بأخرى، فقد يتغلب عليها من ملك زمام اللغتين كقاضي قضاتنا، يعرض للقاعدة المعروفة أن العقوبة شخصية لا يمكن أن تعدو الجاني إلى غيره فيؤديها بهذا الاقتباس البديع (القاعدة العامة ألا تزر وازرة وزر أخرى). دعك من هذا فقد يثبت المثل المتقدم أن الأمر مما لا يصعب تذليله، وتعال إلى ضرورة إيجاد الألفاظ والتراكيب اللازمة لتأدية معان مشهورة مستقرة في فرنسا وغيرها من بلاد الفقه الحديث.

هنا الصعوبة الكبرى يلقاها المشتغلون بالكتابة القانونية كل يوم. ولا سبيل لقهرها سوى التعريب والاشتقاق.

والأول سهل ميسور على شرط الرضاء بأن تكون لغتنا القضائية شبيهة بالمالطية. ومن ذا الذي يرضى لنفسه الآن أن يقول كما كانوا يقولون في أحكام عثرنا عليها في مجموعة (القضاء) سنة 1887 (ابللو) و (محاكم الريفورمه)؟

لم يتعين إذن سوى طريق الاشتقاق وهو أصعب ما يكون. لا لأن الأمر يتطلب تعمقاً في اللغة وحسن ذوق في الاختيار فحسب، بل لأن اللفظ المشتق كثيراً ما يلتوي معناه على غير ناحيته. هو في حاجة بفرض التوفيق من هذه الناحية إلى مبايعة رجال القانون له

ص: 10

واعترافهم به سيداً غير منازع لمعنى خاص).

خذ مثلاً كلمتي فقد حار صديقنا القاضي مصطفى مرعي وهو الفصيح المفوه في ترجمتها ولم يوفق بعد طول الجهاد لغير (المسئولية التقصيرية)، وقد يقول سواه (المسئولية الخطئية). وكلا التعبيرين قاصر في نظري عن تأدية كل المعنى المنطوي في العبارة الفرنسية.

وإن أنس لا أنس ما لاقيته وأنا أحاول تأدية معنى في مذكرة قدمتها لمحكمة النقض عن الشروط الواجب توفرها في جريمة شهادة الزور. بماذا أعبر عن هذا الركن من أركان الجريمة؟ إن قلت: (دعوى مربوطة) وهي الترجمة الحرفية للفظ الفرنسي كانت ترجمة سقيمة باردة. وإن قلت: (دعوى معلقة) انصرفت الصيغة إلى معنى آخر. وأخيراً استخرت الله فقلت: (دعوى قائمة) وأنا لا أدري أأديت أم لم أؤد؟

على أن هذا الذي حار فيه عجزي قد استقام لمحكمة النقض برياسة إمام اللغة القضائية العصرية عبد العزيز باشا فهمي، فقد صدر حكمها مقرراً أن لا شهادة زور حتى تؤدى في دعوى (مرددة) بين خصمين، وهو تعبير بارع دقيق، لم يكن في ميسور غير الضليع المتفقه في اللغة العثور عليه.

ولنقف عند هذا الحد من الكلام على مشاق الناطقين بالضاد في عصر اللاسلكي والكهرباء، فقد ساقتنا المناسبة إلى أبعد مما نريد؛ ولنقصد رأساً إلى لغة المرافعات، كيف كانت، وكيف يجب أن تكون، ثم نعقب على ذلك ببحث موجز في لغة الأحكام.

لغة المرافعات

ضرورة البلاغة في إظهار الحق

اتفق الناس من قديم على أن البلاغة صفة لازمة لمن جعل الدفاع عن حقوق الناس مهنته، تواضعوا على وجوب أن يكون المحامي فصيح اللسان، بالغ الأثر بكلامه، متلاعباً بالعقول والقلوب؛ وما يزال الإجماع على لزوم توفر هذه الصفات واقعاً.

ولكن لماذا؟

أليس الحق هو بغية المترافعين عن الحق؟ أوليس الحق حقاً بذاته؟ أيوجد أوضح

ص: 11

وأظهر منه؟ فيم حاجة المترافع عن الحق إذن إلى الصنعة وإلى التفنن في أساليب الخطاب؟

أحد أمرين: إما أن المترافع يرمي إلى قلب الحقائق فلا بد له من زخرف القول يموه به ويغرر. وإما أن الحق المجرد بغيته ومطلبه، والحق المجرد ميسور بمجرد الطلب.

خطأ بالغ!

سل طلاب الحق في كل زمان ومكان ينبئوك بأن الكلام عن نوره الساطع وشمسه المتألقة وسلطانه القاهر خيال في خيال. حدثهم عن كنهه يخبرونك بأنه جوهر نادر ثمين مستقر في أعمق الأعماق، خفي على الباحث، عصي على المستخرج؛ وأن وجوده إذا هو اكتشف وجود نسبي يقتصر في الغالب على المكتشف، فإذا ما أراد هذا أن يثبت اكتشافه للغير وجب أن يعد نفسه لحرب عوان ليس له من سلاح فيها غير بيان حسن، ومنطق واضح، وبلاغة غالبة.

يحكى عن أومرسون أحد جهابذة الفقهاء في عصره، وقاضي القضاة في عهد لويس الخامس عشر، أنه قال:(والله لو اتهمت بسرقة برجي كنيسة نوتردام وجرى الغوغاء في أثري صائحين: (اللص، اللص) لبدأت دفاعي عن نفسي بإطلاق ساقي للريح).

مبالغة ولا شك، ولكنها مبالغة أراد بها من عرك المحاكم دهراً أن ليس في عالم القضايا شيء يزاحم البديهة ويقر له بالصحة حتماً. وإنه يكفي أن توجد تهمة لكي يوجد بجانبها خطر الحكم على المتهم ظلماً، أو تبرئة الجاني خطأ.

على أنه من ذا الذي يستطيع التحدث عن الحقيقة المجردة المطلقة؟ أين الحق الذي لا يمازجه باطل؟ وأين الباطل الذي لا يمازجه حق؟ النسبية قانون متمش في كل شيء في الوجود؛ وليس أسهل من تبين حكمه في عالم الحقوق؛ ورحم الله الإمام الأعظم أبا حنيفة، فقد قال لتلاميذه يوماً:(أراكم تسرفون في الأخذ عني، فو الله إني لأرى اليوم رأياً أعدل عنه غدا إلى عكسه). وسأله سائل مرة: (هذا الذي تفتي به أهو الحق الذي لا شك فيه؟). قال: (والله لا أدري، فقد يكون الباطل الذي لا شك فيه).

في كل دعوى إذن مزاج من الحق هو أشبه شيء بالذهب تخالطه عناصر كثيرة متنوعة على المترافع أن يطهره منها فيخرج بالمعدن النفيس متألقاً وهاجاً. وأنىّ له ذلك إلا أن

ص: 12

يؤدي رسالته على الوجه الأكمل، فيجلو ما غمض، ويبسط ما تعقد، ويسهل ما استعصى، والأمر بعد ذلك ورغم ذلك لا للقضاء وحده، بل للقضاء والقدر.

ورب حجة سائغة قاطعة يحويها كلام سقيم فتضيع قوتها، وتخمد جذوتها، فإذا ناصرها البيان، وقدمها فصيح اللسان انقلبت سحراً حلالاً.

تعريف البلاغة

البلاغة إذن ألزم اللزوميات للمترافع، ولكن ما البلاغة؟ وبعبارة أخرى - حتى لا تظن أننا قد شردنا عن الموضوع الذي نعالجه - كيف يجب أن تكون لغة المترافع.

احترام قواعد اللغة

من العبث أن ينبه منبه على ضرورة احترام قواعد اللسان الذي يستعمله المترافع أداة للإقناع. إنه يخاطب في الغالب هيئات نالت حظاً يذكر من الثقافة العامة، وإنه ليحترم هذه الثقافة إذا هو نزه سمعهم عن لغة السوق والغوغاء فكلمهم بلسان سليم يحترم فيه قواعد النحو والصرف.

محل اللغة العامية في المرافعات

ولكن أمعنى هذا أنه يجب نبذ اللغة العامية وإقصاؤها عن المرافعات حتى ولو طهرت من سفساف القول وخلت من كل ما يؤذي السمع؟

الحال تختلف في مصر عنها في غالب البلاد الأوربية، فهناك تتكلم الطبقة الراقية (ومنها المترافعون عادة) بعين اللغة التي يكتبون بها ويقرأون. صحيح أن المتكلم لا يعني باختيار اللفظ وصقل الكلام عنايته بهذين الأمرين إذا كتب؛ وصحيح أن لغة الارتجال ما تزال تختلف اليوم عن لغة التحرير، فالأولى تسمع والثانية تقرأ، ولكن مجرى اللسان في الحالتين واحد فلا يميز بينهما إلا الضليع في اللغة.

وليس الأمر كذلك في مصر، فنحن - وأعني طبقة المتعلمين - نستعمل إلى اليوم في بيوتنا وفي حديثنا مع أصدقائنا بل وفي تفكيرنا إذا خلونا إلى أنفسنا لغة نعدل بها عدولاً ظاهراً إذا وقفنا للدفاع أو جلسنا للكتابة.

فهل يجب أن نمضي في هذه السبيل إلى نهايتها؟ وهل يجب إقصاء اللغة العامية عن

ص: 13

المرافعات؟

المسألة شائكة حقاً. وإنه ليكفيك أن تسمع واحداً من شيوخ مدارهنا المقاويل لكي تأخذك الحيرة ويعصى عليك الحكم.

أينا لم ير الهلباوي في أحد مواقفه الرائعة؟ إنه يتكلم الفصحى فيزري بفقهاء اللغة. ولكن الرجل محام بطبعه وسليقته فهو يعرف أن العربية الصحيحة ما تزال إلى اليوم لغة صنعة، وأنها ما تزال تجهد المتكلم والمخاطب معاً. والإجهاد إذا طال انتهى إلى الملل والسآمة. لهذا تراه وقد فرغ من التحليق في سماء البيان وانتهى من قرع الأسماع في نقطة معينة بخطاب فخم داوي الألفاظ رنان العبارة، تراه بعد هذا وقد هبط بك من جوه الأعلى إلى سهل موطأ من كلام عامي يروي به لطيفة من لطائفه السائغة، أو يسوغ منه ملحة من ملحه العذبة البارعة، أو يبري منه سهماً من السخر الفتاك ينفذ به إلى مقاتل الخصم.

أنودع من غير أسى هذه اللهجة الحلوة التي طبعها الخلق المصري بطابعه الخاص منذ ألف أو يزيد من السنين وأصبحت مظهراً قومياً تتيه به مصر على جاراتها العربيات كلما ذكر موسيقى اللفظ وخفة وقع الكلام على السمع وسرعة نفاذه إلى القلب؟

لا. سوف تبقى العامية إلى جانب العربية الفصحى لغة مرافعة إضافية تصاغ منها النكتة البارعة يخف بها الضجر ويطوي بمعونتها ملل الجلسات الطويلة القاحلة. سوف تبقى لغة كلام متبخر زائل بزوال الجلسة التي يقال فيها. وليس من بقائها ضرر فهي لن تطغي على الفصحى بحال، ولن تقوى على الحلول محلها في موضع الجد وعند المناقشة الحامية تدور حول مسائل علمية أو موضوع خطير.

بل إن تخش شيئاً فاخش زوال العامية بزوال الأمية وانتشار التعليم. بل لقد بدأت هذه النهاية فعلاً. فإن اللغة التي يتفاهم بها عامة أهل المدن هي بالتأكيد غير ما كان يتخاطب بها آباؤهم منذ خمسين عاماً. إنها أقرب إلى الفصحى بفضل ما تذيعه الجرائد السيارة والمجلات المصورة وغيرها من صحيح الألفاظ والعبارات، ولن يمضي طويل حتى تصبح الحال كذلك في الأرياف فتدول دولة العامية ويسود مصر من أقصاها إلى أقصاها لسان راق أكبر أملنا أن يتجدد به شباب لغة القرآن.

روح الفكاهة في لغة العرب الفصحى

ص: 14

ولسنا نخاف على روح الفكاهة من هذا التجديد، فالبرهان قائم على صلاحية الفصحى العصرية لما ينطوي عليه الخلق المصري من حب للمرح والدعابة. لقد طاوعت فكري أباظة إلى آخر حدود المطاوعة. وإن تأسف لشيء فلأنه لم يقع لنا من كلام الأستاذ شيء قضائي يمكن أن يجد له محلاً في هذا البحث. ولكن إن فاتتنا دعابة فكري أباظة القضائية فلم تفتنا لحسن الحظ دعابة عمر بك عارف. أنظر إليه وقد قام يترافع في قضية قذف مشهورة كان المتهم فيها موظفاً استباح لنفسه أن يتدخل في السياسة وجمح به قلمه مرة فنال من رجل كريم.

(ولكن المتهم آثر التعرض للسياسة وما هو لها. وانصرف إلى التشيع فيها ورضي أن يكون موقفه منها موقف الزبانية من جهنم، فهو يطلع على خصومه يشع وجهه ناراً منتفخ الأوداج ينضنض بلسانه على لقم الطريق، إن تعرضوا له يلهث، وإن تركوه يلهث. ثم إذا فرغ من تعذيب الناس مما رماهم به من جارح القول عاد يتصبب عرقاً، وأخذ مجلسه من ديوان الصناعة والتجارة يمد يداً للوظيفة يعدها قرشاً قرشاً ويمسح عرقه بالأخرى كأنه أبلى في عمله الحكومي الذي أؤتمن عليه).

صورة بارعة بلغت فيها الدعابة الساخرة غاية ما يتمناه صاحب (النكتة البلدية) ولكن بلغة هي من أفصح ما يكون.

وليست مطابقة الكلام لقواعد النحو إلا عنصراً واحداً من عناصر لغة المرافعة الجيدة، فما هي عناصرها الأخرى؟

(يتبع)

زكي عربي

المحامي أمام محكمة النقض والإبرام

ص: 15

‌الثورة الأسبانية

بقلم باحث دبلوماسي كبير

كانت أسبانيا قبل بضعة أعوام تحيا حياة عادية، وتتمتع في ظل الملوكية بنوع من الاستقرار والسكينة، لا يزعجها سوى بعض الأزمات الداخلية والاضطرابات المحلية. ولكن أسبانيا شاءت منذ بضعة أعوام أن تحطم نير الملوكية، وأن تقيم حكومة جمهورية شعبية؛ وكانت الملوكية الأسبانية تحتضر في الواقع قبل ذلك بأعوام، في ظل حكومة الطغيان العسكري التي فرضها الجنرال بريمو دي رفييرا على أسبانيا منذ حوادث مراكش الشهيرة؛ وكانت أسبانيا تعاني مرارة هذا الطغيان المرهق ساخطة متربصة؛ فلما توفي الجنرال دي رفييرا اضمحل نير العسكرية؛ وحاولت الملوكية أن تستعيد سلطانها القديم، ولكن الشعب الأسباني كان قد سئم حياة الذلة في ظل النظم المطلقة، فانتهز فرصة الانتخابات العامة التي أجريت في ربيع سنة 1931 وأبدى رغبته جلية في مناصرة الجبهة الجمهورية، وشعرت الملوكية أنه لم يبق لها أمل في البقاء، فآثرت أن تنسحب في سكينة، وأن تترك الميدان حراً للشعب الذي لفظها وأباها.

وهكذا قامت الجمهورية الأسبانية نتيجة ثورة سليمة لم يشبها سيل الدماء، ولا ويلات الحرب الأهلية؛ واعتقد الشعب الأسباني، واعتقد العالم أن أسبانيا سوف تستقبل في ظل الجمهورية حياة جديدة من الحرية والسكينة والرخاء.

ولكن الجمهورية الأسبانية ولدت ضعيفة مفككة العرى، ولم يستطع زعماؤها منذ البداية أن يجمعوا كلمتها أو يوحدوا قيادتها ضد القوى الرجعية التي كانت تتربص بها؛ ومنذ البداية انحدرت الأحزاب والقوى الجمهورية إلى غمر الخصومات والمعارك المحلية؛ ونمت الحركة الاشتراكية في ظل النظام الجديد بسرعة، واستطاعت ولاية قطلونية مهد الاشتراكية الأسبانية أن تملي إرادتها على حكومة مدريد، وأن تفوز باستقلالها المحلي؛ وتوالت الأزمات الداخلية والاعتصابات المحلية، وزادت الأزمة الاقتصادية في حدة هذه الاضطرابات وخطرها على الجمهورية الفتية؛ وألفت الجمهورية نفسها عاجزة عن ضبط القوى التي أثارتها، وتعاقبت الحكومات بسرعة، وسارت البلاد مسرعة إلى الفوضى؛ ولم تدرك الأحزاب الجمهورية أنها بهذه المعارك المستمرة تمهد لفوز القوى الرجعية التي

ص: 16

تتربص بها.

وكان الجيش مهد هذه القوى الرجعية التي تناصرها فلول الملوكية الذاهبة؛ وقد دبر فلول الملوكية وفلول النظام القديم في الأعوام الأخيرة عدة محاولات ومؤامرات لإسقاط النظام الجمهوري، ولكنها فشلت جميعاً، لأنها كانت محاولات محلية لا تؤيدها قوة عامة. على أن روح التبرم والسخط كانت تضطرم دائماً في معظم وحدات الجيش؛ ولم ينس زعماء العسكرية أنهم تمتعوا بسلطان الحكم في عهد الطغيان العسكري، وأن قيام الحكومة الجمهورية إنما هو قضاء على سلطانهم ونفوذهم؛ ورأوا من جهة أخرى ما يشجع آمالهم ومشاريعهم في عجز الحكومة الشعبية، وتوالي الاضطرابات العامة، وسأم الشعب من هذه الفوضى التي يذكيها تفاقم الأزمة الاقتصادية، وتوالي الاعتصابات.

وقد ألفت العناصر العسكرية الناقمة فرصتها في الاضطرابات والاعتصابات الأخيرة التي دبرها الشيوعيون بالأخص، والتي ما زالت منذ أسابيع تزعج حكومة مدريد وتستنفد اهتمامها وقواها، فأعلنت خروجها على الحكومة، واتخذت (تيطوان) عاصمة مراكش الأسبانية قاعدة لها؛ وقد كانت مراكش الأسبانية وما زالت معقل العسكرية المتمردة؛ بيد أن زعماء الثورة كانوا قد اتخذوا أهبتهم في كثير من القواعد الأسبانية في الشمال والجنوب حيث تحتشد العناصر المعارضة لحكومة مدريد؛ وكان إعلان الثورة في الثامن عشر من يوليه في منطقة الحماية الأسبانية، حيث أعلن زعيم الثورة الجنرال فرانكو ثورة الجيش على حكومة الجمهورية، ووجوب تخليها عن الحكم. وفي الحال اجتازت عدة فرق من جيش مراكش البحر إلى الشاطئ الأسباني من جهة الجزيرة ومالقة. ولم تكن حكومة مدريد جاهلة بالأمر، بيد أنها اضطربت لقيام الثورة في عدة مناطق دفعة واحدة، وزاد في اضطرابها أن الوحدات البحرية والجوية التي سيرتها لمقاتلة الثائرين، وإطلاق قنابلها على تيطوان، انضم معظمها إلى الجيش الثائر.

وفي الحال اتسع نطاق الثورة، وانضمت حاميات الشمال في ولايات ليون وأراجون وجليقية إلى جانب الثورة؛ واخترق الجيش الثائر ولايات الجنوب بسرعة، واستولى على قواعد الأندلس: قادس وغرناطة وأشبيلية؛ واتخذ أشبيلية قاعدة للزحف على مدريد، وأعلنت القيادة الثائرة سقوط حكومة مدريد، وقيام حكومة أسبانية جديدة في الأندلس.

ص: 17

أما حكومة مدريد فلم تر أمامها بعد الذي رأته من تمرد القوى النظامية سوى الاعتماد على التجنيد العام. ولنلاحظ أنه في خلال الأيام الثلاثة أو الأربعة الأولى من قيام الثورة تعاقبت ثلاث وزارات في مدريد ولم تمكث إحداها سوى أربع ساعات، واستقال رئيس الجمهورية السنيور أزانا؛ وفي الحال حشدت حكومة مدريد قوات جديدة من بين العمال والطوائف الموالية لها وهي التي تجتمع حول الجبهة الاشتراكية، وسيرتها لمقاتلة الثوار في الشمال والجنوب مع بعض القوات النظامية التي لبثت موالية لها. ومنذ أكثر من أسبوعين تضطرم أسبانيا بسلسلة لا نهاية لها من المعارك الدموية، وتقول الحكومة في بلاغاتها دائما إنها تقبض على ناصية الموقف وإنها دحرت الثائرين حيثما دارت رحى الحرب الأهلية. وتذيع القيادة الثائرة من محطات الإذاعة اللاسلكية في أشبيلية أنها دحرت قوى الحكومة، والأنباء المتضاربة تتوالى من الجانبين، بيد أنه يلوح من سير الحوادث والظروف أن جيش الثورة إذا استثنينا منطقة قطلونية الاشتراكية حيث دحرت العناصر الثائرة، يتقدم في معظم المناطق بسرعة؛ وقد أشرفت القوات الثائرة على مقربة من مدريد ونشبت بينها وبين قوات الحكومة معركة هائلة في (وادي راما) يقال إن الخسائر فيها بلغت من الجانبين زهاء عشرين ألفاً؛ والخسائر فادحة في جميع المناطق على وجه العموم، وخصوصاً في القوات غير النظامية التي حشدتها الحكومة من طوائف لا خبرة لها بالقتال. بيد أن قوات الحكومة استطاعت أن تقف زحف الثوار في الشمال. وأما في منطقة مدريد، فلا تزال المعارك دائرة حتى كتابة هذه السطور؛ والظاهر أن قوات الحكومة استطاعت أن تصمد في وجه الثائرين، لأن زعماء الثورة يقولون إنهم يعتمدون في سقوط مدريد على الحصار وقطع مواصلاتها حتى تضطر إلى التسليم جوعاً.

ويقول زعيم الثورة الجنرال فرانكو، إن الثورة ترمي إلى إنقاذ أسبانيا من براثن الشيوعية وانتشالها من تلك الهوة السحيقة التي تتردى فيها مذ غلبت عليها أحزاب اليسار واستولت على مقاليد الحكم، وإن الروح الثورية قد أضرمت في الشعب واستغلت لجانب الشيوعية، وإن الجيش لا يستطيع صبراً على تلك الحال المخزية التي تبدو بها أسبانيا أمام العالم، وإنهم قد اعتزموا إنقاذ أسبانيا من قبضة أعدائها الذين كادوا أن يقضوا على كيانها الاقتصادي. ويقول في بلاغه الذي أصدره إلى الجيش: (إن الاعتصابات الثورية تشب من

ص: 18

كل جانب وتشل حياة الأمة، وتقضي على رفاهتها، وتدفع بالشعب الأسباني إلى الجوع واليأس، وإن ذخائر أسبانيا الفنية قد أضحت عرضة لهجمات الجموع الثائرة التي تصدع بأمر الأجنبي، وتمقتها السلطات؛ وإن الأمة تدعو الجيش اليوم وتناديه لإنقاذها. . . الخ).

أما برنامج الثورة فيلخصه الجنرال فرانكو فيما يأتي: تحقيق السلام والإخاء بين جميع الأسبانيين، وضمان العمل والعدالة الاجتماعية، والقضاء على الانتخابات المزيفة، والاعتصابات المدبرة، وحماية الحكومة المدنية من كل النزعات الثورية، وحماية أسبانيا من الدسائس الأجنبية التي تعمل لخرابها. . .

على أننا نستطيع أن نتبين من خلال هذه الحوادث والظروف حقيقة أخرى، هي أن الحرب الأهلية تضطرم في أسبانيا من جبهتين من المبادئ، أعني بين الديمقراطية والفاشستية، وهذه هي نفس المعركة التي نشبت وما زالت تنشب في كثير من الأمم الأوربية بين قوى الطغيان والديمقراطية. ولا ريب أن الفوضى التي تعانيها أسبانيا منذ قيام الجمهورية، والأزمات الداخلية المستمرة، هي ذريعة القوى الرجعية في القيام بحركتها، وهي التي أدت بالحكومة الجمهورية إلى هذا الضعف الذي يعرضها إلى السقوط. ونلاحظ أن أسبانيا توجد اليوم في ظروف تماثل ظروف إيطاليا قبل قيام الفاشستية؛ فقد انتهت بها الاضطرابات الاشتراكية المتوالية إلى مثل الحالة التي تعانيها أسبانيا اليوم وألفت الفاشستية، أو بعبارة أخرى قوى الطغيان الفرصة سانحة للقيام بوثبتها، والقبض على ناصية الحكم إلى يومنا.

وليس من ريب في أن العسكرية الأسبانية المتمردة ترمي بوثبتها إلى غايات فاشستية محضة؛ ومهما كان من الصيغ والتصريحات الخلابة التي تستتر وراءها في القيام بحركتها، فإن ظفرها يعتبر خطراً على أسبانيا من الوجهة الدستورية؛ ذلك أن قيام الدكتاتورية العسكرية معناه القضاء على النظام الجمهوري، وما يترتب عليه من الحقوق والحريات العامة، والعودة إلى نظام الطغيان الذي أنشأه الجنرال دي رفييرا قبل ذلك بعشرة أعوام، وربما كان ظفر العسكرية من جهة أخرى مقدمة لعود الملوكية الأسبانية، وقيامها ثانية في كنف العسكرية الطاغية، ورهن نفوذها وإشارتها.

وثمة حقيقة أخرى، هي أن هذه المعركة التي تضطرم اليوم في أسبانيا بين قوى الطغيان

ص: 19

والديموقراطية بصورة مادية مروعة، إنما هي ناحية من المعركة العامة التي تدور رحاها اليوم في أوربا بأسرها، تارة في الجهر وتارة في الخفاء، وربما كان من الصعب اليوم أن نتبين نتائج هذه المعركة الحالية في المستقبل القريب؛ بيد أن الذي لا ريب فيه هو أن الديموقراطية فقدت كثيراً من قوتها القديمة، وأدت بضعفها وتخاذلها وما كشفت عنه في الأعوام الأخيرة من نواحي الفساد، إلى إضعاف العقيدة الديموقراطية وتحول جانب كبير من أنصارها إلى الجبهة الخصيمة؛ وهذا وجه الخطر في مستقبل الديموقراطية. وإذا أسفرت المعركة الحالية في أسبانيا عن فوز العسكرية الطاغية، فإن ذلك يكون ضربة جديدة للديموقراطية بأسرها، وعاملاً جديداً في انتعاش القوى الرجعية، ونذيراً بالمستقبل المظلم الذي يهدد الديموقراطية في جميع البلاد التي لا زالت تصمد فيها.

(* * *)

ص: 20

‌البداوة في طباع أبي الطيب

للدكتور عبد الوهاب عزام

في خلق أبي الطيب قوة وخشونة تميلان به إلى كل قوي وكل خشن، وتعدلان عن كل ضعيف وكل ليّن؛ وفي خلقه صراحة تحبب إليه كل صريح من القول والفعل والمرأى، وتنفره عن كل مموّه مزخرف.

وقد لاءمت هذه الأخلاق التندّي، وزادها التبدي تمكناً فيه، وظهر أثر هذا في فعله وقوله.

وسأمرّ بسيرة أبي الطيب سريعاً منبّهاً إلى الحادثات والأقوال الدالة على حبه البداوة، والمبينة عن تمكن البداوة في طبعه، وأثرها في نفسه:

- 1 -

عاش الشاعر في البادية حقبة وهو صبي. روى الخطيب البغدادي عن محمد بن يحيى العلوي الكوفي أن أبا الطيب صحب الأعراب في البادية سنين ثم رجع إلى الكوفة بدوياً قحّاً.

وعاش في الشام بين البدو والحضر. وبعض من وحيه هناك من رؤساء البادية مثل سعيد بن عبد الله الكلابي، وشجاع بن محمد الطائي.

وهو يقول في الشام:

أوانا في بيوت البدو رحلي

وآونة على قتد البعير

أعرّض للرماح الصمّ نحري

وأنصب حرّ وجهي للهجير

وأسري في ظلام الليل وحدي

كأني منه في قمر منير

ويقول:

ومُّدقعين بسُبروت صحبتهم

عارين من حلل كاسين من درن

خرابّ بادية عْرثى بطونهم

مَكن الضباب لهم زاد بلا ثمن

يستخبرون فلا أعطيهم خبري

وما يطيش لهم سهم من الظنن

- 2 -

وفي مصر حنّ إلى البادية، وفضّل البداوة على الحضارة، وتغزل بالبدويات في القصيدة

ص: 21

التي مطلعها:

مَن الجآذر في زي الأعاريب

حمر الحلي والمطايا والجلابيب

يقول فيها:

ما أوجه الحضر المستحسنات به

كأوجه البدويات الرعابيب

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب

أين المعيز من الآرام ناظرة

وغير ناظرة في الحسن والطيب

أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها

مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

ولا برزن من الحمام مائلة

أوراكهن صقيلات العراقيب

ومن هوى كل من ليست مموهة

تركت لون مشيبي غير مخضوب

ومن هوى الصدق في قولي وعادته

رغبت عن شعر في الرأس مكذوب

وكانت له في مصر مع بعض رؤساء القبائل مودة. فلما أزمع الرحيل مغاضباً كافور استعان بأحد أصدقائه عبد العزيز ابن يوسف ببلبيس وسأله دليلاً فأنفذه إليه، وقال في هذا:

جزى عرباً أمست ببُلبَيس ربُّها

بمسعاتها تقرر بذاك عيونها

كراكر من قيس بن عيلان ساهراً

جفون ظباها للعلى وجفونها

وخصّ به عبد العزيز بنَ يوسف

فما هو إلا غيثها ومعينها

فتى زان في عينيّ أقصى قبيله

وكم من فتى في حلة لا يزيتها

وكان سيره من الفسطاط إلى الكوفة برهاناً بيناً على ما تمكن في نفسه من أخلاق البادية وعاداتها، ودليلاً على خبرته بالسير في البيادي، فقد سلك طريقاً أنفا لا تسلكه القوافل. ذكر في قصيدته التي وصف بها سفره اثنين وعشرين موضعاً ليس على السبل المطروقة منها إلا اثنان أو ثلاثة، فما سلك طريق الحاج المصري إلى الحجاز، ولا طريق دمشق إلى الكوفة، ولا طريق الفرات، بل سار على أحياء البادية، والمياه المورودة والآجنة حتى بلغ غايته.

وكانت له في مسيرة وقائع تمثله بدوياً قحاً خبيراً بقبائل البادية وعاداتها، مزوداً بجرأة الأعراب وإقدامهم:

لما بلغ نخلاً في سينا ألفى خيلاً صادرة عن الماء، فأشفق أن يكونوا عيوناً عليه أو عدواً

ص: 22

له، فقاتلهم وغلبهم. ولما قرب من النقاب رأى رجلين فطردهما وأخذهما فأخبراه أنهما رائدان من بني سليم فخلاهما وسار وهما معه حتى توسط بيوت بني سليم آخر الليل فضرب له ملاعب بن أبي النجم خيمة بيضاء، وذبح له، وغدا فسار إلى النقع فنزل ببادية من معن وسنبس فذبح له عُفَيف المعنىّ غنما وأكرمه، وغدا من عنده وبين يديه لصان من جذام يدلانه.

ولما بلغ حسمي في شمالي الحجاز وجد بني فزارة شاتين بها، فنزل بقوم من عدي فزارة فيهم أولاد لاحق بن مجلّب، وكان بينه وبين أمير فزارة حسان بن حكمة مودة، وأراد ألا يعلم ما بينه وبينهم من ودّ فنزل بجار لهم من طيء.

واستطاب أبو الطيب حسمي فأقام بها شهراً، وما أحب المقام بالبادية إليه! ثم استراب ببعض عبيده، وظن أنهم يسرقون أمتعته، ويريدون سرقة سيف ثمين كان معه، أغراهم على هذا وردان بن ربيعة، فأرسل إلي فتى من بني مازن اسمه فليتة ابن محمد، وكان قد عرفه من قبل، فلما جاءه المازنيّ تقدم شاعرنا فشد أحماله وعبيده نيام ثم أيقظهم وطرحهم على الإبل وسار والقوم لا يشعرون.

وأخذ بعض العبيد السيف فدفعه وفرسه إلى عبد آخر. وجاء إلى فرس أبي الطيب ليأخذه فانتبه الشاعر البدوي الشجاع فقال العبد مخادعاً: أخذ الغلام فرسي. عدا إلى فرس سيده ليركبه فالتقى هو وأبو الطيب عند الفرس. وسل العبد السيف فضرب الرسن فضرب أبو الطيب وجهه فقتله: وأرسل رجلاً من بني خفاجة وآخر من بني مازن ليدركا العبد الذي أخذ السيف فلم يقدرا عليه.

وفي قتل العبد يقول الشاعر:

أعددت للغادرين أسي

افاً أجدع منهم بهنّ آنافا

لا يرحم الله أرؤساً لهم

أطرن عن هامهن أقحافاً

ما ينقم السيف غير قلتهم

وأن تكون المئون آلافا

يا شر لحم فجعته بدم

وزار للخامعات أجوافا

قد كنتَ أُغنِيتَ عن سؤالك بي

من زجر الطير لي ومن عافا

لا يذكر الخير إن ذكرت ولا

تتبعك المقلتان توكافا

ص: 23

إذا امرؤ راعني بغدرته

أوردته الغاية التي خافا

وأراد أبو الطيب أن يسلك إلى مكان اسمه البياضي فأرسل فليتة إلى الأعراب الذين في طريقه فعميت عليه أنباؤهم، وخشي أن يكون له على طريق رصد، فعدل إلى دومة الجندل. وواصل سيره حتى بلغ الكوفة في شهر ربيع الأول سنة 352 بعد ثلاثة أشهر من خروجه من الفسطاط.

فهل يستطيع أن يسير هذا المسير، ويفعل هذه الأفعال إلا بدوي جريء خبير بالبوادي؟

أليس في هذا تصديق قوله:

الحيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

لا يحق له أن يفخر به فيقول:

فلما أنخنا ركزنا الرما

ح بين مكارمنا والعلى

وبتنا نقبّل أسيافنا

ونمسحها من دماء العدى

لتعلم مصر ومن بالعرا

ق ومن بالعواصم أيّ الفتى

وأني وفيت وأني أبيت

وأني عتوت على من عتا

وما كل من قال قولاً وفَى

ولا كل من سِيم خسفاً أبى

ومن يك قلب كقلبي له

يشق إلى العزّ قلب النوى

ولا بد للقلب من آلة

ورأى يصدّع صمّ الصفا

وفي هذه القصيدة روح البداوة وألفاظها. انظر قوله:

وقلنا لها: أين أرض العرا

ق فقالت: ونحن بتربان ها

واسأل اليوم بدوياً عن مكان قريب يقل لك: ها

- 4 -

وفي قصة هجاء ضبة بن يزيد العيني دليل آخر على تبدّيه. فقد اجتاز بالطفّ فنزل بأصدقاء له. وساروا إلى ضبة وسألوه أن يصحبهم فلم يسعه إلا المسير معهم، كما يقول الشاعر في بعض الروايات:

فسير الشاعر مع أصدقائه إلى قتال ضبة أو إرهابه دليل على ما تمكن في نفسه من عادات البادية.

ص: 24

- 5 -

ولما رحل إلى فارس افتقد الوجه العربي واليد العربية واللسان العربي فقال وهو يصف شعب يوان:

ولكن الفتى العربي فيها

غريب الوجه واليد واللسان

ملاعب جنة لو سار فيها

سليمان لسار بترجمان

وافتقد عرب دمشق الذين كانوا يكرمون مثواه فقال:

ولو كانت دمشق ثنى عناني

لبيق الثرد صيني الجفان

يَلَنجوجيّ ما رُفعت لضيف

به النيران نَدَّى الدخان

تحل به على قلب شجاع

وترحل منه عن قلب جبان

منازل لم يزل منها خيال

يشيّعني إلى النوبند جان

وذكره الثرد والنار يدلنا على أنه يريد بادية دمشق لا حاضرتها.

وقال في أول قصيدة مدح بها عضد الدولة:

أحب حمصاً إلى خناصرة

وكل نفس تحب محياها

حيث التقى خدها وتفاح لب

نان وثغري على حُميّاها

وصفت فيها مصيف بادية

شتوت بالصحصحان مشتاها

إن أعشبت روضة رعيناها

أو ذكرت حلة غزوناها الخ

ورجع إلى التغزل بالبدويات في شيراز فقال في القصيدة التي مطلعها:

أثلث فأنا أيها الطلل

نبكي وترزم تحتنا الإبل

إن الذين أقمتَ وارتحلوا

أيامهم لديارهم دول

الحسن يرحل كلما رحلوا

معهم وينزل حيثما نزلوا

في مقلتي رشأ تديرهما

بدوية فتنت بها الحلل

تشكو المطاعم طول هجرتها

وصدودها ومن الذي تصل

ما أسأرت في القعب من لبن

تركته وهو المسك والعسل

وقصة قتله برهان آخر على ما ندعي فقد حذره أبو نصر الجبلي وأشار عليه أن يستصجب خفراء فأبى أن يسير في خفارة.

ص: 25

- 6 -

وشعر أبي الطيب تتجلى فيه قوة البداوة وعزتها. ومن آثار البداوة فيه تهاونه في خطاب الممدوحين. وخروجه عن الألف أحياناً. ولذلك أخذ عليه النقاد مآخذ لا يتسع المقام لذكرها.

ومن أثارها كذلك الكلف بالحرب وآلاتها والخيل، والسفر. وشعره مليء بهذا.

ومن ذلك وصفه الحبيبة بالمنعة كقوله:

حبيب كأن الحسن كان يحبه

فآثره أو جار في الحسن قاسمه

تحول رماح الحظ دون سبائه

وتُسبي له من كل حيّ كرائمه

ويُضحي غبار الخيل أدنى ستوره

وآخرها نشر الكباء الملازمه

وما شرقي بالماء إلا تذكراً

لماء به أهل الحبيب نزول

يحرّمه لمع الأسنة فوقه

فليس لظمآن إليه وصول

متى تزر قوم من تهوى زيارتها

لا يتحفوك بغير البيض والأسل

سوائر ربما سارت هوادجها

منيعة بين مطعون ومضروب

وربما وخدت أيدي المطيّ بها

على نجيع من الفرسان مصبوب

ومن أثر البداوة استعماله بعض الألفاظ الغريبة أحياناً، بما ألِف من خطاب الأعراب والأخذ عنهم.

وقد رأيته في كثير من تعليقاته على ديوانه يحتج بما سمع عنهم، واكتفي هنا بمثال واحد:

قال في قصيدة يعزي بها عضد الدولة:

مثلك يُثنى الحزن عن صوبه

ويستردّ الدمع من غربه

أيما لأبقاء على فضله

أيما لتسليم إلى ربه

ثم أتى بشواهد على وضع العرب أيما مكان إمّا إلى أن قال:

وقد ظلع فرس لي فقال فلان الأعرابي وكان من أفصح الناس:

أيما نسره مفلوق، وأيما موهوص

- 7 -

ذلكم إجمال الكلام في بداوة أبي الطيب.

ص: 26

ولست أقول إن البداوة أنتجت هذه النتائج في أخلاقه وشعره، ولكني أقول إن بين طباعه وشعره وبين البداوة صلة قوية، غرائز في الشاعر حببت إليه البداوة وما يتصل بها، وبداوة وكّدت هذه الغرائز في نفسه.

وبهذه الأخلاق الحرة، والطباع القوية، والشجاعة والإقدام كان أبو الطيب أقرب إلى الروح العربي من غيره.

ولو أن عمرو بن كلثوم، وعنترة العبسي، والحارث بن حلزة عاشوا في القرن الرابع الهجري حيث عاش أبو الطيب لأشبهوه في كثير من قوله وفعله.

عبد الوهاب عزام

ص: 27

‌4 - دانتي ألليجييري

والكوميدية الإلهية

وأبو العلاء المعري ورسالة الغفران

فردوس دانتي

في آخر المطهر أن دانتي تحسى من فرات (ليث) جرعة نزعت ما في نفسه من أدران هذه الدنيا التي لا يجوز لمن ينطوي عليها أن يجوس خلال الفردوس. . . وهي جرعة إلهية جعلت من جسم دانتي هلاماً شفافاً وهيولى نقية استطاع بعدهما أن يرقى في السماء، ويعرج في الأثير، في إثر بياتريس. (1) وأخذ طيف بياتريس يصَّعَّد في الأديم الأزرق المشرب بنضارة البنفسج، وأخذ طيف دانتي يصَّعَّد في إثرها بقدرة الإله العلي، حتى كانا في السماء الأولى، والفتاة الطاهرة في خلال ذلك تحدثه وتتلطف به، وترفه عنه بعض ما كان يضيق به صدره من وساوس. (2) إلى أن دخلا تلك الجنينة الصغيرة التي أرضها من فضة وأنهارها من لجين. . . جنينة القمر! حيث تشرح بياتريس لحبيبها المشدوه سبب تلك الظلال التي تعلو وجه السيار الصغير، والتي يراها الناس من سكان الأرض في هذه الحياة الدنيا. (3) وفي رحاب القمر، يلقى دانتي الفتاة بيكاردا دوناتي التي تأخذ معه في حديث طويل، فتخبره أن هذا القمر هو جنة المساكين الذين نذروا حياتهم للخير في الدار الأولى، وعاشوا عيشة كلها تقوى وكلها بر وورع، ولكنهم، وا أسفاه، لأمور ما، لم يوفوا بكل ما نذروا من فعل الخيرات، ثم تلفته إلى روح الإمبراطورة كوستانزا، تمرح في بعض جنبات القمر، وتلعب. (4) وتنطلق بياتريس، وفي إثرها دانتي، وكلما عمى أمر عليه جلته له صاحبته، (5) حتى يكونا بعد رحلة سماوية جميلة، في كوكب عطارد الذي يقع في السماء الثانية؛ وثمة، يلقيان ثلة من أرواح البررة الأطهار ويتبرع أحدهم فيبدي استعداده للإجابة عن أي سؤال يلقى عليه من أمور الماضي أو الحاضر أو المستقبل. (6) ثم يعرف دانتي أن الشخص الذي عرض عليه هذا العرض إن هو إلا الإمبراطور العظيم جوستنيان الذي يذكر للشاعر من أمور الحياة الأولى، فيما يتعلق بشخصه الإمبراطوري، الشيء الكثير، ويشرع بعد ذلك يحدثه عن عظمة الرومان القدماء، ويعدد له فتوحهم وخوالد غزواتهم التي

ص: 28

دوخوا بها أقاصي الأرض في ظلال بنودهم التي تحمل رمز رومة الخالد. . . النسر. . . ويذكر له أن روح روميو فلنيف تمرح في رياض عطارد ذات الزهر والأفواف. (7) وتتفرق الأرواح عن دانتي، وينطلق جوستنيان غير مستأذن، ولكن شكوكاً كثيرة تثيرها كلمات الإمبراطور في نفس الشاعر من أجل الفداء البشري، فتشرع بياتريس تقشعها واحداً فواحداً من نفس خليلها؛ (8) ويعرجان إلى السماء الثالثة حيث الكوكب الجميل المتلألئ فينوس (الزهرة)، وحيث يلقى الشاعر صديقه العزيز الكريم شارل مارتل الذي يحدث دانتي عن مملكته الواسعة المترامية الأطراف التي كان يسيطر عليها في الدار الأولى، ثم يتغير الحديث فجأة إلى الأبناء والأحفاد والسبب في اختلاف فطرتهم وطبائعهم عن طبائع آبائهم (9) ويمضيان فيلقيان روح ابنة الهوى كيونيزا التي طالما فتنت قلوباً وعذبت بحبها أفئدة، والتي كانت تملأ الأرض فسوقاً وتفعم المدائن دعارة، ثم تابت وثابت، وندمت على ما قدمت، وأقبلت على فعل الخيرات؛ وحدث أن ورثت عن أبيها عدداً من الأرقاء فمنحتهم حريتهم، وبذلك غفر لها وتُقُبِّل توبتها، وهي في هذا المكان من فينوس لا تطمع في درجة أعلى؛ ويمضيان فيلقيان فولكو الشاعر المنشد فيحدثهم عن الزانية، خضراء الدمن، رحاب التي تابت هي الأخرى فغفر لها، وسكنت هذا الكوكب مع كيونيزا. وبعد أن ينتقد الشاعر فولكو بابا روما وينعى عليه تغاضيه عن استرجاع الأراضي المقدسة يعود فيتنبأ عن بعض الكوارث التي تتربص به طي الغيب، والتي ستسحق سلطته. (10) ويعرجان صعداً فيكونان في الشمس (!!) التي يعتبرها دانتي السماء الرابعة، وما يكادان يبلغانها حتى تحدق بهم ثلة من اثني عشر روحاً، ويتقدم أحدهم (توماس أكويناس) فيقدم أصحابه إلى دانتي ويخبره عن درجاتهم (11) ثم يتوسع أكويناس في سرد حياة القديس فرنسيس، الراموز الملائكي للحب، ويلحظ أثارة من الريب تنشب في فؤاد دانتي فيحدثه عنها ويجلو له الحق الذي يمترى فيه. (12) وتقبل ثلة أخرى من اثني عشر تقياً فيتقدم أحدهم (القديس دومينيك) ويسرد أسماء أصحابه لدانتي. والقديس دومينيك هذا هو الراموز الملائكي للحكمة. (13) ويعود توماس أكويناس إلى حديثه مع دانتي، وكلما لمح أثارة من الشك في نفسه نبأه بها وجلاها له، وحذره من الوسواس وحذره من أن يحكم بقلبه أو عقله على شيء دون أن يدرسه ليصل إلى حقيقته. (14) ويبرز سليمان النبي من وسط الجماعة

ص: 29

فيحدث دانتي عما يكون من مظهر الصالحين من عباد الله بعد البعث. ثم يعرجان إلى السماء الخامسة التي هي مارس (المريخ) في زعم دانتي، ويريان ثمة أرواح الشهداء الذين حاربوا تحت رايات الصليب الخفاقة، ولم يخشوا في سبيل ربهم أن يجرعوا غصص الموت. . . أولئك قد بدت عليهم سيماء الصليب، وما تفتأ أرواحهم ترسل في الفردوس أناشيد الخلود المرنة تطريباً لعباد الله السعداء. (15) ويبرز من بين الملأ سلف دانتي الصالح كاشيا جيداً، ويأخذ مكانه تحت الصليب، ثم يتعرف إلى دانتي الذي يفرح به ويهش للقائه، ويأخذ في حديث طويل عن ماضي فلورنسا السعيد الحافل وينعى على الخلف ما فرطوا في جانب الوطن وما أوضعوا في الفتنة، ومرجوا في الضلالة (16) ويخبر دانتي عن يوم ميلاده، ويصف له مجد فلورنسا ومدى حدودها في أيامه والأسر العريقة التي كانت تزدان بها تلك المدينة الشيقة التي انحطت أرومتها وفسد طيب محتدها واتضعت أقدار القروم من أهلها الأعلين (17) ويرسل كاشيا جيدا حبل القول فيتنبأ لدانتي عما يتربص به من غدرات الزمان والنفي من حظيرة الوطن حين يعود أدراجه إلى الحياة الدنيا. ثم ينتحي ناحية ويتناول طرساً من أوراق الجنة، وقلما من قصباتها ويشرع في كتابة شعر طويل ريق. (18) ويمضيان فيريان طوائف شتى من أرواح المحاربين الشهداء الذين خاضوا معامع الحروب الصليبية يمرحون في أفياء الجنات الوارفة التي يهتز عنها المريخ؛ ثم ترسل بياتريس عينيها العميقتين في لازورد السماء، وتشير إلى دانتي فيعرجان في الأثير إلى جوبيتر (المشتري) الذي هو السماء السادسة في حساب شاعر الكوميدية وهناك يلقيان جموعاً زاخرة من أرواح الصالحين الذين حكموا بين الناس بالعدل ووزنوا بالقسطاط المستقيم. ويكون هؤلاء أنَّى توجهوا مكونين دائماً شكل نسر (رمز رومة القديمة). ثم ينتهي الفصل بحملة شعواء على رجال الأكليروس وما اشتهروا به من الطمع وحب الذات والتكالب على حطام الدنيا وجمع الأموال بالحق وبغير الحق؛ ويخص دانتي رجال البابا بالقدح الأكبر من هذه الحملة (19) ويتكلم النسر الذي تكوّنه هذه الجماعة بلسان واحد مبين، فيقص على دانتي السبب الذي من أجله اتُّخذ رمزاً لعظمة الرومان. ثم يتكلم دانتي كلام المتشكك عما إذا كان محتملاً أن (يَخْلُصَ) الرجل من الناس من عذاب الجحيم من غير أن يكون مؤمناً بالمسيح مصدقاً به، فينبري النسري للإجابة ويزيل الريب

ص: 30

من نفس دانتي ويخاطبه في شأن أصحاب السيطرة والحكام من المسيحيين وما سيؤدونه من الحساب الثقيل يوم القيامة. (20) وكذلك يمتدح النسر عدل بعض الملوك وورعهم، ويكوِّن هؤلاء عين النسر نفسه، وفي إنسان عين النسر يقف النبي داود، وفي الدائرة المحيطة به يقف تراجان وحزقيال وقسطنطين ووليم الثاني ملك صقلية وزفيوس. . . ثم يوضح له كيف وصلت أرواح هؤلاء إلى الفردوس وهم لم يؤمنوا بالمسيح (ولكنهم عملوا بما جاء قبله من لدن الرب فاستأهلوا دار المثابة). (21) ويسموان في السماوات العلى، فيبلغان السماء السابعة التي هي سَاتِرْن (زُحَل) حيث يسمق منه سلم ذاهب في الجو لا تدرك آخره عينا دانتي. وفي زحل يلقيان أمماً من أرواح الصالحين الذين قضوا حياتهم الأولى في اعتزال وصوفية وتأمل. ثم يدنو منهما روح كريم نقي، وهو روح خليل المسيح الورع التقي بييرو داميانو (أحد كرادلة الكنيسة ومصلحيها العظماء) فيجيب على أسئلة كثيرة يوجهها إليه دانتي، ثم يقدح في ذمم القسس الأخسّاء ورعاة الكنيسة الذين فتنتهم الدنيا بزخرفها وصرفتهم عن وظائفهم الدينية وشغلتهم عن هداية الناس. (22) ويريان جموعاً أخرى من الأتقياء المتفكرين ومن بينهم القديس الأطهر بندكت الذي يذكر لدانتي أسماء أصحابه الراضين في ظلال الرب في فراديس زحل. ثم يستطرد فيذكر أن المسوح والزنارات وسائر ألبسة القساوسة ورجال الكنيسة لا قيمة لها ما لم تزنها مسوح من الخلق الكريم والتقى والنقاء. ويزيد فيقدح في خراب ذمم الرهبان والأحبار وفساد ضمائرهم. وينطلق الألفان فيعرجان إلى السماء الثامنة، سماء الأنجم الثابتة، التي يدخلانها من الهَنْعَة. ومن ثمة يرجع دانتي بصره كرتين إلى الوراء فتبدهه المسافة الهائلة بينه وبين الأرض (23) وهناك، يرى المسيح (صلوات الله عليه) يأخذ بناصر الكنيسة ويشد أزرها، ومن حوله الملائك الأطهار يسبحون لله ويلهجون بحمده. ثم يسمو السيد المسيح فيعرج في السماء العليا وفي أثره أمه البتول مريم، شاخصة إليها أبصار الجميع. (24) ويتقدم القديس بطرس من دانتي فيسأله بضعة أسئلة يعرف بها إخلاصه ونقاء إيمانه، ويجيب دانتي فيقنع القديس بالكلم الطيب والبيان البريء (25) ويتقدم القديس جيمس فيسائل دانتي عن الأمل، ثم يبدو القديس يوحنا فيدهش دانتي لرؤيته، ولكن القديس يمحو دهشه ويذكر له أنه عرج إلى السماء بروحه فقط، ولم يعرج إليها بروحه وجسمه إلا المسيح وأمه مريم. (26) ثم

ص: 31

يسائله القديس عن الفضيلة فيجيب دانتي إجابات ناصعة. وينظر الشاعر فيشدهه أن يرى أبانا آدم، فيتأدب ويتقدم إليه، فيخبره أبو البشر عن كيفية خلقه وإقامته في الفردوس ومدى إقامته فيه، ثم ما تلا ذلك من خروجه منه وسببه، ثم عوده إليه، ويتظرف فيذكر له أسم اللسان الذي كان يتكلم به في بدء الخليقة ويعود القديس بطرس فيصل حديثه، ويحمل على خلفه حملة شعواء لما اتصفوا به من جشع ذهب برواء الأبرشية الرسولية، وينسى دانتي فيحدق نظره في بياتريس غافلاً عما أوصته به في أول الرحلة إلى الفردوس فتأمره أن يغضي. . . . فيفعل. . . . ثم يعرجان إلى السماء التاسعة حيث يطلعان على الحق الجلي من أمر هذا الخلق، وحيث يشهدان فطرة الطبيعة في جماع فضائلها، وتسخط بياتريس على الإنسان (ما أكفره. . . يكون أمامه الخير بيّنا والشر بيّنا، ثم يدلف بعلمه في طريق الشر، مضحياً هذا الفردوس من أجل هنات هينات)(28) ويؤذن لدانتي فيطلع إلى الوجود الإلهي، ثم يطلع إلى الخورس الملائكي يرسل ألحانه الكنائسية الرائعة في قبة الفردوس. (29) وتنظر بياتريس في مرآة الحق الإلهي (هكذا) فترى أن بضعة شكوك قد نفذت إلى فؤاد دانتي وظلت ثمة تساوره، فتضاحكه، ثم تفجأه بما يفكر فيه، وتجلو له ما نفذ إلى قلبه من ذلك الوسواس، وتذهب في القول مذاهب شتى، وتنتهي إلى ذم رجال الدين الذين شغلتهم الدنيا عن نصرة الإنجيل. (30) ثم يدخلان سماء المنتهى ذات السناء الساطع والضوء اللامع، ويكاد نظره ينبهر لولا أن تدركه بياتريس. . . ويرى إلى نهر الضوء المتألق فينظر كيف ينتصر الملائك على شرور العالم وكيف ينتصر معهم المؤمنون المباركون. (31) ويتلفت الشاعر فلا يجد فتاته إلى جانبه، بل يجد مكانها رجلاً طاعناً في السن إذا تفرس فيه عرف فيه القديس برنارد الذي يخبره أن بياتريس قد عادت إلى عرشها ثم يريه بركات العذراء مريم عليها السلام (32) ثم يريه كذلك أرواح القديسين الذين وردت أسماؤهم في العهدين (الجديد والقديم)(33) ثم يدلف القديس برنارد نحو البتول الكريمة فيرجوها أن تمنح بركتها لدانتي وتسبغ عليه من نورانيتها حتى يستطيع التأمل في عظمة الله. وتهب له مريم ما سأل، فينكشف الغطاء ويلقى دانتي ربه فيصلي له ويضرع إليه أن يهبه إشراقة يضفيها على كتاباته وأشعاره. ثم يؤذن له فيخطف لمحة من الثالوث المبارك العظيم الذي يتحد فيه الله القدير (جل وتعالى) بالإنسان.

ص: 32

ويفيق دانتي، وتنتهي رؤياه العجيبة. وسنرى من الكلمات التالية كيف اقتبس الشاعر صور القرآن الكريم وأخيلة الإنجيل الجميلة، وطريقة فرجيل في الجزء السادس من الأنييد، فتم له هذا العمل الفريد.

(لها بقية)

د. خ

ص: 33

‌من الشعر المنثور

فجر القبرة

(مهداة إلى صديقي الأمير عمر الأيوبي)

للأستاذ خليل هنداوي

كثيرون يعرفون القبرة بشكلها الرمادي الأدكن وصوتها الرفيع المرنان، ولكن القبرة من الطيور الغريبة في حياتها وتأملها للحياة. . . . روحانية تبلغ أسمى ما تبلغه الروح، ومادية تنحط كثيراً؛ ففي حالتها الأولى تراها تغزو أطباق الجو عند منبلج الفجر تردد الغناء سكري بالجمال حتى إذا بزغت الشمس فزعت إلى الأرض تفتش عن غذائها، ذاهلة عن غنائها، ومثل هذا المشهد قد يصور أحسن تصوير حالة الذين يرقون إلى شمس المعرفة بأرواحهم ثم لا يقدرون على مقابلتها فيهبطون. . فلا الأرض تذهلهم عن السماء ولا السماء تفصلهم عن الأرض، ولا شوقهم بمنطفئ، ولا أرواحهم بساكنة. . . هؤلاء هم كهذه القبرة.

(خ. هـ)

أسمعها: أسمعها بعيدة عني، دانية مني!

أسمعها يشق غناؤها الفضاء الذي تفتح جفناه

أسمعها يتسلل شعاع قلبها مع شعاع الفجر!

قد انجلت - يا قبرتي - غياهب الليل بعد ما ظننت أن هذا الليل سرمد لا يزول

وانزاحت عن الأفق كتائب الظلمة بعد ما خلت أن هذه الألوان الربداء لا تحول

أراك تمعنين في التحليق. . .

حتى لا أرى أنامل الفجر تجذبك إليها

فماذا تركت في الجو بالأمس؟

أشيئاً تتفقدينه كل مطلع فجر؟

أم أمانة تستلمينها من الفجر؟

أرى جناحيك يرفان ويخفقان!

يربدان طوراً وطوراً يلتهبان

ص: 34

وصوتك الهازج المرن يصعد في السماء

تسمعه الأرض فتهتز قليلاً ثم يتوارى كأن لم يكن شدو ولا شاد

هي سكرة قدسية يا قبرتي ترفعك إلى الأوج السامق

ترفعك على جناحي الشوق وتنطقك بلغة الغناء

فما أسمى هذه السكرة التي لا يتخللها صحو!

وما أبدع هذا الشوق الذي لا يطفئه وصال

أنت من فجرك أيتها القبرة في صعود دائم

أنت من شوقك في وصال قائم

تمجدين الشمس قبل بزوغها وترفعين إليها صلاتك وغناءك قبل شروقها

حتى إذا لمعت في الأفق ووقعت عيناك على نورها الخاطف. .

فررت إلى أطباق الأرض غاشية العينين، واجفة الفؤاد!

ألا تتمهلين قليلاً حتى تراك الشمس

وأنتِ في الأطباق العالية تغنين لها!

ألا تتمهلين حتى تتمتع عيناك بالكوكب الساطع

ويرتاح قلبك إلى من خفق للقائه شوقاً وحنيناً؟

عينك لم تستطع أن تحتمل شعاع (الشمس)

وفؤادك ناء بإفراغ شوقه للمشوق

وفي اللحظة الأخيرة تراخى جناحاك وعشيت عيناك وتدحرجت على الأرض بعد أن

رقيت معارج السماء!

ألم تتذوقي لذة الشروق؟

ألم تطعمي طعام ذلك العالم العلوي؟

ألم يكشف لك عن خزائن ذلك الوجود؟

الشوق والغناء والويل والعناء كلها تذوب تحت لوائك أيتها الشمس!

ما وصلك الذي تتغنين به؟

ما شوقك الذي ملأ الفضاء

ص: 35

ما سكرك الذي لا صحوة له؟ إذا كان نور (المعرفة) لا تحمله عيناك!

أتخافين احتراقاً في الأضواء

أتهابين التطلع إلى نور الشمس؟

أم تصلين كل يوم إلى الشمس. . . وتقفين على بابها فإذا أطلت تواريت من وجهها

المهيب، وآثرت أن تنحطي وتتدحرجي صامتة ساكتة

كأنك كلما صعدت مرة ذهب جزء من روحك وراءها في الفضاء

وهكذا حتى تتوزع أجزاؤك كلها وتبلغي المرحلة الأخيرة

وددت يا قبرتي أن أراك تزيدين إمعاناً في التحليق

وددت أن أراك تزيدين في صعودك حتى لا يبقى منك على الأرض شيء!

ووددت أن أغرودتك لا تزال تتردد في الجو مبتعدة عني حتى تصير أغرودة صامتة!

أهلاً بك أيتها العائدة من عالم الشمس! منتصرة أو منكسرة، ففي عينيك ذبول الشوق،

وفي قلبك لهيبه، وفي جناحيك وجيبه!

لم تذوقي بعد تلك السكرة العميقة التي لا يبقيها صحو

ولم يضرم قلبك ذلك الشوق الذي لا يسلمك إلا إلى شوق

لم تحبي بعد شمس (المعرفة) محبة شاملة، ولم تؤثري الفناء فيها.

أتخافين احتراقاً في هذه الشمس؟

ادني واقتربي أيتها القبرة من الشمس وواصلي أغنيتك حتى تحترقي. . .

وتردك الشمس إلى الشمس. . . يا فراشة الطيور المحترقة بغير لهيب.

خليل هنداوي

ص: 36

‌الحجاب في الإسلام

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 1 -

عاد الناس في هذه الأيام إلى الكلام في مسألة الحجاب، وكان سبب عودتهم إليها ما حصل من رغبة طائفة الهنود المنبوذين في الإسلام بعد خروجهم من ديانتهم، وقيل إن وجود الحجاب في الإسلام مما يستعمله بعض أعدائه لصرفهم عن الرغبة فيه؛ وقد حملني هذا على بيان حقيقة هذا الحجاب على صفحات مجلة (الرسالة) الغراء، لانتشارها في الهند وغيره من الأقطار الشرقية، ولعلي بهذا أقضي على هذه الدعاية الخبيثة التي يراد بها صرف تلك الطائفة عن الهداية الإسلامية.

ويجب لأجل أن نعرف حقيقة هذا الحجاب أن نذكر الآية التي نزلت فيه، وهي قوله تعالى في سورة الأحزاب:(يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا، فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث. إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق. وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب. ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن. وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيما).

وقد عرفت هذه الآية بأية الحجاب، وصار الحجاب في الإسلام اسماً لهذا الحجاب الذي نزل فيها، ولا يوجد شيء آخر مما يتعلق بالنساء يطلق عليه هذا الاسم. وقد نزل هذا الحجاب في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ويراد منه منع اختلاطهن بالرجال بحيث لا يراهن الرجال أبداً ولا يكلمونهن إلا مع هذا الحجاب. والحكمة في فرضه عليهن أنه أريد بعد تحريمهن على غير النبي صلى الله عليه وسلم قطع العلائق بينهن وبين الرجال، ليكون في هذا صونهن، والبعد بهن عمن أريد قطع أطماعهم فيهن. وقد جرى الإسلام في هذا على عادته من إعطاء الوسيلة حكم ما يتوسل بها إليه، سداً للذرائع، ولأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. ويؤيد هذا ما في الآية من قرن هذا الحجاب بحكم ما بينهما من هذه العلاقة.

وقد نزل في ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة الأحزاب: (يا نساء النبي لستن كأحد من

ص: 37

النساء، إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولاً معروفاً. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى. وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله؛ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً. واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً).

ولم يكن المقصود من فرض هذا الحجاب على أمهات المؤمنين إلا حجبهن عن الأنظار بحيث لا يراهن الرجال، فلم يكن عليهن حرج بعد ذلك في أن يخرجن للحج وغيره، ولا في أن يجتمعن بالرجال مع هذا الحجاب للعلم والتعلم، وتبليغ الأحكام التي أخذنها عن النبي صلى الله عليه وسلم لمن يريدها منهن.

وقد خرجت عائشة في هودجها للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه، وقادت الجيش الذي حارب علياً رضي الله عنه في وقعة الجمل بالبصرة.

وقد مات صلى الله عليه وسلم عن تسع نسوة: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت أبي أمية، وسودة بنت زمعة، وزينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث بن حزن، وجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وصفية بنت حي. وما من واحدة من هؤلاء التسع إلا وكان بيتها مجمعاً لطلاب العلم الذين يقصدونها من سائر النواحي، فيجلسون إليها ويستمعون حديثها، وتناظرهم في العلم ويناظرونها فيه، والحجاب مضروب بينها وبينهم، فيأخذون عنها بدون أن يروها.

وممن روى عن عائشة من الصحابة عمر وابنه عبد الله وأبو هريرة وأبو موسى وغيرهم من الصحابة؛ وممن روى عنها من التابعين سعيد بن المسيب وعمرو بن ميمون وعلقمة بن قيس وغيرهم.

وممن روى عن حفصة من الصحابة فمن بعدهم حارثة بن وهب والمطلب بن أبي وداعة وعبد الرحمن بن الحارث وعبد الله ابن صفوان وغيرهم.

وممن روى عن أم حبيبة أخواها معاوية وعتبة وأبو سفيان ابن سعيد ومولاها سالم بن شوال وابن الجراح وعروة بن الزبير وغيرهم.

وممن روى عن أم سلمة من الصحابة فمن بعدهم أخوها عامر ومولاها عبد الله بن رافع وأبو عثمان النهدي وأبو وائل وسعيد ابن المسيب وغيرهم.

ص: 38

وممن روى عن سودة ابن عباس ويحيى بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة.

وممن روى عن زينب ابن أخيها محمد عبد الله بن جحش وأم حبيبة وزينب بنت أبي سلمة.

وممن روى عن جويرية ابن عباس وجابر وابن عمر وعبيد ابن السباق والطفيل ابن أخيها وغيرهم.

وممن روى عن صفية ابن أخيها ومولاها كنانة وزين العابدين علي بن الحسين وإسحاق بن عبد الله ومسلم بن صفوان.

فلم يكن ذلك الحجاب الذي فرض على أمهات المؤمنين إلا لذلك الغرض الخاص دون غيره من أغراض الحياة، ولم يحل بينهن وبين القيام بمطالب دينهن ودنياهن، ولا بينهن وبين مشاركة أولياء الأمور في تدبير شؤون المسلمين. وقد كان الخلفاء يرجعون إليهن في كثير من الامور، ويسمعون إلى نصائحهن ويعملون بها.

ومن هذا أن عثمان لما اضطرب عليه الأمر في آخر خلافته كتبت إليه أم سلمى تنصحه:

يا بني - ما لي أرى رعيتك عنك نافرين، وعن جنبك مزورين؟ لا تعف طريقاً كان النبي صلى الله عليه وسلم ولجها، ولا تقتدح زنداً كان أكباها. توَخَّ حيث توَخَّى صاحباك، فإنهما ثَكَما الأمر ثَكْما، لم يظلما أحداً فتيلاً ولا نقيراً، ولا يختلف إلا في ظنين - هذه حق بنوتي قضيتها إليك، ولي عليك حق الطاعة.

فكتب إليها عثمان:

يا أمنا - قد قلت ووعيت، ووصيت فاستوصيت، ولي عليك حق النُّصتَةُ، إن هؤلاء القوم رعاع غَثرَة، تطأطأت لهم تطأطؤ الماتح للدّلاء، وتَلدَّدْت لهم تلدُّد المضطر، فأرانيهم الحق إخوانا، وأراهم الباطل إياي شيطاناً، أجررت المرسون منهم رسنه، وأبلغت الراتع مسقاه، فتفرقوا علي فرقا: صامت صمته أنفذ من قول غيره، ومزين له في ذلك، فأنا منهم بين ألسنة لدَادٍ، وقلوبٍ شداد، وسيوف حداد. عذيري الله! ألا ينهي منهم حليم سفيهاً، وعالم جاهلاً - والله حسبي وحسبهم يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون.

(للكلام بقية)

عبد المتعال الصعيدي

ص: 39

‌للتاريخ السياسي

المعنى السياسي لانتخابات مجلس النواب الفرنسي عام 1936

للدكتور يوسف هيكل

مجالس النواب في البلاد البرلمانية الديمقراطية هي التي ترسم سياسة البلاد، فإن أحسن المجلس العمل كافأه الشعب على ذلك بإعادة الأكثرية التي تسند الحكومة إلى المجلس الجديد؛ وإن أساءه انفضت الأمة من حوله وأرسلت إلى مجلس النواب، حين الانتخابات عناصر جديدة لاتباع سياسة جديدة. ويسهل على الشعب معاضدة الأكثرية الحاكمة، أو الحكم عليها، في البلاد ذات الحزبين أو الثلاثة، كما هي الحال في بريطانيا؛ ويصعب عليه إلقاء التبعة على حزب، في البلاد ذات الأحزاب العديدة والتي لا تستطيع تشكيل حكومة إلا بعد اتفاق عدد منها على الاشتراك في الحكم: كما هي الحال في فرنسا. وعلى كل فإن الشعب يستطيع التمييز بين الأحزاب، وإن كثر عددها، فيقوى أحدها ويضعف الآخر.

والانتخابات الفرنسية الأخيرة التي جرت في 26 أبريل و3 مايو من هذا العام، ترى كيف أن المنتَخِب الفرنسي غير فكرته السياسية، فقوى أحزاب اليسار: الشيوعي والاشتراكي وأضعف أحزاب الوسط، بما فيهم الحزب الراديكالي وأحزاب اليمين. ومما لا شك فيه أن لعلمه هذا معنىً سياسياً. فما هي الأسباب التي دعته إلى تغيير فكرته؟ هذا ما نحاول إبانته في هذا المقال. غير أنه يحسن بادئ الأمر أن نعرض بإيجاز موقف مجلس النواب السابق تجاه الحكومة، لنرى كيف كان ذلك عاملاً كبيراً في تغيير الناخب الفرنسي رأيه في الأحزاب. وأخيراً نتساءل فيما إذا كان في إمكان مسيو بلوم تأسيس وزارة قوية ثابتة، أم ستجابهه الصعوبات التي جابهت زميله مسيو هريو؟

- 1 -

جدير بالذكر أن الشعب الفرنسي لم يرسل إلى مجلس نوابه يوم 8 مارس سنة 1932 هيئة في إمكانها تأسيس حكومة ثابتة ومتجانسة. وكل ما هنالك أن حكمه كان سلبيا. لقد أقصى عن الحكم الأكثرية السابقة، غير أنه لم يستعض عنها بأكثرية متجانسة. لقد أظهر عدم رضاه عن سياسة (تارديه ولافال) غير أنه لم يمكن مسيو هريو من الحكم.

ص: 41

ليس بخاف أن الأحزاب في فرنسا عديدة، حتى أن عددها بلغ العشرين في مجلس النواب الأخير؛ غير أنه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع: فكان حوالي 180 نائباً من النوع المعتدل، و240 من النوع الراديكالي، و180 من النوع الاشتراكي. وبرغم أن الحزب الراديكالي كان متفقاً مع الحزب الاشتراكي حين الانتخابات وكونا (الجبهة الشعبية) ليفوزا على أحزاب اليمين، غير أنهما لم يكونا متفقين على إنشاء حكومة مشتركة بينهما، لأن مبادئهما الاقتصادية مختلفة. ولذا لم يكن في مجلس النواب الأخير أكثرية متجانسة تستطيع تأسيس حكومة قوية وثابتة.

وكان الحزب الراديكالي، وهو أكبر حزب في المجلس، (مفتاح الحكومة) فإن استطاع نيل تأييد الاشتراكيين له فيقال في اللغة البرلمانية، إن الحكومة (حكومة ائتلافية) وإن اشترك في الحكم مع المعتدلين، فيقال إن الحكومة (حكومة الاتحاد القومي).

ولقد رأى مجلس النواب الأخير هذين النوعين من الحكومات: فبعد أن فازت (الجبهة الشعبية) في الانتخابات شكلت (حكومة ائتلافية) كان فيها معظم الوزراء من الراديكاليين؛ لأن حزب مسيو بلوم لم يشترك في الحكم، ولكنه أيد الحكومة. وكان في يد الزعيم الاشتراكي مصير هذا النوع من الحكومة، فإن نزع ثقته منها سقطت فوراً. وقد استعمل مسيو بلوم هذه السلطة مراراً؛ فأدى ذلك إلى أزمات وزارية حادة تلا بعضها بعضاً بفترات قصيرة. وسقوط وزارات بونكور، دالاديه، وسارو السريع عام 1933 سبب (إفلاس)(الائتلاف).

وبعد (الفضيحة الستافسكية) وحوادث 6 فبراير، اضطر الحزب الراديكالي إلى ترك رئاسة الوزارة والاشتراك مع المعتدلين في الحكم. فتأسست وزارة مسيو دومرك، وتلتها وزارتا مسيو فلاندان ومسيو لافال. ودُعيت هذه الوزارات (وزارات الاتحاد القومي). على أن هذا الاتحاد لم يكن عاماً إذ لم يشترك فيه طرفا مجلس النواب أي الشيوعيين والاشتراكيين من جهة، والمحافظين من جهة ثانية. ولذا يمكن القول بأن هذه الوزارات ما هي إلا وزارات (ائتلاف أحزاب الوسط).

وفي المدة الأخيرة من حياة مجلس النواب الأخير، تخلى الحزب الراديكالي عن وزارة مسيو لافال، وعاد إلى نوع الحكم السابق أي إلى إقامة حكومة ائتلافية بالاتفاق مع

ص: 42

الاشتراكيين؛ وعلى رأسها مسيو سارو.

وكل من الحكومات التي رآها المجلس الأخير لم تكن متجانسة، ولم تكن لها قوة حيوية كافية تستطيع بها مجابهة الصعوبات التي وقعت فيها فرنسا طيلة السنين الأربع الأخيرة. لأن الاشتراكيين لم يشتركوا عملياً في حكومات (الائتلاف)، ولم يأخذوا على عاتقهم أية مسؤولية؛ ولهذا كانت الحكومة (مشلولة) إذ وجب عليها مراضاة الحزب الاشتراكي كيما تحتفظ بثقته؛ وذلك لم يمكن الراديكاليين من تطبيق منهاجهم، والسير إلى الأمام غير ناظرين إلى مراضاة الخواطر. . . ولأنه لا يمكن لأي حكومة (اتحاد قومي) أن تضع منهاجاً فعالاً يرضى عنه جميع الأحزاب الذين يعاضدون الحكومة. فالسياسة الخارجية التي يريد تطبيقها أحزاب اليمين لا يرضى عنها الحزب الراديكالي، وسياسة الحزب الراديكالي لا يقبلها أحزاب اليمين. وفي الواقع فإن هذا النوع من الحكومة ما وجد إلا لظروف خاصة، ومتى ذهبت هذه الظروف تصدع الاتحاد، واتفق الراديكاليون مع الاشتراكيين، ودارت المعركة بين أحزاب اليسار وأحزاب اليمين. ولا غرابة في ذلك إذ الذي يبعد الراديكاليين عن الاشتراكيين هو اختلاف في السياسة الاقتصادية، أما الذي يبعدهم عن المعتدلين فهو الاختلاف على المبدأ إذ أن الراديكاليون يدينون بالنظام البرلماني، الذي دونه يصبحون لا شيء وهم متعلقون بجمعية الأمم التي هي تطبيق المبادئ الجمهورية في (الدائرة الدولية). وعلى عكس ذلك فإن كثيراً من المعتدلين يتساهلون في وجود الجمهورية دون أن يحبذوها ويدينوا بمبادئها، وهم يحكمون على مبادئ عصبة الأمم ويعتبرونها أكبر عامل على تعكير صفو السلام. . .

- 2 -

فالأزمات الوزارية الحادة التي حدثت خلال السنين الأربع الأخيرة، والأزمة الاقتصادية العظيمة التي جابهتها فرنسا ابتداء من عام 1932، والتضارب في السياسة الخارجية التي تولدت بين سياسة الحكومات الائتلافية وحكومات الاتحاد القومي. . . أدى إلى عدم رضى الشعب الفرنسي عن مجلس النواب السابق فأرسل في 26 أبريل و3 مارس أكثرية جديدة.

ولنلق بادئ الأمر نظرة عامة على انتخابات الدورة الأولى فنرى أن الذين فازوا فوزاً باهراً فيها هما طرفا مجلس النواب أي الشيوعيين والاتحاد الاشتراكي من جهة، والاتحاد

ص: 43

الجمهوري الديمقراطي (حزب اليمين) من جهة ثانية.

والعاملان الإيجابيان اللذان أديا إلى هذه النتيجة هما؛ المعاهدة الروسية الفرنسية، وحزب الصليب الناري

غيرت حكومات الاتحاد القومي الثلاث الأخيرة مجرى السياسة الخارجية الفرنسية. فبعد أن كانت فرنسا تعتمد في المحافظة على سلامتها على عصبة الأمم ومبدأ (السلام المشترك): أخذ (المعتدلون) يبنون سلامة بلادهم على التحالف؛ أي سياسة ما قبل الحرب. فتقربوا من إيطاليا وعقدوا معها اتفاق روما عام 1934، وأخذوا يتفاهمون مع الروسيا فوصلوا إلى المعاهدة الروسية الفرنسية عام 1935. فهذه المعاهدات أظهرت للرأي العام الفرنسي أن فرنسا في حاجة إلى الروسيا لتدفع عنها الخطر النازي. . . ثم إن الروسيا، في السنين الأخيرة، غيرت مجرى سياستها الخارجية. فبعد أن كانت ثورية هدامة، أصبحت محافظة!. وذلك لأنها شعرت بحاجتها إلى مساعدة الدول الديمقراطية لترد عنها خطر الحكومة الألمانية التي تضمر لها شراً كبيراً وخطر اليابان. . . فوقفت في جنيف موقف المدافع عن السلام والذائد عن مبدأ (السلام المشترك)؛ وكان ممثلها في جنيف وفي لندن السياسي الوحيد الذي هاجم ألمانيا مهاجمة شديدة وتكلم عن خطر سياستها الخارجية بصراحة. ثم أن الشيوعيين الفرنسيين خففوا من حدة ثورتهم فأخذوا يتكلمون عن القومية ووجوب الدفاع عن الوطن. . . كل هذا أبان للرأي العام الفرنسي أن لا خطر من الشيوعية وأن كل ما قيل عنها مبالغ فيه. . . فكان فوز الشيوعيين فوزاً باهراً لم يتوقعه أحد.

وفي أواخر الثلث الأول من حياة المجلس التشريعي السابق قامت في فرنسا حركة (فاشستية) على رأسها الكولونيل (دي لاروك). فأسس هذا حزباً دعاه (الصليب الناري)، وحركته تماثل حركة (الفاشست) في إيطاليا (والنازي) في ألمانيا. . . وفي الأيام الأخيرة تقوى هذا الحزب، ويدعي الآن أن عدد أعضائه من القادرين على حمل السلاح بلغ ثمانمائة ألف. غير أن هذا الحزب الجديد لم يرشح أعضاء إلى مجلس النواب، بل إنه سند أحد أحزاب اليمين أثناء الانتخابات، فكان فوز (الاتحاد الجمهوري الديمقراطي).

(يتبع)

يوسف هيكل

ص: 44

‌من مذكراته

للأديب أحمد الطاهر

خفت إليّ مع الصباح، وحيتني بتحيته، وعليها من الثياب سواد، فرددت عليها التحية في تلطف ورعاية ورفق، وجلست صامتة واجمة خائرة النفس منهوكة القوى شاردة الفكر. ثم أخذت تجيل النظر في المكان الذي احتوانا، وأخذتُ أختلس النظر إليها فإذا هي تنظر إلى الأرض، ثم ترفع البصر إلى السماء ثم تتجه إلي بنظرة وادعة حزينة، وفي هذه النظرات الثلاث تعبير صادق عما يختلج في نفسها من المعاني: من تفكير عميق فيما نزل بها من بأساء، إلى توسل إلى الله بالصبر والرضا للقضاء، إلى رجاء فيمن تزور ليدفع عنها بعض هذا البلاء.

ثم قالت: (إني أعلم ما كان بينك وبين زوجي رحمه الله من صداقة ووفاء وإخلاص؛ ولقد ذكر لي فيما كان يذكر من شأنه أنك كنت مثابةً له في الرأي، وعوناً في التدبير، ونصيراً في الشدة، أليس كذلك؟).

قلت: (نعم كنا كذلك، وكنت أجد فيه ما تذكرين لي. رحمه الله، وطيب ثراه).

قالت: (ما أفزعني إليك اليوم وفي هذا الصباح الباكر إلا ما يحز في قلبي حزاً، ويعصر فؤادي عصراً، مما أجد من همي وهم الناس: فأما همي فهو الذي تعرفه والذي إن أخفاه لساني أعلنته ثيابي، وأما هم الناس وما أحمل منه، فذلك فيما أرى فيهم من قلة الوفاء، وخراب الذمم، وتحجر الأكباد، وضيعة الأخلاق: فلقد كنت أسمع من والدي ووالدتي - رحمهما الله - أن الناس في العهد الغابر كان الواحد منهم ينطق بالكلمة فإذا هي بينه وبين صاحبه عهد لا ينقض، وميثاق لا يحل، وإلُّ لا ينكث به؛ أما اليوم فما أرى الناس إلا عن ذلك صادفين: يقول الواحد منهم ما يقول، وبعد بما يعد: فلا يقام لقوله وزن، ولا يحسب لوعده حساب، ما لم يسجل قوله ووعده في كتاب، بل لقد ينكرون ما خطت أيديهم في الكتب، ولو شهد عليهم شهود، ولهم في ذلك طرائق وحيل. هذا زوجي رحمه الله قد أقرض فلاناً مائة جنيه، ولست أدري إن كان قد كتب بها صكاً أم استوثق زوجي من صدق وفائه بلسانه، وقد ألحت عليّ الحاجة والوفاء لهذه البنت اليتيمة فطالبت الذي عليه الحقُّ بالحقّ: فمطلني، ثم ألححت، فردني، ثم رجوته فصدف عني، ثم توسلت إليه فنهرني، وما

ص: 46

وجدت منه إلا إنكاراً وجحوداً، وجفاءً وصدوداً. ولما رجعت من عنده بخيبة الرجاء، واليأس من الوفاء، اندفعتُ أهدده وأتوعده برفع الأمر إلى القضاء. فأجابني بقوله:(وهل تحت يدك صك بهذا الدين؟). طار رأسي، وذهبت نفسي شعاعاً، وأحسست كأن الدنيا تضيق بي حتى لا تتسع إلا لعنقي تعصره عصراً، وما وجدت ما أدفع به قحته وإنكاره. لذلك جئت إليك بجملة من أوراق المرحوم لعلك واجد فيها صكاً أو سجلاً بهذا الدين أو ما يغني عن الصك والسجل. أرأيت خراب الذمم؟ أرأيت قلة الوفاء؟ أرأيت نكث العهود؟ أرأيت إلى الناس لا يستوثقون بالسان الحي الذي هو من صنع الله، ويستوثقون بالورقة الخرساء التي هي من صنع الإنسان؟ رحماك اللهم رحماك!!).

قلت: (خلي عنك يا أختاه. فلمثل هذا نزلت حدود الله. أما سمعت قوله تعالى (يأيها الذين آمنوا إذا تَدَايَنْتمْ بدين إلى أجَلٍ مُسَمّى فاكْتُبُوهُ، وليَكْتُبْ بينَكُمْ كاتِبٌ بالعَدْلِ، ولا يَأْبَ كاتِبٌ أَن يَكتُبَ كما عَلَّمهُ الله، فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِل الّذي عليه الحقّ وليَتَّق الله رَبَّه ولا يَبْخَس منه شيئاً.).

قالت: (سبحان الله العظيم! هذا كلام أزلي قديم وكأنما نزل لأهل هذا العهد الحديث، بل لكأنما نزلت هذه الآية لتكون فيصلاً بيني وبين هذا المدين.).

قلت: (وفي هذا وفي مثل هذا تجدين إعجاز القرآن الحكيم).

ودفعت إلي بالأوراق فنشرتها ونظرت فيها ورقة ورقة وهي مطرقة مغرقة في التفكير. وما انتهيت منها إلى ورقة أطلت فيها النظر حتى رفعت رأسها عن يدها ونظرت إلي متلهفة وقالت: (أوجدت الصك؟).

قلت: (لا. ولكني وجدت ورقة لعلها من مذكرات زوجك رحمه الله وبودي أن أقرأها لك فستجدين في سماعها عزاء وروحاً. وستجدين زوجك فيها يتحدث إلى نفسه بخواطره ولكنه يسوق إليك وإلى ابنتك الحديث).

قالت: (اقرأ). . . . فقرأت:

(ما أسعد الإنسان المطمئن! وما أحلى الطمأنينة في كل شيء، هذه هي السعادة حقاً، وما أشقى الإنسان الحائر المضطرب! وما أمر الحيرة والاضطراب في أي شأن من شؤون الحياة! هذا هو الشقاء بعينه، ولست أدري لم حار الفلاسفة والمفكرون في تعريف السعادة

ص: 47

واختلفوا، وما لهم لا يقولون إن السعادة هي الطمأنينة، وما لهم لا يستقرون إلى أن الطمأنينة والسعادة مترادفان بفهم من أحدهما ما يفهم من الآخر؟. أغلب ظني أن الفلاسفة والمفكرين يتسامون في التفكير ويحلقون في أجواء البحث فتدق عن أبصارهم هذه الحقائق البسيطة. السعادة هي الطمأنينة والشقاء هو الفزع.

هاأنذا أخرج من بيتي صباحاً أعدو إلى عملي ثم أروح وقد أديت العمل على خير ما يؤدى الواجب ويحمد لي الناس أداءه ويرضى ضميري عن أدائه. فأطمئن ولا يفزعني عن هذه الطمأنينة شيء من الأشياء فلم لا أكون سعيداً؟ ألقى الناس: منهم الصديق ومنهم العدو، ومنهم من لا تربطني به صلة وثيقة، ومنهم الكبير ومنهم الصغير، فيلقاني كل واحد من أولئك باسماً مصافحاً لا يسألني عن شأني ولا أسأله عن شأنه إلا بمقدار ما تدعو إليه العلاقة التي بيننا فلا يكون سؤالي وسؤاله إلا في رفق ولين ورغبة في العون إن كان بي أو به حاجة إلى العون. وإن لا نتساءل عن شيء فما يكون بيني وبينه إلا التحية وردها. فأنا بين هؤلاء وهؤلاء مطمئن وادع لا يفزعني عن طمأنينتي شيء من الأشياء. فلم لا أكون سعيداً؟

وتمضي الأيام والأسابيع والأشهر وما شاء الله من أقسام الزمن وأنا أغدو وأروح بين الناس وأختلف إلى ما يختلفون إليه من شؤون الحياة وأنا واجد في جسمي هذا النشاط وهذه القوة، لا يعوقني في سبيلي مرض ولا تقعدني علة، فأنا مطمئن إلى صحتي ما دمت صحيحاً، ولا يفزعني عن هذه الطمأنينة شيء من الأشياء، فلم لا أكون سعيداً؟

وأخْلاف الرزق في الحياة تصل إلى من طريقي كدي وجهدي وما ترك الوالدون من موارد الرزق للأبناء تصل إليهم في سعة أو في ضيق وأنا بذلك راض وإلى ذلك مطمئن: لا يفزعني عن طمأنينتي شيء من الأشياء. فلم لا أكون سعيداً؟

وأنا في كل يوم من أيام حياتي أؤدي إلى الله وإلى الناس ما يجب علي من الشكر والبر بقدر ما أستطيع وكيفما يجب: لا يصدني عن ذلك صاد ولا يصدف بي عنه صادف، فأنا مطمئن إلى علاقتي بالله وبالناس لا يفزعني عن الطمأنينة مفزع. فلم لا أكون سعيداً؟

أما إذا لقيت في عملي نصباً وعناء، أو أحسست من نفسي بنفسي عجزاً عن أدائه، أو قصوراً عن وفائه، فهنا يكون الفزع وهنا الخروج عن الطمأنينة، وهنا الشقاء.

ص: 48

وإن رأيتُ الناس يمدون إليّ يد السوء، أو لسان السوء، أو عين السوء، فما أشد ما ألقى من الفزع والجزع، وهنا الشقاء.

وإن رأيت معاول المرض تعمل في جسمي، وتهد من قواي، وتبعث في هذا الجسم رسالات من الألم شديدة أو غير شديدة، فهنا الفزع وهنا الشقاء.

وإن رأيت. . . وإن رأيت. . . مما يحول بيني وبين السكينة ويوقعني في الفزع والاضطراب، فهنا وهناك الشقاء.

والسعادة والطمأنينة غاية ليس وراءها من شيء، ولا يجد السعيد المطمئن في مهاد السعادة ما يبعثه على التفكير في أسبابها، ومن أين أتت إليه، وأي السبل اتخذت إليه، لأنها اطمئنان واستقرار ورضا، وسبيل لا عوج فيه ولا التواء.

أما الشقاء - أعاذنا الله منه - فلا يكاد ينزل بالمرء حتى يفسد عليه نفسه، ويلقي بالحيرة في ضميره، فلا تهدأ النفس عن الاضطراب بين علله وسبل الخروج من مضائقه. ولا يهدأ العقل عن التفكير في هذه العلل وهذه السبل، ولا يهدأ الضمير عن أن يتخذ لنفسه أشكالاً وأوضاعاً يسميها الناس وخزاً وتأنيباً وندماً وقلقاً وتبرماً وحسرة؛ وما إلى ذلك من الأسماء تختلف باختلاف أنواع الفزع وأسباب الشقاء. وهنا يكون الشقي بين شقي الرحى: شقائه الذي نزل به واضطراب نفسه وعقله وضميره في مبعث الشقاء وسبل الخروج منه. وكثير من الناس يزيد في شقاء نفسه بنفسه حين يخطئ السبيل التي تؤدي إلى الخلاص من الشقاء، أو حين يضل عن هذا الثقب الصغير الذي نفذ إليه منه البلاء، أو حين يلتمس الراحة من العناء فيما لا يزكو بالعاقل التماس الراحة فيه.

وما من سبيل لأن تعدد للناس حصراً أسباب الشقاء. ولا سبل الخلاص من الشقاء، ولكنني وجدت سبلاً ثلاثاً، كلما أفزعت عن طمأنينة السعادة إلى مضطرب الشقاء لجأت إليها فوجدت فيها عزاء وشفاء وهناء.

أخلو إلى نفسي فأصل بينها وبين الله بالتفكير في خلقها، وفي الحدود التي وضعها الله بين العبد وربه، وبين العبد والعبد. وفي تحديد حياتها بأجل تنتهي عنده، وأقيس ضعفها بقوة خالقها، وحقَّها في الحياة بحق من أوجدها في الحياة، وأتبين ما رسم الله لعباده من مناهج وطرائق تؤدي إلى السعادة العاجلة في الدنيا، أو الآجلة في الأخرى، وما فرض على العبد

ص: 49

أن يأخذ به نفسه إذا اشتد به الضيق، أو سد في وجهه الطريق، ثم أرجع إلى كتاب الله أقرأ فيه وأتبصر في معانيه، فأجد فيه للنفس شفاءها، وللروح غذاءها، وأجد قوة على احتمال الشقاء، وسبلاً للخلاص من البلاء، ويهون في نفسي كل ما هالها، ويصغر في عيني كل ما تعاظمهما، فما ألبث حتى تستشعر نفسي شيئاً من الصبر والرضا، ويشع في أعطافها وحواشيها نور من الأمل والرجاء، ثم تطمئن إلى ما تجد، ثم تخلو من الهم، وإذا أنا هادئ وسعيد.

أرجع إلى بيتي فتلقاني ابنتي الصغيرة متهللة مستبشرة، فأحملها بين يديّ وأقبلها وتمضي تحدثني بما أفهم ولا أفهم من لغوها، ثم تسعى بيني وبين أمها، ويطول لغوها وسعيها، ثم تنظر إلى كل منا وعلى وجهها الصغير آيات البشر بادية، وتحاول أن تشركنا في هذا المرح الذي تشعر به، وتود لو تفيض علينا منه. فيعز علي أن أعذب هذه الطفلة البريئة بعبوسي، ويكبر عليّ أن أكدر صفوها بوجومي، وأن أحمل إليها وإلى أمها همَّاً لا قبل لهما به ولا يد لهما فيه، ولا حيلة لهما في صرفه عني. فأتناسى ذلك الهم الذي كان مبعث شقائي ثم أنساه، وأمزق عن وجهي غشاوة العبوس التي كانت تغشاه، ثم أمحوها محواً، وإذا علي الوجه ابتسامة تكون قلقة حائرة أولاً، ثم تتصل بالنفس فتستقر وتصدر عن إحساس أخيراً، حتى إذا انصرف عن النفس بعض همها الذي ملكها خلت إليّ هذه النفس تحدثني ببعض ما يجب على الرجل نحو أبنائه وأهله. وتبسط لي كيف يجزى الطفل على بنوته وطهارته وضعف حيلته، وكيف تجزى الزوجة على أنوثتها الضعيفة. وأمومتها السامية الشريفة، ورعايتها لزوجها ووفائها له. فأذكر إذ ذاك العطف والحنان، والرعاية، والوفاء، وعرفان الجميل، وحسن التقدير، ويذهب هذا كله بما بقي في نفسي من همّ. وإذا أنا بعد هذا وبهذا مطمئن وسعيد.

وثالث هذه السبل هو هذا القلم الذي أكتب به: أصل بينه وبين نفسي فإذا ما فيها من الهم والأسى ينساب إلى قناته في سهولة ورفق واطراد، وإذا هو ينثر ما في النفس على الورق ألفاظاً وأسطراً وصحائف. وما أزال أكتب حتى يقف القلم، فأنظر إلى نفسي فإذا القلم قد استنزف كل ما فيها من الهم لم يترك بقية ولا ذُمَامَة. فأقرأ ما كتبت وأقيسه بما كان في نفسي، فإذا هو هو لا يزيد عنه بمقدار ولا ينقص عنه بمقدار. وإذن لقد أفرغت نفسي من

ص: 50

الهم واطمأننت وإنني لسعيد.

ولعمري إن هذه السبل الثلاث لهي خير ما اهتديت إليه من سبل التخفيف من همي. وأنا فيما يحزبني من الأمر أتخذ سمتي إليها مجتمعة أو متفرقة، فأجد فيها راحة وشفاء واطمئناناً وسعادة. ولقد اتخذت سمتي الليلة إلى هذه السبيل الأخيرة (سبيل القلم) فكتبت ما كتبت وأحس أن ليس في نفسي أكثر مما كتبت.

وإذن لقد فرغت نفسي من همها واطمأنت وإنني لسعيد أهـ).

وما انتهيت من القراءة حتى نَظَرَت إليّ باسمة راضية، وتبددت عن وجهها سحابة الحزن والأسى وقالت: (أي والله، لهذا خير عندي من الصك ألف مرة. أكان رحمه الله يجد العزاء في كتاب الله، وفينا، وفي قلمه؟ قل لي بربك بِمَ أجزيه عن فضله وبره؟ وماذا أفعل بهذه الورقة وهي فيما أرى سجل حياته وعهده الكريم بين الله وأهله ونفسه.

قلت: (أكرميها).

قالت: (وكيف؟).

قلت: (تحفظينها عندك ذخرا، وأنشرها لك في (الرسالة) ذكرى).

اليوزباشي أحمد الطاهر

ص: 51

‌في الأدب الإنكليزي

هل من انتحال في الأدب الإنكليزي؟

للسيد جريس القسوس

أخي ح. ش:

لقد مضى نحو عام على رسالتك التي بعثت بها إلي تطلب فيها أن أشرح لك المشكلة الشكسبيرية التي تثار من حين إلى آخر. واليوم أراك تبادرني بسؤال آخر قلما ألتفت له الباحثون في الأدب الإنكليزي. وقبل الإجابة على سؤالك لابد من لفت نظرك إلى الفصل الممتع الذي عقده الدكتور طه حسين تحت موضوع: (ليس الانتحال مقصوراً على العرب)، في كتابه (الأدب الجاهلي) بين فيه أن الانتحال لم يقتصر على العرب؛ بل كان عند الأمم القديمة، كاليونان والرومان، ولا أعلم هل في الآداب الأوربية الحديثة، خلا الإنكليزية، شيء من هذا؛ وكل أملي أن يتعاون الباحثون في الأدب على بحث موضوع الانتحال في آداب الأمم الحية، لعلهم بذلك يتوصلون إلى نتيجة مرضية، تشفي الغليل، وتنير السبيل أمام الباحثين في موضوع الانتحال عند العرب. أما في الأدب الإنكليزي، فلم يعرف الانتحال، على ما أعلم، إلا في القرن الثامن عشر؛ وقد يكون هناك شيء منه في غير هذا القرن، لكنه ضئيل تافه إذا قيس بما عُزِي إلى الشاعرين الكبيرين جيمس مكفرسن، توماس تشاترتن من الانتحال.

- 2 -

من هو مكفرسن؟

وقبل التطرق إلى البحث في الانتحال المنسوب إلى هذين الشاعرين، لا بد من كلمة مقتضبة، نترجم بها لكليهما، ذلك لما للحوادث في حياتهما من علاقة متينة بموضوع هذا البحث. لهذا نشرع بادئ ذي بدء بمكفرسن فنقول:

ولد جيمس مكفرسن قرب كنغوسي في سكوتلندا، في 27 أكتوبر سنة 1736. وكان أبوه مزارعاً وضيع النسب، فقير الحال؛ لكنه برغم ذلك استطاع بحذقه ودهائه أن يدخل ابنه جامعة أبردين وبعدها جامعة أدنبرغ ولقد عرف الشاعر صغيراً بالنبوغ الأدبي فألم

ص: 52

بالشعر الغاليقي إلماماً كبيراً؛ ونظم وهو تلميذ ما ينيف على أربعة آلاف بيت من الشعر، نشر بعضها تحت عنوان (الانجاد) سنة 1750، وأهمل البعض الآخر لأمر ما.

ولقد زاده ولوعاً بالأدب ما لاقاه من تشجيع أصدقائه له على نشر منظوماته. ففي نيوفات مثلاً التقى بجون هوم وأطلعه على بعض قصائده، فأعجب بها، وأشار عليه بنشر بعضها، خاصة ما ادّعى أنها مترجمة عن الشعر السكوتلندي القديم مثل (مقطعات من الشعر القديم جمعت في جبال سكوتلندا، وترجمت عن اللغة الغاليقية) وهي في الأصل الإنكليزي كما يلي:

، ، &

760)

ليس هذا فحسب، فقد أمدّه الدكتور هيوج بلاير بإعانة مالية مكّنته من نشر هذه الأشعار، ذلك لظنه بأن أكثر هذه الأشعار مترجمة غير موضوعة.

وفي خريف سنة 1760، زار الشاعر بعض القرى السكوتلندية، وعثر فيها على مخطوطات قديمة فافتتن بها، حتى أنه ما عتم أن ترجم أحدها بمعاونة الأديبين الكابتن موريسن والقس أ. غالي

وفي سنة 1761، أعلن اكتشافه لقصيدة حماسية موضوعها فنغال: نشرها تحت عنوان ضخم هو (فنغال في ستة كتب، مرفقة بقصائد أخرى متفرقة للشاعر أوسيان اسن فنغال، مترجمة عن اللغة الغاليقية).

وعنوانها الأصلي هو: -

، ، ، ،

أما فهو الاسم الذي وضعه مكفرسن للبطل الايرلندي الخرافي (فن) الذي آزر كثولن حاكم ايرلندا، ووقف معه في وجه خصمه العنيد سواران ملك لوخلين حتى تمكن في النهاية من قهره، وإيقاعه في الأسر.

وفي سنة 1763، نشر قصيدة أخرى حماسية، اسمها (تيمورا) ومجموعة شعرية موضوعها

أما تيمورا هذا فاسم قصر ملوك ألستر وفي هذه القصيدة تتمة الحوادث الواردة في فنغال

ص: 53

أما أوشان فهو ابن فنغال نفسه؛ وقد كان فارساً منواراً، وشاعراً مجيداً؛ عاش على ما جاء في الأساطير الغاليقية في القرن الثالث ق. م.، وإليه يعزو مكفرسن وغيره من الأدباء هذه المنظومات الحماسية الرائعة، التي تدور على بطولة فنغال وقومه.

وجميع هذه الآثار الأدبية التي نشرها مكفرسن، معلناً أنها مترجمة موضوعة بأسلوب أقرب إلى النثر منه إلى الشعر؛ ذلك لما فيه من التسجيع والإيقاع المتكلف.

ويُعدّ أسلوب مكفرسن الأدبي من أروع الأساليب وأجملها وموضوع أدبه من أبعد المواضيع أثراً في تعجيل الحركة الإبتداعية ونشرها قبيل مجيء وردزورث. ولا يقتصر نفوذه على الأدب الإنكليزي فحسب، بل تعداه إلى الأدب الأوربي عامة، والألماني خاصة. فقد ترجمت منتوجاته إلى أغلب اللغات الحية وكان غوته وهردر الشاعر والنقادة الألماني الشهير من هواة أدبه.

ويروى أن ترجمة كيساروتي الإيطالية لقصائد مكفرسن، كانت من أحب الكتب إلى نابليون.

وبعد رجوعه من رحلاته الكشفية في سكوتلندا، تقلب مكفرسن في وظائف شتى، فمن سكرتير للجنرال جونستون في جزيرة فلوريدا، إلى عضو في البرلمان؛ وهو في أثناء ذلك لا ينقطع عن الاشتغال بالأدب، والنشر، وأهم ما نشره، خلاف ما عزاه إلى غيره من الترجمات الشعرية، كتاب (سر تاريخ بريطانيا العظمى)، ولقد ظل هذا دأبه، حتى وافته المنية في 17 فبراير سنة 1796، فدفن في زاوية الشعراء في وستمنستر أبي

- 3 -

مكفرسن والانتحال

كان صموئيل جونسن النقادة الإنكليزي الشهير ودكتاتور الأدب في القرن الثامن عشر، أول من نسب إلى مكفرسن انتحال أشعاره، وادعاءه أنها مترجمة من الغاليقية، فقد نشر جونسن سنة 1775 كتيباً اسمه (رحلة إلى جزر اسكوتلندا الغربية) هاجم فيه مكفرسن هجوماً عنيفاً، مبيناً أن مكفرسن إنما عثر على بعض الأشعار والمقطعات القصصية في الشعر الغاليقي القديم، فحاك من هذه المقطعات تلك القصائد المطولة، التي

ص: 54

ادعى أنها مترجمة، ولقد زاد موقف مكفرسن اضطراباً، ورأى جونسن وغيره من خصوم مكفرسن، تأكيداً، أن الشاعر السكوتلندي ينشر الأشعار الأصلية في صيغتها الأولى، فيكون بذلك قد برر موقفه؛ ورد طعنات خصومه إلى صدورهم؛ وعذروه في ذلك عجزه عن القيام بنفقات النشر، وحين لم يستطع أن يصمد أمام الأدباء المعاصرين الذين انقلبوا جميعاً خصوماً له، لم ير بدّاً من العكوف على نظم بعض القصائد، والادعاء بأنها الآثار الأدبية الأصلية، التي نقل عنها.

ولقد أُثيرتْ بعد وفاته آراء متضاربة، حول صحة هذه القصائد؛ وانقسم الأدباء إلى خصوم وشيعة. ومن أشهر خصومه ملكولم لينغ فقد بيّن في ملحق كتابه (تاريخ اسكوتلندا)، سنة 1800، أن الأشعار الأوشانية ليست مترجمة، بل نظمها مكفرسن، وعزاها إلى غيره.

وطرق هذا الموضوع أدباء فرنسيون وألمان أخصائيون في الأدب الكلتي، ولفتوا أنظار مؤرخي الأدب إلى نقط مهمة تكشف عن الناحية المهمة من هذا الموضوع الخطير.

ومن خصومه أيضاً الدكتور دوجلاس هايد فقد ألف كتاباً اسمه ذكر فيه أن مكفرسن عرف الاسم الحقيقي لفنغال تمام المعرفة، إنما توخى التحريف والتحويل في هذه الأسماء ليوهم الأدباء أن أسماء أشخاص قصائده، إنما هي مترجمة ليس إلا.

ولقد عرض اسكندر مكبيان في فصل قيم موضوعه: ? في كتابه: قضايا الجمعية الغاليقية في غلاسكو لمختلف الآراء والنظريات المتعلقة بهذا الموضوع، وخاتمة ذلك الكتاب تتضمن خلاصة ما وصل إليه معظم الباحثين في هذه المشكلة؛ وخرج من هذا كله بنتيجة معقولة هي أنه لم يعرف في التاريخ شخصية باسم أو إنما جل ما هنالك بعض مقطعات في الشعر الشعبي الخرافي، فيها بعض الإشارات إلى أبطال ايرلنديين، لم يثبت التاريخ وجودهم في عصر ما. أما انتساب (فِنّ) إلى كورمك أحد ملوك أيرلندا القدماء كما هو ظاهر في القصيدة (فنغال)، فهذا أيضاً عار عن الحقيقة إن هو إلا نتاج زائف لخيال مكفرسن وتصويره الشائق.

وبذهب مكبيان إلى أبعد من هذا، فهو يرى أن اتخاذ الايرلنديين (فِنّ) بطلا قومياً ليس بالعجيب؛ إذ كلّل أمته، عند نشأتها وتكوينها الاجتماعي والأدبي، أبطال خياليون، تنسج حول شخصياتهم الأباطيل والخرافات النتعددة، فما (فِنّ) بالحقيقة إلا بطل شبيه بهرقل،

ص: 55

وتيسيوس، وبرسُيْس. ولا يبعد أن يكون (فِنّ) هذا إلهاً محلياً، قدسه قومه، وجعلوا منه بطلاً قومياً. حتى (أوشان) الشاعر الذي ينسب إليه مكفرسن نظم كثير من القصائد التي تدور حوادثها على شخصية (فِنّ)! أقول، حتى هذا الشاعر، في رأي مكبيان، وليد الخيال! لم يعش قط في عصر ما. أما تفسير كونه ابن فنغال فليس بالأمر العسير، فهو لا يختلف بذلك عن غيره من الآلهة القديمة التي عرفت بالاختلاط مع البشر، والمساهمة معهم في الحروب، ومختلف الأحداث؛ وفي كثير من الأحيان التزاوج مع فئةٍ مختارة منهم.

أما جواب مكبيان الأخير على القول السائد، (أن فنغال عاش وأوشان أنشد)

فهو إنهما عاشا وأنشدا في نفوس الشعب الغاليقي، وأخيلتهم الخصبة. لأن الشعب وجد في هاتين الشخصيتين الخياليتين، مثلهم القومية والأدبية العليا مجسمة.

أما أنصار مكفرسن فيكتفون بالتشجيع لصاحبهم، دون الإتيان ببراهين وحجج دامغة، تدحض آراء خصومهم دحضاً، وتدفع بتهجماتهم العنيفة دفعاً؛ وخلاصة ما يرونه أن هذه الأشعار تاريخية، وأنها من نظم شاعر عاش في القرن الثالث ق. م. وشهد جميع الحوادث الحربية، التي ورد وصفها في تلك المنظومات الرائعة.

والحقيقة الراهنة لا تنشد في قول جونسن الخصم اللدود، ولا في أقوال أنصار مكفرسن المتحزبين، إنما تطلب في قول فئة تقف موقف العدل والحق من هذه المسألة.

والمقام يقصر عن التعرض لآراء جميع الذين يقفون هذا الموقف لكنا نكتفي بذكر أعظمهم شأناً وأبعدهم أثراً، وأقربهم من الحقيقة، أعني به الكاتب الكبير، والنقادة الاسكتلندي الشهير كامبل أوف إسْلويْ فقد وضع مؤلفاً في هذا الموضوع اسمه:(قصص شعبية في الجبال الغربية) فنّد فيه زعم جونسن أم مكفرسن نظم آثاره الأدبية نظماً، دون أن يتأثر بأشعار عامية قديمة، أو يقتبس منها أو ينقل عنها، وإن هذه الحوادث والأسماء الواردة في منظومات مكفرسن إنما هي موضوعة مختلقة، وردت ليست مترجمة. فهو يقول أن الأبطال الأوشانين، الذين وردت أسماؤهم في قصائد مكفرسن، عاشوا بحق، وعُرفوا قبل أن يدوّن مكفرسن هذه الأشعار بأعوام.

(البقية في العدد القادم)

جرجيس القسوس

ص: 56

‌الصديق المنشود

للأستاذ فخري أبو السعود

تحيةً في النوى يا كهف آمالي

من مُصطف لك دون الصحب والآل

يا مخلصاً ليَ في سر وفي علن

وراعياً لي في بُعدي وإقبالي

ومن يغالي بودي ليس يبذله

لزخرف العيش من جاه ومن مال

ومُسدياً فضلَهُ من غير مسألةٍ

وعارفاً ليَ إفضالي وإجمالي

ومن يُفَرِّحه فوزي بمُطَّلَبي

وليس يهْنِئُه أن ساء بي حالي

لا شامتاً في وقع الخطوب ولا

جذلانَ غفلان في كربي وبلبالي

ومن إذا اغتابني المغتاب أصْمَتَهُ

فليس يُطربه ما قال عذالي

وإِن رأى عِوَجاً بي لم يُسَرَّ به

لكن يُقَوِّمُ آرائي وأفعالي

ومن يُمَحِّضني نصحاً وأقبس من

ضياء حكمته في كل إشكال

ومن يماثلني نفساً ويشبهني

هوى ويفقه أفكاري وأقوالي

ومن محادَثتي إياه أعذَبُ لي

من وقع فاجئة النُّعمى وأشهى لي

ومن إذا زدتُه خُبْراً أزيد له

حمداً ويَعظُم في عيني وفي بالي

ومن أرى وده نعم العزاء إِذا

تقلّبت بيَ حالٌ أو قلا قال

ودٌّ أنزهه عن كل شائبة

وأصطفيه بتقديسي وإجلالي

كم تاق قلبي إلى قُدْسٍ أُمَجِّدُهُ

في عالم فائضٍ بالرَّيب مُنْثَال

قد بتُّ أرقب لقيانا وأنشدها

على تعاقب أيام وأحوال

فهل لها موعد؟ فالعمر مرتحل

وليس يُرْجىِ لِعَوْدٍ بعد ترحال

متى تعَارُفُنا؟ أم أين أنشده؟

فقد أطلت - وما ألقاك - تجوالي

لكَم توسَّمت من جهل صفاتِكَ في

فتى فأَخلف فيه الخبرُ آمالي

لم يسْخُ لي بمغالٍ في الهوى لَهِجٍ

دهرٌ سخا بمُلحٍّ في القلي غال

فخري أبو السعود

ص: 58

‌الشلال

للأستاذ عبد الرحمن شكري

(فلعل الحياة كالماء تجري

بين هذا الثرى وبين السماء)

(من القصيدة)

يا أخا الصمت في الجلالة والرو

ع وصنو النكباء والهوجاء

إن في القلب لوعة ما تقضي

أنت حاكيت همتي ورجائي

أحسب الخلد مثل مائك ينها

ر ونفسي في مائه كالهباء

أنت فَجَّرْتَ في ضلوعيَ ينبو

عاً من الشجو مسرعاً في دمائي

ليت أن الحياة مثلك تعدو

لا تَرَاخَى مثل الجياد البِطَاءِ

إن للعيش كدرة تذر النف

س ركوداً كآسِنٍ في نِهَاءِ

فأَعِنِّي على الأواسن من نف

سي بفيض ينهار مثل البناء

يا ابن ماء السماء هل تذكر الرع

د تحاكي إرزامه في الغناء

قد هددت الصخور تنشد خصبا

أم لذخر تبغيه في الدقعاء

إنما أنت ناقم ينْصف السه

ل بفضل الشواهق الشماء

تجعل السهل والحَزُونَ سواَء

ليس نجد ووهدة بسواء

مَرِحٌ أنت أم كما يسرع الفا

رس في نجدة إلى الهيجاء

لك بالشم مولد وعلى صد

ر أبيك المحيط وقع الفناء

غير أن الميلاد في قمم الش

م حِمام لهاطل الأنواء

فلعل الحياة كالماء تجري

بين هذا الثرى وبين السماء

لك في النفس نشوة مثلما استش

رف راءٍ من شاهقات العلاء

ويفيض النفوس مرأى جلال

لك حتى تطير كالأنداء

فكأني في مائك الغمر أهْوى

وكأني في كل دان ونائي

أنت أيقظتني وقد كنت وسنا

ن فخلت الأكوان طراردائي

هاتف في خرير مائك قد أذ

كرني عزمتي وماضي مضائي

أنت أصفى من الوداد وأنقى

من حبور النعيم والسراء

ص: 59

أنت أرجوحة لنفسي وصوت

منك كالظئر هاتف بالغناء

أنت مثل الشباب عزماً وبطشاً

وَوَضاَءً أحبب به من وضاَء

لك وقع الأقدار حتى لقد خل

تك رمزاً رُمزتَهُ للقضاء

أنت كالدهر تأخذ الترب والعس

جد حتى تعيده في الحباء

لم تهَبْ كرَّة الدهور ولم تج

زع لذكر الشقاء والأرزاء

يا سليل السماء حَدِّث طويلا

بحديث العلى وصدق السناء

تبعث الصخر من صخورك يزهو

فوق صدر العشيقة الحسناء

سوف تغدو كالشيخ في أخريات ال

نهر تسعى بهمَّة شمطاء

فاغتبط بالمضاءِ وامرح طويلاً

كل شيء لطيَّةٍ وفناء

عبد الرحمن شكري

ص: 60

‌ضيعة المنى!!

بقلم فريد عين شوكة

بعض الرضى يا شبابي

عما ذَوى من رغابي

مضت عهود التمني

عَجْلَى كمرِّ السحاب

فاسلك سبيل التعزي

ودع حياة التصابي

وانعم ببعض الأماني

من الزمان المحابي

واركض مع الدهر واهتف

له بكل ركاب

إن الزمان غبيٌّ

يلهو به المتغابي

يا حائراً في ضلوعي

كزورق في عُباب

وباعث الدم يسري

كالمُهل تحت إهابي

متى تصيب قراراً

تغفو به أعصابي

متى تعود فترضى

من رحلتي بالإياب

متى تهون الغوالي

عليك بعد الذهاب

متى أراك بجنبي

كراهب المحراب

جفا الحياة ووارى

آماله في التراب

يا قلب صبرَك أطفئ

به لواعج ما بي

فأنت وحيُ نزاعي

وثورتي واضطرابي

شغلتني بأمان

كواعب أتراب

تركزت في ضميري

وغلغلت في شعابي

حي جننتُ هياماً

بها وخف صوابي

ما بالها كذبتني

وأسفرتْ عن سراب

وخلفتني منها

في وحشة واغتراب

ظمآن أهفو لديها

لرشفة من شراب

أسوان أصلي عليها

نار الأسى والعذاب

يا حسرة المتمنِّي

على الأماني الكِذابِ

ص: 61

(منوف)

فريد عين شوكة

ص: 62

‌حيرة

للأستاذ محمود شاكر

أشابَ القلبُ أم كَرِهَ الشبابا؟

وبان الأُنْسُ أم نسي الإيابا؟

وغالبني الأسى أم غالَبتْني

حياةٌ تجعل الفَوْزَ اغتصابا؟

أتَغْصِبُني الدموعُ الصبرَ حتى

أَرَى الدنيا أنيناً وانتحابا!

ويُبْدِلُني الزمانُ من التصابي

ومن طَرَبي وُجُوماً واكتئابا!

وأَسْأَمُ لَذَّةَ الدُّنْيا، ولَمَّا

أَذُقْ مِنْ لَذَّةٍ إِلا حَبابا!

فأِزْجُرُ لَذَّتي زَجْرَ اليتامى

إذا ما الدهرُ أَمَّ بهم ذئابا

أفي وَهَج الشباب أعود هِمّاً

يذودُ بضعفه النُّوَبَ الصِّعابا؟

وَأُطرِقُ للحوادث مستكيناً

كجاني الشرِّ ينتظر العقابا!

وأُصبحُ في يدِ الدنيا أسيراً

إِذا رام الفِكاكَ وَهَي وخابا!

كما عَلِقَ الحِبالةَ ذو جَناح

ولم يَنْفَعُهُ أن صحِبَ السحابا

فصفَّقَ ثم رَنَّقَ ثم أَعْي

يَحِنُّ لداره جوّاَ وغابا

أَمِنْ عَدْلِ الحوادث أن أُضَرَّى

لأطْعَمَ إِثْرَ لذَّتِهِنَّ صَابا!

وأن أستقبل الغَدَ مُسْتثيباً

فيُقْبِلَ، لا أفاد ولا أثابا!

وأحمِلَ من بناتِ الهمِّ قلباً

إذا نهنهتُهُ زاد اضطرابا!

جزاكِ الله من دُنْيَا خَتُولٍ. .

غَذَوْتِ القلبَ شكّاً وارتيابا

أنتهانى عن الجزعِ اللَّيالي

وما تنفكُّ تتركني مصابا!!

فتَسْلُبني الأحبة عن عيان

وتمتَحُني بذكراهم عذابا

وتسألني اختداعاً: أين بانوا؟

ومن يُجْرم توقَّح أو تغابى

سَلِي ما شئت، واستمعي شكاتي

كمثل الدمع تنسكب انسكابا

أَعدْلٌ منكِ أن أجَّجْت قلبي؟

فلولا الصبرُ يمسكه لذابا

فصارعتُ الشجون وصارعتني

إلى أن فُزْتُ بالبقيا غلابا

فإن الدهر يُنصف من تأبَّى

ويمنع يائساً من أن يُجابا

ومن يُعط التجلد للرّزايا

تيقَّن أن يصيب وأن يُصابا

ص: 63

وسائلةٍ بظَهْرِ الغيب عني

وعن جَلَلٍ من الأحداث نابا

تذكِّرُنِي الأحِبَّة ولَّوْا. .

فزاد الدمعُ والجَزَعُ انتيابا

أحافظتي، فديتُكِ من صديق

يسائِلُ من مضى عني وآبا

هي الدنيا تُفَرِّقُ ساكنيها

وفي الذكرى تزيدهمُ اقترابا

ألا لا تَعْجَبي لِيَ من نحيبي

فإِن أمامنا العَجَبَ العُجابا

محمود محمد شاكر

ص: 64

‌بلبلتي.

. .

بُلْبُلَتي! ما شِئت طي

ري حُرَّةً وغَرِّدي

وَسَقْسِقِي في جَنَّةٍ

من مُهجَتي وكبدي

// لا تحْسَبيني جئتُ بالْ

قَيْدِ وذُلِّ المِقْوَدِ

تفديك روحي وَسَنَا

عيِني وتَفْدِيكِ يدي

لن تدخُلِي في قَفَصٍ

من جوهر مُنَضَّدٍ

بل تدخُلينَ قَلْبي الْ

وافي فغنَّي وانْشدي

رَوْضي أنا، لا رَوْضَ له

ذا العالَم المحدَّدِ

إن تَنْفَدِ الدُّنْيَا وَجَدْ

تِ رَوْضَنَا لم ينْفَدِ

وأنت فِرْدَوْسي وفي

ظِلِّكِ شِدْتُ مَعْبدي

لكِنَّني أحمِي ذِما

ري وأصون مَحْتدي

وَأَدْفَعُ الذُّؤْبَانَ عن

محَامدي وسُؤْدَدي

شَرْقِيةٌ أَنْتِ؛ وَبِي

بقِيَّة من أحْمَدِ

فباركيهَا بارَكَ اللهُ

علَيْكِ، واقْصدي

عليَّ مِنْ حَقِّكِ ما

لَسْتُ عليه أعتدي

يا أملي البَسَّام هَا

تِي (. . .) وأَسْعِدي

سَهِدْتُ فاشْفِي بعض ما

في جَفْنِي المُسَهَّدِ

باريسُ ما باريسُ إنْ

فرَّطْتُ في ذا الْبلد؟

فِرْعَوْنُ جَدِّي، وأبي

عَدْنَانُ، فَهْو مُخْلدي

وَيَثْرِبٌ مَهْوى فُؤَا

دِي حينَ مِصْرٌ مَوْلدي

والمجدُ في شُطئَانِ هـ

ذا النيلِ فارضيْ واسعدي

(المحلة الكبرى)

(د. . .)

ص: 65

‌القصص

قصة مصرية

قبلة. . . .

(الحوار في هذه القصة المصرية موضوع في الأصل باللهجة المصرية وقد عرب لانتشار الرسالة في الأقطار العربية)

للأستاذ دريني خشبة

كانت شغله الشاغل!

كانت تملأ أحلامه، وتحتل كل حنيةٍ من قلبه، وكان له قبلها حبيبات كثيرات من حبيبات الضرورة اللائى يعرضن في حياة الشبان، ثم ما يلبثن أن ينطفئ، كما تلتمع الشهب وتتلألأ، ثم ما تلبث أن تنطفئ، ويكون أحدها صاعقة تنقض على أحد فتسحقه. . . فلما عرفها، نسي هواه القديم الموزع، ووهبها حبه وإخلاصه ودموعه ودمه. . . ولو استطاع لوهبها كل حبه الذي ضيعه على الحسان عبثاً من قبل.

وكان لها هي الأخرى أحباء. . . ثلاثة أو أربعة. . . تنتقل بينهم كالفراشة الظامئة تمتص من كل زهرة رحيقها، ثم تلتمس الزهرة الثانية والثالثة. . . والرابعة التي تكون أطيب شذى، وأنضر منظراً، وأملأ بالعصير الحول. ثم عرفت (جمال) فشعرت كأن حاجزاً ضخماً قوياً يفصلها من الماضي الممتلئ بمتاعب الحب المصطنع، والهوى المزوق، والغرام الكاذب الخداع. وشعرت لأول مرة في حياتها بنسيم عليل يهب في صحرائها المتلظية فيجعلها جنة تصدح فيها البلابل، ويتبسم في أفنانها الورد، وترقص في حنيَّاتها الملائكة. . . وتنشد وتغني!

وكانت تهب من نومها فلا تفكر إلا في (جمال)، وتذهب من هذه الغرفة إلى تلك وشخصه ماثل ملء ناظريها، وحبه يغمر نفسها، وكان يتمثل لها أكثر كلما توجهت إلى الحديقة تقطف الزهر وتأنس إلى الطير، وتجلس عند حافة الغدير، وترسل نظراتها الحائرة المضطربة في الشمس الغاربة خلف النخيل البعيد. . . وطالما كانت تستسلم لوحدتها هذه فترسل عَبرةً صغيرة، صغيرة جداً، تخفيها في منديل حريري صغير، لم تكن حملته قبل أن

ص: 66

تعرف (جمال).

وكان (جمال) بدوره يحبها ويفكر فيها، ولكنه كان فتى غيوراً من مصر، وكل فتيان مصر غُيُرٌ أشداء في الغَيرة، وهو كان يعرف أن (سُميّة) لم تكن له قبل أن يلقاها وتلقاه، بل هو كان يعرف اثنين أو ثلاثةً من أحبائها المدنفين بها، بل إن اثنين أو ثلاثة من أحبائها كانوا أصدقاءه، وكانوا يُسرون إليه، كل على حدة، بلاعج الحب الذي يعانون من (سمية)؛ وكانوا يشكون إليه دلالها وقلة اكتراثها بهم، فلم يتحدث إليه أحدهم عن (سمية) حديث سوء أو فحش، ولم يقل له أحدهم إنه نال من (سمية) خلوة فبثها غرامه، أو إنها حفلت به حين لقيها في الطريق فجزته عن ابتسام بابتسام، بل هم جميعاً كانوا في نصب من تمنعها الذي شف قلوبهم، وأضوى أجسامهم، وجعلهم في حيرة من أمرها.

على أن (سمية)، مع ذاك، كان لها أحباء تخلو إليهم قبل أن تعرف (جمال)، وكانت تعاطيهم من بضاعة الحب المُزْجاة قبلاً رخيصةً، غير حارة ولا وفية، ولا معنى فيها من هذه المعاني الرفيعة التي تصون الحب العذري، ويتجمل بسموها الهوى الطهري؛ وكانت تسرف أحياناً فتغشي المراقص والندى، وكانت تتضع فتحسو الخمر وتقبل الكؤوس، وكانت، من النشوة وجنون الشباب، تراقص الفتيان نصف عارية؛ وكان جسمها الجميل الممشوق، ونهدها البارز المتأجج، ووجهها المستدير الحلو، وخداها الموردان الأسيلان، وأنفها الدقيق وفمها الرقيق وذراعاها الناعمان. . . كان كل أولئك يجذب إليها قلوب الشباب المستهتر، وكانت قلوب الشباب المستهتر من حولها كالفراش حول اللهب، تنقذف فيه لتحترق!

وقد عرفها جمال هنا! في نفس المرقص الذي تعودت أن تغشاه أكثر من المراقص الأخرى. وقد قدمها إليه أحد أصدقائه القُنَّع الأغنياء على أنها غانية، ولكن جمالاً عرف فيها الفتاة العذراء بقلبها، النقية بسريرتها، المتبرمة بهذه الحياة التي مظهرها دنس وفجور وفسق، وباطنها ضمير معذب وقلب محترق ونفس شقية، ودموع مُكتَّمة وأمل مفقود. لقد كانت الأضواء المصنوعة البرتقالية والبنفسجية والصفراء والحمراء والبيضاء، تتكسر على ظهرها الأملس وصدرها المرمري، وساقيها الخِدلجين، فتزيد معاني الفسوق فيها في قلوب محبيها الذين لم يكونوا يعرفون منها إلا ما تعرفه شهواتهم وخباثاتهم، في حين كانت

ص: 67

هذه الأضواء نفسها تضاعف معاني الطهر والبراءة فيها في نفس جمال. ولذلك ضغط على يدها الصغيرة الحلوة الناعمة ضغطاً هيناً ليناً حينما قدمها إليه صديقه. . . وكان لقاء هو أول الطهر في حياة هذه الغانية، وهو أول الأمل المشرق والرجاء البسام.

لقد ضغط جمال على يد سمية ضغطة نقلت إلى قلبها الواسع ما في قلبه النحيل من حب ناشئ، تذوقته فلم تعرف فيه تلك النجاسة التي عرفتها من أحبائها الآخرين، وحدثت نفسها فوجدتها تنتقل فجأة من هذه الأرض الممتلئة بالأدران، إلى سماء فسيحة أثيرية ممتلئة بالأناشيد والأماني.

وفكر فيها جمال، وكاد عقله يصدفه عنها ولكن قلبه جذبه إليها بشدة وعنف، فاستسلم كالحمل، وألقى بروحه كلها في قبضة سمية.

والتقيا في خلوة، بعد مقدمات غرامية طويلة كلها حيطة وكلها حذر، وجلسا في منزل جمال الخالي من كل مخلوق عداه، وذهبا يتجاذبان أطراف الحديث الحي. . . ثم صمتا فجأة وتوسطت بينهما نظرات مستطيلة غائرة ممتلئة مغناطيساً عجيباً. . . ولم يقو جمال على هذا السحر المنبعث من عيني سمية، فأطرف برأسه، وأخذ فوديه بين يديه، وانفجر يبكي كالطفل، وسمية تتفرس فيه وتتألم. . . ولا تدري ماذا تصنع!

سمية التي خبرت من ألوان الحب ألفاً وألفاً، لم تر في حياتها مثل هذا المشهد العجيب مرة واحدة، لأن كل الذين اكتووا بنارها كانوا من طلاب جسمها الخصب، وجمالها الفتان، أما جمال، فقد عرف من ابتساماتها الحزينة، ونظراتها المترعة بالمعاني أنها جديرة بغير هذا اللون من الحب الشهوي الدنس، جديرة بحب جديد نقي يوائم هذه الناحية المستورة العميقة من نواحي نفسها الكريمة الرحيمة الناقمة على الحياة، الباحثة عن قلب واحد كريم من ملايين القلوب التي يزدحم بها العالم من حولها.

دهشت سمية، وجلست تلقاءه مسبوهة اللب ذاهلة القلب، لا تدري ماذا تقول، ولا كيف تعالج منه هذا البكاء وذلك النحيب. . . لقد كانت تظن أنه يستطيع أن ينال منها كل ما يشتهي، فإنهما بنجوة من الناس، ولا أحد يستطيع أن ينفذ إليهما ولو بنظرة. . . فلم لم يداعبها جمال؟ ولم لم يداعب كفيها على الأقل؟ لمَ لمْ يجلس إلى جانبها على الكرسي الرحيب فيضع رأسه على صدرها كما يفعل العشاق، أو يأخذ رأسها فيضعه على صدره،

ص: 68

ثم يبحث بفمه في شعرها المجعد الأسود الفاحم! لماذا لم يحاول أن يُقَبِّلها؟ إن القبلة هي عربون الحب كما يقولون! فلم لا ينقض جمال على فمها الحلو فيسقي من سلافته قلبه الظامئ؟ لا! لم يفعل، ولم يحاول أن يفعل. . . بل ظل يبكي كالطفل. . . بكاءً ساكناً هادئاً، لأنه صادر من القلب، بل من أعمق أغوار الروح. . .

(أ. . . أظن بحسبك ما بكيت يا جمال؟

(. . .؟. . .

(أهذه أول مرة إذن؟. . .

(سمية. . .

(جمال. . .

(أتعطيني موثقاً يا سمية؟

(وعلى أي شيء أقاسمك يا جمال؟

(على أن تكوني لي وحدي يا سمية. . . على أن تقطعي صلتك بكل من عرفتِ قبلي

(وهل عرفت أحداً قبلك؟ أنت واهم!

(أنت تهزأين بي يا سمية!

(لا. لست أهزأ بك، بل. . . أنا. . . أحبك

(وأنا. . . وأنا يا سمية. . . بل لقد فنيت فيك

(ثق أنني لم أقلها لأحد قبلك على كثرة من تعرف ممن ظننتهم أحبائي!

(إذن ستكونين لي وحدي! أليس كذلك؟

(سأكون لك! وأقسم لك إنني لم أكن لأحد قبلك

(وعلام تقسمين يا سمية؟

(أقسم على نفحة السماء التي غمرت قلبي حين ضغطت على يدي ليلة لقيتك. . . بل أقسم على الدموع الغزيرة الغالية التي ذرفتها أنت الآن!

ودنا منها جمال. . . وصافحها، ولكنه لم يقبلها؟!

ونقل من القاهرة إلى أسيوط، وانتقلت (سمية) معه، ثم تزوجها هنالك، ولكنه كان يعاشرها كما يعاشر الفنان دُميته، يهواها ويتعبدها، على عكس ما يقول الشاعر العربي؛ وكان شديد

ص: 69

الغيرة عليها، وكان يغيظه منها كثرة الخطابات التي ترسلها إلى القاهرة والتي تصل منها، وكانت هي لا تبالي أن تقع هذه الخطابات في يده فيقرؤها، ويمزق منها ما يشاء، ويبقي على ما يشاء ويرد إليها ما يشاء. ولكن خطاباً واحداً أهاجه بما حمل إلى سمية من عبارات ليس يصدر مثلها إلا عن فؤاد العاشق ولا يستطيع أن يكتبها إلا قلم وامق. . . وإن تكن التي كتبته امرأة كما يُظَن من الإمضاء.

(ومن عَلِيّة هذه التي تكتب هذا الأسلوب المتهدج يا سمية؟)

(الأسلوب المتهدج؟)

(آي. . . الأسلوب الذي يخفق بحبك، ويتنزل كالوحي عليك؟)

(جمال! ماذا تريد أن تقول؟)

(لا شيء! ولكني أعبدك يا سمية! أعبدك! أسمعتِ!)

(بل أنت تعذبني بشكوكك!

(فقط أريد أن أعرف من علية هذه؟)

(أقسم لك بدموعنا إنها فتاة. . . ولكن لا تعرفها!)

(. . . . . .؟. . . . . .)

وذهب جمال إلى (المصلحة) وغادر سمية تجتر آلامها وحدها؛ وكان قد أهدى إليها صورته يوم أن تقاسما على أن يكون كل منهما للآخر، وكانت سمية تعتز بهذه الصورة أيما اعتزاز، لأنها كانت تذكرها بالقلب الذي نبض بحبها غير مشوب بغرض دنيء، كما كانت تذكرها بأول نبضة خفق بها قلبها بحب بريء. . . فكانت تدمن النظر إليها وتبكي. . .

وعاد جمال مرة من عمله مغضباً حانقاً، لأن لئيماً من أصدقائه عرف أنه تزوج من سمية فكتب إليه خطاباً بإمضاء مستعار يهيجه به، ويذكر له من تاريخ صاحبته ما يريد أن يفصم به عرى تلك الرابطة التي ربطت قلبيهما، فتعجل جمال موعد انصرافه، ويرجع إلى المنزل ليرى رأيه في سمية، وليضع حداً لافتتانه بها، وليخلص ضميره المعذب من هذا الشقاء الطويل.

وكان يحمل معه مفتاحاً لسكنه، وكان كل مرة يفتح الباب دون أن يسمعه أحد، وكان بذلك يؤلم سمية غاية الإيلام، لأنها كانت تعتقد أنه يتجسس عليها.

ص: 70

ودخل في ميعاد مبكر لم تكن تنتظر مجيئه فيه، وسار بخطى متئدة حتى كان عند باب المخدع، فوجدها بين مصراعي دولابها الكبير تقلب أوراقاً، ثم تتناول من بينها صورة فتحدق فيها نظرها. . . وتلثمها وتبكي. . .

وكان السافل الوغد الذي كتب إليه الخطاب الذي أهاجه قد ذكر له أنه أهدى إليها صورته أكثر من مرة، وأنها أهدت إليه صورتها، فوقر في قلبه أنها تلثم الصورة المجرمة التي تدخرها ككنز لهذا الحيوان.

وفي ثورة جنونية، انقض جمال على سمية، وضغط بكفيه القويتين حول عنقها، فوقعت على البساط الوردي الفخم، بين الموت والحياة!

ولكن. . . وا أسفاه! لقد نظر إلى الصورة التي كانت بيد زوجته فوجدها صورته التي كان أهداها إليها ليلة الموثق، فأفاق من وسواسه، وانحنى يقبل سمية بفم مجنون، وشفتين مرتجفتين، ولكنها لم ترد عليه بكلمة. . . فحسبها قد قضت!

وصاح جمال بالخادمة. . .

ثم هرول إلى الخارج ليحضر طبيباً. . .

ولكنه عاد ليجد الخادمة تقول له:

* (سيدي. . . لقد سافرت!

* (سافرت؟!

* (أجل. . . سافرت إلى القاهرة! هكذا قالت لي، وهاك خطاباً منها. وفض جمال الخطاب فلم يجدها زادت على هذا السطر.

(جمال! اضطررتني اضطراراً أن أعود إلى الذئاب لتغتذي بمرضي وتوغل في دمي، والذي يؤلمني أنني أكاد أضع لك ولداً في طريقي إلى القاهرة!!).

وكاد جمال يختنق!

وهرول إلى المحطة لأنه نظر إلى ساعته فوجد أن القطار لا يتحرك قبل عشر دقائق. . . ولكنه وصل إلى المحطة ولم يجد سمية هناك، فانتحى ناحية وأخذ يفكر. . . ثم ذرف دموعاً سخينة أخفاها في منديله، وأيقن أن سمية قد سافرت في سيارة.

وعاد إلى المنزل محطم القلب مهدم الجسم خائر القوى.

ص: 71

ولكنه ما كاد يطرق باب المسكن حتى سمع صوصوة، ثم دخل فرأى طبيبة كأنها ملاك تحمل بين يديها ابنه. . . المولود الصغير. . . ورأى سمية ممدودة على السرير ضعيفة موهونة واهية فانهمرت الدموع من عينيه، وتقدم إلى الطبيبة فاحتمل الطفل وطبع على جبينه ذي الأسارير قبلة باكية، ثم سمع سمية تقول:

* وأنا أيضاً يا جمال!

* (وأنت أيضاً ماذا يا ملاكي؟

* (وأنا أيضاً. . . قبلة مثل هذه. . .

فانحنى على وجهها الحزين وطفق يقبله حتى طبع عليه ألف قبلة، والطبيبة العذراء تنظر وتتعجب!

وكان الفصل شتاء، وكان الموقد يتأجج بجمر شديد ونظرت سمية فرأت جمالاً يخرج من جيبه خطاباً ويحرقه، فتبسمت وهي تقول:

(ضحية جديدة لا بد؟!

ولكن جمالاً لم يرد. . . . بل مضى يساعد الطبيبة في لف الطفل!!

دريني خشبة

ص: 72

‌ذكرى.

. . .!

للقصصي الفرنسي موباسان

بقلم الأديب محمود البدوي

ما أمتع الربيع وغصن الشباب رطيب وماء الحياة يجري! وما أشجاه والشباب يولي والرأس يشتعل والحياة تدبر! لا زلت أذكر أي مخاطرة عظمى كانت الحياة في تلك الأيام الخوالي، وقد اعتدنا أن نجوب معاً خلال باريس رائجين مع الصبا بقلوب نزقة ونفوس مرحة، يملؤنا الرجاء، وتحف بنا النعماء، دون أن نعير الدنيا التفاته أو نحسب لها حساباً.

سأقص عليك إحدى هذه المغامرات التي وقعت لي منذ أمد مديد وعهد بعيد، حتى يصعب علي الإقرار بصحتها والتسليم بما فيها. كنت في الخامسة والعشرين من عمري، ولم يمض علي في باريس غير عهد قصير. كنت أخرج كل أحد مجدا في البحث عن مخاطرة أو مغامرة وأنا ممتلئ شباباً وفتوة. والآن. . . ما الذي تشابهه أيام الآحاد؟ أيام مروعة يضيق فيها المرء ذرعاً بكل فكر يثبته أو يتحدث به وبكل صحب يرافقه.

استيقظت في ذلك الصباح مبكراً وفي نفسي هذا الإحساس بالحرية الذي يعرفه أولئك الذين يعملون طيلة الأسبوع والذين ينظرون إلى يوم الأحد كيوم راحة وحرية. فتحت نافذتي ورمقت الجو البهيج وحرارة الشمس الفائضة والعصافير المغردة.

ارتديت ملابسي على عجل، وخرجت لتمضية يوم في الغابة الحبيبة خارج باريس، وكانت المدينة كلها تلمع في ذلك اليوم المشمس، ووجوه المارين تفيض بالبشر والسعادة لحياتها وسط هذا الجلال الرائع، وانتظرت على شط النهر ذلك القارب الذي سيقلني إلى (سان كلو).

وانتظاري بهذا القارب بدا لي كأنه مخاطرة في نفسه، فقد تصورته آخذاً بي إلى نهاية الدنيا، إلى أمصار عجيبة جديدة. وشد ما ابتهجت عندما لمحته قادماً كقطعة صغيرة من السحاب أخذت تكبر تدريجياً حتى لاحت أمامي، ورست على امتداد الرصيف.

ركبت القارب فألفيت نفسي وسط رهط من المتنزهين الذين ينعمون بلذائذ الأحد ومتعه، ووقفت على سطحه أرقب الأرصفة والمنازل والأشجار وهي تتوارى عن العين، حتى خلفنا باريس وراءنا، وانساب بنا القارب إلى ماء هادئ ساكن، تحفه السهول وتقوم على

ص: 73

جانبيه التلال الشاهقة، وفي أسفلها الغابات والأحراج والمراعي الخضراء الرطبة.

نزلت في (سان كلو) وتخطيت مسرعاً القرية الصغيرة ثم أشرفت على الطريق الذي سيقودني إلى الغاب، وكان معي خريطة لباريس وما يجاورها، ولذا فلن أضل الطريق إذا وليت وجهي شطر إحدى هذه الطرق الصغيرة التي لا تعد والتي تؤدي على اختلاف امتدادها إلى الأحراج. وبعد فحصها رأيت أنه علي أن أتيامن ثم أتياسر ثم أنعطف إلى اليسار ثانية إذا وجب أن أصل فرساي وقت العشاء.

سرت متمهلاً أسحق الأوراق الجافة بقدمي وأنشق الهواء العليل المعطر ناسيا كل ما يتصل بالمكتب والعمل والرئيس، وفكرت فقط في المستقبل المجهول الذي سيزاح لي ستره، والذي فيه كثير من الجمال المحتمل. وذكرتني بساطة الريف عهد الطفولة وجعلتني أشعر حقاً بأنني رجعت إلى الحياة طفلاً. فهناك نفس الزهور التي كنت أرى مثلها يانعة حول باب منزل أمي الصغير والحشرات التي في لون اللهب وهي تنساب متثاقلة على أنصال العشب الذي ينحني تحت ثقلها الضئيل.

أخذتني عيناي، وحملت بكل هذه الأشياء، ولما قمت كنت منعشاً تماماً وواصلت رحلتي. امتدت أمامي طرق جليلة من نبات السرخس وقد خطط بصف من زهر الكاميليا الأبيض الطويل. وهنا تبينت في نهاية الطريق شخصين قادمين نحوي، رجلاً وامرأة، ودار بذهني أنني سمعت من ناداني فحنقت على هذا التطفل الذي عكر علي صفو وحدتي الهادئة. وكانت المرأة تلوح بمظلتها والرجل في قميصه ذي الأكمام حاملاً معطفه على ذراعه ومشيراً لي.

استدرت وانتظرتهما وكانت المرأة تسير بخطوات سريعة قصيرة. أما الرجل فأفسح المجال لقدميه وكان يلوح عليهما الضجر والتعب.

تكلمت المرأة أولاً:

(سيدي. . . هل لك أن تتكرم بإخبارنا أين نحن؟ قال زوجي إنه يعرف كل فتر الريف المحيط ومع هذا فقد ضللنا الطريق!.)

(سيدتي أنت قادمة من فرساي وفي طريقك إلى سان كلو)

والتفتت إلى زوجها بحقارة:

ص: 74

(ماذا! إننا قادمون من نفس المكان الذي نرغب العشاء فيه!!)

وهزت كتفيها معنفة ومزدرية الرجل الذي ارتكب هذا الخطأ.

كانت حسناء في رونق شبابها وربما كان هذا هو الذي حملني على إخبارهما عن رغبتي في العشاء بفرساي. وأخذنا بأطراف الحديث. . . ووبخت زوجها الحائر وهو كأنما أخذته نوبة جنون يعوي عواء غريباً في خفوت كأنما لا تسمعه آذان غير أذني.

(تيـ يـ يـ ـت. . . . تيـ ـيـ يـ يـ يت)

واستطردت زوجه تقول:

(أنت دائماً مخطئ، فأنت الذي قلت إن (لاتورنيه) يسكن في شارع دي مارتز والواقع أنه لا يسكن هناك، وأنت الذي قلت إن (سلست) ليست لصة مع أنها كذلك، وأنت و. . .

وأخذت تلوم زوجها على كل أفكاره الخائبة وأعماله وجهوده الضائعة في مدة حياته الزوجية.

وعبثاً حاول زوجها إسكاتها بقوله:

(ولكن يا عزيزتي. . . أمام هذا السيد. . . ما الذي سيتصوره. . . ليس هذا بسار له).

وختم هذا بصياحه البربري الوحشي الذي بدا لي أنه عارض فجائي لحالة عصيبة مضطربة، وهنا تحولت الزوجة الصبية إلي وغيرت سلوكها بسرعة وقالت:

(إذا كان السيد لا يعارض فسنرافقه وعلى هذا فلا خوف علينا من التيه في الغاب).

فانحنيت. . . وجذبت بذراعي إليها وأخذت تحثني عن آلاف الأشياء، عن نفسها، عن حياتها، عن أسرتها، عن العمل، وزوجها يسير بجانبها ناظراً من مرة لأخرى بلهف يميناً وشمالاً صائحاً.

(تيـ يـ يـ يت)

فقلت له أخيراً:

(ما الذي يجعلك تصيح هكذا؟)

فأجاب بقلق:

(فقدت كلبي الصغير المسكين وما أتم الحول، أخذته معي اليوم لأول مرة ليرى الريف وكاد أن يجن من الفرح، كان يتوثب وينبح ويجري إلى الأحراج، ربما يموت جوعاً إذا ضل

ص: 75

السبيل، أواه، الصغير المسكين).

فعنفته زوجه (إنها غلطتك. . . أنت أبله. . أه. . إنك تحملني على الغضب).

غربت الشمس وأخذ الضباب المتكاثف يحجب حوافي الريف، وتأرج الغاب بعبير الزهور الذابلة. . توقف الزوج يبحث في جيوب صديريته باهتمام.

(عزيزتي إني آسف. . . . نسيت. . .).

فرمقته وهي تتميز من الغيظ.

(ما الذي تعمله الآن؟).

(يبدو لي أنني نسيت محفظتي. . . وفيها نقودي).

فامتقع لونها من الغضب.

(لقد عيل صبري. . . آه. . أيها الغبي. . حتى النساء ترمي بمثل هذا المأفون. . . اذهب وابحث عنها حالاً، وحذاراً من العودة بدونها، أما أنا فذاهبة إلى فرساي في حماية هذا السيد فلا أرغب في المبيت في الغاب).

فأجاب بوداعة:

(حسناً. . يا عزيزتي. . . وأين أراك؟).

فحدثته عن مطعم معين أنيق جداً، ووعد بموافاتنا هناك، ثم غادرنا يبحث عن كلبه. . .! ومن آونة لأخرى كنا نسمع الصياح الحاد:

(تيـ يـ يـ يـ يت) الذي أخذ يتضاءل كلما بعد.

وتكاثف الضباب فحجب أعالي الأشجار وانساب في خلال الفروع واستطعت بعد لأي أن أميز بناء جسم مرافقتي، ونحن نسمع من حين لحين صياح (لامنتابل):

(تيـ يـ يـ يـ يت).

وأسرعت الخطى سعيداً جذلاً بهذه الرياضة الجميلة في الغسق مع امرأة مجهولة تستند على ذراعي وتميل نحوي. وبحثت عن أشياء أقولها عن عبارات سامية، أو نكات مستملحة. . على أني لم أوفق لكلمة واحدة. والحق أقول ما كنت في حاجة لشيء من هذا.

ووصلنا إلى طريق رحب تقع على يمينه مدينة كبيرة في واد خصيب وسالت ماراً عن اسمها فأخبرني أنها بوجيفال فدهشت.

ص: 76

(بوجيفال!. . أمتأكد أنت؟).

(حسن!. . . تصوري بأنني ولدت هنا).

وأخذت المرأة النحيلة تضحك لإضلالنا الطريق بقلب طروب، فعزمت على ركوب عربة إلى فرساي ولكنها رفضت.

(أه. . لا. . حقاً. . . إني لا أتعطش إلى ذلك ولا أتلهف عليه، وزوجي في استطاعته أن يراني في وقت ما، وأضف إلى هذا أني سأكون أمام مخاطرة سارة لم أرها من قبل).

ودخلنا مطعماً على حافة النهر، واجترأت على طلب غرفة خاصة. . . والحق أنها. . . متعت نفسها. . استسلمت. . كنا في حالة نشوة لذيذة. . غنت وشربت الخمر، وفعلت أكثر من هذا. . . فعلت في الواقع كل ما تستطيع عمله. . .

محمود البدوي

ص: 77

‌البريد الأدبي

مصير الآداب بين مسيو هربو والشاعر بول فاليري

عقدت لجنة التعاون العقلي الملحقة بعصبة الأمم مؤتمرها السنوي في جنيف في أواخر يوليه، برياسة المفكر الإنكليزي الكبير الأستاذ جلبرت موري، ومثلت فيها معظم الأمم المنضمة إلى العصبة؛ وجرت فيها عدة بحوث ومناقشات في المسائل الفكرية والأدبية، وكان مما لفت الأنظار بنوع خاص حوار طريف دار حول مستقبل الآداب بين أديبين كبيرين من ممثلي فرنسا هما المسيو ادوار هريو رئيس الوزارة الأسبق والمسيو بول فاليري الشاعر الكبير.

يرى مسيو بول فاليري أن أولئك المفكرين الذين يتذوقون جمال الشعر وروعة الأدب يختفون في عصرنا شيئاً فشيئاً حتى غدوا قلة محسوسة؛ وربما شهدنا في المستقبل القريب انقراض القارئ المفكر المتمهل؛ ذلك أن السينما والسيارة والأخبار السريعة التي تلقيها الصحف كل ساعة قد شغلت الأفكار، وأحدثت في الأذهان اضطراباً مريعاً، وأودت بقواعد النقد والكتابة السليمة، وأخذت الأذهان تعدل شيئاً فشيئاً عن البحث والتعمق إلى التعميم والبساطة السطحية، ووصلت العدوى إلى أولئك الذين اعتادوا من قبل أن يزنوا آراءهم وأن يمحصوها، فمستقبل الأدب الرفيع اليوم في ميزان، وليس بعيداً أن يطفو الأدب الشفوي على كل أنواع الأدب السليم الهادئ.

على أن مسيو ادوار هريو لا يرى رأي زميله المسيو فاليري، فهو أكثر منه تفاؤلاً بمستقبل الأدب الرفيع، ومن رأيه أن تطور الفكر الغربي يسير في مجراه الطبيعي، وأن الأدب يشغل مركزه الهام في المجتمع الجديد الذي يتكون اليوم. ويقول مسيو هريو إن الأدب سيبقى حياً دائماً، ذلك أن وحدة الذهن والأدب الحقيقي يرتبطان برباط قوي، ولا يتسنى للأدب أن يعيش وحده على هامش الذهن. وما دام هناك أدب رفيع فسيكون هناك قراء، فليخرج الأديب والفنان كل منهما نتائج فكره، فيجد دائماً من يتذوقها.

ويرى مسيو هريو أنه إذا كانت ثمة في آداب عصرنا بعض نواحي الضعف والسقم، فإن ذلك يرجع إلى آثار الحرب الكبرى. ذلك أنها كما أضرت في الماديات، أضرت في العقليات أيضاَ، وأصابت حركة التفكير بويلاتها.

ص: 78

وقد كان هذا الحوار الطريف مثار التعليق الكثير في دوائر الأدب، ونحن أميل إلى الأخذ في ذلك الموضوع برأي الشاعر بول فاليري، ويكفي أن نلاحظ ما أحدثته السينما والراديو ووسائل التسلية الفنية والشفوية من ضعف في الحركة الأدبية، لندرك أن الأدب الرفيع يسير إلى مستقبل غامض مجهول. فما رأي أدبائنا؟

برنارد شو في الثمانين من عمره

احتفل برنارد شو، واحتفلت معه إنكلترا، ببلوغه الثمانين من عمره (في الخامس والعشرين من يوليه) وفي ذلك اليوم قامت جمعية الحفلات بتمثيل روايته الشهيرة (جان دارك) ولبث برنارد شو طوال اليوم عاري الرأس، مشمر الساعدين، يطوف بلحيته البيضاء حول المسرح ليشرف على الاستعدادات، ويدلي بنصائحه للمس وندي هلر التي تقوم بتمثيل الدور الأول. وقد رأى برنارد شو أن يفاجئ أصدقاءه بهذه المناسبة بإحدى طرائفه فذكر لهم جميعاً أنه جمع من المال ما يكفيه، وأنه يستطيع أن يشتري لنفسه كل التحف والهدايا التي يتصورها الذهن، ولذلك فهو يرجو ألا تتعدى أثمان الهدايا التي ترسل إليه ثلاثة سنتات؛ فصدع أصدقاؤه بالرجاء، وجاءت السلال إلى فناء الدار تحمل أقلاماً من الرصاص، وأمشاطاً، ودفاتر للكتابة وأسلحة وأمثالها.

وقد ألقى برنارد شو في ذلك اليوم بتصريحين: أولهما أنه بهذه المناسبة يود أن يتجول قليلاً في جبال بلاد الغال، والثاني أنه لا يرى في الواقع فرقاً بين الاحتفال بعامه الثمانين وبين الاحتفال بعامه التاسع والسبعين.

تكريم الأستاذين أحمد أمين وعبد الرحمن عزام في دار الأيتام

ببيروت

لا تترك إدارة دار الأيتام في بيروت فرصة مرور أديب كبير أو رجل خطير إلا وتخف إلى تكريمه والاستفادة من علمه ومعرفته، حتى لقد أصبحت هذه المؤسسة في طليعة المؤسسات العلمية في الحاضرة بعملها على هذه الغاية وسبقها إلى كل مكرمة علمية، يقوم على إدارتها رجل شاب مثقف، دل على همة ونضوج في عمله، تراه لا يألو جهداً في تحسين هذه الدار والتقدم بها تقدماً محسوساً يرفع عنها (دالة اليتم) وإن تكن مصنوعة

ص: 79

للأيتام.

كانت حفلة التكريم من الحفلات الرائعة التي تجلت فيها العاطفة العربية التي تربط بين الأقطار العربية على اختلاف مواضعها. بدأت الحفلة بكلمة مدير المؤسسة السيد محمد عبد القادر طبارة، شكر بها الزائرين على تلبيتهم الدعوة، وعلل الأسباب التي يكرمون بها الأستاذ أحمد أمين؛ ثم قدم المحاضر إلى منصة الإلقاء، فعالج موضوع الفقر وأسبابه ومعالجتها، فجعله آفة اجتماعية لا آفة سماوية يمكن التغلب عليها، ثم حلل الفقر وجعل له أسباباً طبيعية يتغلب العلم على كثير منها، وأسباباً غير طبيعية يجد لها المخلصون علاجاً في إخلاصهم، وهنا ذكر ما يجب على الحكومات عمله في طرد الفقر، وما يجب على الأوقاف التي تجمدت في ذهنها معاني الإحسان! وكان الأستاذ محدثاً موفقاً في محاضرته، خالباً ألباب سامعيه، داخلاً في نفوسهم، محللا موضوعه تحليل الطبيب الاجتماعي. وما أن انتهت المحاضرة حتى خف الزائرون إلى الميتم يتفقدون حجراته، فرأوا في هذه المؤسسة من الأناقة والترتيب والتقدم ما يشهد كله للقائمين على هذه المؤسسة الخيرية بالهمة السامية والعمل الكامل. وبعد لأي بدأت حفلة التكريم فما قلت جمالاً عن أختها، فتكلم حضرة مفتش المعارف السيد واصف بارودي كلمة عن أثر اللغة وربطها بين الأقطار، وعن آثار الأستاذ أحمد أمين، ثم ألقى الأستاذ جورج كفوري مدير الدروس العربية في المدرسة العلمانية كلمة بليغة في تحليل أسلوب الأستاذ أحمد أمين، وخصمه بمزايا منها: نزاهة في التحليل، وغوص على أعماق المسائل؛ وأيد قول زميله الدكتور طه حسين فيه:(إنه يعمل كالكيماوي في مختبره). ثم ألقى السيد كاظم الصلح خطاباً قيماً عن جهاد الأستاذ عبد الرحمن عزام، وعن وطنيته الدافقة التي تعلن الحرب في كل ميدان عربي، لأنها مؤمنة جد الإيمان بعروبتها، وهنا نهض الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام مبلغاً تحيات الأستاذ عبد الرحمن الذي حال بينه وبين قدومه العاجل إلى العراق، وأكد بكلامه أن البلاد العربية ساعية إلى وحدتها التامة ومتلافية فيها لأن كل شيء يسبقها على تقريب ذلك وليس فجرها ببعيد. وختم الحفلة الدكتور سليم إدريس شاكر لليتيم الذي سهل للحشد الكريم اجتماعه وتعارفه، ثم انصرف الناس تلهج ألسنتهم بالشكر والثناء الجميل على ليلة كانت من ليالي الدهر.

ص: 80

خ. هـ

حول نقد

قرأت في العدد 160 من (الرسالة) للأديب عباس خضر نقداً لقصيدة القاياتي. ولكني لم أستطع فهم رأيه في قول الشاعر:

يقولون إن الراح للفكر صيقل

وربك ما في الراح عقل ولا فكر

فالأديب قد أخذ على الأستاذ المغالطة في هذا البيت وهذا قوله فيه:

(فأن خلو الراح من العقل والفكر لا يمنع من أن تصقل الفكر، وهناك كثير من الأشياء تصقل الفكر وليس لها عقل ولا فكر).

فهو قد فهم أن علاقة الراح بالعقل والفكر علاقة الملك ورأى أن للراح عقلاً وفكراً ولكني أستطيع أن أقول إنه ليس ثم مغالطة فالشاعر لم يقصد إلى ذلك ولم يعنه وإلا لكان جديراً به أن يقول:

وربك ما للراح عقل ولا فكر

ولكان البيت حينئذ سليماً والمعنى مستقيماً مع رأي الأديب.

ولكن الشاعر لم يرد ذلك ولم يعمل له وإنما يعني نفي العقل والفكر عن شارب الراح وكيف تصقل الراح العقل والفكر وهي تذهب بهما فلا وعي ولا تفكير، وذلك نظير قوله تعالى:(يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) فالإثم ليس فيهما وإنما في تعاطيهما.

ولو كان الشاعر يعني رأي الأديب لكان البيت ضعيف المعنى ضعيف السبك لا يجدر بشاعر حدث بله الشاعر عميق الفكرة دقيق الالتفات.

وكيف ينعى الشاعر على القوم قولهم إن الراح تصقل الفكر ثم يقرر ذلك.

محمد جمال الدين محمد

مدرس

النشيد القومي - الغلطة الأولى

ص: 81

يدور بين الأدباء كلام كثير حول اختيار هذا النشيد الذي وضعه الأستاذ محمود صادق، والأمر بتلحينه واتخاذه نشيداً قومياً لمصر؛ ولا يعنينا أن نخوض الآن في شيء من ذلك.

ولكن الذي يعنينا أن أحداً من الأدباء لم ينتبه للأغلاط الموجودة في هذا النشيد، وهي أغلاط فاحشة، ولم تتنبه كذلك وزارة المعارف، ولم يتنبه علماء الدين إلى جملة في النشيد تؤدي بمن يعتقدها من المسلمين إلى الكفر الصريح! وهذا هو موضوع العجب! كأن الجميع اتفقوا على إهمال هذا النشيد وتركه يوم من تلقاء نفسه، وأصرت وزارة لمعارف من جهة أخرى على ألا يموت.

ونحن نذكر الغلطة الأولى في هذا النشيد، ونطلب من أنصاره الإجابة عنها، فإن فعلوا استفتيناهم في غيرها، وإلا اعتقدنا أنهم عن غيرها أعجز.

يقول واضع النشيد: (سأهتف باسمك ما قد حييت).

وهذا الشطر يتكرر في النشيد كله من أوله إلى أخره. والمعروف في قوانين العربية أن (قد) في مثل هذا التركيب تكون لتحقيق وقوع الفعل، فهي تمحص الفعل الذي بعدها للماضوية كما تقول قد رأيت، أي رأيت وانتهى زمن الرؤية؛ فإذا كان ذلك فما معنى تعليق فعل وقع وانقطع على فعل سيقع في المستقبل وهو (سأهتف)؟

إن معنى الكلام هو بالضبط كقولك سأهتف باسمك في المدة التي عشتها، وهذا بالضبط كما تقول سأقابلك أمس. وكل ذلك تركيب فاسد لا يمكن أن يستقيم في العربية. ونحن الآن نطلب مثالاً من العربي الفصيح تكون (قد) مستعملةً فيه بين ما المصدرية والفعل الماضي الذي سيؤول معها بمصدر، فإن وجد المثال فليتفضل من يدلنا بذكر الكتاب ورقم الصفحة.

س. ط

كلية الآداب

ص: 82