المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 164 - بتاريخ: 24 - 08 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٦٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 164

- بتاريخ: 24 - 08 - 1936

ص: -1

‌خَضَع يَخْضع.

. .

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وقال صاحب سر (م) باشا فيما حدثني به: جاء ذات يوم قنصل (الدولة الفلانية) من هذه الدول الصغيرة التي لو علم الذباب في بلادها أن في مصر امتيازات أجنبية لطمعت كل ذبابة أن يكون لها في بلادنا اسم الطيارة الحربية. . . ورأيته قد دخل عليّ شامخاً باذخاً متجبراً كأنه قبل أن يجيء إلى هذا الديوان لمقابلة الحاكم المصري - قد تكلم في (التلفون) مع إسرافيل يأمره أن يكون مستعداً للنفخ في الصور. . .

جنى صعلوك من رعايا دولته على مصري فأُخذ كما يؤخذ أمثاله وقضى ساعة أو ساعتين بين أيدي المحققين يسألونه الأسئلة الهينة اللينة التي تحيط بتعريفه من ظاهره ولا يشبهها في سخافة المعنى إلا أن يسألوه عن ثيابه من أي مصنع هي في أوربا. . . فزعم القنصل أنه كان يجب أن يكون حاضراً يشهد التحقيق لأن جناية أجنبي على مصري تقع أجنبية. . . فلها شأن ورعاية وامتياز؛ وادعى أن المحققين ضايقوا المجرم وعاسروه وتجهموه بالكلام؛ ولهذا جاء يحتج.

ورأيته جلس متوقراً كأنما يشعر في نفسه أنه أثقل من مدفع ضخم لأن في نفسه وهم القوة، وخيل إلي أنه يرى موضعه بين السقف والأرض إذ يحمل في رأسه فكرة أنه الأعلى، وكانت له هيئة صريحة في أن الأجنبي المقيم هنا ليس هو كل الأجنبي، بل لا تزال منه بقية تتممها دولته؛ وفي الجملة كان الرجل كلمة واضحة مفسرة تنطق بأن للقانون المصري قانوناً يحكمه في بلاده.

وأنا قد درست القانون الدولي وعرفت ما هي الامتيازات وما أصلها، وهي لا تعدو كرم الأرنب التي زعموا أنها كانت تملك حماراً تركبه وترتفق به فسألتها أرنب أخرى أن تردفها خلفها، فلما اندفع بهما الحمار استوطأته فقالت لصاحبته: يا أختي ما أفره حمارك! ثم سكتت مدة وأعجبها الحمار فقالت يا أختي ما أفره حمارنا. . .

وكنا نحن الشرقيين من الضعف والغفلة بحيث لم نبلغ مبلغ الأرنب في حكمتها وتدبيرها فإنها أسرعت ودفعت صاحبتها وقالت لها: انزلي ويلك قبل أن تقولي: ما أفره حماري.

قال: غير أني في تلك الساعة نسيت القانون الدولي وكنت في إلهام مصريتي وحدها،

ص: 1

فظهر لي ظهوراً بيناً أن لا شيء اسمه القانون الحق في هذه الدنيا؛ ولكن هناك اتفاقاً بين كل خضوع وكل تسلط هو قانون هاتين الحالتين بخصوصهما.

وأسرعت إلى الباشا فأنبأته، وأسرع الباشا فغير وجهه وتبسط وتهلل وتهيأ بهذا لاستقبال القادم العزيز كأنه أخص محبيه يتطلع إلى مؤانسته وقد جاء يزوره في داره. ثم دخل القنصل ولم أسمع مما دار بينهما إلا الكلمة الأولى وهي قول الباشا: لنبدأ يا سيدي من الآخر. . .

وكانت في الباشا موهبة عجيبة في اختلاب الأجانب خاصة، يديرهم بلباقة كالخاتم في إصبعه حتى قال لي أحدهم: إن لهذا الباشا حاسة زائدة لو سميت حاسة الإرضاء لكان هذا اسمها الطبيعي، وإنه يعمل بها كما يعمل المفكر بتفكيره. فهو يبتكر الأساليب الغريبة التي يصعد ويهبط بها ميزان الحرارة النفسية، وأن جليسه يكاد يشعر من مهارته في التمثيل أن في جو المكان ستاراً يرفع وستاراً يسدل بين الفصول.

فما لبث القنصل أن خرج بغير الوجه الذي دخل به، ولكنه عبس في وجهي أنا وتكرَّه لي كأنه أصغر شأني فازدرتني عينه فوثبت إلى رأسه فكرة الامتيازات. وهذه القوة الظالمة لو أنها كانت قوة قاهرة نافذة وأعين بها طفيلي ليقتحم دور الناس آمنا مطمئناً - لاستحى هذا الطفيلي أن يأكل بها إذ تجمع عليه التطفل والمقت معاً؛ ولو قيل لحسام بتار: إن لك امتيازاً على بعض السيوف ألا تقارعك، وإنك محمي أن تنالك سطوتها إذا قارعتها - لأنف أن يسمى سيفاً بهذا أو بمثل هذا فإن القوة الظالمة التي يعيرونه إياها ليست إلا مهانة لشرف القوة العادلة التي هي فيه.

قال صاحب السر: ووصفت للباشا هيئة القنصل التي انصرف بها وتقطيبه في وجهي وقلت له: إن الذبابة وقعت في صَحْفتي أنا من هذه الوليمة. . . فضحك بملء فيه ثم قال:

ستبطل هذه الامتيازات وليس بيننا وبين نهايتها إلا أن ينتهي الشعب إلى حقيقته القومية، فما تركها في مكانتها إلا نزول الشعب عن مكانته. وتالله لكأن هؤلاء الأجانب يسألوننا بهذه الامتيازات: أين مكانكم في بلادكم. . .؟

أتدري ما قاله هذا القنصل حين تجاذبنا الحديث فيها بعد أن وضعت نفسي منه في موضع المحامي الذي يخذله الدليل فيحاول أن يستنزل كرم القضاة بعرض بؤس المتهم على

ص: 2

شفقتهم ليخفف القانون الذي في أيديهم بالقانون الذي في أنفسهم؟

[إنه قال: لا يلومن الشرقيون إلا أنفسهم، فهم علموا الأجانب أن نتف ريش الطير أول أكله. وهذه الامتيازات إن هي إلا معاملة بيننا وبين طبيعة الخضوع في الشعب. نعم إنها مضرة ومعرة، وظلم وقسوة، ولكنها على ذلك طبيعة في الطبيعة؛ فما دام هذا الشعب لين المأخذ فإن هذا يوجد له من يأخذه، وما دامت الكلمة الأولى في معجم لغته السياسية هي مادة (خضع يخضع)، فهذه الكلمة تحمل في معناها الواحد ألف معنى، منها: ظلم يظلم، وركب يركب، وملك يملك، واستبد يستبد، ودجل يدجل، وخدع يخدع؛ فهل يكثر أن يكون منها للأجانب امتاز يمتاز؟

قال صاحب السر: ثم زم الباشا فمه وسكت، ففهمت الكلمات التي انطبق فمه عليها وإن لم يتكلم بها، ثم غلبه الضحك فقال: والله يا بني لو أن برغوثاً طمر من ثوب صعلوك أجنبي فوقع في ثوب صعلوك وطني فتقاتلا فقبض عليهما فأُخذا لما رضي برغوث الأجنبي أن يحاكم إلا في المحاكم المختلطة. . .

ثم سكت الباشا مرة أخرى كأنه يقول كلاماً آخر لا يجوز نشره ثم قال: يا بني إن الأجانب لا يضعون الحمل إلا على من يحمل؛ فإذا نحن توخينا مرادهم أرادوا لأنفسهم لا لنا؛ وإذا وافقنا لهم غرضاً جعلوه كالدينار فيه مائة قرش وأبوا إلا أن نصارفهم عليه بمائة. هم ويحك يمتازون في معاملتنا لا في سطور القوانين والمعاهدات فلنبطل هذه العاملة يبطل هذا الامتياز.

إن الحق يا بني استحقاق لا دعوى؛ وهذا التنازع على الحياة يجعل وسائله الطبيعية الانتزاع والمطالبة والتجرد له والدأب فيه والإصرار عليه. وكل الأقوياء يعلمون أن موضع الاعتدال بين غصب الحق وبين استرداده موضع لا مكان له في الطبيعة؛ والأجنبي يعتمد علينا نحن في جعله أكبر منا وأوفر حرمة. فإذا ألغى الشعب هذه الامتيازات من فكره وروحه وأعصابه وثارت فيه كبرياء الوطنية فاستنكف من الاستخذاء ونفر من الإختضاع وأبى إلا أن يعلن كرامته، وصرف اهتمامه إلى حقوق هذه الكرامة، وأصر ألا يعامل أجنبياً يرى لنفسه امتيازاً على وطني، وقرر ذلك في نفسه ومكنه في روعه وأجمع عليه إجماعه على الدين، إذا جاءت (إذا) هذه بشرطها من الشعب، جاء جواب الشرط من الأجانب

ص: 3

بنزولهم عن الامتيازات وانحلت المشكلة. إننا يا بني لا نملك ضغط السياسة ولكنا نملك ما هو أقوى؛ نملك ضغط الحياة.

لهم الامتياز بأنهم أجانب عنا، فليكن لنا الامتياز الآخر بأننا أجانب عنهم في المعاملة، مثلاً يمثل، وما يفل الحديد إلا الحديد.

يقولون النظام الاقتصادي والمال الأجنبي. ولكن أرأيت المال في يد الأجنبي إلا مالاً وتدبيراً وسلطة وسيادة، من أنه في يد الوطني دَينٌ وإسراف ورق وذل؟

لم يظهر لي إلا الساعة أن من حكمة تحريم الربا في شريعتنا الإسلامية وقاية الأمة كلها في ثروتها وضياعها ومستغلاتها، وحماية الشعب وملوكه من الإسراف والتخرق والكرم الكاذب ورد الاستعمار الاقتصادي وشل النفوذ الأجنبي.

أما لو أننا كتبنا من الأول على أبواب (البنك العقاري) وأبواب ذريته: (يمحق الله الرِّبا) فهل كانت تقرأ هذه الكلمات الثلاث على أبواب تلك البنوك الأجنبية إلا هكذا: (محال خالية للإيجار). . . . .؟

(سيدي بشر. إسكندرية)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 4

‌خطب فلسطين بين الصهيونية والاستعمار

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

لا يزال العرب في فلسطين ماضين على سنتهم - يقاتلون، وينافحون، ويذودون عن حقيقتهم، بل وجودهم. وقد توسط الأمير عبد الله بينهم وبين الإنجليز غير مرة فما أجدت وساطته، وسمع من زعماء العرب الذين استقدمهم إليه في عمان أنهم ينتظرون منه أن يكف عن كلامهم في ذلك إلا إذا كان يستطيع أن يبلغهم أن مطالبهم أجيبت بلا نقص، وليصنع الإنجليز ما شاءوا، وليبلغوا بقوتهم مجهودها. ولو كان الأمر يحتمل المساومة لجنح العرب إلى السلم، ولكنهم لم يبق لهم اختيار، فأما أن يموتوا الآن مدافعين وإما أن يوطنوا النفس على الجلاء عن وطنهم والخروج من ديارهم إذا ظلت أبواب (الهجرة الصهيونية) مفتوحة. ومن هنا هذه الاستماتة في الثورة الفلسطينية.

ولو كانت هذه الثورة شبت في فلسطين في أعقاب الاحتلال الإنجليزي، لكانت أهول وأروع، فقد كانت البلاد غاصة بالسلاح والذخيرة، ولكن الخطر على العرب من (الهجرة الصهيونية) لم يكن قد تجسد كما تجسد الآن، ولا كان العرب في البلدان الأخرى - فضلاً عن فلسطين - قد أفاقوا من صدمة الغدر الاستعماري بهم. أما الآن فقد صار الخطر على العرب فلسطين حقيقة يحسها كل واحد في نفسه وفيما حوله. وانتسخ الأمل في أن يفيء الإنجليز إلى العدل ويؤثروا القصد بعد أن رآهم العرب يهملون ما أوصت به وحضت عليه ثلاث لجان من لجان التحقيق جاءت من لندن إلى فلسطين وأجمعت على أن الهجرة يجب أن تقف لأن البلاد لا تحتمل استمرارها. وكان ذلك قبل سنوات عديدة، فكيف الآن؟؟

وقد تغيرت الأحوال في البلدان العربية الأخرى، فاستقر الأمر في جزيرة العرب، ووضع الصلح الكريم بين نجد واليمن الحجر الأول في بناء الوحدة العربية، وجاءت المعاهدة التي عقدت في هذا العام بين العراق والدولة العربية السعودية، فكانت خطوة أخرى واسعة في سبيل الحلف العربي؛ وهبت مصر تطلب أن يسوى الأمر بينها وبين بريطانيا فبادرت بريطانيا إلى الدخول في المحادثات التي انتهت منذ أيام إلى الاتفاق؛ وتلتها سوريا فأضربت شهرين أو أكثر، فلا بيع ولا شراء، ولا أخذ ولا عطاء، وتفاقمت الأزمة واستحال علاجها بغير النزول على حكم الواقع، فردت فرنسا نفسها على مكروهها وعدلت

ص: 5

عن غطرسة القوة التي لا تجدي أمام المقاومة السلبية الشاملة، ودعت رجال سوريا إلى المفاوضة اقتداء ببريطانيا في مصر والعراق. ولا تزال هذه المفاوضات دائرة؛ وإذا كانت تتعثر، فما من شك في أن سوريا بالغة سؤلها عاجلاً أو آجلاً، فما بقي من هذا مفر، وإلا قامت القيامة في وقت لا ينقص فرنسا فيه الأزمات والارتباكات والمشاكل العويصة.

فالدنيا تتغير حول فلسطين، والإنجليز هناك جامدون لا يغيرون شيئاً من سياستهم، ولا يبدلونها على ما تقضي به الأحوال الجديدة. وهذا هو وجه العجب منهم، فإن العهد بهم أنهم أهل كياسة ومرونة وحذق، وأنهم أساتذة بارعون في تكييف سياساتهم وفق الأحوال. ولكنا نراهم الآن يجزعون من الاتفاق المنتظر بين فرنسا وسوريا، ويشفقون على فلسطين من عدوى الاستقلال السوري حتى ليقال إنهم سعوا سعيهم عند فرنسا ليحبطوا الاتفاق أو يؤخروه على الأقل حتى يفرغوا من ثورة فلسطين.

ويبدو لنا أن عناد الإنجليز في فلسطين يرجع إلى سببين: أحدهما أنهم يريدون أن يجيء اقتراح وقف الهجرة من الصهيونيين أنفسهم، مصانعة منهم للنفوذ المالي للصهيونية في بلادهم وفي العالم كله. وهم لا ينكرون أن العرب على حق في المطالبة بوقف الهجرة والاكتفاء بما كان إلى الآن؛ ثم إنهم يعرفون أن وقف الهجرة لا يناقض ما وعدوا به من إنشاء الوطن القومي ولا ينافي عهد بلفور، لأن هذا الوعد كان بإنشاء الوطن (في) فلسطين لا بجعل فلسطين كلها وطناً قومياً للصهيونية. وقد تم ذلك وأنشئ الوطن وتحقق الوعد وبرت إنجلترا بالعهد. ثم إن العهد نفسه مقيد بالمحافظة على مصالح أهل فلسطين الأصليين. فإذا وقفت الهجرة فإنها تقف تنفيذاً للعهد، كما أبيحت تنفيذاً للعهد. ولكن الحكومة البريطانية تتلكأ حتى تتقدم اللجنة الصهيونية باقتراح الوقف بعد أن تتبين لها استحالة الاستمرار.

والسبب الثاني أن بريطانيا تروم أن تخضع العرب في فلسطين وتكرههم على إلقاء السلاح قبل أن توفق سوريا في مفاوضة فرنسا، لأن العود إلى الثورة يكون عسيراً جداً، ولا بد من انقضاء فترة طويلة تستريح فيها الأمة من مجهود الثورة وتستجم. والمعهود في الإنسان أن الحماسة تنبه أعصابه وتشدها فلا يكاد يشعر بعظم الجهد الذي يبذله والمشقة التي يعانيها، ولكنه بعد أن يفرغ من ذلك ويسكن لا تكاد حاجته إلى الراحة تنقضي. وهذا هو الذي تعول

ص: 6

عليه بريطانيا في فلسطين؛ فهي تلج في العناد وتأبى إلا العنف في القمع وتصر على التسليم والسكون قبل أن تعد بشيء أو تظهر استعادها لإجابة المطالب العربية، لعلمها أن العرب إذا سكنوا فبعيد جداً أن يثوروا كرة أخرى إلا بعد فترة راحة طويلة. وإلا فمتى عهدنا الإنجليز يقاتلون في سبيل غيرهم ويسخون بدمائهم هذا السخاء من أجل شعب آخر، ولا سيما إذا كان هذا الشعب لا يقاتل ولا يدافع عن نفسه بل يلقي عليهم وحدهم عبء الدفاع كله؟؟ فليس حرص الإنجليز على الوطن القومي وإنما هو مركزهم في فلسطين، وهم لا يعبئون شيئاً بوعد بلفور فقد نقضوا ألف وعد ووعد مثله ولم يعدموا مسوغاً، وإنما الذي يخشونه هو أن يترقى العرب في مطالبهم من وقف الهجرة إلى جلاء الإنجليز أنفسهم عن بلادهم. فما يخفى عليهم أن قضية الوحدة العربية أو الحلف العربي تتقدم، وأن الثقة بإمكان ذلك تعظم وتقوى، وأن الإيقان بتحقيق هذا الأمل يعمر الصدور، ولكنا كنا نظن أن الإنجليز أبعد نظراً مما يبدون الآن في فلسطين، فأن العرب أصدقاء طبيعيون لبريطانيا؛ وهم يؤثرون محالفتها على سواها لأنها دولة شبعت واكتظت فحسبها أن تتحفظ بما لديها وأن تستبقي خير ما في يديها. فالعرب لا يتوجسون منها كتوجسهم من دولة كإيطاليا تحدثها آمالها بنشر الدولة الرومانية التي عفى عليها الزمن. ومن مصلحة بريطانيا أن تضمن ود الأمم الواقعة على طريق إمبراطوريتها وأن تثق بمعونتها ووفائها لها عند الحاجة، وبغير ذلك لا ندري كيف ترجو السلامة وتأمن أن تتبعثر أجزاء إمبراطوريتها تبعثر حبات العقد؟؟ ولكن سلوكها في فلسطين ينفر العرب جميعاً في كل رقعة من رقاع الأرض ويسود قلوبهم ويوغر صدورهم، والعرب أمة تكبر العدل كائنة ما كانت الأغراض المحجوبة والغايات المستورة؛ وليس في وسعهم أن يعذروا بريطانيا وهم يرون عرب فلسطين يكتفون بمطالب اعترفت لجان التحقيق الإنجليزية واحدة بعد واحدة بعدلها ووجوب إجابتها. وليس أدل على أن قلوب العرب كلهم يعصرها الألم لمصاب فلسطين من إجماع ملوك العرب على التوسط عند الحكومة البريطانية طالبين الإنصاف لهذا الشعب المسكين. وقد تستطيع بريطانيا بقوتها أن تطفئ الثورة وتخمد الوقدة، ولكنها لا تكسب بذلك بل تخسر: تكسب استقرار الأمر لها على الحد الذي ترومه في فلسطين - إلى حين - وتخسر العرب جميعاً في كل رقعة من رقاع الأرض. ولو فاءت إلى العدل، لما غض ذلك منها عند

ص: 7

العرب، ولا حمل أحداً على الاستخفاف بقوتها كما تتوهم، بل لكان ذلك حقيقاً أن يرفع مقامها ويعلي منزلتها، لأن العرب كما قلنا لا يكبرون شيئاً كما يكبرون العدل، والعادل عندهم أسمى مكاناً وأرفع درجات وأحق بالتوقير من القوى، وتاريخهم الطويل كله - في أمجد عصورهم وأحطها - شاهد بذلك.

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 8

‌أوربا على المنحدر

معركة المبادئ والنظم

لباحث دبلوماسي كبير

كانت الثورة الأسبانية نذير عاصفة دولية جديدة من نوع خاص؛ فقد سرت ريحها خارج الجزيرة بسرعة، وتكشفت عن نتيجة لم يكن يتوقعها أحد؛ ذلك أنها لم تبق بعد مسألة داخلية تهم أسبانيا وحدها، ولكنها تغدو شيئاً فشيئاً مسألة أوربية عامة تشغل بشأنها الدول العظمى. ومما يلفت النظر بنوع خاص، هو أن ما تثيره الحوادث الأسبانية من الاهتمام لا يقتصر على الناحية السياسية فقط، بل يتعداها إلى ناحية أخرى أهم وأبعد أثراً، هي الناحية الاجتماعية، أو بعبارة أخرى، هي ناحية النظام الاجتماعي الذي تدور حوله رحى الحرب الأهلية في أسبانيا.

وقد تناولنا أسباب الثورة الأسبانية وتطوراتها في مقال سابق، وبينا كيف أنها تقوم على صراع بين المبادئ والنظم ما زالت تضطرم أسبانيا بشرره مذ قامت فيها الجمهورية على أنقاض الملوكية القديمة وطغيان العسكرية المطلق؛ على أن هذه الناحية الاجتماعية في معارك أسبانيا الأهلية لم تبد من قبل بمثل ما تبدو به اليوم من القوة والوضوح؛ ففي معسكر الحكومة الجمهورية تجتمع جميع الطبقات العاملة من الفلاحين والعمال وجميع القوى الديموقراطية والاشتراكية، وفي معسكر الثورة تحتشد عناصر الطغيان العسكرية التي حكمت أسبانيا من قبل عدة أعوام، ورجال الدين الذين جردتهم الجمهورية من نفوذهم وامتيازاتهم القديمة، وفلول الملوكية القديمة ومن إليهم من النبلاء ورجال المال والصناعة الذين أضرت النظم الاشتراكية بمصالحهم المادية، وهؤلاء يمدون الثورة بالمال؛ وهذه الصورة البارزة التي تقدمها إلينا الحرب الأهلية الأسبانية، يقدمها إلينا زعماء الجبهتين الخصيمتين أنفسهم؛ فزعيم الثورة الجنرال فرانكو يقول لنا إن الثورة الحالية إنما هي حركة قومية يراد بها إنقاذ أسبانيا من قبضة الاشتراكية والشيوعية، ومن الفوضى الاجتماعية التي انحدرت إليها في ظل الأنظمة المتطرفة، وإقامة حكومة قومية تحترم حقوق الفرد والملكية، وتعيد إلى أسبانيا هيبتها الدولية في ظل أنظمة قوية محترمة؛ وحكومة مدريد تقول لنا إنها تدافع عن الحريات الجمهورية إزاء الخطر الفاشستي الذي

ص: 9

يهدد البلاد بعود الحكم المطلق، وتناشد جميع طبقات الأمة، ولا سيما الطبقات العاملة، أن تذود عن حرياتها وحقوقها التي اكتسبتها بدمائها وتمتعت بها في ظل النظام الجمهوري.

وهذه الناحية الاجتماعية البارزة التي تسفر عنها الثورة الأسبانية تغدو اليوم مسألة أوربية شائكة، تكاد أوربا تنحدر إلى غمرها، بل لقد ظهرت بوادرها العملية بالفعل، وبدا خطرها واضحاً على السلم الأوربي، فقد ظهر أن الثورة العسكرية الأسبانية تتمتع منذ الساعة الأولى بتأييد الدولتين الفاشستيتين الكبيرتين: أعني إيطاليا وألمانيا، وهو تأييد يتخذ صورته المادية في إمداد الثورة بالسلاح والمال؛ وقد أمدت إيطاليا الثوار علانية بسرب من الطيارات؛ وبعثت ألمانيا بارجتين من أسطولها إلى مياه سبتة، واتصل ضباطهما بزعماء الثورة في زيارة رسمية؛ وإزاء هذا التأييد تقوم الدولتان الديموقراطيتان الكبيرتان: أعني فرنسا وإنكلترا من جانبهما بتأييد حكومة مدريد؛ وإذا كانت فرنسا تؤثر أن تتظاهر بالحيدة فلا ريب أنها مع ذلك تمد حكومة مدريد بالمال والسلاح؛ أما إنكلترا فلم تتردد في إمدادها بالطيارات، ولكن تحت ستار التجارة الحرة. وفي ميدان السياسة الدولية تعتبر المسألة الأسبانية مسألة اليوم، وقد طرحتها فرنسا على بساط البحث بتوجيه مذكرة إلى إنكلترا وإيطاليا وألمانيا، تقترح فيها أن تجتمع الدول الأربع لبحث المسألة الأسبانية، وإصدار تصريح تتعهد كل منها فيه بالتزام الحيدة وعدم التدخل في حوادث أسبانيا؛ وقد أجابت إنكلترا بتأييد هذا الاقتراح لاتفاق وجهة نظرها مع وجهة النظر الفرنسية؛ أما إيطاليا فقد أبدت عليه تحفظاتها، وأما ألمانيا فقد اشترطت أن تدعي روسيا السوفيتية للاشتراك مع باقي الدول في القيام بهذه الخطوة. ولاقتراح ألمانيا مغزاه، وهو أن روسيا السوفيتية تؤيد حكومة مدريد والجبهة الاشتراكية التي تستند إليها، أو بعبارة أخرى هو أن التدخل البلشفي عامل هام في تطور الحوادث في أسبانيا.

ويجب أن نلاحظ أن العوامل الاجتماعية التي أملت على الدول موقفها ترجع من جانبها إلى عوامل المصلحة المادية. ذلك أن إنكلترا التي تسهر في جبل طارق على أبواب البحر الأبيض المتوسط ومدخل المحيط الأطلنطي، تخشى أن تتأثر سيادتها في هذه المياه بتطور الحوادث الأسبانية تطوراً لا يرغب فيه، وذلك بقيام حكومة فاشستية في مدريد تتأثر بوحي الفاشستية الإيطالية التي غدت منذ المسألة الحبشية شوكة في جانب الإمبراطورية

ص: 10

البريطانية. هذا إلى أن لإنكلترا في أسبانيا مصالح مالية خطيرة، والأموال الإنكليزية تغذي معظم شركات التعدين الأسبانية؛ ومع أن إنكلترا تبغض شبح الفاشستية وتخشاه، فأنها أيضاً تبغض شبح البلشفية والاشتراكية المتطرفة وتخشى أن يؤدي ظفر الجبهة الشعبية الجمهورية في أسبانيا إلى قيام حكومة تخضع لنفوذ موسكو، وتعمل على مناوأة نفوذها ومصالحها في غرب البحر الأبيض المتوسط. فالسياسة الإنكليزية تعمل في هذا الظرف على إيجاد نوع من التوازن القومي في أسبانيا وقيام حكومة ديموقراطية معتدلة تجانب الغلو والتطرف؛ وأما موقف فرنسا فتمليه مصالحها في البحر الأبيض المتوسط، والخوف على سيادتها في مراكش من أن تتأثر بظفر الفاشستية المتطرفة في أسبانيا.

على أن المسألة الأسبانية في جوهرها قائمة على معركة المبادئ التي تلوح اليوم قوية في أوربا؛ فالفاشستية - في شخص إيطاليا وألمانيا - تحاول بمبادئها الطاغية المغرقة أن تهدم حصناً جديداً للديموقراطية، وأن تضم دولة أوربية جديدة إلى جبهتها بمؤازرة الثورة العسكرية الأسبانية؛ والديموقراطية - في شخص إنكلترا وفرنسا - تحاول أن تقف في وجه الفاشستية؛ وروسيا البلشفية تحاول أن تنتهز الفرص لبث دعايتها لإضرام الثورة العالمية؛ والفاشستية تمثل جبهة الدول الناقمة التي حرمت من مزايا الاستعمار الباذخ؛ والديموقراطية تمثل جبهة الدول الراضية التي تتمتع بالثراء والاستعمار الباذخ؛ ومعركة المبادئ تتحد هنا مع معركة المصالح المادية.

وهذا هو وجه الخطر في الأزمة التي تغيم اليوم في أفق السياسة الأوربية، والتي قد تغدو غير بعيد خطراً يهدد السلم الأوربي، ذلك أم معركة المبادئ والمثل تغذيها هنا مصالح مادية قوية؛ وهذا الصراع الذي تذكيه شهوات المادة والمبدأ معاً هو أخطر أنواع الصراع الدولي. فالبلشفية من ناحية، والفاشستية والنازية من الناحية الأخرى تنزل إلى ميدان الصراع مسلحة بأخطر أنواع الدعاية والقوى المادية؛ والديموقراطية من جانبها تحاول أن تقف موقفاً وسطاً بين المبادئ والمثل المضطرمة، وأن تدفع تيار التطرف من الجانبين صوناً لوحدتها وكيانها. ولنلاحظ أيضاً أن فرنسا الاشتراكية تؤثر ظفر الجبهة الشعبية الأسبانية، ولو أن هذا الظفر قد يدفع أسبانيا إلى أحضان الشيوعية، ذلك أن روسيا البلشفية تقف إلى جانب فرنسا في ميدان الصراع الدولي ضد ألمانيا، وألمانيا تعتبر نفسها حاجزاً للبلشفية

ص: 11

وترى في روسيا ألد أعدائها؛ وإيطاليا ترى في ألمانيا حليفتها في المبادئ والمثل؛ والفاشستية والنازية كالبلشفية تعتبر كلتاهما أنها نظام المستقبل وتحاول أن تدفع مبادئها إلى خارج حدودها بمختلف الوسائل.

هذه هي عناصر المعركة الدولية الخطيرة التي أثارتها الحوادث الأسبانية؛ وهي ما زالت في طور التمهيد والمقدمات؛ ومن الصعب الآن أن نتبين طورها المقبل؛ ذلك أن سيرها يتوقف كثيراً على سير الحوادث في أسبانيا؛ بيد أنا نستطيع أن نتبين بعض وجوه الخطر الذي يهدد السلم الأوربي؛ فإيطاليا التي ما زالت ثملة بفوزها في الحبشة تحاول أن تستغل الظروف، وأن توجه ضربة جديدة إلى الإمبراطورية البريطانية وإلى سيادة بريطانيا في البحر الأبيض؛ وألمانيا التي جردت من مستعمراتها تحاول أن تجد فرصة للتدخل في شؤون البحر الأبيض، وبخاصة في شؤون طنجة ومراكش، وأن تنتهز مخاوف إنكلترا وفرنسا لتثير المسألة الاستعمارية من جديد؛ وإنكلترا التي شعرت منذ المأساة الحبشية بما يهدد سيادتها في البحر الأبيض من الأخطار تتحين الفرص لتوكيد نفوذها وهيبتها؛ وفرنسا لا تطيق لحظة أن يتعرض مركزها في مراكش لأي تدخل أو خطر. ومما يجدر ذكره بهذه المناسبة أن تحرش ألمانيا بمركز فرنسا في مراكش يوم ضربت عليها الحماية الفرنسية كان من أهم العوامل في تسميم جو السياسة الأوربية قبيل الحرب الكبرى، والتمهيد لذلك الجو المضطرب الذي اجتمعت فيه أسباب الحرب.

هذا وهناك ظاهرة تتكشف عنها تلك المعركة الخطيرة بين الديموقراطية والفاشستية، هي أن الفاشستية تعمل بسرعة وعزم دون تردد أو تدبر للعواقب؛ وأما الديموقراطية فما زالت مختلفة متنازعة، وما زالت تجنح إلى التردد والتخاذل. وقد استطاعت الفاشستية غير مرة أن تنتهز فرصة هذا التخبط وأن تضرب ضرباتها في صميم الديموقراطية؛ ومن جهة أخرى فقد أفسدت الروح الاشتراكية المتطرفة عقلية الجماعات، وبثت فيها كثيراً من دواعي التخاذل والغرور، هذا بينما تجد الصفوف الفاشستية منظمة طائعة تعمل لأول إشارة تلقى إليها.

فهل تستحيل تلك المعركة الدولية في القريب العاجل إلى صراع الحياة والموت بين النظم والمثل في أوربا؟ وهل تدفع أوربا إلى طريق حرب جديدة ما زالت عواملها تجتمع في

ص: 12

الأفق منذ حين؟ هذا ما سوف نتبين في المستقبل القريب. بيد أنه مهما كانت ظروف المعركة الحالية، ومهما كانت نتائجها، فلا ريب أنها من عوامل الخطر في مصير السلم ومصير أوربا.

(* * *)

ص: 13

‌فن القصة في الأدب المصري الحديث

للأستاذ هلال أحمد شتا

طالعتنا (الرسالة) الغراء، في عددها رقم 157، بمقال طلى للكاتب الأديب الأستاذ محمد علي غريب، ألم فيه بدراسة شائقة لنتاج قصصي مصري شاب. . وقد مهد لدراسته هذه بمقدمة تناول فيها فن القصة في الأدب المصري الحديث.

ولقد كانت هذه المقدمة القصيرة - كما دعت الحال - لمحة خاطفة، وإلمامة مقتضبة، جال فيها قلم الكاتب جولة سريعة كما تجري أحداث الدنيا في عصرنا الحاضر. ولكنها ساقت إلى رأسي هذا البحث الذي أطالع القراء به اليوم: وهو بحث في القصة المصرية ترويت فيه بعض التروي، لأتمكن من الدراسة الهادئة غير العاجلة، ولألم فيه بتاريخ القصة في الأدب العربي، وبقيمة هذا الفن الجميل، وبنشأته في الأدب المصري الحديث، وبالمدارس الغربية التي تأثر بها منشئو القصة في مصر؛ ثم بما حظيت به من جهود الأدباء المصريين، وما بلغته هذه الجهود من توفيق وما قطعته في طريقها نحو السداد.

ويجدر بنا - قبل أن نوغل في الحديث - أن نستعرض ما لهذا الفن الجميل من آثار جليلة في تكوين النفوس والعقول على السواء. فالقصة الناجحة القريبة من الكمال الفني، أبلغ تأثيراً في النفس، وأقوى سلطاناً على العقل، من أي عمل فني آخر. . لأن الفنون الجميلة عامة تفعل في النفس فعلاً، ولا تقوى على أن تفعل في العقل شيئاً. . وإذا نظر الإنسان إلى لوحة فنية بالغة نهاية الكمال، أو إلى تمثال أفرغت فيه عبقرية فنان موهوب، أو إذا استمع قطعة موسيقية تضافرت فيها براعة نفر من نوابغ الواضعين والعازفين، فستطغى على نفسه موجة من الشعور بالسرور أو بإحساس يشبه السرور والنشوة، ولكن عقله لن يتأثر بذلك شيئا. . في حين أن القصة الناجحة قد تخلق من قارئها إنساناً جديداً، وقد تسوق إليه رأيا يحتل من عقله موضع العقيدة. .

ومن أجل هذا عني الغربيون في نهضاتهم القديمة والحديثة بفن القصة عناية بليغة. فاستطاع قصصيوهم أن يخلقوا بفنهم جماعات قريبة من الكمال. . وكان لهذا الفن في نهضتهم الحديثة أثر جليل ملموس.

وليس مغالياً من يقول: إن فن القصة قد أبرز إلى ميدان الزمن والتاريخ فرنسا الحديثة،

ص: 14

وروسيا الحديثة، وإيطاليا الحديثة. . وقد يكون كذلك خالق بريطانيا الجديدة، ودافعها إلى رقيها الفكري والخلقي الذي كادت تتفرد به بين الأمم. على أن الذي لا يقبل الجدل أن القصة قد تقدمت في أوربا وأمريكا في العصر القريب الذي نعيش فيه، فغمرت سوق الأدب، وتمتعت من الأدباء المتأدبين بعناية غلبت كل عناية، وإقبال فاق كل إقبال وجهود بذت كل جهود. .

وإذا كان الغرب اليوم في أوج عزه وعظمته؛ وإذا كان مع ذلك منكباً على فن القصة أي انكباب، فذلك دليل ساطع على أن هذا الفن جدير بالعناية خليق بالاهتمام. .

ولقد عرف الغرب كيف يحتفي بفنانيه عامة، وقصصييه خاصة، وكيف يكرمهم ويكبر فيهم فنهم وفضلهم العميم، فأتاح لهم أن يكونوا من قادة العقول في المقدمة، وأن يفرغوا إلى فنهم فيهبونه وقتهم وجهدهم جميعاً، بما ضمن لهم من وسائل المعيشة والرزق الكثير، وبما هيأ لهم من ظروف يخلون فيها لدراساتهم الطويلة، ويلمسون فيها جوانب الحياة في مختلف الجماعات ومتباين الطبقات. . .

ولقد ظل الأدب العربي مفتقراً إلى القصة في جميع عصوره الأولى؛ ويلوح أن الأمية والبداوة في العهد الجاهلي قد ساعدتا على إهمال الفنون الجميلة - ومن بينها القصة - وأن كل ما تمتع به العرب من ضروب الفن الجميل إذ ذاك هو ما حملته ألسنة الرواة من الشعر والنثر، وما ترنم به حداة الإبل من موسيقى بسيطة. .

على أن النهضة الإسلامية التي حمل رايتها محمد صلى الله عليه وسلم، كانت في حاجة إلى القصة أيضاً؛ لذلك كان القصص في القرآن جانباً خطيراً من جوانب الاعجاز، وعاملاً قوياً في تهذيب نفوس أولئك الجاهليين، وقوة رائعة تضافرت مع ما خص الله به محمداً فاستطاعت أن تخلق من أشتات الجاهليين في شبه الجزيرة أمة لم يشهد مثلها التاريخ القديم أو الحديث.

فالقرآن الكريم إذن أول من أدخل القصة على الآداب العربية، ودفع بها إلى مقام العناية. .

وطبيعي أن يعني القرآن بالقصة، فهو الداعي إلى الكمال العلمي والروحي والخلقي، الجامع لأنواع العلوم والفنون عامة، والدستور الخالد الذي ينظم حياة إنسانية عالية الأركان دائمة على الزمان.

ص: 15

ولقد نال فن القصة بعد ذلك جانباً من عناية الناطقين بالضاد، فكانت السير النبوية ثانية المحاولات الموفقة لخلق فن جديد في اللغة العربية، على أن هذه السير كانت فتحاً لباب واحد من أبواب فن القصة، هو القصص التاريخي، كما كان ما فيها من فن لا يزال فجاً محتاجاً لكثير من العناية والموهبة. . وهي مع ذلك جهود لا يمكن أن يغفل ما لها من فضل عميم على القصة العربية الصميمة. .

وسايرت القصة العربية النهضة الفكرية التي دفع الإسلام العالم العربي إليها فتقدمت خطوات ليست ذات أثر كبير، إذ كانت في عصر الأمويين تكاد تقتصر على الرواية والارتجال، ولم يلتفت إليها - كفن جميل له أثره وفعله - إلا بعض الرواة الذين دبجوا قصص الشعراء المحبين، وأسبغوا عليها بعض الصناعة والحبكة والطرافة. .

ثم كان بعد ذلك العصران العباسيان الأول والثاني، حين بلغ الرقي الفكري ذروته، وحين فرغ العرب - الهادئون، الناعمون، المتمدينون - ينشدون غذاء النفس والروح في الفنون الجميلة، وحين ضربوا في كل جانب من جوانب التفكير الحر والابتكار. فكان طبيعياً أن يبلغ فن القصة أوج عزه وعظمته، وكان طبيعياً أن يتخصص كبار الفنانين العرب لكتابة القصة وابتكارها، كما تفرغ إخوانهم للموسيقى والغناء، والرسم، والكتابة، والشعر، وسائر الفنون العالية. . وكفى دليلاً على رقي القصة في ذلك العصر الحافل بالروائع والبدائع (ألف ليلة وليلة) إذا قصدنا جانب الخيال والابتكار، ثم (المقامات) إذا نشدنا جانب الصياغة والإتقان.

غير أن المحنة التي لحقت بالعرب والعربية، بانحلال الدولة العباسية، كانت كافية لأن تحطم الآثار العقلية والفنية والفكرية، وأن تأتي عليها إتياناً ذريعاً. .

وإذا كان الباحث في تاريخ الأدب العربي - بعد المحنة العباسية - يعثر بين الحين والحين على بعض الآثار الفنية المتصلة بالقصة، فليس ذلك إلا ترديداً لبعض ما خلفته يد الزمن من آثار الفنانين العباسيين. .

والقصة في الأدب المصري، حديثة العهد، قريبة المولد، لأن العصور التي خلفت عصر الفاطميين، قد أفسدت اللسان العربي الذي تكلم به المصريون منذ الفتح الإسلامي، وأدخلت على سلاسته وجذالته لكنة الترك وعجمة الفرنجة. . .

ص: 16

ولسنا نستطيع أن نسمي قصص (أبي زيد) و (السيد البدوي) وأمثالها قصصاً عربياً أو عجمياً، فكلها وليدة خيال مشعوذ وقلم مرضوض. . .

إذن لم يشهد الأدب العربي المصري جهوداً تبذل في سبيل القصة الموفقة إلا بالأمس القريب، منذ عشرات السنين، وبعد أن استطاعت النهضة العلوية أن تقوم اللسان، وتصلح التفكير، وتنمي الخيال. . . حين قامت طائفة من نوابغ الشبان تخلق القصة العربية في معناها الذي نعرفه الآن، وهي طائفة كل أفرادها اليوم من الكتاب الممتازين والأدباء البارزين. . .

وإذا كانت العربية، التي تحدث بها رعاة الإبل والأنعام في شبه الجزيرة، قد وسعت مدنية العباسيين وعلمهم الغزير، فإنها قد وسعت كذلك كل ما جال في خواطر أولئك الشبان، أو هؤلاء الكرام الكاتبين. وقد استطاع ذلك النفر - بما أوتي من فن خالص وموهبة - أن يزجي إلى العربية هدية لم تألفها من قبل أبداً. فلقد كان في محاولاته الموفقة متأثراً بالمدارس الغربية إلى جانب ما خص به من سليقة عربية حلوة الجرس موفقة المرمى، سديدة المعنى.

وإنه لواجب علينا أن نطوف بهذا النفر الجليل، وأن نمضي على نتاجه سريعاً، لنسجل له فضله شاكرين. . ولكننا نرى - قبل ذلك - أن نذكر المدارس التي تخرج فيها بكلمة قصيرة: وهي المدرسة الروسية والمدرسة الإنجليزية، والمدرسة الفرنسية. .

فالمدرسة الروسية قد امتازت بمحاكاة الواقع ومسايرته، والتعلق بالطبيعة ومظاهرها وأجوائها - الملموسة وغير الملموسة - ثم بالصدق، والهدوء، والتهكم. .

والمدرسة الإنكليزية تعشقت الصدق أيضاً؛ وأحبت التحليل النفسي الدقيق، ووفقت في كشف النفس البشرية توفيقاً عظيماً، واستطاعت أن تلمس العواطف وتترجم الأحاسيس في عمق وسداد عجيبين. .

والمدرسة الفرنسية قد عشقت الخيال، وتطرفت فبالغت بعض المبالغة، غير متقيدة بالواقع أو المألوف، وبرعت في الحبكة المصنوعة براعة تثير العجب والإعجاب معاً، ومالت إلى ترجمة الأسى والحزن البليغ. .

وهؤلاء الناهضون بالقصة فريقان: كان لأحدهما الفضل في أن يحمل إلى العربية القصة

ص: 17

الغربية الموفقة في معناها الحديث الذي دفعتها إليه النهضة الأخيرة، وأن يخلق في العربية أو يكشف في بحرها الزاخر عما يترجم لغة أبناء الغرب أصدق ترجمة، ويزجيها إلى أسمع العالم العربي سائغة المعنى، عربية الرنين موفورة الحظ من بلاغة أبناء العرب وفصاحتهم. .

ولن ينسى قراء العربية فضل هذا الفريق أبداً، فلقد فتح بجهوده وتمكنه وسلامة ذوقه العربي فتحاً في العربية جديداً، وكان له - وهو المترجم - فضل لا يعلو عليه فضل الواضعين أو المتكبرين، لأنه البوتقة التي صهرت جميل فن الغربيين، فاستحال فيها فناً عربياً رائعاً.

ويتزعم هذا النفر ثلاثة من نوابغ الأدباء المصريين، وهم: الزيات، والمنفلوطي، والمازني.

فأما الزيات، فيمنعني عن الإشادة بفضله أنه مدير هذه المجلة، وأنه رجل يعرف فيه قراء العربية التواضع الكثير والنأي عن الضوضاء، وأخشى - وهو صاحب الحق في النشر - أن يحول تواضعه الغزير بين هذا البحث وبين أبصار القراء وأسماعهم. .

على أن كل هذا لا يمنعني من القول بأن جهده في سبيل القصة لن ينساه له تاريخ هذا الفن في الأدب العربي، ولن ينساه له أولئك المتأدبون الشبان الذين عرفوا من معرباته معنى القصة الناجحة ولونها، والذين مضوا بعد ذلك يقفون أثره ويتلمسون الطريق التي مهدها لهم وفتحها أمام تفكيرهم. . حين نقل إلى لغة الضاد (لامرتين) و (جوت) في أبدع ما صورت الشاعرية الفرنسية والألمانية، وأنجب الخيال اللاتيني والجرماني. . وستبقى (رفائيل)(وآلام فرتر) على الأيام مثلاً بديعاً للتعريب الكامل الذي تكاد تغلب فيه قوة المترجم، كما بقيت (كليلة ودمنة) تتحدث إلى يومنا هذا بفضل ابن المقفع.

وأما المنفلوطي، فقد كان جديراً بأن يزجي إلى القصة فضلاً أكثر من فضله، فهو الأديب بفطرته والقصصي بفطرته. . ولو شاء الله وبسط أمامه سبل دراسة هذا الفن، أو قارب بين لسانه وبين لغة من اللغات الحية، لكسبنا فيه قصصياً عظيماً ولكان نتاجه في فننا هذا نتاجاً باقياً خالداً. . على أنه برغم هذا مشكور الأثر باقي الذكر، ممتاز بما خص به من أدب رائع، وذوق فني بديع، وجذالة تفعل في لسان الناشئة فعلاً محموداً.

وأما المازني - المترجم - فبالغ قمة التوفيق، كزميله الزيات، لوفرة علمه بلغة الإنجليز،

ص: 18

ولأنه أديب عربي قويم اللسان، مفطور على الفن. . وقد نرى فيما بعد - أن المازني المؤلف أسدى إلى القصة يداً فوق يده هذه، ولكن الفضل لا يمحو الفضل على حال؛ وسيبقى المازني المترجم خالداً في قصة (ابن الطبيعة) فقد كان فيها عظيماً حقاً، إذ استطاع أن يختار للعربية أروع أمثلة الأدب الروسي، كما استطاع أن ينقل فن أبناء الروس نقل الفنان والأديب الموهوب.

والفريق الثني هو فريق المبتكرين، أو الواضعين، وهو أول من ساق جمهور القارئين والمعنيين بالأدب إلى فهم معنى القصة الذي عرفها به الغربيون؛ ونستطيع القول بأن هذا الفريق أحسن إلى القصة حيناً من الزمن فعرفت له أياديه، ثم أهملها اليوم إهمالاً تأخذه عليه وتشكوه منه. . ولو استمر ذلك النفر فوهب القصة عهد رجولته كما وهبها شبابه، لاستطاعت أن تبلغ شأناً غير شأنها، ومنزلاً فوق منزلتها. .

وهؤلاء الذين يستطيعون أن يشقوا طريقهم ليأخذوا مقام الصدر بين آلاف المؤلفين وأشباه المؤلفين، ليسوا إلا أربعة من كرام الكتاب؛ هم: المازني، وهيكل، وتيمور، وأبو حديد.

ولكل من الأربعة لون خاص يميزه من سواه.

فالمازني. أميز صفاته سلامة أسلوبه العربي وعلوه، ثم جمال تهكمه وفكاهته، وميله إلى المزاح، مع شدة احتفاظه بالأرستقراطية. وهو إلى جانب هذا فنان من الطبقة الأولى، فقد اجتمعت فيه فطرة الفنان، والدراسة الطويلة المستمرة، فأنجبتا للعالم العربي قوة عزيزة قليلة الوجود.

وهو - على رغم كونه تلميذا مخلصاً للمدرسة الإنجليزية - لا يستطيع أن يخفي على القارئين أنه تتلمذ على المدرسة الروسية أيضاً. وإذا كان دائم الانكباب على الأدب الإنجليزي مولعاً به ولعاً شديداً، فإنه بطبعه وبسليقته الفنية، كان فيما أنتج ميالاً إلى المدرسة الروسية، في هدوئها، وصدقها، وتفكهها، وطبيعتها وإن استطاع - بما كسب من دراسة - أن يترجم الأحاسيس ترجمة صادقة تميز بها منشئو القصة الإنجليزية.

والذي قرأ المازني - المؤلف - في قصته (إبراهيم الكاتب) لا يمكنه بعد ذلك أن يندب حظ القصة في الأدب العربي الصميم؛ لأنه يراها في قصة المازني خلقت قوية لأول عهدها بالحياة، ووجدت من روحه الفنانة، وقلمه الملهم، ودراسته الطويلة، متكأ كان جديراً بأن

ص: 19

يحملها إلى المقام الذي بلغته بين أبناء أوربا وأمريكا، لو قدر له أن يضع على عاتقه هذا الواجب الخطير.

وكان هيكل فيما أنتج - وأول نتاجه قصة زينب - فرنسياً مخلصاً؛ فهو يؤثر الصناعة والحبكة القصصية، ويحب أن يضرب على أوتار تحس، وأن يعالج بمجهوده موضوعاً، غير متقيد بمذهب الفن للفن، بل ذاهباً مذهب استغلال الفن للمصلحة. ولقد أسبغ على فرنسية فنه روحاً عربية جميلة، بما وفق إليه من براعة في الوصف، وقدرة على التصوير الفاتن.

ولا شك أن هيكل فنان بطبعه؛ وقد كان خليقاً بأن يكون من عداد القصصيين الممتازين لو عني بفنه عنايته بأدبه وعلمه، ولو تابع استغلال روحه الفنية التي فطر عليها.

وكان تيمور - ولا يزال - مثالاً للقصصي المصري الخالص، وقد يكون تناول بالدراسة المدارس الغربية. . . ثم ترك نفسه بعد ذلك طليقة، وأطلق قلمه حراً، فإذا هو المصري في فنه وأدبه وحياته، وإذا هو عميق في مصريته إلى المكان الذي يجب أن يكون عنده المصري العربي الشعبي.

والذي قرأ تيمور في قصته الطويلة (الأطلال) أو في قصصه القصيرة التي أخرجها قبل ذلك كتباً، يلمس فيه ميلاً إلى هذا الفن شديداً، ويؤمل منه بعد ذلك انقطاعاً للقصة وإيثاراً لها على كل شيء، حتى يسد بذلك فراغاً يجب ألا يترك شاغراً، أو يباح هباء للعابثين المسيئين إلى القصة وتاريخها شر الإساءة. .

وكان فريد أبو حديد مصرياً كذلك دائماً، حين أخرج لنا (ابنة المملوك) و (مذكرات المرحوم محمد) ثم عميقاً في مصريته أيضاً. ويبدو أن دراسته التاريخية الطويلة، قد انحرفت به إلى القصة التاريخية فعشقها عشقاً عظيماً، ولم يرض أن يحيد عنها إلى غيرها من جوانب فن القصة.

وإذا كانت دراسة التاريخ قد غمرت نتاجه وأفرغت عليه من لونها فيضاً، فليس ذلك هو الشيء الذي يتميز به أبو حديد أو يتفرد، وإنما الذي يتميز به على القصصيين المصريين جميعاً هو الخيال الخصب الذي لا يحد، والقدرة الفائقة على تصوير الحياة في غابر العصور أو حاضرها أو مستقبلها.

ص: 20

وهذا الخيال، وهذه الطبيعة، وهذه الدراسة، كانت قادرة على أن تجعل من أبي حديد عوناً للقصة المصرية شديداً، ومناصراً قوياً، وفارساً مبرزاً، لو أقبل يدخل الميدان ويوغل في ثناياه. . وهو القدير على ذلك أي قدرة. .

ولقد كان لنا أن نضع الدكتور طه حسن بك في عداد القصصيين النابغين، حين نقرأ له كتابه (الأيام) الذي بلغ به شأو من الكمال عظيماً، والذي استطاع أن يفرغ في سطوره فناً عريقاً ومقدرة فائقة تطالع القارئ فتأخذ عليه حسه. . غير أن الدكتور - فيما عدا الأيام - لا يستطيع أن يكون قصصياً. . ولو أراد الله ووهب الدكتور نعمة الإبصار، لكسب فن القصة فيه خير نصير وأحسن عون، ولكان لمصر والشرق العربي أن ينتظرا منه خيراً كثيراً، لأنه - على حالته تلك - كان يحس إحساس المبصرين، ويدرك ما يجول بخواطرهم، أو ما يغمر كياناتهم من عوامل نفسية يدفعها إليهم الوسط لذي يحيط بهم - بكل ما فيه.

(البقية في العدد القادم)

هلال أحمد شتا

بسكرتيرية مجلس الشيوخ

ص: 21

‌5 - دانتي ألليجييري

والكوميدية الإلهية

وأبو العلاء المعري ورسالة الغفران

الجزء السادس من الأنييد (?

ذكرنا في الكلمة الأولى أن دانتي في كوميدياه كان مقلداً لسلفه الشاعر الروماني العظيم فرجيل، وأنه كان يحفظ الجزء السادس من ملحمة الأنييد عن ظهر قلب، وأنه احتذى في قصيدته مثال فرجيل، والآن نعطي القارئ ملخصاً سريعاً لهذا الجزء السادس ليرى أننا لن نكن مغالين حين جزمنا أنه لم يقلد أبا العلاء ولا أسطورة المعراج التي سنعرض لها في كلمة مستقلة.

بيد أننا نرى أن إعطاء القارئ ملخصاً موجزاً للجزء السادس من الأنييد دون أن نعرض للأجزاء الخمسة السابقة سيشوه هذا الملخص ويجعله مبتوراً، وقد يذهب بجمال الأنييد التي تعتبر أطيب طرفة في الأدب اللاتيني كله، لذلك آثرنا أن نعرض للأجزاء الخمسة الأولى في كلمة خاطفة نخلص منها إلى الجزء السادس إتماماً للفائدة.

سقطت طروادة، وأضرم الإغريق النيران فيها وروِّع الأهلون ولاذوا بالبراري والقفار المحيطة بمدينتهم، وذهب البطل إينياس يبحث عن أبيه وزوجه وولده ليفر بهم من هذا البلد، ولينجو بعزه التالد ومجده المؤثل من ذل الأسار، ولكن أباه كان رجلاً شيخاً خائر القوة، فاحتمله إينياس وانطلق يعدو به في شوارع المدينة المتأججة، حتى إذا وصل إلى شاطئ الهلسبنت (الدردنيل) افتقد زوجه فلم يجدها، ووجد عنده طرواديين كثيرين يعتزمون الهرب من وجوه الهيلانيين فجعلوه رئيسهم وعملوا في بناء أسطول ضخم أبحروا فيه إلى تراقيا حيث نزلوا إلى البر وأخذوا في تأسيس طروادة جديدة بدل طروادة الأسيوية، لولا أن أوحي إليهم أن هذه أرض ملعونة، فركبوا في سفنهم وأبحروا إلى جزيرة ديلوس حيث سمعوا صوت أبوللو يأمرهم (أن يهجروا الجزيرة ويبحثوا عن أرض أمهم الأولى حيث يعيش شعب إينياس ويحكم وتدين له كل الأمم)، ولشد ما طرب الطرواديون لهذا النبأ وأبحروا إلى كريد (إقريطش) كما خمن لهم والد إينياس، ولكنهم لم يجدوا ثمة خيراً بل

ص: 22

كانت محصولاتهم تصفر وتتلف وأصيبوا بسنين عجاف. ثم رأى إينياس في منامه من يأمره بالهجرة من الجزيرة والإبحار غرباً إلى أرض إسبريا التي هي إيطاليا الحديثة حيث ولد مؤسس طروادة (داردانوس) وقد نزلوا في طريقهم في جزيرة السعالي ثم أبحروا منها إلى أرض إبيروس حيث وجدوا أندروماك زوجة هكتور بطل طروادة تحكم المملكة وقد تزوجت أحد الأسرى الطرواديين (هلينوس) فحلوا عندها أهلاً ونزلوا في ضيافتها سهلاً وزودتهم بهدايا قيمة وأبحروا إلى جزيرة صقلية حيث مروا بمملكة السيكلوب ثم اقتحموا عقبات جمة وصعاباً كثيرة حتى وصلوا إلى قرطاجنة على الساحل الأفريقي حيث وجدوا المملكة (ديدو تؤسس هذه المدينة الخالدة التي ستكون أقوى خصم ومنافس لرومة في المستقبل. وقد أكرمت ديدو مثوى المهاجرين وتزوجت من إينياس وجعلته ملكاً للمملكة غير متوج. وكاد إينياس ينسى ما سخرته له السماء لولا أن أرسل إليه جوبيتر (زيوس) ولده مير كيوري (هرمز) يأمر بالرحلة.

وبعد مجازفات هائلة وصلوا إلى شطئان إسبريا (ميناء سيكانيا) حيث مات والد إينياس وحيث سخرت جونو (حيرا) كبيرة الآلهة على أسطوله من أحرقه. وقد حزن البطل على سفائنه غاية الحزن حتى إنه ما فتئ يصلي للسماء أن تدركه فاستجابت دعاءه وأرسلت صيبا من المطر فأطفأ النيران، ورأى إينياس في المنام أباه يأمره أن يجول جولة في إسبريا ليلقي (السيبيل لتقوده إلى الدار الآخرة لأنه يريد أن يكلمه، وهنا يبدأ الجزء السادس من الأنييد.

جولة في العالم الثاني

وذهب إينياس إلى (كيوميه) حيث لقي النبية المباركة (سيبيل) خابتة متخشعة في كهفها السحيق وسط غاب الخلنج والشاهبلوط. وقبل أن يتكلم نهضت إليه وكلمته بكلام فعرف أنها تعلم ما جاء من أجله وأوصته بالصبر والتجلد، ثم ذكرت له أن لا بد، قبل الهبوط إلى العالم الثاني، من أن يذهب في تلك الغابة اللفاء المشتجرة، فيبحث في أيكها العظيم ودوحها النامي عن (الغصن الذهبي) الذي لابد من حمله هدية لبروزربين (برسفونيه) زوجة بلوتو إله الدار الآخرة.

ووصفت له النبية الطريق الذي ينبغي أن يسلك، ثم أرسلت إليه أمه فينوس حمامتين

ص: 23

تطيران أمامه تدلانه في غياهب الغابة، فما لبث يتبعهما حتى حطتا على الشجرة التي تحمل الغصن الذهبي فتسلقها واقتطعه وعاد به إلى سيبيل. ونهضت النبية، وقادته إلى كهف منشق وسط الغابة فوق حيد وحر من أحياد فيزوف (البركان المشهور) حيث أمرته أن يقدم قرابينه إلى الآلهة بلوتو وبروزربين وهيكاتيه وسائر أرباب هيذر. فلما فعل، ارتفعت صيحات عظيمة من أغوار الكهف، ثم نظر فرأى البركان يميد ويزلزل ويكاد يغوص بمن فيه في جوف الأرض، ثم يسمع عواءً ونباحاً ووعوعة فيتلفت فيرى ذؤباناً وكلاباً تهمهم في جنبات الكهف، جائية من الظلمة التي تتدجى في آخره، معلنة قدوم أرباب هيذر. وتوصيه سيبيل بالصبر! وينطلقان حتى إذا كانا لدى وصيد (عتبة) باب جهنم نظرا فرأيا أشباحاً بربرية مظلمة مربدة الوجوه يسأل عنها إينياس ما هي فتجيبه سيبيل إنها الأحزان والهموم والأوصاب والشيخوخة والخوف والجوع والعناء والفقر والموت. . . وسائر ما في الحياة الدنيا من آلام. . . وقد أقامت عندها ربات الذعر فهي تتقلب على فراش خشن من فراش الجحيم ويرى بينها (دسكورديا) ربة الخصام وفوق رأسها - مكان الشعر - حيات وأفاع تتحوى وتنفث سمومها، ويرى أيضاً طائفة مروعة من الوحوش والضواري والتنانين مثل هيدرا وبرياريوس، فينزعج إينياس ويمتشق سيفه ليحمي نفسه، ولكن سيبيل تنهاه وتطمئنه فيلملم أذياله ويقتفي أثرها حتى يكونا عند نهر كوكيتوس المتكون من دموع المعذبين. وهنا يريان (خارون) في زورقه الجبار ينقل أرواح الموتى، كثيرة كأوراق الخريف من عدوة إلى عدوة، والأرواح تتدافع تريد أن تسبق، ولكن خارون ينتخب منها الطائفة بعد الأخرى ويدع الآخرين، فيسأل إينياس فتجيبه سيبيل أن الأرواح التي أديت لها شعائر الدفن الجنائزية هي وحدها التي تعبر النهر. أما التي حرمت فتهيم فوق الشاطئ دون أن تعبر مدى مائة عام أو تزيد حتى يأتيها الفرج (!). ويجزع إينياس حين يرى في هؤلاء كثيرين من أصحابه الذين ذهبوا ضحية العاصفة فكانوا من المغرقين؛ ويشتد حزنه حين يرى فيهم روح ربّانه الشجاع بالينيوروس الذي غرق في الرحلة إلى أسبريا. ويكلمه فيرجوه الربان أن يمد إليه يده فيجتاز به اليم إلى الشاطئ الآخر، ولا يوشك إينياس أن يفعل لولا أن تنهاه سيبيل!! خشية أن يخرق شرائع بلوتو، وتطمئنه فتخبره أن الأمواج ستقذف جثمان صاحبه إلى الشاطئ وسيدفنه الناس حين يرونه. ويتقدمان إلى

ص: 24

خارون ليركبا في زورقه ولكنه يغضب حين يرى إينياس ما يزال حياً ببدنه وعليه عدة حربه وعتاده، ويسأله بأي حق جاز إلى هنا، فتتولى سيبيل الإجابة وتخبره أنه لن يأتي محرماً في الدار الآخرة، وغرضه أن يرى أباه فحسب ويكلمه ثم يعود أدراجه؛ وتريه الغصن الذهبي الذي احتمله بيمينه هدية لربة الموتى بروزربين، فيرضى، ويبتسم. ويحملها في زورقه إلى العدوة الآخرة. وما يكادان يطآن الشاطئ حتى يفجأهما الكلب الخبيث سيربيروس، ذو الرؤوس الثلاثة تقذف اللهب، وعليها الأفاعي تنفث السم، فيوشك يفتك بهما، لولا أن تقذف له سيبيل كعكة بها مخدر عجيب فيلتهمها ويستلقي على رمال الشاطئ، ويجوزان قليلاً فيسمعان أصوات أطفال صغار ماتوا قبل أن ينهلوا كوثر الحياة فأقاموا هنا، وعلى مقربة منهم أرواح الذين ماتوا ضحية تهم باطلة وقد قام بينهم القاضي مينوس يفحص قضاياهم ثم يمران بأرواح اليائسين من الحياة الذين ضاقوا بجدها ذرعاً فماتوا منتحرين. وهم الآن يتمنون لو عادوا إلى الدنيا فيعملوا من الصالحات ما يشفع لهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وينطلقان فيجوزان بدركات الأحزان التي ازينت طرقاتها بأزاهير الآس فيريان أرواح الذين ماتوا دون أن يقضوا مأرباً من حبهم الذي خلعوه على عذارى الدنيا، فباءوا هنا بألم لا ينجيهم منه حتى الموت نفسه: ويشهد إينياس بينهم روح حبيبته ديدو التي ما يزال جرحها دامياً ينفج، ويكلمها ويحزن لها، ثم يبكي بين يديها بكاء مراً (و. . . حبيبتي ديدو!! لا تتهميني بما أنت فيه من ضنى وتعذيب! فقد سخرتني الآلهة لأمر سماوي؛ وكان لزاماً علي أن أطيع؛ فقفي وكلميني، ولا تحرميني حتى كلمة وداع هينة عليك! وتقف ديدو بعيني حزينتين تفحصان جمرات جهنم، وتسير مسافة فيتبعها إينياس، ولكنه يعود بعد إذ لا يقوى على زفير السعير!!). ثم يعبران فيمران بأودية أرواح الشهداء، ويحدق به أصحابه من محاربي طروادة مشدوهين ذاهلين، يسألونه فيم أقبل، وحين يلمحه أبطال الإغريق مقنعاً في حديده مقرناً في سلاحه تطير قلوبهم ويهربون منه في أودية النار خوفاً وهلعاً! وتستحثه سيبيل فيهرول وراءها حتى يكونا عند مفرق طريقين يؤدي أحدهما إلى الفردوس (إليزيوم والآخر إلى هاوية من هاويات جهنم حيث يقر المجرمون الذين لطخوا حياتهم بالآثام، ويشهد إينياس على أحد جانبي الطريق مدينة منيفة عالية الذرى، ذات سور ضخم وبرج مشيد، تحيط بها أمواه فيليجيتون - أحد أنهار

ص: 25

جهنم - وقد وقفت ربة الانتقام المخيفة في عليائها تحرس طبقات من المعذبين الذين راحوا يملئون الرحب بصراخهم وأنينهم. أولئك قد حسبوا ألا يقدر عليهم أحد فاجترحوا من السيئات ما شوهوا به وجه الحياة. . وهاهم، قد وقفت على نواصيهم تيزيفون تحاسبهم وتظهر لهم ما أضمروا من الخبائث، وكلما خلصت من حساب أحدهم قذفته لأخواتها ربات الذعر فتدق عنقه بمقامع من حديد وتشويه بشواظ من نار ونحاس!! وانفتحت بوابة المدينة فجأة، فلمح إينياس هيدرا هائلة ذات خمسين رأساً تحرس الطريق عندها؛ وهنا تخبره سيبيل أن هذه الطريق تؤدي إلى جحيم طرطاروس وهي في آخر السفل تبعد عنهما بعد السماء من فوقهما، وفي قرارها يرسف التيتان الذين شقوا عصا الطاعة على جوبيتر كبير آلهة الأولمب. ورأى إينياس جماعات جلوساً حول موائد كثيرة وأمامهم آكال وأشربات كلما وضعوا منها شيئاً في أفواههم نزعته منها ربة من ربات العذاب مكفلة بهم. ورأى قوماً آخرين يحملون فوق هاماتهم حجارة ثقيلة تكاد تقصمهم. وعلم من سيبيل أن هؤلاء هم الذين كانوا يشاقون آباءهم ويضارون إخوتهم ويخادعون أصدقاءهم الذين وضعوا ثقتهم فيهم ويكنزون الذهب والفضة ولا يجعلون للفقراء نصيباً منهما. ورأى كذلك الذين فسخوا خطبة زواجهم بغير حق والذين حاربوا وطنهم وخانوا أماناتهم وخرقوا الشرائع. ورأى أكسيون وسسفيوس يعذبان عذاباً أليما. ورأى تنتالوس واقفاً في بركة من الماء العذب ومع ذاك يوشك الظمأ أن يرديه كلما انحنى ليشرب هرب الماء وغاض في الأرض، ومن فوقه أشجار يانعة ذوات أثمار كلما مد يده ليقطف ثمرة ذهبت فروعها في السماء فهو أبداً ظامئ جائع.

وهنا، ينتهيان من الجوس خلال الجحيم، وتذكر له سيبيل أنهما سيبدآن رحلتهما إلى الفردوس (إلزيوم)، فتخب به في طريق دامس شديد الظلمة حتى تصل إلى أحراج نورانية فتكون هي الجنة التي وعد المتقون. وينشقان ثمة نسيماً عليلاً ويريان الصالحين مسربلين بسرابيل من أنوار أرجوانية، وينظران إلى علٍ فيريان للجنة سماء لها نجومها وشمسها وأقمارها غير ما ترى في سماء هذه الدنيا. وهناك، أخذ الفائزون يمرحون ويلعبون، فبعضهم يضطجع على العشب الأخضر يسامر أصدقاءه، والبعض يلعب ألعاب الحياة الدنيا من مصارعة وجري ورماية، وآخرون يرقصون ويتغنون الأغاني. وفي هؤلاء أقام

ص: 26

أرفيوس الموسيقي يشنف آذان أهل الجنة بقيثارته. ثم رأى إينياس في أولئك الأبرار مؤسسي طروادة وأبطالها الأطهار الذين حاربوا الهيلانيين وعليهم حلل الإستبرق والغار، ومعهم أرواح كثيرة مطهرة من القديسين والشهداء والشعراء الذين نظموا قصائدهم في تمجيد أبوللو. وآخرين زانوا الحياة الدنيا بعلومهم وفنونهم وقدموا يداً بيضاء لإخوانهم في الإنسانية. وكان هؤلاء يلبسون طيلسانات بيضاً وقراطق من حرير، وقد سألتهم سيبيل إذا كان أنخيسيز (والد إينياس) بينهم، فأذنوا لها أن تبحث عنه بين جموعهم الزاخرة؛ ثم لقيته في واد نضير ذي فواكه وأثمار فعرفه ابنه، ومد الوالد ذراعيه يعانق ولده والدمع ينهمر على خديه ويروي لحيته:(وأخيراً أتيت يا إينياس! يا ولدي! كم حنت روحي إليك وكنت في خشية عليك مما أعرف من حياتك التي تلطخها دماء الحروب ويغطشها قتار المعامع!) فيجيبه ابنه (أبتاه! ليفرخ روعك فإن صورتك كانت أبداً ماثلة نصب عيني فكانت تقودني إلى الخيرات وترشدني إلى الصالحات!) ثم يحاول أن يعانق أباه، ولكن. . . إنه لم يعانق إلا شبحاً!!

ونظر إينياس فرأى وادياً مخضلاً سامق الشجر بليل النسيم يجري من تحته نهر ليث العظيم، وفي جنباته أمم شتى من أرواح الصالحين كثرت كثرة هائلة حتى لكأنها أسراب النحل في إبان الربيع. ويسأل صاحبته عن هؤلاء فتقول سيبيل:(أولئك أرواح المؤمنين تنتظر يوم البعث فتعود إلى أجسادها فتلبسها وهي تشرب النسيان من ليث ليشغلها عن توافه الحياة الدنيا!).

ويسأل أباه إينياس فيقول: (أبي ألا تكون الحياة الدنيا محببة عند أحد من هؤلاء فيؤثرها على ما هو فيه الآن من طيبات فهو يود لو يعود إليها؟) وهنا يأخذ الأب في شرح طويل عن بدء الخلق وعن العناصر التي صنع الله منها العالم (النار والهواء والأرض والماء) وأن هذه باتحادها ينشأ عنها اللهب الذي صنع الله منه الأرواح العلوية وقد انتثرت بذرة من اللهب المقدس فاختلطت بالأرض فصنع منها الآلهة السفليون الإنسان والحيوان وكلما كبر الإنسان قلت فيه بذرة اللهب المقدس وصغرت وخبثت نفسه لأن كمية الطين تزداد فيه ولذا تجد الأطفال لصغرهم ولقلة كمية الطين فيهم أكثر طهراً وأجم نقاء من الكبار. ولا بد للعبد المؤمن قبل دخول الجنة من إزالة الطين الذي اندس فيه وذلك بترويحه في الهواء، أو

ص: 27

غسله في الماء أو تحريقه بالنار ليخلص من الشوائب والدنايا وليستحق أن يكون من أهل ألزيوم. أما الصالحون فيرتدون إلى الحياة متقمصين أجساد القطط والذئاب والكلاب والسعالي والقرود فتزداد بهم الدنيا قبحاً على قبح. وقد يعود بعض الصالحين كذلك ليطهروا الدنيا من دنايا هؤلاء.

ثم يحدث أنخيسيز ابنه عما ينتظر أن يتم على يديه من تكون مملكة عظيمة في إسبريا وعن جلائل الأعمال التي ستتم فيها على يديه وأيدي ذراريه. ويحدثه كذلك عن الحروب التي سيخوضون غمارها والمعارك التي سينتصرون فيها والزوجة الجميلة التي سيفوز بها، وطروادة الجديدة التي سيشيدون دعائمها فلا يمضي طويل حتى تكون سيدة العالم.

ثم يسلم الولد على والده، وتعود به سيبيل من طريق مختصر إلى هذه الحياة الدنيا.

(للبحث بقية)

د. خ

ص: 28

‌أبو الطيب المتنبي

للأستاذ محمد محي الدين عبد المجيد

موضوعات هذا البحث

وبعد فلقد فكرت طويلاً فيما عسى أن يكون موضوع كلمتي التي أتشرف بإلقائها بين يديكم من مناحي المتنبي، وعرضت مسائل البحث على خاطري، فكنت كلما فكرت في أمر وجدت له ما يبرر التوجه إليه، ووجدت مع ذلك من الشبهات ما يذودني عنه ويقطعني عن الاسترسال فيه، ولكني استطعت في آخر الأمر أن أقنع نفسي بأنني وافد الأزهر إليكم، وبأن الأزهر هو المعهد الذي يقوم على حراسة الدين أصوله وفروعه وعلى حياطة العربية وآدابها، وبأن بحث من يمثل الأزهر يجب أن يكون متصلاً بما يؤديه الأزهر للعالم من أمانة وما يضطلع به من أعباء، فاستقام عندي بعد هذه المقدمات أن يدور بحثي حول (دين المتنبي وأخلاقه وتنبئه وموقفه من النحاة)؛ وما كدت أنتهي من ذلك الأمر وأخلص من التفكير بهذه النتيجة حتى عرض لي أمر آخر ألقيت له بالي كله، وذلك الأمر هو المقصود بهذا المهرجان: أهو تقريظ المتنبي والثناء عليه، إما بإطرائه وكيل المديح له إن حقاً وإن باطلاً، وإما بإثارة الجميل من أخباره وشعره والإعراض عما عسى أن يغض من شأنه، أم هو بحث المتنبي من جميع وجوهه لوجه الحق من غير تعنت ولا تحيز؟ ولم أزل أفكر وأقدر للأمر حتى أيقنت أن هذا الحفل الذي يجمع أقطاب الأدباء والعلماء من كل قطر لا يمكن أن يستوي عنده الأمران فإن فرق ما بينهما أوضح من أن يدل عليه. وأي إنسان يستطيع أن ينسى الفرق بين حفل يجتمع لتكريم رجل وبين حفل يجتمع فيه صفوة الأدباء لدراسة رجل من رجال الأدب كان له أشياع وأعداء، وكان أشياعه ينشرون ممادحه ويذيعون فضائله ويتأولون له، وكان أعداؤه يملئون الأرض عجيجاً حوله ويرمونه بكل نقائص الإنسانية وهم لا يتورعون عن الكذب فيما يحدثون به من أخبار. أليس من أول ما يلزم الباحثين أن يعرضوا مقالات أعدائه وشيعته جميعاً على موازين البحث الصحيحة ليخلصوا بنتيجة ترضي العقل وتسد حاجة التفكير غير مبالين أن تكون هذه النتيجة مما يتمدح به أو مما يعده الناس نقصاً؟ فإن أنا عرضت عليكم شيئاً من هذا فهذه معذرتي وهذا رأيي، ولعلي لا أكون قد أبعدت أو جانبت الصواب فيما ذهبت إليه.

ص: 29

دين المتنبي

أيها السادة! لقد مني أبو الطيب المتنبي بصنفين من الناس كان لكل واحد منهما من الأثر في حياته وفي أخباره التي نتوارثها إلى اليوم أقبح الأثر، ولولاهما لعاش الرجل عيشة هادئة، ولولاهما لكانت صحيفته في تاريخ الشعر والشعراء غير الصحيفة التي نقرؤها اليوم، ولولاهما لما وجد الباحث عنه هذا الغموض وهذا التناقض اللذين يعانيهما الآن. أما أحدهما فجماعة من ذوي المكانة بين الناس وأصحاب الجاه خافوه على أنفسهم ورهبوا أن تمتد مطامعه إلى مكانتهم وجاههم، أو طمعوا منه في أن يتملقهم ويرائيهم فيرد حضرتهم كما كان غيره يردها وكما كان هو يرد حضرة غيرهم من الملوك والأمراء فلم ينالوا ذاك منه، أو دفعت أبا الطيب نوازع نفسية فنال من أعراضهم فكانوا لأحد هذه الأسباب أولها كلها مجتمعة يحنقون عليه ويغضون من شأنه، وكانوا مع ذلك يؤلبون عليه الشعراء والعلماء لينالوا منه ويؤذوه في نفسه وفي شعره. وكان أبو الطيب يخشاهم ويرهب سلطانهم، بل لم يكن يخشاهم على نفسه فحسب، وإنما خشيهم على بعض أصدقائه ومن يشفق عليه، فقد حدث أبو إسحاق الصابئ قال:(راسلت أبا الطيب رحمه الله في أن يمدحني بقصيدتين وأعطيه خمسة آلاف درهم ووسطت بيني وبينه رجلاً من وجوه التجار، فقال: (قل له والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولا أوجب عليّ في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت، وإن أنا مدحتك تنكر لك الوزير (يعني أبا محمد المهلبي) وتغير عليك لأنني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال فأنا أجيبك إلى ما التمست وما أريد منك مالاً ولا عن شعري عوضاً)، فتنبهت على موضع الغلط، وعلمت أنه نصح فلم أعاوده اهـ). وأما الصنف الآخر فجماعة ممن كانوا يأملون أن تكون لهم المنزلة التي أدركها من الحظوة عند الملوك، وحرص كل واحد منهم أن يكون أبو الطيب من بطانته وتنافسهم في ذلك، فلما لم يبلغ هؤلاء المؤملون هذه الأمنية أكل الحقد عليه قلوبهم، واشتعلت جذوة الحسد بين جوانحهم، فتفننوا في القول عليه والدس له، ونشروا عنه من المقابح ما لم يكن يعلم من أمر أكثره شيئاً؛ ولم يكتفوا بأن يعملوا على إبعاده عن الملوك الذين كان التقرب إليهم منتهى آمالهم، بل حاولوا التفريق بينه وبين الجمهور، فجاءوه من ناحية الدين ثقة منهم أن للدين في نظر جمهرة الناس وعامتهم المنزلة الأولى، فإذا أتى

ص: 30

الرجل من جهته فقد سقط وإن بقي له كل شيء.

رموه بأنه كان رقيق الدين تاركاً لأركان الإسلام، ورموه بأنه كان يستخف بالأنبياء ويستصغر شأنهم، ورموه بأنه ذهب في الفلسفة مذهباً بعيداً عما يعتقده المسلمون؛ وقد نسوا حين رموا أبا الطيب بذلك كله أن دين الإسلام شديد الصرامة في حكم هذه المسألة، وأنه لا يحل لمن يعتنقه أن يرمي أخاه بأمثال هذه التهم لإرضاء حفيظة نفسه حتى يكون بين يديه دليل لا يقبل التأويل.

ولسنا حين نتشكك في أخبار هؤلاء الناس أو ننكر استنتاجهم ندعي لأبي الطيب أنه كان رجلاً صالحاً ورعاً يقوم الليل ويصوم النهار ويطيل العبادة وقراءة القرآن، ولكنا نفعل ذلك لنقرر أن حياة أبي الطيب قد أحاطها أعداؤه بكثير من الغموض وأحاطوها مع هذا الغموض بكثير من الأكاذيب والمفتريات كان من شأنها أن تريك حياته سلسلة من المتناقضات.

حكي على بن حمزة البصري قال: (بلوت من أبي الطيب ثلاث خلال محمودة: وتلك أنه ما كذب ولا زنى ولا لاط، وبلوت منه ثلاث خصال ذميمة: وتلك أنه ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن) وهذا خبر لم يذكر قائله معه وجهاً يقربه من الصدق. وهل يستطيع إنسان في الدنيا أن ينفي عن آخر فعل شيء حتى يزعم أنه لزمه طول حياته فلم يفارقه وأنه ما رآه يفعله قط؟ ثم إن أمر الصوم في حديث علي بن أبي حمزة أهون من أمر الصلاة وقراءة القرآن، فهو يستطيع أن يدعي مرة أخرى أنه رأى أبا الطيب كل عام في شهر رمضان في حلب ومصر والعراق وشيراز وسائر البلاد التي وطئنها قدماً أبي الطيب، وأنه رآه مع ذلك يأكل أو يشرب نهاراً، يستطيع أن يدعي هذا كله وحينئذ يتم له ما أراد من أنه بلا من أبي الطيب خلة ذميمة وهي أنه ما صام، ولكن أنى له أن يدعي ذلك. فأما أمر الصلاة وقراءة القرآن فنحن نسأله: أكان قد لزم أبا الطيب في مغداه ومراحه ومتيقظه ومنامه حتى يستطيع أن يزعم أنه ما صلى؟ وشيء آخر، ذلك أنه بلا منه خلة محمودة وهي أنه ما كذب، فهل سأله عن صلاته وقراءته القرآن فحدثه وصدقه الحديث أنه ما صلى ولا قرأ القرآن؟ والحق أن علي بن حمزة البصري رجل أراد أن يرمي أبا الطيب بما رمى به أمثاله أمثال أبي الطيب من قبل، وبما لا يزال أمثاله يرمون به أمثال أبي

ص: 31

الطيب إلى اليوم. يريد بذلك أن يرضي خصوم أبي الطيب أو يشبع شهوة الانتقام منه، وأراد أن يعمي على الناس ويحملهم على تصديقه، فذكر في صدر حديثه أنه بلا منه ثلاث خلال محمودة، وهذه العبارة فيما نعلم من أمر الناس إحدى الدلائل على اختلاق الحديث. هذا وقد ذكر أبو العلاء في شأن صلاة أبي الطيب قال:(وحدثت أن أبا الطيب أيام كان اقطاعه بصف رؤى يصلي بموضع بمعرة النعمان يقال له كنيسة الأعراب، وأنه صلى العصر ركعتين، فيجوز أن يكون رأى أنه على سفر وأن القصر له جائز) فهل يمكن أن يكون خبر علي بن حمزة بعد ذلك موثوقاً به؟ فأما تأول المتنبي وأنه رأى أن القصر له جائز فأمر آخر ليس بحثه من شأننا الآن؛ وقراءة القرآن التي زعم علي بن حمزة أن أبا الطيب لم يفعلها أفي الناس من يعقل أن رجلاً نشأ على حفظ اللغة واستظهار غريبها، والتنقل في البوادي ليلقطها من أفواه الأعراب يجد القرآن بين يديه وهو كتاب لغة وأسلوب وفكر، فوق أنه كتاب هداية وخلق وآداب، ثم لا يقرأه ليتأسى به ويتقيل أساليبه ويتخذ من اطراد منطقه وإحكام الحجة فيه منهجاً لنفسه؟ ونحن نذكر لعلي بن حمزة أن أبا الطيب قد قرأ القرآن وفهمه، ونذكر له مما يشير إلى ذلك قوله من قصيدة يمدح بها كافوراً:

كأن كل سؤال في مسامعه

قميص يوسف في أجفان يعقوب

وقوله من قصيدة يمدح فيها محمد بن زريق الطرسوسي:

لو كان ذو القرنين أعمل رأيه

لما أتى الظلمات صرن شموسا

أو كان لج البحر مثل يمينه

ما انشق حتى جاز فيه موسى

فأما ما ذكروه من استخفافه بالأنبياء واستصغاره شأنهم وعدم مبالاته بأصول العقيدة، فقد رأينا فيما جمعناه من كلام أبي الطيب مما هو متصل بهذه المسألة أن بعض ما ذكروه أهون من أن يؤبه له كقوله:

ما مقامي بأرض نخلة إلا

كمقام المسيح بين اليهود

وكقوله:

إنا في أمة تداركها الله

غريب كصالح في ثمود

وأي شيء في أن يشبه نفسه وهو يقيم بين قوم يعتقد أنهم أعداؤه بالمسيح عليه السلام حين أقام بين اليهود؟ وأي شيء في أن يدل على أن بقاءه بين قوم لا تجانس بينه وبينهم غربة

ص: 32

تشبه غربة صالح عليه السلام، إذ كان يعيش في وسط لا يرون رأيه؟ وبعض ما أخذوه عليه تجد له محملاً في الكلام لو أنت حملته عليه لم يكن به بأس، وذلك كقوله في قصيدة مدح بها الحسين ابن إسحاق التنوخي:

فما ترزق الأقدار من أنت حارم

وما تحرم الأقدار من أنت رازق

فإنه يمكن أن يكون قد أراد أن الحسين بن إسحاق رجل موفق إلى السداد وإصابة المقادير فهي تجري دائماً موافقة لما اهتدى إليه ولا شيء في ذلك فيما نظن. وأما بقية ما أخذوه عليه فداخل في باب المبالغة التي تجري على ألسنة الشعراء وهي لم تخالط قلوبهم، وأبو الطيب كثير المبالغة في شعره، ونحن نأخذها عليه من الناحية الأدبية ولا نستدل بها على فساد عقيدته؛ فمن ذلك قوله في مدح محمد بن زريق:

لو كان للنيران ضوء جبينه

عبدت فصار العالمون مجوسا

ومن ذلك قوله من قصيدة يقولها في صباه:

عمرك الله هل رأيت بدوراً

طلعت في براقع وعقود

راميات بأسهم ريشها الهد

ب تشق القلوب قبل الجلود

يترشفن من فمي رشفات

هن فيه أحلى من التوحيد

وقد اعتذر الناس عن قوله: (هن فيه أحلى من التوحيد) بوجوه: أحدها قاله ابن جني وملخصه إنكار هذه الرواية، والرواية عنده (هن فيه حلاوة التوحيد) وقد سرى إلى ابن جني داء النحاة في تحريف الشواهد وتغييرها على ما يوافقهم. والوجه الثاني: (تفسير التوحيد بأنه ثمر من ثمار العراق حلو المذاق، والوجه الثالث قاله العكبري وملخصه أنه ليس المراد تفضيل حلاوة الرشفات على حلاوة التوحيد، وإنما المراد تقريب حلاوتها من حلاوته لأن حلاوته ثابتة غير مكشوف فيها وحلاوتها غير معروفة، وذانك الوجهان من باب التمحلات البعيدة كما ترون، وليس لنا إلا أن نعترف بأن هذا غلو أفرط فيه أبو الطيب فتجاوز الحد. ومن ذلك قوله من قصيدة مدح بها أبا شجاع عضد الدولة

الناس كالعابدين آلهة

وعبده كالموحد الله

وقوله من قصيدة مدح بها بدر بن عمار:

لو كان علمك بالإله مقسما

في الناس ما بعث الإله رسولاً

ص: 33

لو كان لفظك فيهم ما أنزل ال

قرآن والتوراة والإنجيلا

وكل هذا من الغلو البعيد كما قدمنا، ونحن نعتب عليه أنه قد أسلس العنان لفكره حتى جال في هذا الميدان، فلا بدع أن يمتلئ من غباره وتصيبه إحدى قذائفه.

فأما ما اتهموه به من الذهاب في فلسفته مذهباً لا يقره الإسلام فأني أبادر بإنكار ذلك عليهم وأعرض عليكم شيئاً مما ذكروه لتتبينوا بأنفسكم أنهم لم يكونوا منصفين حين نسبوه إلى ما نسبوه إليه؛ زعموا أنه أنكر المعاد لقوله:

تمتع من سهاد أو رقاد

ولا تأمل كرى تحت الرجام

فإن لثالث الحالين معنى

سوى معنى انتباهك والمنام

وأي دليل في هذا الكلام على إنكار المعاد؟ وأي شيء في أن تقول: (إن للموت معنى غير معنى النوم واليقظة؟ ومن ذا الذي يزعم أن معنى الموت هو معنى النوم واليقظة أو أن حال الإنسان فيه كحاله فيهما) وزعموا أنه يرى رأي السوفسطائية الذين ينكرون ثبوت حقائق الأشياء لقوله:

هون علي بصر ما شق منظره

فإنما يقظات العين كالحلم

ولو كان ذلك من مذهب السوفسطائية لما جاز لأحد أن يشبه شيئاً بضده إذا اشتركا في أمر من الأمور ونحن ما نزال نسمع الناس يقولون إن نوم فلان ويقظته سواء إذا كان لا يستفاد من يقظته أو كان لا يجد الراحة في نومه كما لا يجدها في يقظته. وما نزال نسمعهم يشبهون الموجود بالمعدوم والمنير بالمظلم. وهكذا يجري على الألسنة من غير أن يلتفت أحد إلى هذا الذي زعموه ونسبوه إلى القول بقدم العالم مستنجين ذلك من قوله في قصيدة رثى فيها أخت سيف الدولة:

تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم

إلا على شجب والخلف في الشجب

فقيل تخلص نفس المرء سالمة

وقيل تشرك جسم المرء في العطب

وهذا استنتاج لا يقضي العجب منه، بل أنا أصارحكم - ولا ضير علي في ذلك - بأنني لم أعرف وجه هذا الاستنتاج، ولو استنتجوا من هذين البيتين أنه ينكر المعاد لكان لاستنتاجهم وجه. على أنه إذا صح أن يكفر رجل بهذا الكلام وجب أن نحكم على علماء المسلمين عامة بالكفر ونحكم بذلك بادئ الأمر على المشتغلين بعلم الكلام والرد على فرق الملاحدة،

ص: 34

ذلك بأنهم يحكون لنا أقوال الكفار كما حكاها أبو الطيب في هذين البيتين، بل إن علماء المسلمين أولى بهذا الحكم منه لأنهم يذكرون مع ما يحكونه من الآراء شبهة أهل هذه الآراء، وقد يصورون شبهاتهم في صورة الأدلة؛ يجب عند خصوم أبي الطيب أن يكون علماء المسلمين كفاراً وإن لم يعتقدوا ما يحكونه من آراء وإن كان عندهم من الأدلة على بطلانها ما لا يدخل في حساب أحد، وفي الحق أن أعداء أبي الطيب لم يكونوا موفقين فيما رموه به، وأن أبا الطيب نفسه لم يسعفه التوفيق في كل ما جرى على لسانه.

(له بقية)

محمد محي الدين عبد المجيد

المدرس بكلية اللغة العربي

ص: 35

‌من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع

لغة الأحكام والمرافعات

للأستاذ زكي عريبي

- 3 -

مطابقة المرافعة لمقتضى الحال

إن أهمها بلا شك هو مطابقتها لمقتضى الحال. فللإسهاب منها مواضع وللإيجاز مواضع. يجب استعمال اللفظ المجلجل مرة والسهل البسيط أخرى. يغلب المنطق هنا والعاطفة هناك حسب الظروف والأحوال.

وليس يستطيع هذا إلا المتكلم المصقع المتصل بالأدب بأوثق صلة، العالم بطبائع الناس العارف لمواقع الكلام، المتصرف في أنواعه المختلفة بما يريد ويشتهي.

كفايات صعبة بل شك، ولكنها لازمة أدرك الأقدمون ضرورة توفرها فيمن اتخذ الكلام صناعة. فكان محامو اليونان أفصح أهل زمانهم وأعلمهم. وسار الرومان في أثرهم فلم يكن لطلاب البلاغة في عهدهم غير ساحة القضاء يقصدونها للأخذ عن أئمتها وحاملي لوائها من المترافعين المبرزين أمثال أنطونيوس وهورتنسنس وشيشرون. ثم تجددت هذه الحال في عصر النهضة فكان على طالب المحاماة بعد الفراغ من دراسة الحقوق أن يتنسك أربع سنوات يقضيها متأملاً باحثاً قبل أن يقدم على المهمة المقدسة الكبرى - مهمة الدفاع.

وقد بلغ من إغراق الأسرة القضائية في ذلك العهد في التأدب أن أصبحت المرافعات والأحكام عبارة عن اقتباسات مكدسة من كتب اليونان والرومان تلوح بينها الألفاظ الفرنسية وتختفي.

بل إنك لتقرأ في أخبار ذلك الزمن أن باسكييه أشهر محامي القرن السادس عشر أورد في إحدى مذكراته بيتاً لاتينياً لم يشر إلى قائله ووقعت المذكرة في يد دىنو قاضي القضاة فلم يشأ أن يحكم في الدعوى حتى يعرف مصدر الشعر.

وبقي الاتصال وثيقاً بين الأدب والقانون خلال القرن السابع عشر والذي يليه. فأصبح من تقاليد المجمع اللغوي تخصيص أحد كراسيه لأبرع المحامين أدباً. وكان يشغل هذا الكرسي

ص: 36

في عصرنا الحاضر إلى عهد قريب النقيب الأشهر المرحوم هنري روبير.

وتجد مثل هذه الرابطة بين الأدب والقانون في إنجلترا، فكثير من أشهر أدبائها شغلوا كراسي القضاة أو لبسوا رداء المحاماة.

وقد بقيت لغة الأحكام والمرافعات في مصر سقيمة تافهة حتى دخل الميدان أمثال محمد عبده وحفني ناصف ومحمد صالح وقاسم أمين وسعد زغلول فرقوا بها إلى طبقات لم تكن تحلم بها.

وهذه الصلة ما زالت إلى اليوم معقودة يوثق عراها أعلام من أدباء العصر، فالدكتور هيكل كان محامياً، وفكري أباظة والدكتور مرسي محمود ولطفي جمعة محامون مشتغلون. وكان على رأس محكمة النقض والنيابة العامة أديبان لم تسعد اللغة القضائية حتى الساعة بخير من قلميهما.

لغة المحاكم إذن جزء من أدب كل أمة. ليس لها عنه غنى وله فيها كل الغناء.

لا غنى لها عنه لأنها من دونه ضئيلة عليلة مملة مسئمة.

وله فيها غناء لأنه يجد في ساحتها ميدانً مترامي الأطراف تلقى فيه الحقيقة بالخيال ويسعد قلم الأديب بمواضيع لا حد لكثرتها ولا تباينها. فمنها العظيم الفخم ومنها الصغير الدقيق. فيها الباكي المفجع وفيها الفكه الضاحك. الإنسانية كلها هنا، بأفراحها وأتراحها، بآلامها وأحلامها، بنبلها وضعتها، بخيرها وشرها. فالقلم الذي لا يجري في هذه الحلبة الواسعة خير له أن يكسر.

ولكن للغة المرافعات مع ذلك خصائصها ولها مميزاتها.

لغة المرافعة لغة حديث لا كتابة

إنها قبل كل شيء لغة حديث لا لغة كتابة.

وإن كان للحديث على الكتابة مزايا فإن له متاعبه وله صعابه.

فمن مزاياه أن المحدث يلقى السامع وجهاً لوجه؛ وفي استطاعته إذ يلقاه على هذه الصورة أن يستعين على إقناعه بلسانه وعينه، بصوته وإشارته، بحركته وسكونه، ببديهته ودقة ملاحظته، بل بما فيه من قوة مغناطيسية كامنة.

ولكن يقابل هذه المزايا أن المحدث مضطر بحكم طبيعة الموقف إلى الابتكار السريع

ص: 37

والكلام المرتجل ومواصلة الحديث في غير توقف ولا تردد.

فكيف يجب أن تكون لغته؟

إن أولى صفاتها من غير شك بساطة التعبير.

بل قل إن هذا الشرط شرط ضرورة؛ فقد يملك الكاتب أن يستعمل اللفظ المنمق، وأن يحتال على المعاني البعيدة، وأن يطلق العنان للخيال فيواتيه بصور شعرية رائعة. ولكن شيئاً من هذا غير مستطاع ولا ميسور لمتكلم تكتنفه صعاب الارتجال، وتستحثه الحاجة الملحة إلى إفهام سامع يرمقه بعين تتسع انتظاراً قد ينقلب في لحظة إلى تململ أو سآمة.

صحيح أن الطبيعة لن توات جميع الناس بالبديهة الحاضرة التي تستطيع الكلام عفوا، فهم مضطرون إلى تحبير مرافعتهم ثم إلقائها. ولكن حتى هؤلاء يجب أن يكتبوا بغير اللغة المعدة للقراءة، إن عليهم أن يتصنعوا لغة الارتجال؛ وليس هذا بميسور إلا أن يحتذوا حذو محام نابغة يدعى فارير، تكلم عن طريقته في كتابة الممتع فقال إنه يرى صامتاً مفكراً مدى أيام كلما اعتزم الدفاع في قضية هامة، فإذا ما كان قبل الجلسة بقليل اعتكف في مكتبه ثم جلس للكتابة فأطلق العنان لقلمه لا يلوي على شيء مما يعني به الكاتب من فصل أو وصل، وبعبارة أخرى إن الرجل كان يترافع بقلمه في القضية متمثلاً أنه أمام المحكمة، حتى إذا فرغ طوى صحفه وقام عنها وقد رسمت هذه المرافعة المكتوبة في رأسه معالم واضحة توجه فكره إذا ما وقف للدفاع، وتقيه شر جموح الخاطر دون أن تمنع تدفق بيانه المطابق لمقتضى الحال.

العاطفة في لغة المرافعات

وليس أجمل في لغة المرافعات بل ليس ألزم من غلبة العاطفة فيها.

إن كلام المحامي ليبقى مجرد كلام لا طائل تحته حتى تغشاه عاطفة صادقة فتصبح له قوة السحر. وقديماً قالوا إن القول ينفذ إلى القلب إذا صدر من القلب. ولكن كيف السبيل إلى مثل هذا القول؟ ليس أعصى في موضوعنا من التعبير عما نقصد (بالعاطفة) هي لا شيء. وهي كل شيء.

يقف محاميان يطلبان الرأفة لمتهم، فيفوه أحدهما بكلام لا يعدو السمع. ويقول الآخر قولاً يهز القلوب هزاً.

ص: 38

كلاهما يترافع بالعربية. وكلاهما يستعمل كلمة الرأفة أو الشفقة. فكيف يتفاوت أثر مرافعتهما هذا التفاوت؟

فتش وابحث وسل علماء النفس ينبئوك بأن واحداً من الاثنين حساس يستشعر ما يقول ويتأثر به فتنتقل منه عدوى التأثر إلى الغير.

والتأثر لكي يكون له هذا الأثر يجب أن يكون صادقاً. وهو لا يكون صادقاً إلا أن يصدر عن يقين واقتناع.

وإن تعجب لشيء فاعجب لهذا الاقتناع يبدو لك صادقاً - وهو صادق بالفعل - في قضايا يستحيل على العقل أن يصدق أن كلام المحامي فيها وليد الاقتناع وليس في الأمر مع ذلك معمي.

ذلك أن المحامي القادر إذا ما أخذ على عاتقه المرافعة في قضية صعبة راح يفكر في صعوبتها ورائده الرغبة في التغلب عليها وتلح عليه هذه الرغبة وتلحف بقدر ما يستعصي المخرج ويبعد الحل.

ثم ينتهي الأمر بتذليل المحامي للعقبة أو اعتقاده أنه ذللها. وفي هذه الحالة الثانية تطغى الرغبة على العقل وتستعبده، وقد يكون جباراً قوياً يندفع بقوة الإيمان الصحيح.

جمعني وأستاذي الكبير مرقس فهمي قضية مخدرات كان المتهم الأول فيها رجلاً معروفاً. ولم يكن في القضية منفذ لإبرة لا من حيث أدلتها ولا من حيث أدبياتها. فالمتهم ضبط متلبساً بالجريمة ولم يكن له عذر مقبول من أي نوع. بل بالعكس كانت الأسباب تحتشد وتتضافر لأخذه بالشدة، فقد كان الرجل مثقفاً غنياً لا يشفع له جهل ولا مسيس حاجة. فجئت الجلسة وكلي آذان لسماع مرقس فهمي. ماذا يستطيع الأستاذ العظيم أن يقول في هذه القضية اللعينة؟ أي دفاع يتحسس وأي عذر يتلمس؟ جلست أترقب وأنتظر. وأخيراً وقف مرقس للكلام. فإذا به يهاجم هذا الحصن المنيع من أكثر نواحيه منعة وأقلها توقعاً للهجوم. أجل لقد أخذ مرقس القضية عنوة من ناحيتها الأدبية، متوسلاً بما لاحظه من أن التحقيق كان سرياً فيها وأن المحامين قد منعوا عن حضوره. وانظر إليه كيف يرقى بقضيته التاعسة من أعماق الحضيض إلى سماء الرفعة، يجعلها مثار الكلام على الضمانات التي يشترطها القانون لصحة التحقيق وقدسية مهمة المحامي. أنظر إليه كيف يبدأ هذا الدفاع

ص: 39

المجيد وقل إن في مصر محامين:

(نحن المحامين نعالج آلام الناس ونرافقهم في شقائهم، ولهذا نرتدي الثوب الأسود ونقف في هذا المكان المنخفض. فإذا ما أعيانا التعب جلسنا على هذا الحجر الصلب فيزيدنا تعباً. فنحن حقيقة بؤساء، رفقاء البؤساء. ولكن برغم هذه المظاهر الخداعة فأن الذي في قلبه إيمان بالحق يرتفع من هذا المركز المتواضع إلى السمو الذي لا حد له. ذلك لأن عماده كله الحق، ولأن مأمورية المحامي تمثل حق الدفاع المقدس. والقداسة لا تحتاج لسلطة ولا تحتاج لمظهر قوة بل هي جميلة، جميلة بنفسها مهما كانت مظاهرها. مظاهر التعس والتواضع، ولأن المحامي مأموريته التي تسمو به إلى أقصى ما يعرف من معاني السمو هي أن يوجه ضمير القاضي وأن يحدثه فيما يصح أن يتجه إليه عدله. فحقيقة لا يوجد سمو آخر يمكن أن يتصور.

قلت هذا لا تفاخراً بموقف المحامي، لأن الذي يدرك واجبه ليس في حاجة - بل عيب عليه - أن يفخر، لكني قلته ليعلم حضرة القاضي أني أعاهد نفسي بألا أعرف لها كرامة إلا إذا تقدمت إلى ضميره بكلمة الحق، وفي هذا السبيل فليقفني في الكلام حضرة وكيل النيابة في الوقت الذي يريده. إلى أن قال:

(إن التحقيق ليس هو ما يكتب لا. لا. التحقيق هو أولاً وبالذات الضمانات، احترام الكفالات التي قررها القانون في حق المتهم. كيف تستجوبه؟ من هو الشخص الذي وضع فيه الشارع ثقته في أن يتلقى هذا المتهم المسكين وديعة في يده ليتصرف في شأنه، لعله يعنفه، لعله يخدعه، لعله يمنيه، لعله يخيفه أو يهدده. فحتى لا تكون قداسة القضاء مستندة إلى تلك الطرق المخجلة المعيبة قال المشرع إن المتهم في حماية النيابة وحدها، والمتهم أول ما تقر به النيابة تستجوبه في ساعات 24 ساعة. والمتهم إذا حبسته له ضمانه معينة. والمتهم يا سيدي القاضي لا يقابله أحد في سجنه حتى إذا أراد المحامي أن يقابله. المحامي ممثل حق الدفاع إن رأى أن يقابله ليأخذ سر هذا المسكين، لا يقابله إلا بإذن.

ولكن ماذا جرى في هذه الدعوى؟ جرى أن المتهمين جميعاً قذف بهم يا حضرة القاضي إلى هوة من النار).

ويذكرني تلمس مواضع الإحساس هنا بما يرويه هنري روبير عن سلفه العظيم لاشو إذ

ص: 40

قبل أن يضطلع بمهمة الدفاع عن القائد بازين أمام المجلس الحربي الأعلى في قضية اتهامه بالخيانة العظمى في حرب السبعين. وكان مركز المتهم بالغاً نهاية السوء، والبلاد من أقصاها إلى أقصاها مرجلاً يغلي بالحقد على من سلم إلى العدو مائة ألف مقاتل بمعداتهم وأسلحتهم. فمضى لاشو يترافع ثلاثة أيام، وهو كمن يضرب في حديد بارد حتى أسعفه الحظ وقد أخذ اليأس منه كل مأخذ بسقطة لسان من النائب العام إذ وصفه في رده على مرافعته (بالمدافع عن المزورين وقطاع الطريق). وهنا وثب لاشو وثبة الأسد قد وخز بسكين. وعاودته قوته الهائلة بفعل الكرامة المجروحة، وانطلق بيانه الساحر من عقاله فأتى بما لم يسبقه إليه متكلم. واستطاع بعد دفاع مرتجل ملتهب أن ينقذ رأس موكله.

(يتبع)

زكي عريبي

المحامي أمام محكمة النقض والإبرام

ص: 41

‌في النقد

بقلم داود حمدان

في الأسابيع الأخيرة كتب في (الرسالة) أساتذة كبار بحوثاً جليلة في النقد، توخوا منها شحذ همم النقاد، وحملهم على النقد المفيد الذي طالما كان عاملاً هاماً في نموّ الأدب وتمحيص العلم. وكان في كلام بعضهم كلام يوهم التعريض بأشخاص انبروا للدفاع عن أنفسهم، فكان لنا معشر القراء من ذلك فائدة ولذة.

وما كنت، وأنا من القراء، لأزج بنفسي بين الكتاب، لولا أن شيئاً مما كتبه الأستاذ إسماعيل مظهر في العدد 161 من (الرسالة) لم أفهمه، فجئت أستأذن (الرسالة) بنشر ما يقوم بنفسي حول هذا الموضوع، لعل الأستاذ يتفضل بتصحيح فهمي، فأكون له من الشاكرين.

يتساءل الأستاذ: (هل وضعنا للنقد قواعد يقوم عليها هيكله وتشيد من فوقها أركانه؟ ألنا في النقد مذاهب مقررة ينتحيها الناقدون؟ وهل لنا في النقد قواعد تحدد للنقد حدوده، وترسم تخومه، وتعين اصطلاحاته، شأن كل الأشياء العلمية والأدبية التي لها أثر في تطور العقليات والمعقولات؟).

ثم ينفي الأستاذ أن لنا في النقد مذاهب (وإنما اتبعنا إلى الآن في النقد طريقة ميزانها الذوق والشعور).

وفهمي الكليل لا يرى محلاً لهذا التساؤل، ولا يتصور كيف يكون للنقد قواعد ومذاهب، لأن النقد - كما أفهم أنا - شيء إضافي ليس له حقيقة مستقلة، ولذا يقال: نقد الدراهم، ونقد العلم، ونقد الأدب، وغير ذلك. وهو كل ذلك معناه التمييز والتمحيص ومعرفة الزائف من الصحيح.

ولما كان لكل علم وفن حدود وقواعد فهي هي حدود وقواعد للنقد، وليس للنقد بعدها حدود ولا قواعد.

وإنما للنقد شروط لابد من توفرها في الناقد قبل الإقدام على النقد: فأولها أن يكون الناقد عالماً بالشيء المنقود علم إحاطة لئلا ينقد شيئاً لا يكون داخلاً في حدود علمه. ولعل هذا ما حمل الأستاذ أحمد أمين على أن يعيب على النقاد أن ينتقدوا ما ليس من اختصاصهم، وذلك لأن عدم الاختصاص لا يتيح للناقد الإحاطة بالشيء المنقود. فناقد الدراهم مثلاً يجب أن

ص: 42

يكون عالماً بماهية الدراهم ليستطيع نقدها، وناقد علم من العلوم يجب أن يكون عالماً بقضايا ذلك العلم واصطلاحاته، وناقد الأدب يجب أن يكون عالماً بأصول الأدب ومقاييسه ليستطيع تميز الصحيح من الفاسد، فمعرفة الصحيح من الفاسد في شيء ما، هي عبارة عن معرفة ذلك الشيء نفسه، ومن هذا يتبين أنه ليس للنقد حقيقة قائمة بذاتها ليوضع لها حدود وقواعد.

وثاني الشروط أن يكون الناقد حسن النية في النقد غير ميال مع الهوى بحيث ينظر إلى العمل من حيث هو عمل لا إلى العامل، فإن ذلك أدعى إلى العدل وأحفظ للسان من الوقوع في الإفراط في المدح أو الذم. وليس معنى هذا أنه لا يجوز مدح المحسن في عمل ما بما يستحق، فإن هذا كفران للجميل وقتل للمواهب التي ينميها التشجيع ويحييها الإطراء، وأما المسيء فيكفي بيان إساءته ووقف الناس على خطئه ما دام المقصود من النقد نفي الباطل وإقرار الحق.

وشرط آخر لناقد الأدب ونحوه من الفنون التي يكون للذوق فيها نصيب. وهو: أن يكون ذوق الناقد وذوق المنقود من بيئة واحدة أو متقاربة، وأن يكون المؤثر فيهما واحداً أو متقارباً ليكونا متقاربين لا متساويين فإن هذا مستحيل، فلا ينقد مشرقي مغربياً مثلاً في شيء تختلف فيه أذواق المشارقة عن أذواق المغاربة.

وشرط التقارب هذا يعتبر ضابطاً لا بأس به في الأدب ويكون الحكم بعد بين الناقد والمنقود الرأي الأدبي العام في تلك البيئة.

وإنما لزم هذا الشرط في الأدب لأن الأدب من ضمن عناصره الذوق والشعور فلا جرم يكون الذوق والشعور من عناصر النقد الأدبي، بيد أنهما لا يكونان كل ما في النقد الأدبي من شيء. وما دام الذوق والشعور غير محددين فمن المستحيل وضع قواعد وضوابط لهما، ولذا يكفي لقبول النقد القائم على الذوق تقارب ذوقي الناقد والمنقود.

وبعد، فقد ظهر - بحسب ما أفهم - أن قواعد النقد هي قواعد العلم والفن والأدب المنقود، وأنه لا يمكن وضع قواعد خاصة للنقد من حيث هو فن خاص، وإنما له شروط - والشروط غير القواعد - وهي لا تكاد تخفى معرفتها على أحد من كثرة ما نوه بها الكاتبون في هذا الموضوع.

ص: 43

أقول قولي هذا وأنا خجل من نفسي ومن الناس أن أناقش أستاذاً كبيراً في رأيه حول موضوع ليس لي من الخبرة به عشر معشار ما له، ولكنني أضع رأيي بين يديه ليدلني على مكان الخطأ منه، وليتفضل ببيان أوسع عن رأيه إذا بقي مصراً عليه ولحضرته مني الشكر الجزيل.

(اللد - فلسطين)

داود حمدان

ص: 44

‌هيكل عظمي!.

. .

للأستاذ علي الطنطاوي

(كنت أمس عند قريب لي يمارس صناعة الطب؛ فخرج لبعض حاجته، حتى أطال الغياب، وتسرب إلي الملل، فقمت إلى خزانة كانت حيالي، فقلت: لعل فيها كتاباً أقرأه فما راعني حين فتحتها إلا هيكل عظمي معلق بسقف الخزانة. . . وإلى جانبه هيكل ثان. . .)

. . . من أنت أيها الإنسان الذي انتهى به الأمر إلى أن يحبس في خزانة، ويلبث الدهر معلقاً بسلكة، ويعد متاعاً من المتاع؟ أأنت رجل أم امرأة؟ أغنيّ أم فقير؟ أملك أنت أم صعلوك؟. . . . .

هل كان في هاتين الحفرتين البشعتين عيون ساحرات الطرف، يفتن ذا اللب حتى لا حراك به، ويفعلن بالألباب ما تفعل الخمر؟ وهل كان على هذا الثغر المخيف شفاه لعس، تأخذ دنيا البخيل بضمة على شفتيه، ويبذل حياته الجبان في قبلة منها؟ وهل كان على هذا القفص العظمي صدر بلوري، يضيع بين ثدييه عقل العالم، ويذهب فيه لبّ الحليم، وينسى امرؤ أسند إليه رأسه الدنيا. وما فيها؟ هل كانت هذه العظام المستطيلة المرعبة سواعد بضة، وأفخاذا رجراجة طالما أثارت من هوى وأذكت من خيال وطالما أنطقت بالشعر الشعراء؟ أكنت أيها الإنسان امرأة فاتنة جميلة؟

وهذا الإنسان الآخر؟ هل كان عشيقك أيتها الفتاة؟ اعترفي فلا بأس عليك اليوم؟ هل كان يهيم بك حبا، ويحيا الليالي يحوم حول منزلك، أو يرقب شرفتك فإذا رأى شارة منك أو أبصر على الشرفة ظلك أو لمح طرف ثوبك الأبيض أو الأصفر أو. . . أو (الأرجواني) انصرف وهو أسعد الناس حالاً، وراح يحبر فيك (المقالات)، وطفق يرى صورتك التي نسجها من خيوط حبه، لا صورتك التي هي لك: طفق يراها في السماء التي يرنو إليها ويعد نجومها. وفي صفحة الكتاب الذي يفتحه وينظر فيه، وبين أغصان الأشجار التي تمتد إلى شرفته. وحيثما تلفت أو نظر (تلوح له ليلى بكل سبيل)؟

أم كان هذا الإنسان شاباً غضّ الشباب طري العود، ينظر بعيون الغيد، ويتثنى كأنه قضيب بان، ويتكلم بصوت ليّن المكاسر، كأن ألفظه ورناته غادة أخرى تميل وتتدلل، ولم يكن يحبك أو يفكر فيك، أو يفتش هو الآخر على من يحبه ويفكر فيه. . .

ص: 45

أم كنت أيها لإنسان ملكاً يضيء على مفرقه التاج المحلى بالدر، ويلمع تحته السرير المصنوع من الذهب، إذا أمر تقاتلوا على السبق إلى طاعته، وإذ اشتهى شيئاً أسرعوا إلى تحقيق شهوته، وإذا مرض لم يكن للناس حديث إلا حديث مرضه، وإذا أبلّ لم يكن سرور إلا ببشري إبلاله، وإذا قام أو قعد أو قدم أو ذهب لهجت الألسن بقيامه وقعوده، واشتغلت الصحف بذهابه وقدومه، وإذا مشى في الطريق لم يمش على رجليه كما كان يمشي أبونا آدم عليه السلام، وكما تمشي ذريته، ولكنه يمشي على رءوس الناس الذين يحسون لفرط الإجلال أو لفرط السخط بأنه يمشي على رءوسهم جميعاً؟

أم كنت أيها الإنسان صعلوكاً حقيراً عاش على هامش الحياة، ودفن في حاشية المقبرة، فلم يحس أحد بحياته، ولم يدر أحد بمماته، ولعل حياته أشرف حياة لأنها حافلة بالفضائل، مترعة بالشرف، فكان يكدح طول نهاره. ليحصل خبزه وخبز عياله، فيأكله مأدوماً بعرق جبينه، لا يؤذي أحداً، ولا يسرق مال الدولة، ولا يتخذ وظيفته جسراً إلى تحقيق شهواته، وتحصيل لذاته، ولعل موته أشرف موت، لأنه مات مجاهداً وسط المعمل، وسقط وفي عينيه المعول.

انظر يا صديقي! التفت إلى يمينك. إن الملك لذي طالما خفته وأكبرته وأعظمت زينته وبزته وشارته وحليته، فملت عن طريقه ولم تجرؤ أن يرفع نظرك إلى طلعته الكريمة. . إنه معك في هذه الخزانة قد نزع عنه ثوب الملك والبهاء. وعاد مثلك: لا الملك دام له ولا دام الغنى!

هل كنت أيها الإنسان رجلاً عفيفاً مستقيماً، أم كنت لصاً خبيثاً؟ اعترف: إنه لن يضرك اليوم اعتراف، هل كنت لص أعراض تلبس ثوب التاجر، أو ترتدي حلة الموظف أو تتيه بردة الغنى. كم من الأعراض سطوت عليه باسم الوظيفة أو بصلة الصداقة، أو ولجت إليه من باب (السفور المتهتك)؟

أم كنت لصاً رسمياً لا سبيل للقانون عليه، لأنه يسرق من الناس ويسكتون. لأنهم يريدون أن تمشي أعمالهم. ويسرق من الحزينة بأسناد مصدقة!

أم كنت لص أدب، تسرق فكرة الفيلسوف وصورة الشاعر وموضوع الكاتب، فتلبسها ثوباً من أثوابك الخسيسة الممزقة، ثم تخرج بها على الناس على أنها بنت خيالك ووليدة عقلك!

ص: 46

أم كنت مظلوماً ولم تكن لصاً ولم تحترف السرقة، ولكن رأيت صبية مشرفين على الموت من الجوع، وأسرة كادت تودى من أجل رغيف، ورأيت حقك في بيت مال الأمة، قد سرقه السادة الأكابر فغطيت وجهك حياء، وأخذت رغيفاً ليس لك، فثار بك المجتمع وقامت عليك الصحف، وتعلق بك القانون حتى استاقك إلى السجن، فمت فيه مفجوعاً بشرفك وأولادك!

اقترب أيها المجرم. أدن أيها الشهيد، تعال انتقم، هذا هو القاضي الذي حكم عليك، لأنك سرقت رغيفاً تعيش به أسرة، ثم خرج يخترق الصفوف، صفوف الشعب الذي اجتمع ليشهد انتصار الحق وظفر العدالة، فلما رآه حياه وهتف له حتى بح صوته، وصفق حتى احمرت كفاه، فلما ابتعدوا لم يعد يراه أحد مد يده التي حمل بها (مطرقة العدل) فأخذ ثمن وجدانه الذي باعه، أخذ الرشوة. . . تعال انتقم. إن القاضي والمجرم قد التقيا وزالت من بينهما الفروق!

أم أنت أيها الإنسان جندي صاحوا به: الوطن في خطر! الحضارة مهددة بالزوال! لقد أوشك أن يموت الحق وتذهب الفضيلة! فاشتعلت الحمية في رأسك، والتهب الدم في عروقك، وقدحت عيناك بالشرر، فتركت أمك المسكينة ليس لها بعدك إلا الله، وأسلمتها إلى الحزن الطويل، والثكل القاتل، وأولادك الذين تعلقوا بك يصيحون: بابا. . بابا. . أسلمتهم إلى اليتم والفقر والبؤس، وذهبت تلبي نداء الحق والفضيلة، وتخلص الحضارة، وتنقذ الوطن. . . فنمت على الجثث، وتجلببت باللهب، وتوسدت القنابل، حتى إذا أدركك أجلك سقطت صريعاً، وأقبل رفاقك يدوسون على جثتك، لا يجدون وقتاً لإزاحتها ودفنها، لأنهم يخافون إذا أبطئوا ألا يدركهم الموت في سبيل الإنسانية. . . فلما ماتوا جميعاً ربحت الإنسانية وساماً زين صدر القائد، وصفحة في تاريخ العدوان، وثبت كرسي طاغية من الطغاة. أو استقرت مكانة حزب من الأحزاب، أما الأطفال الأيتام والعجائز الثاكلات، فحسبهم عوضاً من آبائهم، وحسبهن بدلاً من أبنائهن التمتع برؤية موكب القائد الظافر.

أم أنت أيها الإنسان القائد نفسه، قد جرّد صدره من الأوسمة والشارات، وجسمه من الحلة المزدانة بالقصب، ووجهه من الأنف والعينين، وعاد قفصاً من العظام، لا يمتاز من أصغر جندي وأحقر صعلوك، فلم يعد لك تانك العينان اللتان تبرقان، فترتجف لبريقهما أقسى القلوب، وذانك الشاربان القائمان كساريتي مركب، وذلك الصوت القوي، الذي كان يصيح

ص: 47

بالجنود: إلى الأمام! أي إلى الموت. . . إلى الثكل. . . إلى اليتم. . . إلى الحرب. (جحيم الحياة الدنيا)!

وأنت أيها الآخر. أأنت ذلك الجندي، مالك تقف جامداً؟ هذا قائدك، ألا تضم شفتيك، وتثبت بصرك، وتزوي ما بين عينيك، وتأخذ هيئة الجد لتؤدي التحية العسكرية، ويحك! أما أنت جندي؟ امرأة أنت، أأنت عشيقة القائد العظيم، رآك منصرفة من المعركة التي طوّح فيها بالمئات من شباب أمته في سبيل العدوان على بقعة ليست له أو إعطائها إلى غير أصحابها، ومنحها للبعض الطارئين من الشعوب الذليلة المسكينة، فماتوا كلهم ولم يقدروا على شيء، لأن للحق قوة كقوة النار والحديد، أأنت التي اخترقت سهام لحظها هذا القلب الذي طالما هزئ بالقنابل والمدمرات، فجاء يصب جبروته على قدميك، وأصبح هذا الذي يصرف عشرات الألوف من الكماة المستلئمين تصرفينه أنت وتجرينه من زمامه، حتى صار يفكر فيك وهو في ساحة الحرب، يزلزل الأرض تحت أقدام أهلها، ويتأمل صورتك والعدو على أبواب معسكره لا يخاف عليه أن تحيله الأعداء، ما يخاف عليك أن تمص لماك غير شفتيه، أو يضم جسمك غير ذراعيه. . .

اقترب يا سعادة القائد، اقترب منها، فضمها واشرب لماها. إنها هي التي تحب!

أم أنتما رجلان؟ أعدوان أنتما أم صديقان؟ أكان بينكما مسافة على الأرض ومسافة في الزمان، أم أنتما رفيقان متلازمان؟ هل التقيتما في معمل، أو عملتما في منجم، أو اشتغلتما في ديوان، أو اصطحبتما إلى الحرب، أو تجاورتما في السوق؟

أم كنتما مضطجعين في قصريكما المتقابلين، قد مللتما من التسلية، وشبعتما من الحب، فأنتما تدفعان العمر دفعاً، لا تتنازلان أن تنظرا من النافذة إلى هؤلاء البؤساء الذين يشتغلون دائماً وأبداً، كأنهم آلات تدور، تحت الشمس في الصيف، وتحت المطر في الشتاء، وفي الحر وفي الزمهرير، وفي الصحة وفي المرض، ليأخذوا بعد ذلك الواحد وتأخذوا أنتم التسعة والتسعين، مكافأة لكم على غصبكم حريتهم وعسفكم إياهم، وزرايتك عليهم، فتنفقوها على الموائد الخضر، وفي كؤوس الخمر، وعلى الشقر والسمر. . . ثم إذا خرجتم تمسحوا بأذيالكم، وقبلوا السياط التي تلهبون ظهورهم!

من أنتما أيها الإنسانان! وما شأنكما؟ أأنتما هنا لتقولا: إن الملك والغنى، والمجد والجاه،

ص: 48

والفتنة والجمال، كل أولئك أثواب تلبس وتخلع؟

فأي معنى - إذن - لقصائد ساداتنا الشعراء العاطفين؟

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 49

‌الحجاب في الإسلام

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

من علماء الأزهر

- 2 -

أما غير أمهات المؤمنين من نساء المسلمين فلم يفرض عليهن هذا الحجاب الذي فرض عليهن، لأن فرضه كان للغرض السابق الخاص بهن، وقد ترك الإسلام أمر هذا الحجاب للرجل وزوجه، يجريان فيه على ما تقتضيه المصلحة التي تختلف باختلاف النساء، وشأنه في هذا شأن غيره من الأمور التي تركها الإسلام لحكم العرف والعادة وغيرهما.

ولهذا كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جرى مع نسائه على ترك تقييدهن بشيء من أمر هذا الحجاب كالزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعبد الله بن جعفر وغيرهم. وكان منهم من جرى على تقييد نسائه به مثل ما قيدت به أمهات المؤمنين، وقد ورد من هذا أن سلمة بن قيس أرسل رجلاً إلى عمر يخبره بواقعة من الوقائع، فلما قدم له عمر الطعام نادى امرأته أم كلثوم بنت علي: ألا تأكلين معنا؟ فقالت له: لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا ابن جعفر والزبير وطلحة نساءهم.

ولعل الزبير كان يفعل هذا مع زوجه أسماء بنت أبي بكر، فقد تزوج بعدها عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت امرأة عجزاء بادنة، ولها جمال وكمال وتمام في عقلها ومنظرها وجزالة رأيها، وهي التي يقول فيها عبد الله بن أبي بكر:

أعاتكُ لا أنساك ما ذَرَّ شارقٌ

وما ناح قُمْريُّ الحمام المطوَّقُ

أعاتِكُ قلبي كلَّ يوم وليلةٍ

لديك بما تخفي النفوسُ معلَّقُ

لها خُلُقٌ جزْلُ ورأيٌ ومنطقٌ

وخَلْقٌ مَصُونٌ في حياء ومصدق

فلم أَرَ مثلي طلَّق اليومَ مثلها

ولا مثلها في غير شيء تطلَّقُ

وكانت عاتكة تحت عبد الله فشغل بها، وغلبته على رأيه، فمر عليه أبو بكر أبوه وهو في علية يناغيها في يوم جمعة، وأبو بكر متوجه إلى الجمعة، ثم رجع وهو يناغيها، فقال يا عبد الله أجمعت؟ قال أوصلى الناس؟ قال نعم، فقال له أبو بكر: قد شغلتك عاتكة عن

ص: 50

المعاش والتجارة، وقد ألهتك عن فرائض الصلاة - طلقها - فطلقها تطليقة ثم ندم على طلاقها وقال هذه الأبيات فيها، فأذن أبوه في مراجعتها؛ وقد مكثت تحته حتى مات فتزوجت بعده عمر، ثم تزوجت بعد عمر الزبير. فلما ملكها الزبير قال لها: يا عاتكة لا تخرجي إلى المسجد، فقالت له: يا ابن العوام - أتريد أن أدع لغيرتك مصلى صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فيه؟ قال فإني لا أمنعك، فلما سمع النداء لصلاة الصبح توضأ وخرج، فقام لها في سقيفة بني ساعدة. فلما مرت به ضرب بيده على عجزتها، فقالت مالك قطع الله يدك ورجعت. فلما رجع من المسجد قال يا عاتكة مالي لم أرك في مصلاك؟ قالت يرحمك الله أبا عبد الله، فسد الناس بعدك. الصلاة اليوم في القيطون أفضل منها في البيت، وفي البيت أفضل منها في الحجرة.

وهكذا كان بعض الرجال يحاولون أن يفرضوا على نسائهم هذا الحجاب بحكم الغيرة لا بحكم الدين؛ وكانت عائشة رضي الله عنها هي التي حالت بين النساء والمساجد، وكن يصلين فيها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تقوم صفوفهن خلف صفوف الرجال. فلما فتحت الأمصار وأقبلت الدنيا على المسلمين ظهرت المرأة في زينتها، وأخذت تحضر إلى المسجد بحالة تدعو إلى الفتنة، فرأت عائشة في حضورهن المساجد هذا الرأي، وقالت في ذلك: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل.

ولقد كان في نفسي شيء من هذا المنع إلى أن شفاها منه عالم الأندلس، وإمام أهل الظاهر، أبو محمد علي بن حزم. قال رحمه الله وأرضاه: أما ما حدثت عائشة فلا حجة فيه لوجوه:

أولها أنه عليه السلام لم يدرك ما أحدثن فلم يمنعهن، فإذا لم يمنعهن فمنعهن بدعة وخطأ، وما نعلم احتجاجاً أسخف من احتجاج من يحتج بقول قائل لو كان كذا لكان كذا.

ووجه ثان وهو أن الله تعالى قد علم ما يحدث النساء، ومن أنكر هذا فقد كفر، فلم يوح قط إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بمنعهن من أجل ما استحدثنه، ولا أوحى تعالى قط إليه - أخبر الناس إذا أحدث النساء فامنعوهن من المساجد.

ووجه ثالث وهو أننا ما ندري ما أحدث النساء مما لم يحدثن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شيء أعظم في إحداثهن من الزنا، فقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى

ص: 51

الله عليه وسلم، ورجم فيه وجلد، فما منع النساء من أجل ذلك قط.

ووجه رابع، وهو أن الأحداث إنما هو لبعض النساء بلا شك دون بعض، ومن المحال منع الخير عمن لم يحدث من أجل من أحدث، وقد قال تعالى:(ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى).

ومن يدقق النظر في ذلك يجد أن هذه المحاولات في الحجر على النساء كانت ترجع إلى أسباب اجتماعية لا دينية، وأن الرجال كانوا يلجئون إلى هذا الحجر إذا أسرف النساء في استعمال ما أطلق الشارع لهن في هذا الأمر، وقد بدأ الرجال كما ذكرنا يلجئون إلى ذلك بعد قليل من عهد النبوة، حتى كان ذلك يخرج بهم إلى حد الإثم. قال صاحب الأغاني: قال إسحاق قال المدائني وأخبرني أبو مسكين عن فليح بن سليمان قال: كان الدلال ملازماً لأم سعيد الأسلمية، وبنت ليحي بن الحكم بن أبي العاصي، وكانتا من أمجن النساء، كانتا تخرجان فتركبان الفرسين فتستبقان عليهما حتى تبدو خلاخيلهما، فقال معاوية لمروان: اكفني بنت أخيك، فقال: أفعل، فاستزارها وأمر ببئر فحفرت في طريقها وغطيت بحصير، فلما مشت عليه سقطت في البئر فكانت قبرها.

وقد كانت النساء الحرائر من العربيات وغيرهن يقاومن ما يحاوله الرجال من الحجر عليهن، ولا يفرطن فيما أباحه الشارع لهن، كما سبق من عاتكة بنت زيد مع زوجها الزبير؛ وقد حاول عمر قبله ذلك معها أيضاً. روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل كانت تحت عمر بن الخطاب وكانت تشهد الصلاة في المسجد، وكان عمر يقول لها: والله إنك لتعلمين أني ما أحب هذا، فقالت: والله لا أنتهي حتى تنهاني، قال عمر: فأني لا أنهاك، فلقد طعن عمر يوم طعن وإنها لفي المسجد.

فلما أخذ الرجال يفضلون الإماء على لحرائر ضعفن عن هذه المقاومة، وآل الأمر بالرجال إلى أن جعلوا بيوتهم سجناً للنساء، وحرموا عليهن الخروج إلى المساجد وغيرها، ومنعوهن من الاختلاط بالرجال ولو في حضورهم. ثم طال الأمر على ذلك بين المسلمين حتى ظن أنه من دينهم وما هو منه في شيء، وإنما كان مثل هذا مفروضاً على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يبلغ في الشدة إلى مثل هذا الحد، ثم انتهى ذلك بموت ميمونة رضي الله عنها، وكانت فيما قيل آخرهن موتاً.

ص: 52

(للكلام بقية)

عبد المتعال الصعيدي

ص: 53

‌للتاريخ السياسي

المعنى السياسي لانتخابات مجلس النواب الفرنسي عام 1936

للدكتور يوسف هيكل

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

وأدت انتخابات الدورة الثانية التي جرت يوم الأحد الموافق 3 مايو إلى فوز (الجبهة الشعبية) فوزاً باهراً لم تكن تنتظره بهذه الصورة، ولم يعتقد خصومها أنهم سيخذلون هذا الخذلان.

وكان الحزب الاشتراكي الفائز الكبير في هذه الانتخابات؛ أما الحزب الراديكالي فتبادل مركزه مع الحزب الاشتراكي فبلغ عدده 116 نائباً بعد أن كان 159 نائباً في المجلس السابق.

وهذه قائمة تبين عدد الأحزاب في مجلس النواب الفرنسي الجديد، ومقدار ما ربحه أو خسره كل منها من المقاعد:

أسماء الأحزاب

عدد النواب يوم 3 مايو 1936

مقدار الربح

مقدار الخسارة

الشيوعيون والشيوعيون الخارجون

82

62

-

الاشتراكيون

146

45

-

ص: 54

الاتحاد الاشتراكي

26

-

9

الاشتراكيون المستقلون

11

-

26

الراديكاليون الاشتراكيون

116

-

43

الراديكاليون المستقلون

31

-

36

جمهوريو اليسار

84

12

-

الشعبيون الديمقراطيون

23

7

-

الاتحاد الجمهوري الديموقراطي

ص: 55

88

12

-

المحافظون

11

-

24

المجموع

618

فما هي الأسباب التي أدت إلى تقهقر الحزب الراديكالي؟ وما هي العوامل التي ساعدت على فوز الاشتراكيين حتى إنهم أصبحوا أكبر حزب في مجلس النواب الفرنسي لأول مرة في التاريخ؟

قبل كل شيء يجب القول بأن الحزب الراديكالي الاشتراكي لن يبيد في فرنسا، لأن هذا الحزب يمثل (البورجوازي)، أي الطبقة المتوسطة، وهي أعظم طبقة اجتماعية في فرنسا، وبرغم هذا فأن النجم السياسي للحزب الراديكالي أخذ يأفل لعوامل بعضها ناجم عنه والبعض لآخر طرأ عليه من الخارج.

على رغم الظروف الحرجة التي واجهها الحزب الأكبر في مجلس نواب عام 1932، فإنه لم يظهر وحدة في صفوفه، ولا في سياسته، ولا مقدرة على الحكم.

لم يكن النظام سائداً داخل هذا الحزب، وكثيراً ما انقسم أعضاؤه إلى فرق أثناء التصويت في مجلس النواب، مم أدى إلى خذلان الحكومة لقائمة حينئذ وكانت راديكالية! وكثيراً ما خالف قسم كبير من الأعضاء قرار هيئتهم التنفيذية. وكثيراً ما عمل بعض الراديكاليين خلاف ما قال به رئيسهم. فهو إذن لم يكن كتلة واحدة، بل كان منقسما بعضه على بعض حتى في أحرج الأوقات. . . وإن أزمات الوزارات الراديكالية التي تعاقبت عام 1933، وفضيحة ستافسكي التي أظهرت بأن كثيراً من الراديكاليين قد أفسدتهم أموال (المحتال)، وأن اضطرابات 6 فبراير، وسيلان الدماء في شوارع باريس زمن حكم وزارة راديكالية. .

ص: 56

كل هذا أزال الاحترام الذي كان للحزب الراديكالي الاشتراكي في أعين الشعب.

وتلا ذلك انسحاب مسيو هريو رئيس الحزب الراديكالي حينئذ والوزراء الراديكاليين من حكومة (الرئيس دومرج) ذات الشهرة الشعبية، حينما كادت مجهودات (الشيخ الجليل) تثمر وتعود على فرنسا بالخير، مما أدى إلى سقوط هذه الوزارة الشعبية وعودة مسيو دومرج إلى (تورنفي). فأبغض موقف الراديكاليين كثيراً من أنصارهم؛ كما أن موافقة الراديكاليين على سياسة مسيو لافال الخارجية المنافية لمبادئ أحزاب الشمال كانت سبباً كبيراً في إضاعة شهرة هذا الحزب.

وكانت العوامل الإيجابية التي أدت إلى تفوق الحزب الاشتراكي سبباً سلبياً في خذلان الحزب الراديكالي.

يمكن القول بأن الحزب الاشتراكي الفرنسي هو الحزب السياسي الوحيد الذي يستحق هذا اللقب، إذ هو يحتوي على جميع التشكيلات الأساسية لحزب سياسي. . . موحد الصفوف والنظام سائد فيه، ولا يمكن لعضو ما أن يقوم بعمل يخالف ما اتفق عليه الحزب دون أن ينال جزاءه. ولا تستطيع الهيئة التنفيذية، وعلى رأسها الرئيس، اتباع سياسة لم يقرها المؤتمر العام. . . والاشتراكيون كتلة واحدة في مجلس النواب، يصوتون جميعاً مع الحكومة أو عليها. ولهم تشكيلات اجتماعية مفيدة وتقوم بتهذيب الشباب والنساء تهذيباً مدنياً وسياسياً. . . فالحزم والنظام موجودان فيه وهما ما يحتاجه الشعب الفرنسي، ولا عجب أن تكون هذه الصفات السياسية التي يتصف بها الحزب الاشتراكي قد ساعدت كثيراً على تقدير الشعب له.

وللحزب الاشتراكي رئيس قدير: مسيو بلوم، يعرف كيف يتطور ويضع مبادئ حزبه الاشتراكية في شكل يقبله قسم كبير من الشعب.

إن أكثرية الشعب الفرنسي الساحقة مؤلفة من الفلاحين الصغار الذين يعملون بأيديهم مع أفراد عائلاتهم في الحقول ويعتاشون من عملهم؛ ومن صغار التجار الذين لا يكونون ثروة ذات اعتبار. وقد تيقن مسيو بلوم بأن لا قائمة تقوم لحزبه إن لم يربح عطف هذا القسم من الشعب. ولما كان الفلاح في فرنسا متعلقاً بأرضه تعلقاً يفوق حد التصور ويموت في سبيلها، رأى مسيو بلوم من الواجب عليه تأمين الفلاح على أرضه إن رام نيل صوته؛

ص: 57

فخفف حدة النظرية الاشتراكية، وأعلم الفلاح والتاجر الصغير بأن حزبه لا يريد وضع يده على جميع الأملاك والثروات، بل على رؤوس الأموال الكبيرة؛ وأنه يعتبر المالك والتاجر الصغيرين ضمن طبقة العمال، والاشتراكية تحترم أملاكهم. . . وهكذا تقرب مسيو بلوم وحزبه من هذه الطبقة التي كانت تعاضد الحزب الراديكالي وانتزع قسماً كبيراً منها.

ثم خفف الحزب الاشتراكي حدة ثورته على السياسة القومية، وأخذ يقول بوجوب الدفاع عن الوطن، ولم يردد نغمة الاشتراكية الدولية في خطاباته. . . فجميع هذه العوامل الإيجابية أدت إلى فوز هذا الحزب، كما أنها كانت أسباباً سلبية لإضعاف الحزب الراديكالي.

وكان لتفوق (الجبهة الشعبية) بصورة عامة على أحزاب الوسط واليمين أسباب عدة.

كانت الأزمة المالية، ولا سيما أزمة ميزانية الحكومة، شديدة على فرنسا طيلة السنين الأربع الأخيرة، وقد حاولت الحكومات السابقة حلها في تطبيق نظرية (الاقتصاد في كل شيء) فلم توفق. وعملها هذا أرغم الفرنسي على اختلاف مقدرته المالية على الاقتصاد والتقتير على نفسه وعائلته، فقلل ذلك تداول العملة من جهة، وزاد في الأزمة الاقتصادية وفي البطالة من جهة ثانية. وقد سئم الشعب الفرنسي هذه السياسة المالية ولم يرد مجابهة أزمات 1926 و1934 من جديد، وود اتباع تجربة اقتصادية جديدة آملاً أن تكون نتيجتها حل الأزمة وإعادة الرخاء. فعمل على التخلص من النظام البرلماني القديم الذي أفسدته الأكثريات السابقة، فأرسل إلى مجلس النواب أكثرية يسرى مؤلفة من عناصر جديدة شابة، إذ أن ما يقرب من نصف أعضاء المجلس الجديد لم يشتركوا فيه من قبل. وهذه النفسية عملت كثيراً على خذلان الراديكاليين وإضعاف أحزاب الوسط، وضياع شهرة عدد كبير من رجال أحزاب اليمين.

وقد ساعد مسيو لافال كثيراً في فوز هذه الجبهة! فالسياسة التي اتبعها في جنيف، والتي أدت إلى إضعاف مركز العصبة، إن لم يكن زوالها، وإلى إبعاد باريس عن لندن، والتي مهدت للهر هتلر الطريق لاحتلال أراضي الرين، لم ترض الفرنسيين الذين يعتقدون بأن لا سلامة لفرنسا إلا بتقوية مؤسسة جنيف ومبدأ (السلام المشترك)، وهم أكثرية الشعب. ولما أتت الساعة لإبداء رأيهم حكموا على سياسته بإعطاء أخصامه وسيلة الحكم.

ص: 58

وكان لمسيو (دي لاروك) مجهودات عظيمة أدت إلى فوز الشيوعيين والاشتراكيين! فالشعب الفرنسي محب للحرية ولا يبغي بالديمقراطية بديلا. فلما قام الكولونيل دي لاروك بحركته الفاشستية وأخذ فريقه (الصليب الناري) يتسع بين العائلات المثرية، أحس الجمهور الفرنسي بالخطر الذي يهدد حريته وديمقراطيته، فعمل على تلافيه قبل استفحاله، فأرسل إلى (قصر البربون) أكبر عدوين للفاشستية مظهراً بذلك مقته للدكتاتورية وسخطه على (المائتي عائلة). . . وهكذا تحققت كلمة مسيو بوانكاريه:(كلما خافت فرنسا الدكتاتورية رمت بنفسها في أحضان اليسار).

ومما لا شك فيه أن تنظيم صفوف أحزاب اليسار، ووضعهم منهاجاً مشتركاً للإنتخابات، كان عاملاً قوياً في تفوقهم؛ كما أن الفوضى في أحزاب اليمين وتنازعهم أصوات المنتخبين وعدم إيجاد منهاج مشترك لهم أدى إلى خذلانهم وساعد على فوز الجبهة الشعبية. على أن هذا لم يكن كل شيء، بل كانت الأسباب السياسية التي تحدثنا عنها أكبر عوامل للوصول إلى نتيجة الانتخابات الأخيرة.

- 3 -

لقد فاز الحزب الاشتراكي وأصبح أكبر حزب في مجلس النواب، وشكل حكومة ذات منهاج متين تؤيده أكثرية كبرى في مجلس النواب. فهل ستظل هذه الأكثرية الكبيرة معاضدة للحكومة، أم ستجابه مسيو بلوم الصعوبات التي جابهت زميله مسيو هريو من قبل؟

مما لا شك فيه أن مسيو بلوم رجل عمل و (رجل دولة) ولكن هذا وحده لا يكفي لإيجاد حكومة ثابتة، إذ يجب، قبل كل شيء، أن تسند هذه الحكومة أكثرية دائمة. فالحزب الاشتراكي وحده لا يستطيع الحكم وإن اتفق مع الحزب الراديكالي فلا يكونان أكثرية. ولذا فهو في حاجة إلى إشراك الحزبين الجالسين عن يمينه وعن يساره في الحكم. غير أن الحزب الشيوعي رفض الاشتراك في الحكومة، ولكنه أيدها وليس للاشتراك والتأييد نفس المفعول، لأنه عندما يشترك حزب في حكومة يشترك في المسؤولية أيضاً، فخذلان الحكومة معناه خذلانه في تلك الحالة. لذا وجب عليه المدافعة عن الحكومة ومعاضدتها. أما إن أيد الحكومة فحسب، فإنه لا يشترك في المسؤولية ويستطيع سحب ثقته من الحكومة في

ص: 59

أي وقت شاء دون أن يناله أي ضرر؛ فتصبح الحكومة حينئذ تحت رحمته. وقد لعب الاشتراكيون هذا الدور مع الحكومات الراديكالية، ويريد الشيوعيون الآن تمثيله مع الحكومة الاشتراكية. ومسيو بلوم أعرف الناس بالضرر الذي سيلحق حكومته إن اتبع الشيوعيون هذه السياسة.

وهذه الصعوبة حجر عثرة أمام الزعيم الاشتراكي، فإن تمكن من حفظ الائتلاف بين الأحزاب الثلاثة، وإن استطاع الاحتفاظ بثقة الحزب الشيوعي، كانت لوزارته مكانة قوية وثابتة، وإن لم يتمكن من ذلك فستجابه فرنسا سلسلة أزمات وزارية أشد خطراً من التي جابهتها خلال السنين الأخيرة، وستكون عاقبة ذلك جد وخيمة ولربما أدت إلى حرب أهلية. . .

ولحسن حظ مسيو بلوم فإن حزبه قد فاز وتسلم زمام الحكم، والحالة الاقتصادية في فرنسا آخذة في الانتعاش والتحسن، فهو بذلك أسعد حظاً من زميله مسيو هريو الذي فاز وتسلم زمام الحكم والبلاد مجابهة أشد الأزمات الاقتصادية والمالية، عام 1924 و1932. فالانتعاش الاقتصادي الحالي يساعد مسيو بلوم كثيراً، ويسمح له بصرف جهوده في مكافحة الصعوبات البرلمانية، وفي تعديل اعوجاج السياسة الخارجية وتحسين علاقات فرنسا مع الدول وخصوصاً مع بريطانيا. . . فإن تمكن مسيو بلوم من الاحتفاظ بالأكثرية التي تعاضده في مجلس النواب زالت الأزمات الوزارية التي كانت أكبر عامل في إضعاف مركز فرنسا في الدوائر الدولية؛ ويعود للحكومة احترامها وثباتها، وهما ضروريان لنجاح أية حكومة؛ وبالتالي يعود لفرنسا مركزها الدولي السامي الذي كانت تتمتع به أمام المرحوم مسيو بريان. . .

فلوراك (فرنسا)

يوسف هيكل

دكتور في الحقوق

ص: 60

‌في الأدب الإنكليزي

هل من انتحال في الأدب الإنكليزي؟

للسيد جريس القسوس

- 2 -

وحجة كامبل في ذلك اكتشافه مخطوطات قديمة ورد فيها ذكر (فنّ) و (أوشان) وغيرهما من الأسماء الواردة في منظومات مكفرسن، مما يدل على أن هذه الأسماء كانت، على الأقل، شائعة معروفة في اسكتلندا وايرلندا الشمالية قبل مجيء مكفرسن. فلا يبعد أن يكون مكفرسن قد اطلع على هذه المخطوطات فأغرم بحوادثها التاريخية وافتتن؛ فعلق بذهنه ما علق وتأثر بأسلوبها الشعري واقتبس منها بعض الشيء فظهر أثر ذلك في تلك المنظومات التي ادعى أنها مترجمة.

وكامبل لا يجحد لمكفرسن فضله في جميع هذه الآثار المتفرقة وترتيبها وتدوينها حتى ظهرت بذلك الشكل الفني الرائع، إذ لولاه لعبث الزمان بهذه الآثار الخالدة عبثه بغيرها من القصائد التي تروى على ألسنة العامة، وخاصة أهل الأرياف، وسكان الصحراء.

ولا يقف كامبل عند هذا الحد في الرد على جونسن، بل يرى أنه من النادر أن تلقى واحداً من سكان ايرلندا الشمالية لم يسمع قط بالأسماء التي وردت في قصائد مكفرسن؛ وأن هذه الأسماء هي في الحقيقة محور عدد غير يسير من القصص العامية التي يتلوها الأمهات على أطفالهن حول المواقد في ليالي الشتاء الباردة.

ويصرف كامبل جونسن، ويعود إلى مناقشة الآراء السخيفة التي يتمسك بها أنصار مكفرسن، وخاصة بروفيسور أوكري ' فهذا وغيره من أنصار مكفرسن يرون أن (أوشان) وغيره من الأبطال شخصيات تاريخية حقيقية، وأنهم ايرلنديو النسب؛ نشأوا في القرن الثالث قبل المسيح؛ وأن (فنّ) يرجع في نسبه إلى نحو 110 ق. م. وأن اسم ورد في قصيدة نظمت سنة 1024، وضمنت كتاب باليموت سنة 1391. أقول إن كامبل يرد على ذلك رداً عنيفاً مبيناً تناقض الروايات المختلفة واضطرابها في تحديد نسب هؤلاء الأبطال وتبيان التاريخ الصحيح لنشأتهم. فبعض أنصار مكفرسن - ومعظمهم ايرلنديون -

ص: 61

يرون مثلاً، أن هذه الأشعار الغاليقية صينت في مخطوطات قديمة، وأنها تنسب إلى أوشان وغيره من أبطال أساطير ايرلندا الأولية، وأن جميع هؤلاء الأبطال ايرلنديون لا اسكتلنديو الجنس، بينما البعض الآخر يرى أن هؤلاء الأبطال نشأوا في عصر متأخر. بل منهم من يجعل (فنّ) اسكتلندي الجنس ومنهم من يجعله إنكليزياً.

وآخرون يرون أن البطل أوسكار الوارد ذكره في الأدب الايرلندي القديم إسكتلندي الجنس والمولد، بل غيرهم موقن أنه دنمركي برغم ورود اسمه في الأدب الأيرلندي.

ويزيد موقف المناصرين وهناً واضطراباً، نسبتهم الأعمال الجسيمة الباهرة التي قام بها أشخاص هذه الآثار الأدبية إلى الكائنات الغيبية كالجن والآلهة المتعددة.

ولا يقتصر كامبل على هذا بل يعود إلى مهاجمة المناصرين من ناحية أخرى؛ فيقول إنه لم يطلع، في حياته، على مخطوطة أو سجل تاريخي فيه ذكر لمملكة (مورفن) أو ملكها فنغال. فمن أين جاء مكفرسن بهذه الأسماء التي تتخلل معظم أشعاره؟ ذلك مما يحمله على الاعتقاد الأكيد بأن هذه المملكة إنما هي من اختلاق جامع هذه القصص الأوشانية ومرتبها، مكفرسن كان أم غيره.

أما أوشان بن فنغال الشاعر الذي عزا إليه مكفرسن نظم الآثار الأدبية المعروفة باسمه، فأمره، كأمر والده غامض مبهم إذ لا يمكن أن يعمر أوشان - مسلمين جدلاً أنه حقاً ابن (فنّ) - إلى حد من الزمن يتمكن معه من الاجتماع بالقديس باترك أو أن يختلط بنساء الجن في بلاد الشباب، ويتحول في شتى أدوار حياته من نبي إلى ساحر ومن ساحر إلى شاعر، وهلم جرّا، كما هو ظاهر في الآثار الأدبية المنسوبة إليه. والخلاصة أن كل ظاهرة في حياة هذا الشاعر تدل دلالة صريحة واضحة على أنه لم يكن في الحقيقة إلا من بعض آلهة الأساطير الكلتية القديمة.

ولا يقف كامبل عند هذا الحد، بل يهاجم أنصار مكفرسن من ناحية أخرى. فهو يرى، من مقابلة هذه المنظومات التي ادعى أنها مترجمة مع غيرها من الأشعار المتحدرة عن طريق الرواية والنقل الشفهي أن هناك اختلافاً وفرقاً كبيرين وواضحين في الموضوع واللغة. فما (فنّ) كما هو مذكور في القصائد التي تتداولها العامة إلا بطل إنساني الخلق، وديع الطبع سهله، رقيق الإحساس، ولطيف النفس؛ لا يعرف العنف والكبرياء، فهو لذلك ذو نفوذ في

ص: 62

قبيلته، تقوم سلطته على حبهم له وتعلقهم به، بينما الناظر في صفات (فنّ) كما جاء في شعر مكفرسن يرى أنه فارس ساط غشوم، وجهم عنيف، خلو من كل عاطفة رقيقة وإحساس لطيف! لهذا كان نفوذه وسلطانه مبنيين على خشية القوم له ورهبتهم منه.

هذا، عدا أنه لا ذكر في القصائد المنقولة شفاهاً لمملكة (مورفن) التي ورد ذكرها في أشعار مكفرسن.

أما من ناحية اللغة والأسلوب فالباحث في هذا الأدب في كلتا سبيليه: سبيل الرواية والنقل الشفهي، وسبيل مكفرسن، يرى أن لغة أدب مكفرسن مفعمة بالتعابير الحوشية، والاصطلاحات الأجنبية التي تتميزها من اللغة المعروفة في اسكتلندا الشمالية، بينما لغة أدب الرواية والنقل الشفهي محكمة السبك، موحدة التركيب متسقة الأسلوب، لا اضطراب في معانيها ولا ضعف.

وخلاصة رأي كامبل أنه لم يكن في اللغة الغاليقية أشعار كالتي ادعى مكفرسن أنها مترجمة، وأن هذه اللغة التي استعملها في كتاباته لم تكن في الحقيقة إلا لغة القرن الثامن عشر، وجل ما هنالك مجموعة أشعار قديمة وحديثة متنوعة، كانت العامة تتداول معظمها بينها، جمعها مكفرسن ورتبها وسواها بشكلها المعروف، شأن المهندس الذي يخلق من البيت الإغريقي القديم بيتاً حديث الشكل والطراز.

- 4 -

والباحث يخرج من كل ما مر بخمس حقائق مجردة، هي زبدة ما وصل إليه مؤرخو الأدب الإنكليزي في هذا السبيل الوعر الشاق:

1 -

أن قصيدة أوسيان أو أوشان التي تنسب إلى مكفرسن لم تكن ترجمة خالصة عن الآثار الأدبية الأصلية.

2 -

أن مكفرسن استخلص منظوماته من آثار أدبية قديمة متفرقة، وذلك بالجمع والغربلة والحذف والتعديل، وخلع عليها ثوباً جديداً كفل لها الخلود في عالم الأدب.

3 -

أن جميع الظواهر تدل دلالة واضحة على أن مكفرسن لم يضع هذه الآثار الأدبية من عنده، وأنه لم يتعد كونه فناناً حاذقاً عرف كيف يستخرج من أمزجة ومركبات عتيقة بالية قطعاً فنية رائعة، وأن أوشان نفسه لم يكن المؤلف الحقيقي لهذا القصائد كما ادعى

ص: 63

مكفرسن.

4 -

إذا كان أوشان ناظم هذه القصائد، عُدّ بحق في طليعة شعراء العالم على الإطلاق.

5 -

إن مكفرسن فتح بذلك فتحاً جديداً في عالم الأدب، فعمت شهرته الأدبية أوربا وبعد أثره في الأدب الأوربي عامة، والإنكليزي والألماني خاصة.

(يتبع)

جريس القسوس

ص: 64

‌الشعر في مهرجان المتنبي

صوت دمشق

للأستاذ عز الدين التنوخي

عاش فوق الثرى وتحت التربِ

خالداً في قلوبنا المتنبي

ظل ألفاً من السنين يسمى

شاعرَ اللفظ والعلى والحربِ

ربّ بيت من شعره يتلظى

كافلا أن يشبَّ نارَ الشعب

يصف الحرب للجبان فيغدو

وهو بالطعن هائم والضرب

بالعينِ من شعره العذب فيه

غمزات الهوى وسحرُ القلبِ

ذاب من رقة الخدود ومن قس

وة قلب من عاذل غير صبِّ

غزلٌ حسن صوغه حمل الظَّن (م)

نَ على أنه صريع الحُب

يذر الغافل الخليَّ شجياً

ويردُّ الأبيَّ طوعاً يلبي

ساحرُ الشعر فاتناً كهديل الْ

وُرْقِ في الروض غِبَّ جَودِ السّحب

رائد من مسالك الروح ما بيْ

ن شغاف من القلوبِ وخِلْبِ

يحتذي في البديع حذو أبي تمْ

امَ والبحتري بنسج العَصْبِ

إن يعيبوه بالغريب وضعف ال

طبع حيناً وباقتعادِ الصعب

فهو شِبه الجبار يأخذ ما يل

قاهُ بالقهر حوله والغصب

شعره فيض طبعه لا كشعر

قدَّهُ العِيُّ من صخور صلب

لم يُؤوَّل ديوانُ شعر كديوا

ن أبي الطيب المرير العذب

هو مرٌّ على الأعادي وعذبٌ

للمحبين في الجفا والقرب

لست أنسى رؤياه وهو مليك

فوق عرش من القنا والكتب

وحواليه دولة الشعر قامت

تسلُب اللب بالبيان وتسبي

من رعاياه سيف حمدانَ من كا

ن إذا ما ذكرته قلت حسبي

والسريُّ الرفَّاءُ أنداهم لف

ظاً وأدناهم لمعنى القلب

وابن جني رأيتُه يشرحُ الدِّي

وانَ شرحاً له يروق ويُصبي

لو حسبناهم من الطير كان الْ

متنبي أميرَ ذاك السِّرب

ص: 65

يُنشد الشعر بينهم فتراهم

كالرحى إذ تدور حول القطب

كسُكارى وما همُ بسكارى

بل نشاوَى خمر الهوى والعجْب

سمعوا لحنه فهاموا جميعاً

لا ترى غيرَ هائم أو صب

برخيمٍ يُنسيك مزمار داو

دَ وألحانَ معبدٍ في الحب

فهو فينا ذاك الطبيبُ المُرجَّى

من مريضٍ لروحه مستطبِّ

حفظ الناسُ شعره فهو درس الْ

دّهرِ فيهم والدهرُ خير مربي

كم وردنا ماءً فلم يروِ منا

ظمأً غيرُ مستقاه العذب

وتلونا من آيه سور المج

د وشِمْنا برق المنى ليس يُخبي

حكمةٌ يبهر المعري سناها

فهي صوب النهى وذوب اللبِّ

حالفته منذ الشبيبة حتى

أن توارى فؤاده في الترب

لم يذرها يوم الصريخ ولا يو

م نشيدِ الألحان بين الصحب

ينظم البيت غادياً وهو في الشر

ق فيمسي لسحره في الغرب

حلبٌ قد غدت بأحمد شهبَا

َء لشعب له خلود الشهب

مادح (السيف) كان يدعى فأمسى الس

(م) يفُ يدعى أمدوحة المتنبي

إن مجداً أُوتيه أخلدهُ الدهْ

رُ خلود الآداب مجدُ الشعب

ضامهُ أن يرى بني العرب في ضيْ

م علوج بغير عهد ولب

وبنو العرب ليس تفلح إلا

بملوك منهم أُباةٍ عرب

لا يبالي الشرقُ المضيمُ إذا ما

اتحد العرب ساعة بالغرب

يثب الليثُ إِن أُثيرَ وليث ال

عُرب في الناس رابضٌ للوثب

أيَّ يوم أرى الطلائع منا

غائراتٍ على الجياد القُب

يهجر الطِّرسَ واليراعَ فتاناً

ليراع من القنا والقُضب

لا يرى المجد غيرَ فتكته البكْ

ر ونَيل استقلاله بالغصب

ذاك يوم محجَّلٌ فيه تحطي

مُ قيود وفيه تَهتيك حُجب

ذاك يومٌ يقرُّ عينَ أبي الطي (م)

ب بالعُرب وهو تحت الترب

إنما شعرُه الشعور المروَّي

بسلافٍ من البلاغة عذب

ص: 66

وقصيد الفحول يهرم إلا

شعره فهو في شباب رطب

فالمباني مُختارها ملءُ عيني

والمعاني أبكارُها ملءُ قلبي

ينتمي كل شاعر لحماه

وهو للعُرب ينتمي والشهب

شعراء الأجيال يمشون فوق ال

أرض طراً ومشيه في السحب

ملأ الكونَ شعره شغل النا

س بأحوال جدهم واللعب

سار في الناس جائباً كشعاع ال

شمس يذكو في كل قطر وشعب

فهو مسعار ثورة وهدى قل

ب ولحن الهوى وحَدْوُ الركب

شعرهُ صورة الحياة لهذا

يتمشى مع الحياةِ لجنب

عز الدين التنوخي

كاتب سر المهرجان العام

ص: 67

‌ومن قصيدة الأستاذ محمد رضا الشبيبي في المتنبي

خلت العصور وما خلت من ناقل

أو قائل هذا الحكيم الخالد

أو مورد للقول فيمن حيرت

منه الفحول مصادر وموارد

ما العبقري الفذ إلا فكرة

إن مات عاش بها الرميم الهامد

وإِذا تأملت الخلود أصبته

في الصالحات وحيث يفنى الفاسد

لابد من نقد الزمان فإنما

نحن المعادن والزمان الناقد

حسدوا النبوغ وناوأوه فلم يمت

بل مات بالداء الدفين الحاسد

يا شاعراً قاد القلوب لغاية

لم يدن منها شاعر أو قائد

قرنوا بكل مفوه شيطانه

أما قرينك فالعظيم المارد

أمتعتنا بذخائر الشعر الذي

لولاه ما نبذ المتاع الكاسد

نشرت به في كل فج حكمة

وتعوطي المثل البليغ الشارد

ص: 68

‌ومن كلمة الأستاذ محمد البزم:

إله القوافي إن عصتك نبوة

فذا الشعر تجري في علاك جحافله

ففي كل بيت صاهل ومدجج

وكل قصيد عسكر وقنابله

فكم وحدة مارستها وهواجر

ولا ألف إلا أهيف القد ناحله

يراع لأهواء المعالي مسخر

يكايلها أهواءها وتكايله

يحس دبيب الحزن من قلب ذي الجوى

ويقلقه في صدر ذي السقم واغله

وتوقظ منه خطرة الشك والمنى

ومجرى الهوى يسطو بذي اللب خايله

إذا ماج رقراق السراب نسجته

غلائل شعر لا ترام مغازله

تطيف بك الجنان حتى كأنها

تلقف عنك السحر ينهل سائله

كأن وفود الجن في كل فدفد

عفاة تليهم من همام طوائله

ولو كان للأصقاع لب يسوسها

سعت تجتديك السحر في الشام بابله

ص: 69

‌ومن قصيدة الأستاذ باقر الشبيبي

يا ناشد الوحدة ما أوضحها

في وحدة الدم ووحدة النسب

هذا أبو الطيب حي خالد

ما مات من أسس دولة الأدب

احدث في قلب الزمان هزة

لولا المقادير تقيه لا تقلب

وفت دمشق حقه معربة

في حفلها، إن الوفاء للعرب

وليس يكفي مهرجان واحد

ينشد فيه الشعر أو تلقى الخطب

مغانيَ الكوفة! هذا بَرَدَى

قد صفقت أمواجه من الطرب

ساهم في الذكرى فكم مهذب

في الغوطة الغناء يشرب النخب

ما أنجبت هذي البلاد شاعراً

إلا أبا الطيب شاعر العرب

ص: 70

‌ومن قصيدة الأستاذ خليل مردوم:

يا مالئ الدنيا وشاغل ناسها

الدهر رواية لشعرك منشد

ضمن الزمان بقاءه فكأنما

أنفاسه في صدره تتردد

آياته لا تنقضي وعظاته

كالبحر زاخر موجه لا ينفد

لله رأيك في السياسة إنه

سهم إلى كبد الصواب مسدد

العرب ما صلحت على يد أعجم

حكم الأعاجم للعروبة مفسد

أخذوا عليك قساوة ولو أنهم

خبروا النفوس كما خبرت لأيدوا

شكواك ما زلنا نعاني مثلها

كف مضرجة ووجه أسود!

ص: 71

‌لقصص

قصة مصرية

شباب. . .

للأستاذ دريني خشبه

(الأغاني والحوار موضوعان في الأصل باللهجة المصرية. . .)

* (بل لابد أن أذكر لوالدتها كل شيء!).

* (يا سيدتي مالنا وللناس، حسبنا أن نأكل خبزاً ونشرب لَبناً وعسلاً!).

* (آه. . . لا. . . نأكل خبزاً ونشرب لبناً وعسلاً ونترك هذا الموظف اللاهي يعبث بابنة صاحب المنزل! لا! ليست هذه أمانة يا متولي، لابد أن أنقذ عرض هذه الصغيرة. . . إن ليلى شابة، والشباب لا عقل له، وربما اعتدى. . .).

* (أوه! مالك وللناس! إنهما لابد يحبان بعضهما بعضاً يا بخيتة. ألا تذكرين ما كنا نصنع، أنا وأنت، قبل أن نتزوج.؟!).

وتستحي بخيتة وتسكت قليلاً ثم تتنفس تنفسة عميقة وتقول:

* (الحمد لله يا متولي، لقد كنا نحب بعضنا، هذا صحيح، ولكن، الحمد لله، لم نغضب ربنا!؟).

* (مرحى مرحى! صحيح نحن لم نغضبه قط، وأحسبه قد غفر لنا الألف ألف قبلة التي تبادلناها!).

ويشتد خجلها، وتصمت لحظة ثم تقول:

* (أنت دائماً مبالغ يا متولي! ألف ألف قبلة؟ إن هذا العدد لا يؤخذ في أقل من عشر سنين، ونحن لم نحب بعضنا أكثر من شهر!).

* (ثم انقطع ما بيننا من حب؟ أم ماذا؟).

* (بل تزوجنا!).

* (وليتنا ما تزوجنا!).

* (فأل الله ولا فألك يا متولي! لماذا يا شيخ؟).

ص: 72

* (لأن قبلنا كانت حلوة جداً قبل زواجنا!).

* (والآن؟ هل هي مرة؟ أم ماذا؟).

* (. . .؟. . .).

* (قم بنا).

* (إلى أين؟).

* (إلى السطح!).

* (لماذا يا امرأة؟).

* (لأريك ماذا تصنع ليلى مع هذا الموظف (سامي أفندي).!

وهرولا فوق الدرج ووقفا خلف (المنور) الزجاجي المطل على غرفة سامي، يريانه ولا يراهما. . .

فتي في الرابعة والعشرين ترف على جبينه سحابة من الحزن، يلونها الحب بأمواه باكية من الحنان والرحمة والهدوء. . له عينان عميقتان كأنما تخرقان حجب الزمان أو تناجيان سكان السماء؛ ينظم الشعر ويهيم بالغناء ويشغف بالموسيقى، ويجمع في مسكنه بالطابق العلوي من هذا المنزل المتوسط طائفة مختارة من التماثيل أهداها إليه أصدقاؤه المولعون به لنفر من فنانين مصريين وعرب. وهو موظف في مصرف أجنبي يتقاضى مرتباً لا بأس به، يستطيع أن يضمن به صفاءه الذي لابد منه للشعر والغناء والموسيقى. . . والحب الذي يسقي هؤلاء.

كان إذا هدأ الليل، هدأ هو إلى عوده، وطفق يمر أنامله على أوتاره في لين ورفق، كما ترى النسمات النحيلة العليلة على صفحة الغدير الصغير؛ فإذا غنى، أرسل من قلبه ألحاناً هي لا شك روحه ممتزجة بموسيقاه؛ ولم يكن يغني إلا ما ينظم هو، لا ما ينظم الشعراء؛ وكان، إذا سئل في ذلك، يتعلل بأنه يأبى أن يكون كنادبات الجنائز، يرجعن كلاماً محفوظاً ليبكين به النساء. . . فالشعر شعره، والغناء غناؤه، والموسيقى موسيقاه، وجملة أولئك صورة روحه التي تشعر وتغني، وترن وتئن على أوتار العود.

وكانت ليلى ابنة صاحب المنزل الذي يقيم فيه سامي، فتاة في الثامنة عشرة، لها لفتة وفي عينيها سحر، وملء قلبها أماني. . . ما كاد الساكن الجديد يملأ منزلها بصباه العطر،

ص: 73

وغنائه ذي الشذى، وموسيقاه ذات المعاني، حتى رجعت هي أصداءه جميعاً، وأحست كأن الساكن الجديد لم يأت ليشغل الطابق العلوي من بيتها، بل ليحتل السويداء من قلبها؛ فكانت كلما أقبل سامي من عمله في المساء تشعر كأن كهرباء ملأ قلبها، فهو يدق ويدق، ويخفق خفقاناً شديداً، ويسري في جميع أعصابها بكل حاجات الشباب الذي أضر به كبت المحبسين: المنزل الشرقي والتقاليد!

وكانت موجات أثيرية من غناء سامي وموسيقاه تشيع في أرجاء المنزل فتهز أركان ليلى، وتذيب في عينيها دموعاً ليست كهذه الدموع التي يحتلبها البكاء، ولكنها دموع علوية لا يدري المحب من أين تنهمل، لولا ما في أغواره من معاني الهوى. . .

وانسرقت ليلى في أمسية إلى (السطح) ووقفت مختبئة في نفس المكان الذي وقف فيه هذان العجوزان - متولي وبخيتة - يتلصصان على كيوبيد، حين يرشق القلبين الحبيبين بسهامه الذهبية!

وقفت ليلى ثمة، وتلبثت طويلاً تملأ أذنيها وقلبها بغناء سامي وحبه، ثم جعلت بعد ذلك تنسرق كالمرة الأولى، حتى تنبه غافل الشباب، فراح بدوره يرسل إليها أغانيه حاملة قبله، ثم لم يجد بأساً، وقد تأكدت بينهما أواصر الحب، من أن يغافلها وينسرق إلى حيث هي، فلا يكاد يسقط في يديها وترتبك ارتباكة يسيرة حتى يقدم إليها يده المرتجفة، فتصافحه وتنفتل منه فتطوي الدرج إلى. . . حيث تكون بخيتة مصعدةً فتكتشف السر الناشئ الذي لما يكد يشب أو يترعرع. . .

كان سامي يجلس على كرسيه محتضناً عوده، وأمامه ليلى على (كنبة) تحدق فيه، وقد وضعت رجلاً على رجل، وبدا ساقاها الممتلئان طراوة ونعومة وحياة وانسجاماً، واتكأت بظهرها على المسند فنهد جيدها المرمري، وبدت انفلاقة الثديين من فتحة الثوب الوردي الذي كانت ترتديه، فاختلط ورده بوردها المتفتح في كل جزء من جسمها الناضج السوي، وأسندت فَوْدها على يمينها قليلاً، وتهدلت خصلة من شعرها الأسود الفاحم على أصابعها فزادتها فتنة.

وكان سامي يداعب عوده، ولم يكن ينظر إلى ليلى، بل كان مطرقاً برأسه قليلاً، حتى إذا استغرقته الموسيقى أرسل من عينيه عَبْرتين لمحتهما ليلى فنهضت مسرعة وتلقتهما في

ص: 74

منديلها الحريري الجميل. . . ثم جلست إلى جانبه، وأرسلت ذراعها البضة فوق كاهله، وأدنت رأسها من رأسه. . . ولم تكلمه!

وصمت سامي لحظة، ثم شرع يتغنى أغنية مطلعها:

إيه يا ليل، وقد طاب الهوى

وصَفَتْ أنفاسُهُ للأنفس

ما لقلبي خَفِقاً؟! هل من جوى

ومُنَى نفسي معي في مجلسي؟

وكان الفتى يرسل غناءه هادئاً يترقرق في أذني ليلى، وكانت نبراته ونبرات العود تأتلف وتسري في الهواء فيرقص من أسرها لهب الشمعة التي كان سامي يؤثرها على لألاء الكهرباء كلما غنّى. . . وكلما زارته ليلى.

وفرغ سامي من غنائه، وسكنت الحجرة قليلاً، ثم نادته فتاته:

* (سامي!).

* (ليلى!).

* (هل أسعد منا حبيبان في هذه الحياة؟).

* (كنت أرجو ذلك يا ليلى. . .).

* (ولم لا نكون يا سامي؟).

* (آه. . . أكثر الناس يحبون على أمل. . . أما نحن. . .).

* (مالنا؟).

(لاشيء. . . لا شيء مطلقاً يا ليلى، لنعد إلى أحلامنا وموسيقانا فهي غذاء روحينا. دعي هذا الحديث فإنه يزعجني. بحسبي أن أكون معك لحظة بعد أخرى فأذوب وأحترق!).

* (بل سنتحدث؛ بل ينبغي أن نفكر في المستقبل، إنني لا أطيق فكرة بعدي عنك يا سامي! إغفر لفتاة عذراء مثلي أن تكلمك هكذا! لقد امتزجت روحانا فليس يضيرني أن أصارحك! لقد اقتنع قلبانا ألا غناء لأحدهما عن الآخر، فلم نجلس صامتين تلقاء المستقبل الذي يروعنا بالفراق ولا نفكر بأن نحسم مشاكله؟).

* (وهل نستطيع ذلك يا ليلى؟ أنسيتِ. . .).

ص: 75

* (نسيتُ ماذا؟ لا. . . لا تظن ذلك محالاً!).

* (ليلى! ماذا تريدين أن تقولي؟).

* (اطمئن!).

* (أطمئن كيف؟).

* (أجل، يجب أن تطمئن، لقد صممت على أمر عظيم!).

* (ليلى!).

* (بل لن تردني أية قوة في العالم عما اعتزمته يا سامي، أليس كل ما يقوله الأغبياء إنني انهزمت بديني أمام حبي؟).

* (ليلى!).

* (لينهزم هذا الدين فأنا لم أعرفه بنفسي. . . أما الحب. . .).

* (أنت جريئة جداً يا ليلى! لا. . . لا ينبغي. . . هذا كثير!).

* (لا ينبغي ماذا؟ ألست تتفق معي؟).

* (وكيف أتفق معك يا ليلى وديني يريني الله من خلل الحب؟).

* (إذن اتفقنا، إنني لم أر الله إلا يوم أن رأيتك! ويجب أن أصل إلى الله عن طريقك يا سامي. . . اهدني يا سامي. . . لا تردني بعنف هكذا، إنك مسلم رقيق القلب مرهف الحس فياض العاطفة، وإن روحك تتكلم بلسان الموسيقى يا سامي، فلا تحاول أن تكون جباراً عليَّ، لا تحاول أن تردني عما اعتزمته. . . أ. . . ألا تريد أن نأمن غائلة الفراق، والفراق الأبدي يا سامي؟).

* (وكيف لا أريد يا ليلى!).

* (ساعدني إذن، خذ بيدي إلى ناحيتك. . . سامي. . . سامي. . .).

وانفجرت الفتاة تبكي بين يدي حبيبها، وأخذ سامي يلاطفها ويرفه عنها، ولكنها دست رأسها الجميل في صدره، وأغفت إغفاءة هينة لم يوقظها منها إلا شدة خفقان قلب سامي. . . قلبه الكبير جداً، الذي أُشرب حب ليلى، وامتزجت كل قطرة من دمه بتقديسها!

* (صحوت يا ليلى؟).

ولكنها أجابته بنظرة فاتنة من طرف عينيها المبللتين بالدموع.

ص: 76

* (كلميني يا حبيبتي. . . ليلى؟).

* (سامي. . . اسكت! إن هذه الفترة الصامتة الباكية أسعد فترات حياتي!).

وطوقها سامي بذراعيه، وأخذ ينزح أسرار عينيها الباكيتين بعينيه العميقتين، ثم أهوى على فمها القرمزي ذي الثنايا المفلجة يقبله. . . ويقبله.

* (أرأيت يا متولي؟ هل صدقت ما قلته لك؟ والله لأخبرن أمها!).

* (بخيتة!! أنت طالق إن فعلت! يا غبية! يا أقبح النساء!).

* (أنا؟ أنا أقبح النساء؟ وأنت؟ أتحسب أنك زين الرجال؟).

* (لا. . . ولكني كنت أطمع في. . . فتاة طيبة. . .).

* (مثل ليلى أظن؟).

* (أجل. . .).

* (اسم الله عليك يا سامي أفندي!).

* (أحببته؟ أم ماذا يا امرأة؟).

* (صوته جميل. . . أما صوتك، فحميري خالص!!).

* (اسكتي يا خنزيره. . . هلمي بنا، كاد شباب الحبيبين يتلف قلبينا العجوزين!).

ونزل الخادمان وفي قلب كل منهما غصة تزلزله.

وبعد أيام همس الناس في هذا الحي من أحياء المدينة أن ليلى ابنة (. . .) اليهودي قد صبأت. . . واعتنقت الإسلام.

وبعد أيام أخريات، تأكد هذا الهمس، لأنها تزوجت سامي أفندي بالفعل، ونقل العروسان إلى الإسكندرية ليعيشا ثمة حياة هانئة ناعمة موفورة.

دريني خشبة

ص: 77

‌من دروس البادية

محنة الرجولة

للأستاذ أديب عباسي

مرت السنون وتصرمت الأعوام، والأمير الكبير يلتمس رحمة المولى ويرتقب جداه ليهبه وارثاً من صلبه، يرث اسمه ويخلد ذكره، وينتهي إليه ماله وجاهه. بيد أن الأيام كانت كلها سواء في إذهاب الرجاء وتخييب الأمل، وأوشك الأمير أن يصفي ولما يجيء الوارث المرتقب.

غير أن المولى افتقد الأمير في سنة من سني يأسه، وحملت زوجته بعد طول الخيبة، ووضعت طفلة أسمياها (سلافة). ولم ييأس الأمير أو يبتئس إذ كان الوليد أنثى ولم يكن ذكراً. وماذا كان يرجو من الأيام ليبتئس بعد أن خاصمته في آماله وتجهمت له هذه الأعوام الطوال؟

ونشطت عواطف الأبوة قوية جائشة بعد طول الكبت وغياب الحافز، وهب الأب يريق على الصغيرة من عطفه وحبه ما صيرها سلواه وكل أمله في باقي حياته.

وشبت الصغيرة كما تشب بنات البادية غضة نضيرة، بقامة هيفاء وصحة مترعة؛ هذا إلى ما حباها الله وأفردها به إفراداً من جيد أغيد، وثغر أبلج، ووجنتين تفيضان بالحياة وتنضحان البشر نضحاً، إلى جبين مشرق نبيل يكلله ويزينه فرع أثيث وحف، ثم ما يتجمع جميع ذلك النور والسحر في مجتمعين للنور والسحر، ومن ثم كل ذلك الفيض فيهما من الفتنة القاسرة والقوة الآسرة.

هذا، ولم يدع الأمير وسيلة من وسائل التهذيب التي تيسرها البادية إلا اصطنعها في تهذيب (سلافة)، حتى غدت إذ شبت فتنة البادية، وحديث المجالس، ومدار الهواجس، ومطاف الأحلام في صدور الشباب. وذاعت شهرة الأميرة في طول البلاد وعرضها، وتواصفها الأمراء والأشراف، وأخذت تحوم حولها الأنظار، ويهطع إليها الخيال من جميع نواحي الطموح في البادية.

بيد أن الأمير اشترط على الخطاب الطامحين أن يجوزوا امتحاناً يعده لهم، ومن يفز فيه فاز بفتاته وأضحى الوارث الشرعي له في إمارته. وأما من فاته الفوز وخانه التوفيق

ص: 78

فيتلقى عقابه لوعة الحرمان ومرارة الفشل، ومائة جلدة وجز شعر الناصية؛ وأباح الأمير امتحانه هذا كل طامح بلا تفريق في الجاه أو المال أو الشهرة أو خلافها من وسائل التمييز.

وخشيت (سلافة)، مع هذه المساواة التامة بين الخاطبين، أن يجوز الامتحان غير كفء، وغير من تهوى وتحب، وقد يكون الفائز صعلوكاً من صعاليك البادية، أو ذئباً من ذؤبانها؛ وقد يكون أسود بغيضاً مرخي المشافر واللحيين؛ وقد يكون فتى مخنثاً فاتر العزم، باهت الرجولة؛ وثمة فللموت أهون عليها وأعذب.

فاتحت أباها فيما يساورها من مخاوف ويدب إليها من ريب، ولكن أباها الأمير طمأنها وأكد لها أن امتحانه لن يجوزه غير كفء، وأنها سوف تحمد له عاقبة هذا التدبير الذي يدبر.

جاء الخاطب الأول، وكان زعيماً ذائع الشهرة كثير المال، شريف المنتسب، حسن البزَّة والمظهر، وجاء يسوق بين يديه عديد الهدايا وأنواع الطرف، وقدمها وسيلة للأغراء والزلفى، وحلَّ ضيفاً كريماً على الأمير بعد أن كشف عن غرضه ومبتغاه.

واستقبله الأمير - كعادته مع جميع الأضياف - مرحباً مؤهلاً، ثم عمد إلى خير ناقه وأعزها عليه وعقرها ثم نحرها أمام البيت، ودعا إلى الوليمة أدنى من في الحي؛ وبعد أن نال الجميع من الطعام إلى حد الشبع ثم أديرت القهوة التفت الضيف الخاطب يخاطب الأمير:

أي أميرنا العزيز! لقد جئناك في (سلافة) درة البادية، وفتنة العقول، وغاية السول؛ فماذا ترى أن تضع بيننا من الحواجز، وماذا ترى أن تقيم بيننا من العقبات؟ لقد ملأ نفسي ذكر فتاتك، ولست بعائد ومؤيدي بعد الله همتي إلا بها.

فأجاب الأمير: على رسلك يا ضيفنا العزيز! إن ضيفنا يقيم بيننا أياماً عشرة، ثم يكون الامتحان، وعندها إما (سلافة) له، وإما المائة جلدة والشعر المجزوز.

ولم يسع الخاطب الطامح إلا الإذعان والصبر حتى يحل اليوم الموعود.

وفي صبيحة اليوم التالي عمد الأمير إلى ناقتين من خير ناقه ليجزرهما كاليوم الفائت، وهنا أراد الضيف الخاطب أن يعارض الأمير ويمنعه أن يعقر ناقتيه محتجاً بأن في جزور البارحة الكفاء وان نحرهما إسراف وإتلاف للمال لا مبرر لهما. إلا أن أميرنا لم يجبه بشيء ومضى يعقر الناقتين ويجزرهما ويعد الوليمة، وعند الظهر أقبل المدعوون من أدنى

ص: 79

الحي وأواسطه وتناولوا الطعام مع ضيف الأمير. ومضى الأمير يفعلها كل صباح ويزيد العدد المنحور ناقة ناقة إلى اليوم العاشر؛ ومضى الضيف يزداد لجاجة في الاحتجاج وإلحافاً على الأمير أن يقتصد في ماله فلا يتلفه هذا الإتلاف، ولكن بلا جدوى.

وتقدم الضيف بعد اليوم العاشر بطلب إلى الأمير أن يجري امتحانه، فلقد طال ثواؤه وعيل صبره وافتقده أهله، ولكن كم دهش وكم حلَّ عزمه اليأس والخيبة إذ فاجأه الأمير:

أي ضيفنا! يعز علينا أنك خسرت الرهان وفاتك الفوز، فلتذعن إذا لجزائي المفروض وتستكن.

عندها أجاب الخاطب المحنق محتجاً بأنه لم يجر عليه امتحان ليعد فاشلاً يستحق العقاب، وطلب إلى الأمير أن يفسر له ما يدعي إن يكن يروم الإقناع بالدليل والبرهان، ولكن الأمير أصر على أنه خسر الرهان وأن ليس حاجة إلى التفسير ثم أشار إلى غلمانه أن يتسلموه. . .

وقام صاحبنا ينكث أذياله وغادر الحي بناصية مجزوزة، ومائة أثر في ظهره لمائة جلدة، وصدر يغلي بالحقد ومرارة الفشل، واعتقاد جازم أن بصاحبه الأمير لما أو لمماً إن لم يكن ذا جنة وخيال.

وذاع أمر المحنة والجزاء ثم ما أصاب أول الخاطبين من جز الشعر والضرب الأليم. إلا أن ذلك لم يوئس الخطاب بادئ الأمر ولم يمنعهم من الوفود على الأمير علهم ينجحون من حيث فشل صاحبهم. على أن نصيبهم لم يكن بخير من نصيب أولهم، فكلهم كان يعود باللمة المجزوزة والظهر المجلود، ولولا أن الأمير كان برجاله وفروسيته عزيز الأبطال لكان لهم معه شأن غير ذلك الشأن، ولنالوا منه بحد السيف ما فاتهم بالامتحان.

وبعد الفشل المتوالي الذي مني به عديد الخطاب تجافى الخاطبون مضارب الأمير وعافوا الوفود عليه خاطبين، إلا فتى شريفاً جاء من أطراف البادية وآلى ألية لينالن سلافة أو يقتلن أباها ويربح البادية من عتوه أو يهلكن على حد السيوف دونهما.

ولم ير فتانا أن يثقل كاهله بنفيس الحلل وغالي الثياب، ولم يسق بين يديه الهدايا والطرف، واكتفى ببزة بسيطة وتخفف من كل ما يحمل المسافر إلا سيفه القاطع وبعض الزاد، وسار يغذ السير أياماً إلى أن وافى الأمير وحل ضيفاً عليه وأبان غايته من الوفود عليه.

ص: 80

وشرع الأمير كدأبه مع جميع الخاطبين، ينحر الجزر يوماً بعد يوم والفتى صامت لا يعترض ولا يجادل، ولا يتكلم إلا حيث يجمل الكلام، ويصمت حيث يجب الصمت.

وقد اجتذب فتانا بحسن سمته وقلة حديثه عن نفسه أنظار القوم وأيقنوا بأنه فتىً يختلف أبين الاختلاف وأشده عن بقية الخطاب، فلا ظهور ولا إدلال بالجاه ولا غرور ولا شيء من ذلك الذي كان يضيفه أولئك الخطاب إلى شخوصهم ليتقربوا به زلفى إلى الأمير. هذا إلى رجولة صريحة وفكر موزون ونبل ظاهر. وصار همَّ الجميع أن يجوز الفتى الامتحان المقيد ليكون هو وارث أميرهم والمؤمر عليهم بعده.

وبلغت أوصاف لفتى وذكر شمائله خدور النساء، وأضحى اسمه لديهن ملء الأفواه والأسماع. ولم تكتف سلافة بالسماع وكثيراً ما يفتن، وأرادت أن تشاهد هذا الفتى الموصوف وترى هل يصدِّق الخبر عنه الخبر أو لا يصدِّق. وانتحت ناحية خفية من بيت الأمير الواسع وأخذت تتقرى الرجال وتتفرس في الملامح وتصغي إلى الحديث، إلى أن وقع بصرها على الفتى الموصوف. . . .

وفجأة شعرت أن قلبها يخفق أكثر مما اعتاد أن يخفق، وخيل إليها كان رئتيها لا تتسعان لكل ما تريد أن تدفعه إليهما من الهواء، وشعرت كذلك كأن هذا الفتى قليل الكلام يتحدث إليها ويخاطبها أعذب الخطاب. . . وخشيت إن هي بقيت حيث هي أن يشي بها اضطرابها أو تنم عليها أنفاسها المتهدجة، ويعلم القوم أن فتاتهم الرصينة الخفرة قد خفت ورعنت فجاءت تشهد خطابها خلسة من وراء السجوف، فتركت مكانها وفي قلبها كالسهام من العواطف المتباينة المتأججة، فثمة هذا الحب المفاجئ الذي أخذ عليها جميع مسارب الشعور؛ وثم خشيتها أن يفشل الفتى في الامتحان - إن يكن ثمة امتحان - وأخيراً إحساس قوي باللوم لهذا الأب المتعنت الذي لا يرضيه من الفتى ما رأى ورأى الجميع إلا أن يجوز الامتحان. وفي الحق لقد بدأ يخامر سلافته أن أباها إنما يصطنع هذه الأساليب الغريبة لينفر الخطاب وليبقيها عانساً يتأكلها الجوى ويغويها الحرمان. والمحب - كما تعلم - إذا أحب حباً قوياً فقد التمييز واختلطت عليه الأفكار، ولا عجب إذن أن تنتهي في أبيها الذي يعبدها إلى مثل هذا الرأي الغريب.

حل اليوم العاشر وأوشك أن يزول، فقام الأمير يوجه الحديث إلى فتانا وقال: أيها الفتى

ص: 81

النبيل، هل أنت مستعد لامتحاني أن أنت تخشى العاقبة فتعود سالماً لا لك ولا عليك؟ فأجاب الفتى باختصار وحزم: إني لعلى استعداد. وعندها أقبل الأمير على قومه يخاطبهم: أهنئكم يا رجالي بوارثي العتيد وأهنئ نفسي. ثم التفت إلى الفتى وخاطبه: أهنئ بك سلافة وأهنئها بك. فلأنت خير من يستأهلها يا بني وهي خير من يستأهلك.

ووجم الجميع إلا سلافة التي برزت من وراء الخباء (إذ كانت جاءت خفية لتشهد المحنة) وخاطبت أباها عابثة أو كالعابثة:

أي أبت، كيف تتعجل وتسميني لهذا الفتى ولما يجز الامتحان بعد؟ فهلا أبقيت ذلك لنرى مبلغ همته ومقدار رجولته التي سيتكشف لنا عنها في ذاك الامتحان؟

فأجاب الأب، أي بنيتي العزيزة، لقد حاز فتاك الامتحان من حيث لا يعلم ولا تعلمين. جاءنا هذا الفتى الشريف مستبهماً لم يسم نفسه قط ولم ينتسب، ثم هو لم يحاول أن يدهشنا بثروته وجاهه وإن يكن له من ذلك الشيء الكثير (كما دلني على ذلك العيون وعيناي)، لقد جاءنا واثقاً من نفسه واثقاً أنه أهل لك دون أن يضيف إلى شخصه الأسماء الكبيرة والمال الوفير والدعوى العريضة. ثم ألم يبلغك كيف لم يعارض ولم يجادل فيما حاولنا أن نغمره ونحرجه به من وسائل الإكرام، شأن الخطاب الآخرين لنرى ما هو قدر نفسه عند نفسه؟ ولو كان رأيه في نفسه كرأيهم في نفوسهم وإن حاولوا الظهور بخلاف ذلك، لفعل فعلتهم وناله مثل ما نالهم. ولكن هو المحتد الكريم يأبى ألا أن يظهر ويستعلن. ثم أليس في سكوته دون الذي حاولنا من غمره بأسباب الإكرام ما يدل على أن فضيلة الكرم هي طبع فيه وسجية فلا يستهولها في غيره؟ أو لم يكن استهوال الخطاب الآخرين مظاهر الجود والكرم التي رأونا نغمرهم بها دليلاً لا يخطئ على أنهم ليسوا الكرام الذين يدعون؟ أليس المقل من المال أو الشحيح هو الذي يستكثر أعطيات الناس ومظاهر جودهم؟

ولم يبق بعد هذا التفسير من لم يقتنع بخطة الأمير الحكيمة وأسلوبه المبتكر في امتحان الرجال. وفي اليوم التالي عقد للفتى على فتاته بين أشد مظاهر الغبطة والحبور. وقضياها حياة مديدة هي السعادة والهناء.

أديب عباس

ص: 82

‌البريد الأدبي

المباحث الأثرية الأولمبية

من أنباء ألمانيا الأخيرة أن الهير هتلر، أعلن أن الحكومة الألمانية قررت لمناسبة عيد الألعاب الأولمبية أن تستأنف المباحث الأثرية في أولمبيا (من أعمال مقاطعة بلوبنيس اليونانية). وقد كانت أولمبيا منذ نحو ألفي عام مستودع التماثيل والذخائر اليونانية المقدسة، وكانت ساحاتها معرضاً للحفلات الرياضية الشائقة. وفي عهد الإمبراطور تيودوسيوس الروماني في القرن الرابع الميلادي منعت الألعاب الأولمبية، وخربت الهياكل الدينية، ونقلت تماثيل الآلهة إلى قسطنطينية بعد ذلك، وفي القرن السادس وقعت زلزلة هدمت كثيراً مما بقي من الهياكل الأولمبية.

وكان أول من لفت النظر إلى البحث في الأطلال الأولمبية العلامة الفرنسي برنار دي مونفو كون في أوائل القرن الثامن عشر. ثم تلاه العلامة الألماني فنكلمان ونظم بعثة للقيام بالحفريات والمباحث الأثرية في أولمبيا، ولكن الموت عاجله وهو في طريقه إلى اليونان. وفي سنة 1829 أوفدت الحكومة الفرنسية حملة إلى اليونان لمعاونتها في حرب التحرير، فقام بعض أفرادها بالحفر في أولمبيا. وفي سنة 1852، قام العلامة الألماني أرنست كورتيوس - وقد كان أستاذاً للتاريخ القديم - بدعوة قوية للبحث في أولمبيا، واستطاع أن يحمل تلميذه القيصر فريدريش الثالث على تنفيذ مشروعه؛ وأقر البرلمان الألماني الاعتمادات اللازمة؛ وقامت بعثة ألمانية بالحفر في أولمبيا بين سنتي 1875 و1881؛ واستطاعت أن تكشف عن ساحة (التس) الشهيرة برمتها، وظهرت أيضاً أطلال معبد زيوس القديم؛ وكان أعظم اكتشاف وفقت إليه لبعثة تمثال (هرميس) الذي صنعه المثال الأشهر (براكستليس) ووصفه الرحالة باوزنيوس في رحلته، ووجدت أيضاً نحو سبعمائة قطعة أثرية مختلفة. وقامت بعد ذلك بعثات مختلفة أخرى بالحفر في أولمبيا؛ وعثرت بآثار كثيرة، ولكن ما يزال هنالك مجال عظيم للبحث والحفر.

وتزمع الحكومة الألمانية أن توفد في القريب العاجل بعثة من علماء الآثار لاستئناف المباحث الأولمبية، وسوف تزوده بجميع الاعتمادات التي تعاونها على القيام بأعمال واسعة النطاق.

ص: 83

في أكاديمية الآثار والآداب

ألقى مسيو كلود شيفر رئيس البعثة الأثرية السورية في أكاديمية الآثار والآداب الفرنسية خطاباً عن النتائج التي انتهت إليها مباحث البعثة في رأس شمرا وخلاصتها أنه قد اكتشف حي جديد من مدينة أوجاريت عاصمة مملكة أوجاريت التي ترجع إلى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، ووجدت عدة وثائق مكتوبة وقطع فنية من آثار هذا العهد؛ ووجدت بالأخص إلى جانب أوجاريت أطلال مدينة قديمة يطبعها الطابع الفرعوني وترجع إلى نحو الأسرة الثامنة عشر. كما وجدت عدة ألواح مكتوبة بخط غير معروف يظن أنه قلم أوجاريت في هذه العصور.

مؤتمر نسوي في باريس

عقد في باريس في السادس والعشرين من يوليه مؤتمر دولي للنساء ذوات الأعمال والمهن، واستمرت أعماله أسبوعاً؛ وقد اجتمع فيه نحو مائتي مندوبة يمثلن أربعاً وعشرين دولة؛ ومثلت الولايات المتحدة السيدة فرنسيس بركنس وزيرة العمل؛ وقد استقبلتها الحكومة الفرنسية بصفة رسمية، على يد مدام برونشفيج ممثلة لوزارة الخارجية؛ وأقيم احتفال رسمي لتكريم المندوبات في وزرة الخارجية؛ وكان أهم الموضوعات التي ألقيت في المؤتمر خطاب للسيدة بركنس تحدثت فيه عن (الحكومة والعمل) وتناول المؤتمر كثيراً من المسائل والموضوعات المتعلقة بالمهن والحرف التي تزاولها المرأة وحقوقها في ذلك الميدان، وما تصدره الأمم المختلفة من القوانين في هذا الشأن.

مؤتمر تقدم العلوم

عقد في شهر يوليه في مرسيليا مؤتمر تقدم العلوم، ومثل فيه العلماء الفرنسيون من كل فن، الطب والهندسة والكيمياء والرياضيات وغيرها. وألقيت فيه مباحث مختلفة عن أحدث النظريات العلمية؛ وكان مما لفت الأنظار بنوع خاص الأبحاث التي قامت بها لجنة الهندسة البحرية التي تدور بالأخص حول هندسة المواني الحديثة المدنية والحربية، وألقيت مباحث هامة أخرى في الطب والنبات والحيوان وغيرها.

كتاب عن السحر

ص: 84

صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن السحر عنوانه (الفن الأسود) ومؤلفه مستر (رولو أحمد). وقد اختار المؤلف لكتابه عنوان: (الفن الأسود) لأن اللون الأسود كالسحر في مختلف العصور، يقترن في أذهان الناس بالخشية والروع؛ ويقول لنا المؤلف: إن السحر معروف عند الإنسان في عصور ما قبل التاريخ، يدل على ذلك طائفة من الرسوم الحجرية التي وجدت في بعض الكهوف؛ وقد كان المصريون القدماء أساتذة في (الفن الأسود) وكان له عندهم المقام الأعلى؛ وكذلك عرف السحر جميع الأمم القديمة مثل الكلدانيين والآشوريين واليونان والرومان وغيرهم.

ويستعرض المؤلف تاريخ السحر منذ العصر القديم إلى عصرنا، ويحاول أن يشرح أساطير السحر ووسائله؛ وأهم قسم في الكتاب هو المتعلق بالسحر في العصور الوسطى، فهنا يجد المؤلف مجالاً كبيراً للتحدث، ويصف لنا كيف ذاعت فكرة الشيطان في تلك العصور إلى حدود مدهشة، وكيف كانت تمثل في كل شيء في الحياة العقلية والدينية.

وقد زين المؤلف كتابه بطائفة كبيرة من الرسوم والنقوش والتعاويذ السحرية.

وفاة راقصة شهيرة

توفيت في أواخر يوليه فنانة كبيرة هي الراقصة والموسيقية الكبيرة (ارجنتينا)، ولم تحرر راقصة في عصرنا من الشهرة الفنية بعد الراقصة الروسية الشهيرة آنا بافلوفا؛ قدر ما أحرزت (ارجنتينا). وكان ظهورها على المسرح في أوائل هذا القرن حيث ظهرت لأول مرة في بروكسل ولفتت الأنظار بروعة فنها وابتكارها. ولم تكن ارجنتينا راقصة فقط، بل كانت موسيقية بارعة؛ ولما ذاعت شهرتها أخذت تطوف مسارح العالم الكبرى، في باريس، ولندن، وأمريكا، وغيرها وهي تثير الإعجاب أينما حلت؛ وكانت في فنها، أي الرقص الأندلسي القديم قرينة بافلوفا، وفي رقصتها الشهيرة (احتضار البجعة). وكانت أبرع راقصة في استعمال الصنج (الصاجات) الأندلسية. وكانت ارجنتينا مثل زميلتها بافلوفا تحتفظ ببراعتها ورشاقتها حتى أعوامها الأخيرة، أعني وهي في حدود الخمسين. وكانت وفاتها في مدينة بايون على مقربة من بيارتز حيث كانت تمضي معظم أوقاتها في قصر بديع هنالك.

ص: 85

وقد أحرزت ارجنتينا كثيراً من آيات التقدير لفنها وبراعتها ومن ذلك أن الحكومة الفرنسية أنعمت عليها بأرفع وسام من اللجيون دونير.

كتاب عن أرنولد بنيت

لم يمض قليل على وفاة الكاتب الإنجليزي الكبير أرنولد بنيت حتى ظهرت عنه عدة تراجم وكتب نقدية. منها كتاب ظهر أخيراً بقلم النقادة سيمونس بعنوان (أرنولد بنيت وقصصه) وهو عرض نقدي مستفيض لآثار الكاتب الراحل، وتلخيص بديع لقصصه، وتعليق ممتع على خواص تفكيره وأسلوبه؛ ويبدي المستر سيمونس في عرضه مقدرة فنية واضحة، ويتتبع العوامل والمؤثرات التي اشتركت في تكوين أرنولد بنيت، ويقول لنا إنه تأثر بالأدبين الفرنسي والروسي، فكان من أساتذته هوسمان، والأخوان جونكور، وموباسان، وتورجنيف وتولستوي؛ ويرد مستر سيمونس على نقدة بنيت من قبله ولا سيما مستر بريستلي الذي اشتهر بشدته في نقد بنيت، ولكن مما يلاحظ أن مستر سيمونس يميل إلى التنويه بمحاسن بنيت والإشادة بخواصه ومقدرته، وقلما يحس جوانب الضعف فيه، وهو من هذه الناحية يغفل قاعدة النقد الصحيح: ويؤيد هذا التحيز إلى بنيت حملاته على جميع نقدته السابقين؛ وينكر مستر سيمونس بشدة ما يسنده بعض النقدة، ولا سيما الكاتبة الشهيرة فرجينيا وولف، إلى بنيت من الميول المادية في الكتابة والتوجيه، بيد أن الكتاب في مجموعه عرض حسن لآثار بنيت يقدم عن الكاتب وآثاره فكرة واضحة، وقد لخصت فيه كل كتبه الهامة تلخيصاً وافياً، وكتب بأسلوب علمي بليغ، يشهد لمؤلفه بمقدرة نقدية لا شك فيها.

ص: 86