الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 165
- بتاريخ: 31 - 08 - 1936
فلنتعصب.
. . .!
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال صاحب سر (م) باشا: جاءني يوماً صحفي إنجليزي من هؤلاء الكتاب المتعصبين الذين تطلقهم إنجلترا كما تطلق مدافعها؛ غير أن هذه للبارود والرصاص والقنابل، وأولئك للكذب والتهم والمغالطات؛ وهو أُذُنٌ وعينٌ ولسانٌ وقلم لجريدة إنجليزية كبيرة معروفة بثقل وطأتها على الشرق والإسلام؛ تصلح بإفساد، وتداوي الحمى بالطاعون، وتعمل في نهضة الشرقيين واستقلالهم ما يشبه قطع ثدي الأم وهو في شفتي رضيعها المسكين.
ودخل عليّ هذا الكاتب في الساعة التي خرج فيها من غرفتي صاحب جريدة أسبوعية في مدينتنا؛ وكان قد نفخ الضفدع ليجعلها ثوراً فحول صحيفته إلى جريدة يومية وهو لا يجد مادتها ولا يستطيع أسبابها، إلا أنه كدأب الناس عندنا كان يحسب الكذب في العمل سهلاً مهلاً كالكذب في القول، فلم يتعاظم للأمر العظيم، واقترض لعمله كل ألفاظ النجاح من اللغة. . . .
وظن عند نفسه أنه سيخوّف بجريدته الكبراء والأعيان والمياسير حتى يغلب على جميعهم ويشرك أصابعه مع أصابعهم في استخراج ما يحتاج إليه من جيوبهم، فلم تعش جريدته إلا أياماً وأتلف ما جمع، ورهن فيها داره التي لا يملك غيرها. وعلم آخرا أن الذي يكذب فيسمي الخروف جملاً، لا يقبل منه أن يكذب على الكذب نفسه فيزعم أن الناقة هي التي نتجت هذا الخروف. . . . .
ولما انقلبت هذه الجريدة يومية كان الباشا هو ملجأ الرجل ووَزَره، وكان لكل يوم في الجريدة أخبار عن الباشا لا تقع في الدنيا ولا تجمع من الحوادث، ولكن تقع في ذهن الكاتب، وتجمع من صناديق الحروف، حتى قال لي الباشا مرة: إن اسمي قد أصبح موظفاً في هذه الجريدة لجمع الاشتراك. . . .
وتحرَّى هذا الصحفي أن يستأذن يوماً على الباشا وفي مجلسه حشد عظيم من السراة والأعيان والعمد، وكان جمعهم لأمر، فما هو إلا أن دخل الصحفي حتى ابتدره الباشا بهذا السؤال: يا أستاذ. ما هي تلغرافات أوربا عن الحوادث التي ستقع غداً. . . .؟
فضج المجلس بالضحك وفقد المسكين بهذه النكتة أربعين ديناراً كان يؤمل أن يخرج بها،
وأعلن الباشا في أظرف إعلان وأبلغه كذب الرجل ونفاقه وإسفافه وأنه من رجال الصحافة المدَّورة تدوير الرغيف. . .
قال: ونظرت إلى الصحفي الإنجليزي نظرة أكشفه بها فإذا أول الفرق بينه وبين أمثاله عندنا - شعوره أن بلاده قد ربته (للخارج) فهو عند نفسه كأنه إنجليزي مرتين؛ ويأتي من ذلك إحساسه بعزة المالك وقوة المستعمر فلا يكون حيث يكون إلا في صراحة الأمر النافذ أو غموض الحيلة المبهمة؛ ويستحكم بهذا وذاك طبعه العملي، فهو بغريزته مقاتل من مقاتلة الفكر يلتمس ميدانه بين القوى المتضاربة لا يبالي أن يكون فيه الموت ما دام فيه العمل؛ وبهذا كله تراه نافذ البصيرة قائماً على سواء الطريق، لأن الإنجليزي الباطن فيه يوجِّه الإنجليزي الظاهر منه ويسانده؛ وفي أعماق الاثنين تجد إنجلترا وليس غير إنجلترا.
ثم تفرَّست في الرجل أريد كُنهَه وحقيقته فإذا له نفس مفتوحة مقفلة معاً كغرف الدار الواحدة يفتح بعضها لما فيه كيما يرى، ويقفل بعضها على ما فيه كيلا يرى. وله وجه عملي يكاد يحاسبك على نظراتك إليه، تدور في هذا الوجه عينان قد اعتادتا وزن الأشياء والمعاني، يتلألأ في هاتين العينين شعاع النفس القوية الممرَّنة قد نفت الثقة بها نصف هموم الحياة عن صاحبها، تُمِدُّ هذه النفس طبيعة مؤمنة بأن أكبر سرورها في أعمالها، فواجبها في الحياة أن تعمل كل ما يحسن بها وكل ما يحسن منها.
لقد خيل إلي وأنا أنظر إلى نفسية هذا الإنجليزي أن كلمة الخيبة عند هؤلاء الإنجليز غير كلمة الخيبة عندنا نحن الشرقيين، فإن خيبة النفس لا تتم معانيها أبداً في النفس العاملة الدائبة التي يشعرها الواجب أنه شيء إلهي لا يخيب، وأن ما يرفض على هذه الأرض من العمل الطيب لا يرفض في السماء.
وكأن الرجل قد أدرك غرضي بملكته الصحافية الدقيقة فأجابني عن السؤال الذي لم أسأله وقال لي مبتدئاً: إن أساسنا الشخصية وحاسة الواجب؛ وإن فيكم أنتم كل شيء إلا هذين. فأخلاقنا تظهر دائماً في العمل، وأخلاقكم تظهر دائماً في الكلام الفارغ؛ ونحن نطلب الحقيقة وأنتم تطلبون الألفاظ، حتى إنه لو خسر المصري ألف دينار ثم أعلن أنها مائة فقط وصدق الناس أنها مائة، لكان عند نفسه كأنه ربح تسعمائة. . . .
قال صاحب السر: واستأذنت له على الباشا فسهل ورحب؛ ثم هممت بالانصراف عنهما
ولكن الإنجليزي قال: يا باشا! إنه قد تمكن في روعي أن صاحب سرك هذا متعصب ديني، وقد علمت أنه ابن فلان القاضي الشرعي فطربوشه ابن العمامة؛ ولقد كان ينظر إليّ وكأنه يتأمل من أين يذبحني. . .
فضحك الباشا وقال لي: يا فلان! إن هذا الكاتب من تلاميذ برناردشو، فهو كأستاذه يجعل لكل حقيقة ذَنَباً كذيل الهر ثم يمسكها منه فإذا هي تعضَّ وتتلوى. . .
والتفت بعد ذلك إلى الإنجليزي ثم قال له: جاءني كتابك فإذا كنت تريد رأيي فيما تسميه التعصب الديني عند المسلمين فعجيب أن تضعوا أنتم الغلطة ثم تسألونا نحن فيها. إنك لتعلم أن هذا التعصب الكذب الذي أكثرتم الكلام فيه إنما هو لفظ من ألفاظ السياسة الأوربية أرسلتموه إلينا ليقاتل لفظ التعصب الحقيقي؛ ومن قبل هذا اخترعتم لفظة (الأقليات) وأجريتموها في لغتكم السياسية لتجعلوا بها لتعصبنا الوطني شكلاً آخر غير شكله فتفسدوه علينا بهذه المادة المفسدة؛ وبذلك تضربون اليد اليمنى من غير أن تلمسوها إذ تضربونها بشل اليد اليسرى.
إن الإسلام في نفسه عدو شديد على التعصب الذي تفهمونه، فهو يقول لأهله في كتابه العزيز:(كونوا قوامين بالقسْط شُهداءَ لله ولو على أنفسكم أو الوالدَيْن والأقربين).
فإذا كان العدل في هذا الدين عدلاً صارماً وحقاً محضا لا يميز بشيء البتة، لا ذات النفس التي فبها اشتهاء الدم، ولا أصلها من الأبوين اللذين جاءت منهما وراثة الدم، ولا أطرافها من الأقربين الذين يلتفون حول نسب الدم - إذا كان هذا فأين في هذا العدل محل الظلم؟
لعلك تشير إلى هذه الرعونة التي تعرفها في الأغمار والأغفال من العامة، فهذه ليست من أثر الدين بل هي أثر الجهل بالدين. إن هذا ليس تعصباً بل هو معنى من معاني الحَمِيَّة النفسية الخرقاء لم تجدوا أنتم له لفظاً، وكان أقرب الألفاظ إليه عندكم هو التعصب فأطلقتموه عليه للمعنى الذي في نفسه والمعنى الذي في أنفسكم. ألا فاعلم أن إسلام العامة اليوم هو كالعدوى المقبولة شكلاً والمرفوضة بعد ذلك.
قال الإنجليزي: ولكن لهؤلاء العامة علماء دينيين يدبرونهم من ورائهم وهم عندكم ورثة النبي (ص) أي منبع الفكرة وقوتها.
قال الباشا: غير أن هؤلاء قد أصبحوا كلهم أو أكثرهم لا يندسُّ فيهم عرق من تلك الوراثة،
وذلك هو الذي بلغ بنا ما ترى. فالقوم إلا قليلاً منهم كالأسلاك الكهربائية المعطلة لا فيها سلب ولا إيجاب؛ ولو أن هؤلاء العلماء كانت فيهم كهرباء النبوة لكهربوا الأمم الإسلامية في أقطارها المختلفة. إذن لقام في وجه الاستعمار الأوربي أربعمائة مليون مسلم جلد صارم شديد متظاهرين متعاونين قد أعدوا كل ما استطاعوا من قوة العلم وقوة النفس، وهو لو قذف كل منهم بحجرين لردموا البحر. . .
أتريد معنى التعصب في الإسلام؟ إنه بعينه كتعصب كل إنجليزي للأسطول، فهو تشابك المسلمين في أرجاء الأرض قاطبة وأخذهم بأسباب القوة إلى آخر الاستطاعة لدفع ظلم القوة بآخر ما في الاستطاعة.
وهو بذلك يعمل عملين: استكمال الوجود الإسلامي والدفاع عن كماله.
وإذا أنت ترجمت هذا إلى معناه السياسي كان معناه إصرار جميع المسلمين على نوع الحياة وكرامتها لا على استمرار الحياة ووجودها فقط. وذلك هو مبدؤكم أنتم أيها الإنجليز لا تقبلون إلا حياة السيادة والحكم والحرية فأنتم مسلمون في هذا المبدأ لو عدلتم.
أليس من البلاء أن المسلمين اليوم لا يدرس بعضهم بلاد بعض إلا على الخريطة. . . مع أن الحج لم يشرع في دينهم إلا لتعويدهم دراسة الأرض في الأرض نفسها لا في الورق، ثم ليكون من مبادئهم العملية أن العالم مفتوح لا مقفل؟
إن التعصب في حقيقته هو إعلان الأمة أنها في طاعة الشريعة الكاملة، وأن لها الروح الحادة لا البليدة، وأن أساسها في السياسة الاحترام الذاتي لا تقبل غيره، وأن أفكارها الاجتماعية حقائق ثابتة لا أشكال نظرية، وأن مبدأها هو الحق ولا شيء غير الحق، ون قاعدتها (لا يضركم من ضلَّ إذا اهتديتم) فالهداية أولا والهداية أخيراً: الهداية في القوة والهداية في السياسة والهداية في الاجتماع. فقل لي بحياتك وحياة إنجلترا: أيعاب ذلك على المسلمين إلا بالألفاظ التي يعيب اللص بها أهل الدار لأنهم يحكمون في وجهه إقفال الباب. . .؟
قال: فوجم الإنجليزي حتى ذهل عن نفسه وصاح:
إذا كان هذا فلنتعصب فلنتعصب.
(سيدي بشر. إسكندرية)
مصطفى صادق الرافعي
السيارة المسروقة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(إن من الواضح أن تربيتك ناقصة. . . ناقصة جداً. . . هذا أنا - بجلال قدري - أكلمك منذ عشر ساعات وخمس وعشرين دقيقة وثلاث وأربعين ثانية وأنت لا تجيبين. . .).
فقالت زوجتي أخيراً، وألقت ما بيدها - وكان شيئاً تطرزه - أو لا أدري ماذا تصنع به -:(إني لست اليوم كفئاً لك ولهزلك، فاسكت من فضلك!).
قلت: (هذا بديل جميل من الاعتذار!. . . ألا تستحين يا امرأة؟. . ثم ما هذا الذي تتشاغلين به عن التقاط الحكمة من فم سيدك وتاج رأسك وبعلك؟).
قالت: (أرجوك!. أرجوك يا مسلم!! ثم إن الطباخة خرجت!. . .).
فانتفضت واقفاً وصحت: (نهارها أسود! لماذا؟).
قالت: (استحسن زوجها أن يكون ذهابها إليه يوم الجمعة بدلاً من يوم الأحد).
فانحططت على الكرسي وقلت: (ووافقت أنت بالطبع. .).
قالت: (وماذا أصنع غير ذلك؟ وقد أصرا على يوم الجمعة، فلو رفضت لفارقتنا، ولعدنا إلى حيرتنا القديمة).
قلت: (يا امرأة. . . . هل تعرفين أني أتضور في هذا البيت؟. . . يوم الجمعة الذي أستريح فيه، وأظل أحلم طول الليل بما أطمع أن أنعم فيه من الآكال؟؟ أوه! إن هذا لا يطاق! هذه. . . هذه. . . هذه. . . نعم هذه بلشفية صريحة! ومع ذلك تزعم الحكومة أنها تكافحها! ما عيب يوم الأحد بالله؟ لماذا يجب - حتماً - أن تكون بطالتها يوم الجمعة لا غيره؟. . .).
فضجرت زوجتي وبدأت تنفخ، وقالت:(ألا تسكت؟ مالك أنت؟ إن لك أن تأكل والسلام. . . ثم إنها مسلمة، وكذلك زوجها، فيوم الجمعة أوفق لهما).
قلت: (وهل من الضروري أن تتزوج هذه الدميمة وذلك المغفل؟).
قالت - وهي تتمطى -: (إني أشعر بفتور وخدر، فأعفني بالله من وجع الدماغ، وحسبي هم إطعامك في هذا اليوم الثقيل. . . .).
قلت - وقد خطرت لي فكرة -: (اسمعي أقل لك).
قالت - وهي تضحك - وهل تراني اليوم هنا إلا لأسمع. . تفضل يا سيدي ونور عيني. . . وماذا أيضاً؟).
قلت: (وتاج رأسك! اسمعي. . . إن الفتور يغشي جسمك كما تقولين، وأنا رأسي يكاد يطير مذ عرفت أن هذه الطباخة الكريهة الوجه قد تخلت عنا في يومنا هذا، فما قولك في أكلة ناشفة خفيفة نصنعها هنا أو نشتريها؟).
فقالت وقد لمعت عينها: (لماذا؟).
قلت: (وندعو لولو وسيلما - من أقربائنا - ونذهب جميعاً ومعنا الأولاد إلى القناطر الخيرية، فنقضي يوماً هناك بين الخضرة والماء).
قالت: (ولكنه سينقصك الوجه الحسن).
قلت: (يا خبيثة. . . . . . . هل تظنين أني تزوجتك وأنا مغمض العينين؟).
وحشرتهم جميعاً في السيارة، ودسست السلة التي فيها الطعام والشراب في مكان مجعول لما يحمل المسافر من زاد ومتاع، وكانت الساعة الثانية مساء حين انطلقنا فبلغنا القناطر بعد نصف ساعة، فحملنا أشياءنا وتركنا السيارة في حراسة رجل من الواقفين هناك المستعدين لمثل هذه المهمات، وتخيرنا مكاناً يشرف على الماء وتظلله أشجار باسقة وبسطنا السجادة وألقينا عليها صفحات من جرائد الصباح والمساء ووضعنا عليها الصحون والصواني ثم شرعنا نأكل. ولم يكن الطعام فيما يبدو لعيوننا الفارغة كثيراً، فجعل بعضنا يخطف من بعض، فكانت ألذ أكلة وأهناها، ثم طرحنا الوسائد على السجادة واستلقينا، فنام من نام. ولما آذنت الشمس بالغروب ركبنا زورقاً في ترعة أشمون، ثم بدا لنا أن نعود لندرك (الشيخ رفعت) وهو يتلو القرآن الكريم - فما نحب أن يفوتنا ذلك منه قط - فرجعنا إلى حيث السيارة. . فإذا بها اختفت!!؟
بهتُّ حين رأيت مكانها خالياً، فوقفت كالصنم وأقبلت علي زوجتي تسألني وتهز ذراعي، فقلت لها وقد أفقت قليلاً (نعم. . هزي ذراعي. . بقوة. . إن بي حاجة إلى الشعور بأني لست أحلم وأن هذا ليس كابوساً. .).
قالت: (أين ذهبت؟).
قلت: (فتشيني!. . لقد كانت هنا. . تركتها في هذا المكان وليس في الأرض ما يدل على
أنها انشقت وابتلعتها. . . ولست أعرف أن لها أجنحة فلا يمكن أن تكون طارت. . إن الطريقة الصحيحة للاهتداء إلى الحقيقة هي أن يبدأ المرء بنفي كل الاحتمالات غير المعقولة - كما ترينني أصنع الآن).
فصاحت (لولو): (لقد سرقها اللصوص).
فصحت بها: (تالله ما أذكاك يا فتاتي!! كيف لم نفطن إلى هذا بمثل هذه السرعة المدهشة؟).
فقالت لولو: (وماذا تكون مزية العبقرية وفضيلتها إذن؟).
قلت: (صدقت يا فتاتي النابغة. .).
فقالت زوجتي مقاطعة: (أهذا وقت الكلام الفارغ؟. ألا تفكرون في طريقة لاستردادها؟).
فقلت: (آه. . هنا أيضاً عبقرية ولكن من ضرب آخر، ضرب عملي لا يرتاح إلى النظريات. . عبقرية يمكن أن ننعتها بأنها نابليونية؛ ولست أرى أنه ينقصنا - لنوقن من أن السيارة عائدة بإذن الله - إلا ضرب ثالث).
فقالت زوجتي متهكمة (نعم يا سيدي. .؟).
قلت بحدة: (لا تتهكمي يا امرأة. . نعم ينقصنا الضرب الشِّرلُكْمُزِي).
فصاحوا جميعا: (إيه؟).
فقلت: (أعوذ بالله!! ما لكم تصرخون هكذا؟. نعم الشرلكمزي. . يا جهلة. . لو كنتم تعنون بتثقيف عقولكم الفارغة قدر عنايتكم بخلافي والمكابرة معي وإنكار نعمتي عليكم وجحود فضلي. . لعرفتم أن الشرلكمزي نسبة إلى شرلوك هولمز) فقالت زوجتي وهي تضع كفها على فمي: (طيب اسكت بقى!).
فلثمت راحتها وسكت - كما أمرت!
وقال سليم - أخو لولو -: (إن من الواضح أن علينا أن نتفرق).
قلت: (بديهي. . حتى لا يرانا اللصوص فيخافوا. . نعم يحسن ألا نضع شيئاً يزعج اللصوص ويفسد عليهم متعتهم).
فصاح بي: (يا أخي ألا تكف عن هذا العبث؟).
قلت: (كففت بإذن الله. . تفضل. . ولكن اسمح لي أن أسأل هل تعني أن نرسل الأطفال
وحدهم في ناحية، وأمهم وأختك في ناحية، وتذهب أنت إلى حيث ألقت، وأعود أنا إلى البيت، وقد تخلصت منكم جميعاً؟؟ إن كان هذا مرادك فأنا من الآن موافق، والسلام عليكم، ولا تكلفوا أنفسكم إرسال عناوينكم).
وبعد أن هدأت الضجة التي أثارتها هذه الكلمات البريئة قال سليم: (تأخذ أنت الأطفال وهاتين أيضاً - وأشار إلى زوجتي وأخته - وتركب تاكسي وتمر أولاً بمركز البوليس ثم لا تتكل عليه بل تذهب تبحث. . وأنا أذهب أبحث من ناحية أخرى).
فقالت زوجتي لسليم: (بل أكون أنا معك فإني لا أكاد أطيق مزحه في هذه الساعات. . إنه لا يفرق بين جد وهزل. . كل وقت عنده صالح للضحك. . شيء فظيع. .).
قلت: (أشكرك. . على أني أستطيع أن أهذب لك خطتك العقيمة. .).
فقالت زوجتي: (بالله اسكت. . . أرجوك. . . أر. . . جووووووك).
قلت: (حالاً. حالاً. كل شيء في وقته يا امرأة. . وهل هذا وقت رجاء؟؟ إنه وقت العمل. . ألا تفهمين؟. اسمع يا هذا. . تذهب أنت إلى البوليس وتعفيني من هذه المهمة التي لا أرتاح إليها، ولا أعتقد أن فيها فائدة، وتأخذ معك هذه الزوجة الجاحدة الناكرة للجميل، وافعل بعد ذلك ما تستطيع، وإلى الملتقى في البيت العامر إن شاء الله).
فقالت زوجتي: (أيوه. . أنا أقول لكم ماذا ينوي أن يصنع. . سيذهب إلى البت مباشرة ولا يكلف نفسه أي عناء في البحث عن سيارته. . وسترون).
فقلت: (وهبيني فعلت ذلك فهل كنت تحسبين أني شرطي أو بوليس سري؟؟ وماذا أصنع إذا كانت السيارة قد سرقت؟ هل أجري في الشوارع كالمجنون؟. . أو أقعد على هذا الرصيف وأبكي؟. . ثم إن معي طفلين صغيرين يريدان أن يناما. . أليس كذلك يا ميدو - اختصار عبد الحميد من فضلك - ومعي أيضاً هذه الفتاة الطويلة البلهاء التي لا رأس في عقلها - أعني لا عقل في رأسها!).
فمضيا عني ولم يجيبا بشيء. وضحكت لولو فقلت: (هذا أحسن. . ما فائدة الحزن واللطم والندب؟؟ ثم إنهما مغفلان - ولا مؤاخذة - فتعالي نسأل أولاً الحارس الذي كان هنا متى رآها آخر مرة فقد خطرت لي فكرة أرجو من ورائها خيراً كثيراً وراحة تامة).
وبحثنا عن الحارس حتى وجدناه نائماً تحت شجرة فأيقظناه فقال لنا: إنها كانت هنا منذ
وقت قصير جداً وقد ركبها رجل وفتاة، وإن الرجل قال حين سألته عن الباقين - منا -: إنه ذاهب ليشتري لهم شيئاً ثم يعود. فسألته عن الاتجاه الذي ذهبا فيه فأشار إلى القناطر وطريق القاهرة.
فطلبت أن يجيئنا بتاكسي بسرعة، وقلت للولو:(إذا حقق الله ظني فسيخيب أمل السارق وفتاته، لأن السيارة ليس فيها من البنزين ما يكفي إلا عشرة كيلو مترات على أكثر تقدير، وأنا أرجو أن يخطئ الخطأ المعقول أي أن يتوهم أن من يجيء إلى القناطر بسيارة لابد أن يكون قد تزود الكفاية من البنزين للذهاب والإياب معاً، فيمضي معولاً على ذلك ومتخوفاً من أن يقف في القناطر لأخذ بنزين آخر فتقف به السيارة في الطريق حيث لا بنزين، ولا يخطر له في أول الأمر أن هذه هي العلة فيدور يبحث عن سبب آخر لوقوفها ويضيع في هذا وقتاً ثميناً ثم ييأس فيتركها في الطريق وينجو بجلده).
وكنت أنا مقتنعاً بهذا الرأي حتى اشتريت (صفيحة بنزين من القناطر وضعناها معنا في التاكسي وقلت للولو: (لهذا فائدة أخرى هي أن يعتقد سائق التاكسي حين نتركه ونركب سيارتنا أنا ما استأجرنا سيارته إلا لهذا السبب، فلا يروح يعجب أو يسأل عن شيء ولا يبدو له شيء غريب في عملنا).
وقد شاء الله أن يحقق ظني فما كدنا نقطع خمسة كيلو مترات من الطريق بعد أن تركنا القناطر وأخذنا في سكة قليوب حتى وجدنا السيارة. وأوجز فأقول إنا ركبناها فرحين وعدنا إلى القناطر عسى أن نجد بقيتنا. فلما لم نجد أحداً تركنا لهما خبراً عند الحارس النائم ثم حملناه معنا إلى مركز البوليس لنسرهم ونعفيهم من البحث فعلمنا أن أصحابنا أبلغوهم خبر السرقة، وأن بعض الشرطة خرج للبحث وأن الخبر طير بالتلفون إلى قليوب والقاهرة ولجهات أخرى أيضاً لضبط السارق في الطريق. فشكرنا لهم هذه الهمة التي لم تكن متوقعة ثم قلت لهم:(إن المهم الآن هو البحث عن زوجتي!).
فصاح الرجل (إيه؟).
قلت: (إنها مع قريبي وقريبها).
قال: (انتهينا).
قلت: (كلا لم تنته. . وما أدراك أن هذه ليست سرقة أخرى أفظع وأشنع؟).
فضحك الرجل وجرتني لولو وهي تحتج.
تركنا السيارة أمام رصيف البيت وجلسنا في الشرفة نأكل لحم الغائبين - أعني ننتظرهما - وإذا بهما عائدان بعد نحو ساعتين في سيارة - هي أخت سيارتنا بلا فرق - فانحدرت إلى الطريق بسرعة فوجدتهما يتأملان هذه المعجزة. فقلت: (تمام. . لقد سرقت هذه السيارة يا صاحبي ولم أكن أعرف أن قريبي ونسيبي لص. . ولكن ماذا أصنع؟. لقد أخفوك عني قبل أن أتزوج. فصار واجبي أن أخفيك أنت عن الناس بعد أن تزوجتُ).
فهم بكلام فمنعته ودعوته أن ينظر إلى رقم السيارتين، فاقتنع وقال ما العمل الآن؟ قلت:(تستعد للسجن. . لقد كان هذا واجباً من زمان طويل في الحقيقة، ولكن ما أكثر من يستحقون السجن وهم طلقاء. . والآن اذهب بالسيارة إلى الجراج - السيارة المسروقة - ثم أبلغ البوليس بالتلفون وقل له إنك عندي تنتظر حضوره للقبض عليك).
وعرفنا منهما بعد ذلك أنهما ركبا القطار ثم الترام إلى العتبة الخضراء وإذا بهما يريان السيارة عند رصيف إدارة البريد فذهبا إليها يعدوان فألفياها خالية فركبا، وساقها هو وانطلقا بها من غير أن يعنيا بالنظر إلى رقمها وانحدرا بها في شارع فاروق وتركا صاحبها المسكين يجري وراءهما ويصيح ويصرخ ويستنجد وهما يضحكان مسرورين! بارك الله فيهما من لصين جريئين!
فقلت لهما: (لا عليكما. . ستكون العتبة الخضراء كلها عندنا بعد دقائق ببوليسها وصبيانها وباعتها. . إلى آخره. . إلى آخره. . وسيشهد الجيران وجيران الجيران، أمتع رواية رأوها أو يمكن أن يروها في حياتهم أو حياة هذا الشارع الرزين).
وجاء الشرطة والمسروق المسكين في تاكسي. وكان لا بد أن يروا السيارة وأن ينزلوا، وكنت واقفاً إلى جانبها أنتظر هذا التشريف، فقال الرجل (هذه هي. .) ومسح العرق المتصبب ودنا منها وهم بأن يفتح بابها فتصديت له وقلت:(عفواً. . هل من خدمة؟.)
فصاح (خدمة؟؟ يا حرامي يا مجرم!! أين أخفيت شريكتك؟ المرأة التي كانت معك؟).
فنظرت إلى الشرطي وأنا أبتسم - فقد كان الموقف يتطلب الهدوء والكياسة - وقلت: (هذه سيارتي يا حضرة الشاويش فما خطب هذا الرجل؟).
فصاح الرجل (سيارتك يا حرامي يا صفيق الوجه؟).
قلت: (إني أسمح بأن تتأملها).
فدار حولها ونظر إليها من الأمام ثم من الخلف، ثم وقف أمامي وهو يرعد وينتفض ويقول:(أما مجرم!!. . بسرعة غيرت أرقامها؟؟ ولكن هل تظن أن هذا ينفعك؟).
فبدا على وجه الشرطي التردد حينما سمع أن الأرقام مختلفة، وإذا كان المفجوع في سيارته قد طار عقله، فإن الشرطي لا يوجد ما يدعو إلى ذهاب عقله أيضاً. وقلت أنا: المسألة بسيطة. ومن المعقول أن أغير لوح المرور بسرعة، ولكن ليس من المعقول أن أغير رقم الشاسية المحفور على محرك السيارة، فتفضل واذكر هذا الرقم بعد مراجعة رخصتك إذا شئت ثم ارفع غطاء المحرك وانظر).
ففعل فإذا الرقم مختلف جداً وشعر بالهزيمة، وأدرك أنه تجنى علي جداً، فبدأ يعتذر، فسألته
(ولكن كيف يمكن أن تخطئ إلى هذا الحد؟؟ هل يعقل ألا تعرف سيارتك؟)
قال: (إنه لا فرق بينهما على الإطلاق - لا من الداخل ولا من الخارج؟).
فقال الشرطي: وهو يريد أن يفض النزاع الذي تهور فيه صاحبنا: (ما دامت السيارتان متشابهتين إلى هذا الحد فإنه معذور، فسامحه).
قلت: (وهل كنت تعذرني لو أني أخطأت مثل خطئه، وذهبت أسب الناس وأتهمهم بالسرقة؟).
قال (طبعاً. . صحيح إنه تهور في الاتهام قبل التثبت، ولكنه معذور في خطئه في معرفة السيارة).
قلت (وإذا دللتك على سيارتك هل تشكرني؟؟ أم تستأنف اتهامك لي بالسرقة؟).
فعاد إلى الاعتذار، وأكد لي أنه يكون شاكراً جداً، فلم يبق داع للإطالة، فرويت له وللشرطي القصة من أولها إلى آخرها كما وقعت، وقلت لهما: إننا أبلغنا مركز البوليس أنا وجدنا السيارة الأخرى التي ظنها قريبي سيارتنا، وأن البوليس لا شك سيحضر بعد قليل ليتسلمها.
وبهذا انتهى الحادث.
وقلت لزوجتي وأنا دخل بعد الفراغ من ذلك: (هل تعترفين الآن أن الذي كان يضحك ويمزح كان هو الحكيم السديد الرأي الصحيح النظر؟).
فآثرت المكابرة وقالت إنها مصادفة واتفاق، فشهدت لولو بأني أحسنت التقدير، فعادت زوجتي تلوم لأني كتمت رأيي الحقيقي وتركتها تذهب وتلف وتدور مع سليم، وأني آثرت لها التعب ولنفسي الراحة، فقلت (ليكون هذا لك درساً. . ألم أقل لك إن تربيتك ناقصة؟) فهاجوا بي وثاروا ولكن هذا لا يعني القراء لا قليلاً ولا كثيراً.
إبراهيم عبد القادر المازني
أسبوع في سبتمانيا
من ذكريات العرب والإسلام في غاليس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في أحد أبهاء قصر فرساي مجموعة من الصور الرائعة تمثل مناظر من الوقائع الحربية الشهيرة التي انتصر فيها ملوك فرنسا؛ وبين هذه المجموعة صورة لموقعة بلاط الشهداء التي نشبت بين العرب والفرنج على ضفاف اللوار في سنة 732م، يبدو فيها عبد الرحمن الغافقي أمير الأندلس، وقائد الجيش الإسلامي، شيخاً رائعاً ذا لحية طويلة بيضاء، وهو شاهر سيفه، ومن حوله بعض جنوده قتلى، وأمامه جنود الفرنج يكرون على خصومهم بشدة، وتبدو عليهم إمارات التفوق والنصر.
وهذه الصورة إحدى الذكريات القليلة التي تحتفظ بها فرنسا عن عصر يكاد يمحوه النسيان من صحف تاريخها، ونحن نعرف ماذا كان من أمر العرب في بلاط الشهداء، فقد قتل قائدهم عبد الرحمن خلال الموقعة، ثم ارتدوا في ظلام الليل إلى الجنوب؛ وغنم الفرنج الموقعة، واقترنت ذكرى النصر إلى الأبد باسم قائدهم وزعيمهم كارل مارتل، واعتبرته التواريخ النصرانية منقذ أوربا والنصرانية من الإسلام وسلطانه وتعاليمه.
بيد أن ذكرى هذا النصر الفرنجي لا يمكن أن تحجب ذكريات عصر قصير باهر قضاه العرب في جنوب فرنسا، فقد افتتح المسلمون ولايات فرنسا الجنوبية في أوائل القرن الثامن واستقروا في سبتمانيا زهاء نصف قرن؛ ثم عادوا في أوائل القرن العاشر جماعات مغامرة مجاهدة واحتلوا كثيراً من أنحاء بروفانس والرفييرا، واستعمروها زهاء قرن، وتركوا كثيراً من آثارهم وذكرياتهم المعنوية في تلك الأنحاء.
ولكن الأوربي، والفرنسي بنوع خاص، قلما يذكر هذا الفصل من تاريخ العرب والإسلام في أوربا؛ وإذا كان بعض الباحثين والمؤرخين الأخصائيين يعرضون إليه في كتبهم، فإن التواريخ الغربية العامة تمر عليه غالباً بالصمت، أو تذكره عرضاً كحادث طارئ طوى صفحته تعاقب الأحقاب؛ وإذا قصصت على الفرنسي المثقف شيئاً من تفاصيل هذه الغزوات الإسلامية لجنوب فرنسا، وذكرت له أن العرب قد انتهوا في فتوحاتهم إلى أعالي نهر الرون، وأنهم استولوا على بيزانصون مسقط رأس شاعرهم فكتور هوجو، وعلى ليون
وماسون وصانص، وأنهم احتلوا الأنجدول وبروفانس دهراً، وأن قواعد سبتمانيا مثل أربونه وأجده ومجلونه وقرقشونه، ما زالت تسمى بأسمائها العربية محرفة إلى الفرنسية: إذا ذكرت للفرنسي المثقف شيئاً من ذلك أصغى إليك بمنتهى الدهشة وكأنما يصغي إلى قصة خرافية يطبعها الخيال المغرق.
ولقد أتيح لي أن أقضي أسبوعاً في هاتيك الربوع التي خفقت عليها الأعلام العربية حقبة من الدهر. أجل، خطر لي أن أجوز إلى سبتمانيا القديمة، وأن أشاهد قواعدها التي ما زالت أسماؤها تنم عن ذكرياتها العربية. ولقد كانت سبتمانيا - وهو اسمها القديم ومعناه ذات المدن السبعة - أولاً نجدولا الحديثة، أول أرض فرنجية غزاها العرب عقب افتتاح الأندلس، واتخذوها قاعدة لغزواتهم في جنوب فرنسا، وجعلوها ولاية أندلسية سميت بالثغر أو الرباط لوقوعها على ساحل البحر الأحمر؛ وكانت مدن سبتمانيا السبعة: أرله، وأربونه، ونيمه، وقرقشونه، وبيزيه، وأجده، ومجلونه. وكانت أربونه عاصمتها، وكانت أمنع المعاقل العربية في غاليس (جنوب فرنسا). ولما وقعت الحرب الأهلية في الأندلس، عندما أشرفت الخلافة الأموية على نهايتها، كانت أربونة قاعدة المعارضة لحكومة قرطبة، وكانت منزل الحركة التي قام بها حاكمها عبد الرحمن اللخمي (أشجع فرسان الأندلس) لانتزاع إمارة الأندلس؛ ولما اضطربت أحول الأندلس الداخلية، انتهز الفرنج الفرصة لاسترداد سبتمانيا، وكانت أربونه آخر معقل عربي وقف في وجه الفرنج، ولم تسقط إلا بعد دفاع مجيد سجلته الروايات المعاصرة، وكان ذلك في منتصف القرن الثامن الميلادي (سنة 758م).
تلك هي خلاصة المأساة العربية في سبتمانيا. أجل كان العرب سادة في هاتيك الربوع منذ ألف ومائتي عام؛ ولكن سبتمانيا لا تحمل اليوم أقل أثر مادي من طابعها العربي القديم. بيد أنه مما يلفت نظر السائح المتجول أن اسم (حي العرب) أو (شارع العرب) يطلق على كثير من الأنحاء في مدن الرفييرا وسبتمانيا؛ وهذا يرجع بلا ريب إلى وحي الذكريات العربية؛ وقد توجد أيضاً أطلال دراسة لبعض الحصون العربية، ولكنها مما يصعب تعيينه وتحقيقه.
على أنه توجد ثمة آثار معنوية كثيرة من العهد لعربي في الحياة الاجتماعية في تلك المنطقة، وبخاصة في بروفانس حيث تأثر التفكير والآداب عصراً بالمؤثرات والأساليب
العربية، وحيث طبع المستعمرون المسلمون في القرن العاشر حياة هذا الإقليم بطابع من عاداتهم وتقاليدهم. وقد كانت هذه الحقائق التاريخية موضع عناية بعض الباحثين في القرن الماضي فتناولوها بالشرح والاستقصاء، وكانت مباحثهم فتحاً جديداً في هذا الميدان؛ ونستطيع أن نخص بالذكر منهم العلامة المستشرق رينو، فقد كتب عدة فصول بديعة في كتابه (غزوات العرب في فرنسا) عن الآثار الفكرية والاجتماعية في جنوب فرنسا وبخاصة في بروفانس.
ولقد اخترقت سبتمانيا من آرله حتى جبال البرنيه؛ ووقفت مدى حين في دينة أربونه وقد أذكى خيالي حين شهدت عاصمة الرباط الأندلسي القديم، تلك الذكريات العربية البعيدة التي تغيض في عالم القرون والتي لم أجد لها أثراً في المدينة الفرنسية الحديثة. وحينما وقفت في (بربنيان) تذكرت أنها كانت مجاز الجيوش الأندلسية إلى غاليس، وأن عرب الأندلس كانوا يفضلون اجتياز جبال البرنيه من الناحية الشرقية من ممر بربنيان، مخترقين قطلونية إلى (الثغر) ثم يتجهون بعد ذلك شمالاً إلى أقاليم الرون، أو غرباً نحو (اكوتين)؛ بيد أنه توجد إلى جانب ممر بربنيان ممرات أخرى كان يتدفق منها عرب الأندلس إلى جنوب فرنسا، وأشهرها ممر (رونشفال) الشهير الذي يسميه الإدريسي (باب الشزري). ولرونشفال ذكرى خالدة في التاريخ والقصص الفرنسيين، فقد كانت مسرحاً للموقعة الشهيرة التي مزق فيها العرب جيش كارل الأكبر (شارلمان) حين عوده من غزوته لأسبانيا الشمالية، التي نظم فيها رولان وصيف شارلمان أنشودته الشهيرة
وإن السائح المتجول ليتساءل حين يتأمل تلك الوهاد كيف استطاع العرب الذين برزوا من بسيط الصحراء إلى الغزو أن يجتاحوا تلك الهضاب الوعرة، وأن يحرزوا النصر الباهر في هاتيك السهول النائية على حين أن أعداءهم أعرف بطبائعها وجنباتها. ولقد كان اجتياز جبال البرنيه الشامخة أعجوبة في التاريخ القديم، ولكن العرب اجتازوا تلك الربى الهائلة واقتحموها مراراً في سبيل الفتح. ولقد خالجني مثل هذا الشعور حينما اجتزت صحراء العرب منذ بضعة أعوام، وأذكى القفر الشاسع خيالي، فتساءلت كيف استطاعت الجيوش العربية الزاخرة أن تجتاح هذا القفر الرائع في عصر كان التنقل فيه محفوفاً بأعظم المشاق؟ وكيف كانت هذه الجيوش تمون نفسها بالزاد والماء خلال أسابيع طويلة تستقبل
فيها الشمس المحرقة والرياح السافية؟ أجل لقد كان اجتياز الجيوش الإسلامية في مختلف العصور لصحراء العرب وصحارى الشام وشمال إفريقية أعجوبة من أعاجيب العصر، بل إن اجتياز هذه الصحارى في عصرنا يعتبر عملاً من أعظم الأعمال الحربية.
ولقد ذكرت بهذه المناسبة ملاحظة غريبة أبداها المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون عن خواص الفتح العربي، فقد عقد في مقدمته فصلاً ذهب فيه إلى (أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط) وأورد كعادته أمثلة وأسباباً، ولكني أعتقد أن ابن خلدون غير محق في ملاحظته؛ ويكفي أن نذكر أن العرب افتتحوا هضاب فارس وأرمينية والأناضول والغرب، وافتتحوا أسبانيا وتغلبوا على وعرها بأيسر أمر، ثم اقتحموا جبال البرنيه الشامخة إلى فرنسا وافتتحوا ما وراءها من الهضاب والسهول؛ ولم تكن هذه كلها من البسائط التي يعنيها ابن خلدون.
هذه خواطر أثارتها في نفسي زيارتي لسبتمانيا أو الرباط الأندلسي القديم؛ ولقد قضيت في تلك الربوع أياماً؛ وكنت كلما وقفت بأحد هذه المعاهد القديمة ارتد خيالي إلى ما قبل ألف ومائتي عام وتصورت العصر الإسلامي كله ماثلاً أمام عيني بحوادثه ووقائعه الحافلة، ومرت بذاكرتي أسماء عربية رنانة روت بدمائها تلك الأرض: السمح بن مالك بطل موقعة تولوشة، عبد الرحمن الغافقي بطل موقعة بلاط الشهداء. . . . ولقد كنت في الواقع على سفر إلى الأندلس، وكنت اعتزم أن أتجول في ربوعها التي ما زالت تحمل ذكريات عزيزة للإسلام وآثاره، ولكن الثورة الأسبانية المشئومة حالت دون تحقيق هذا الأمل، فلبثت أياماً في سفح جبال البرنيه أرقب الحوادث وأنتظر سنوح الفرصة، ولكن شاء ربك أن يندلع لهيب الثورة في جميع أنحاء أسبانيا بصورة مروعة تحمل أشد المغامرين على الزهد في زيارتها.
على أن الزمن كفيل بتحقيق الأمل، والصعاب تشحذ العزائم. وسوف أستعين بالله دائماً على المضي في مباحثي الأندلسية إلى ن يحقق أملي كاملاً في إخراج تاريخ العرب والإسلام في أسبانيا.
فينا في 18 أغسطس
محمد عبد الله عنان
لَمَعات
إلى الفيلسوف الشاعر محمد إقبال
جواباً لكتابيه: (أسرار خودي) و (رموز بي خودي)
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
للصوفية فلسفة عالية في العالم والإنسان والخالق، ولهم آراء حكيمة في الأخلاق والاجتماع. وقد صاغوا كثيراً من آرائهم في صور شعرية جميلة تجلى فيها القلب الإنساني في أرقى مداركه، وأصفى منازعه، وصوروا فيها خفايا النفس الإنسانية.
وفي العربية كثير من الشعر الصوفي مفرّق في الكتب. وفيها دواوين خصّت بهذا الضرب من الشعر، أسيرها ذكراً ديوان ابن الفارض، ودواوين ابن العربي، وديوان النابلسي.
ولشعراء الفارسية المقام الأسمى في الشعر الصوفي، وقد حاكاهم فيه شعراء التركية والأردية. وأعظم شعراء الفارسية في هذا مجد الدين سنائي وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي، وهو زعيم شعراء الصوفية وفلاسفتهم جميعاً.
- 2 -
وكأن الله سبحانه أراد أن يبعث مولانا جلال الدين في هذا العصر مزوداً بفلسفته وعلومه، إلى فلسفة الصوفية، وصفاء نفوسهم، فبعثه في صورة شاعر الإسلام وفيلسوفه محمد إقبال الهنديّ.
ولإقبال منظومات كثيرة معظمها بالفارسية، وبعضها بالأردية، وقد ضمنها من الفلسفة والتصوف والأخلاق والاجتماع والسياسة ونقد المدنية ما يملأ القارئ إعجاباً. والرجل حرّ، يكره التقليد ويحذر منه، فعقله وقلبه ظاهران في كل ما يكتب. ومن منظوماته كتابان سماها (أسرر خودي) و (رموز بي خودي) أي أسرار الذاتية، ورموز اللاذاتية. ومدار البحث في الأول بيان أن العالم قائم على (الذاتية) وأن حياة الإنسان بإبراز ما أودع في فطرته من المواهب، وتقوية نفسه. ومدار البحث في الكتاب الثاني بيان ائتلاف الأفراد في الجماعة، وما تقوى به الجماعات. وقد شرح ذلك كله شرحاً مبيناً، وضرب الأمثال، واستشهد
التاريخ، وسما إلى الدرجة العليا في الشعر.
وقد ترجمت في مجلة (الرسالة) صفحات من هذين الكتابين، ومن ديوانه بيام مشرق الذي جعله الشاعر جواباً للشاعر الألماني جوته.
- 3 -
وقد بدا لي أن أنشر في (الرسالة) منظومة أهديها إلى إقبال، وأجعلها صدى لكتابيه المذكورين آنفاً.
وأريد مع هذا أن أنهج بها في العربية نهجاً جديداً، وأجعلها مثالاً للمعاني السامية التي يتناولها الشعر إذا أطلق من عقاله، وحرّر من الموضوعات الضيقة التي اعتادها جمهور الشعراء، ولا سيما المعاني التي تكثر في أشعار الصوفية العظام. ثم أريد أن أجعلها مثالاً للقافية المزدوجة التي قصرها شعراء العربية على الرجز المشطور كما قصروا الرجز على نظم العلوم كالألفية والجوهر المكنون، والتاريخ كمنظومة ابن عبد ربه في أمراء بني أمية، والقصص ككتاب كليلة ودمنة، والصادح والباغم. وينبغي أن يسري هذا الضرب من التقفية إلى أبحر الشعر الأخرى حين تعالج الموضوعات الواسعة. فهذا الذي سنّى لشعراء الفارسية وغيرهم أن ينظموا عشرات الآلاف من الأبيات في قصة واحدة أو كتاب واحد.
وقد اخترت وزن الرمل ليُسره وخفته واقتداء بجلال الدين في المثنوي ومحمد إقبال في بعض كتبه ولا سيما أسرار خودي ورموز بي خودي.
- 4 -
ثم التفعيلة الثالثة في الرمل تأتي تامة (فاعلاتن) ومقطوعة (فاعلاتْ) ومحذوفة (فاعلا). والقافية المزدوجة تجعل كل شطرين متفقين في الروي منفصلين بعض الانفصال عن غيرهما. فينبغي أن يسوّغ الجمع في المنظومة الواحدة بين أبيات على فاعلاتن وأخرى على فاعلاتْ أو فاعلا تيسيرا للناظم. ولكن الجمع بين فاعلا، وفاعلاتْ حسن لا عيب فيه لأن الحرف الأخير في فاعلاتْ لا يأتي إلا بعد مدّ. وبهذا المدّ يتم الوزن فيأتي الحرف بعد المدّ نهاية للصوت فلا يشعر المنشد باختلاف النغمة بين فاعلا وفاعلاتْ. مثال هذا البيتان الآتيان:
رُبَّ معنى في ضمير يكتُم
…
ليس في الناس عليه محرمُ
وقلوب رمسها هذي الصدور
…
أتراني مسمعاً من في القبورْ
البيت الأول بني على فاعلا، والثاني على فاعلات لكن الراء في كلمتي الصدور والقبور واقعتان بعد مد فتأتيان في نهاية لصوت كأنهما لا تحسبان في وزن البيت. وليس الأمر كذلك في الجمع بين فاعلاتن وغيرها، ففي البيتين الآتيين:
كان لي الليل مداداً فنفدْ
…
وطغى قلبي بمدّ بعد مدّ
جاشت الظلماء موجاً بعد موج
…
وغزاني الوجد فوجاً بعد فوج
إذا سكَنت الجيم في موج وفوج يبنى البت على فاعلاتْ فتجده قريباً جداً مما قبله. وإذا حركت الجيم يبنى على فاعلاتن فيبعد عما قبله بعض البعد. فينبغي ن يجتهد الناظم ألا يجمع بين فاعلا أو فاعلاتْ وبين فاعلاتن في منظومة واحدة رعاية لانسجام النغمات.
وإني أدعو أدباء العربية إلى العناية بهذا المثال الذي أقدمه في المعاني والقوافي ليقبلوه على بينة أو يردوه بالحجة. والله ولي التيسير.
أيها الليل إليك المفزعُ
…
كم حنت منك علينا أضلع
كم خفينا في غيابات الدجى
…
وملأنا الليل هماً وشجى
كم ألِفتُ الليل أُماً حانية
…
وكرهت النجم عيناً رانيه
كم ألفت الليل وحشاً راقبا
…
في شعاع الصبح سهماً صائبا
كم بثثت الليل سراً كِتما
…
فوعاه الليل عني ألما
كانت الظلماء لوحاً للألمْ
…
خطّتْ الآهات فيه كالقلمْ
كان لي الليل مداداً فنفد
…
وطغى قلبي بمدّ بعد مدّ
جاشت الظلماء موجاً بعد موجْ
…
وغزاني الوجد فوجاً بعد فوجْ
فنيت هذي وهذا زاخرُ
…
وانجلت هذي، وهذا غامرُ
خلتني في الليل جمراً سُعّرا
…
ونجوم الليل منه شررا
إرَة قد وقدت في أضلعي
…
وسحاب هاطل من أدمعي
كنت سطراً لم يفسره أحدْ
…
خطَّه في غيبه الله الصمد
في ضميري كل معنى مُنبَهِمْ
…
حرت في الأعراب عنه بالكِلم
قد ثوى العالم في قلبي وما
…
خُطَّ شيء فيه إلا الحرف (ما)
جلّ قلبي أن أراه جامَ جم
…
صُور الأقطار فيه تنتظم
إنما الأقطار في قلبي العميدْ
…
أحرف أوحت إلى معنى بعيد
ربّ معنى في ضمير يكتمُ
…
ليس في الناس عليه مَحرَمُ
وقلوب رمسها هذي الصدورْ
…
أتراني مسمعاً من في القبور
أنا في الناس فصيح أعجمُ
…
ناطق فيهم كأني أبكم
صمّت الآذان عن هذا البيان
…
ضاع في ضوضائهم هذا الأذان
كيف يجدي القوم هذا النغمُ
…
وعلى الآذان رن الصممُ؟
كيف يجدي القدح في هذا الحجر؟
…
قلبه رخو خليّ من شرر
إن خفق القلب قدحُ مُجهِدُ
…
بعضه يورى وبعضٌ يصلد
كيف يجدي النفخ في هذا الرمادْ
…
طفئ الجمر ولم تور الزناد
(يتبع)
عبد الوهاب عزام
فن القصة في الأدب المصري الحديث
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
للأستاذ هلال أحمد شتا
ويلاحظ المتتبع لتاريخ القصة المصرية أن ثلاثة من كتابها الأفذاذ قد تنحوا عن الجهاد في سبيلها أو كدوا، وبقي واحد فرد يحاول ما يستطيعه الواحد الفرد. . فلقد أقبل هيكل على ميدان آخر يشحذ له قلمه وحسه، هو ميدان الصحافة والبحث العلمي والديني والسياسة، وانهمك أبو حديد في عمله التعليمي ودراساته التاريخية، وذهب تيمور مذاهب أخرى في الدراسة والأدب. . . ثم بقي المازني بعد ذلك يسير في طريقه سيراً هادئاً، ويخص القصة ببعض عنايته، بقدر ما تنحت أعماله الصحفية، وما أفسحت لفنه من مجال قصير.
ولقد كان هذا مما أوقف القصة المصرية العربية الناشئة موقفاً نشفق منه عليها، وما زالت في عهد الصبا تنشد الرعاية والعناية؛ ولكن فريقاً آخر من الشبان قد أقبل يمد لها يداً مباركة نرجو أن تدفعها إلى عهد الشباب قوية سريعة الخطوات.
ومن بين هذا الفريق ثلاثة نلمح فيهم استعداداً كثيراً، وفناً غزيراً، وهم: محمود البدوي، وشوكت التوني، وطاهر لاشين.
فمحمود البدوي، الذي عرفناه مترجماً للقصة الروسية القصيرة على صفحات الرسالة الغراء، قد آنس في نفسه قدرة على الكتابة ألهبت شغفه وشحذت عزيمته، فإذا هو يدفع إلى ميدان القصة كتابيه (الرحيل) و (رجل).
والذي يعرف البدوي في هدوئه وصمته، وبعده عن مجالات الأدباء والكتاب، قد يستولي عليه عجب، حين يرى اهتمام الكتاب بأمر كتابيه وتهافتهم على نقدهما وبحثهما. . ولكن الذي يعرف البدوي من ثنايا سطوره، لا يرى عناء كبيراً في أن يعرف الدافع الشريف الذي حمل هؤلاء الكتاب على العناية بفنه وأدبه.
وقد تتلمذ البدوي على المدرستين الروسية والإنجليزية، فكان مزاجاً منهما معاً، ثم أضاف إلى ذلك شخصيته التي استقل بها، فكان قصصياً موفقاً. وأميز صفاته أنه مخلص لفنه إخلاصاً شديداً حتى ليكاد يعجز عن أن يزاول سواه، لأنه استغرق كل تفكيره واستبد بجميع جهوده، وسيكون لنا منه من يسد فراغاً عزيزاً.
وشوكت التوني قصصي موهوب، وكاتب قادر، غير أنه كاد يسيء إلى فنه إساءة بالغة، حين صمت عن الكتابة صمتاً غير محمود، متفرغاً لدراساته القانونية وقضاياه. . ولو لم يغمره - منذ قريب - نشاط أدبي نعرفه، لفقده عالم القصة آسفاً أسفاً شديداً، لأنه يعرف فيه ما يدفعه إلى التشبث به. . وقد يمحو آثار صمته الطويل أنه أقبل اليوم قوياً بدراساته وميله بعد انقطاع عن الفن الذي يحبه ويقدسه. . وسوف لا نغفر له - بعد ذلك - صمتاً أو تحولاً. لأن الفن الذي فقد رجاله أو كاد، في حاجة شديدة إلى الشباب يشد أزره.
وطاهر لاشين قصصي مصري بديع التكوين، قد بلغ بفنه وأدبه منزلة جليلة، ومجهوده في سبيل القصة المصرية كبير، وأسلوبه العربي سليم أنيق، نقي البيان لا يحب الإسفاف، ونأمل فيه خيرً كثيراً. . ونشكر له ما أسدى. . وما سوف يسدي إن شاء الله.
أولئك وهؤلاء هم المحسنون إلى القصة المصرية إحساناً محموداً الجديرون بالذكر والشكر والاعتراف بالجميل. . . ولكن طائفة كبيرة، غير محدودة ولا محصورة، قد أقبلت منذ سنوات ترمي القصة المصرية العربية بالإساءة المرذولة، وتفتح فيها فتحاً قديراً على أن يهلكها ويحطمها تحطيماً. .
وهؤلاء الذين يتخذون من كتابة القصة تجارة ورزقاً، ويسوقون إلى الميدان كل يوم عملاً جديداً، قد فقد نتاجهم كل فن أو طرافة أو توفيق، ولكنه لم يفقد القراء أو الضالين من المتأدبين، وهذه هي الإساءة التي تؤلمنا ألماً مراً وتحز في صدورنا حزاً موجعاً. .
نعم. . فقد استطاع بعض هذا النفر، أن يجعل من نتاجه المشوش مدرسة يسير تلاميذها على طريقته الملتوية التي لا تؤدي إلى فلاح، فأفسد بذلك الذوق الأدبي ونال منه، وألحق بالفن خسراناً مبينا.
والذي يقرأ اليوم هذه القصص التجارية التي تحفل بها المجلات والكتب، ناشداً منها تسلية أو إتلافاً للوقت، لا شك يخرج من قراءته وقد خسر وقتاً حقيقياً بألا يبعثر ويعبث به، ويتأثر - بعد ذلك - بما قرأ تأثراً قد ينال من تفكيره، وقلمه، وذوقه جميعاً.
ولسنا نقصد بالقصة التجارية القصة المترجمة وحسب، بل إننا نقصد المترجمة والموضوعة على السواء، لا بل ونعني الموضوعة باهتمام خاص. . فلقد سار كتابها اليوم على طريق لا ندري إلى أية هاوية تصل بهم وبقرائهم، حين أدخلوا في قصصهم نوعاً من
الأسلوب نستطيع أن نسميه (أدباً خليعاً)، وهو مزاج من العامة الرخوة، والعربية المهدمة، والفرنسية التي يتحدث بها خليعات النساء.
هذه هي لمحنة التي تهدد اليوم فن القصة في مصر، وأعترف أني عاجز عن أن أصف لها دواء، فلا أفل إذن من أن أدعو الأدباء والكتاب إلى أن يعلنوا عليها حرباً عواناً تقتلها أو تخرجها عن ميدان الأدب خاسرة. . .
ولا يمنعني هذا من أن أضع أمام أعين الشباب مثلاً للقصصي كيف يكون، عسى أن أبلغ بهذا الذي أقول أملاً طالما نشدته وسعيت إليه، وهو أن يقبل الشباب على ما يستأهل العناية، وأن يعرض عما يصل بذوقه الفني والأدبي إلى هاوية ليس لها من قرار. .
وأعتقد أن القصصي يجب أن يكون جامعاً لجوانب خمسة، غير فاقد منها شيئاً.
وأول هذه الجوانب: أن يكون عربي اللفظ والأسلوب، أديباً قوي البيان مشحوذ القلم واللسان، وأن يكون حريصاً على عربيته معتزاً بها عاشقاً لها أميناً عليها.
وثانيها: أن يكون فناناً بطبعه موهوباً، قادراً على تصوير كل ما يحيط به وبأبطال قصصه من أجواء الطبيعة ومشاهدها وكل ما يغمر نفوسهم من شعور، أو ينتابها من أحاسيس، أو يتكون فيها من عواطف. . وكل ما يجول بأذهانهم من خواطر، أو يحتدم في صدورهم من رغبات.
وثالثها: أن يكون على حظ من الثقافة موفور، واسع الاطلاع مجرباً، قد لمس بيديه كثيراً من الحقائق، وأوغل بنفسه في جوانب الحياة وحواشيها.
ورابعها: أن يكون متنبه الحواس يقظاً، مغذياً لميله الفني، سائراً في ذلك على نهج قويم، لأن الميل الطبيعي لا يورق ويؤتي ثماره بغير مران وتنمية، والفن الجميل يقوم على عمادين من الدراسة والميل، ولا يقوم على واحد منهما. .
وخامسها: أن يتميز بشخصية مستقلة، وأن يكون ذا خيال واسع لا يضيق أمام قلمه وبيانه، وما ينشدانه من بلوغ إلى بعض الحقائق. .
والقصة التي يكتبها كاتبها في أسلوب عربي مبين، والتي تحمل إلى قارئها صوراً صادقة - طبيعية ونفسية - والتي تترجم دقائق الحياة وبسائطها فترفع للذهن قطعة من صميم الوجود، والتي يفيض من بين سطورها جمال يهز مشاعر عشاق الجمال، والتي تنتصر
فيها حقائق على حقائق، هي القصة الكاملة التي نريدها. والتي نرجو أن يوفق إلى إخراجها منشئو الجيل الجديد. .
وبعد - فقد بلغت بحمد الله نهاية البحث، بعد أن تراقصت أمام عيني الخواطر والأفكار، وأرجو أن أكون قد ذهبت فيما قلت مذهباً حقاً، لا يخاصم العرف الأدبي الذي كسبه الذوق الحديث من بلاغة أبناء العرب وتراثهم الفكري، ومن دراسات جديدة وفق فيها أبناء الغرب توفيقاً عظيماً. .
وهذا تاريخ موجز للقصة المصرية العربية، وما أثر فيها فأحسن إليها أو أساء إلى يومنا هذا. . فأما مستقبلها فأخشى أن يذهب بها إلى موضع لا يرضاه المصريون أو الشرقيون. وأرجو - من الأعماق - أن تجد القصة من يرفعه وينهض بها، وهو أمر ليس باليسير، وإنما يحتاج رجالاً أشداء عاملين مخلصين. . ولسنا - والحمد لله - فقراء من الرجال. .
هلال أحمد شتا
بسكرتيرية مجلس الشيوخ
الخيال في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الخيال - وهو القدرة على انتزاع شتى الصور من الواقع المشاهد واستحضارها في الذهن في أي وقت، والتصرف فيها على مختلف الأشكال والأوضاع - عنصر من أهم عناصر الأدب مهما اختلفت أنصبة الأدباء منه، وهو أسس التشبيهات والمجازات، ولولاه لالتزم الفكر الإنساني الواقع المتحجر أيما التزام.
وللخيال في الأدب وظائف شتى: فالخيال الصحيح يعين الأديب على إبراز الحقائق بشتى الوسائل، ويقدره على سبك موضوعه سبكاً فنياً لا شذوذ فيه، وعلى نبذ ما لا حاجة به إليه من تفصيلات قد تشوه ما هو بسبيله، ويساعده على إضفاء ثوب من الجمال على ما ينشئ.
وللخيال يد طولى في الأدب الإنجليزي؛ فالأديب الإنجليزي غزير العاطفة، إذا جاشت أطلق العنان واسترسل مع خياله، وأثار به منظر طبيعي أو غناء طائر أو ذكرى طارئة أو أثر من آثار الغابرين أو أسطورة من أساطيرهم، أو غير هذا وذاك كله، شتى الخيالات والأحلام والأطياف، وتناهت به عاطفته إلى حدود الأماني وآفاق الماضي والمستقبل، وهذا الاسترسال للخيال إذا أثارته فكرة رئيسية هو مرجع وحدة القصيدة في الإنجليزية.
وهناك عدا هذا الخيال المنبث في كل مناحي الأدب أغراض خاصة من الأدب قوامها وهيكلها الخيال، يجمع أطرافها وينهض بكيانها، ويوثق وشائجها، وهذه هي الملاحم الطوال في الشعر والقصص الممثلة أو المقروءة شعراً أو نثراً، ففي هذه لا يلتزم الأديب الواقع المجرد، بل يفترق عنه افتراقاً جسيماً، ويصوغ من شتى أفكاره وتجاريبه وأمانيه عالماً يجيش بالحياة والحركة، ويموج بالعواطف والنوازع، ويفيض بالجمال والإمتاع.
والأدب الإنجليزي حافل بهذه الضروب القائمة على أساس من التخيل المحض؛ فهناك ملاحم ملتون وهاردي، وفيها يستعرض كلٌّ من الشاعرين مشاغل عصره ويبحث آراءه وينفث لواعج نفسه؛ ومن طبيعة أشعار الملاحم أنها تعج بالمردة والجبابرة والآلهة، وتحفل بخوارق الأعمال وجسائم البطولة، وهي على رغم هذا كله لا تخرج عن عالمنا الإنساني ولا تغفل النفس الإنسانية، بل تظل نوازع تلك النفس ومشاغلها هي الهدف الوحيد الذي يرمي إليه ناظموها، إذ فيها يتخذ أولئك الأرباب والجبابرة طبائع الناس وميول الأفراد وإن
فاقو البشر قوة وعظماً، ومن هنا يتأتى للشاعر أن يبسط آراؤه في ميدان متسع وإلى مدى فسيح، فالخيال هنا لا يعدو الحقيقة، وإنما يوضحها أحسن توضيح، فضلاً عما يمتع النفس به من قصص متسق وجمال وجلال.
وفي الأدب الإنجليزي مالا يعد من قصص في الشعر أو النثر ممثلة ومقروءة. وقوام القصة بطبيعتها الخيال، وإن تراوح نصيبها منه؛ فهناك القصص الواقعية التي تلتزم الحقيقة إلى أكبر حد مستطاع وتصور المجتمع الحاضر تصويراً دقيقاً، كقصص هاردي ودرامات جالزورذي؛ وهناك القصص التي ترمي إلى أغوار الماضي وتدور حول عظيم من رجال التاريخ أو الأساطير، من طَموح يبيع نفسه للشيطان ليعينه على مطامحه، إلى دائن يتقاضى دينه من لحم غريمه ودمه، كما في روايات شكسبير ومارلو وغيرهما؛ كما أن هناك القصص التي تتطاول إلى آفاق المستقبل، وفارس هذه الحلبة ولز.
هذه الأغراض والأوضاع التي سداها ولحمتها الخيال غير ظاهرة في الأدب العربي: فلا قصص ولا ملاحم. والمقامات وأشباهها إذا زج بها في هذا المجال بدت هزيلة عجفاء تدعو إلى السخرية، فأولى بها أن تظل حيث أراد كاتبوها وقصدوا بها من غرض بعيد عن القصص. والأثر الوحيد الذي يعتد به - بل يفتخر به - في هذا الباب رسالة الغفران: ففيها من آثار الخيال ومتعاته ما لا نظير له في الأدب كله. على رغم اكتظاظها بأخبار الأدباء ومسائل الأدب والنحو.
وفضلاً عن انعدام هذه الفنون الخاصة فإن نصيب الأدب العربي عامة من الخيال ضئيل إذا قيس بنصيب الأدب الإنجليزي منه، فالأديب العربي كان شديد الحرص على الواقع يلزمه به موضوعه وأفكاره، شديد الاختصار في مقاله وتعبيره عما يحس، يعبر عن تلك الأفكار أشتاتاً كلما عنَّ له حافز إلى الكتابة، لا يدخر أفكاره ولا يربط منها حاضراً بماض، بل يرسلها على السجية أبياتاً محكمة النسج موجزة البيان. فالفكرة التي تخطر للأديب الإنجليزي فيحوك حولها قصة تربط ما يتصل بها من أفكار، وتنشئ حولها شتى الصور المنتزعة من الحياة، يكتفي الأديب العربي بصوغها في بيت شعر محكم يذهب مثلاً ثم (ينام ملء جفونه).
فكبح عنان الخيال هذا سبب انعدام القصص وكثرة الحكم والأمثال في الأدب العربي. وهو
كذلك سبب توسط طول القصائد وعدم تراوحها بين الملاحم الطوال والمقطوعات الصغار، ثم هو سبب اكتظاظها بالأفكار لا يربطها رباط جامع من خيال وثيق.
ولا ترجع ندرة آثار الخيال في الأدب العربي إلى ضعف ملكته بين الشعوب العربية، فإن كثيراً من تلك الآثار تدوولت في العامية دون الفصحى بين الشعوب الناطقة بالضاد، وإنما ترجع تلك الندرة إلى التقاليد الجامدة الشديدة التي تسلطت على الأدب العربي لظروف خاصة سبقت الإشارة إليها في كلمات ماضية: من محاكاة للأدب القديم - وهو نادر آثار الخيال لأنه أدب بدائي - ومجانبه للآداب الأخرى ولا سيما الأدب الإغريقي.
وليس أدل على أثر الثقافة الإغريقية في تربية الخيال من أن إطلاع العرب على جمهورية أفلاطون حدا ببعض فلاسفتهم إلى محاكاته في تخيل الدولة المثلى، فكان من ذلك (المدينة الفاضلة) و (حديث حي بن يقظان) وغيرهما، مما هو داخل في موضوع الفلسفة لا الأدب، فلو درس العرب دب الإغريق دراستهم لفلسفتهم لكان ذلك أثره المحتوم.
فالأدب الإغريقي حافل بالخيال البعيد المرامي، مليء بالعوالم الزاخرة بشتى العظائم والمحاسن، واغتراف الأدب الإنجليزي من مناهله هو الذي أمده بفيض من الخيال لا يفنى: وضَّح أمامه مذاهب التخيل وأشكاله، وأمده بالخرافات والأقاصيص العديدة تحاك حولها أعمال الخيال في الشعر والنثر، وتفعم بصور الجمال وترصع بالآراء النقدية والنظريات الثاقبة في شؤون العالم وأحوال المجتمع، وتلك لعمر الحق مادة الأدب وصميمه.
أما الأدب العربي فظل الواقع قبلته والحاضر ديدنه، وحين ضرب في مرامي الخيال في الغزل الاستهلالي والمكرمات المصطنعة ينسيونها إلى الممدوحين والمرثيين إنما كان يفعل ذلك مطمئناً إنه يحذو حذو المتقدمين ولا يخرج عن الحدود المرسومة للأدب في عهودهم، فجاء ذلك الخيال غثاً ممجوجاً لا يتجاوز جانب الأوهام والتلفيقات إلى جانب التعبير الصادق عن الحقيقة العميقة.
وبينما أساغ الأدب العربي هذا الخيال الغث المتكلف نبذ ضروب الخيال المطبوع الصادق الذي يمت إلى الحياة والذي هو عماد القصة النثرية والشعرية، فترفَّع عن ذلك تاركاً إياه للعامة يروون به غلتهم، تلك الغلة التي يشعر بها كل إنسان وتنزع به إلى القصص وإلى الخيال.
فخري أبو السعود
6 - دانتي ألليجييري
والكوميدية الإلهية
وأبو العلاء المعري ورسالة لغفران
تتمة البحث
الإسراء والمعرج
اختلف المؤرخون ومفسرو القرآن الكريم في هذه الأساطير الكثيرة التي زخرف بها كل من حادثي الإسراء والمعراج، ولم يشأ الثقات منهم أن يتورطوا في تصديق كل ما عُزي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قاله؛ ورجح بطلان هذه الأحاديث اختلاف روايتها بالزيادة والنقصان في مختلف كتب التفاسير والسِّير. وقد وقف منها الإمامان - البخاري ومسلم - موقفاً حازماً فلم يثبتا في صحيحهما إلا هذا الحديث المشهور القصير الخاص بزيارة جبريل للنبي وركوبه (ص) البراق ثم الإسراء به فمروره ببعض قوافل العرب ثم بلوغه بيت المقدس، فصلاته بالأنبياء ثمة، فعروجه إلى السماء الأولى وفيها فلان النبي وإلى الثانية وفيها فلان، حتى يبلغ سدرة المنتهى.
ولعل أقدم المصادر التي أوردت زيادات على حديث البخاري ومسلم، ويبدو عليها أثر شديد من الصنعة والتكلف، هي سيرة ابن هشام التي نسج على منوالها كتاب السير الآخرون. وقد رفض صاحب الكشاف أن يثبت في تفسيره شيئاً من تلك الزيادات، ولكن مع الأسف الشديد، تورط مفسرون أجلاء مثل الطبري والألوسي وابن كثير وغيرهم فرووا كل ما وضع الوضّاعون وزخرف المبطلون من حواشٍ وتهاويل عن الإسراء والمعراج ثم تركوا كل ما رَوَوْا من غير ما تمحيص ولا تزييف، فكان عملهم تزكية صامتة لهذه الترهات التي لم تنفرج شفتا الرسول عن حرف واحد منها.
ولقد بدا لنا ونحن نقارن ما جاءت به أسطورة المعراج الموضوعة بما جاء في كوميدية دانتي؛ ولا سيما في الجزء الخاص بجهنم في كل منها، أن يكون هؤلاء الوضّاع قد سطوا على خيال دانتي نفسه فانتحلوه لحادث المعراج، ورَوَوْا، وليتبوءوا مقعدهم من النار، عن الرسول الكريم هذا الحديث الطويل عن فئات المجرمين الذين رآهم يتعذبون بمختلف ألوان
العذاب في دركات السعير. . . خيل إلينا أنهم سطوا على دانتي، ولكنا عدنا فوجدنا هؤلاء الوضاع يسبقون دانتي بمئات السنين، فأسقط في أيدينا، وأوشكنا نقر القائلين بأن دانتي تأثر في كوميدياه بأسطورة المعراج الملفقة، بعد إذ نفينا ذلك، وهنا، رأينا المخرج صعباً، وفي فشل البحث الذي أخذناه على عاتقنا هوان علينا؛ ولكنا ما كدنا نلخص الجزء السادس من الأنيد للشاعر اللاتيني الخالد فرجيل حتى حصحصت الحقيقة أمام أعيننا، وحتى أيقنا أن كلا من دانتي ووضاع الأحاديث الملفقة عن حادث المعراج كلٌّ على فرجيل وعيال على خياله الخصب وتصوُّرِه العميق.
والمحققون من علماء المسلمين والمستشرقين على السواء على أن الترهات الكثيرة والزخارف الباطلة التي نقرؤها في غضون كتب التفسير (كالخازن وغيره) هي إسرائيليات انتقلت إلى الإسلام باعتناق بعض اليهود لهذه الحنيفية الغراء، فهم عندما قرءوا في القرآن أسماء أنبيائهم وبعض الحوادث المشهورة الواردة في كتبهم راحوا من تلقاء أنفسهم يقصون قصصهم الإسرائيلية على أنها إسلاميات يقرها كتاب الله وحديث رسول الله، ومن هنا هذا البهرج الكثير الذي دخل على القصص الإسلامي، ومن هنا أيضاً ضياع الحقيقة بين ما قال الرسول الكريم وما لم يقل.
على أننا لا ندري لماذا يكون كل ما دخل على الرواية الإسلامية إسرائيلياً ولا يكون أشمل من ذلك؟ لم لا يكون هندياً مع من اعتنق الإسلام من الهنود، ومصرياً مع من اعتنق الإسلام من المصريين، وفارسيا مع الفرس وآشوريا مع الآشوريين ويونانيا مع اليونان، ثم لم لا يكون لاتينيا مع من اعتنق الإسلام من أمم البحر الأبيض المتوسط، وفيها أسبانيا وصقلية وجزر كثيرة من جزر هذا البحر؟!
لقد ازدهرت الثقافة الإسلامية في فارس والعراق والشام ومصر وتونس والمغرب والأندلس وصقلية، بل هي كانت تمتد إلى أبعد من ذلك، إذ أثبت المحققون أنها كانت تغزو فرنسا وسويسرا وبعض المدن الإيطالية، ولم تكن ثقافة إسلامية بحتة، بل كانت خليطاً عجيباً من أشتات الثقافات، كانت مزيجاً أقله إسلامي وأكثره محلي بحسب الإقليم الذي تتفشى فيه. ومن الإرهاق أن تفرض الثقافة الإسلامية نفسها على الأمم المغزوة دون أن تتأثر هي بثقافات تلك الأمم، ونحن نعلم أن رومة حينما فتحت أثينا عسكرياً كانت أثينا
تتوثب لفتح عدوتها ثقافيا، وقد تم لها ذلك بأسهل مما تم الفتح العسكري لرومة فأصبح الأثينيون أساتذة للرومان في بضع سنين، ولم يبدأ العصر الروماني الذهبي بالفعل إلا بعد أن تلقحت أذهان الرومان بهذا اللقاح اليوناني العجيب.
والمسلمون أيضاً. فعصرهم الذهبي لم يكن عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عصر الخليفتين أبي بكر وعمر، ولا عصر معاوية أو عبد الملك بن مروان أو الوليد بن عبد الملك، بل كان ذلك في عصر هارون وابنه المأمون في الشرق، وفي عصر عبد الرحمن الناصر في الغرب. أما العصور الإسلامية قبل ذلك فقد كانت عصور دعوة وجهاد في سبيل الله وتعليم المسلمين الجدد تعاليم الدين الجديد، فلما استقر له الأمر في البلاد المفتوحة جاء دور الحضارة وجاء دور التفكير الهادئ، وجاء دور التلقيح للذهن الإسلامي بثقافات الأمم المختلفة التي دخلت زرافات في دين الله، فأثرت في الآداب الإسلامية كما أثر الإسرائيليون سواء بسواء.
وقد رجعنا إلى عشرات من المصادر علنا نوفق إلى أصل لأحاديث المعراج الملفقة في المائة سنة الهجرية الأولى فلم نهتد إلى شيء منها، وأكبر ظننا أنها لم تكن قد لفقت بعد، وأكبر ظننا أيضاً أن الأمم اللاتينية لم تكن قد تحرشت بالمسلمين في هذه الفترة. . . أما بعد أن عرفت هذه الأمم الإسلام والمسلمين فقد راجت السير عن المسلمين وعن نبي المسلمين وعن الفتوح الإسلامية، وقد ازدحمت هذه السير بالأخيلة الرائعة والقصص الممتع الجميل الذي يستحيل أن يكون إسلامياً بحتاً، لأن نظرية رومة (فتحت أثينا عسكرياً وأثينا فتحت رومة ثقافياً) لابد أن تنطبق على المدينة من جهة، وعلى فارس والشام ومصر والأندلس من جهة أخرى. وما أشبه الرومان بالعرب وما أشبه الأعاجم بالأثنيين في تلك العصور السحيقة المتقادمة!
ولسنا نزعم أن وضاع الأحاديث الملفقة عن حادث المعراج قد انتحلوا ما جاء في الأنيد اعتباطاً، بل هم انتحلوه كما فعل الإسرائيليون حينما انتحلوا كل ما جاء في كتبهم أو أكثره فزوقوا به القصص الإسلامي. وإن مقارنة سريعة بين الجزء السادس من أنيد فرجيل وبين الروايات التي نَسَّقها وجعل منها قصة المعراج العالم المسلم نجم الدين الغيطي (999هـ) لتجعلك تتأكد صدق استنباطنا، وتتفق معنا على أن الأدب اللاتيني، ومنه أدب فرجيل، قد
صبغ ناحية هامة من الأدب الإسلامي لم تكن مزدهرة قبل ذلك. ولولا مخافة الإملال لسقنا لك هذه المقارنة، فارجع أنت إلى الخلاصة التي أعطيناكها في العدد السابق للكتاب السادس من الأنيد، ثم ارجع إلى سيرة ابن هشام أو تفسير الطبري أو قصة المعراج لنجم الدين الغيطي تجد أننا لم نبالغ قط في كلمة مما قلناه.
صور تأثر بها دانتي من القرآن الكريم
كانت هزائم المسيحيين المتوالية في الحروب الصليبية والتي انتهت بفشل هذه الحرب تذكي نيران البغضاء والحنق في قلب دانتي على الإسلام والمسلمين، وقد رأينا كيف بلغ به عَتهُهُ وضيق عطنه أن زج بالرسول صلى الله عليه وسلم وبابن عمه علي وبالسلطان صلاح الدين في جحيمه، وكيف جعلهم مع الفجار وأهل الفسق والمهرجين في درك واحد. وليس معقولاً أن تنتهي هذه الحرب دون أن تكون لها نتائجها من احتكاك الأذهان بين الشرق والغرب ومن إلمام الغرب بشطر كبير عن الإسلام ونبي المسلمين وكتاب المسلمين، والذي يتلو ما جاء في السور المكية من نذير شديد وأوصاف ممتعة لجهنم ودركاتها لا سيما في سور الأعراف والصافات والواقعة وجزء عم يروعه تأثر دانتي بالقرآن الكريم فيما ذكره في الـ (الجحيم)، فبرغم وثوقنا من أنه سار على درب فرجيل في الجزء السادس من الأنيد في هذا الجزء من كوميدياه إلا أننا ندهش لكثير من وجوه الشبه بين ما جاء في جحيمه وما جاء في القرآن من وصف جهنم وأهلها. ونحن نحيل القارئ هنا أيضاً على السور التي ذكرنا وعلى الملخص الذي عملناه لجحيم دانتي.
ولا ريب أنه تأثر أيضاً بالقرآن الكريم في فردوسه، ولكنه أثر غير عميق، إذ كان ينهج في جنته منهاج فرجيل في الأنيد، وبحسبنا ما قدمنا من خلاصات.
دانتي والأدب اليوناني
المشهور عن دانتي أنه لم يكن يعرف اليونانية، ولكن هذا لم يمنعه من الإطلاع على الأدب اليوناني اطلاعاً وإن يكن أبتر قليل الغناء إلا أنه كان ذا أثر كبير في تكوينه الأدبي. ومما لا شك فيه أن دانتي قرأ ما قرأ من أدب اليونان في التراجم التي قام بها مواطنه الشاعر الكبير أوفيد تلك التراجم الخالدة التي حفظت لنا جانباً كبيراً من أساطير الإغريق وتراثهم
الأدبي. ولعل رحلة هرقل ورحلة أرفيوس الموسيقي إلى الدار الآخرة كانتا ذواتي أثر كبير أو قليل في دانتي حينما كتب كوميدياه، ففيهما وصف بارع للجحيم نسج على منواله فرجيل في الأنيد.
دانتي ورؤيا يوحنا اللاهوتي والأدب المسيحي
وإذا كان دانتي قد تأثر بكل ما ذكرنا من هذه الآداب المتفرقة، فمما لا ريب فيه أنه تأثر بالأدب المسيحي عامة، والعهد الجديد خاصة، ونخص من العهد الجديد آخر أسفاره (رؤيا يرحنا اللاهوتي)، فهي رؤيا جميلة حقاً، وفيها من ألوان الخيال (الخيال الأدبي طبعاً) شيء كثير، ونحسب أن دانتي قد اقتبس الفصل الخاص ببحيرته في جحيمه من نفس المنظر الخاص بالبحيرة في هذه الرؤيا، بل نحسب أن الوُضّاع الذين لفقوا أحاديث المعراج الموضوعة قد دسوا هذا المنظر في أسطورتهم من رؤيا يوحنا نفسها. بيد أنه ينبغي ألا نغالي في مقدار تأثر دانتي بهذه الرؤيا كما ذهب إليه بعض إخواننا من الأدباء المسيحيين بل ربما كان تأثر دانتي بأخيلة القرآن (نقصد دائما معنى الكلمة الأدبي) أبعد مدى من تأثره بأخيلة الإنجيل، لأن القرآن وصف جنة النعيم وشقاء الجحيم بما لا يسمو إليه خيال شاعر مهما تفنن وأبدع، ولأن دانتي كان يرد بكوميدياه على أعدائه خاصة وأعداء المسيحية من المسلمين في زمانه عامة، ولذا كان يحسب أنه يحارب بسلاح أعدائه.
خاتمة
هذا ما عن لنا أن نقول في دانتي وأبي العلاء، وشتان بينهما! شتان بين أعمى المعرة الساخر الملحد الفيلسوف المتفنن القانع بالعدس والفول والتين والخيار من لذائذ الدنيا الخاتلة، وبين دانتي السني المتدين المتعصب للكنيسة ولو أذلت رومة وطنه ووضعت أنف فلورنسا في التراب، الساخط على مواطنيه لأنهم حرموه المناصب التي تدر عليه العسل واللبن، المتبرم بزوجه، الناقم على أطفاله، المقلد لغيره في كل خطوة من قصيدته.
ليس ضيراً إذن على أبي العلاء ألا يكون دانتي قد قلده ونسج على منواله، بل الضير كل الضير هو في مقارنة قصيدة دانتي برسالة أبي العلاء، فلقد كان دانتي عالة على فرجيل في الكوميدية الإلهية كما شهدنا، ولكن أبا العلاء لم يكن عالة على أحد، بل كان الشاعر ذا
الخيال الخصب والفكر الجبار والقلب المتمرد على الأديان وما تقول به من جنة ونار. هذا ولا ننكر أن أبا العلاء كان خضعاً في رسالته لتداعي المعاني كما ذكرنا في الكلمة الأولى من هذا البحث.
د. خ
توكيد الذات
للأستاذ أديب عباسي
لمحت في ذات صباح، وأنا في الشمس انفض عن نفسي بقية من ليل، هرَّا مهزولا يسير متوجِّسا متسرِّقا على مقربة مني؛ ولم يطل بهذا الهرّ ارتيابه وتوجسه، وتحقق له سوء ظنِّه بكلاب الحي، إذ لم يمض إلا قليلاً حتى أقبل عليه من إحدى الجواد القريبة كلب بطِر شديد الجلب شديد العزم على أذيته، كأن له ترة قديمة عنده وحسابا ينوي وفاءه.
وأدرك هرنا أي شيء لا بد لاحق به، وأدرك كذلك أن الهرب ليس بمنجيه ولا مخلصه من هذا الذي أخذ عليه الطريق وسد المهرب. فاستدار في الحال وازبأر وهرَّ هريراً وأبدى عن أنيابه، وأتأر بالخصم بصره، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، وتنفش شعره، وتقوس ظهره، وشال ذنبه، ووقف يتحفز.
ولم يفت كلبنا المعتدي مغزى ذلك جميعاً، ووقف تلقاءه يرمقه ويروزه ببصره ملياً، حتى إذا بدا له أن الهجوم من الناحية الأممية - وقد حصنتها مخالب مرهفة وأنياب حديدة - قد لا يخلو من خطر أكيد، انفتل منسلا كدأب الكلاب، وباغته من الخلف مباغتة استطار لها لبُّه وانخلع قلبه. وأقبلت كلاب الحي تتعاوى من بعيد ومن قريب، وكلها في البغي والاثم سواء، فكأنها وكأنه ما عناه الشاعر حين قل:
تكاثرت (الكلاب) على خراش
…
فلا يدري خراش ما (يصدُّ)
وهممت عندها أن أقوم وأنجد هرنا المسكين وأذب عنه هذه العرجلة الباغية من الكلاب، إلا أن هرنا لم يدع لي لأتدخل، وحلَّ الإشكال بطريقة مسددة من إلهام الطبع، وهداية الغريزة، واستعداد الفطرة، إذ عمد إلى هذه الكلاب يستلُّ سخيمتها ويزيل شرَّتها بالاستسلام لها والكف عن قتالها، ولسان حاله يقول:
ولو كان (كلبا) واحدا لاحتملته
…
ولكنه (كلب) وثانٍ وثالث
ولم تنتظر الكلاب منه حركة كهذه، فوجمت حياله تفكر ماذا هي صانعة بعد الذي رأت من استسلامه وانقطاعه عن كل مظهر من مظاهر الخصومة والدفاع، وكأن كلابنا فهمت عنه ما أراد وفطنت إلى مغزى حركته تلك، وأدركت دلالتها ومعناها، فابذعرَّت قانعة بما هيأ لها هرنا المغلوب من معاني الفوز والغلب؛ وقام هرنا وسار لطيَّته يرهف سمعه ويقِّلب
بصره ذات اليمين وذات الشمال، ويُعد نفسه مرة ثانية لتمثيل الدور نفسه إذا أحوجه الأمر.
وفكرت ملياً فيما شهدت وطفقت أسائل نفسي: أنحن هنا أمام ظاهرة خاصة من ظواهر الحياة قاصرة على الكلاب وخلافها من ذوات الظفر والناب، أم نحن أمام ظاهرة عامة شاملة من ظواهر الحياة تشمل الإنسان والحيوان جميعاً ويخضع كافة الأحياء لحكمها وقيودها؟
ولم يطل أمد الهجس والارتياب، وأيقنت بعد القليل من التدبر أنه حالة عامة شاملة كأعم وأشمل ما تكونه حال من أحوال الحياة وظواهرها.
وتسأل: ما تلك الظاهرة، وما طبيعتها؟ ولا نطيل فهي مما وصفنا ورأيت ما يمكن أن ندعوه (توكيد الذات) وإبراز الشخصية. فكلبنا المعتدي الأول لما هاجم الهرّ بلا عداوة سابقة أو حقد قديم، إنما فعلها ليثبت من قدرة نفسه وحدة أنيابه وقوة عضله، وليؤكد لنفسه أنه ذو غلبة وبطش، ومثله في ذلك الكلاب الأخرى، وعليه لما رأت الهر يتخاذل ويتنازل لها جميعاً عن كل حق من حقوق توكيد الذات غادرته ولم تؤذه.
وأنت ترى مما أثبتنا هنا من عمل الكلاب أن هذا الدافع إلى توكيد الذات في الحيوان دافع فطري غريزي لا يخرج بمجمله عن معنى القتال المباشر الذي تمارسه جميع الحيوانات على اختلاف طفيف بينها في أساليبه وطرائقه.
أم في الإنسان فيتخذ هذا الدافع من توكيد الذات وتقريرها شتى المظاهر ومختلف الأشكال والصور، ولن تخطئ مظاهره - في لون من ألوانه - في الطفل واليافع والشاب والشيخ جميعاً.
والطفل يبدأ سلوكه يتأثر بهذا الدافع من العام الأول في عمره، وكلنا يعرف جيداً ما هي الأساليب التي يصطنعها الصغار لينبهوا إليهم الكبار ويستجلبوا رضاهم وتقديرهم، ومن هنا كان الفهم الصحيح للطفولة يوجب على المربين الانتباه الشديد لهذا الدافع والانتفاع به في توجيه الصغار توجيهاً صالحاً وتحريضهم على الإجادة والتبريز في حدود إمكانهم وكفاياتهم. وفي الحق ليس أقتل لروح الطموح في الطفل ولا أدعى لفشله من أن يغفل الآباء والمربون هذا الطور الدقيق في حياة الطفل ويتركوه وشأنه بلا تشجيع ولا استحسان حيث يستحقان، أو يعكسوا الأمر عليه ويملئوا سمعه بالنقد ويقابلوا حماسته بالفتور وثقته
من نفسه بالتشكيك والريبة. ولا نغالي إذا نحسب أن أكثر الفاشلين في الحياة هم ممن كانت طفولتهم نزاعاً بين إهمال الوالدين وقسوة المحيط وبين ما ركِّب في نفوسهم وغرس في طباعهم من ميل جامح قوي لتأييد النفس وتوكيد الذات. وكم من طفل أعجزه أن يحوز رضى البيئة وتقدير الوالدين بأساليب مقبولة ووسائل سليمة، فراح بعدها يصطنع أغرب الوسائل وأخطرها في حاضر حياته وآتيها، كأن يعمد إلى نفسه يؤذيها أذى بليغاً أو يعمد إلى الغير يؤذيه مثل ذلك الأذى، أو كان يعمد إلى الآنية يحطمها والثياب يمزقها ولسان حاله يقول: هو ذا أنا أثبت كياني وأؤكد اقتداري وكفايتي بما ترون إن كان لا يعجبكم ولا ينبهكم إلي إلاَّ مثل ما تشهدون.
وليس من المتعذر أن تتصور حال مثل هذا الطفل، إذ يشب، كيف تكون. وليس من الصعب أن تتبين في مثل هذه الأعمال الشاذة أولى بوادر الإجرام والخروج على النظام وأوضاع الاجتماع. يحكى أن أفراد الشرطة في أمريكا ألقوا القبض، بعد لأي، على لص خطير اعتاد أن يتصدى للقطارات ويسلبها، واقتادوه إلى قاعة التحقيق. وبعد استجواب سيكولوجي دقيق دهش المحققون إذ استبان لهم أن هذا اللص كان في طفولته وحداثته كأشد الناس حياءً وخجلاً. ولما سئل فيم إصراره على أعمال العنف والإجرام أجاب بأنه إنما يفعلها ليؤكد لنفسه أنه ليس من الحياء وخور العزيمة كالذي يحس ويشعر.
هذا ويجب ألا يفوتنا أن معظم أنظمة التربية الحديثة مبنية على هذا الميل مستهدية به. فنظام الصفوف والمباريات والجوائز وما إليها من وسائل التحضيض والتشجيع تتهدى هذا الميل وتستغله. وليس من السهل أبداً أن تستبدل بهذا الدافع للعمل والإغراء به دافعاً آخر من ميول النفس وأهوائها.
ويشب الطفل فيجد نفسه بين الأمر الواقع من جد الحياة وبين هذا الميل القوي الذي لا يغفل ولا يهادن، ويجد نفسه بين العدد الذي لا يحصى من مثبِّطات العزم ومفترات السعي وبين ما أجَّج في نفسه وغرس في طبعه من حبِّ الغلب وشهوة الفوز وبروز الشخصية. فإذا أسعدته الهمة ولاءمته الظروف وسار سيرة ناجحة في الحياة نشأ نشأة بعيدة إجمالاً من شذوذ الطبع وغرابة الخلق وما يصاحبها من شذوذ العمل وانحراف السلوك. أما إذا عاندته الظروف وخانته الكفاية فهناك ما تشاء من شذوذ الطبع وغرابة السلوك. ولدينا صنوف
وصنوف ممن ينشئون هذه النشأة الشاذة في الحياة.
فالمتقشفون هم إجمالاً نفر فشلوا في الحياة بعد أن خوَّضوا فيها، أو قدروا الفشل قبل ذلك، فاختصروا على أنفسهم العمل ووقفوا في أول جادة الحياة وبداءة السعي دون أن يحاولوا مضياً في الطريق وزيادة في السعي. لقد أعياهم أن يغلبوا بيئتهم ويتغلبوا على ضعفهم، فانقلبوا على أنفسهم - وهي أهون شيء عليهم - وأحالوا عليها بالخصومة وأضووها بالحرمان وتعوَّضوا بخصومتها عن خصومة المحيط والأضداد من الخارج. ولسنا بالطبع نعزو إلى هذا العكس في ميول الاستعلاء ورغبة البروز وتوكيد الذات جميع نماذج التقشف وإنكار الذات المشهودة، إذ لا ريب أن من حوادث التقشف ما لا يرجع في بواعثه إلى فشل المرء في الحياة كالذي يُرى من تقشف أناس قد تهيأت لهم أسباب النجاح في الحياة وذاقوا لذات الفوز والغلب ولكنهم مع ذلك آثروا حرمان الذات ومطاردة اللذات. على أننا نعود ونقرر أن معظم حوادث التقشف هي في مجملها وسيلة العجز في تقرير الشخصية وتوكيد الذات.
والحسد - كذلك - تعبير صامت واتجاه سلبي معكوس لدافع توكيد الذات. والحسد ينشأ ويتأصل في النفوس كلما تسامت مطالب المرء وبعدت غايته ثم أعجزته القدرة وعاكسه المحيط فلم يسم، عملاً وواقعاً، إلى مستوى مطالبه. ومن هنا يحسب الأخلاقيون وعلماء النفس أن الحسد ظاهرة عامة شاملة بين الناس إذ كان النجاح المطلق الذي يرضى عنده المرء عن كل شيء في الحياة مطلباً صعباً وغاية لا يسمو إليها جهد بشري. ويخيل إلينا أنه لو يسر لامرئ من الناس كل أمانيه ومهدت في سبيله جميع الصعاب ودمثت جميع العقبات وأنيل كافة ما تتشهاه النفوس وتصبو إليه، لفكر بجد وحرقة زائدة في أن ينال كمنزلة الآلهة من خلود مطلق وعلم كامل وقدرة فائقة. ومرجع ذلك أن المرء بطبيعة تكوينه النفسي والفكري مثالي يكره النقص أبداً ويتطلب المزيد والكمال، والكمال لا حد له ولا انتهاء. وهذا لا ريب يفسر لنا لماذا ينسينا نجاحنا الكبير نجاحنا الصغير، ولماذا ينسينا فشلنا الأكبر أبداً فشلنا الأصغر.
والرجل الحساس هو الآخر صنف خاص من الناس فشل في أن يؤكد نفسه ويرغم المحيط على اعتبارها وتقديرها بالقدر القائم له منها في خياله، فغدا - لذلك - سيئ الظن بالناس
كثير الارتياب لهم، وصار لكل حركة من حركاتهم معنى الاجتداء عليه والانتقاص له والزراية به، وغدا - كذلك - قليل الاحتمال دائم النفرة سيئ التقدير.
ومثل الحسَّاس - على اختلاف طفيف - الرجل الحيّ. هذا إذا فشل في توكيد نفسه وتمييز شخصه، قام في وهمه أنه امرؤ لا يصلح للعمل ولا يقوى على الجهاد، فانزوى منطوياً على نفسه عاكفاً على همومه مجترّاً لآلامه. إلا أن بينه وبين الحسَّاس فرق أن الحسَّاس يعالن الناس غالباً بما يقدر من سوء رأيهم فيه ويحتجُّ على ذلك ويدافع عن نفسه، بينما الحيُّ في غالب أمره لا يفعل شيئاً من ذلك بل يتجرع آلامه صابراً متحاشياً، بقدر الامكان، أن يجيء والناس بسبيل واحد. ومرجع الفرق هنا إلى أن الحساس له رأي طيب في نفسه بالإضافة إلى ما يتصور من سوء رأي الغير به، بينما الحيُّ يسيء الظن بذاته ويعتقد أن الناس لهم فيه مثل رأيه في نفسه.
ينضاف إلى هذه المظاهر المعكوسة من توكيد الذات مظهر آخر هو مظهر الإسراف في الغرور وتقدير الذات. وهو ينشأ إذ يشبُّ المرء - لأسباب عدة من إساءة التوجيه - على اعتقاد قوي أنه امرؤ فوق الناس، وأن من سخافة الأقدار وغفلة الزمان وجور البيئة أو يولد بين الناس، يعيش كما يعيشون، فيشقى كما يشقون وينعم كما ينعمون ويكتفي من الأماني والآمال بمثل ما يتمنون ويؤملون، ويخيَّل إليك كأنه عاتب على ربه الذي خلق من الناس غيره!!
هذا وقد يتخذ الغرور مظهراً آخر غير مظهره العام حده التشدُّق بالكمال ونقد الزمان والتبرم بالبيئة، ويسير في اتجاه معاكس أو موارب كالذي يُرى في نفرٍ من الناس لم يستطيعوا أن يفرضوا أنفسهم على المحيط ولم يستطيعوا أن يجاهروا بكمالهم ويعالنوا الناس بكفاياتهم واقتدارهم (كما يقدِّرون لأنفسهم)، فانقلبوا - لذلك - صنفاً متواضعاً من الناس لا يهمهم - ظاهراً فقط - أن يتلبَّسوا حالات زريَّة وينتقدوا أنفسهم على مشهد ومسمع من الناس. وقد تغشُّ غير الفطن مثل هذه المظاهر حتى ليعتقد الملاحظ السطحي الذي لم يسبر غور الأمور أن هذه المظاهر تصدر عن عقيدة صادقة بالنفس وإخلاص في التقدير. إلا أنها مظاهر - على كل حال - لا تخفى على المتبصِّر الذي لا يخدعه ظاهر الإخلاص وجودة التمثيل. يحكى أن سقراط رأى فتى أثينياً موسراً يعتلي منصة الخطابة
في أسمال بالية وثياب مهلهلة، فنظر فيه سقراط متفرِّساً زمناً ثم خاطبه بلهجة صارمة: أيها الأثيني الشاب، إني لأكاد أرى الغرور والكبرياء ينزَّان من اهابك، ويطلاَّن من وراء كل خرق ورقعة من ثيابك!
تلك بعض المظاهر المسرفة لدافع توكيد الذات. وأما مظاهره الطبيعية التي لا إغراب فيها ولا شذوذ فتقع في أشكال وألوان عديدة لا تقل عن مظاهر الشذوذ والغرابة.
من ذلك هذا الميل العام الشامل لدى جميع الأمم والأجناس إلى التقسيم والتدريج وتأليف الطبقات يتميز بعضها من بعض ويعلو بعضها بعضاً، ثم هذا السعي الدائب والاشرئباب الدائم من الناس إلى تغيير الأمكنة وتبديل المنازل حيث يستحب التغيير والتبديل، ثم ذلك الجمود على ذات الحال والحرص على البقاء في ذات المنزلة حيث لا يشتهى التغيير والانتقال، ولعله ما كان يتحوَّل أبناء الطبقة من الطبقات ولا يتزحزحون عن محلهم صعوداً ولا هبوطاً لو خلا الناس من حافز توكيد الذات والاستباق إلى الأمكنة العلية والمنازل البارزة.
وكما يقع التزاحم على المنازل الرفيعة بين الطبقات يقع كذلك بين الأجناس والأمم والممالك والدول. ولعل دافعاً قوياً من دوافع الحروب كان يزول لو زالت من النفوس رغبة الامتياز وهوى الاستعلاء.
وفي الناحية الفردية يظهر الميل إلى توكيد الذات توكيداً طبيعياً مقبولاً في مظاهر عديدة؛ منها رغبة التميز والتبذير في الاكتشاف والاختراع والإبداع الفني والأدبي؛ ومنها رغبة البروز والامتياز في مجال الاقتصاد وجمع الثروة؛ ومنها حب الغلب والانتصار في ميادين الرياضة البدنية من محاضرة ومصارعة وملاكمة وخلافها؛ ومنها - كذلك - حب الانتصار في ميادين الرياضة العقلية والترويح عن النفس بالنكتة البارعة والفكاهة الطليقة والهزل المستجد؛ ومنها حب التبريز والسمو في ميادين القيادة الاجتماعية؛ ومنها شهوة التغلب والقهر في ميادين الحب والغزل، ومنها خلاف هذا شيء كثير.
فرغبة الامتياز وشهرة البروز في ميادين العلم والاكتشاف والاختراع، وفي ميداني الإبداع الفني والأدبي، هي في أول دوافع الإنشاء والإبداع العلمي والفني. وليست الرغبة في الاختراع والاكتشاف، وفي الإبداع الفني ناجمة فقط مما ركب في النفوس من غرائز
الاستغراب وحب الطرافة وما يكون من تسامي دوافع الغريزة الجنسية من مستواها الحسي إلى مستوى أعلى وأجل، إنما هي ناجمة إلى حد كبير مما رُكِّب في الطباع من ميل قوي إلى تقرير الذات والتغلب على الصعاب والعقبات.
وفي مجال جمع الثروة وحشد المال مظهر توكيد الذات ما تراه من عدم وقوف الناس في جمع الثروة عند الحد الذي ييسر جميع مطالب العيش وأسباب الرفاه والدعة. فالمرء يعمل أولاً لرد غائلة الجوع وسد الحاجات الضرورية، فإذا تيسر له مقدار من الثراء يحقق له سد الحاجة وطرد الفاقة انتقل حافز الإنتاج من مجال الحس إلى مجال الشعور، وغدا هدف الإنتاج وتكثيره لذة التميز والانفراد بالشيء. ومن هنا قلما نرى ربّا من أرباب المال يعتريه الفتور والوناء في الجمع والإنتاج، لأن في ذلك وسيلة صامتة يكاثر بها الأعداء ويراغم الخصوم ويدل على الأقران. وهذا الدافع لا ريب يفسر لنا تفسيراً مقبولاً كثيراً من أنواع الاستملاك السخيف، كشهوة جمع الطوابع وتواقيع العظماء ومخطوطات الكتاب، وخلاف هذا مما لا قيمة له في ذاته، وإنما كل قيمته ما يشعر مالكه بلذة الانفراد بالشيء والامتياز عن الناس ولو بالسخيف الذي لا قيمة له في ذاته ولا وزن.
وفي ميادين الرياضة البدنية من أثر هذا الدافع أن اللاعبين والمتثاقفين والمتحاضرين يقررون أشخاصهم ويؤكدون ذواتهم لدى النظارة والمشاهدين. ولولا ذلك لظلت الألعاب الرياضية ظاهرة فردية أكثر منها ظاهرة اجتماعية. وأنت تلمس أثر ذلك جيداً من الحماس الذي يستولي على قلوب اللاعبين كلما كثر عدد المشاهدين وزاد تحريضهم وتحمسهم للاعبين. ولو كان ترويض الأجسام وحده هو المقصود من الألعاب الرياضية لاكتفى اللاعبون بملاعبة ذواتهم ومثاقفة أنفسهم وحسب.
وفي ميدان الرياضة العقلية والترويح عن النفس بالنكتة والهزل يقع هذا الميل موقعاً أول. وما يؤلف من نكتة ويروج من نادرة ويذيع من فكاهة مرجعه في الأصل ميل النفوس إلى التسرية بالظهور والبروز والاستعلاء على الخصم المشهود أو الغائب. فنحن إذ نضحك من موضوع النادرة أو الفكاهة، إنما نضحك لأنها تضع لنا شخصاً أو أشخاصاً موضعاً غريباً ضعيفاً يثير فينا حس الاستعلاء والبراءة من الغفلة أو الجهل أو البقاء. على أن النادرة - في الأحوال الطبيعية - تعجز العجز كله أن تستثير الضحك فينا إذا بلغ الضعف في
موضوعها حس الاستعلاء، ويثير بديلاً منه حس الإشفاق والخشية أن يصيب هذا الموضوع شرٌّ أو أذى بليغ. ومن هنا قد يصور لك الكاتب صورة هزلية تستثير الضحك والابتسام، ولكنك لا يسعك إلا أن تجم وتكف عن الابتسام والضحك متى بلغ كاتبك بموضوع هزله حداً مخطراً كأن يتعرض لخطر أكيد أو يضحى على حال تدعو إلى الإشفاق والأسى، ولن يعيدك إلى استشعار الغبطة والسرور إلا أن يعيد لك الكاتب موضوع هزله إلى مثل حاله الأولى التي لا تبلغ من القوة إضعاف حس الاستعلاء فيك ولا تبلغ من الضعف توليد حس الإشفاق والأسى في نفسك.
والميل إلى توكيد الذات وما يستتبعه من شهوة البروز ورغبة الاستعلاء تعمل عملها الأكيد في ميدان العمل الاجتماعي وفي مجال القيادة الاجتماعية، إذ كان الانقياد وحب التعاون يستحيلان على الجمهور إذا لم يقم فيه القادة الذين يفرضون ذواتهم فرضاً على الناس ويقودونهم قيادة حازمة قوية إلى حيث يشاءون لهم من رفعة وخير وصلاح.
وقد يستدرك القارئ هنا ويسأل: أيكون الميل إلى توكيد الذات وشهوة البروز في مجال القيادة والزعامة عامل خير ووسيلة صلاح في ميادين العمل الاجتماعي، ونحن نشهد من آثارهما هذا الميل المسرف والتكالب المزري على أسباب البروز والرفعة في ميادين الزعامة المختلفة، وإن يكن ذلك - في كثير الأحيان - على حساب الأماني العامة وإهدار المصالح الكبرى للشعب؟
ونجيب أن الميل إلى توكيد الذات عن طريق السيادة الاجتماعية ككل ميل آخر من ميول النفس يضحي أداة فاسدة ووسيلة هادمة إذا خبثت النفوس وأسفت الغاية، وعلى أن في يد الشعب - في معظم أمره - القدرة على كبح هذا الميل وحصره ضمن حدود الصالح العام، بما يداول من ثقته بين الزعماء والقادة وبما يشهر بالقيادة النفعية المتاجرة وبما يوليها من المقت والمحاسبة الشديدة، مما يقمع في القيادة عواطف الأثرة وحب الانتهاز والاستغلال حيث تهم أن تبرز وتستعلن. ولا مراء في أن الانتهاز والاستغلال عن طريق القيادة الاجتماعية يقلان في شرفنا إجمالاً قلة مطردة بما تحدثه التربية من رفع مستوى التعليم والتنبه الفكري وتعميق غور العواطف الاجتماعية.
وأخيراً أثر هذا الميل في ميدان الحب، فنرى أن دافع توكيد الذات هذا يعمل عمله القوي
في طلب التنويع في الحب وعدم الاكتفاء بحبيب واحد يقصر عليه الهم وينيط به القلب إلى آخر العمر. وذلك أن من الناس من يبلغ حس الاستعلاء وشهوة الغلب ورغبة البروز عندهم مبلغاً يطغى عندهم على عاطفة الحب الصحيح فيغدو لا يهمهم من يحبون بقدر ما يهمهم كم من الخلق وقع في حبائل حبهم، فكأنهم بهذا يقيسون قدرتهم على الغلب والفوز في ميادين الحب بعدد اللواتي يهمُّهن ذكرهم واستحوذت على قلوبهن صورهم.
ونقف عند هذا الحد من التفصيل والتمثيل لهذا الميل في أحواله الطبيعية والشاذة موقنين أن الاستقصاء التام والجلاء الكامل لجميع آثاره إنما هو استقصاء لأعظم حالات النفس أثراً مطبوعاً في الخلق والسلوك وأشدها دافعاً وحافزاً على العمل، وليس هذا المجال مجال ذلك.
أديب عباسي
من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع
لغة الأحكام والمرافعات
للأستاذ زكي عريبي
- 4 -
لغة المرافعة لغة التماس
ويجب ألا يغرب عن الذهن أن المترافع ملتمس، فلغته يجب أن تكون لغة التماس يحوطها الاحترام الكلي للهيئة التي يترافع أمامها. قد يكون أغزر من سامعيه علماً وأظهر فضلاً، وقد يكون كلامه لهم تعليماً، ولكن عبارته يجب أن تكون عبارة إكبار وإعظام.
والاحترام والإكبار لا يقتضي التذلل ولا الضعة في توجيه الخطاب. وشد ما أكره عبارة (سيدي البيه) يوجهها بعض الزملاء إلى قاض ليس (بيكا) ولا هو بحاجة إلى رتبة تخلع عليه على سبيل التأدب الزائد وقد يحمل خلعها على أنه زلفى وتقرب.
وفي الوقت عينه لغة جرأة
على أنه إن كانت لغة المرافعة لغة تعظيم وتوقير فهي في الوقت عينه لغة عزة وجرأة. وقد روى التاريخ مواقف للمحامين رقوا فيها إلى درجة البطولة. أنظر إلى ديسيز وقد دعاه لويس السادس عشر إلى الدفاع عنه أمام الجمعية التأسيسية في وقت جمعت فيه هذه الهيئة في يدها جميع السلطات، وأصبح مجرد الإشارة إلى الملوكية جريمة. أنظر إليه وهو يواجه هيئة ضمنها أمثال روبسبيير ودانتون ومارات. أنظر إليه وهو يقرع أسماعهم وقلوبهم بهذا الخطاب الخالد.
(أيها المواطنون! سأخاطبكم بلسان الرجل الحر. إني أبحث بينكم عن قضاة فلا أجد غير متهمين.
أتريدون أن تجعلوا من أنفسكم قضاة (للويس) وأنتم خصومه؟ أتريدون أن تجلسوا للحكم في قضية لويس ولكم فيها رأي يجوب أوربا من أقصاها إلى أقصاها؟
أيكون لويس الفرنسوي الوحيد الذي لا يحميه قانون ولا يتبع في محاكمته إجراء واحد صحيح؟
أيجرد من امتيازاته كملك ومن حقوقه كمواطن؟
أيخذله القانون حاكما ومحكوماً؟
ياله من مصير عجيب لا يتصور!)
لقد ضربت أعناق كثيرة في عهد الثورة لكلام أقل خطورة من هذا بما لا يقاس. ولكن لأعمال الجرأة روعة تهاب وتحترم، فأن التاريخ الذي حفظ هذه المرافعة الخالدة بين صحفه الذهبية. هذا التاريخ عينه يحدثنا بأن شعرة من رأس ديسيز لم تمس بسبب هذا الكلام الجريء وأنه ترافع بعد ذلك أكثر من مرة في أشد أوقات الثورة حلوكة وسوادا.
الاعتدال في لغة المرافعات
وليس أزرى بالمرافعات ولا أضيع لبهجتها ولا أفل لسلاحها من سفه لغتها. إن عبارة قاذعة واحدة يرمى بها خصم كريم - أو غير كريم - لتكفي في تنفير القاضي.
وليس بعد النفرة تفويت للغرض الأصيل المقصود بالمرافعات.
وأقبح من رمى الخصم بما لا يحب جرح الزميل.
صحيح أن المرافعة دفع وجذب، ونادر هو المترافع الذي يملك زمام أعصابه فلا تجمح به حدة الدفاع؛ ولكن المسألة مسألة مران، وإنك لتدهش وقد عودت نفسك التزام حدود الاعتدال كيف يسمو موقفك، وتعلو حجتك ويمتاز بيانك.
المرافعات في مصر
بقيت كلمة كان يمكن أن تكون موضوع مقال خاص، فلسنا نملك الإطالة فيها هنا، وهي عن المرافعات في مصر.
لقد انقضى على إنشاء المحاكم المختلطة نيف وستون عاماً، وأقل منها قليلاً على قيام المحاكم الأهلية، وقد غلبت على الأولى اللغة الفرنسية، وكانت العربية لغة الثانية منذ الإنشاء وقبله.
وقد زهت اللغة في كلا القضاءين إلى حد يشهد لمصر بالتفوق البعيد.
حضرت الأستاذين كاتسفليس وبادوا (وكلاهما شرقي متمصر) يترافعان في قضية قناة السويس. وكان إلى جانبي الأستاذ جرانمولان الناظر الأسبق لمدرسة الحقوق، فهمس في
أذني والأول مندفع في بيانه الساحر: (لا تطمع أن تسمع خيراً من هذه الفرنسية من خير المترافعين أمام محكمة السين).
وفي المحاكم الأهلية سابقت لغة المرافعات الزمن فسبقته.
لقد وجد مداره مقاويل - على حد تعبير رئيس محكمة النقض - قبل أن تخطو اللغة العربية خطواتها الأخيرة الواسعة.
وجد (حسين صقر)، و (اللقاني)، و (نقولا توما) وغيرهم من بناة المجد في زمن كانت المحاماة فيه مجرد اجتهاد.
وثمة نموذج من هذا المجد الغابر تجده إلى اليوم قائماً بيننا في شخص شيخ الجماعة وإمام الصناعة الأستاذ الأكبر إبراهيم الهلباوي بك.
من ذا يستطيع إلى اليوم تحدي بديهته الوثابة ولغته الفكهة اللاذعة وسخره القتال؟
ومن ذا الذي يستطيع أن ينسى سعد زغلول وأبا شادي من جبابرة ذلك العصر وكلاهما كان إلى الأمس القريب صداحاً بأروع الأدب.
وجاءت بعد هؤلاء طبقة هي فخر المحاماة بمعناها الصحيح وفخر لغة العصر: أحمد لطفي بلغته السهلة الممتعة وعبد العزيز فهمي بقلمه ولسانه الجبارين يتصرفان في المعنى وفي المبنى بما يريد ويشتهي. ووهيب دوس صاحب المنطق الجزل والديباجة الرشيقة والبيات المتدفق في غير متعة ولا تزيد. ومرقس! مرقس الذي لا يلحق ولا يدانى، مرقس الجذاب الأخاذ، المتغلغل بسامعه إلى الأعماق، السامي به إلى السبع الطباق.
كل من هؤلاء يستحق أن يدرس دراسة خاصة، وأن يقدمه إلى الناس قلم غير هذا القلم، وأن تقف عليه جهود لا تستطيعها هذه العجالة.
وفي دراسة هؤلاء الفحول دراسة لناحية مجيدة من أدبنا القومي يجب ألا تهمل. وحسبك منا هنا الإشارة إلى آثارهم في مختلف ألوان فني الكلام القضائي مما لا يحصيه محص.
مرافعات النيابة
ومن الإجرام أن نغفل في صدد الكلام على المرافعات في مصر جهود القائمين بالدعوى العامة.
لقد ضربوا في فني الكلام القضائي بسهم ورقوا بالمرافعات الجنائية إلى عليين.
من نذكر على سبيل المثال؟
أثروت أم أبو السعود من المغيبين في جوار الله؟ الأبراشي أم لبيب عطية أم عمر عارف من الأحياء النابهين؟
كلهم يصح أن يحتذى.
اسمع ما يقول النائب العام الأسبق في قضية الورداني
(إن الوطنية التي يدعي الدفاع عنها بهذا السلاح المسموم لبراء من مثل هذا المنكر.
إن الوطنية الصحيحة لا تحل في قلب ملأته مبادئ تستحل اغتيال النفس. إن مثل هذه المبادئ مقوضة لكل اجتماع.
وماذا يكون حال أمة إذا كانت حياة أولي الأمر فيها رهينة حكم متهوس يبيت ليله فيضطرب نومه وتكثر هواجسه فيصبح صباحه ويحمل سلاحه يغشاهم في دار أعمالهم فيسقيهم كأس المنون؟
ثم إذا سئل في ذلك تبجح وقال إنما أخدم وطني لأني أعتقد أن مثلهم خائنون للبلاد ضارون بها: تباً لتلك المبادئ وسحقاً لها! كيف يقوم لنظام قائمة مع تلك المبادئ الفاسدة؟ إن مبادئ كل اجتماع ألا ينال إنسان جزاء على عمل مهما كان هذا الجزاء صغيراً إلا عن يد قضاة اشترطت فيهم ضمانات قوية وبعد أن يتمكن من الدفاع عن نفسه حتى ينتج الجزاء النتيجة الصالحة التي وضع لها من حماية الاجتماع.
فإذا كان هذا هو الشأن في أقل جزاء يلحق بالنفس أو بالمال فما بالك بجزاء هو إزهاق الروح والحرمان من الحياة؟
تلك مبادئ لا وجود لمجتمع إلا بها ولا سعادة له بدونها، فالطمأنينة على المال والنفس هي أساس العمران ومن الدعائم التي ادعم عليها في كل زمان ومكان، ولكن الورداني له مذهب آخر في الاجتماع، فهو يضع نفسه موضع الحكم على أعمال الرجال فما ارتضاه منها كان هو النافع، وما لم يرتضه كان هو الضار. ويريد أيضاً أن يكون القاضي الذي يقدر الجزاء ثم يقضي به من غير معقب ولا راد.
كل ذلك والأمر لم يتعد إرجاء صدره ولا يعلم ذلك المسكين الذي سينصب عليه هذا القضاء أنه على قيد شبر من الموت جزاء له على جناية لم يسأل عنها ولم يعلم من أمرها شيئاً.
إن مثل هذا الحق لا يمكن أن يكون إلا لله سبحانه وتعالى المطلع على السرائر العليم بالنيات، ومع ذلك فأنه جل شأنه شرع الحساب قبل العقاب؛ ثم إن هذا الحق لم يتطلع إليه أحد من العالمين حتى الأنبياء أنفسهم، وقد أجمعت الشرائع على عصمتهم من الزلل والخطأ، ولكن الورادني يريد أن يضع نفسه فوق كل الدرجات المتصورة لحاكم وحكم وقتل.
إني لترتعد فرائصي إذا تصورت منظر البلاد وقد نشأ فيها البلاء الأكبر بفشو تلك المبادئ القاضية).
واسمع ما يقوله النائب العام السابق خاتماً به مرافعته الرائعة في قضية الفلال.
(لقد أبنت مبلغ نذالة الجريمة ومدى شرها إذا هي وقعت على كابر جليل المقام.
أبنت ذلك بقدر ما فسح لي موقف النائب العمومي وأجازته الأمانة التي في عنقي.
ولو أن المجال حر لقائل لسمعتهم كل ما يتطلبه حزمكم وترضاه عدالتكم، ولكنني كما أسلفت مؤمن بفطنتكم ولي فيها كل الغناء.
على أن هناك أمراً أجل شأناً وأعظم خطراً لا أستطيع حمل ضميري على كتمانه، ولا عقد لساني عن بينه. هذا الأمر الخطير هو ما أشرت إليه في صدر مرافعتي وألمحت به عند حديثي عن الباعث الذي دفع المتهم إلى جنايته، ذلك هو ولع التبطل وغواية الاستعظام، وما أجملت في جلسة الإحالة بأنه داء اجتماعي وبيل يهدد الحكومات في كيانها ويشل النظام من أساسه، وأنه إن لم يؤخذ بيد عسراء استفحل ضرره وعز اتقاء شره. نعم استفحل ضرره وعز اتقاء شره.
ارسموا لأنفسكم بواسع خبرتكم ونافذ بصيرتكم حال البلاد وقد أصبح كل عظيم فيها هدفاً لرأي شقي تربعت في نفسه الشريرة هذه الأفكار الخطرة! تلك حال أستعيذ بالله منها.
هي مضيعة للطمأنينة ومقتلة للنبوغ ومفسدة لنفس العاملين؛ بل هي حفرة يتردى فيها إخلاص المخلصين ونشاط المجدين وإيمان الصالحين.
أنتم قضاة الحق ولكنكم أيضاً مربو الخلق. وكلمة العدل التي بها تنطقون يتجاوب صداها في نفوس ناشئة ونفوس ثائرة ونفوس فزعة خائرة. فاجعلوا حكمكم رسالة عدل وبلاغ عبرة وبشرى سلام.
وإذا جنحتم إلى الرحمة فاشملوا بها النشء وقد أوشك أن يلتوي، والبلاد وقد دب فيها ذاك الداء الوخيم.
أنتم أطباء النفس كما أنتم قضاة العدل، والطبيب البصير لا يتردد ولا يني عند الضرورة الحاكمة، والقاضي الحازم يهذب بالزجر الحكيم وهو في زجره من الراحمين.
وازلوا بين روعة الرحمة، وقد حلت بالبلاد وبالنشء وبين ضآلتها إن هي حلت بهذا المجرم العتيد، ثم اقضوا قضاءكم والله معكم إنه نعم الهادي ونعم النصير).
تلك وايم الحق بلاغة ليس بعدها بلاغة. معنى حكيم في لفظ سليم، وفصيح عبارة في أوجز إشارة.
وتعال إن أردت تسريح الطرف في خير ما تقع عليه العين من أدب في قضية أدب إلى مرافعة عمر عارف في دعوى القذف التي سبقت الإشارة إليها. اسمع ما يمهد به هذا الأديب المتشح برداء النيابة لمرافعته القيمة:
(تعرض اليوم أمام القضاء قضية جنى فيها رجلان ينتسبان إلى الأدب على طهر الأدب عامة في شخص مصري له مكانه من العلم. ولو لم يكن إلا أنه محام نذر نفسه لنصرة الحق أمام شرف القضاء لكان ذلك من المنزلة في الثقافة العلمية والفضل المشكور حسبه).
(يتبع)
زكي عريبي
المحامي أمام محكمة النقض والإبرام
الحجاب في الإسلام
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
من علماء الأزهر
- 3 -
وقد عرف الإسلام أن إطلاقه الأمر للنساء في ذلك قد يؤدي بهن إلى إساءة استعمال حقهن فيه، فيضيق الرجال بإساءة استعمالهن له، ويعملون على التضييق عليهن وسلبهن إياه، كما حدث ذلك بين المسلمين فآل بهم إلى هذا الحجاب الممقوت الذي يحسب زوراً على الإسلام، وكما يحدث الآن في بعض البلاد الأوربية التي سئمت إسراف النساء في السفور، فأخذت تحد من حريتهن فيه، وتضيق عليهن بعض التضييق.
فلما عرف الإسلام هذا شرع للنساء في الخروج من البيت والاختلاط بالرجال سنناً تصونها عن تلك الإساءة، ولا تجعل للرجال عليهن سبيلاً في سلبهن ما أعطاه لهن من ذلك الحق. وليست تلك السنن من الحجاب في شيء، وإنما هي تنظيم لهذا الحق بين الرجل والمرأة.
ومن تلك السنن ألا تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها، لأن له حقوقاً عليها في منزلها، فلا يصح لها أن تخرج منه إلا إذا سمحت بذلك نفسه، وليس له أن يمنعها من الخروج لحاجاتها بعد قيامها بحاجاته.
ومن تلك السنن ألا تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم لها. وقد ورد في ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم لها. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم. فقام رجل فقال يا رسول الله: إن امرأتي خرجت حاجة، وإني كتبت في غزوة كذا وكذا، قال: فانطلق فحج مع امرأتك.
ومن تلك السنن تحريم الخلوة، لأن في اختلاء المرأة بالأجنبي مفاسد كثيرة، وهي وسيلة من وسائل إغوائها، ودفعها في طرق لا ترضي الدين ولا الشرف. ولم يحرم الإسلام على
المرأة الاختلاط بالأجانب مع وجود زوج أو محرم لها، ليكون هذا الاختلاط بريئاً بعيداً عن الريبة، وينحصر في الأغراض الصحيحة التي تقصد منه، كاستفادة علم أو أدب، أو أنس بحديث ونحوه.
ومن تلك السنن ألا يتبرجن عند خروجهن من بيوتهن، ولا ينظرن إلى الرجال نظرات غير بريئة، ولا يظهرن من أجسامهن ما لا حاجة إلى إظهاره، وما إلى هذا مما جاء في قوله تعالى من سورة النور:(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بيني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الأربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون). وكما أمر النساء بالغض من أبصارهن في هذه الآية أمر الرجال بالغض من أبصارهم في الآية التي قبلها: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم أن الله خبير بما يصنعون).
قال الفخر الرازي في تفسير ذلك: جميع بدن الحرة عورة، ولا يجوز للرجل أن ينظر إلى شيء منه إلا الوجه والكفين، لأنها تحتاج إلى كشفهما لأجل البيع والشراء والأخذ والعطاء. ولهذا لما نهي النساء أن يبدين زينتهن استثني من ذلك ما ظهر منها. وقد قال القفال: إنه الوجه والكفان. وألحق بعض الفقهاء بهما الذراعين والقدمين. ثم إن نظر الرجل إما أن يكون لغرض كنكاح أو معاملة، وهو جائز بلا خلاف، وإما أن يكون خالياً من الغرض، فإن كان بشهوة كان حراماً، وإن لم يكن بشهوة كان جائزاً في مذهب بعض الفقهاء. وقيل إنه لا يجوز، ولكن هذا لا يلزمه إلا وجوب غض لبصر، ولا يلزمه وجوب ستر المرأة وجهها بنقاب ونحوه، بدليل أن النظر إلى الأمرد بشهوة حرام، ولم يقل أحد أنه يلزمه أن يستر وجهه، لأن هذا حرام عليه لما فيه من التشبه بالنساء. وأظهر من هذا في ذلك أن النظر بشهوة إلى حيوان جميل أو صورة جميلة حرام أيضاً، ولا يعقل أن يكلفا بهذا النقاب، وإنما يحرم النظر بشهوة لما يصحبه من إرادة الفسق. فإذا كان مجرد استحسان
خالياً من هذه الإرادة الذميمة فأني أرى أنه ليس فيه شيء من الحرمة، بشرط ألا يصحبه ما يفعله رجالنا من التعريض القبيح إذا مر بهن النساء، وتلك عادة ذميمة يجب على رجالنا أن يقلعوا عنها، وأن يعنوا بجد الحياة بدل هذا الهزل والمزاح.
فالمرأة المسلمة في حل من هذا النقاب الذي يظن أنه فرض عليها في دينها، إذ شاءت سترت به وجهها، وإذا شاءت تركت وجهها بلا نقاب؛ ولا يطلب منها دينها إلا أن تترك التبرج والتهتك والتزين بما يزيد على الحاجة، أو يدعوا إلى الفتنة. ولا دلالة في قوله تعالى:(وليضربن بخمرهن على جيوبهن) على وجوب هذا النقاب، لأن سبب نزول هذا أن نساء الجاهلية كن يشددن خمرهن من خلفهن، وكنت جيوبهن من قدام، فكانت نحورهن تنكشف، وكذلك قلائدهن، فأمرن بضربها على الجيوب لتغطي القلائد والنحور. ولا يعقل أن يراد من هذا تغطية الوجه أيضاً بعد استثنائه في قوله:(إلا ما ظهر منها).
ومما يحتج به لهذا النقاب قوله تعالى في سورة الأحزاب: (يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيما)، قيل في تفسير ذلك إنه كان رجال من الفساق يتعرضون في الطرق للنساء ويتبعونهن، فإذا لامهم الناس قالوا كنا نحسبهن إماء، فنزلت هذه الآية باتخاذ الجلباب للحرائر ليعرفن من الإماء فلا يؤذين. وقد مر بن الخطاب بجارية ذات نقاب فضربها وقال لها: أتتشبهين بالحرائر يالكاع!
وإني أرى أن مثل هذا لا يصح أن يكون حجة على وجوب هذا النقاب، وأرى أن قوله تعالى (ذلك أدنى أن يعرفن) ليس معناه أن يعرف أنهن حرائر، لأن دفع هذا الأذى عن النساء واجب في الإسلام بلا فرق بين الحرائر والإماء، وإنما معنى هذا عندي أنهن يعرفن بأنهن عفيفات فلا يطمع فيهن الرجال.
أما أن ذلك لا دلالة فيه على وجوب هذا النقاب فلأن هذه الصيغة (يأيها النبي قل) لا تدل على الوجوب، لأن الأمر بالأمر بشيء لا يفيد وجوب هذا الشيء، كما هو مذهب جمهور علماء الأصول، ولأن قوله (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) يدل على أن هذا لا يقطع ذلك الأذى، وإنما هو أقرب إلى دفعه، ومثل هذا لا يكون واجباً، بل يكون مندوباً. على أنه قد اختلف في إدناء هذا الجلباب، فقال ابن عباس: أمر نساء المؤمنين بذلك أن يغطين
رؤوسهن ووجوههن بالجلاليب إلا عيناً واحدة يبصرن بها الطريق. وقال الحسن: يكفي أن تغطي المرأة نصف وجهها. وقال قتادة يكفي أن تغطي معظمه.
وإذا كانوا قد صاروا إلى هذا الخلاف فأنا يمكننا أن نحمل إدناء الجلباب على ستر مالا يبدو عند الزينة، لأن هذا قد استثني استثناء صريحاً في آية سورة النور السابقة، وهذا هو الواجب في الجمع بين الآيتين. وقد قيل إن الجلاليب الثياب، لأن الجلباب يطلق لغة على الثوب والملحفة والخمار، وهو في الآية محتمل للثلاثة، فيكون معنى إدناء الجلباب أن يطلن أطرافه حتى لا يظهر منهن شيء غير الوجه والكفين.
وهذا هو حكم الإسلام في الحجاب والنقاب، وخلاصته أن يرى ترك أمرهما لحكم العرف والعادة، وما يرضه كل من الرجل والمرأة على وجه يصونها من الفساد، ويحفظ ما له عليها من حقوق.
(تم البحث)
عبد المتعال الصعيدي
دين المتنبي
2 -
أبو الطيب المتنبي
للأستاذ محمد محي الدين عبد المجيد
ومما يتصل بالكلام على دين أبي الطيب أنه لم يشرب الخمر إلا في القليل النادر، فليس هو من المدمنين الماجنين، ولذلك لا تجد في شعره شيئاً من المجون إلا أن يهجو فيقذع في هجائه. وما لأبي الطيب والخمر، وهي إنما يشربها الغواة وذوو البطالة، ومن لا مطمع لهم في الحياة يسعون لتحقيقه، فأما الرجل الذي يفكر في المجد ويأمل أن يصل إلى ذروته، فليس ممن يفكرون في الخمر. حدثوا أن صديقاً لأبي الطيب كنيته أبو ضبيس سأله يوماً أن يشرب معه فأجابه بقوله:
ألذ من المدام الخندريس
…
وأحلى من معاطاة الكؤوس
معاطاة الصفائح والعوالي
…
وإقحامي خميساً في خميس
فموتي في الوغى أربى لأني
…
رأيت الموت في أرب النفوس
ولو أسقيتها بيدي كريم
…
أسر به لكان أبا ضبيس
وهو ينادم إخوانه إذا شربوا الخمر، فيشرب كأساً من الماء فقد قال له بعض بني كلاب: اشرب هذه الكأس سروراً بك، فأجابه بقوله:
إذا ما شربت الخمر صرفا مهنأ
…
شربنا الذي من مثله شرب الكرم
ألا حبذا قوم نداماهم القنا
…
يُسَقُّونها ريا وساقيهم العزم
ومد إنسان له يده بكأس من الخمر وحلف بالطلاق ليشربنها، فقال:
وأخ لنا بعث الطلاق ألية
…
لأعللن بهذه الخرطوم
فجعلت ردي عرسه كفارة
…
عن شربها وشربت غير أثيم
وهذه إحدى المرات التي شرب فيها الخمر، ولم يصب حكم الشريعة في قوله:(وشربت غير أثيم) ولكنها إحدى تظرفات الشعراء. ولعلها مع ذلك تدل على أن امتناعه عن الشرب في غير هذه المرة لمخافة الإثم.
أخلاق أبي الطيب
سنتكلم في هذه العجالة على أربع خلال كان لها أثر ظاهر في حياة أبي الطيب وأخباره وشعره، وهي: الشجاعة والكبر والبخل والغدر. فأما شجاعته فهي أظهر من أن تلتمس لها الشواهد، فهو شجاع يحن شوقاً إلى لقاء العدى ويستصغر المخاطر في هذه السبيل، ويستهين بما يكابد فيه من أهوال، ولقد كان مسوقاً إلى اقتحام الردى تدفعه إليه نفسه المتوثبة الطامحة وتغريه به آماله الجسام التي يحرص على إدراكها الحرص كله، والتي يعتقد أن الوسيلة إليها هي التضحية وبذل النفس. وقد كانت فيه مع ذلك عجلة تشبه الرعونة نبتت فيه من تلهفه على بلوغ الغاية التي يصبو إليها حتى كان يخشى أن يعجل إليه الموت قبل بلوغها. أنظر إليه وهو يحدثك عن المجد الذي يتطلع إليه ويشير إلى أن الحياة أضيق من أن تتسع لانتظاره.
ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها
…
فمفترق جاران دارهما العمر
ولا تحسبن المجد زقاً وقينة
…
فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وإن ترى
…
لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دوياً كأنما
…
تداول سمع المرء أنملة العشر
ثم انظر إليه وهو يحدثك عن مطلبه ويصف لك أن إدراكه بعيد ويحضك على ألا تبالي بما تلقاه في حياتك من الشدائد والمحن.
أريد من زمني ذا أن يبلغني
…
ما ليس يدركه من نفسه الزمن
لا تلق دهرك إلا غير مكترث
…
ما دام يصحب فيه روحك البدن
فما يدوم سرور ما سررت به
…
ولا يرد عليك الفائت الحزن
ثم انظر إليه وهو يدلك على أن هناءة العيش وسعته وطيب الحياة وسائر ما في الدنيا من متاع أمور لا تدرك إلا بحد السيف.
وخضرة ثوب العيش في الخضرة التي
…
أرتك احمرار الموت في مدرج النمل
ونراه لا يترك الحديث عن آماله وشجاعته حتى في المواقف التي لا يحسن فيها الفخر، ولقد كان مما اشتهر به شعره أنه يتحدث عن نفسه في أثناء المديح والرثاء. استمع إليه وهو يقول لكافور:
فارم بي حيثما أردت فإني
…
أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي من الملوك وإن كا
…
ن لساني يرى من الشعراء
وهو مفتون بذلك منذ صباه، ولا عجب في ذلك فأن كثيرا من الناس تولد معهم الآمال في طراءة السن وميعة الشباب، وعصر أبي الطيب الصاخب المليء بحوادث الانقلاب خليق بأن يثير في نفسه لواعج الآمال؛ قيل له وهو صبي (ما أحسن وفرتك) فأجاب:
لا تحسن الوفرة حتى ترى
…
منشورة الضفرين يوم القتال
على فتى معتقل صعدة
…
يعلها من كل وافي السبال
فأما الكبر فقد كان أبو الطيب مستكبراً تياهاً صلفاً يرى أن لا أحد مثله وأن أعلم أهل زمانه فدم وأحزمهم وغد، وأن كل ما خلق الله وما لم يخلق حقير إلى جانب عظمته كشعرة في مفرقه. ولقد كان من آثار كبره أن ترفع عن مدح الوزير المهلبي والصاحب ابن عباد، وحدثته نفسه أن يتأبى على عضد الدولة، ولولا أن ابن العميد زين له الذهاب إليه وأغراه بما سيناله لديه من التكرمة والمال لكان قد امتنع. ولقد جر على نفسه بهذا الترفع عداوة الوزير والصاحب وعداوة أشياعهما من الشعراء والكتاب والعلماء. فأما الوزير فقد أغرى به شعراء العراق يزدرونه وينالون من عرضه ويبالغون في هجائه، وأغرى به جماعة من العلماء منهم أبو الفرج صاحب كتاب الأغاني يتعقبونه ويشهرون به. وأما الصاحب فلم يسكته عنه علمه بمحاسنه وكثرة ما كان ينتفع بمعانيه، بل أخذ يتتبع هفواته ويعد عليه سقطاته ويغري به المترددين عليه الطامعين في عطاياه، وما أكثر هؤلاء!!!
ونحب أن ندل هنا على أمرين: الأول أن آثار كبر أبي الطيب وترفعه لم تظهر جلية واضحة إلا بعد أن اتصل بسيف الدولة ونبه شأنه. فأنت تراه قبل ذلك يمدح قوماً لا نباهة لهم ولا ذكر، وتراه يمدح على أتفه العطايا، وقد تنبه إلى ذلك أبو منصور الثعالبي فهو يقول:(وكان قبل اتصاله بسيف الدولة يمدح القريب والغريب، ويصاد ما بين الكركي والعندليب) اهـ، وأبو الطيب معذور في ذلك فإن سيف الدولة قد غمره بعطاياه حتى درت له أخلاف الدنيا ولقي في جواره من الكرامة ما شجا حاسديه فكان خليقاً أن يقول فيه:
تركت السرى خلفي لمن قل ماله
…
وأنعمت أفراسي بنعماك عسجدا
وقيدت نفسي في هواك محبة
…
ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
الأمر الثاني: أنه قد اختلط على بعض الناس كثير من مواقف أبي الطيب فاعتبروها كبراً
أو تكبراً وليست هي من الكبر في شيء وإنما هي عزة النفس والاحتفاظ بالكرامة، وتقدير المرء نفسه وإكرامه إياها من الكبر بالمكان النائي البعيد؛ فليس لأحد أن يزعم أن من الكبر إنشاد أبي الطيب سيف الدولة وهو جالس واشتراطه عليه ألا يقبل الأرض بين يديه إلا أن يكون ممن تختلط الأخلاق في أنظارهم فيرونها بغير المنظار الذي يراها به الناس؛ وعسيت أن تسأل بعد ذلك أين ذهبت عزة نفسه حين أنشد كافور وهو واقف؛ والجواب على ذلك أن ننبهك إلى أنه فارق سيف الدولة حانقاً متبرماً فلعل وقوفه بين يدي كافور وهو من أعداء سيف الدولة ليثير غيظه، أو لعله أراد به مصانعة كافور لينال منه الذي وفد عليه من أجله. على أنه إن كان قد ترك معه ما جرت به عادته مع سيف الدولة فقد اتخذ لعزته لوناً آخر، فقد كان يقف بين يديه وفي رجليه خفان وفي وسطه سيفه ومنطقته.
فأما البخل فقد رماه الناس به وحكموا في ذلك عنه أنه أحضر مالاً من صلات سيف الدولة وصب بين يديه على حصير قد افترشه ووزن وأعيد في الكيس وإذا قطعة كأصغر ما يكون من ذلك المال قد تخللت الحصيرة فأكب عليها ينقرها ويعالج استنقاذها ويشتغل بذلك عن جلسائه حتى إذا ظهر له بعضها تمثل بقول قيس بن الخطيم:
تبدت لنا كالشمس تحت غمامه
…
بدا حاجب منها وضنت بحاجب
ولم يزل كذلك حتى استخرجها وأمر بإعادتها إلى مكانها من الكيس. وعجيب أن يكون بخيلاً ذلك الذي يقول
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
…
مخافة فقر فالذي صنع الفقر
ولكنهم يروون عنه أنه قال: (إني وجدت الناس لا يكرمون أحداً إكرامهم من يعتقدون أنه يملك مائة ألف دينار فاعتمدت أن يكون عندي مثلها. فأنا أجد في ذلك حتى يقول الناس إن أبا الطيب قد ملك مائة ألف دينار) اهـ. وإن يكن القوم صادقين وكان لأبي الطيب عذر في حرصه على المال وفي ضنه أن تضيع منه قطعة كأصغر ما يكون فليس هو هذا العذر الذي نسبوه إليه، وإنما عذره أن المجد الذي كانت نفسه تحدثه به في حاجة إلى المال وهذه إشارة نجتزئ بها في هذا الموضوع.
فأما الغدر فآيته أنك تراه كل يوم بين يدي ملك أو وزير وتراه كلما وقف بين يدي واحد منهم يمدحه بأنه أكرم الناس وأشجع الناس وخير الناس؛ وقد يتجاوز ذلك إلى التعريض
بمن مدحه من قبل، وقد يتجاوز التعريض والتلويح إلى التصريح، ثم قد يتجاوز ذلك كله إلى الهجاء، اسمع إليه يقول لسيف الدولة:
وحاشى لارتياحك أن يبارى
…
وللكرم الذي لك أن يباقى
ولكنا نداعب منك قرما
…
تراجعت القروم له حقاقا
فإنه لم يكتف بأن جعل ارتياحه للبذل لا يباريه ارتياح، وكرمه لا يطاوله في البقاء كرم، حتى جعله سيداً فحلا وجعل الناس في موازنته حقاقاً، فلما وفد على كافور كان في أول قصيدة قالها له قوله:
قواصد كافور توارك غيره
…
ومن قصد البحر استقل السواقيا
(يتبع)
محمد محي الدين عبد المجيد
المدرس بكلية اللغة العربية
علم المتنبي باللغة والأدب
تصحيحه كتاب المقصور والممدود - تعليقاته على ديوانه
للدكتور عبد الوهاب عزام
يعرف جمهور المتأدبين أبا الطيب شاعراً واسع المعرفة باللغة، ولكنهم لا يعرفونه إماما من أئمة اللغة في القرن الرابع كما يتبين فيما يلي:
قدمت في الكلام على نشأة أبي الطيب أنه درس اللغة والأدب، وأثبت رواية تتضمن أنه لقي جماعة من كبار الأدباء في عصره، ولكن هذه الرواية على ما أظهرته من الوهن في بعض نواحيها لم تبين كم طلب اللغة والأدب على هؤلاء الشيوخ ولا كيف طلب. وقد بينت آنفاً أن رحيل الشاعر إلى الشام كان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وهو في سن الثامنة عشرة.
وما روي لنا أنه طلب الأدب على أحد في الشام إلا قول الثعالبي إن أباه رحل به إلى الشام فلم يزل يردده في مكاتبها الخ وجائز أن يكون الشاب المتوقد ذكاء قد درس الأدب واللغة على بعض أدباء الشام أيضاً.
والذي لا ريب فيه أن أبا الطيب بلغ من العلم باللغة وغريبها وشواهدها ولقن عن أهل البادية منها ما لا نعلمه لشاعر آخر من شعرائنا؛ وقد بلغ في هذا أن عدّ في عصره من علماء اللغة، وأن غلب الشعر عليه.
وإثبات هذه الدعوى على النسق الآتي:
1 -
رويت لنا حوادث وأقوال متفرقة تبين عن اشتهاره بمعرفة اللغة وتعرب عن رأي معاصريه فيه:
قال ابن الأنباري: (ويحكى أن أبا الطيب اجتمع هو وأبو علي الفارسي، فقال له أبو علي: كم جاء من الجموع على وزن فِعلي؟ فقال: حجلي وظربي، جمع حَجَل وظَرِبان. قال أبو علي: فسهرت تلك الليلة ألتمس لهما ثالثا فلم أجد. وقال في حقه (ما رأيت رجلاً في معناه مثله.) وهذه الجملة الأخيرة ذكرها ابن جني في مقدمة شرحه الديوان، وقال: (ولو لم يكن له من الفضيلة إلا قول أبي علي هذا فيه لكفاه. لأن أبا علي، على جلالة قدره في العلم ونباهة محله وإقتدائه بسنة ذوي الفضل من قبله، لم يكن ليطلق عليه هذا القول إلا وهو
مستحق له عنده).
فسؤال أبي علي أبا الطيب هذا السؤال دليل على أنه لفت الناس إليه بسعة معرفته باللغة، ثم شهادته له دليل آخر.
ولما وقع الجدل بين أبي الطيب اللغوي وابن خالويه في اللغة بحضرة سيف الدولة، قال الأمير: ألا تتكلم يا أبا الطيب؟ فتكلم ونصر أبا الطيب اللغوي على ابن خالويه. فسؤال سيف الدولة أبا الطيب أن يتكلم في أمر يتجادل فيه اثنان من اللغويين دليل على عده من علماء اللغة.
ولما دخل على الوزير المهلبي في بغداد أنشد بعض الحاضرين وفيهم أبو الفرج الأصفهاني هذا البيت:
سقى الله أمواها عرفت مكانها
…
جُراما وملكوما وبدّر فالغمرا
فقال أبو الطيب: هو جرابا، وهذه أمكنة قتلتها علما؛ وإنما الخطأ وقع من النقلة.
وقد حكى الحاتمي أنه ناظر أبا الطيب ببغداد فلم يقتصر على مناظرته في الشعر، بل ناظره في اللغة أيضا. وحكى أن أبا الطيب قال له اللغة مسلّمة لك، فقال: وكيف تسلمها وأنت أبو عذرتها وأولى الناس بها، وأعرفهم باشتقاقها، والكلام على أفانينها، وما أحد أولى بأن يسأل عن غريبها منك.
وفي هذا برهان على اشتهار أبي الطيب بمعرفة اللغة ولو كان كلام الحاتمي تهكما وسخرية أو كانت قصته كذبا.
ولما نزل عند ابن العميد في أرّجان قرأ عليه كتابا جمعه في اللغة. قال في الإيضاح: (وكان أبو الفضل يقرأ عليه ديوان اللغة الذي جمعه ويتعجب من حفظه وغزارة علمه).
وقال الخالديان: (كان أبو الطيب المتنبي كثير الرواية، جيد النقد. . . وكان من المكثرين في نقل اللغة والمطلعين على غريبها، ولا يسأل عن شيء إلا استشهد بكلام العرب من النظم والنثر). وقال صاحب الإيضاح: (وجملة القول فيه أنه من حفاظ اللغة ورواة الشعر).
وقال ابن جني: (ولقد كان من الجد فيما يعانيه، ولزوم أهل العلم فيما يقوله ويحكيه، على أسد وتيرة، وأحسن سيرة).
2 -
وقد أثرنا بعض كلامه في اللغة، وذلك قسمان
مجادلته ابن جني في مسائل عرضت أثناء قراءة الديوان عليه، وحسبك بمن يناظر في اللغة والصرف ابن جني أمام أهل العربية في التصريف، ثم يشهد له ابن جني الشهادة السالفة، وعندنا من هذه المجادلات أمثلة.
والثاني ما أملاه أبو الطيب نفسه شرحاً لبعض شعره. وقد عثرت على نسختين من الديوان فيهما كثير من هذه الشرح، وفيه من التبيين وإيراد الشواهد ونسبة الأقوال إلى أصحابها ما يشعر القارئ أنه يقرأ لأحد أئمة اللغة.
وأنقل هنا مثالين من إملائه على بعض أبيات ديوانه تبصرة للقارئ. جاء في شرح البيت:
أحاد أم سُداس في أُحاد
…
لييلتنا المنوطة بالتناد:
(قال أبو الطيب: يقال أحاد وثناء وثلاث ورباع إلى عشار في المؤنث والمذكر غير مصروف، والفراء يصرفها إذا جعلها نكرات، وكل ما لا ينصرف من الأسماء يصرف في الشعر، لأن الصرف الأصل. وهذا الذي ينسب إليه في العدد فيقال ثنائي وثلاثي ورباعي وخماسي إلى عشاري. قال أبو النجم:
فوق الخماسي قليلا بفضله
…
أدرك عقلاً والرهان عمله
وأنشد:
ضربت خماس ضربة عبشمي
…
أدار سداس ألا يستقيما
وللكميت:
فلم يستريثوك حتى رم
…
يت فوق الرجال خصالا عُشارا
وللهذلي:
يصيّد أُحدان الرجال وإن يجد
…
ثُناءهم يفرج بهم ثم يزدر
وأنشدني:
أحمّ الله ذلك من لقاء
…
أُحاد أحاد في شهر حلال
وحكى ابن السكيت عن أبي عمرو: ادخلوا موحد موحد ومثنى مثنى ومثلث مثلث ومربع مربع وكذلك إلى العشرة. وكذلك ادخلوا أحاد أحاد وثناء ثناء وثلاث ثلاث ورباع رباع إلى العشرة. قال علي (يعني ابن حمزة رواية أبي الطيب) وقال أبو الطيب: وكان أبو حاتم تبع
أبا عبيدة في قوله في كتاب المذكر والمؤنث: (ورباع رباع. ولا نعلمهم قالوا فوق ذلك) ثم رجع عنه فقال في كتاب الابل: (ورباع إلى العشرة).
قال أبو الطيب: وأما ليبيتنا فتصغير تعظيم كقول لبيد
وكل أناس سوف تدخل بينهم
…
دويهية تصفرّ منها الأنامل
الرواية التي أعرفها خويخته. وكذا أنشده المبرد واليزيدي وثعلب وأنشدنيه المتنبي دويهية (هذا من قول علي ابن حمزة) وقال الأنصاري: أنا جُذَيلها المحكك، وعُذَيقها المرجب، قال: وتصغير الأسماء على هذا المعنى كقولهم كليب وعمير. قال وما يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: أنا هوى ومعي سلاحي فصغره
والتنادي، أراد التنادي بالرحيل). أهـ
وفي شرح البيت:
إذا عرضت حاج إليه فنفسه
…
إلى نفسه فيها شفيع مشفع
قال أبو الطيب: يقال حاجة وحاج وحاجات وحِوَج، وعلى غير القياس حوائج. وتقول العرب: في نفسي منه حوجاء أي حاجة، وأنشد:
ألا ليت شوقا بالكناسة لم يكن
…
إليها لحاج المسلمين طريق
وقال آخر:
لعمري لقد لبّثتني عن صحابتي
…
وعن حِوَج قضاؤها من شفائيا
وأنشد لامرئ القيس:
لتقضى حاجات الفؤاد المعذب
وأنشد الفراء:
نهار المرء أمثل حين يقضي
…
حوائجه من الليل الطويل
وزعم الأصمعي أن حوائج مولدة. قال أبو الطيب: وهي كثيرة على ألسن العرب خرجت عن القياس. قال البصري (علي بن حمزة) وأنشدني أبو الطيب للشماخ:
تقطع بيننا الحاجات إلا
…
حوائج يعتسفن مع الجريّ
قال: حوائج جمع حائجة على القياس وهو صحيح. وقد ذكر ذلك ابن دريد قال حاجة وحائجة وحوجاء). أهـ
ذلكم مثال مما أملاه الشاعر على رواة ديوانه. وأني لراج أن ييسر الله لي عما قليل طبع الديوان مجرداً من كل شرح إلا أمالي الشاعر والمقدمات التاريخية التي تصدّر بها بعض القصائد وأحسبها من إملاء الشاعر كذلك.
3 -
وقد قرئ على أبي الطيب في مصر كتاب المقصور والممدود لأبي العباس بن ولاد فصححه وأخذ على مؤلفه غلطات، وقد عثرت على رسالة اسمها (التنبيهات على مقصور ابن ولاد النحوي) جاء في مقدمتها:
(قال أبو القاسم: وكان هذا الكتاب أعني المقصور والممدود قرئ على أبي الطيب بمصر سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، فردّ فيه على ابن ولاد أغلاطاً وبينها، واستشهد عند بعضها، فجمع رد أبي الطيب وشواهده بعض المصريين وادّعاه لنفسه بعد خروج أبي الطيب من مصر، وأضاف إليها أشياء من عنده غلط فيه هو وأشياء أصاب فيها. وكان هذا المدعي سمع هذا الكتاب وغيره من ابن ولاد وعنه سمعته، وهذا المدعي يعرف بأبي الحسين المهلبي، فإذ مرّ من تلك الأغلاط والشواهد شيء في كتابنا عزوناه إلى مستحقه وبيناه إن شاء الله). . .
وقد قرأت كتاب التنبيهات على مقصور ابن ولاد وهو كتاب صغير فجمعت ما نسبه المؤلف إلى أبي الطيب من الرد على ابن ولاد وأثبته هنا:
(وقال ابن ولاد في باب الشين: وذكر عن أبي عمرو ابن العلاء وعيسى بن عمرو أنهما قالا الشِذو لون المسك، قال الشاعر:
إن لك الفضل على صحبتي
…
والمسك قد يستصحب الرامكا
حتى يعود الشذو من لونه
…
أسود مضنونا به حالكا
وهذا ما أخذه عليه المتنبي قبلنا فقال هو الشِذو. وقد أصاب المتنبي وغلط ابن ولاد في فتحه.
وقال ابن ولاد في هذا الباب (باب الطاء): والطُرقي في النسب من قولهم الطُرقي والقُعدي فالطُرقي أبعدهما نسباً والقعدي أدناهما نسباً.
وهذا ما أخذه عليه المتنبي قبلنا فقال الصواب الطرفي بالفاء. وقال ابن الأعرابي يقال فلان أقعد من فلان أي أقل آباء وأطرف من فلان أي أكثر آباء. وهو مأخوذ من الطرف وهو
البعد. وقال الأصمعي يقال فلان بين الطرافة إذا كان كثير الآباء إلى الجدّ الأكبر. وهو عندهم مدح كما قال الشاعر:
طرفون لا يرثون سهم القُعدُد
وهذا الذي حكاه المتنبي مشهور معروف من قول ابن الأعرابي والأصمعي (وهو) الصحيح. وقد ادعى هذا الرد ابن الملتقط (يريد أبا الحسن المهلبي) وكذب في ادعائه وهو من رد المتنبي.
وقال ابن ولاد في هذا الباب (باب الغين) غضبي مائة من الابل معروفة كقولك هنيدة وأنشد:
ومستخلف من بعد غضبي صُريمَة
…
فأحربه لطول فقر وأحربا
وهذا ما رواه المتنبي فادعاه ابن المنبوذ (يريد المهلبي أيضاً) فقال الذي راوه أبو العباس (ابن ولاد) غضنى بالنون. وهو خطأ إنما هو غضيى بالياء. وهذا صحيح).
ذلكم أبو الطيب في علمه باللغة وشواهدها ونحوها وصرفها. . . الخ الخ.
عبد الوهاب عزام
يا ضوء
للأستاذ عبد الرحمن شكري
تضيء ما يستر الظلام من ال
…
قبح وتكسوه حُلَّة البِدرِ
وأمسك النار وهي صائلة
…
للخير والشر صولة الغِيَرِ
كسوتَ وجهي وخطري حُللاً
…
وكنت للعين علة النظر
لولاك لم يرحم الذي حمد ال
…
حسن أخاه ذا الآفة الكَدِرِ
تلوح للهالك السقيم فيع
…
تدك خير اللذات والذْخُرِ
تلوح للجارم الحبيس كما
…
يلوح ماضي النعيم في الصوَر
تغذوه أم في عينها أبدا
…
سحر حنان يضيء في البصر
وهو وليد قد أُولِعت يده
…
بخطفة الضوء حلية الحجر
وكلنا ذلك الوليد إذا
…
لاح سراب الرجاء والوطر
وأنت في المعبد المَشِيدِ كضو
…
ء الله في صالح من الخبر
أو مثل ضوء الضمير محتبس
…
في النفس أو كالصفاء في السِّيَر
تهبط فوق الغدير في مرح
…
مثل هبوط الطيور في الشجر
أم أنت روح الحبور قد برزت
…
تنير وجه الحياة في خَفَر
سنابل النبت أنت صغت لها
…
من عسجد حُلة من الحَبَر
ترقص رقص الحسناء إن لها
…
رقصاً كرقص الضياء في النهَر
يا علَماً للحياة ينشره ال
…
كون فيقصي القلوب عن خَوَر
ورُب فجر بَثَقْتَه بَهِج
…
كفجر حب في القلب منفجر
أو مثل فجر الآمال إن لها
…
فجراً وليلاً يُضَاءُ بالذّكَرِ
فطرز السحب مثلما حسن ال
…
نحس بضوء الرجاء في الكدر
كأنما أنت سُلمٌ لعلا
…
ء النفس تسمو لآية العُمُرِ
أم أنت حسن الجِنَانِ نبصره
…
منفجراً خارجاً من الثُّغَر
ترمد طرف الحزين إِن أخا
…
ك الليل بَرٌّ بالخاطر الكَدِرِ
تلِيحُ بالسعد والمنى أبداً
…
لذي طموح بالترب منعفر
وأنت كالبحر دره الفلك ال
…
دوار أو فاقع من الزهر
ويا بشيراً بما نخال من ال
…
آلاء في مقبل من الغيَر
حكيت ذخر الآمال تبعثها
…
للوهم يزهو كالتبر في الذخُر
تخال من رقة المراسم مع
…
نى لا يراه البصير بالبصر
أشهى ضياء يكسو الحبيب خما
…
راً نعم ذاك الكساء في الخمُر
تستبق الطير في أشعتك ال
…
غراء فعل الحسان في الغدُر
وضاءة الماس منك قد قبست
…
وأنت في الروض خمرة الزهر
والضوء في المنزل الخراب كقل
…
ب الندب يشفى بالجسم في الكِبَر
خواطر الخير كالملائك أو
…
كالضوء يزهو في قمة الشجر
كل جليلٍ مُشَبَّهٌ بك في ال
…
مدح وليس الترب كالدرَرِ
فالحق والحسن والمطامع أش
…
باهك في قول ناعت الغُرَر
أَضِئْ إن اسطعت ما يرام من ال
…
غيوب والطارقات والقدر
كم ذا رأيت الأنام في عنت ال
…
عيش نشاوى من غير ما سُكُر
فلم تقطب على الشقاء ولم
…
تَبْدُ كوجه الليل معتكر
كالشيخ شام الخطوب قاطبة
…
يذخر غُفْراً لزلة البشر
عبد الرحمن شكري
مأساة فراق
ما البرق لاح لتائه وخبا
…
والكون عاد يخب في الظُّلَم
أو منية للنفس سُرَّ بها
…
قلب ولم يك ذا سوى حُلُم
بأمض وقعاً من نوى قرنت
…
بتعارف فتآلف النسم
يا لحظة ما كان أسعدها
…
لو لم تدع قلبين في ضرم
لم يكف سرعتها فنغَّصها
…
يا للقساوة حقد منتقم
هل في قريضك بعدُ تسلية
…
يا صائغ الأشجان في نغم
أم قد يضاعف ذاك من أسف
…
وهل القريض يرد من عدم
شلت يد التفريق حين رمت
…
متآلفين بسهمها الشيم
متجاوبين بكل عاطفة
…
متفاهمين بأعين وفم
يتساقيان على الكؤوس هوى
…
أغضى الرقيب له على رغم
كل يحس بقلب صاحبه
…
ويرى له كالروح من سجم
تلك السعادة وهي إن قصرت
…
حسب المحب لذاذة الألم
(. . .)
الشعب الباسل
للسيد عبد الرحيم محمود
شعب تمرَّس في الصعا
…
ب ولم تنل منه الصعابْ
لو همُّه انتابَ الهضا
…
ب لدُكدكت منه الهضابْ
متمردٌ لم يرضَ يو
…
ما أن يقرَّ على عذب
عرنينه بلغ السما
…
َء ورأسه نطح السحاب
وعُداته رُغم الأنو
…
ف تذللا حانوا الرقاب
مثل حدا حادي الزما
…
ن به وناقلت الرّكاب
إن تجهل العجبَ العجا
…
بَ فإننا العجبُ العجاب
نحن الأُولى هابَ الوجو
…
دُ وليس فينا من يهاب
وسلِ الذي خضع الهوا
…
ء له وذلّ له العباب
هل لان عود قناتنا
…
أم هل نبت عند الضراب
أو شام عيباً غير أنا (م)
…
ليس نرضى أن نُعاب
حييت من شعب تخلّ
…
د ليس يعرُوه ذهاب
لفَتَ الورى منك الزئي
…
ر مزمجراً من حول غاب
وأرى العدى ما أذهلَ ال
…
دنيا وشاب له الغراب
عرف الطريق لحقه
…
ومشى له الجدَد الصواب
الحقُّ ليس براجع
…
لذويه إلا بالحراب
الصرخة النكراء تج
…
دي لا التلطف والعتاب
والنارُ تضمن والحدي
…
د لمن تساءل أن يجاب
حكِّمهما فيما تري
…
د ففيهما فصل الخطاب
(فلسطين)
عبد الرحيم محمود
الراعي الشيخ
لفكتور هوجو - ترجمة أحمد فتحي مرسي
مالت الشمس للغروب وعاد ال
…
ليل في إثرها عبوساً مهيبا
وعلى الصخر قد تطرَّح شيخ
…
أوشكت شمس عمره أن تغيبا
غارقاً في السكون والصمت يرعى ال
…
شمس في الغرب والفضاء الرحيبا
لحظة أي لحظةٍ قد تولت
…
هدأ البحر والجبال لديها
رقد الشيخ والرياح حوالي
…
يه وقد رفرف السكون عليها
غابت الشمس وهي ترنو إليه
…
وقضى الشيخ وهو يرنو إليها
إلى باكية
للسيد شفيق معلوف
وَيْحِ لو كنتُ عالماً أن شعري
…
سوف ينتابُ منكِ غصَّةَ حُزنِ
لرميتُ اليراعَ عني بعيداً
…
ونفيتُ العذاب عنكِ وعني
ولو أني لمحتُ دمعتكِ الحرّى
…
لَشيَّعتُها بآخر لحن
وبسطتُ ابتسامَ ثغري عليها
…
وتلقيتها بأهداب جفني
أيُّ لحن أثار شجو العذارى
…
وتمنَّيتُ أنني لم أكُنْهُ
أيُّ دمعٍ أريق من غير جفني
…
ورآه جفني فلم يحتضنْهُ
أين ذنبي؟ وفي مدامعك الذنبُ
…
وقلبي الذي يكفرُ عنهُ
إنْ يقرِّحْ جفنيكِ شعري - لكِ
…
اللهُ - فقلبي تقتصُّ عيناكِ منهُ
القصص
قصة مصرية
صراع مع الشيطان!
للأستاذ دريني خشبه
(الحوار في الأصل باللهجة المصرية. . .)
انبسطت حقول الأرز حول القرية الساكنة الشاحبة، وهدأ الليل الفضي إلا من ضفادع تنق، ونسمة ترف فتحرك أغصان (الجميزة) الكبيرة التي ترسل فروعها فوق شاطئ النيل من جهة، وفوق (الدَّوّاَر) الواسع في شرق القرية من جهة أخرى؛ وسفر البدر الجميل الساحر، ففضض عباب النيل، واختلط لجينه بمائه النجاشي، وتدفق فوق (اللسان) الحجري الأبيض الذي أقاموه ليفل من غربه فأحدث خريراً موسيقياً بديعاً.
وجلس (حماده) بن العمدة في منعزل عند ضفة النهر مما يلي الماء ينتظر فاطمة. . . الفلاحة الصغيرة الجميلة، التي رآها ابن العمدة حاسرة عن ساقيها وهي تنقي الأرز مع الفلاحات الأخريات، فجن بها جنوناً، وافتتن بها افتتانا.
لقد رشقت قلبه بنظرةٍ ماكرة حين رأته يكاد يأكلها بعينيه الجائعتين، وحين أحسَّت أنها حلت من فؤاده منزلة لا تعدلها منزلة فتاة أخرى، حتى ولا زوجته الغنية التي بني بها منذ شهر وبعض شهر، فكان لعرسها صدى أي صدى في كل القرى المجاورة، لا سيما وقد غنى فيه المطرب المشهور الشيخ عبد الإله. . والعياذ بالله. . .
ولسيقان الفلاحات جمالها الرائع، وهي دائما محاطة بظل من الفتنة، يزيده الخلخال النائم على العقبين، والملاءة السوداء القصيرة، رونقاً ورواء. وكان لفاطمة جيد بارز وقوام ممشوق، وكان لها عنق طويل أبيض، يزينه عقد كبير من الكارم الأصفر، ينتهي بحلية من النحاس المصفح بالذهب فتقر على الصدر، عند انفراج الثديين، فتزيد اهتزازات النهد خفقاناً في قلب حمادة. . . حمادة المسكين. . . الذي ربط حياته أبوه بحياة هذه الزوجة الغنية التي لم يحبها، والتي ألقاها أبوه على كاهله حملاً ثقيلاً من الهم والشقاء. . . والذهب!! والذهب لا يصلح علاجاً للهم والشقاء مهما كان كثيرا طائلاً.
لقد كان حمادة فتى ذكيا من فتيان الأزهر، فقطعه أبوه عن العلم ليزوجه هذه الزيجة الغنية قبل أن تفلت من يده، لأن أبناء العمد في القرى المجاورة كانوا قد بدءوا يخطبونها إلى والدها، وقد غادر حمادة الأزهر وفي قلبه حسرة، ولكنه خضع لمشيئة والده بعد أن خدعه بالأماني والآمال، وبعد أن زين له مستقبلاً مليئاً بالحور العين والدعة، وبعد أن بغض إليه مستقبل التحصيل الأزهري الشاق بتكرار هذه العبارة المنكرة:(الأزهر ما مستقبله؟ علومه ما قيمتها؟ أتريد أن تفقد بصرك وصحتك لتكون مأذوناً شرعيً آخر الأمر مثل الشيخ عرفه؟).
وتزوج حمادة من نظيرة، فلما كانت ليلة العرس، ودخل إلى عروسه، دارت به الأرض، وشعر كأن هواء الغرفة يخنقه، وانطفأت في عينيه الشموع الكثيرة الموقدة في (الصواني) النحاسية تحملها القرويات الصغيرات، وخيل إليه كأن جهنم بكل ما فيها من سعير تزفر من لهب هذه الشموع فتكاد تحرقه.
لقد نظر إلى عروسه فطاشت أحلامه؛ وذهبت أمانيه في الجمال الذي كان ينشده أباديد. . . حمادة، الذي كان يعبد الله في الجمال يبتليه أبوه بهذه المرأة التي فقدت نصف أذنها اليمنى، وأتلف الجدري أنفها، ونما لها في كل يد إصبع سادس ما ينفك يرقص كأنه الجلجل الصغير في عنق الدابة، ثم هي قصيرة مكلثمة شائهة، وقد زادتها الأساور والقلائد والقرط والخواتم وأرطال الذهب قبحاً على قبحها.
وتذرع حمادة بالصبر، ولم يشأ أن يجرح عزة هذه العروس التاعسة التي ليس ذنبها ألا تكون جميلة، فهي لم تخلق من نفسها شيئاً، بل هو قد رحمها وأشفق عليها رثاء لها؛ وصرف أهله وأهلها، وغلَّق الباب، وخلا إليها، ثم راح يكلمها كلام الذاهل عن تفسه، المستسلم لقضاء الله. . . ولكنها لم ترد عليه، بل تركت دمعة غليظة تنحدر على خدها فجأة، ثم استخرطت بعد ذلك في البكاء.
- (ما الذي يبكيك يا. . .)
- (لا شيء! فقط، كنت ولا زلت أعتقد أنني لم أكن أصلح لك كزوجة، ولكنهم أرغموني كما أرغموك يا حمادة، فليس هذا الذنب ذنبي!).
- (ولكنك مخطئة، فأنت امرأة صالحة وغنية!)
- (وهذا هو موضع أساي وسبب بلواي. . . اسمع يا حمادة، لك مطلق الحرية في أن تُسرِّحني من الغد وأن تكون حراً بعد ذلك، وسأرد لك صداقك، بل سأرده مضاعفاً إن شئت. فإن أردت أن تستبقيني لديك فسأعيش معك عذراء إلى الأبد، ولن أنغص عليك بخلقي الشائه متاع قلبك ونعيم نفسك ولذة شبابك ونضرة صباك. فهذه أشياء لك أن تنعم بها، ومن الظلم أن أفرض عليك هذا القبح الذي رزأتني به المقادير، فأقف به بينك وبين لذات الحياة وهناءتها. . . أرسلني أشكر لك، أو استبقني أحمدك. فإن كانت الأولى تكن قد خلصت من خطأ أوقعك فيه غيرك، ولم تتكلف في سبيل الخلاص منه قليلاً ولا كثيراً؛ وإن تكن الثانية، فثق أنني سأعيش في كنفك كما تعيش الراهبة في دير ساكن هادئ على هامش صحراء، يقنعها أن قد انقطعت عن بهارج الحياة وزخارفه وآمنت ببطلان لذاتها. . . آه! يا إلهي! لم لا نتخذ نحن المسلمين مثل هذه الديور؟. . .
- (كفى يا نظيرة كفى! بل تعيشين معي على أحسن ما تعيش فتاة تفرح برجلها!. . .
وعاشت نظيرة في كنفه، عذراء كما عاهدته، وكان هو يحنو عليها ويعطف كل العطف، وكان يسامرها ويلاطفها ويهش لها ويبش، حتى كلفه أبوه بمراقبة الفلاحات إذ ينقين الأرز من الحشائش الغريبة وسائر الطفيليات، فرأى فاطمة. . . فاطمة الشابة الجميلة التي تتأرج كالزهر بشذاها وعَرْفها، وتتبرج كالدنيا بمفاتنها وظرفها. . . لقد بسمت له عن فم رقيق، وغمزت قلبه بعين خبيثة ماكرة ففجرت فيه أحاسيسه المكبوتة، وأطلقت عواطفه الحبيسة، وأحيت في صميمه مطالب الشباب فثارت كالبركان، وصعد الدم الحار يغلي في رأسه، وتدفقت في أعصابه قوى هائلة من الطبيعة البشرية بغَّضت إليه هذا الزهد المصطنع الذي فرضته عليه نظيرة، وقبحت إليه تلك الرهبانية التي عرفها وهو في ميعة الصبى وشرخ الشباب منذ الليلة الأولى التي رأى فيها زوجته الشائهة المسكينة.
وكان يرسل من يشتري له بلحاً أحمر يأكله بعد الغداء، وكان يوزع على الفلاحات بيده من ذلك البلح إذا فرغن من غدائهن؛ وكان نصيب فاطمة من هذا البلح الأحمر كبيراً منتقى، أثار في قلوب أترابها غيرة شديدة وجعلهن يهمسن بكلام كثير.
ومرت الأيام. . . وتأكد الحب بين حمادة وفاطمة، وإنه لينتظرها الليلة في هذا المنعزل الفريد عند ضفة النيل مما يلي الماء، قريباً من تلك الجميزة الكبيرة الوارفة، وإنها لتتأخر
عن موعدها فيقلق حمادة ويضطرب، ويسمج في عينيه كل شيء من الطبيعة الساحرة التي حوله، حتى بدرها الذي كان للحظة قصيرة يتلو عليه مزامير الحب، يخيل إليه أنه مظلم قاتم، أو أنه جذوة من الشك السادر الحزين تجوب أقطار السماوات.
(لم لم تأت يا ترى؟ آه اللعينة! أخشى أن يكون في الطريق إلى قلبها فتى سواي. . . سأعرف. . . لا بد. . . لابد أن أعرف. . . سأسألها الليلة، لابد أن ألقاها مهما كانت ظروفها، لن تستطيع أن تنكر، ماذا تقول؟ هيه!)
وصعد إلى الجميزة لأنه لم يحتمل مرور الزمن وهو يترقب وينتظر، وجمع قليلاً من الجميز الفلكي الأحمر الكبير، وهبط ليلقى فاطمة تنتظره، فقذف بالثمر الناضج على العشب، وفتح ذراعيه وضم إلى صدره فاطمة، واحتملها كاللعبة، ويمم شطر المنعزل الهادئ القريب من الماء. . . ثم جلسا يتناجيان. . .
- (لماذا أبطأتِ عليّ يا بطة؟)
- (لا شيء، غير أنني كان يخيل إليّ أن الطريق كلها عيون ترقب جميع حركاتي، وكنت على غير عادتي أشعر بقلبي يخفق خفقاناً شديداً. . . حمادة أليس قلبك يخفق مثل قلبي؟).
- (يخفق؟ يخفق فقط؟ إنه كاد ينخلع هذه الليلة يا طمطم لأنك أبطأت كثيراً. . .).
- (حمادة، أنا خائفة. . .).
- (خائفة؟ من ماذا يا حلوة؟ هل هنا عفاريت؟).
- (لا، ليس من العفاريت، فالليلة مقمرة. . . الحمد لله. . .).
- (إذن مم تخافين؟ هل تعقبك أحد إلى هنا؟).
- (لا. . . لا أظن، ولكن. . .).
- (فاطمة. . . كفى! يجب ألا تفكري في شيء ما دمت معي. . . تعالي يا فاطمة، هاتي فمك الخمري الجميل، الله! ما أشهاه يا فاطمة! قبلة ثانية، لا والله، لابد، لابد، فاطمة، أنت ترفضين؟ آه! يا قلبي!).
- (حمادة! أنا خائفة قلت لك!).
- (خائفة من أي شيء يا طمطم؟).
- (من. . . من. . . منك. . . أنا خائفة منك يا حمادة؟!).
- (مني؟ مني أنا؟ أنت خائفة مني؟).
- (نعم أنا خائفة منك. . . خائفة جداً!).
- (لماذا؟ هل أنا عفريت؟ القمر طالع والحمد لله؟. . .).
- (حرام عليك يا حمادة!).
- (حرام علي ماذا؟).
- (شيء. . . فقط. . . زوجتك نظيرة. . . إنها لو علمت تقتلني!).
- (امرأتي نظيرة! العياذ بالله؟ نظيرة ليست امرأتي يا فاطمة!).
- (ليست امرأتك؟ امرأة من إذن؟).
- (أجل، نظيرة ليست امرأتي! إنها فريسة أبي).
- (فريسة أبيك كيف يا حمادة!).
- (فريسة أبي، لأنه تجاهل قلبي وشبابي حين اشتراها لي).
- (اشتراها لك؟ وهل العرائس تشترى! ماذا تقول يا حمادة؟).
- (اشتراها، أجل اشتراها، اشترها لأنها تملك خمسين فداناً ومنزلين وعندها نقود كثيرة، ولكنها، كامرأة. . . لا تسوى منك قلامة ظفر يا فاطمة!).
- (لمه؟ أليست جميلة؟).
- (جميلة؟ كلا! إنها شوهاء! أكل الجدري نصف أنفها وذهب الجزار بنصف أذنها، ونبت النصفان، نصف الأنف ونصف لأذن، في يديها، فكانا في كلٍ إصبعاً سادسا؟. . .).
- (ولكنك تخونها الآن يا حمادة؟ أليس كذلك؟).
- (أخونها، لقد صرحت لي ليلة الدخلة أنها لن تقف في سبيل لذاتي!).
- (ورضيت أن تعاشرها على هذا الشرط؟).
- (. . .؟. . .).
- (وأنا أرفض أن أكون مطية للذتك! هذا كثير! دعني! لابد أن أعود أدراجي!).
- (إلى أين؟).
- (ليس هذا شأنك!).
- (آه! اعترفي إذن! إلى عشيقك الثاني! الذي أخرك هذه الليلة!).
- (حمادة؟ ماذا تقول؟ أنت جبان!).
- (جبان؟ لا. . . أنا لست جباناً. . . ألذلك تخافين مني؟ ولكن لا، لن يتمتع بك أحد غيري، أنت لي وحدي، أفهمت؟ أنتِ لي وحدي! فاطمة! انزعي هذا الثوب. . . وذاك النصيف!).
- (يا حمادة عيب!).
- (عيب؟ لا، ليس في ذلك عيب مطلقاً! قد عرفتك الليلة فقط، ولابد أن أنالك رضيت أو لم ترضي! ستكونين جميلة جداً وأنت عارية!
- (حمادة! إن لم ترجع (فسأصوّت).
- (صوّتي ما شئت! لا تفضحين إلا نفسك! أنا رجل على كل حال، ماذا يهمني إذا اجتمع الناس؟. . .
وانقض عليها المسكين ينزع عنها ثيابها ثوباً ثوباً. وما استعصى عليه منها جبذة فمزقه، حتى وقفت أمامه فاطمة دمية من المرمر الناصع. . . تمثالاً! تمثالاً فاتناً خلاباً. . . ولكنه لا يتحرك! لقد ذهلت فاطمة عن نفسها فلم تدر ماذا تصنع؟ أتصوّت كما أنذرته؟ ولكنه قال لها إنها إن فعلت فلا تفضح إلا نفسها. . . جبنت فاطمة فلم تصوت إذن. . . ووقفت مشدوهة حائرة، وصب القمر على بدنها الجميل المذعور أضواءه الفضية فزادها فتنة؛ وهبت نسمات عليلة فداعبت شعرها الأسود فانتثرت على جيدها وظهرها وحول عنقها. . . وجاء دور الشيطان. . . نوبة إبليس الأكبر! فرح يصقل فخذيها ويلون خديها ويثقل ردفها وينفخ ثديها. . . وانطلق يوسوس في قلب حمادة (هلم! أهجم عليها! لماذا تنتظر! ها هي ذي! إنها لك الساعة وإذا فارقتك فلن تراها بعد! أنت شاب، وللشباب مآربه! زوجتك الشائهة! لا تخش شيئاً! اقطف الثمرة قبل أن يلتقطها عشيق غيرك! الجدري! فاطمة جميلة ساحرة؟ الإصبع السادس! هالك متاع الدنيا!. . .).
وأزله الشيطان فانقض على الفتاة البائسة. . . وطرحها على (الدريس) اليابس وأعواد البردي المنداة. . . ووقف برهة يملأ ناظريه الفاسقين من جمالها المظلوم. . . وقبل أن يتقدم فيخطو الخطوة الأخيرة، وحين أيقنت فاطمة أنه موشك أن يعتدي عليها. . . اغرورقت عيناها بدموع غليظة، وقالت له:
- (حادة! والقرآن يا حمادة! القرآن الذي حفظته في الأزهر؟ نسيته؟ نسيته يا حمادة. . . بهذه السرعة؟).
- (القرآن؟ القرآن!! هه!. . .).
وجمد الفتى في مكانه لحظة. . . ثم ولى الفتاة ظهره، ونظر إلى السماء وقال:
- (ربي! غفرانك اللهم. . . فاطمة!).
- (. . .؟. . .
- (انهضي فالبسي ثيابك!).
ونهضت فاطمة وهي لا تصدق، فارتدت ملابسه، الممزق منها وغير الممزق، ثم قالت لحمادة بصوت خاشع متهدج:
- (حمادة! أنت. . . مالك يا حمادة).
ولكن الفتى ازوَرّ عنها وقال:
- (لا شيء يا فاطمة. . . عودي أدراجك إلى منزل أبيك، وسأحرسك من بعيد. . .).
وانطلقت الفتاة في الطريق المقفر الموحش، وانطلق في إثرها حمادة، وهو لا يكاد ينظر إليها. . .
- (نظيرة! هل يحزنك أن أتزوج؟).
- (يحزنني؟ بل يسرني أن تمتع شبابك كما يحلو لك!).
- (إذن فقد عقدت على فتاة فلاحة. . . فقيرة في غاية الفقر وستكون خادمة لك إذا شئت!
- (من؟ من هي يا حمادة؟ من هي بالله عليك!).
- (فاطمة بنت عم عبد القادر العتال!).
- (مبارك. . . مبارك يا حمادة
ولم تحتمل نظيرة الموسرة هذه الرهبانية التي فرضتها على نفسها في منزل العمدة الذي خدع ابنه فرجت حمادة في طلاقها. . . وذهبت بكل ما عليها من ذهب إلى منزلها الرحب الفسيح في إحدى القرى المجاورة للمنصورة!
دريني خشبة
البريد الأدبي
إحياء الموسوعات العربية العامة
رأى صاحب المعالي الأستاذ زكي باشا العرابي وزير المعارف أن تقوم وزارته بإحياء المصادر التاريخية والأدبية للمخلفات العربية العامة، فأمر أن تؤلف لجنة من رجال الأدب لبحث هذا المشروع الخطير.
وقد اجتمعت هذه اللجنة بوزارة المعارف ظهر الاثنين الماضي (24 أغسطس) برياسة الأستاذ محمد العشماوي بك وكيل المعارف، وحضور حضرات أصحاب العزة محمد عوض إبراهيم بك، والأستاذ علي الجارم بك، ومحمد أحمد جاد المولى بك، ومراقبي التعليم ومساعديهم، واختارت لجنة فرعية من شيوخ اللغة العربية بالوزارة لتنفيذ رغبة معالي الوزير بمراجعة الأصول العربية وإخراجها بإشراف الوزارة ورعايتها، بحيث تمكن هذه المراجع الهامة من إعطاء مادة كافية من وضع كبار مؤلفي العرب لمشروع دائرة معارف عربية كاملة بشكل يتفق مع زعامة مصر للأمم العربية.
وقد شرعت الوزارة في اعتماد المبالغ اللازمة لتنفيذ المشروع. .
ومن المصادر التي رأت اللجنة مراجعتها: ابن الأثير، والطبري، وتاريخ ابن مسكويه، وتاريخ ابن خلدون، وطبقات ابن سعد، ونحو خمسين مؤلفا غيرها لها أهميتها الأدبية كالأمالي والكامل والأغاني والتراجم المختلفة في القرون الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر.
ولا شك في أن وزارة المعارف بهذا المشروع ستسدي خدمة جليلة للناطقين بالضاد في جميع أنحاء العالم العربي.
للحقيقة والتاريخ
ضمنا مجلس مع فخامة حقي بك العظيم، رئيس مجلس الشورى، وكانت لا تزال في خاطري ذكرى القصة الشجية التي قرأتها في مجلة (الرسالة) الغراء في عددها (161) للأستاذ علي الطنطاوي بعنوان (النهاية). . . وما تضمنته من حوادث خاصة عن والي دمشق ناظم باشا والجفاء الذي لقيه عند زيارته لها فيما بعد؛ فذكرت ذلك لحقي بك، وكان يومئذ حاكم دمشق، فاستغربه وقال: إني أربأ بالكاتب أن يصل به خياله لهذه الدرجة برغم
أن كتابته عالية. ثم أخذ يسرد علينا قصة مجيء ناظم باشا إلى دمشق والحفاوة البالغة التي حظي بها قال:
(. . . ثم أتى دمشق بعد أن زار ابنتيه في بيروت، وكان ببزة عادية، فبقي فيها عدة أيام زارني خلالها في (السرايا) فاستقبلته بكل حفاوة وتعظيم تقديراً له وإكراماً لأعماله العمرانية التي أودعها في مدينتا. . . وعند خروجه اصطفت له جنود الحرس وأقامت له التحية الرسمية، وودعته أنا حتى الباب الخارجي، وقد احتفى به معظم وجوه دمشق، وتقدموا إليه بهدايا عديدة رفضها بكل إباء. وكان قد أحس نقيب الأشراف بوجوده فأتاه في اليوم التالي ورجاه أن يطيل بقاءه بضعة أيام أخر لتقوم دمشق بواجبها نحوه، فاعتذر بضرورة مغادرته المدينة إلى بيروت، حتى أن السلطة الفرنسية تقدمت إليه بمنتهى الإكرام. وإني أذكر أن الكولونيل كاترو أدّب له وليمة فاخرة كنت من المدعويين إليها. ولم يُظهر ناظم باشا مدة إقامته بدمشق عجزا أو حاجة مالية قط. وربما شعر بعض أصدقائه بشيء فتقدموا نحوه بعطايا كما ذكرنا فرفضها. ومن ذلك أن رجلاً يدعى (شيخو آغا) كان (ياورا) عند الوالي، جاءه بكل خضوع وبيده كيس صغير فيه (500) دينار، واستعطفه بلطف ورجاه أن يقبله منه كهدية، قلت أو كثرت، فهي من خيراته السالفة التي أنعمها عليه، فأبى بعفة نادرة. . . ثم مات منذ خمس سنوات. . .).
حدثت هذه المقابلة اتفاقاً، فلم أرد أن أهملها أو أخفيها على قراء (الرسالة) الغراء خدمة للحقيقة والتاريخ.
وإنا وإن كنا نستسيغ للأستاذ الطنطاوي الخيال المبدع في القصص، فإننا لا نود أن يتسمح في الحقائق التاريخية. وإن إعجابي الشديد بمتانة أسلوب أخي الأستاذ الطنطاوي، وقوة إنشائه، شجعاني لتصحيح هذه الناحية من قصته إتماماً لفنه القصصي البارع، والسلام.
(دمشق)
علاء الدين الخاني
المسألة الاستعمارية
ظهرت في العهد الأخير نزعة استعمارية جديدة في بعض الدول التي لم تتح لها فرصة
امتلاك المستعمرات من قبل أو التي فقدت مستعمراتها لأسباب خاصة؛ وترجع الدول التي تضطرم بهذه النزعة الجديدة مثل إيطاليا واليابان وألمانيا وبولونيا مطالبها إلى حق المشاطرة في امتلاك المستعمرات على قدم المساواة مع الدول الأخرى التي تتمتع بالأملاك الاستعمارية الواسعة مثل فرنسا وإنكلترا وهولندا؛ وتزعم فوق ذلك أن لها حق الفتح والامتلاك بالقوة ما استطاعت سبيلا إلى ذلك، وتدعي أن العوامل الاقتصادية تدفعها إلى ذلك دفعاً؛ فزيادة السكان، والعطلة، وفقد المواد الأولية، وغيرها مما يرغمها على تلمس السبيل إلى تخفيف متاعبها الاقتصادية بامتلاك المستعمرات واستثمارها.
وقد بحث هذه المسألة كاتب سياسي واقتصادي كبير هو المستر جروفر كلارك، وأصدر عنها أخيراً كتاباً ضافيا بعنوان (مكان تحت الشمس) وألحقه برسالة أخرى عنوانها (قوائم الاستعمار) وفي الكتاب الأول يفند مستر كلارك مزاعم الدول الاستعمارية من الوجهة السياسية والتاريخية، وفي الثانية يفند مزاعمها من الوجهة الاقتصادية بإيراد الإحصاءات التي تدل على أن الغايات الثلاث التي تستتر وراءها: أعني إيجاد منذ للسكان، وافتتاح الأسواق المحلية، والحصول على المواد الأولية، إنما هي غايات مزعومة.
ويلاحظ مستر كلارك أن تحقيق هذه المزايا لا يتوقف على امتلاك المستعمرات فقط، بل يتوقف قبل كل شيء، وخصوصاً أيام الحرب، على القوة البحرية التي تملكها الدولة المستعمرة. ومن جهة أخرى فأن معظم البلاد التي تطمح إليها الدول المستعمرة قد أصبحت تغص بسكانها الأصليين، ومن الصعب أن ينافسهم في استثمار مواردها ومرافقها مهاجرون من الخارج، وينطبق هذا بنوع خاص على البلاد الواقعة في المناطق الحارة.
بيد أن العوامل الاقتصادية ليست كل شيء في الموضوع، فهناك ما يسمى بالعزة القومية، وهي مسألة أثارتها ألمانيا بنوع خاص. وهذا العامل المعنوي يراه المؤلف ضرباً من اللغو ولا يرى أن يقف به طويلاً، إذ أن المبدأ المسلم به هو (أن تحصد أينما بذرت).
وبحوث مستر كلاك وملاحظته جديرة بالاطلاع والتقدير.
من أخبار السفهاء في مصر
قرأنا في أحد أعداد جريدة الجورنال الباريزية ما يأتي:
(في مصر، على مقربة من الأقصر، يبنى الآن قصر فخم، وذلك من أجل سحر عيون
ممثلة من أشهر ممثلاتنا السينمائيات. وقد قال لها محبها، وهو فتى ساحر، يملك قرى بأسرها وحقول قطن على ضفاف النيل:(سوف تعيشين هناك كملكة!) فأجابته الممثلة: ولكني إلى أن يتم ذلك سأعود إلى فرنسا وأشتغل بإخراج فلم (الملك). وقد كانت ممثلتنا العظيمة الرشيقة عند قولها. ذلك أن ج. م (جابي مورلي) سوف تأتي في مدى أيام قلائل لتقوم بإخراج شريطها).
أجل تبنى القصور في مصر وتنفق الألوف من أجل عيون الممثلات والغانيات الأجنبيات! وهذا الفتى المصري (الساحر) الذي تشير إليه الجريدة الباريزية هو أحد أولئك الفتيان الذين ورثوا أموالً مكدسة لم يعرفوا كيف حصلت أو كيف تحصل بعرق آلاف الفلاحين، وإنما يعرفون كيف تنفق على الموائد والغانيات بلا حساب في مصر وفي غير مصر: أولئك السفهاء هم في الواقع عنصر مسموم في المجتمع المصري يجب القضاء عليه بكل الوسائل.
أوراق العظماء
صدر أخيرً في فرنسا قانون جديد يقضي باعتبار المراسلات والمذكرات الصادرة من العظماء سواء في الحكومة أو خارجه من الآثار العامة التي يجب حفظه وحمايتها، وقد كانت أمثال هذه المراسلات والوثائق تعتبر حتى اليوم بطريق العرف والتقليد من الآثار العامة. ولكن الحكومة الفرنسية رأت أن تسبغ على هذا العرف صفة رسمية كي تستطيع في بعض الأحوال أن تضع يدها على الوثائق والمراسلات المخلفة عن العظماء وأن تودعها على ذمة التاريخ في دار المحفوظات العامة على رغم معارضة المعارضين.