المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 166 - بتاريخ: 07 - 09 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٦٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 166

- بتاريخ: 07 - 09 - 1936

ص: -1

‌وَزْنُ الماضي

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وقال صاحب سر (م) باشا: إني لجالس ذات يوم وفي يدي كتاب لبعض المتفلسفة من مَلَاحدة أوربا الذين يريدون أن يفهموا ما لا يفهم؛ وكان الباشا قد رآني مرّة أنظر فيه وأتدبر مسائله الغامضة، فقال لي: يا بني إن أحد الكلاب كان شاعراً فيلسوفاً، فنظر ليلة في النجوم فراعته وحيّرته؛ فآلى أن يفهمها بعقله وتفرغ لدرسها مدة طويلة، ثم وضع فيها كتاباً نفيساً ضخماً كان أعظم كتب الفلسفة وأشدها غموضاً عند الكلاب، وكان اسمه: العظام المبعثرة فوقنا. . . .

قال: فأنا جالس أقرأ هذا الكلام الذي لا صحيح فيه إلا أنه غير صحيح. . . إذ دخل عليَّ كاتب متفلسف ملحد من هؤلاء المدخولين في عقولهم المفتونين بأوربا ومذاهبها وعُلويَّاتها وسُفلياتها. . وهو يكتب في الصحف ويؤلف الرسائل، وقد جاء يستصرخ الباشا على فلاَّح شاركه في زراعة أرضه فزرعه الفلاح فيها وحصده، ودهاه بكيده، وابتلاه بغلظته، وتهدَّده بالنقمة.

وكان هذا الفلاح الساذج الغرير قد سبقه إليَّ وعرَّفه لي تعريفاً قاموسياً محيطاً من مادة كَفَر يكْفُر. . . ثم قال بعد ذلك إنه (بيَّاع كلام) يصدق ويكذب حسب الطلب. . . والذمة نفسها ليست عنده إلا (عملية حسابية)؛ وهو في أقوى جهاته لا ينفع الدنيا بما تنفعها به البهيمة من أضعف جهاتها.

أما الكاتب فيقول عن هذا الفلاح: إنه لا يدري أهو يُتمُّ بهائمه أم بهائمه هي التي تُتمه، وإن الذي يرفع القضية على مثل هذا المخلوق إلى المحكمة لا يكون إلا كالذي يُقَعْقعُ بالعصا على جُحْرٍ فيه الحَّيةُ السامة.

ورأى المتفلسف الكتاب على يدي فتهلل واستبشر وقال لي: هذا نسب بيننا. . فأدركت من كلمته هذه جملته وتفصيله، وخيَّل إلي أني أرى فيه نفسه الشرقية كالمرأة المطلقة. . . فقلت له: أنا اشتريت هذا الكتاب من أوربا ولكني لم أشتر منها دماغي. .

وكلَّمته أستخرج ما عنده فإذا هو في قومه وتاريخ قومه كالسائح في بلاد أجنبية يفتح لها عينه ولا يفتح لها قلبه.

ص: 1

وكان جريئاً في كلامه مع الباشا يطرد القول حيث شاء حقاً وباطلاً، ثم لا سِنَاد لرأيه ولا تثبيت لحجته إلا قول فلان ورأى فلان كأن في رأسه عقلاً شحاذا. . . ثم ذكر آخر الأمر ما جاء له فخجَّله الباشا وقال: هذه مسألة ككل مسائلك تحتاج إلى رأي فيلسوف أوربي. . . وأعرض عنه ولم يدخل في شيء من أمره.

ولما انصرف قال الباشا: يحسب هذا نفسه عالماً وهو صعلوك علمي. . . وإنما يكون دماغه وأدمغة أمثاله عند الفلاسفة والعلماء الذين يذكرونهم كما تكون سلة المهملات عند الصحافيين. إن هذا الرجل يتم ضعف عقله في الرأي بقوة عناده فيه ليجعل له ثبات الحقيقة فيُظنَّ حقيقة، كأن خَضْخَضَةَ الماء باليد في وعاء صغير ينقل إلى هذا الوعاء طبيعة الموج. وعند أمثال هذا المفتون من الصعاليك العلميين - أنك إذا تناولت مسألة فأخطأت فيها خطأ جريئاً فقد جعلتها بخطئك الجريء مسألة من العلم. . . وأنك إذا عاندت فثبت الخطأ في وجه الناقدين سنة، كأن حقيقة مدة سنة. . .

هم مفتونون زائغون، ومن فتنتهم أنهم يرون البعد بينهم وبين أهل الفضائل الشرقية كالبعد بين العالم والجاهل؛ ولو حققوا لرأوه بعداً في الغرائز لا في العقل، أي كالبعد بين الفجور وما أشبه الفجور وبين التقوى وما أشبه التقوى.

زعم الأحمق أن خصمه الفلاح رجل راسخ في الماضي كأنه باقٍ في أمسِ لم ينتقل منه، مع أن أمس قد انقطع من الزمن؛ وخرج من ذلك إلى أن الأمة يجب أن تنبذ ماضيها؛ وادعى أن الإسلام يتعصب للماضي. هذه ثلاث كلمات تخرج منها الرابعة التي سكت عنها. . .

وأنا لو شئت أن أسخر من مثل هذا الصعلوك العامي لما وجدت في أساليب السخرية أبلغ من أن أبعث إليه بقارورة فارغة وأقول له املأها لي من آراء الفلاسفة. . .

يغفل هذا وأمثاله عن أن الدين الإسلامي لا يعرف الماضي بمعنى ما مضى على إطلاقه، بل هو يشترط فيه ألا يخالف العقل ولا العلم وألا يناقض الهداية. (قالوا بل نتبِعُ ما ألفينا عليه آباءنا. أوَلو كان آباءُهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون). وفي الآية الأخرى:(قالوا حَسبُنا ما وجدنا عليه آباءَنا. أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون). وفي الثالثة: (قالوا بل نتَّبعُ ما وجدنا عليه آباءنا. أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) وفي الرابعة: (إن

ص: 2

وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مُقْتَدون. قال أولو جئتكم بأهدى مماوجدتم عليه آباءَكم).

فانظر كيف صور ما نسميه اليوم بالجمود في قوله (حسبُنا) وكيف صور ما نسميه بالرجعية في قوله (نتَّبع). وتأمل كيف رفض الجمود والرجعية معاً في العلم والعقل والهداية أي في آثارها من العلوم والمخترعات والفضائل الإنسانية، وكيف أبطل في تلك الثلاث الاحتجاج بالماضي بهذا الأسلوب الدقيق العالي وهو قوله في كل آية: أَوَلوْ، لم يغيرها بل كررها بلفظها أربع مرات.

فالمعجز هنا مجيء الآيات بهذه الصورة المنطقية لإسقاط حجتهم ونفي معنى التقديس عن الماضي فيهن إذا كان العلم دائم التغير، وكان العقل دائم التجديد والإبداع، وكانت الهداية شديدة على الطبيعة الحيوانية التي هي ماضي النفس فكأنها جديدة على النفس عند كل شهوة.

إن الإنسان بماضيه وحاضره كأنه مقسوم إلى قسمين يقول أحدهما: أريد أن أكون، ويقول الآخر: أنا قد كنت. فالإسلام بهذه الآيات قد أوجب وزن الكلمتين في كل زمن بما هو الأصح، وبما هو الأنفع، وبما هو الأهدى؛ وباشتراطه الهداية في جميعها أشار إلى أن الكمال النفسي للفرد يجب أن يكون مرتبطاً بالكمال الإنساني للجنس؛ وهذا معنى عجيب، وأعجب منه ما ترى من أن الإسلام قد أصلح فكرة الماضي فنقلها من معنى الآباء والأجداد للناس إلى المعاني التي هي كالآباء والأجداد لإنسانية الناس. والأخذ (بالأهدى) في اجتماع أمة من الأمم إنما هو بعينه ناموس الترقي والتطور.

ومن أدق الأسرار قوله: (إنا وجدنا آباءنا على أُمَّة). فكلمة (أمَّة) هذه لم يعرفها أحد على حقيقتها، ولم تفسرها إلا علوم هذا الزمن، فهي المشاعر النفسية التي يتكون منها مزاج الشعب وفيها يستقر الماضي؛ كأن الآية قد عبّرت بآخر ما انتهى إليه علماء النفس من أن الإنسان ابن أبويه وابن شعبه أيضاً. فالتعصب في الإسلام هو للعلم النافع وللمجد الصحيح وللهداية الباعثة على الكمال؛ وتعصب الجيل لمثل هذا في ماضيه هو في اسمه تعصب، غير أنه في معناه إنما هو العمل لتسليم مجد الأمة إلى الجيل التالي.

(طنطا)

ص: 3

مصطفى صادق الرافعي

ص: 4

‌من ذكريات لبنان

بعد نهار جميل

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(والآن ماذا ينبغي أن نأخذ معنا؟ - حاذروا أن تنسوا شيئاً).

فقالت زوجتي: (لا تنسوا الكاميرا. . فسنحتاج إليها ولا شك).

وقال فكتورين - جارتنا -: (الأفلام. . ما فائدة الكاميرا بلا أفلام؟).

قلت: (صدقت. . وماذا أيضاً؟).

فقالت زوجتي: (والصابون!).

وقال فكتورين: (ورق اللعب. . أليس كذلك؟).

فقلت. (والأطباق والملاعق والفوط والسكاكين!!. إن من يسمعكما يخيل إليه أننا ذاهبون إلى بعض مجاهل الدنيا).

فقالت زوجتي: (الحق أقول لكم إني أخشى علينا. . . إن هذه الجبال لا عهد لنا بها وسنعود بالليل. . وقد كنت أفضل أن يقود السيارة رجل يعرف الطرق. . رجل من أهل البلاد).

قلت: (الحق معك. . فإني أخشى الثلج على الجبال)

فصاحت زوجتي: (ثلج؟؟ هل قلت الثلج؟).

قلت: (نعم. . جبال من الجليد. . وسنحتاج أن نربط السيارتين معاً بحبل واحد. . فإذا سقطت إحداهما في الهاوية جرت الأخرى معها. . . ألا تكفون عن التخريف؟).

فكفوا. . وقمنا إلى مضاجعنا استعداداً للسير في بكرة الصباح.

وكنا ثمانية في سيارتين: زوجتي وأولادي وأنا في سيارتنا، وجيراننا في سيارتهم. فانطلقنا منحدرين في الطريق إلى بيروت وهو طريق وعر كثير التعرج والتلوي، ولكنه أملس كبطن الكف. غير أنه مخيف - يقوم الجبل على جانب منه، والوادي تحته من الجانب الآخر. ولا ترى منه وأنت تقطعه إلا القليل لأن تلويه حول الجبل وانثناءه كالحبل أو كالحية يخفيانه. وكان الضباب في أول الأمر يمنعنا أن نسرع، ولكن الشمس بددته فانكشفت الدنيا لعيوننا فنعمنا بجمال الوادي الأخضر، وجلال الجبل الشامخ، وقد قام الشجر الثمير على سفحه بين كتل الصخور، واختلطت فيه بهجة النور وزهرته بنضارة الخضرة.

ص: 5

وليس أوقع في النفس من السير في طريق تشرف عليه الجبال وتغيب قننها في السحاب فكأنها عروش للطبيعة!!!

وظللنا ننحدر وندور حول جبل بعد جبل، ونمرق من القرى والضياع واحدة بعد واحدة، وما هو إلا أن نلف مع الطريق حتى تختفي فجأة، ثم إذا هي بعد لفة أخرى تبدو لنا منازلها منتثرة وبعضها فوق بعض؛ ثم ندور مرة أخرى فتحتجب ونحن لا نكف عن الانحدار ولا نزال نهبط حتى استوى الطريق واستقام، فعلمنا أننا دنونا من بيروت. ولم تكن هي غايتنا فملنا عن طريقها وأخذنا في طريق (عالية) ثم شعرت أن السيارة صهدت جداً حتى صارت سخونتها لا تطاق؛ فعجبت، وخفت ووقفت، فسألتني زوجتي عن الخبر، فقلت: إن السيارة سخنة جداً، ولا أعرف لهذا من سبب إلا أن تكون أنابيب الماء قد ثقبت، فهو يسيل منها ولا يبقى فيها. وكنا لحسن الحظ في مدخل إحدى القرى فلم نجد عناء في الحصول على ماء صببناه فيها، وملأنا زجاجتين استعرناهما من بعض القوم. وبعد ذلك صرنا نضطر أن نقف من حين إلى حين لنصب الماء في السيارة ولم يكن ما حملنا منه كافيا، فكنا كلما بلغنا قرية نأخذ منها حاجتنا ونحتفظ بما في الزجاجتين للطريق بين القرى حتى بلغنا (الشاغور) وكان جيراننا قد سبقونا إليه.

وقفت بالسيارة وراء زميلتها وفتحت بابها فشدت زوجتي ذراعي وصاحت بي: (انظر. . . انظر. . .)

فنظرت إلى حيث تشير، فرأيت صبياً غريب الثياب. يلبس سروالاً - أو شروالاً كما يسمونه أحياناً في مصر - وقد لف على خصره - إذا جاز أن يسمى هذا خصراً - حزاماً أحمر غليظاً، ومن فوق ذلك - أو من تحته إذ شئت - صدرية من الحرير المخطط تجمع طرفيها سلسلة من الأزرار تنتهي عند العنق. وعلى رأسه لفة كبيرة. وفي كلتا يديه تفاحة عظيمة يهوي عليها بأسنانه.

وقالت زوجتي: (أين الكاميرا؟ دعه يقف حتى أصوره!).

فدنوت من الصبي وأنا أقول لنفسي: (أصيب عصفورين بحجر) أستوقفه حتى ترسمه زوجتي، وأكل إليه حراسة السيارة. ولكن الغلام رآني مقبلاً عليه، فجعل يتراجع، وعينه عليّ، وأسنانه تعمل في التفاحة، ولم يكن ثم شك في أن الصبي الأحمق يخشى أن أخطف

ص: 6

التفاحة منه، فهو لهذا يدبر كلما أقبلت، وكنت أطمئنه وأؤكد له أني لا أريد به سوءاً وأن في وسعه أن يأكل تفاحته على مهل، ولكن هذا كان يزيده خوفاً، فقد أسرع في القصم وصار فيما أرى يزدرد ولا يمضغ. ولا أدري لماذا ألححت في دعوته أن يقف ويتمهل فقد كان هناك غيره ولم يكن ثم ما يدعو إلى الخوف على السيارة، ولكن الذي أدريه أنه فرغ من التفاحة ورمى وجهي بما بقي منها فأصاب أنفي.

ولما أفقت، التفت إلى زوجتي، وقلت:

(هذه جنايتك. . . وقد كان أنفك أولى، ولكن الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون) فضحكت.

وكان جيراننا قد خفوا إلى (مكان الحادثة) وعرفوا ما كان فانطلقوا يقهقهون معها. وقالت زوجتي:

(لقد استطعت أن ألقط صورتك حين وقعت التفاحة على أنفك).

قلت: (ستكون الصورة ذكرى جميلة. . . أليس كذلك؟ وهذا جزاء الأحمق الذي يتزوج. . . يجيء بامرأة فيطعمها، ويكسوها، ويبرها ويسرها ويعاني من أجلها وفي سبيلها المتاعب والمنغصات، وتضحك منه حين ينبغي أن تعطف عليه وتألم له).

فلم تعبأ بي، ومضت عني مع الجيران، وهي تضحك.

ونعمنا بيوم جميل في الشاغور، ولم يكن أقل ما سرنا نومنا على العشب، والماء إلى جانبنا يخرج من بين الصخور دافقاً راغيا يتحدر من صخرة إلى صخرة كالشلال. وانقضى النهار، وآن أن نعود من حيث جئنا. وكانت السيارة قد أصلحت في خلال ذلك، فركبنا وانطلقنا راجعين.

وقلت لزوجتي وقد بلغنا البيت (هاتي المفتاح!).

قالت: (أي مفتاح؟ إنه معك. . . لقد كنت أنت الذي أغلقت الباب، وأظنك وضعت المفتاح في جيب البنطلون).

وكان مفتاحاً كبيراً عتيقاً لا يعقل ألاّ أشعر به إذا كان في جيبي، ومع ذلك بحثت، وأخرجت الجيوب ونفضتها أمامها، وأوسعت السيارة بحثاً عسى أن يكون قد سقط مني فيها، فلم أجد له أثراً. فقلت وقد تعبت (أسوأ ختام لخير نهار. . . لا بأس. . . والآن لم يبق إلا أن

ص: 7

نجيء بخيمة نقيمها هنا، أو أن يضيفنا الجيران وإن كان بيتهم لا يكاد يسعهم، أو أن ندخل البيت من النافذة. . . ولم لا؟ صحيح أنها مغلقة. . . ولكن ما قيمة هذا؟؟ نفلق خشبها بالفأس، ونحطم زجاجها. . . . وكل ما ينقصنا ليتيسر ذلك. . . . سلم طوله ستة أمتار على الأقل. . . وفأس. . . الأمر سهل جداً كما ترين. . . أم خير من ذلك أن أحملك على أسناني وأنفخك إلى النافذة، فإنك خفيفة كغلالة الورد. . . . ولكني أخشى أن تطيري إلى بيت آخر!).

فقرصتني قرصاً وجيعاً ولم أكن أتوقع ذلك فصرخت من الألم.

ولما قرت الضجة، قالت:(ألا يوجد في هذه البلدة نجار؟).

فاستحسنت الرأي، وأشرت عليها بالصعود مع الجيران إلى بيتهم حتى أجد نجاراً، وكنت أظن أن الأمر لا يكلفني إلا سؤالاً ألقيه إلى واحد من أهل البلدة فإذا النجار حاضر بقدرة ربك، ولكني مشيت بضعة أمتار - لا أقل من خمسة - وأنا أدور وألف، وضيعت أكثر من ثلاث ساعات قبل أن أجد النجار. ولما وجدته أخبرني أنه ليس عنده شيء يستطيع أن يفتح به الأقفال، واستمهلني ريثما يبحث. . . . واستغرق ذلك ساعتين أخريين. فلم ندخل بيتنا إلا بعد منتصف الليل!

ولا أزال أحاول أن أحتفظ بذكرى ذلك النهار - على الرغم من التفاحة التي بططت أنفي - وأن أنسى عناء تلك الليلة ولكن الذكريين في قرن، وكل منهما تثير الأخرى، فما العمل؟؟

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 8

‌صور سياحة

منشن

مهد الحركة الاشتراكية الوطنية

(بقلم سائح متجول)

كانت العاصمة الألمانية تغص منذ شهر يوليه بمئات الألوف من الزائرين الذين اجتذبهم موسم الألعاب الأولمبية؛ ولهذا السببذاته لم تجذبنا برلين الزاخرة إليها، ولم نر في الألعاب الأولمبية وضجيجها ما يؤذن بالإقامة الهادئة؛ لذلك تركنا برلين وضجيجها، وآثرنا أن نمضي أياماً في بافاريا وعاصمتها مِنشِن (ميونيخ) مهد الاشتراكية الوطنية، ومبعث المبادئ والنظم التي تسود ألمانيا منذ أربعة أعوام.

إن أول ما يلفت نظر الزائر لألمانيا الجديدة طابعها الاشتراكي الوطني أو بعبارة أخرى طابعها الهتلري؛ ففي كل مكان تخفق الأعلام النازية الضخمة بكثرة مدهشة، وفي كل مكان تعلق صورة (الزعيم) (الفيرر)؛ وفي كثير من الأمكنة العامة مثل دور البريد والبنوك تعلق لوحات عليها ما يأتي:(تحيتنا: ليحي هتلر!) ويحمل الأفراد الشارات النازية بكثرة، على صدورهم وأذرعهم، وفي قبعاتهم؛ وهكذا في كل مكان تشهد كثيراً من المظاهر المادية للطابع النازي (الاشتراكي الوطني) العميق الذي يسود ألمانيا الجديدة.

وليس الطابع المعنوي لهذه الظاهرة أقل قوة ووضوحاً؛ ذلك أن الزائر الذي يلاحظ عن كثب يشعر بأنه يعيش في أفق عميق من المبادئ الجديدة، ويخيل إليه أن ألمانيا كلها تتنفس هذا الريح الجديد الذي نفثته فيها الحركة الهتلرية. ولست بحاجة لأن تتحدث مع أحد لتأنس هذا الشعور وإنما تشعر به من تلقاء نفسك شعوراً قوياً تنفثه فيك ألمانيا الجديدة في كل مكان.

ولا ريب أن من الصعب أن نتبين ما وراء هذه المظاهر، وما تختلج به الصدور؛ ذلك أن ألمانيا الجديدة تنطق كلها بلسان واحد، ومن أشد الخطر أن يكون لأحد رأي على رأي أولئك الذين يقودونها؛ وليس في ألمانيا صحيفة واحدة تستطيع أن تلاحظ أو تعلق، والصحافة الألمانية كلها لسان واحد لما يرسمه القادة من الآراء والملاحظات.

ص: 9

هذا أول ما يلاحظ الزائر المتأمل في ألمانيا الجديدة. ولقد كانت منشن مهد الحركة الاشتراكية، وفيها بزغ نجم هتلر وصحبه، وهي لذلك أشد العواصم الألمانية حماسة للزعيم ومبادئه. وما زالت منشن في الواقع قبلة الاشتراكية الوطنية، ومستودع آثارها وذكرياتها؛ وإليها يحج أولئك الذين يعبدون المبادئ والذكريات من كل فج ليقفوا خاشعين أمام الهياكل والآثار التي أسبغت عليها السلطات نوعاً من القدسية المؤثرة: تلك هي بعض الآثار والذكريات المادية لقيام الحركة الاشتراكية الوطنية، البيت الأسمر وهياكل الضحايا، ودار (لزعيم) أو دار الحزب الاشتراكي الوطني، وهي جميعاً تقع في (ميدان الملك) وفي شارع منعزل هادئ يسمى شارع (أرسيس). ولقد شهدنا هذه الآثار السياسية التي عدت رمز التقديس في ألمانيا الجديدة لأنها ترتبط أشد الارتباط بتاريخ (الزعيم) وتاريخ الحركة الاشتراكية الوطنية. فأما (البيت لأسمر) فقد كان من قبل مقهى يجتمع فيه الزعيم وصحبه في بداية الحركة، وفيه وضع هتلر نواة حزبه، وفيه أطلق ذات يوم في الهواء رصاصة من مسدسه إيذاناً ببدء الكفاح والسير إلى الظفر؛ وكان ذلك منذ نحو عشرة أعوام، وهتلر وصحبه جماعة مغمورة لا يكاد يشعر بوجودها أحد. فهذا المقهى القديم يغدو اليوم أثراً يحج إليه، ويحرسه الجند شاهري السلاح. وعلى مقربة من البيت الأسمر يقوم هيكلان متقابلان عليهما مظاهر البساطة والروعة معاً، قد صفت في فناء كل منها ثمانية توابيت متقابلة تحوي رفات أولئك الذين سقطوا من أعضاء الحزب الوطني الاشتراكي في المعارك والمحاولات الأولى؛ وقد كتب على كل تابوت منها:(الإنذار الأخير) ثم اسم صاحب الرفات؛ وإن منظر هذه التوابيت المصفوفة في العراء لما يبعث الخشوع والروعة معاً؛ ولقد رأيت الجموع تدنو منها كما تدنوا من الحرم المقدس، وتلقي التحية النازية ببسط الذراع، والوجوه خاشعة، والرؤوس محنية، والصمت العميق يسود المكان: تلك هي مظاهر القوة السياسية الظافرة يسبغها الظافر على ذكريات ما كانت لتكون شيئاً لولا أن توجها الظفر الباهر.

وعلى مقربة من الهياكل أقيمت دار جديدة ضخمة تسمى بدار الزعيم، لتكون مقراً لإدارة الحزب الاشتراكي واجتماعاته.

فأما عن الحياة الاجتماعية في منشن فيمكن أن يقال إنها صورة حقيقية للحياة الاجتماعية

ص: 10

الألمانية. ومنشن مدينة ضخمة، ولكن يبدو عليها كثير من آثار القديم، في شوارعها وفي مبانيها، وما زالت بها عدة أبواب من آثار العصور الوسطى. وفنادق منشن عديدة، ولكن ينقصها شيء من الأناقة وحسن لتنسيق. على أن أروع ما في منشن مطاعمها وبيرها الضخمة التي لا تضارعها أية أمكنة أخرى في أوربا:(ليفن بروي)(ماتيزن بروي)(توماس بروي)(منشنر بروي) وكثير غيرها؛ وإنك لتدخل أحد هذه الأبهاء الشاسعة فيدهشك منظرها ويسحرك معاً. تصور أبهاء هائلة طول كل منها نحو مائة متر أو يزيد، وعرضه خمسون متراً أو يزيد، وقد عقدت عليها منحنيات رائعة، وصفت فيها مئات الموائد، وغصت بآلاف الشاربين والآكلين؛ وأروع ما في هذه الأمكنة القاعات التي تحت الأرض أو الأقبية الهائلة التي تمتد تحت بناء ضخم أو أكثر. وتصور هذه الجموع البشرية المكتظة وهي تحتسي أقداح البيرة؛ وأي أقداح؟ أقداح هائلة من الخزف أو المعدن يسع القدح منها لتراً أو أكثر من البيرة الصابحة اللذيذة، ولا يتجاوز ثمنه قرشين! ثم تصور أطباقاً ضخمة تغص بمقادير وافرة من الطعام الشهي بأثمان معتدلة جداً. وإنك لتشهد الأقداح المزبدة والأطباق الحافلة تنفث الدخان العطر، والحنايا المعقودة والثريات الساطعة فوق رؤوس الجالسين في هذا الرحب الشاسع، والآنسات يهرولن للخدمة - والآنسات يقمن بالخدمة في مقاهي منشن ومطاعمها - ذلك منظر رائع ساحر معاً لا يستطيع السائح أن يشهده في أية عاصمة أخرى.

وأهل منشن يأكلون ويشربون بكثرة؛ والألماني على وجه العموم نهم يفرط في الأكل وفي الشراب في كل وقت، وهو على خلاف الفرنسي لا يحب الأحجام والمقادير الصغيرة، بل يؤثر الأحجام والمقادير الوفيرة في كل شيء. وللطعام الشهي لديه لذة خاصة يستمرئها؛ والطهي الألماني غني بمادته الوفيرة من مختلف اللحوم والخضر وات، ولكنه قليل التنوع؛ أم الطهي الفرنسي فيلاحظ فيه فقر المادة مع كثرة في التنوع.

ومما يلاحظ أن الشعب البافاري لا يتمتع بكثير من التناسق في الجسم والملبس، فهم يرتدون أغرب الأزياء والألوان دون تناسق ولا ذوق؛ ويمتاز الرجال في الغالب بالتكرش والترهل؛ والشباب لا تبدو عليه آيات النضارة كالشباب السويسري مثلاً. وكثير من الشباب يضعون النظارات على عيونهم، بل يضعها كثير من الضباط والجند. ولا يتمتع

ص: 11

النساء بكثير من الرشاقة والأناقة وحسن الهندام؛ وقلما تجد حسناء تلفت النظر برائع قوامها أو زينتها؛ وتغلب لديهن ضخامة الصدور، بيد أنهن لا يسرفن في الزينة والأصباغ كالفرنسيات، وهم أميل إلى الحشمة والتحفظ.

وقد قلنا إن منشن مهد الحركة الاشتراكية الوطنية وإنها أشد العواصم الألمانية تأثراً بالروح والمبادئ الجديدة والاشتراكية الوطنية تقوم في جوهرها على الفكرة العنصرية، وعلى الاعتزاز بالجنس؛ وقد بث الغلو في فهم هذه العنصرية إلى الشعب الألماني روحاً عنصرية قوية تقوم من بعض الوجوه على خصومة الجنس؛ ومن ثم فأن الغرباء، ولا سيما الذين تنم عليهم ألوانهم من الشعوب السامية والشرقية يشعرون بأنهم في جو غير ودي. وقد لا يتخذ هذا الشعور أية مظاهر مادية، ولكن ما يلقاه الغريب من مظاهر الأدب والمجاملة يشوبه غالباً شيء من الخشونة والجفاء؛ وقد سمعت هذه الملاحظة من كثير من الأوربيين والأمريكيين الذين تجولوا في ألمانيا. على أنه يمكن أن يقال إن الأجنبي يشعر رغم هذه الظاهرة التي تمازجها الصراحة بأنه في جو أكثر قبولاً مما يأنسه في فرنسا من مظاهر يمازجها الرياء في كل شيء.

ومنشن غنية بالمتاحف الأثرية؛ وفي متحف قصر (الرزيدانس) وهو قصر ملوك بافاريا السابقين، مجموعات بديعة من الصور والأثاث؛ وفي المتحف الوطني مجموعات زاخرة من الأثاث والأسلحة والأزياء والصور الزيتية؛ وتوجد عدة متاحف هامة أخرى أشهرها المتحف الفني الذي يعتبر أعظم متحف في العالم من نوعه. ولا غرو فقد كانت منشن حتى الحرب الكبرى عاصمة لمملكة بافاريا، وكانت مقر ملوكية عظيمة لبثت مدى قرنين تسيطر على ألمانيا الجنوبية؛ وهي ما زالت تعتبر عاصمة ألمانيا الثانية من الوجهة التاريخية والمعنوية.

وتتمتع منشن بموقع جغرافي بديع في هضاب الألب البافارية، وعلى مقربة من الغابة السوداء؛ وقد جعلها موقعها مركزاً هاماً للسياحة في ألمانيا الجنوبية، ولقد كانت المدينة حين زرناها تموج بجموع غفيرة من السياح من سائر الأنحاء ولا سيما البلدان الشمالية مثل السويد والنرويج والدانمارك وهولندا.

هذه صور أملتها الملاحظة والتأمل؛ بيد أنه يمكن أن يقال رغم كل شيء إن السائح يلقى

ص: 12

في ألمانيا كثيرً من حسن الوفادة. وقد كان لما وضعته الحكومة الألمانية من التسهيلات بالنسبة لمسألة العملة وتخفيض أجور لسفر أكبر الأثر في تقدم السياحة في ألمانيا.

(* * *)

ص: 13

‌المرأة في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

للمرأة أثرها البين في كل مجتمع وبالتالي في أدب ذلك المجتمع، بل إن مكانتها في المجتمع وأثرها في الأدب أوضح دليل على مدى رقي الأمة. وأول ما نصادف من فرق بين تاريخي المرأة العربية والمرأة الإنجليزية أن مكانة الأولى تبدأ رفيعة وتظل كذلك حيناً ثم تسير في انحلال مستمر، بينما تاريخ الثانية هو تاريخ رقي مطرد إلى الوقت الحاضر.

كانت للمرأة العربية منزلة سامية وأثر بعيد في حياة الجاهليين والمسلمين في صدر الإسلام زادها الإسلام توكيداً، ويتضح ذلك جلياً في عظائم الأعمال التي قامت بها المرأة في ظهور الإسلام وانتشاره والمشادات التي تبعث ذلك؛ فذاك عصر حافل بأسماء فضليات النساء اللاتي تركن أثرهن في سير الحوادث وفي الأدب، وفي ذلك العصر احترفت المرأة شتى الأعمال كالطب والتدريس في الشرق وفي الأندلس. ومما له دلالته على مكانة المرأة إذ ذاك أن كبار الرجال كانوا يفخرون بالانتساب إلى أمهاتهم وعصبيتهن، وكانوا يلقَّبون بابن هند وابن عائشة وابن ذات النطاقين في مجال التبجيل والمدح؛ وكان للزوجة رأي مسموع، يشاورها زوجها قبل الإقدام على عمل، وآثار ذلك في الأدب عديدة؛ وقد جرت عادة كثير من الشعراء على تسجيل تلك المشاورات في أشعارهم يبدءونها بقولهم:(وقائلة. . .).

ذلك عصر المرأة العربية الذهبي في الأدب، ضربت فيه في الشعر ونقده ومجالسه وفي الخطابة بسهم وافر. وكان في طليعة الأديبات والبليغات بنات الخلفاء والأمراء، ولنقتصر من العديدات اللاتي نبغن في هذا العصر الطويل على ذكر الخنساء وليلى الأخيلية وليلى بنت طريف وعلية بنت المهدي في الشرق، وولادة بنت المستكفي وحمدونة بنت زياد في الأندلس.

فلما اتسعت المملكة الإسلامية واختلطت فيها الأجناس وتكاثرت الجواري واستفحل التسري وفشا الترف واستحل ما حرم من المفاسد، دب دبيب الفساد في المجتمع كله، وأخذت حالة المرأة خاصة في انحطاط شديد مستمر: وهنت رابطة الأسرة، وتنوسيت أوامر الدين التي تعلي مكانة المرأة وحقوقها، وأهمل تعليمها، وشدد عليها الحجاب حتى انفصلت عن عالم الأحياء، فتلاشى أثرها في المجتمع وفي الأدب، فلم يكد يذكر التاريخ اسم امرأة عظيمة

ص: 14

ذات أثر في حياة الأمة أو أدبها.

أما مكانة المرأة الإنجليزية في المجتمع فبدأت كما نراها في قصص تشوسر وروايات شكسبير على درجة من الرقي محسوسة: فهي في قصص تشوسر تباري الرجل في الأعمال العامة؛ وفي روايات شكسبير تصوير لنساء على جانب عظيم من القدرة والطموح والسمو. وليس أدل على ارتفاع مكانة النساء في ذلك العهد من قبول الشعب اليزابيث - وهي بعد في حداثتها - ملكة عليه دون تردد، وإيلائه إياها من الولاء ما لم يوله غيرها من الملوك، وإظهارها هي من الحنكة السياسية ما بذت به الفحول. وازِنْ ذلك بما كان من ارتياع الناس في عهد انحطاط المرأة العربية السالف ذكره، حين وليت شجرة الدر عرش مصر، حتى بعث الخليفة العباسي يوبخ أمراء مصر ويتوعدهم بالويل والثبور إن لم ينضحوا ذلك العار، على حين لم يحرّك أسلافه ساكناً يوم ولي نفسَ العرش عبدٌ خصي.

واطرد رقي المرأة الإنجليزية باطراد رقي المجتمع الإنجليزي، وتزايد حظها من التعليم. وفي القرن الثامن عشر زاد التفاتها إلى الأدب وظهرت الصحف فأقبلت على قراءتها، وانصرفت همة بعض كتاب العصر إلى تحسين حالها وتثقيفها وترغيبها في الأدب. وظهرت المنتديات النسائية التي اشتهر به ذلك القرن وكان يجتمع بها رجال الأدب. فلما كان القرن التاسع عشر طفرت حالة المرأة طفرة عظيمة في طريق التقدم الاجتماعي والأدبي بانتشار التعليم العام ومشاركة المرأة الرجل في كثير من الحقوق السياسية والأعمال اليومية، فلا غرو إن تعاظم أثر المرأة في الأدب الإنجليزي، وتدفق إنتاجها في عالمي الشعر والنثر.

ولقد اعترضت هذا الرقي فترة انحطاط في القرن السابع عشر ترجع إلى انتشار الترف والفساد الخلقي اللذين صحبا عودة الملكية الإنجليزية التي كانت لاجئة إلى فرنسا، وهذا شبيهٌ بالترف الذي أدخله الفرس في المجتمع العباسي؛ ولكن بَينما نرى هذا الأخير يستمر ويستفحل حتى يكون فيه القضاء الأخير على الخلق العربي وعلى مكانة المرأة وعلى المجتمع عامة، نرى المجتمع الإنجليزي لا يلبث أن يتحرر من تلك النوبة الطارئة، وينصبُ كبارُ الكتاب - أمثال ستيل وأديسون وجونسون - أنفسهم لتطهير الأدب ورفع مستوى المرأة، وهي حركة عديمة المثيل في الأدب العربي: فبدل أن ينصرف أدباء

ص: 15

العصر العباسي المترف إلى إصلاح كهذا الإصلاح الحميد تهالك شطر منهم على مفسد ذلك العصر واعتزل شطر منهم قليل وتوفَر على نظم أشعار الزهد.

وأثر المرأة في أدب مجتمعها مزدوج: فمنه ما يقوله الرجل متأثراً بوحيها، ومنه ما تنتجه هي ذاتها. وتتساوى المرأة العربية والإنجليزية من جهة الإنتاج في تقصيرهما عن الرجل وضآلة أثرهما في الأدب إذا قيس بأثر الرجل في شتى أغراض القول؛ غير أن المرأة الإنجليزية تفوق العربية في كثرة إنتاجها الأدبي، وكذلك في كثرة ما أنشأ الرجل حولها من أدب، لظروف مساعدة أحاطت بتاريخها وحُرِمتْها المرأة العربية في خير عصورها: من انتشار التعليم العام والطباعة والصحف، ووجود فن من فنون الأدب في الإنجليزية دون لغة الضاد هو القصة.

فالقصة المقروءة أو الممثَّلة التي تدرس المجتمع والنفس الإنسانية سبب كبير من أسباب تكاثر الأدب المكتوب حول المرأة: إذ لا غنى ثمة عن درس المرأة بجانب الرجل سواء بسواء ووصف أعمالها وميولها وأثرها في سير الحوادث، ومن ثم زخرت روايات شكسبير ومعاصريه، وقصص سكوت ودكنز ومريدث وهاردي وإضرابهم بشتى الصور لمختلف عناصر النساء، ومتباين طبقاتهن ومتعدد طبائعهن، وقد حرمت المرأة العربية هذه الدراسة الأدبية حرمانا تاماً.

والقصة من جهة أخرى سبب كبير من أسباب تكاثر الأدب الذي تنشئه المرأة ذاتها، لأنها تلائم طبع المرأة أكثر مما يلائم نظم الشعر الذي هو أشبه بالرجل، لأنه يحتاج إلى فوة وفخامة وشمول نظرة لا تتسق لكثير من النساء. أما القصة التي تدرس الحياة الاجتماعية وتصف لحركات والسكنات وتحصي التفاصيل وتتبع الحوادث، فتجد فيها المرأة خير مجال للتعبير عن خلجاتها ومشاهداتها. زد على ذلك أن للمرأة من لطف النفس ودقة الملاحظة ما يمكنها من فهم الآخرين والأخريات والإلمام بنوازعهم ومراميهم، وفضلاً عن هذا وذاك تستطيع المرأة في القصة أن تعبر على لسان غيرها عن نزعات الحب وأطواره تعبيراً لا يُستساغ منها إن أرسلته شعراً.

لذلك كله لم تكد تظهر القصة وينتشر التعليم العام حتى نبغ في القرن الماضي جمهرة من كبريات القصصيات بارين كبار قصصي العصر الحديث، وفي مقدمتهن جين أوستن

ص: 16

وشارلوت برونتي ومز جاسكل؛ وفي هذا الفن، فن القصص، أنتجت المرأة الإنجليزية أحسن ما أنتجت من أدب، على حين كان الشعر هو الفن الذي نبغت فيه المرأة العربية.

ومن وجوه الاتفاق بين تاريخي المرأتين أنْ ظهر لكل منهما في الأدب الذي تنتمي إليه عدوٌّ عنيد أنحى عليها بقوارص الكلام: ففي العربية صب المعري جام نقمته على الحياة على المرأة التي خيل إليه أن طباعها هي طباع الحياة الخاتلة، وفي الإنجليزية ندد ملتون بالمرأة في كتاباته وأشعاره، وأنزلها منزلة دون الرجل، ووصمها بالحمق والختل، وجعل شخصية دليلة في قصته الشعرية عن سمسون الجبار مثال تلك المرأة. على أن مما له دلالته أن ملتون كان فرداً يعبر عن أفكاره الفردية التي اكتسبها من ظروفه التعسة ولا يجد من حوله سميعاً، بينما كان المعري ينعب نعيبه في أوائل عهد انحطاط المرأة العربية واشتداد وطأة الحجاب عليها، فلا ريب أنه كان يجد آذاناً صاغية وأنه مسؤول عن بعض ما حاق بها بعد ذلك من قهر وإهمال.

وقد عرف الأدب العربي عنصراً من النساء لم يعهده الأدب الإنجليزي: هو عنصر الجواري اللائى كن يبرعن في الأدب والموسيقى ويجتمع إليهن الأدباء ويشببون بهن، ولكن الأدب الجزل الصحيح لم يستفد كثيراً من ذلك العنصر المترف المتبذل، في حين أن أثر أولئك الجواري في سقوط منزلة المرأة واضح محقق.

ويمكن حصر الأدب المتعلق بالمرأة في اللغة العربية في أبواب أربعة: النسيب، وحوادث عظيمات النساء، والتمدح بالعفة واحترام المرأة في عصرها الأول، والغض منها في عصرها المظلم.

والتمدح بالعفة وتوقير المرأة والتقرب إليها بمكارم الأعمال من أنبل أغراض الأدب العربي وهو ضرب من القول ينفرد به دون الأدب الإنجليزي؛ وبديهي ألا يكون ذلك إلا في عهد علو مكانتها في النفوس، ومنه قول مسكين الدرامي:

ما ضر جاري إذ أجاروه

ألا يكون لبيته ستر

أعمى إذا جارتي خرجت

حتى يواري جارتي الخدر

وقول أبي فراس:

ورحت أجر رمحي عن مجال

تحدث عنه ربات الجمال

ص: 17

ارتدت هذه الرعاية الكريمة للمرأة تحقيراً وسخرية حين فسد المجتمع، فلم يستحي الشعراء أن يطلقوا فيها ألسنتهم، فمن قائل:

عسر النساء إلى مياسرة

والشيء يسهل بعد ما جمحا

وقائل:

ومن خبر الغواني فالغواني

ضياء في بواطنه ظلام

وقائل:

وإن حلفت لا يخلف النأي عهدها

فليس لمخضوب البنان يمين

وهو هجاء للجنس اللطيف استمرأه ساقطو الهمة من الشعراء وتنزه عنه الأدب الإنجليزي، فاقتصر على النسيب الرقيق والمداعبة الرفيقة والدراسة العلمية البريئة لشتى الطبائع والشخصيات النسوية.

والنسيب هو مجال ظهور المرأة الأول في الشعر، وفيه أي دليل على رقي المجتمع ومكانة المرأة فيه. وفي الأدبين العربي والإنجليزي نسيب على غاية من السمو والنقاء؛ وأكثر ما كن ذلك في الأدب العربي في عهد ارتقاء مكانة النساء الاجتماعية، هناك كان شعر النسيب في جملته عفيف اللفظ نقي الإشارة صادق العاطفة على خشونة وسذاجة في بعضه، فلما كان عصر الترف والفساد هوى النسيب إلى حضيض الشهوات وداخله التكلف في الشعور وفي اللفظ، وخالطه من الفحش والنسيب بالمذكر ما تنزه عنه الشعر الإنجليزي.

ففيما عدا فترة الفساد الخلقي الوجيزة في التاريخ الإنجليزي التي تقدم ذكرها، يمتاز النسيب الإنجليزي بسمو العاطفة وطهارة اللفظ والترفع عن ذكر الشهوات والتسامي عن الأوصاف الجسيمة التي تشغل حيزاً غير ضئيل من النسيب العربي، فالشاعر الإنجليزي يعد جمال محبوبته أمراً مفروغاً منه، فإن أشار إشارة عاجلة إلى محاسنها فإلى نقاء بشرتها أو لمعة شعرها، وإن عمد إلى التشبيه فإنما يشبه عينيها بالسماء صفاء أو صدرها بالدير نقاء وبعداً عن منال الرجال، إلى غير ذلك مما هو أدخل في الأوصاف النفسية وأدل على السمو الروحي.

فخري أبو السعود

ص: 18

‌عادة الختان أصلها وتاريخها وانتشارها

بمناسبة المنبوذين والإسلام

بقلم الدكتور مأمون عبد السلام

إنه لمن الصعب على المشتغلين بدراسة طبائع الأمم وأحوالها أن يهتدوا إلى تحديد العصر الذي بدأ فيه الإنسان يختتن. وهم لا يزالون في حيرة من الدوافع التي حملته على تلك العادة، فتقول فئة منهم إن بعض القبائل لجأت إلى الختان كعلامة تميز بها نفسها عن سواها كما يلجأ بعض قبائل السودان إلى تشريط خدودهم أو إلى اقتلاع إحدى أسنانهم القاطعة. ويعلله آخرون بأنه وقاية سحرية، ويظن غيرهم بأنه عقيدة دينية يضحي الفرد بمقتضاها جزءاً من جسمه فداء عن نفسه وتقرباً إلى ربه. ويعتقد آخرون بأنه ميزة أرستقراطية.

وعادة الختان عريقة في القدم، يدل على ذلك انتشارها في أنحاء قاصية من المعمور بين أجناس من البشر قد فصلت الطبيعة بعضهم عن بعض منذ أحقاب سحيقة. فلا تكاد تخلو قارة من شعوب تمارس تلك العادة، فتراها بين قبائل السود من سكان أستراليا، كما أنها توجد بين قبائل الجالا والفلاشه، يهود الأحباش، وبين غيرهم من قبائل الحبشة، وعند قبائل البانتو والمساي والكفار والناندي بأفريقيا، وقبائل الأوتاهيت وسكان جزائر التونجا والبولينزيا وجزيرة فيجي وكاليدونيا الجديدة.

ولما اكتشف الأسبانيون أمريكا منذ أكثر من أربعمائة سنة مضت وجدوا عادة الختان منتشرة بين أقوام الناهواطل وبين أمة الأزتيك سكان بلاد المكسيك القدماء كما شاهدوها بين سكان حوض نهر الأمازون بأمريكا الجنوبية.

وكان قدماء المصريين يختتنون من عصور غابرة قبل سنة 1400ق م. فتراهم قد صوروا ولدين يختتنان على جدران معبد خونسو بالكرنك. وقد ذكر التاريخ أن مصر في عهد مربنبتاح قد غزاها قوم من سكان بحر الروم كانوا يختتنون.

والختان من مميزات الشعوب السامية وخاصة اليهود منهم، فقد كان بنو إسرائيل من قديم الزمان يختنون الرجال وقت زفافهم، فإذا أظهر العريس أي خوف أو وجل كن ذلك دليلاً على نقص في رجولته فتهجره عروسه وتلبسه المعرة. وقد علمت من بعض المعمرين أنه كانت العادة في بلدة التلين بمركز منيا القمح أن يختتن الرجل يوم زفافه.

ص: 19

وقد فرض الله سبحانه وتعالى الختان على سيدنا إبراهيم عليه السلام وعلى ذريته وعبيده، وكان قد أمره بأن يغير اسمه من إبرام إلى إبراهيم لأنه سيكون أبا البشر. فقد جاء في سفر التكوين (17 ? 23 - 27):(فأخذ إبراهيم إسماعيل ابنه وجميع ولدان بيته وجميع المبتاعين بفضته كل ذكر من أهل بيت إبراهيم وختن لحم غرلتهم في ذلك البيت عينه كما كلمه الله، وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة حين ختن في لحم غرلته، وكان إسماعيل ابنه ابن ثلاث عشرة سنة حين ختن في لحم غرلته، في ذلك اليوم عينه ختن إبراهيم إسماعيل ابنه وكل رجال بيته ولدان البيت والمبتاعين بالفضة من ابن الغريب ختنوا معه).

ويختن اليهود أولادهم في اليوم الثامن من ولادتهم كما ختن إبراهيم ابنه اسحق فريضة الله عليه. ففي سفر التكوين (17) ابن ثمانية أيام يختن كل ذكر في أجيالكم.

وقد قام اليهود بهذه الفريضة إبان أسرهم في أرض مصر، ولكنهم أقلعوا عنها وهم في برية سينا فلم يختن موسى عليه السلام ابنه إلى أن قطعت زوجته صفورة غرلته استجلاباً لرضى الرب ومنعاً لنقمته؛ فقد جاء في سفر الخروج (4): وحدث في الطريق في المنزل أن الرب التقاه وطلب أن يقتله فأخذت صفورة صوّانه وقطعت غرلة ابنها ومست رجليه.

ولما بلغ بنو إسرائيل كنعان أرض الموعد رجعوا إلى التختن فتختنوا بسكاكين من صوان في مكان جلجال كما ورد في يشوع 5 (2): (في ذلك اليوم قال الرب ليشوع اصنع لنفسك سكاكين من صوان وعد فاختن بني إسرائيل ثانية. فصنع يشوع سكاكين من صوان وختن بني إسرائيل في تل الغلف. وهذا هو ختن يشوع إياهم. إن جميع الشعب الخارجين من مصر الذكور جميع رجال الحرب ماتوا في البرية على الطريق بخروجهم من مصر. لأن جميع الشعب الذين خرجوا كلهم مختونين. وأما جميع الشعب الذين ولدوا في القفر على الطريق بخروجهم من مصر فلم يختتنوا لأن بني إسرائيل ساروا أربعين سنة في القفر حتى فنى جميع الشعب رجال الحرب الخارجين من مصر الذين لم يسمعوا لقول الرب الذين حلف الرب لهم ألا يريهم الأرض التي حلف الرب لآبائهم أن يعطينا إياها، الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً. وأما بنوهم فأقامهم مكانهم فإياهم ختن يشوع لأنهم كانوا قلفا إذ لم يختنوهم في الطريق. وكان بعد ما انتهى جميع الشعب من الاختتان أنهم أقاموا في أماكنهم في المحلة حتى برئوا. وقال الرب ليشوع اليوم قد دحرجت عنكم عار مصر فدعى اسم

ص: 20

ذلك المكان الجلجال إلى هذا اليوم).

ويختن اليهود أولادهم في منازلهم وفي الكنيس، فيقوم بهذه العملية والد الطفل، أو رجل اختص بذلك يشترط فيه التدين وحسن السيرة وألا يؤجر على عمله، بل يقوم به ابتغاء وجه الله. وكانوا يقطعون القلفة بسكين من الصوان أو من الزجاج أسوة ببني إسرائيل، ولكنهم استعاضوا الآن عنها بمشارط من الصلب. ويجب أن يسيل الدم وقت العملية، فكانوا فيما سلف يمصون الجرح ليكثروا من نزول الدم ثم يوقفونه بعد ذلك بالخمر يرشه المختن بفمه، ولكن ذلك قد بطل. ومن عاداتهم أن يدفنوا القلفة أو يحرقوها.

ويعتبر اليهود الختان طهارة، والطهارة عندهم إما ظاهرية وهي الختان، أو باطنية وهي طهارة القلب كما ورد في الكتاب المقدس - أرميا 9 (25).

ويقول المؤرخون إن هركانوس أجبر الأثيدوميين على الختان، وأن بطليموس أبيفانيس ختن ولديه أنطونيوس والأجيالوس.

ولكن الإمبراطور يوستينيانوس قد حرمه على الرومانيين ومن خالف ذلك يقتل. وقد حذا حذوه انطيوكوس ابيفانيس، وعُذب من أجل ذلك كثير من اليهود وقتلوا. وقد حرمه كذلك الإمبراطور هادريانوس وقسطنطين.

ولما جلا المسلمون عن بلاد الأندلس وقامت محكمة التفتيش بالقضاء على ما بقي من آثاره جرمت الختان في أواخر عهدها.

والعادة ألا يختتن المسيحيون ولو أن الكثير منهم يختتنون كما يفعل الأحباش. وقد ظهر في إيطاليا في القرن الثاني عشر الميلادي طائفة مسيحية اسمها (سركمسيسي) تأمر بالختان كما يدل اسمها على ذلك.

والختان سنة كونية كتربية اللحية عند المسلمين وقد أفتى بذلك جمهور العلماء.

ويتبع عادة الختان عادات أخرى على غاية من الغرابة. ففي بلاد البوسنة مثلاً يمنع الصبي من شرب الماء شهراً كاملاً.

ويختتن الصبيان عند قبائل الكفار في جنوب أفريقيا عند بلوغهم الحلم باحتفال رائع عظيم. فيضربون حتى تدمى جلودهم، ثم يذر الفلفل الأحمر (الشطة) على جروحهم كي يختبر مقدار صبرهم على الألم وبعد ذلك يختتنون.

ص: 21

ويرتدي شبان قبيلة المساي (وهم من السود بأفريقيا الشرقية) عندما يقرب وقت ختانهم ملابس النساء، ويطلون وجوههم بالأبيض والأحمر ويتخضبون ويظهرون كل علامات الأنوثة اعتقاداً منهم بأن ذلك يبعد الشياطين عنهم فلا يصيبهم منها أذى.

ومن عادة قبائل الناندي بشرق أفريقيا البريطاني أن يزور البنات الفتيان قبيل الختان ويقرضنهم ملابسهن وحليهن ليلبسوها، فإذا تم الختان يرتدي الشبان المختتنون ملابس المتزوجات من النساء ويتبخترون بها بكل دلال النساء عدة أشهر حتى تبرأ جروحهم.

ويختتن الشبان من قبائل السود باستراليا قبل زواجهم فيجبرون على الجري في الأدغال وورائهم القوم يستحثونهم على المثابرة ساعات عدة بالضرب الشديد حتى يسقطوا من الإعياء. فيوقد الرجال بعد ذلك ناراً ويختنون الشبان بقطعتين من الزجاج ويتركونهم في حراسة رجل أو امرأة من القبيلة إلى أن يلتئم الجرح ثم يكون لهم حق التزوج. والغريب في أمرهم أن المختتن يلبس فوق وجهه نقاباً خشبيا (وجهاً من خشب) كيلا يراه أحد مدة أسبوعين.

ومن عادة بعض هذه القبائل أن تلف القلفة في قطعة من جلد الكانجرو. ثم تعطى لزوجته فتحتفظ بها طول حياتها.

ومن عادة أهل أواسط استراليا أن يلعقوا ما يسيل من الدم وقت الختان أو يطلوا به صدورهم وجباههم لاعتقادهم أن ذلك يزيد في قوتهم.

وعندما يختن قوم الأرونطا أولادهم يصرخ الرجال بأعلى صوتهم قائلين: (ببررر) فيسمعهم النسوة في عششهن فيعمدن في التو إلى أخوات المختتنين وإلى خالاتهم ومن يحل لهم التزوج بهن من النسوة فيشرطن جلد بطونهن وأكتافهن اعتقاداً منهن بأن ذلك يمنع الألم عن الصبي. ثم تعطى القلفة لأخي المختتن الصغير فيبتلعها كي ينمو ويترعرع.

وعند قبائل الكوكودون في شمال كوينزلاندا باستراليا تخيط المرأة قلفة ابنها بخيط تضعه حول جيدها لتتقي بذلك شر الشيطان فلا يؤذي ولدها.

وفي بعض بلادنا يربط الولد القلفة في خرقة يلبسها حول عنقه إلى أن يلتئم الجرح فيلقيها في النيل.

ويمسح بعض قبائل استراليا دم الختان بورق من قلف الأشجار ثم يلقون ذلك في البرك

ص: 22

التي ينمو بها نبات الزنبق المائي اعتقاداً منهم بأن ذلك يقوي هذه النباتات لأنهم يتغذون بسوقها وجذورها.

مأمون عبد السلام

ص: 23

‌نهضة المرأة المصرية وكيف توجه للخير العام

للأستاذ فلكس فارس

لا تستغل نهضة المرأة ما لم توجّه إلى تكوين المرأة الصالحة لتثمر بطبيعتها خيراً، إذ من العبث أن تجني الخير نهضة مضللة.

لا ينهض بالشرق إلا حضارة شرقية تستمد نظمها من المبادئ الأدبية العليا التي أنزلت وحياً على رسله وأنبيائه، وإلهاماً على فلاسفته وشعرائه.

فإذا ما أردنا تحديد موقف المرأة في المجتمع ونحن نستنير بهذه المبادئ يمتنع علينا أن نسلم لها بحالة تكون فيها قوامة على نفسها مستقلة بحياتها، لأن الحضارة الشرقية التي نتجه بحوافزنا إليها لا مقام فيها لامرأة لا مرجع لها ولا قوام عليها؛ وما المرأة المنسلخة عن سيطرة رجل يكفلها المتصلة بالمجتمع اتصالاً مباشراً إلا بدعة في الإنسانية أوجدتها أنانية الرجل في الغرب لشقائه وشقائها على السواء.

إن التشريع الأول الذي أيده جميع الأنبياء والمرسلين قد أورد الوضع الصحيح للأسرة الإنسانية بقوله للرجل:

(بعرق جبينك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها) وبقوله للمرأة: (بالأوجاع تلدين وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك).

فالمرأة إذن موقوفة على حياة الاشتياق بحسب تعبير الكتاب وعلى تأمين النسل الصحيح، فكل استثمار لها في أية دائرة أخرى من دوائر الحياة المادية، إنما هو خرق للناموس وجناية على العاطفة والأنسال.

إن لم تكن المرأة زوجة وأماً، فهي مرتكبة جناية أو هي ضحية جناية. وأشد شقاء من هذه السائبة، وأوفر ضراً بالمجتمع، الزوجة المسلوبة الخيار، والأم المكرهة على التوليد.

إن في اشتياق المرأة وخضوعها بهذا الاشتياق نفسه لرجلها سر اعتلاء الأمم وانحطاطها، وما جهل شعب في التاريخ أهمية الانتخاب الطبيعي، فتسلط رجاله على نسائه بشهواتهم لا بشوقهن دون أن تصبح المرأة في ذلك الشعب أَمَة تورث مذلتها بنيها فيتشربون العبودية في فطرتهم قبل أن يبصروا النور.

إن أولى الخطوات التي تقود الشعوب إلى التدهور إنما هي تجاهل أهمية المرأة، لا من

ص: 24

حيث تربية الطفل فحسب، بل أيضاً وبخاصة من حيث تكوين الجنين، وما ينهض شعب يعتقد بمبدأ الزمخشري القائل:

وإنما أمهات الناس أوعية

مستودعات وللأبناء آباء

إن الرجل الأناني الجاهل يعتقد أنه هو وحده مستودع للحياة، وإن بقاء النوع يتوقف على ما يحمل من جرثومة حية، فما المرأة في تقديره إلا الأرض يستنبتها خصبة ويتحول عنها مجدبة.

وعلى هذا المبدأ الذي ينافي روح الشرع وحكمته ويناقض ما يؤيده من العلم الحديث، يستولد الرجال النساء أطفالاً كان خيراً لهم لو أنهم لم يلدوا.

إن علم وظائف الأحياء قد اكتشف ذرات مستقرها خلايا الجسم وهي تعرف (بالكروموسوم) وعددها في كل خلية إنسانية 48، نصفها من الأب ونصفها الآخر من الأم، لأن نطفة الحياة في الرجل وفي المرأة لا تحوي سوى 24 ذرة فقط، فيتضح من هذا أن العناية قد أرادت أن يكون المولود منبثقاً من شخصين متحدين على تواز تام بين ما ينفصل عن كل منهما لتكوين الحياة الجديدة.

ويؤكد العلم أن هذه الذرات منظمة في الخلية على شكل سلسلة متصلة الحلقات وهي مزدوجة متقابلة في سمطيها، وأن في هذه الحلقات تستقر العوامل التي تنقل إلى الأبناء طوابع الآباء والأمهات.

وقد عقد المتخصصون لهذه الأبحاث فصولاً بينوا فيها كيف تتغلب عناصر الارتقاء أو الانحطاط في السلالات، فذهبوا إلى أن كل حلقة في العقد المزدوج تكمن فيها صحة عضو معين، فإن كانت هذه الحلقة ضعيفة في الأب وقابلها في الأم حلقة قوية تغلبت الصحة على المرض فيجيء الطفل سليماً وإلا فينشأ معتلاً لأن الحلقة التي يرثه عن أبويه لا مناعة فيها.

إن هذا المظهر المحسوس لاختلاف القوى الكامنة في كل من الرجل والمرأة لمما يفسر لنا علة التنافر والتجاذب بينهما، فأن الطبيعة الطامحة إلى الارتقاء وإصلاح ما تفسده الحياة تعمل بحوافزها الخفية متسلحة بالانتخاب الغريزي للوصول إلى أهدافها.

مما لا ريب فيه، إذن، أن ليس كل رجل يصلح زوجا لأية امرأة، كما أنه ليست كل امرأة

ص: 25

تصلح زوجة لأي رجل كان.

إن الحياة تغالب الموت في هذا الوجود مفتشة عن أصلح المنافذ للنشوء والارتقاء، وهذه الحياة التي خرجت من الأزل متجهة إلى الأبد إنما تهب كالعاصف الجبار على الجنسين فتلويهما لسلطانها معتلية بالنوع فوق رمم أفراده. على أنه في حين أن هذه الحياة تختار سبيلها بالسائق الغريزي في النبات وفي الحيوان عاملة على تحسين مجاليها بالقضاء على الضعف الطارئ والاستبقاء على القوة الصامدة في الجسوم، فأنك لترى هذه الحياة في المملكة الإنسانية وهي أرقى وأشرف مجاليها تتلوى في مسالك الشهوات المضللة والعقليات السخيفة منزلة بالتائهين أوجع الزواجر وأبلغ العبر، وهؤلاء التائهون لا يرجعون عن غيهم فلا يشفقون على أنفسهم ولا يبالون بأنسالهم.

إن الولد المختل العليل إنما هو الضحية البريئة التي تصفع الطبيعة به أوجه الرجال الفاحشين والنسوة الطامعات المضللات، ولكن الطبيعة لا تعنو دائما لتحكم الإنسان ولا تتهيب زجره وإرغامه فتضرب عن الظهور وتمتنع عن إيجاد الضحية، وآخر ما اكتشفه العلماء في جامعة كولومبيا بالاستقراء بعد أن كان الفكر يفترضه افتراضاً هو التنافر بين عنصري الذكر والأنثى في بعض الأحوال مما يقضي بالعقم التام مع أن كلا من الزوجين ليس عقيما.

وما كان الإنسان ليحتاج إلى الاستقراء العلمي خلال دقائقه وذراته ليعلم أن الطباق والانسجام يؤديان إلى الارتباط المكين، وأن الشذوذ والتنافر ينشأ عنهما التدافع الافتراق، وليس الرجل والمرأة وترين على آلة صماء يشد أحدهما جواباً على قرار الآخر، لأنه إن لم يكن هناك طباق، فإن المرأة أو الرجل المختار أو المختارة للشدّ على طبقة رفيقة ليسمعك صوت انقطاعه بدلاً من الإيقاع المنشود.

ليكن منشأ هذا الانسجام تناسبا بين ذرات الخلايا والعوامل كما يقول العلماء المستقرون، أو فليكن ضعف هذه الذرات أو قرتها مسبباً عن عوامل الكهارب التي تسود الخلايا بتفاعل مجهول، أو فليكن هنالك ما يذهب إليه الروحيون من أن الخلايا والكهارب وكل ما يحوي هذا الجسم من مادة ليس إلا خيالاً لروح كامنة هي الحقيقة المستترة وأن من العبث أن يستقر في العلم منشأ التجاذب والتدافع بتشريح هذا الخيال الماديّ، فأننا تجاه جميع هذه

ص: 26

الافتراضات، نبقى دائما أمام حقيقة لا ريب فيها وهي أن الإنسان سواء أكان رجلاً أو امرأة مدفوع بالفطرة إلى طلب الرقي لنسله بإصلاح ما أفسدت الحياة في أعضائه، وبخاصة إلى إصلاح ما تطرق إلى الصفات الأدبية من عيوب؛ ولعلّ في هذا بعض التفسير لسيادة الانسجام بين رجل وامرأة تخالف أشكالهما وأوضاع أعضائهما ومظاهر القوى الأدبية فيهما، فقد لا تجد مصارعاً يعشق مصارعة ولا فيلسوفاً يغرم بفيلسوفة. ولكم وقف المفكرون مندهشين أمام امرأة فاضلة تحس بانجذاب نحو رجل عاديّ، أو بارعة في الجمال تندفع إلى الالتصاق برجل دميم. إن بعض العشق ينشأ عن حنان خفي في الطبيعة يشبه عطف الطبيب المداوي على العليل المستجدي الشفاء.

نورد هذه النظرية دون أن نتخذها قاعدة بالرغم من تجليها لدينا في عديد الحوادث، فإن النقائص التي تتجه في الازدواج إلى الزوال والعلل التي تطلب الشفاء أبعد مستقراً من أن ينالها استقراء أو تحديد، والضعف الكامن في أحد الناس يبقى مستتراً فيه خفياً حتى عن شعوره، فكيف يتسنى لنا كشفه وتعيينه؟ لذلك ورد في الأمثال وهي حكمة الأمم: أن لا جدال في الذوق، وما أرى المتنبي إلا سابراً أقصى أسرار الحب إذ قال:

إلام طواعية العاذل

ولا رأي في الحب للعاقل

يراد من القلب نسيانكم

وتأبى الطباع على الناقل

للحب إذن وهو صلح العيوب والدافع إلى ارتقاء الإنسان ناموسه الجبار، ناموسه الصامت الهامس في أرواح المحبين كلمتين هما دستور السعادة لكل منهما - كلمة العبرة من الماضي للرجل، وكلمة الحذر من المستقبل للمرأة.

يقول الفتى للفتاة: أحبك.

فلا يرد جوابها إلا بصورة الاستفهام:

وهل ستحبني إلى الأبد؟

فالرجل لا يتوجه إلى المستقبل بقلبه بل يلتفت إلى الوراء، إلى الماضي، وهو يقسم بالوفاء والثبات، ماداً بأبصاره إلى أعماق عيني الفتاة سابراً أقصاهما ليتحقق ما إذا كان هذا الهيكل الأبدي الذي يتخذه مقاماً ومصلى لروحه، لم يرتفع فيه صوت غير صوته لم يحرق عليه بخور غير بخوره.

ص: 27

هكذا تصطفي الطبيعة المحبين لاستنبات الطفل الصحيح، وهكذا تقبض الغريزة على القلبين لتسخرهما لبقاء النوع وتسييره على مدارج الارتقاء.

ولماذا خصت الطبيعة الرجل بالعبرة من الماضي والمرأة بالحذر من المستقبل؟ لماذا وضعت الطبيعة دليل الطهر في عين العذراء، ودليل العفاف في جسمها؟ ولماذا غرست فيها هذا الخوف من تقلب الرجل وانحرافه عنها؟

في هذا المجال أيضاً توصل العلم إلى استجلاء حقيقة رائعة نستدل منه على منشأ هذه الغيرة وهذا لحذر، وتلك الحقيقة هي أن الطبيعة تتجه دائماً إلى الوحدة وتأنف من الشرك وتتمرد عليه؛ وقد شوهدت حوادث كان فيها نتاج الزواج الثاني من المرأة أقرب إلى مشابهة أطفال الزواج الأول، وبتعبير أوضح تحقق العلم أن امرأة يستنبت نتاجها الأول من رجل تبقى معرضة للاستمرار على الإنتاج طابعة أبناءها على غرار ذلك الرجل.

إن هذا الاكتشاف يبرر لدى المفكر هذه الغيرة المقدسة التي تتجلى في الرجل الطبيعي غير الفاسد بمبادئ الإطلاق وضعف الحيوية فيه، وهذه الحقيقة نفسها تفسر لنا هذا الحذر الغريزي في المرأة من تخليّ المحب الأول عنها، لأن الطبيعة تتمرد في نفسها فهي تربأ بشخصيتها أن تصبح مستقراً للشرك، والكون بأسره يتجه إلى التوحيد في ارتقائه.

إن ناموس الحب والزواج في الأصل إنما هو اندماج بين روحين وجسدين اندماجاً حراً تحت سيطرة التجاذب المطلق من كل تضليل، فإذا هو تمّ وفقاً لهذا الناموس، يندر أن تنفصم عراه مدى الحياة.

على أننا في هذا العصر الذي سبقته أدوار عديدة استنبت فيها النسل من التزاوج المكذوب لا يمكننا أن نختم استمرار الاتفاق بين عاشقين ما لم نثق أولاً من أنهما كليهما قد نشأ من زواجين ساد الحب الحقيقي فيهما، إذ أننا كثيراً ما نرى امرأة جن جنونها بمن أصبحت له زوجة حتى إذا انقضت فترة من الزمن نراها مضعضعة تحلم بالشرك والضلال. وكثيراً م نرى رجلاً يهيم بفتاة حتى أصبحت زوجة له عافتها نفسه، فذهب تائها في المواخير يحصد ما جناه أبواه عليه.

من الصعب إن لم نقل من الممتنع أن يعرف حقيقة الحب ووحدته من ولد من زوج لا انسجام فيه، أن أبناء الكره لا يحبون، والطفل المولود من شهوة حيوانية حوالة يمتزج

ص: 28

كوثر حبه أبداً بغسلين الفحشاء.

إن استثمار المرأة المصرية والمرأة العربية بوجه عام في سبيل الخير إنما يتوقف على إعدادها منبتاً صالحاً للأطفال، وما نشأت الأمة إلا من منابت أطفالها.

إن النبات ينمو على الأسمدة يمتصها فيحولها نسغاً صافياً، وتلك أزاهر الدمن تنوّر فواحة باسمة فوق أقذارها، أما الحياة الإنسانية فإنها إن نبتت على الأقذار فهي أقذار من منابتها.

(يتبع)

فلكس فارس

ص: 29

‌من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع

لغة الأحكام والمرافعات

للأستاذ زكي عريبي

- 5 -

(أما المتهمان على الأدب الزاريان على الفضل في أشخاص المثقفين فهما. . .

وأما المجني عليه فهو. . .

ولو شئنا التوسع لقلنا إن المجني عليهم قوم كانوا في عزلة من القوة فتجرد لهم المتهمان يسطوان عليهم بالقلم المسموم والقول القاذع والعبارة التي تقطر سماً وحقداً وحفيظة.

وما علمنا أن أمة صقلتها الحضارة أو كانت على الفطرة من البداوة جعلت من فضائلها تجنيها على الوادعين الذين هم في أمن وعزلة لا يملكون لأنفسهم أمام الساطين عليهم دفعاً.

إن لهذا الإيجاز إيضاحاً ولهذه الجملة تفصيلاً).

ولغة التفصيل الموعود أروع وأمجد. اقرأ هذا البيان لما وقع من المتهمين وهذا التنويه بشناعة الجريمة.

(أقبل مديرون من ولاة الأقاليم، وما كانوا نكرة فينساهم الناس، وما كان التشيع الحزبي ليميت العواطف الكريمة، بل ما كان للنبل أن يموت، وما فقدت مصر الرجولة فراح قوم يمشون إلى هؤلاء المعزولين بالكلم الطيب ودعوهم إلى وليمة، ورأى من يحسن القول في هذا الحفل أن يتقدم بكلمة طيبة لا ينكرها إلا حقود.

وقديماً كان الناس يمشون إلى الولاة المعزولين يرفهون عنهم ويذكون لهم حميد فعالهم. . . ولكن المتهمين هاجهما أن يرضى الناس عمن غضبا هما عليهم.

ثم هاجهما أن يعيش هؤلاء الولاة وأن يرضى عنهم الناس فراحا يقولان عنهم في جريدة. . . إنهم أسفل المجرمين.

يا شرف اللغة العربية كيف طاوعت هذين الرجلين حتى جعلا من بعض الأكرمين (أسفل المجرمين).

خبروني إذا كان الوالي الذي يعزل لا لنقصية في شرف يعد (أسفل المجرمين) فمن يكون

ص: 30

القاتل الذي يقتل صاحب الفضل عليه عند الثقة به والركون إليه، والسارق الذي يسطو على الآمنين ثم يسلب الأموال والأعراض ولا يبقي على الأطفال والنساء. هذا القاتل السارق بماذا نعرفه ومن يكون؟

(أسفل المجرمين) لا يعرف حتى تنسب إليه تهمة، وحتى يأخذه بها القضاء العادل بعد مدافعة ومطاولة. ومع هذا فأنه من المؤلم أن نصفه بأنه (أسفل المجرمين).

أما في الخصومة الحزبية هوادة ونصفة؟ أما لهذا الفجر الزاخر آخر؟ أما لهذا الظلام نهاية؟)

بل انظر إلى هذا الانفعال الحق يستولي على النائب المترافع وقد قرأ للمحكمة بعض هذا المقال القادح فراح يؤدب العادي على الأدب بعصا الأدب ولا يفل الحديد إلا الحديد.

(إني آسف كل الأسف لإيلام المجني عليه بهذا النقل ولكني أنقل هذا الكفر مكرهاً عن المتهم.

أكل هذا يقوله هذا المسكين المعدم في أدبه الفقير إلى عصا التأديب، ويتقدم صاحبه الشيخ الوقور بالتنويه به والتهليل له ويدعوه في صحيفته بالأستاذ.

المتهم. . . صاحب القلم الجارح ما منشؤه وأين من كوّنه؟

لله أبوه! ألا يكون لي الشرف فأراه لأعرف رأيه فيه وهو يغمس قلمه المسموم في دماء الوادعين كما تنفث الرقطاء الزعاف؟ بل قلمه أسفل وأقتل، فالرقطاء قد تذود عن نفسها بسلاح أعد لها، وهذا يذود عن الرذيلة بسلاح لم يخلق لرجل كريم العنصر وله ضمير حي).

وهاهو ذا يهدأ بعد هذا العنف اللازم فيعرض لتعريف النقد المشروع في إحكام وحسن تعبير مدهشين فيقول:

(أساس النقد أن تعني بدرس الأمر فتتبينه جملة جملة، وترى أي أجزائه خير، وأي أجزائه لا يتسق مع باقيه في جمال الوضع وتناسق التكوين؛ على أن يكون الناقد نزيهاً لا غرض له إلا الحق. ولا تتم له ملكة النقد إلا بعد أن يكون من القوة على تمييز الأشياء بعضها من بعض في الموضع المسلم له به.

والناقد حكم، والحكم قاض، والقاضي أعلى من أن يتصف بهجر القول وإلا فليس بناقد. .

ص: 31

).

ولنقف عند هذا الحد في الاستعراض وإلا ساقنا هذا الإبداع وأمثاله إلى أبعد مما يريد القائمون على الكتاب الذهبي

لغة الأحكام

تمهيد ومقارنة

الحقيقة مطلب البشر منذ أن قام للبشرمدينة. طلبها في الدين، طلبها في العلم والفلسفة، وطلبها في التشريع وفي توزيع العدالة.

والأحكام هي أداة هذا التوزيع. فهي عنوان الحقيقة.

وعنوان الحقيقة يجب أن يكون جديراً بها من حيث شكله على الأقل وهو الذي يعنينا في هذا البحث.

لقد تحدثنا عما يجب توفره في لغة المرافعات فوجدناه كثيراً بل مرهقاً. يتطلب كفايات عدة ألمعنا إلى بعضها. فهل يصدق على الأحكام ما يصدق على المرافعات؟

لنتدبر طبيعة كل قبل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال.

المرافعة نوع من الأدب الخطابي يرمي بالإقناع أو تحريك العواطف إلى خدمة مصلحة معينة.

والحكم تقرير للحقيقة كما استطاع أن يراها القاضي على ضوء عناصر الدعوى ومرافعات الخصوم.

الأولى ثمرة جهاد مقاتل يبتكر الوسائل الكلامية المؤدية إلى الظفر. والثاني عمل حكيم هادئ يتحسس مكان النصفة فيدل عليه.

يستحيل إذن أن يكون نوع اللغتين واحداً: فإحداهما متغيرة متوثبة أبداً، والأخرى ساكنة مستقرة أبدا.

ولكن أمعنى هذا أن مهمة القاضي إذا ما جلس لكتابة الحكم أيسر من مهمة المحامي إذا وقف للدفاع؟

إياك وهذا الاعتقاد! صحيح أن مهمة القاضي لا تستلزم الابتكار، وهو عمل شاق يرهق

ص: 32

المحامي إلى آخر حدود الإرهاق ويتطلب فيه استعداداً خاصاً يرقى بالمران، وقد يصل بالمحامي النابغة إلى سماء كبار المخترعين، ولكن عمل القاضي إذ يجلس لتمييز الحق من الباطل لا يقل عن عمل زميله دقة وصعوبة.

إنه قبل كل شيء ناقد؛ والنقد يتطلب قدرة على فهم الرأي المعروض، ثم قوة على تحليله ورده إلى عناصره الأولية، ثم صحة نظر وسلامة تقدير يستطيع بهما الوقوع على الحقيقة وسط بحر زاخر من الآراء المتناقضة، وقد ينطوي كل منها على بعض الوجاهة.

جلس هنري الرابع ملك فرنسا العظيم يوماً ليفصل في قضية هامة بنفسه. وقام للمرافعة بين يديه اثنان من أعلام المحاماة في عصره، فأبدع كلاهما وأعجز إلى حد أن صاح الملك يائساً:(رباه! إن الخصمين على حق).

والخصمان في كثير من الأحوال على حق إلى حد ما. والصعوبة الكبرى، الصعوبة الهائلة، هي أن يتبين القاضي هذا الحد فيركز عليه حكمه. على أن مهمة القاضي وقد أصاب المحز لا تنتهي بإصابته، إذ عليه بعد ذلك أن يؤيد حكمه بقلمه.

وفي الحق إن الأمر ليس من السهولة بحيث يبدو. دعك من القضايا السهلة التي يزاحم فيها الحق البديهة ولا يتطلب إلا تقريره بكلمة قد يكفي فيها قلم كاتب الجلسة. ودعك من قاض يعتقد أن عبارة (حيث) تتقدم سطوراً جرى بها التقليد الراكد تكفي في إلباس رأيه ثوب الأحكام.

ليس هذه القضايا ولا ذلك القاضي نعني، وإنما نريد القضية العصية يتسابق فيها لسانان أو قلمان لعلمين من أعلام البيان. فيخضع كل منهما لرأيه طائفة من الحجج الدامغة والأدلة القوية. ويقف القاضي بين هذين السيلين فيصلا للملحمة، ثم يقول أخيراً كلمته الحاسمة. كيف يقولها؟ ليس القاضي بمحلف يكفيه أن يجيب بنعم أو لا.

كلا الخصمين - كاسب الدعوى وخاسرها - بل وجمهور الناس يتطلع إلى أسباب حكمه ليحكم له أو عليه. لذا وجب أن تكون هذه الأسباب مقنعة. وليس الإقناع في مكنتها إلا أن يكون كاتبها من المقدرة بحيث يستطيع أن يعالج بقلمه القضية من جميع نواحيها؛ يبين وقائعها بجلاء، ويستعرض مختلف الآراء فيها بدقة وإيجاز؛ يناهض ما يرى مناهضته ويؤيد ما يرى تأييده، ثم يقف عند الرأي الذي يعتقد صحته موقفاً له قوته وله جلاله.

ص: 33

تلك هي مهمة القاضي ككاتب. وليس يستسهلها إلا جاهل بأعباء الكتابة ومشاقها.

خصائص لغة الأحكام

لكل قلم قوته، ولكل كاتب طريقته، فمن العبث أن نضع قواعد مطلقة لصياغة الأحكام. الأمر قبل كل شيء حسن ذوق وحسن تصرف، ولكن للغة الأحكام مع ذلك مميزات يجب التنويه بها.

حسن اختيار اللفظ ودقة الأداء

المفهوم في الأحكام أنها نتيجة أعمال فكرة وتمعن، يصيغها القاضي وهو جالس إلى مكتبه لا تواجهه أنظار شاخصة ولا تتعجله وجوه مستحثة. فليس يغتفر له ما قد يغتفر للمترافع المندفع من تساهل في اختيار اللفظ ودقة الأداء. ليست المسألة مسألة أدب فحسب. فإن الحكم الذي تصدره محكمة ابتدائية هو سفيرها أمام محكمة الدرجة الثانية، وحكم محكمة الاستئناف عنوان جهودها أمام محكمة النقض، وقد ينبني على سوء تعبير أو غموض يعتور أسباب الحكم تشويه الرأي كله أو إضعاف حجته أمام المحكمة العليا.

الابتعاد عن التعمل

على أن الإحسان في التحرير لا يستلزم التعمل ولا التزيد، وليس أبعد عن كرامة القاضي من سعيه وراء الإعلان بأحكام تتبين فيها صنعة الأعداد للنشر والرغبة في استجلاب الثناء.

الوقار في لغة الأحكام

كذلك يكره في لغة الأحكام العنف والشدة وجموح العاطفة. فالقضاء وقور بطبعه وبالمهمة السامية التي يؤديها وبالاسم العالي الذي يتوج به أحكامه. فليس يليق به إذا ما تبين الحق في جانب خصم من الخصمين أن يحمل على الخصم الآخر فيصفه بما لا يجب. صحيح أن مهمة القضاء في بعض الأحايين التأديب والزجر: ولكن للزجر مواضعه في القليل من الأحوال. أما على العموم وفي القضاء المدني على الخصوص فيجب أن يكون الحكم عنوان الاعتدال والحشمة والتهذيب.

ويجب على القاضي أن يذكر إذا ما ناقش دفاعاً لمحام أو رأياً قانونيا أبداه أنه إنما يناقش

ص: 34

زميلا له في السعي وراء الحقيقة فليس جميلاً منه ولا كريماً أن يسفه رأيه بمثل هذه العبارة التي قرأناها في حكم جنائي: (أما ما ذهب إليه الدفاع من أن عقلية المتهم غير ناضجة ويجب أن نصدقه لهذا السبب، فهو من لغو القول ولا تلتفت إليه المحكمة).

وقد يبدو لك ما في هذا القول من إساءة إذا قارنته بتصرف محكمة النقض وقد عرضت لأسباب تقرير مقدم من النيابة، فعركتها عرك الرحا وأطارتها هباء ثم ختمت بحثها بهذه التحية الجميلة (وإن المحكمة لتقدر للنيابة ما قامت به من المجهود الفني العظيم في سبيل تأييد نظريتها).

وقد جرت على هذه السنة عينها مع الدفاع إذا أحسن.

لغة الأحكام قديماً وحديثاً في مصر

وليس يبقى لاختتام هذا البحث إلا إشارة موجزة إلى تاريخ لغة الأحكام في مصر.

من عبث التحدث عما قبل عهد منشئ مصر الحديثة، فالمؤكد أنه لم يكن بمصر إلا قضاء شرعي غير محدود الاختصاص. بل لقد استمرت الحال فوضى قضائية في العهد المسمى بعهد المجالس الملغاة، فلم يكن هناك محاكم بالمعنى الصحيح المفهوم اليوم، بل كان رجال يجلسون للقضاء وليس لهم من مؤهلاته إلا الاسم. يقوم بين أيديهم وكلاء دعاوى يسعون إلى كسب قضاياهم بجميع الوسائل. وكانت اللغة في ذلك الوسط من أحط ما عرف في تاريخ العربية: كانت نوعاً من العامية الجوفاء يعتورها تعقيد متعمل ينطوي في نظر أصحاب ذلك اللسان على أروع الأدب. أنظر إلى رواية الوقائع في هذا الحكم الذي أورده محررو الوقائع الرسمية سنة 1881 نموذجاً للغموض والتعقيد المتمشيين في أحكام ذلك العهد، وفك رموزها إن استطعت وقل ما شئت.

(وفي ليلة الجمعة 22 شعبان سنة 294 صار قتل شخص يدعى شعبان نجم من كفر سعودن غربية بالغيط تعلقه وورثاه حصروا شبهتهم في شخص بلديه يدعا (يدعى) أحمد شوره، وبما أن المذكور لم يقر على ذلك وأنسب سيد أحمد عبد الدايم رئيس المشيخة أغرى الورثة ومن سئلوا في القضية على تهمته وما قيل فيحقه (في حقه) بسبب مطاعنته فيحق (في حق) الرئيس المذكور مما أبداه من المعادات (ة) في ذلك قد أخذت الحكومة في أسباب الفحص والتدقيق في هذه المسألة ولما تبين براءة أحمد الشورة المذكور وعدم صحة

ص: 35

تهمته كونها بأغرى ذلك العمدة وشبهة العمدة المذكور بما حل بشعبان نجم وما اتضح من بعد شخص يدعى أبو السعود إبراهيم من كفر أبو جندي تابع إسماعيل الفار صهر سيد أحمد المذكور ليلة قتل شعبان المذكور وما توري بالتحريات التي جرت عن ذلك من أن فقده بمعرفة إبراهيم الفار لعدم إفشا أم شعبان نجم الذي قتلوه ليلتها مراعاة لخاطر سيد أحمد عبد الدايم بقصد نسبة قتله لأحمد الشورى المحكي عنه بسبب مطاعنته فيحقه قد حكم من الاستئناف ببراءة أحمد المذكور ومجازاة سيد أحمد عبد الدايم بليمان إسكندرية مدة سنة ونصف الخ).

على أن لغة محرر الوقائع الرسمية الذي شهَّر بهذا الحكم وسخر منه وقام يدعو إلى الإصلاح تستحق الإثبات هي أيضاً لطرافتها:

(منذ أيام جرى قلم النصيحة بمداد حب المنفعة على قرطاس المقصد الجميل فرقم كلمات في الإنشاء وبيان مراتبه وتفصيل الممدوح منه وغير الممدوح، وتقسيم أرباب القلم في ديارنا المصرية، وختمها بنداء عمومي صادر عن سليم القلب وصميم الفؤاد.

(ولقد كانت الآمال ترسل في مخيلتي بأقلام الرجاء أن سيكون لتلك الكلمات عند أهل الديار وقع جميل فتنفعل عنها النفوس ويظهر لها أثر يذكر في عالم المحسوسات، فكنت لذلك كالواقف على أقدام الانتظار، لانتهاز الفرصة في لقاء المحبوب يقلقه الضجر ويضنيه الاصطبار، فإذا مضى اليوم الطويل ولم أر فيه من أثر يذكر على نوال المطلوب رددت أنفاس الأسف ومنيت النفس باليوم الثاني عساه يسفر فجره عما يسكن الروع ويدفع الوسواس شأن المحب يتعلل بالأماني ويعتذر بتوارد الأيام؛ ولما طال بي المدى وتطاولت الأزمان. . .).

وقد يطول بنا وبك المدى وتطاول الأزمان قبل أن ننتهي من هذه المقدمة التي لا تحوي فائدة ولا تؤدي غرضاً فلنتركها ونترك عهدها السعيد إلى العهد التالي.

(التتمة في العدد القادم)

زكي عريبي

المحامي أمام محكمة النقض والإبرام

ص: 36

‌المؤمن المحتضر

للشاعر الفرنسي لامرتين

بقلم محمد طه الحاجري

تفجرت هذه المقطوعات من قلبي، فكتبها أحد أصدقائي، ذات صباح، وهو إلى جانب سريري، ذلك هو السيد مونشلان الذي عني بأمري، عناية أخ، في مرضي الطويل الخطر الذي نزل بي في باريس عام 1819.

ماذا أسمع؟ الناقوس المقدّس يرنّ من حَولَيهْ! وما هذه الثُّلة من رجال الدين تحيط بي باكية؟ ولمن هذه الأغنيَّة الحزينة وهذه الشعلة الخافتة؟ إيه أيتها المنية! أهذا صوتك الذي يقرع أذني للمرة الأخيرة؟ أجل! إني لأستيقظ على حافة القبر!

وأنت أيتها الشرارة العزيزة من الجذوة الإلهية، والقطينة الخالدة في هذه الجثة الفانية، لا تخافي ولا تفزعي: فالموت آتٍ لخلاصِك! طِيرِي طَيَرانَك يا نفسي، وتجرّدي من أغلاِلك! فهل الموت إلا وضع آصار التعاسة البشرية؟

أجل! لقد انتهى الزمن من قياس حياتي. فيا أيتها الملائكة النورانية في مقامها السماوي، إلى أي دار جديدة أنتم آخذون بي؟ الآن! الآنَ أنا أسبح في أمواج من الضياء، وإن الفضاء ليتسع أمامي، وكأن الأرض تفِرُّ من تحت أقدامي!

ولكن ما هذا الذي أسمع؟ في اللحظة التي تستيقظ فيها روحي، أسمع الحسراتِ والتنهداتِ تقرع أذني! ما هذا يا رفاق المنفى! أتبكون مماتي! ولقد شربت منذ قليل من الكأس المقدسة نسيان الآلام، ووَلَجت روحي المنتشية أبواب السماء؟

محمد طه الحاجري

ص: 38

‌للتاريخ السياسي

معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وإنجلترا

نص المعاهدة

مقدمة

إن حضرة صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والأملاك البريطانية وراء البحار وإمبراطور الهند.

وحضرة صاحب الجلالة ملك مصر.

بما أنهما يرغبان في توطيد الصداقة وعلاقات حسن التفاهم بينهما والتعاون على القيام بالتزاماتهما الدولية لحفظ سلام العالم.

وبما أن هذه الأغراض تتحقق على الوجه الأكمل بعقد معاهدة صداقة وتحالف تنص لمصلحتها المشتركة على التعاون الفعال لحفظ السلام وضمان الدفاع عن أراضيهما وتنظيم علاقاتهما المتبادلة في المستقبل.

قد اتفقا على عقد معاهدة لهذه الغاية وأنابا عنهما المفوضين الآتية أسماؤهم:

حضرة صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والأملاك البريطانية وراء البحار وإمبراطور الهند (الذي سيشار إليه في نصوص هذه المعاهدة بعبارة (صاحب الجلالة الملك والإمبراطور)).

قد أناب عن بريطانيا العظمى وشمال ايرلندا:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وحضرة صاحب الجلالة ملك مصر.

قد أناب عن مصر:

حضرة صاحب الدولة مصطفى النحاس باشا رئيس مجلس الوزراء ورئيس الوفد المصري ورئيس الوفد الرسمي.

حضرة صاحب السعادة الدكتور أحمد ماهر رئيس مجلس النواب.

حضرة صاحب الدولة محمد محمود باشا رئيس مجلس الوزراء سابقاً.

ص: 39

حضرة صاحب الدولة إسماعيل صدقي باشا رئيس مجلس الوزراء سابقاً.

حضرة صاحب الدولة عبد الفتاح يحيى باشا رئيس مجلس الوزراء سابقاً.

حضرة صاحب المعالي واصف بطرس غالي باشا وزير الخارجية.

حضرة صاحب المعالي عثمان محرم باشا وزير الأشغال العمومية

حضرة صاحب المعالي مكرم عبيد باشا وزير المالية.

حضرة صاحب المعالي محمود فهمي النقراشي باشا وزير المواصلات.

حضرة صاحب المعالي أحمد حمدي سيف النصر باشا وزير الزراعة.

حضرة صاحب السعادة علي الشمسي باشا الوزير السابق.

حضرة صاحب المعالي محمد حلمي عيسى باشا الوزير السابق.

حضرة صاحب السعادة حافظ عفيفي باشا الوزير السابق.

الذين بعد تبادل وثائق تفويضهم التي تخولهم سلطة كاملة والتي وجدت صالحة مستوفية الشكل قد اتفقوا على ما يأتي:

مواد المعاهدة

المادة الأولى

انتهى احتلال مصر عسكرياً بواسطة قوات صاحب الجلالة الملك والإمبراطور.

المادة الثانية

يقوم من الآن فصاعداً بتمثيل صاحب الجلالة الملك والإمبراطور لدى بلاط جلالة ملك مصر وبتمثيل صاحب الجلالة ملك مصر لدى بلاط سان جيمس سفراء معتمدون بالطرق المرعية.

المادة الثالثة

تنوي مصر أن تطلب الانضمام إلى عضوية عصبة الأمم.

وبما أن حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة تعترف بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة فأنها ستؤيد أي طلب تقدمه الحكومة المصرية لدخول عصبة الأمم بالشروط المنصوص عليها في المادة الأولى من عهد العصبة.

ص: 40

المادة الرابعة

تعقد محالفة بين الطرفين المتعاقدين الغرض منها توطيد الصداقة والتفاهم الودي وحسن العلاقات بينهما.

المادة الخامسة

يتعهد كل من الطرفين المتعاقدين بألا يتخذ في علاقاته مع البلاد الأجنبية موقفاً يتعارض مع المحالفة وألا يبرم معاهدات سياسية تتعارض مع أحكام المعاهدة الحالية.

المادة السادسة

إذا أفضى خلاف بين أحد الطرفين المتعاقدين ودولة أخرى إلى حالة تنطوي على خطر قطع العلاقات مع تلك الدولة يتبادل الطرفان المتعاقدان الرأي لحل ذلك الخلاف بالوسائل السلمية طبقاً لأحكام عهد عصبة الأمم أو لأي تعهدات دولية أخرى تكون منطبقة على تلك الحالة.

المادة السابعة

إذا اشتبك أحد الطرفين في حرب بالرغم من أحكام المادة السادسة المتقدم ذكرها فإن الطرف الآخر يقوم في الحال بانجاده بصفته حليفاً، وذلك مع مراعاة أحكام المادة العاشرة الآتي ذكرها.

وتنحصر معاونة صاحب الجلالة ملك مصر في حالة الحرب، أو خطر الحرب الداهم، أو قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها، في أن يقدم إلى صاحب الجلالة الملك والإمبراطور داخل حدود الأراضي المصرية مع مراعاة النظام المصري للإدارة والتشريع، جميع التسهيلات والمساعدة التي في وسعه بما في ذلك استخدام موانئه ومطاراته وطرق المواصلات.

وبناء على هذا فالحكومة المصرية هي التي لها أن تتخذ جميع الإجراءات الإدارية والتشريعية بما في ذلك إعلان الأحكام العرفية وإقامة رقابة وافية على الأنباء لجعل هذه التسهيلات والمساعدة فعالة.

المادة الثامنة

ص: 41

بما أن قنال السويس الذي هو جزء لا يتجزأ من مصر هو في نفس الوقت طريق عالمي للمواصلات كما هو أيضاً طريق أساسي للمواصلات بين الأجزاء المختلفة للإمبراطورية البريطانية، فإلى أن يحين الوقت الذي يتفق فيه الطرفان المتعاقدان على أن الجيش المصري أصبح في حالة يستطيع معها أن يكفل بمفرده حرية الملاحة على القنال وسلامتها التامة، يرخص صاحب الجلالة ملك مصر لصاحب الجلالة الملك والإمبراطور بأن يضع في الأراضي المصرية بجوار القنال بالمنطقة المحدودة في ملحق هذه المادة قوات تتعاون مع القوات المصرية لضمان الدفاع عن القنال. ويشمل ملحق هذه المادة تفاصيل الترتيبات بتنفيذها.

ولا يكون لوجود تلك القوات صفة الاحتلال بأي حال من الأحوال. كما أنه لا يخل بأي وجه من الوجوه بحقوق السيادة المصرية.

ومن المتفق عليه أنه إذا اختلف الطرفان المتعاقدان عند نهاية مدة العشرين سنة المحدودة في المادة السادسة عشرة على مسألة ما إذا كان وجود القوات البريطانية لم يعد ضرورياً لأن الجيش المصري أصبح في حالة يستطيع معها أن يكفل بمفرده حرية الملاحة على القنال وسلامتها التامة، فإن هذا الخلاف يجوز عرضه على مجلس عصبة الأمم للفصل فيه طبقاً لأحكام عهد العصبة النافذ وقت توقيع هذه المعاهدة، أو على أي شخص أو هيئة للفصل فيه طبقاً للإجراءات التي يتفق عليها الطرفان المتعاقدان.

المادة التاسعة

يحدد باتفاق خاص يبرم بين الحكومة المصرية وحكومة المملكة المتحدة ما تتمتع به من إعفاء وميزات في المسائل القضائية والمالية قوات صاحب الجلالة الملك والإمبراطور التي تكون موجودة بمصر طبقاً لأحكام هذه المعاهدة.

المادة العاشرة

ليس في أحكام هذه المادة ما يمس أو ما يقصد به أن يمس بأي حال من الأحوال الحقوق الالتزامات المترتبة أو التي تترتب لأحد الطرفين المتعاقدين أو عليه بمقتضى عهد عصبة الأمم أو ميثاق منع الحرب الموقع عليه بباريس في 27 أغسطس سنة 1928.

ص: 42

المادة الحادية عشرة

1 -

مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاقات جديدة في المستقبل لتعديل اتفاقيتي 19 يناير و10 يوليو سنة 1899 قد اتفق الطرفان المتعاقدان على أن إدارة السودان تستمر مستمدة من الاتفاقيتين المذكورتين.

ويواصل الحاكم العام بالنيابة عن كلا الطرفين المتعاقدين مباشرة السلطات المخولة له بمقتضى هاتين الاتفاقيتين.

والطرفان المتعاقدان متفقان على أن الغاية الأولى لإدارتهما في السودان يجب أن تكون رفاهية السودانيين.

وليس في نصوص هذه المادة أي مساس بمسألة السيادة على السودان.

2 -

وبناء على ذلك تبقى سلطة تعيين الموظفين في السودان وترقيتهم مخولة للحاكم العام الذي يختار المرشحين الصالحين من بين البريطانيين والمصريين عند التعيين في الوظائف الجديدة التي لا يتوفر لها سودانيون أكفاء.

3 -

يكون جنود بريطانيون وجنود مصريون تحت تصرف الحاكم العام للدفاع عن السودان فضلاً عن الجنود السودانيين.

4 -

تكون الهجرة المصرية إلى السودان خالية من كل قيد إلا فيما يتعلق بالصحة والنظام العام.

5 -

لا يكون هناك تمييز في السودان بين الرعايا البريطانيين وبين الوطنيين المصريين في شؤون التجارة والمهاجرة أو في الملكية.

6 -

اتفق الطرفان المتعاقدان على الأحكام الواردة في ملحق المادة فيما يتعلق بالطريقة التي تصير بها المعاهدات الدولية سارية في السودان.

المادة الثانية عشرة

يعترف صاحب الجلالة الملك والإمبراطور بأن المسئولية عن أرواح الأجانب وأموالهم في مصر هي من خصائص الحكومة المصرية دون سواها، وهي التي تتولى تنفيذ واجباتها في هذا الصدد.

ص: 43

المادة الثالثة عشرة

يعترف صاحب الجلالة الملك والإمبراطور بأن نظام الامتيازات القائم الآن لم يعد يلائم روح العصر ولا حالة مصر الحاضرة.

ويرغب صاحب الجلالة ملك مصر في إلغاء هذا النظام دون إبطاء.

وقد اتفق الطرفان المتعاقدان على الترتيبات الواردة بهذا الخصوص في ملحق هذه المادة.

المادة الرابعة عشرة

تلغي المعاهدة الحالية جميع الاتفاقات أو الوثائق القائمة التي يكون استمرار بقائها منافياً لأحكام هذه المعاهدة، ويجب أن يعد باتفاق الطرفين إذا طلب أحدهما ذلك بيان الاتفاقات والوثائق الملغاة وذلك في مدى ستة أشهر من نفاذ هذه المعاهدة.

المادة الخامسة عشرة

اتفق الطرفان المتعاقدان على أن أي خلاف ينشأ بينهما بصدد تطبيق أحكام المعاهدة الحالية أو تفسيرها ولا يتسنى لهما تسويته بالمفاوضات بينهما مباشرة يعالج بمقتضى أحكام عهد عصبة الأمم.

المادة السادسة عشرة

يدخل الطرفان المتعاقدان في مفاوضات بناء على طلب أي منهما في أي وقت بعد انقضاء مدة عشرين سنة على تنفيذ هذه المعاهدة، وذلك بقصد إعادة النظر بالاتفاق بينهما في نصوص المعاهدة بما يلائم الظروف السائدة حينذاك.

فإذا لم يستطع الطرفان المتعاقدان الاتفاق على نصوص المعاهدة التي أعيد نظرها يحال الخلاف إلى مجلس عصبة الأمم للفصل فيه طبقاً لأحكام عهد العصبة النافذ وقت توقيع هذه المعاهدة، أو إلى أي شخص أو هيئة للفصل فيه طبقاً للإجراءات التي يتفق عليها الطرفان المتعاقدان.

ومن المتفق عليه أن أي تفسير في المعاهدة عند إعادة نظرها يكفل استمرار التحالف بين الطرفين المتعاقدين طبقاً للمبادئ التي تنطوي عليها المواد 4 و5 و6 و7.

ومع ذلك ففي أي وقت يعد انقضاء مدة عشر سنوات على تنفيذ المعاهدة يمكن الدخول في

ص: 44

مفاوضات برضا الطرفين المتعاقدين بقصد إعادة النظر فيها كما سبق بيانه.

المادة السابعة عشرة

يصدق على المعاهدة الحلية ويتبادل التصديق عليها في القاهرة في أقرب وقت ممكن، ويبدأ تنفيذها من تاريخ تبادل التصديق عليها، وعندئذ تسجل لدى السكرتير العم لعصبة الأمم.

وإقراراً بما تقدم وقع المفوضون السابق ذكرهم على هذه المعاهدة ووضعوا أختامهم عليها.

(في العدد القدم (ملحقات المعاهدة))

ص: 45

‌حَوْلَ النشيد الوطني

للأستاذ محمد إبراهيم المغازي

عندما أعلنت لجنة التحكيم في المباراة الأدبية الرسمية التي أقيمت في عهد الوزارة الماهرية رأيها في الموضوع العاشر من موضوعات المباراة وهو (النشيد القومي)، ومنحت فيه الجائزة الأولى وقدرها مائة جنيه لنشيد الأستاذ محمود صادق، اطلعت على النشيد المحظوظ في الصحف السيارة فلم أجد له في نفسي الوقع الذي يقنعني بأن هذا النشيد يصلح لأن يكون نشيداً قومياً رسمياً لبلد ناهض كمصر فيه من صفوة الأدباء ونوابغ الشعراء عدد لم يتوفر لغيره من لأقطار العربية؛ وعجبت في نفسي (طبعاً) لهذا الاختيار، ولكني عدت فاتهمت ذوقي وفهمي وشرعت آخذ آراء المحيطين بي ممن لهم بصر بالأدب فرأيتهم في الجملة يشاركونني شعوري بالنسبة لهذا النشيد، فعدت إلى اتهام ذوقي من جديد، واتهمت أيضاً ذوق من استطلعت آراءهم، وحسنت ظني في النشيد حتى أسمع تلحينه، فقد يظهر فيه التلحين محاسن لم تكن تظهر قبله، وكم كانت خيبة أملي عميقة يوم سمعت تلحين هذا النشيد من المذياع! لقد كان ميتاً لا حياة فيه؛ ولست مبالغاً في قولي هذا، فأني أشهد لقد سمعت أناشيد أخرى يلقيها فتيان الكشافة وفرق القمصان الزرقاء وجنود مصر الفتاة، ومع أن الأناشيد التي سمعتها منهم لم يُعط واضعوها عليها مائة جنيه جائزة، ولم تجد لها ملحنين يأخذون في تلحين الواحد منها مائة جنيه أخرى - كما جرى لنشيد الأستاذ محمود صادق - أقول إنه برغم كل هذا فإن الإنسان يحس الحرارة والقوة والوطنية تتدفق في الأناشيد الأخرى، مثل نشيد اسلمي يا مصر للأستاذ صادق الرافعي، ويغلب على ظني أنه لم يتقدم به للمباراة واكتفى بالنشيد الجديد الذي حاز به الجائزة الثانية. ومطلع النشيد الأول للرافعي:

اسلمي يا مصرُ إنني الفدا

ذي يدي إن مدت الدنيا يدا

ومنه:

للعُلا أبناَء مصرٍ للعُلَا

وبمصرٍ شرّفوا المستقبلَا

وفدىً لمصرنا الدنيا فلا

تضعوا الأوطانَ إلاَّ أوّلَا

جانبي الأيسرُ قلْبه الفؤادْ

وبلادي هي لي قلبي اليمينْ

ص: 46

لك يا مصرُ السلامةْ

وسلاماً يا بلادِي

إن رمى الدهر سهامهْ

أتقيها بفؤادِي

واسلمي في كلِّ حينْ

هذا نموذج من النشيد وقد سمعته وأعطيته محفوظات لتلامذتي لأنه وقع مني موقع الرضا واطمأنت إليه نفسي لأول وهلة.

وهناك نشيد آخر لا يقل عن هذا النشيد وهو النشيد الذي وضعه الأستاذ عباس محمود العقاد من سنوات قلائل وأقيمت له من أجله حفلة تكريمية كبرى. ومطلع نشيد العقاد:

قد رفعنا العلمْ

للعُلا والفِدا=في ضمان السماءْ

وكله على هذا النمط السهل الجميل، وهو يصلح لأن يكون نشيداً شعبياً لسهولته واختصاره ووفائه بكل المعاني التي يطلب توفرها في الأناشيد القومية. ويطول بي المقام لو حاولت استقصاء الأناشيد الأخرى القوية الجميلة التي هي خير ألف مرة من نشيد الأستاذ محمود صادق.

والآن أحب أن يتأمل القارئ الكريم مطلع نشيد صاحب الجائزة الأولى:

بلادي بلادي فداكِ دميِ

وهبتُ حياتي فداً فاسْلمي

غرامُك أول ما في الفؤادْ

ونجواك آخر ما في فمي

ثم يقارن بينه وبين بيت من الشعر للأستاذ الرافعي كنا نحفظه ضمن قطعة له من الشعر في المدرسة الأولية:

بلادي هواها في لساني وفي دمي

يمجّدُها قلبي ويدعو لها فمِي

فسيجد أن البلاد والدم والقلب والفم والفداء والهوى أو الغرام تتكرر كلها في مطلع نشيد الأستاذ محمود صادق كما تتكرر في بيت الأستاذ الرافعي تماماً. فهل نسمي هذا توارد خواطر أم ماذا؟ مع أنني أحفظ البيت المذكور من سنة 1926 أي قبل ظهور النشيد الجديد بعشر سنوات، ولا أدري كم من السنين مرت قبل أن أحفظه.

وتأمل هذا المقطع:

غرامك يا مصر لو تعلمين

قُصارى شعوريَ دنيا ودينْ

فمنك حياتي وفيك مماتي

وحبك آخرتي واليقين

ص: 47

ماذا تركت مصر لله في هذا الوجود يا صاحب النشيد؟ أليس هذا كفراً صريحاً؟!. . .

الحق إن النشيد الوطني الجدير بهذا الاسم يجب أن يكون خاليا من هذا الشرك وأن يكون بعيداً عن (توارد الخواطر) إلى هذا الحد، وأن تنتقى ألفاظه وقافيته بحيث تكون كلها من حروف المد أو مسبوقة بحروف مد لأنها تكون شجيه الترديد. وإذا كنا نجيز مكافأة مؤلف نشيد كهذا بمائة جنيه فلسنا نفهم كيف يمنح ملحنه مبلغاً مماثلاً لما أخذه المؤلف. اللهم إن هذا إسراف في بلد هو أحوج البلاد إلى الاقتصاد!. . .

(وبعد) فقد أحسنت الوزارة الماهرية في سن تلك السنة الحميدة بإقامتها مباراة ذات جوائز مالية سخية لتشجيع الأدب ورجاله ونرجو أن تحافظ وزارة الشعب المحبوبة على هذه السنة الجميلة!. . .

وأحسب أن المدى الذي كان محدداً للمباراة لم يكن يصح تطبيقه على موضوع النشيد الوطني - وكان الأولى أن يفسح في أجله ليكون هناك متسع من الزمن أمام الشعراء فيتسع مجال الإجادة فلا تجيء الأناشيد ناقصة ضعيفة من عدم التروي والأناة مما دعا لجنة التحكيم إلى أن تقول في تقريرها - كما ورد في الرسالة الغراء - (إن أجود الأناشيد التي عرضت عليها لم تخل من أبيات أو فقرات ضعيفة إلى جانب أبيات أو فقرات جيدة، ولهذا أخذت كل نشيد بمجموعة، لا ببعض أجزائه).

لقد كانت هذه الخواطر وغيرها تتردد في نفسي، وكلما هممت بالكتابة في الموضوع ثناني عنه أنني لم أر أحداً يقدم على نقد النشيد بعد أن (اعتمدته) وزارة المعارف ولُقن لأفراد البعثة الرياضية التي سافرت إلى برلين، وظللت على ذلك حتى طلع علينا الأديب (س ط) بكلمة قصيرة في العدد 163 من (الرسالة) الزهراء عن الغلطة الأولى في النشيد، ولما وجدت أن (ابن الحلال) قد فتح الباب تقدمت أنا الآخر بكلمتي.

ورجائي أن يعيد أولو الأمر نظرهم في المسألة من جديد ويقيموا مباراة لوضع نشيد قومي كامل يحدد لها نصف سنة على الأقل، ويدعى لها الشعراء المصريون المعروفون للتقدم بما عندهم من الأناشيد أو لوضع غيرها حتى يكون لنا نشيد جدير بالخلود كما للدول الأخرى الراقية.

وأخيراً فأنه من الوفاء لهذا البلد أن يقف العمل بنشيد الأستاذ محمود صادق حتى يوضع

ص: 48

نشيد جديد أو يثبت أنه الأفضل، وهنيئاً لصاحبه ما ناله من مال وشهرة والسلام!. . .

(النحارية)

محمد إبراهيم المغازي

مدرس

ص: 49

‌دورة الأرض ودورة النفس

للأستاذ خليل هنداوي

كم لهذه المدنية من جنايات منكرة على الإنسان، فلقد شاءت في كل ما تضعه أن تعطيه صور الطبيعة مشاهد ممسوخة وأن تعطيه كتاب الكائنات سطوراً مبهمة.

لقد كان الإنسان في العهد الأول يوم كان يزحف إلى رحلاته على آلات تسعى كالسلحفاة أكثر اتصالاً بالطبيعة، لأنه يقف إزاءها وجهاً لوجه، يتأمل جمالها وجلالها ويتحمل مشاقها ويرى في تحمله لذة الانتصار. فالراحل رحلة قصيرة يتألب حوله من يهتف له ويعجب به ويسأله أن يحدثه عن عجائب رحلته لأنه يراها رحلة حُبلى بالغرائب. وترى صاحبها كلما تحدث عن رحلته تحدث برغبة وحماس، يصور تلك المشاهد ويحبب لسامعه لقيام بمثل رحلته حتى يطلع على جمال لا يغني الكلام عنه.

جمال هذه الرحلات طغى عليه جيل السرعة فلم يُبق لتلك المشاهد روعة، ولم يدع للرحلات البطيئة معنى. . . فالسيارة والقطار والطيارة أعداء هذه الرحلات البطيئة لأنها تجعل من مشاهد الطبيعة الغزيرة المعاني صوراً وأخيلة سينمائية لا ينفذ الناظر إلى دقائقها وائتلاف صورها. فالراحل من بيروت إلى دمشق في العهد السابق على عجلة كان يلبث ثلاثة أيام قد يقاسي فيها بعض الشدائد، ولكنه ينال مقابل هذا من جمال الطبيعة والتأمل في خفاياها ما لا ينسى روعتها أيام عمره، فهو يكاد يعي مصوراً جغرافياً بالطريق وقرى الطريق، وهو لا يكاد ينسى المواطن التي بات فيها لياليه. أما اليوم فهو لا يلبث في رحلته إلا ساعتين يقطعهما كلحظتين في قلب سيارة تحجب عنه كل شيء ولا يحس لذة في السيارة إلا لذة السرعة، وبهذا انطوت عنه آفاق وتوارت عنه مشاهد كثيرة. لقد ظفر إنسان اليوم بالسرعة وأصبح يقلب الأرض قطراً قطراً ولا يعصيه منها شيء، ولكنه يعود من أقطارها كأن لم ينظر شيئاً، لأن هذه السرعة قد محت من ذاكرته أكثر المشاهد، ربح هذه السرعة وخسر هذا الجمال المتغلغل في الأشياء والأكوان، وسرى فوق الأرض كمشاهد غريب عنها لا يتصل بها ولا يعي من مشاهدها شيئاً. وليته خسر من مشاهدها روعتها! ولكنه خسر التأمل الذي يترك أكبر الأثر في النفس. فكم درس كان يتولد من مشهد! وكم قصيدة تنشأ من تأمل في أعماق الطبيعة! أضاعت السرعة كل هذا وزادت في فصل

ص: 50

الإنسان عن الطبيعة الأمر الذي ضج له بعض الفلاسفة وخشوا على الإنسان أن يزداد انجذابه بالمادة، والمادة قاتلة فيه كل روح وضمير. وبهذا تثبت الإنسانية في أجيالها الحاضرة أنها أصبحت طائعة خاضعة للمادة، وأنها لا يستفيق فيها نداء الروح إلا حين تفشل مادتها ويضعف تعلقها بها!

أجد السائح على الآلة البطيئة يحدثني عن جمال مشاهد غاب جمالها في نفسه وأثر في قلبه وربما غير اتصاله بها وجوها كثيرة من حياته، وهذا سر كل رحلة وغايتها. وأجد السائح على الآلة السريعة فأجده سيد رحلته. انتهى منه كما بدأ بها. . . لم يضف إلى خزانة نفسه من هذه الرحلة شيئاً إلا أسماء رآها على المصور كما أراها إذا أردتُ. وما عسى تجديني رحلة طويلة أطوي الأرض من قطبها إلى قطبها وأجمع بيدي كل آفاقها، تدور بي آلة تسير كالجن تريني السماء والأرض طائرتين، أو أرى الأرض من السماء كخيال لا يتبدل ما فيه إلا قليلاً. إني لأوثر على مثل هذه الرحلة التي اختلط رأسها بذنبها رحلة قصيرة بطيئة تتصل نفسي فيها بالأرض وتسمع نداءها وتدرك جمالها وتتأمل جلالها، وإذا انتهيت من رحلتي أحسستُ شيئاً جديداً في نفسي! أليس في تبدل كل مشهد وحي جديد يهبط على نفسي؟ أليس في كل طود شامخ أجاهد النفس في اقتحامه انتصار قوي يشجع نفسي على المثابرة؟ أليس في انتصاري على كل شدة وكل نكبة ومجاهدتي بنفسي في اقتحام المخاطر ما يعينني على اقتحام مخاطر الحياة التي تشبه من وجوه عديدة هذه المخاطر؟ وكيف تريد من الغني الذي ينشأ في النعيم والنعومة أن يقوى على مجابهة الحياة حين تقابله مصاعبها؟

إن في مثل هذه الرحلات نوعاً من المقاومة - كم يفهمه الكشافون - يعين على احتمال المصاعب، وفيه نوع آخر يجب أن نسبق إلى تفهمه هو محادثة الطبيعة فماً لفم، وعناقها صدراً لصدر، والتغلغل في خفايا جمالها الرائع، وفي هذا ما يجعل قلوبنا تطفح رضاً بالحياة ونفوسنا تحبها وتتمتع بها.

حقاً لقد كسبوا كثيراً من السرعة في رحلاتهم، وكثيراً من الراحة في هذه السرعة، وكثيراً من الرحلات في هذا العصر، ولكنهم فقدوا أجمل شيء كانوا يأخذونه من الطبيعة، فقدوا الأساليب التي كانت تدخل بها الطبيعة إلى أنفسهم، والأساليب التي كانوا بها يدخلون إلى نفس الطبيعة. . . وقد أخطئوا إذ حسبوا أن قيمة الرحلة بأبعادها ومسافاتها وتعدد مشاهدها،

ص: 51

وما عسى أن تكون قيمة رحلة مثل هذه إذا أبعدتني عن نفسي ولم تستطع أن تصل ما بيني وبين الطبيعة! على أن دورة النفس هي أكثر التفافات وتعاريج وأبعاداً - على قربها - من دورة الأرض وإن كثرت فيها التعاريج والأبعاد.

سيحوا في الأرض وطيروا في أجوائها واسبقوا الزمان على دورته، ولكن اجعلوا من سياحاتكم سياحات قصيرة تعيدكم إلى الأرض وجبالها ووديانها وجمالها، ففي تأملها حياة في قلب حياة، وفي الاتصال بها انفصال عن متاعب الحياة.

وقد كان الاتصال بالأرض الخالية علاجاً يداوي به سقيم الهوى ومريض الفؤاد والمسلول، لأن نفحاتها النقية تعيد إليه ما نزعته منه الأرض التي سممتها الشهوات وقتلت روحها الملذات.

مشاهد هذه الأرض لا تزال غنية تعطي كل قاصد مهما كانت غايته لأنها غنية. . . فما أغناك أيتها الأرض حتى عندما يظنونك فقيرة!

خليل هنداوي

ص: 52

‌في الأدب الإنكليزي

3 -

هل من انتحال في الأدب الإنكليزي؟

للسيد جريس القسوس

- 6 -

من هو طوماس تشاترتن؟

وُلد هذا الشاعر في برستل، في 20 نوفمبر سنة 1752، بعد وفاة أبيه بثلاثة أشهر. وكان أبوه كاتباً بسيطاً في كاتدرائية برستل، يتقاضى منها راتباً زهيداً؛ فمات ولم يخلف لابنه تراثاً مادياً يُذكر.

دخل الشاعر مدرسة كولستُنْ الابتدائية حيث قضى ثماني سنين متتالية، نظم في خلالها بعض قصائد، منها واحدة نظمها سنة 1764 بعنوان (وصية الكافر)

ثم عنّ له أن يقصد عمه حارس كنيسة القديسة ماري في (ردكلف) لعله يجد في كنفه طمأنينة وعزا. كانت تلك الكنيسة على جمال فني بديع، فتن الشاعر وأذهله، فعاش بالخيال في العصور التي أبدعت ذلك الفن الرائع. ليس هذا فحسب، بل عثر في خزانة الكنيسة على مخطوطات أدبية قديمة، وسجلات دينية تعود في تاريخها إلى العصور الوسطى، فكان الشاعر الصبي في خياله وشعوره نهباً بين هذين التراثين الخالدين: التراث الفني البديع، والأدبي الرائع. فلم يعش في الحقيقة في عصره إلا بالجسد؛ أما روحه فقد كانت بكليتها في العصور الوسطى.

وانزوى تشاترتن لنفسه في تلك البيئة الروحية الهادئة عاكفاً على بحث تلك الآثار الأدبية ومطالعتها. وبقي هذا شأنه لا يعرف من أمره شيء، حتى سنة 1769 حين فاجأ العالم الأدبي بنشر قصيدة (لينور ويوغا) & في مجلة & ولقد نظم تلك القصيدة في حين لم يتجاوز فيه عمره الثانية عشرة؛ وأطلع عليها رئيس مستشفى (كلتُن)، مدّعياً أنها من آثار شاعر من شعراء القرن الخامس عشر. أما اسم ذلك الشاعر الخيالي فالكاهن طوماس رولي عاش في مدينة برستل، في عهد الملك إدوارد الرابع وكان - على ما ادعى تشاترتن - صديقاً لوليم كاننغ.

ص: 53

ووليم كاننغ هذا شخصية تاريخية؛ كان تاجراً مثرياً، يتعاطى هذه المهنة في برستل - بلد تشاترتن نفسه -؛ وكان من غواة الأدب وأعوانه. وادعى تشاترتن أن الكاهن رولي كان يؤمّه ليتلو في حضرته أشعاره، فيلقى منه كل حدب والتفات. وتقوم بطولة كاننغ على الفضل والتقوى، ومتانة الخلق، وقوة العزيمة، والمحافظة على المبدأ؛ لهذا لما أرغمه الملك إدوارد على تزوج إحدى الغانيات لغاية في نفسه، رأى كاننغ نجاته في الهرب من وجه ذلك الملك العسوف؛ فقصد كلية وستبري في مقاطعة جلوسترشاير مفضلاً الحياة بجانب الكاهن الشاعر على التقرب من الملك العاتي الجبار.

درس تشاترتن هذه الحوادث دَرْس الولوع المفتنّ؛ وألمّ بها إلماماً عجيباً، واختلق قسماً كبيراً منها. ومعظم قصائده تدور حول هذه الحوادث، الصحيح منها والمختلق. ويتخلل اسم كاننغ كثيراً من أشعاره التي نظمها، وعزاها إلى الشاعر رولي مثل مأساة برستو أو قصيدة '

ادعى تشاترتن أن يراع ذلك الكاهن الخيالي دبجت هذه القصائد وغيره؛ وأنه خلّفها في مخطوطات أودعت خزانة كنيسة ردكلفْ. هذا كل ما يقوله تشاترتن عن رولي: ولم يذكر عنه أكثر من ذلك، فيعزز بذلك ادعاءه، ويقوي حجته.

وفي سنة 1767، عين الشاعر كاتباً في بعض دوائر العدل لكنه رغم ذلك كان له متسع كاف من الوقت للمطالعة والإنتاج والنشر خاصة في مجلة '

وأشهر ما ظهر له في ذلك الحين قصيدة اسمها (أُنشودة إلاَّ) وهي مأساة تمثيلية فيها ابتكار، وغنائية ساحرة، وروعة فنية سامية. (ومأساة برستو) وهي من أجلّ مآسيه الشعرية القصصية وأروعها موضوعاً وأسلوباً، وتنتهي بإعدام البطل بودون إذ اشتمّ منه الملك إدوارد معاندة وعصياناً. وفيها وصف بديع للبطل بودوِنْ إذ آثر الموت على مصانعة الملك إدوارد والتلطف له والتحبّب إليه. وفيها وصف بارع رقيق للوداع الحارّ بين ذلك البطل وزوجه البار.

ومن هذه أيضاً قصة شعرية تمثيلية اسمها (الرّهان) وأُخر مثل (جودوِنْ) و (أنشودة الجمال) و (البرلمان) و (معركة هيستنج) و (أغنيّة الصَّدقة) وغيرها من المقطّعات المتفرقة، وهي كلها شبيهة بأشعار كيتس الخالدة، من حيث جمال الفن وقوة

ص: 54

العاطفة ودقّة التصوير. وجميع هذه القصائد تؤلّف مجلداً كبيراً من الشعر، جُمِعَ ونُشِر سنة 1804؛ وتشاترتن كان ينسب أهم ما فيه إلى الشاعر رولي.

لهذا بينما كان العالم الأدبي ينهج في خطى بوب وجونسن الأدبية الكلاسيكية، كان هذا الشاعر الشاب يمهّد السبل القومية للإبتداعية ذلك بأنه كان يعود إلى ينابيع قديمة فيستقي منها نتاجه الأدبي أو يستوحي منها عبقريته الخالدة؛ فيعمل بذلك على نشر الميزات التي يختصّ بها أدب الإبتداعية.

ولقد وجد شعراء القرن التاسع عشر في أدب تشاترتن وحياته الرومانتيكية مرتعاً خصباً للخيال والروح، فقد تأثر الشاعر كولردج بأدبه إلى حد بعيد؛ وهذا يظهر جلياً واضحاً في قصيدته المشهورة ولكولردج هذا قصيدة بديعة، اختصها برثاء تشاترتن اسمها وقلْ مثل ذلك عن كيتس؛ إذ يستدلّ من إهدائه قصيدته الخالدة إلى تشاترتن أنه كان يستوحي عبقريته، ويستمد نشاطه الأدبي من روح الشاعر الشاب. ليس هذا فحسب، بل أقر غيرهما من الشعراء الابتداعيين بنبوغ تشاترتن؛ فذكره شلي مثلاً في قصيدته (أدونيس) التي رثى بها كيتس في عداد الشعراء الذين قضوا في ميعة الصبا، ووردزورث لم يشأ إلا أن يقول فيه، في قصيدته (الانحلال والاستقلال) & تلك الكلمات الرائعة، التي أصبحت مثلاً سائراً بين الشعراء وهي:

، ،

ومعنى ذلك:

(لقد فكرت طويلاً في ذلك الصبي العجيب بل في تلك الروح اليقظة التي قضت آن شموخها وعزها).

والشاعر الشهير دانتي روزيتي يذكره مع أعاظم شعراء الإنكليز في

ولقد لاقى تشاترتن في خريف سنة 1770 من ضنك العيش وسوء الحال ما دفعه مراراً إلى الانتحار، حتى إنه كتب مرة وصية ينبئ فيها بعزمه الأكيد على الانتحار في أقرب الفرص، شارحاً الأسباب الحافزة له على التخلص من الحياة، لكنه عدل عن ذلك لسبب ما؛ فاستقال من وظيفته، وقصد لندن حيث قضى نحو تسعة أسابيع؛ ومن ثمَّ توجه إلى هولبرن حيث صرف مدة انعزل في خلالها عن العالم وعاش عيشة تصوف وهدوء عميقين؛ فتمكن

ص: 55

بذلك من استعادة خيالاته، وتصوراته الروحية الشائقة؛ فانتعشت روحه واطمأنت نفسه، ورضى عن حاله تلك بعض الرضى؛ فسولت له النفس الاستزادة من العيش، لكنه ما عتم أن اصطدمت الروح والمادة في ميدان نفسه، فاحتدم النزاع بينهما احتداما؛ إذ أن فقره المدقع وعدم إقبال الصحف على نشر آثاره، وشعوره بفضيحة أمره، جميعها ملأت حياته كآبة وألماً، وزادت عيشه ضنكاً ومضضاً؛ فاستسلم لليأس والقنوط، وعاودته فكرة الانتحار؛ لكنه عزّ عليه الموت في ريعان الشباب، فقاوم فكرة الموت، وعقد النية على دراسة الطب مؤملاً من وراء ذلك سعادة وغبطة دنيوية دائمة، فراسل أصدقاءه يطلب المؤازرة، لكنه باء بالفشل، فكانت تلك آخر خفقة في سراج حياته، إذ عاد على أثر ذلك إلى صومعته عازماً على الموت المحتم، فتجرّع الزرنيخ، بعد أن مزق كل ما عثر عليه من آثاره الأدبية غير المنشورة.

وهكذا كانت حياته صراعاً بين البؤس والهناء، واليأس والأمل، والقناعة والطموح، والموت والحياة؛ حتى غلب البؤس في النهاية على الهناء، وانتصر اليأس على الأمل، فانهار ذلك البنيان الروحي الرخيص تحت كاهل المادة ولما يبلغ بعد من العمر عتياً، فكانت وفاته في 24 أغسطس سنة 1770 عن 17 سنة ونحو 9 أشهر.

لو أتيح له أن يعمر طويلاً لربما بذّ الكثيرين من أعاظم الشعراء، وتبوأ مكاناً ليس بعيداً من شكسبير وغوته ودانتي.

وتقديراً لنبوغه أقام هواة أدبه نصباً تذكارياً لاسمه في ساحة كنيسة ردكلف في برستل، نقشوا عليه كلمات مقتبسة من وصيته الأخيرة، وهي:

(ذكرى طوماس تشاترتن، لا تحكم عليّ أيها القارئ إن كنت تقيّاً؛ إذ الحكم لقوةٍ عليا؛ ولهذه القوة وحدها سأجيب. . . .).

(يتبع)

جريس القسوس

ص: 56

‌دين المتنبي

3 -

أبو الطيب المتنبي

للأستاذ محمد محي الدين عبد المجيد

ثم يقول بعد ذلك في شأن سيف الدولة:

رأيتكم لا يصون العرض جاركم

ولا يدر على مرعاكم اللبن

جزاء كل قريب منكم ملل

وحظ كل محب منكم ضغن

وتغضبون على من نال رفدكم

حتى يعاقبه التنغيص والمنن

فغادر الهجر ما بيني وبينكم

بهماء تكذب فيها العين والأذن

وكان كلما نازعته نفسه إلى سيف الدولة واستشعر شيئاً من الأسف على فراقه يعلل نفسه بأنه لقي أهلا بأهل فيقول:

وأخلاق كافور إذا شئت مدحه

وإن لم أشأ تملي علي فأكتب

إذا ترك الإنسان أهلا وراءه

ويمم كفوراً فما يتغرب

ولكنه ما عتم أن اجتوى كافوراً وتبرم به ويئس مما كن أمله فيه، فلما اعتزم أن يتركه أسف على غدره ونازعته نفسه إلى ممدوحه الأول وهو يهجو كافورا:

وفارقت خير الناس قاصد شرهم

وأكرمهم طرا لآلامهم طرا

فعاقبني المخصي بالغدر جازيا

لأن رحيلي كان عن حلب غدرا

وما كنت إلا فائل الرأي لم أعن

بحزم ولا استصحبت في وجهتي حجرا

ومع أنه يعترف بالغدر فقد حانت له فرصة ليعود إلى الوفاء فلم يهتبلها، تلك أن سيف الدولة حين علم رجوعه من مصر أرسل إليه ابنه بهدية فاكتفى بأن يرسل إليه قصيدة يقول فيها:

كلما رحبت بنا الروض قلنا

حلب قصدنا وأنت السبيل

فيك مرعى جيادنا والمطايا

وإليها وجيفنا والذميل

والمسمون بالأمير كثير

والأمير الذي بها المأمول

الذي زلت عنه شرقاً وغرباً

ونداه مقابلي ما يزول

ومعي أينما سلكت كأني

كل وجه له بوجهي كفيل

ص: 57

ويمر بعد ذلك عامان وبضعة أشهر فيرسل إليه سيف الدولة كتاباً بخطه يسأله فيه المسير إليه فيعتذر له بقوله:

وما عاقني غير خوف الوشاة

وإن الوشايات طرق الكذب

وتكثير قوم وتقليلهم

وتقريبهم بيننا والخبب

وقد عاوده طبعه الذي دللنا عليه حين ورد على عضد الدولة فقد قال له في أول لقاء:

قد رأيت الملوك قاطبة

وسرت حتى رأيت مولاها

ثم يقول له بعد ذلك:

يقول بشعب بوان حصاني

أعن هذا يسار إلى الطعان

أبوكم آدم سن المعاصي

وعلمكم مفارقة الجنان

فقلت: إذا رأيت أبا شجاع

سلوت عن العباد وذا المكان

فإن الناس والدنيا طريق

إلى من ماله في الناس ثن

لقد علمت نفسي القول فيهم

كتعليم الطراد بلا سنان

وانظر إلى هذا البيت الأخير فإنه يعتذر فيه عن كل مدائحه التي قالها من قبل عضد الدولة بأنه كن يقولها ليروض نفسه ويعلمها حتى إذا اعتادت لم يحسن منه القول إلا فيه.

تنبؤه

ليس في حياة أبي الطيب مسألة أشد غموضاً من سر هذا اللقب الذي نبزوه به، ومهما يكن في حياته من الدقة والغموض فإنا نعترف بقوة الدقة والغموض اللذين أحاطا بهذا اللقب. وآية ذينكم أن الكتاب ما زالوا يكتبون عن أبي الطيب منذ كان إلى يوم الناس هذا وهم يختلفون في الإبانة عن حقيقة هذا اللقب. وكتاب عصرنا هذا مختلفون أيضاً في الاستنتاج والتعليل. ولقد حاولت أن أقف على الوضع الحقيقي لهذه المسألة متخذاً من شعره وأخباره نبراساً أستفيء به فأعياني تطلابه ووقعت في حيرة ولبس وإبهام هي شر من الإعراض عنه، ذلك أنه لم يعن أحد ممن عاصر المتنبي أو قرب من عصره بالبحث عما يشوقنا اليوم أن نعرفه بحثاً يثلج صدر الحقيقة ويملأ قلب الناس بصحة أسبابه ونتائجه؛ فكل ما بين أيدينا كلمات منثورة في بطون الكتب جرى بعضها على ألسنة قوم عرفوا بالهوى فيه والتعصب له إلى حد التغاضي عن القبح، وجرى بعضها الآخر على لسان قوم لم يعرف

ص: 58

الناس عنهم شيئاً أو عرفوا عنهم الكراهية له إلى حد تشويه محاسنه؛ فمهمة الباحث اليوم من أشق المهام؛ وكل ما يمكن أن يصل إليه باحث ظنون قد لا يطول به الأمد حتى تتكشف له عن نفسها كخدعة من خدع الغرور.

حكى أبو الفتح عثمان بن جني قال:

سمعت المتنبي يقول: (إنما لقبت بالمتنبي لقولي):

أنا ترب الندى ورب القوافي

وسمام العدى وغيظ الحسود

أنا في أمة تداركها الله (م)

غريب كصالح في ثمود

وفي هذه القصيدة يقول:

ما مقامي بأرض نخلة إلا

كمقام المسيح بين اليهود

وليس هذا الذي ذكره أبو الفتح إلا كالتمحلات التي يرتكبها بعض الناس بإخراج الألفاظ عن أوضاعها ومعانيها. ذلك بأن أبا الطيب نفسه كان يتألم إذ نبزوه بهذا اللقب، فهو يعلم أن الناس لا يطلقون عليه ذلك تشبيها له بالأنبياء وإن كانت هذه الصيغة قد تستعمل في العربية لإفادة معنى التشبيه. وذكر أبو العلاء في رسالة الغفران ما كان أعداء أبي الطيب يتحدثون به عنه فقال:(وحدثني الثقة عنه حديثاً معناه أنه لما حصل في بني عدي وحاول أن يخرج فيهم قالوا له وقد تبينوا دعواه: (هاهنا ناقة صعبة فإن قدرت على ركوبها أقررنا أنك مرسل) وأنه مضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الإبل فتحيل حتى وثب على ظهرها فنفرت ساعة وتنكرت برهة ثم سكن نفارها ومشت مشي المسمحة، وأنه ورد بها المحلة وهو راكب عليها، فعجبوا له كل العجب، وصار ذلك من دلائله عندهم. وحدث أيضاً أنه كان في ديوان اللاذقية وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين فجرحته جرحاً مفرطاً، وأن أبا الطيب تفل عليها من ريقه وشد عليها غير منتظر، وقال للمجروح لا تحلها في يومك وعد له أياماً وليالي، وأن ذلك الكاتب قبل منه فبرئ الجرح فصاروا يعتقدون في أبي الطيب أكبر اعتقاد ويقولون هو كمحي الأموات. وحدث رجل كان أبو الطيب قد استخفى عنده في اللاذقية أو في غيرها من السواحل أنه أراد الانتقال من موضع إلى موضع فخرج بالليل ومعه ذلك الرجل، ولقيهما كلب ألح عليهما في النباح ثم انصرف، فقال أبو الطيب لذلك الرجل وهو عائد: (إنك ستجد ذلك الكلب قد مات. فلما عاد الرجل ألفى الأمر على ما

ص: 59

ذكر. ولا يمتنع أن يكون أعد له شيئاً من المطاعم مسموماً وألقاه له وهو يخفي عن صاحبه ما فعل) اهـ. وقل أبو العلاء في رسالة الغفران مرة أخرى:

(وحدثت أنه كان إذا سئل عن حقيقة هذا اللقب قال: هو من النبوة بمعنى المرتفع من الأرض. وكان قد طمع في شيء قد طمع فيه من هو دونه وإنما هي مقادير يديرها في العلو مدير يظفر بها من وفق ولا يراع بالمجتهد أن يخفق، وقد دلت أشياء في ديوانه أنه كن متألهاً، ومثل غيره من الناس متدلهاً، فمن ذلك قوله:

. . . . . . . . . . .

ولا قابلا إلا لخالقه حكما

وقوله:

ما أقدر الله أن يخزي بريته

ولا يصدق قوماً في الذي زعموا

وإذا رجع إلى الحقائق فنطق اللسان، لا ينبئ عن اعتقاد الجنان لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق، ويحتمل أن يظهر الرجل تدنيا وإنما يجعل ذلك تزيناً يريد أن يصل إلى الثناء، أو غرض من أغراض الخالبة أم الفناء) اهـ وأبو العلاء في هذه العبارات مضطرب كل الاضطراب، فبينا هو يقص عليك معجزات أبي الطيب التي مخرق بها على بني عدي إذا هو يذكر لك أنه إنما طمع فيما طمع فيه من هو دونه بعد همة وعلو نفس، ولا يمكن أن يكون مقصوده بذلك النبوة، ثم هو بعد ذلك يعود فيذكر لك أن أبا الطيب كان يعترف بالله تعالى ويرشدك إلى دلائل هذه العقيدة من شعره، ويعود إلى التشكك في دلالة هذه الأقوال على ما في نفسه لأن نطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الجنان؛ وكأن أبا العلاء كان يعاني ما نعانيه اليوم من غموض حال المتنبي وشدة خفائها.

والذي نستطيع أن نعقله أن هذا اللقب قد نبزه به أعداؤه وليس له حقيقة برزت في الوجود، وأن أبا الطيب كان يقوم بدعوى سياسية: كان يطلب الملك ويمني نفسه به ويعد له عدته التي ظن أنها تصل به إليه من المران على الحرب وجمع المال والاستكثار من الأعوان وتدبير المؤمرات، ولم يكن يجسر على الجهر بذلك في عواصم الملك التي عاش فيها فكان يخرج إلى البوادي يتحين الفرصة ويستجمع للوثوب وتحقيق ما في نفسه من آمال؛ وهذا سر من أسرر انتقاله من ملك إلى ملك، وقد ساعده على هذا الحلم اللذيذ ما كان يقع تحت نظره كل يوم من ثورات وفتن وانقلاب، وقوة إيمانه بأنه أفضل من سعت به قدم؛ وكان

ص: 60

ربما قنع بأقل من الملك فرغب في ولاية من الولايات يخلعها عليه كافور، ولعل هذه القناعة لم تكن إلا لأنه فهم أن الولاية سبب يصل من طريقه إلى الملك كالذي يراه في جماعة من ملوك عصره. ولعل كافوراً لم تخف عليه سريرته فحرمه الولاية التي كان وعده إياها. ولعله هو نفسه قد شعر بأن كافوراً فطن لدخيلة نفسه ففر من مصر تحت جنح الليل. أفلست تراه يقول لكافور أول وروده عليه:

وغير كثير أن يزورك راجل

فيرجع ملكا للعرافين واليا

حتى إذا تأخر جواب كافور وخشي أن يفوته المأمول أو أن يظن به عدم الكفاية للاضطلاع بأعباء الولاية عاوده بقوله:

فارم بي حيثما أردت فإني

أسد القلب آدمي الرواء

وفؤادي من الملوك وإن كا

ن لساني يرى من الشعراء

ولم يزل يظهر لكافور تلهفه على إنجاز موعوده بالتعريض مرة وبالتصريح مرة أخرى حتى أدركه اليأس وعلم أن في الأمر شيئاً. أنظر إلى قوله:

إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية

فجودك يكسوني وشغلك يسلب

ثم انظر إلى قوله:

وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا

ودون الذي أملت منك حجاب

وفي النفس حاجات وفيك فطانة

سكوتي بيان عندها وخطاب

قال أبو منصور الثعالبي: (وما زال في برد صباه إلى أن أخلق برد شبابه وتضاعفت عقود عمره بدور حب الولاية والرياسة في رأسه ويظهر ما يضمر من كامن وسواسه في الخروج على السلطان والاستظهار بالشجعان والاستيلاء على بعض الأطراف ويستكثر من التصريح بذلك في مثل قوله:

لقد تصبرت حتى لات مصطبر

فالآن أقحم حتى لات مقتحم

لأتركن وجوه الخيل ساهمة

والحرب أقوم من ساق على قدم

وكقوله:

سأطلب حقي بالقنا ومشايخ

كأنهم من طول ما التثموا مرد

ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دُعوا

كثير إذا شدوا قليل إذا عُدوا

ص: 61

وطعن كأن الطعن لاطعن عنده

وضرب كأن النار من حره برد

إذا شئت خفت بي على كل سابح

رجال كأن الموت في فمها شهد

وكان كثيراً ما يتجشم أسفاراً بعيدة أبعد من آماله ويمشي في مناكب الأرض ويطوي المناهل والمراحل ولا زاد إلا من ضرب الحراب على صفحة المحراب) اهـ.

هذه فيما نعتقد حقيقة حاله؛ فأما ادعاء النبوة فلا نستطيع أن نتقبله مهما زعم الناس أن العصر الذي عاش فيه ورغبته في أن يكون أبعد أهل عصره أملاً، وكثرة الدعوات الدينية والسياسية، كل أولئك تقرب إلى العقل أنه ادعى النبوة. نقول ذلك بعد علمنا تقدير الناس لمقام النبوة ورسوخ عقيدة الإسلام في أذهانهم، ومنها أن محمداً (ص) ختام الأنبياء حتى أن الدعوات الدينية التي ادعاها المدعون بعد ذلك لم تكن إلا في نواحي الإمامة وما يتصل بها. ونحن نرى كل هذه الدعوات كانت تستند إلى نصوص يزعم الراوون لها أنها صدرت عن رسول الله أو أفهام في نصوص أخرى ثابتة. ولو أن أبا الطيب كان قد ادعى النبوة لما وجد من الناس من ينتظر عليه حتى يتم دعواه. ولعله لم يكن من الحكمة في دعواه التي ارتضينا أمرها بحيث يخفي شأنه، فكان لذلك لا يأمن جانب أحد، وكان لا يدخل بلداً إلا ليقذف به إلى بلد، ثم كانت بعد ذلك نهايته المحتومة.

أبو الطيب والنحاة

ليس يسوغ لي في مستهل هذا البحث أن أغفل أن أبا الطيب كان قد أخذ من العربية بأوفر حظ؛ فهو حافظ لغريبها حفظ الباحث المستقصي حتى ليسأله أبو علي الفارسي: (كم لنا من الجموع على وزن فِعْلَى)؟ فيبادره بقوله (حِجْلى وظِرْبى) ويبحث أبو علي ليلته في كتب اللغة لعله يعثر لهما على ثالث فلا يجد. ويقول أبو علي في شأنه: (ما رأيت رجلاً في معناه مثله) وهذه الشهادة من أبي علي الذي كان يناصبه العداوة ويتحامل عليه كافية للدلالة على قدره؛ وكان مع اطلاعه على مفردات اللغة وغريبها عالماً بمواطن استعمالها متمكناً من قواعدها خبيراً بلغات القبائل. وله شعر جزل لا نظير له في شعر أحد من شعراء العربية. وقد خلا كثير من شعره من كل مأخذ وتجانب كل انتقاد، ولكن له مع ذلك شعراً قد جانب الطرق المشهورة في العربية إلى طرق لا يقرها النحاة الذين جعلوا مهمتهم تتبع المعروف الجاري على الألسنة ورسموه قواعد أرادوا أن تكون هي لسان الناس عامة؛ وإن

ص: 62

يكن أحد قد نال من أبي الطيب في حياته وبعد موته منالاً له وجه صحيح وقد بقى أثره والدليل عليه فأولئك هم النحاة، ولسنا نعني بالنحاة علماء الأعراب فحسب، وإنما نريد بهم كل من كان يتكلم في فرع من فروع العربية؛ فهؤلاء هم الذين جرحوا عزة المتنبي وطامنوا من كبريائه؛ وهؤلاء هم الذين كان أبو الطيب يضيق بهم ذرعاً وتتألم نفسه إذا وجه واحد منهم خطابه إليه. وكيف لا يضيق صدره وشعره هو وسيلته التي يكتسب بها رضاء الناس وهم يعمدون إلى هذه الوسيلة فيضعفون من شأنها ويحاولون أن يقللوا من قيمتها. ولم يكن النحاة فيما نعتقد قد أكثروا من تعقبه والحملة عليه لوجه العلم ولا انتصاراً للحق، وإنما كان ذلك منهم سلاحاً من أسلحة السياسة التي وجهت إلى الرجل؛ وليس يعنينا بحث ذلك الآن ولكنا نذكر أنه - مع عدم توفر حسن النية - قد أمكن للنحاة أن يجدوا في شعر أبي الطيب ما يستمسكون به عليه ويتخذونه ذريعة للتشفي منه ولإرضاء سادتهم. وكانوا يجابهونه بذلك أحياناً؛ وكانت تأخذه العزة فيسب ويقذع في سبابه أحياناً شأن المغيظ المحنق الذي يداخله الشك في أمرهم؛ وكان ربما ضن عليهم بالإجابة فأحالهم على بعض أصدقائه من النحاة. حدثوا أن ابن خالويه وجه إلى أبي الطيب نقداً في حضرة سيف الدولة فقال له أبو الطيب:(أسكت ويحك فإنك أعجمي! فما لك وللعربية؟) وكان مع ابن خالويه مفتاح فضربه به فشج رأسه. وحدثوا أن سائلاً سأله عن قوله في مطلع قصيدة مدح بها أبا الفضل ابن العميد:

باد هواك صبرت أم لم تصبرا

وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى

فقال له: كيف قلت لم تصبرا فقال: لو كان أبو الفتح حاضراً لأجاب، يريد أبا الفتح عثمان بن جني وكان صديقاً حميماً له. وبعض المآخذ التي أخذها عليه النحاة تافه أو لا وجه له كالذي حدثوا أن ابن خالويه سمعه ينشد سيف الدولة:

وفاؤكما كالربيع أشجاه طاسمه

بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه

فقال له: يا أبا الطيب إنما يقال شجاه بتوهمه فعلاً ماضياً. فقال له أبو الطيب: أسكت فما وصل الأمر إليك. يعني أنه أفعل تفضيل.

وبعض المآخذ التي أخذوها عليه صحيح لا شبهة في أنه أخطأ فيه الجادة كالتعقيد اللفظي والمعنوي، واستعمال الغريب الوحشي، والعدول عن سنن القياس، وقبح بعض المطالع،

ص: 63

وبعض المقاطع، واستعمال اللغات المهجورة. وأمثلة ذلك كله ميسورة قريبة التناول.

وفي كتب علماء البلاغة أمثلة وشواهد كثيرة من شعر المتنبي يعدون بعضها في عيون الشعر ومحاسنه، ويعدون بعضها الآخر في رذيل الشعر ومستكرهه.

أما علماء الأعراب فقد جروا على قاعدتهم في عدم الاحتجاج بشعر المولدين مع أبي الطيب، ولكن كثيراً منهم يذكر أبياتاً من شعره في موطن من ثلاثة مواطن: موطن التمثيل لا الاستشهاد، وموطن مخالفة القياس، وموطن التطبيق، وذلك في المعقد من شعره. وقد ذكر العلامة رضي الدين في شرح الكافية بعض أبيات للمتنبي على أنها مخالفة للقياس. وللعلامة المحقق جمال الدين ابن هشام صاحب مغنى اللبيب، ولأبي السعادات ابن الشجري في أماليه شروح وتخريجات لأبيات كثيرة من معقد أبيات أبي الطيب. وقد كان لأبي الفتح عثمان بن جني صديق المتنبي اليد الطولى في توجيه أنظارهما إلى هذه الناحية بما بذله من جهد في تخريج شعر المتنبي حتى كان أبو الطيب نفسه يقول له: إني لم أقل هذا الشعر لهؤلاء النحاة وإنما أقوله لك.

أيها السادة؛ هذه كلمتي التي كتبتها على عجل، وإني لسعيد بأن أتشرف بإلقائها بين أيديكم، وأشكر لجنة المهرجان التي أتاحت لي هذه الفرصة النادرة للتعرف إليكم، والسلام عليكم ورحمة الله.

محمد محي الدين عبد المجيد

المدرس بكلية اللغة العربية

ص: 64

‌لمَعات

إلى شاعر الإسلام وفيلسوفه محمد إقبال

جواباً لكتابيه أسرار خودي ورموزبي خودي

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 2 -

يخرق الليل شعاع يخفق

ثم يلتف عليه الغسَق

كمنار البحر يخفى ويلوح

فيه بين الغيب والومض وضوح

أو يراع الليل يخفى وينير

فهو سطر من غياب وحضور

تارة يبدو طريقاً لحَبا

قامت الظلماء فيه نُصَبا

أو بياناً من بياض وسوادْ

كبياض الطرس يعلوه المداد

كل لون فيه حرف مفصِحُ

أُلّفت منه سطور وُضّح

وأراه تارة خطاً أحمّ

وكأن الضوء تفصيل الظُّلَم

فهو سطر من ظلام أرقطُ

أعجمت معناه تلك النقط

كل لون فيه حرف أعجم

وحوى الأحرف سطر مظلم

يا لُبَيْنَى أوقدي، طال المدى

أوقدي علّ على النار هدى

أوقدي يا لُبنَ قد حار الدليل

أوقدي النار لأبناء السبيل

ارفعي النار وأذكي جمرها

عل هذا الركب يعشو شطرها

شرّدي هذا الظلام الجاثما

أرشدي هذا الفراش الهائما

حبذا النار بليل توقد

حبذا المؤنس هذا الموقد

حبذا عندكِ هذا المنزل

لوحدانا في سِفار منزل

ما لذا المنزل قد سار الفريقْ

إنما النيران أعلام الطريق

قد ترحّلنا من الفج العميقْ

لا نبالي بقريب أو سحيق

رنّ في آفاقنا هذا النداء

فأممنا البيت يحدونا الرجاء

قد غنينا عن مبيت ومقيلْ

وعن الأمواه والظل الظليل

ص: 65

وعن الرغبة والخوف سُوى

خُلع النعلان في وادي طوى

نحن لا نرضى بنار الغسق

نحن لا نرضى بنور الشفَق

نحن لا نرضى بنجم الصبح لاحْ

لا ولا نرضى تباشير الصباح

نحن لا نرضى نجوماً لامعة

إنما نبغي ذُكاء طالعه

قد رحلنا بالجوى والحُرَقِ

وغنينا عن رسيم الأينُق

أين منا طائرات سُبَّق

جُمع الغرب لها والمشرق

نحن ركب في جواه مُوضِعُ

لم يسعه في جواه مَوضع

كل حُرّ ضاق عنه الموطنُ

وانطوى دون مناه الزمن

كل طيار على متن الفِكر

وعلى متن هيام لا يقرّ

طائر منه يغار الملَك

طائر من تحته ذا الفلك

بارق في اللُوح لا ينطفئ

كل غايات لديه مبدأ

زوّدينا بهيام ووجيبْ

زوّدي يا لُبنَ من هذا اللهيب

(يتبع)

عبد الوهاب عزام

ص: 66

‌زهر وثمر

1 -

الإسراف سَرِقَة المالك.

2 -

الحظ الصاعد كرة يحذفها الدهر، فيلقَفُها المتخلِّف.

3 -

الأدب وحدَه صِفْر وحدَه، فما يقوم حسابه إلا أن ياسَرَهُ رَقم من فضل مال، أو رِفْعة منصِب.

4 -

تستوي وثبة العقاب الكاسر، وهزة الفرخ الدارج؛ إذا استويا في حدود قَفَص.

5 -

ما أظلَم من يُمايزُ بين اثنين بما تاح لكلٍّ منهما من مكانة، لا بما بذل كلٌّ منهما من جهد.

6 -

ليس دهاءً أن تكتم السر، وإنما الدهاء أن تكتم أن لديك سرّاً تكتمه.

محمد شوقي أمين

ص: 67

‌جهاد فلسطين

للأستاذ بشاره الخوري

سائلِ العلياء عنَّا والزمانا

هل خفرنا ذمةً مذ عرفانا

المروءاتُ التي عاشت بنا

لم تزل تجري سعيراً في دمانا

قل (لجون بولٍ) إذا عاتبته

سوف تدعونا ولكن لا ترانا

قد شفينا غلةً في صدره

وعطشنا، فانظروا ماذا سقانا

يوم نادانا فلبينا الندا

وتركنا نهية الدين ورانا

ضجت الصحراء تشكوُ عريها

فكسوناها زئيراً ودخانا

مذ سقيناها العلى من دمنا

أيقنت أنَّ مَعَدّاً قد نمانا

ضحك المجدُ لنا لما رآنا

بدم الأبطال مصبوغاً لوانا

عرس الأحرار أن تسقي العدى

أكؤساً حمراً وأنغاماً حزانى

نركب الموت إلى (العهد) الذي

نحرته دون ذنب حُلَفانا

أمن العدل لديهم أننا

نزرع النصر ويجنيه سوانا

كلما لوّحتَ بالذكرى لهم

أوسعوا القول طلاءً ودهانا

ذنبنا والدهر في صرعتِه

أن وفينا لأخي الود وخانا

يا جهاداً صفق المجدُ لهُ

لبس الغارُ عليه الأرجوانا

شرفٌ باهت فلسطين بهِ

وبناءٌ للمعالي لا يدانى

إنَّ جرحاً سال من جبهتها

لثمته بخشوعٍ شفتانا

وأنيناً باحت النجوى به

عربياً رشفته مقلتانا

في فم العلياءِ عنها نبأ

خضب الآفاق واسترعى الزمانا

فإذ (المهد) غسيلٌ بالدما

ويسوعٌ يذرف الدمع حنانا

أيذود العرب عن حرمته

ونصارى الغرب ترضى أن يهانا

يا فلسطين التي كدنا لما

كابدته من أسى ننسى أسانا

نحن يا أخت على العهد الذي

قد رضعناه من المهد كلانا

يثرب والقدس منذ احتلما

كعبتانا وهوى العرب هوانا

ص: 68

من لِعدنان وغسان بأن

يزهوا تيهاً بنا إذ نسلانا

شرف للموت أن نطعمه

أنفساً جبارة تأبى الهوانا

وردةٌ من دمنا في يده

لو أتى النار بها حالت جِنانا

قل لمن يبني على أشلائنا

وطناً هلا حذرت البُرُكانا

ضلَّ من دك كيانا قائم

ومضى يبني لمهووسٍ كيانا

انشروا الهول وصبوا ناركم

كيفما شئتم فلن تلقوا جبانا

غذت الأحداث منا أنفساً

لم يزدها العنف إلا عنفوانا

قرع الدوتشي لكم ظهر العصا

وتحداكم حساماً ولسانا

إنه كفء لكم فانتقموا

ودعونا نسأل الله الأمانا

قم إِلى الأبطال نلمس جرحهم

لمسةً تسبحُ بالطِّيب يدانا

قم نجع يوماً من العمر لهم

هبه صوم الفصح، هبه رمضانا

إنما الحق الذي ماتوا له

حقنا، نمشي إليه أين كانا

دمعةُ للشعر في جفن العلى

كفكفتها أكرم الخلق بنانا

حمصُ. . . والجنة من أسمائها

آنةً والمعقل الجبارُ آنا

لو مشى (خالد) في فتيانها

بهرج الخلد وزاد الفتح شانا

هم سياج الحق من أمتهم

جعلتهم في يد المجد ضمانا

بشارة الخوري

ص: 69

‌بقية من حلم

للسيد محي الدين الدرويش

الوردُ في ناديك غضُّ الجنى

يختال نشوانَ فأين الشربْ؟

وطيرك الهَيْمانُ في كرمتي

ينشد ألحان الهوى والشباب

والكأس في يمناك يا فاتني

قد رقصت فيها الأماني العِذاب

وقلبيَ الخفَّاق مُسْتَطْرَبٌ

يكاد أن يطفر فوق الإهاب

يهفو به الشوق إلى قبلةٍ

حالمةٍ تكفيه مرّ العَذاب

والليل يقظان سريع الخُطا

قد تشر البهجة فوق الشعاب

أودع في جفنيك هذا الدُّجى

بقية من حُلُمٍ مستطاب

(حمص)

محي الدين الدرويش

ص: 70

‌القصص

قصة مصرية

حب اللحم. . .

للأستاذ دريني خشبه

(الحوار في الأصل باللهجة المصرية. . .)

- (لا، بل يخيل إلي أنه مجرد من كل عواطف الحنان والمحبة، وهو بالفعل عاطل من كل ما يسمو بالإنسانية عن حضيض البهيمية الخرساء التي يرسف فيها ويجعل بها حياتي معه ضرباً من الشقاء والتعاسة لا مثيل له).

- (لا أفهم! بل الذي سمعته هو أنه يحبك حباً لا حد له، إنه يكاد يعبدك!).

- (يعبدني! هه. . . إنه يعبد جسمي فقط يا أختاه! إنه وثني شرير!).

- (يعبد جسمك فقط؟ ماذا تقولين يا روحية؟).

- (آه يا أمينة! كم يخجلني هذا الحديث الذي يدور أكثره عن اللحم والجنس، ولا يدور شيء منه عن القلب والروح؟. . . يا لتعاستي!).

- (يبدو لي أنك وجدانية أكثر مما يجب يا صديقتي!).

- (وجدانية؟ إن النبع الوحيد الذي تصدر عنه الفضائل هو الوجدان يا أمينة؛ إن الأنبياء والشعراء والفنانين لا يفهمون الحياة إلا عن طريق الوجدان؛ بل الله جل وعلا حين خاطب الناس في كتبه المنزّلة لم يخاطبهم إلا عن طريق بصائرهم، والمؤمن الحق هو كل صاحب بصيرة نيرة ووجدان سليم وقلب نابض رقيق. . . والحب، الذي ينبغي أن يكون أساس كل حياة زوجية، أليس هو أصدق صورة لل. . .).

- (صار حديثنا فلسفة! يا روحية احمدي الله على أن رزقك زوجاً لا يقصر في شيء من طلباتك. . . زوجاً غنياً ذا سمعة طيبة. . . له مركزه في الحياة).

- (هذا حق. . . ولكن الحياة ليست قصراً منيفاً وأكلة سمينة وخزاً وديباجا. . . إن هذه الأشياء أحقر ما تصبوا إليه نفس عالية يا صديقتي، ألا تفهمينني؟).

- (بل أفهمك جيداً؟ أنت شاعرة، وكنت تحلمين بزوج شاعر! أفيقي يا أختاه إلى حقيقة هذه

ص: 71

الحياة الدنيا! الدنيا جد فلا تجعليها حلماً طارئاً وخيالاً مغرقاً في خيال. ماذا كنت تريدين بيومي أفندي أن يكون؟).

- (يا أمينة أنت تقسين علي قسوة شديدة. يا أمينة أنت فتاة متعلمة مثلي، وقد طالما حلمنا بزواج هنيء يتصل بالروح أكثر مما يتصل بالجسم. . . أنت على حق، لا ريب في ذلك، فيما يتعلق ببيومي من الوجهة المادية. هو رجل غني، ولكنه فقير جداً في ثقافته، فقير جداً في حساسيته، فقير جداً في فهما الدنيا الجديدة والحياة الجديدة. . إنه يأكل جيداً ويلبس بأناقة ويشتري لي الجواهر والحلي بسخاء. . . ولكنه يمزق كتبي ويخرق رواياتي ويعنفني كلما رآني أقرأ مجلة، وإذا أحببت أن ألعب على بياني برم وتسخط وتكلم بصوت عال ليفسد موسيقاي، والويل لي كل الويل إذا استأذنته في رياضة إلى الريف أو في متنزه عام. . . إنه يحنق، وسرعان ما يتهم، وهو إذا اتهم كان كالبركان يقذف بما فيه دون وعي. . . إنه لا يطاق. . . إنه بهيم يا أمينة. . . إنه بهيم، وأستحي أن أزيد!!).

- (وما هذا الذي تستحين من ذكره؟ أيستعمل ال. . .).

- (يستعملها؟. . . إنه يحب أن تكون لياليه كليالي ألف ليلة. . . وهو يتقنن في ذلك، وهو بذلك يرهقني ويضاعف بلواي، وهو يجعل لياليّ جحيماً مستمراً وشقاء مستديما. . . تشممي بخيالك فمه القذر الملوث الكريه، الذي تتصاعد منه مع رائحة الخمر ألف رائحة، يعبث بفمي وخدي ووجهي عبثاً وحشياً لا حنان فيه ولا تلطف، عبث الذئب الجائع الحمل البريء. . . أمينة. . . ارحميني. . . بحسبنا هذا الحديث الطويل. . . وإلى الملتقى. . .!).

ولم تدر هذه الزوجة التعسة أنها كانت تشكو بثها إلى غريمتها الشقية التي كانت تحاول جهدها أن تصيد هذا الزوج الغنيّ الشهوانيّ! المتلاف وأن تقسر خيره كله: مالاً ودماً على نفسها! لم تدر الزوجة التعسة أنها كانت تفعل ذلك، وأنها كانت تعد السم لنفسها وتضعه بيدها الساذجة البريئة في كأسها!

لقد حاولت روحية بكل الوسائل أن تصلح من حال بيومي أفندي؛ كانت تعظه مترفقة به، وكانت لا تغلط عليه إما خوفاً من بطشه بها، وإما إبعاداً في محاولة التأثير عليه بالأسلوب الرقيق والبيان الرشيق والروح الطيبة والقلب البار، وكانت تنيله منها للذة الوحش، ثم

ص: 72

تنتزع منه الوعد بعد الوعد بالتوبة عن الخمر وهجر المخدرات، وكان يخبث ويمكر فيصغي إليها حين تنهض إلى بيانها فتوقع لحناً أو نصف لحن، ولكن البهيم الثاوي بين أضلاعه كان يهيج به فينهض فجأة ويحتملها بينذراعيه الجبارتين ويمضي إلى المخدع.

لقد كان يعبد جسمها عبادة! ولكنه لم يكن بؤمن بجسم واحد! بل كانت له آلهة كثيرة وأرباب متعددة، يخلو إلى أي منها كلما أمره شيطانه أو هاجه هواه. . . وكانت أمينة الفاجرة إحدى هذه الآلهة، وقد عبدها أول ما عبدها في منزله. . . حينما كانت تزور زوجته اليائسة التعسة، فسمع صوته المخنث وضحكها الفاسق يرن أرجاء المنزل، فزلزل قلبه، ومادت نفسه، وسال لعاب شيطانه المجرم إلى قطف الثمرة المحرمة. . . التفاحة المشئومة التي ما زالت تينع وتتأرج، وتملأ الدنيا باللذات الوضيعة والفسوق والخباثات.

ولم يكن من العسير على بيومي أن يصيد هذا الصيد، فلقد غافل زوجه وشك قلب أمينة بغمزة قوية قاتلة من عينه الصنَاع فحمست إليه أولى رسائل الغي، وأول وحي الضلال؛ وسهل عليهما بعد ذلك التلاقي في أقاصي لمدينة، هذا في غفلة من زوجه، وهذه في غفلة من أعين الرقباء.

لكن أمينة كانت فتاة تعمل على أن تصيد لا أن تصاد، لذلك كانت تمني بيومي ولا تقع في شراكه، وكانت تشتري منه ولا تبيع له، وكانت موقنة أنه لها يوماً من الأيام، وكان لا يهمها أن يشتغل قلبه بالعصبة القوية من الساقطات اللائى يتجرن بأعرضهن، فهي تعرف، إذا خلص لها أمره، كيف تعالج هؤلاء بالنعْل، لا بالأسلوب الرشيق والبيان الرقيق كما تعودت روحية أن تصنع! وكان لأمينة من جسمها الممتلئ وقوتها الخرافية كنز مدخر ليوم الفصل بينها وبين غريماتها.

وضاقت روحية ببيومي وبأمينة، ولاحظت ما رابها من سلوكها الأخير، وأفلحت في ضبطهما يتناجيان، فراحت غير مبقية على شيء. . . راحت تفرج عن جمالها الحزين، وانطلقت في المتنزهات ودور السينما تمثل فصولاً من درامة الشباب وتستعيد ذكريات سعيدة وأحلاماً أثيرية محببة. . . ذكريات الحب الذي كانت تعذب به قلوباً غضة وأنفساً رطبة، وأحلام الماضي القريب الذي أفلت بالهناءة كلها من يديها. . . راحت ترسل من عينيها الساجيتين سهاماً تعرف كيف تحيي بها آمالاً قضى عليها هذا الزواج التعس النكد،

ص: 73

ومطامح هدمها السيد بيومي بذهبه الكثير الجم، وجاهه الطويل العتيد.

- (روحية!. . . أَوْه! عفواً!).

ولم تكلم صاحب الصوت المتلجلج، وهو شاب طِوَالٌ تبدو عليه مظاهر الفتوة ومخايل القوة، ولكنها لم ترفض أن تبتسم ابتسامة خمرية ساحرة، ومضت نحو شباك التذاكر تبتاع واحدة؛ وارتبك الفتى قليلاً، ثم أصلح من هندامه (ربطة الرقبة فقط) وابتلع ريقه، وانطلق يزاحم الجمهور حتى أخذ مكانه خلفها، وانتظر حتى كانت عند الشباك، ومدت يدها بالنقود، فصاح هو من خلفها:

- (من فضلك يا آنسة! التذكرتان متجاورتان. لا تأخذي نقوداً! هاتي بقية جنيه!. . .).

والتفتت روحية فوجدته الشاب نفسه! صلاح! صلاح الذي كان يوماً من الأيام أجمل ابتسامة في حياتها، والنور الإلهي الذي يضيء ظلمات نفسها. . . لقد أوشكت أول الأمر أن ترده وتقسو عليه كزوجة أبية وفية، ولكنها لم تستطع، بل التفتت إليه. . . وشكرته باسمة. . . ودخلا إلى الصالة وجلسا على كرسيين متجاورين، ولم يسعهما ن يتكلما كلمة واحدة!. . . وكان بيد كل منهما منهاج للحفلة، فظلاً يقلبانهما ألف مرة، وأكبر الظن أنهما لم يقرآ حرفاً واحداً مما فيها. . . وكان صلاح، كل دقيقتين أو ثلاث دقائق، يخالس روحية نظرة فائضة بالحزن، مبللة بالدمع، صادرة من أبعد غور في روحه المعذبة الشقية. . . ثم يقول لها (سلامات يا روحية!!) وتجيبه روحية، بلسان خجول متلعثم، عارف بما يعنيه صلاح:(أهلاً. . . و. . . سهلاً!) ثم قال لها صلاح فجأة: (روحية، أليس خيراً لنا أن نؤجل هذه الحفلة إلى غد، ونمضي من هنا فنستنشق الهواء الطلق في سفح الأهرام. . . الليلة مقمرة. . . أليست هذه فكرة؟!).

ووافقت روحية، ثم حملتهما السيارة في طريق الأهرام. . . ومع ذلك لم يتكلما أيضاً!! أليسا هما الآن في طريق خوفو؟ وهل تكلم خوفو من يوم أن دفن في حصنه المشيد!!).

وانتحيا من الناس ناحية، وصعدا فوق الصف الرابع أو الخامس من حجارة الهرم الأكبر مما يواجه الضوء الفضي المنبعث من القمر. . .

يا للياليك الساحرة المقمرة يا مصر! الصحراء الأبدية تتواثب في اللانهاية، تتسمع شكوى الفتاة المعذبة التي فقدت حبها وشقيت بزوجها؛ وأبو الهول الرهيب الصامت يرهف سمعيه

ص: 74

هو الآخر؛ ومائة فرعون عظيم سيسمعون قضية الحب والشباب والزواج، والنسيم الشمالي سيمهد للعتاب البريء. . . والقبل! وحب اللحم سيغدو شبحاً بعيداً قاصياً، ويحل محله حب مأواه الروح ومصدره القلب ومطهره العين وموسيقاه الكلمة الطيبة، والتمتمة الحلوة، والعبارة التي تخنقها العبرة، والآهة العميقة الحارة يرسلها الفؤاد الملتاع الحزين! وستكون القبلة ترجمان هذا الحب القديم الذي أتاحت له المصادفة أن يحيا حياة ثانية موفورة، وسيغار القمر المطل من لازورد السماء المصرية من كل قبلة يطبعها صلاح على جبين روحية. . . ذلك لأن القمر يحب؛ ألست تراه ممتقعاً مسهداً ولهاناً؟!

- (روحية!. . .).

- (. . .؟. . .).

- (لعلك سعدت بهذا الزواج الغني الموفق؟).

- (سعادة لا نهائية يا صلاح. . . مثل هذه الصحراء. . . هه. . .)

- (والسعادة اللانهائية التي تكون كالصحراء، تكون كيف!).

- (تكون غامضة مشحونة بالأسرار. . . ألغاز! ألغاز يا صلاح! أتعرف الألغاز؟).

- (إذن، أنت سعيدة، لأن السعادة الغامضة أروع ألوان السعادات!).

- (هه! متى صرت فيلسوفاً يا صلاح أفندي؟).

- (منذ افترقنا هذا الفراق الذي حطم. . .).

- (حطم. . . حطم ماذا؟).

- (حطم أماني، وهدم قلبي. . .).

- (خير لي ولك ألا نفتح كتاب الماضي!).

- (بل سنقرأه صفحة فصفحة!).

- (صلاح!).

- (ماذا؟).

- أتحب أن نزور معبد أبي الهول الساعة؟).

- (لماذا؟ ماذا نصنع هناك؟).

- (نتحنَّث! نتعلم الصمت فلا نتكلم في هذه المسألة!).

ص: 75

- (إذن لن نذهب، بل سنبقى هنا! وسأكلمك في زوجك؟ هل أنت سعيدة به حقاً؟).

- (قلت لك سعيدة! سعيدة جداً، إنه يحبني. . بل يعبدني! لقد كان يأكلني منذ أسبوعين!!).

- (يأكلك؟).

- (أي والله! ألست حلوة جداً؟).

- (الوحش!).

- (لا، لا تسب زوجي!).

- (بل أنت شقية به. . . قلبي يحدثني! أنت تكرهينه؟).

- (صلاح!).

- (أنت تكرهينه جداً!).

- (إذن من عسى أن أحب؟).

- (تحبين. . .! تحبين فتى غيره! الحب لا يشترى بذهب الأغنياء! الحب لا يشترى بذهب الأغنياء! الحب تصنعه الأعين وتزرعه في القلوب، بذرة من الطهارة يرويها نبع من الإخلاص!).

- (ومن يا ترى يكون هذا الفتى إذا كان؟).

- (من يكون! يكون الفتى الذي عرفك وتغلغل في كل جوانحك).

- (الفتى الذي عرفني وتغلغل في كل جوانحي لم يخلق بعد!. . .).

- (روحية!).

- (أؤكد لك!).

- (روحية؟ أنت تقتلينني!).

- (آه! أهو أنت هذا الفتى إذن؟).

- (روحية! أنا هو. . . أنا صلاح. . . هل نسيت؟).

- (. . .؟. . .).

- (إلى متى تفترق أجسامنا وقلوبنا متحدة متآلفة يا روحية؟).

- (. . .؟. . .).

- (تكلمي! غير معقول أن تكوني نسيتِ! يجب أن نلتمس مخرجاً. . .).

ص: 76

- (كفى!. . . صلاح! أسكت!).

- (لا! بل أتكلم! لن يخدعني لسانك! إني مطمئن إلى قلبك، إنه ينبض لي كما كان ينبض قبل زواجك. . . بل هو الآن يخفق خفقاناً شديداً، إنه يدعوني ويعطف علي. . . إنه يُفضّلني. . . ولكنك تعاندين. . . ارحميني يا روحية. . . لن أدعك تفلتين هذه المرة ولو ربطتك السماء نفسها بسلاسل ذهبية! أنت لي، أنت لي دون هذا الحيوان الذي انتزعك مني، أنا أعرف هذا أنا أعرف ما بينكما من بغضاء! أعرفه كله! ثقي أنه لن ينتهي عما نهيته عنه! البهيم! الوحش الذي يعذبك ويضنيك! سيصير فقيراً معوزاً عما قريب! لقد بدأ يبيع (أطيانه) ويرهن ما لم يبع! وجسمه سيتهدم، وقد يجرفك سيل خرابه؟ روحية! كبرياؤك تذيب قلبي وتصهره! صديقتك أمينة! لقد ذكرت لي كل شيء. . . أ. . .

- (أمينة!

- (أجل. . . أمينة أعز صديقاتك. . . الأفعى! اتركيه لها! سيقصم ظهرها أو تقصم ظهره قريبا. . . لقد سقطا يا روحية فاطمئني.

- (حسبك يا صلاح. . . كفى. . كفى. .

- (لا. . . ليس حسبي. . . ينبغي أن ننتهي!

- (ننتهي كيف!

- بأن تكوني لي. . .

- (أكون لك. . . وهل تقبل! أنا؟

- (أقبل؟ أنا أرجوك وأضرع إليك. . . لا حياة لي بدونك يا روحية!

وصمتا ساعةً، وكانت دموع نحيلة تسقي حبهما الذي انتعش بكل ما كان له من قوة وحياة، وكان الليل المصري الجميل يرثى لهما فيهب نسيمه عليلاً رخياً كأنفاس العذارى، وكان صلاح قد حمل رأس حبيبته على صدره الرحيب وراح يقبله ويربت عليه بأصابعه المرتجفة. . . وكانت أصابعه المرتجفة تنسى فتمر بكل ما فيها من حب وبراءة على الذقن وفوق الخدين. . . ثم. . . ثم انحنى صلاح يتشمم بفمه المرتعش فم ملاكه الغارّ في أحلامه فوق صدره. فاضطربت روحية، وانتفضت انتفاضة هائلة، وهبت من آلامها مذعورة، وتمتمت:(صلاح! لا يصح! أنا زوجة. . . لا أخونه حتى أرى!).

ص: 77

وكانت الساعة الواحدة! وقد سافرت آخر قاطرة من قاطرات الترام إلى القاهرة منذ بعيد! ولم يبق في الجهة سيارة تحملهما إلى هناك! فهل يقطعان الطريق على الأقدام؟ هذا أمر شاق. . .

- (لا تنزعجا! سأوصلكما في سيارتي!!

من هذا؟ من صاحب هذا الصوت! يا للهول؟ إنه بيومي، خرج الساعة فقط من فندق ميناهاوس!! إنه يترنح من السكر وهو لا يكاد يعي! وأمينة! أمينة معه أيضاً في تلك الساعة المتأخرة من الليل! ماذا كنا يصنعان هنالك؟

(أوه؟ أنت روحية؟ ومن هذا؟ آه! أحد عشاقك! ترى! أين كان يتمتع بك الليلة؟ هه؟ هناك! في حرم الفراعنة ولكن، اركبا، اركب، ليس الآن!. . .).

وصعد الدم يغلي في رأس صلاح، وأوشك أن ينقض على غريمه الوقح فيضغط على عنقه ليذيقه وبال أمره لولا أن نحته روحية وأشارت عليه بركوب السيارة. . . وحينئذ، فكر قليلاً وتقدم إلى مكان السائق. وجلست روحية إلى جانبه، وجلس بيومي وأمينة في الخلف، وانطلق صلاح ينهب الطريق الهادئ، وبرزت الأجيال القديمة كلها من تحت الرمال تنظر إلى أبطال القمة المؤلمة. . . الزوج الخائن. . . ولصديقة الخائنة. . . والمحب الهائج. . . والزوجة الثائرة. . .

وجعل صلاح يفكر. . . وأيقن أن الخمر قد سيطرت على دماغ خصمه. . . فهل يستطيع أن يجعلها من جنوده ضده؟! سيرى. . .

واقتربت السيارة من الجيزة. . . وبدا النيل يصطخب من بعد. . . وأزبد عبابه وجرجرت أواذيه. . . وأوقف صلاح السيارة على بعد مائة متر نحوها من النهر العظيم، ثم نزل منها وأشار إلى روحية فأطاعته ونزلت هي الأخرى. . . وهي لا تدري لماذا نزلا، وحملق صلاح في غريمه فوجده يخاصر أمينة وقد غلبهما النعاس والسكر فناما نوماً عميقاً. . .

- (بيومي أفندي! بيومي أفندي! استيقظ! هلم أنت فسق سيارتك، أنا ماض إلى بعض شؤوني في الجيزة!).

وشخر بيومي شخيراً مفزعاً بأنفه الغليظ، ونهض من مكانه متثائباً ليجلس مكان السائق وهو لا يعي من أمره ولا من أمر سيارته شيئاً. . . ثم أدار العجلة دورة آلية فانطلقت

ص: 78

السيارة تطوي الطريق في خط مستقيم إلى. . . النيل. . . النيل الزاخر الأبدي!).

- (حرام عليك يا صلاح. . .).

- (أسكتي! لقد أنقذتك!).

- وَيْ! اسمع! لقد انقذفت السيارة في الماء).

- (بمن فيها طبعاً. . .).

- (يا للقوة!).

- (روحية، هلمي من هنا. . . من هذا الطريق).

دريني خشبة

(الرسالة) إن الحل في هذه الأقصوصة الجميلة لا يرضي

الخلق الجميل

ص: 79

‌البريد الأدَبيّ

الخطر على تراث الإسلام في أسبانيا

قرأنا في أخبار الحرب الأهلية الأسبانية غير مرة أن القنابل ألقيت على غرناطة وقرطبة ومالقة. ونحن نعرف أن الأندلس تقع منذ بدء الحرب الأهلية في يد القوات الثائرة وأن حكومة مدريد تحاول تطويقها من البر والبحر، وترسل قواتها الجوية لضرب قواعدها بالقنابل من آن لآخر؛ وقد كانت غرناطة وقرطبة في الآونة الأخيرة هدفاً لتلك الهجمات الجوية؛ وقد قرأنا في روعة وجزع أن القنابل أصابت قصر الحمراء وأتلفت بعض نواحيه؛ فإذا صح هذا الخبر كنا أمام حادث بربري، وأمام كارثة حقيقية تنزل بتراث العرب والإسلام في أسبانيا. إن قوانين الحرب في كل عصر ودولة تنص على احترام الذخائر الأثرية، مهما كان في خطورة المعارك الأهلية الدائرة في أسبانيا وروعتها فإن الإقدام على تخريب المعاهد الأثرية سواء من هذا الفريق أو ذاك يعتبر عملاً بربرياً لا تبرره أية غاية. وقد منيت الآثار الإسلامية في أسبانيا بسبب التعصب والإهمال خلال القرون بكثير من التلف، فتركت كنوز المحفوظات العربية في الأسكوريال لتلتهمها النيران، وأضحت لا تجاوز ألفاً وثمانمائة بعد أن كانت حتى القرن السابع عشر تربي على عشرة آلاف؛ وحولت معظم المساجد الإسلامية الجامعة وفي مقدمتها مسجد قرطبة إلى كنائس وشوهت بذلك معالمها وخواصها الفنية؛ وهدم قسم من قصر الحمراء ليبنى مكانه قصر صيفي للإمبراطور شارلكان؛ ولم تبق يد التعصب والجهل إلا على بقية ضئيلة من النقوش واللوحات الأثرية. وهذه البقية الباقية من تراث الإسلام والعرب في مدريد وغرناطة وقرطبة ومالقة تعرض اليوم للتخريب والفناء الأخير. وليس بعيداً أن نقرأ اليوم أو غداً أن قنابل الثوار سقطت على قصر الأسكوريال وأحرقته بما فيه من المخطوطات العربية، أو أن قنابل القوات الحكومية ألقيت من جديد على قرطبة فهدمت مسجدها الجامع، أو على غرناطة فهدمت قصر الحمراء؛ ذلك أن الحرب الأهلية الأسبانية تدور بلا شفقة ولا رحمة لا بالناس ولا بالأشياء. وإنه ليحسن في مثل هذه الظروف الدقيقة أن ترفع الحكومات والهيئات الإسلامية صوتها للمطالبة باحترام التراث الإسلامي في أسبانيا وحمايته من الغارات الخطرة؛ فحق الأمم الإسلامية كلها متعلق بهذا التراث، وفي اعتقادنا

ص: 80

أن مثل هذه الخطوة إذا اتخذت يكون لها أثرها.

مدام جوليت آدم

توفيت مدام جوليت آدم الكاتبة الفرنسية الشهيرة وعميدة كتّاب فرنسا من حيث السن. وكانت وفاتها في قصرها في كانيول من أعمال مقاطعة الفار حيث اعتكفت منذ أعوام طويلة تعيش في عزلة مطلقة. وقد بلغت مدام آدم المائة عام تقريباً، وكان مولدها في فريري من أعمال (الواز) في أكتوبر سنة 1836؛ وكان زوجها أدمون آدم مديراً لشرطة باريس، ثم استقال من منصبه على أثر حادثة فرار هنري روشفور من سجنه في كاليدونيا الجديدة؛ ثم انتخب عضواً في مجلس الشيوخ في سنة 1875 وتوفي بعد ذلك بعامين، وكان من رجالات الإمبراطور ومن شخصيات القرن الماضي.

وتبوأت مدام آدم منصة التحرير والكتابة منذ أكثر من ستين عاماً، وتولت تحرير (المجلة الجديدة) في أواخر القرن الماضي، وبرزت بين كتّاب هذا العصر بذلاقتها وروعة أسلوبها، وكتبت عدة كتب وروايات قيمة منها كتاب (حصار باريس) وهو من أشهر الكتب في هذا الموضوع، وفيه تصف مدام آدم ذلك الحصار الشهير الذي شهدته بعينيها؛ ومنها (مذكرات باريزية) وهي مذكرات طريفة تقدم إلينا صوراً شائقة من الحياة الفرنسية في القرن الماضي. ولمدام آدم عشرات أخرى من الروايات والكتب. وكانت مدام آدم تستقبل في بهوها الأدبي أشهر كتاب العصر ورجالاته، وكان من أشهر الأبهاء الأدبية في أواخر القرن الماضي.

ومن مآثر مدام آدم التي يذكرها المصريون بنوع خاص صلتها الروحية بمصطفى كامل زعيم الوطنية المصرية ومراسلتها معه. وكانت مدام آدم من أشد أنصار القضية لمصرية، وكانت تشجع مصطفى كامل بمراسلاته ونصائحها، وتنشر عن القضية المصرية مقالات كثيرة تدعو فيها إلى تأييد مصر في جهادها وإلى إنصافها وتحقيق أمانيها.

وكان ذلك منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وهاهو ذا الزمن يحقق بعد ثلث قرن من صيحة الكاتبة الشهيرة لمصر بعض أمانيها، وتجني مصر بعض ثمار جهاد زعمائها وأبنائها البررة. فليذكر المصريون مدام آدم وأمثالها ممن نادوا بحق مصر في الحياة والحرية، وليقرءوا كتبها ورسائلها القيمة.

ص: 81

معهد (الجتيانوم)

هذا معهد من نوع فريد لا يعرف عنه سوى القليل، ومع ذلك فهو جدير بالتعريف لطرافته. يقوم في وسط الأحراج على رابية عالية، في إحدى القرى السويسرية الجميلة: ذلك هو معهد (الجتيانوم) القائم في ضاحية درناخ على مقربة من مدينة بازل. وقد أتيح لي أن أزور درناخ ومعهدها الفريد في وسط الأحراج والربى العالية، وأن أحيط بشيء من تاريخه وغاياته؛ فهو معهد دولي للعلوم العقلية كان أول عامل لتأسيسه الدكتور رودلف شتينر العلامة النمساوي. وشتينر من أقطاب التربية الحديثة، ولد سنة 1861، ودرس في النمسا وألمانيا، واشتغل منذ حداثته بشؤون التربية، وأبدى براعة خاصة في فهم الوسائل التربوية وتنظيمها، وبذل جهوداً جمة لتحقيق نظرياته الجديدة في التربية، وعمل لإنشاء مدارس جديدة من طراز خاص في بعض المدن الألمانية والنمساوية، واشتهر بمحاضراته في التربية في أوربا وأمريكا. وللدكتور شتينر عدة مؤلفات شهيرة منها:(نظر جيته إلى العالم) وكتاب (الحقيقة والعلم) و (فلسفة الحرية) وكتب أيضاً قصة حياته في كتاب مؤثر. وفي سنة 1923، بدئ تأسيس (الجتيانوم) تحت رعايته وبإرشاده في قرية درناخ، وبني على طراز الملاعب اليونانية القديمة؛ ثم قام بوضع أسسه ونظمه العلمية، وأريدَ به أن يكون معهداً دولياً لترقية العلوم العقلية يجري على نظم الثقافة الحرة دون قيد ولا شرط؛ وأنشئت فيه أقسام للتربية والفنون الموسيقية والطب والعلوم والفلسفة، وغدت درناخ منذ عدة أعوام مركزاً لحركة عقلية دوليةيساهم فيها كثيرون من مختلف أنحاء لأرض. وفي الصيف تلقى في (الجتيانوم) محاضرات دورية من أشهر الأساتذة في مختلف العلوم والفنون التي يعمل المعهد لترقيتها، وقد كانت قرية دورناخ حين زرتها غاصة بالنزلاء الوافدين على المعهد، ومنهم كثير من الإنكليز والأمريكيين.

(ع)

كتابان عن روبسبيير

صدر أخيراً كتابان جديدان عن روبسبيير زعيم المرحلة الأخيرة من الثورة الفرنسية، أحدهما بالألمانية ومؤلفه الأستاذ فريدريش زيبرج، والثاني بالإنكليزية ومؤلفه المؤرخ

ص: 82

الأمريكي جيرارد والتر.

وقد صدرت في مختلف اللغات كتب كثيرة عن الثورة الفرنسية وعن روبسبيير، ولكن شخصية روبسبيير ما فتئت لغزاً على التاريخ؛ فبعض الباحثين يرى أن روبسبيير كانت شخصيته ضعيفة تستتر بمظاهر الورع والتصوف، وتسيرها مثل متواضعة؛ ويرى البعض الآخر أن روبسبيير كان في الواقع شخصية عظيمة، ولكن الظروف والشهوات التي أحاطت بها حالت دون ظهورها بمظهرها الحقيقي.

ويقدم لنا المؤلفان في هذين الكتابين الجديدين صورتين جديدتين لروبسبيير، تختلف إحداهما عن الأخرى من حيث التقدير والتصوير؛ ولكن المؤلفين يتفقان في الأخذ برأي واحد فيما يتعلق بوثائق الثورة الفرنسية عن روبسبيير وحياته، فهما يرفضان الأخذ بما في هذه الوثائق، ويعتقدان أن كثيراً منها قد زيف لأغراض خاصة. ويرى الأستاذ زيبرج بنوع خاص أن المؤرخ لا يستطيع أن يحلل شخصية ما دون أن يشعر نحوها بشيء من العطف؛ ولكنه لا يجد في شخصية روبسبيير ولا في صفاته ما يجذب أو يروق. وفي رأيه أن روبسبيير كان مع ذلك شخصية عظيمة تتمتع بمواهب ممتازة، وأنه من الخطأ مع استبعاد الوثائق الثورية أن نعتبر روبسبيير زعيماً صغيراً من زعماء الطبقة الوسطى لا يمثل سوى أماني طبقته كما يصوره بعض المؤرخين.

وينحو الأستاذ زيبرج في عرض حياة روبسبيير نحواً جديداً معتمداً في آرائه على الوقائع الثابتة والأعمال الشخصية، ويميل إلى الناحية العلمية أكثر مما يميل إلى الناحية الروائية.

أما الأستاذ والتر فيميل نوعاً إلى الناحية الروائية، ويقص علينا حياة روبسبيير الأولى في باريس حيث كان يسكن في غرفة حقيرة مع صديق له في بناء عتيق في شارع سانتونج ما يزال قائماً إلى يومنا؛ ثم يقص علينا قصة اتصاله بأسرة دوبلاي بعد أن غدا زعيماً يشار إليه، وكيف أحب الفتاة إلينور ابنة دوبلاي حباً لم يزهر، بل انتهى في غمرات الحزن والشجن، بعد أن سقطت رأس الزعيم على النطع؛ وكيف أنه يوم حمل على عربة المحكوم عليهم، مرت عربته بمنزل أسرة دوبلاي - أقصداً أو عرضاً؟ - وما كان لذلك من وقع أليم في نفسه.

وفي الكتابين من الجديد ما يغري بقراءتهما.

ص: 83

الأحجار السماوية

ألقى العلامة لاكروا الأخصائي في مباحث الأحجار السماوية أمام أكاديمية العلوم بيانات طريفة عن الأحجار السماوية التي اكتشفها في المدة الأخيرة؛ فقال إنه قد شهد في الصحراء الكبرى أحجاراً كبيرة سوداء تتميز بلونها، وإنه قد وجدت منها قطع تزن نحو خمسة كيلو جرامات. ولاحظ مسيو لاكروا أن مظاهر القطع الساقطة تدل على أنها سقطت حديثاً.

وتحدث مسيو لاكروا عن الحجر السماوي الشهير الذي اكتشف في المغرب الأقصى فقال إنه يقدر طوله بمائة متر، ووزنه بنحو مليون طن، وأنه استطاع أن يعثر منه على شظية صغيرة، وأنه يقدر أن هذا الحجر سيسقط على بعد نحو خمسين كيلومتراً من جنوب غربي شاجوتي على أنه لم توجد حتى اليوم علامات تدل علىسقوطه.

إلى إخواننا في المغرب

يتفضل إخواننا في المغرب على (الرسالة) بمقالات وقصائد لا شك في أنها قيمة؛ ولكن يعسر علينا في الغالب قراءة الخط المغربي فنضطر إلى تأخيرها آسفين. فنرجو أن يكتبوها بالخط المعروف أو بالآلة الكاتبة حتى لا يحرم إخوانهم في سائر الأقطار العربية الاستفادة مما ينتجون.

التنبيهات على أغلاط الرواة

اطلعت (في العدد165 من الرسالة الغراء) على المقالة التي نشرها الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام من كتابه (ذكرى أبي الطيب) وذكر فيها أنه وقف على رسالة اسمها (التنبيهات على مقصور ابن ولاد النحوي). ولم يذكر لنا الأستاذ الدكتور اسم مؤلف هذه الرسالة مما يدل على أنها عنده غفل من ذلك. ولما كان مؤلفها من كبار اللغويين من علماء الأدب، رأيت من الواجب الاستدراك ببيان اسمه وهو (أبو القاسم علي بن حمزة البصري) ترجم له ياقوت والسيوطي وغيرهما.

والرسالة هذه قسم من كتابه الممتع (التنبيهات على أغلاط الرواة) الذي جمع فيه التنبيه على ما في نوادر أبي زياد الكلابي، والتنبيه على ما في نوادر أبي عمرو الشيباني، والتنبيه على ما في كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري، والتنبيه على ما في الكامل للمبرد،

ص: 84

والتنبيه على ما في الفصيح لثعلب، والتنبيه على ما في الغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام، والتنبيه على ما في إصلاح المنطق لابن السكيت، والتنبيه على ما في المقصور والممدود لابن ولاد.

من قراء الرسالة

للحقيقة والتاريخ

قال دولة حقي بك العظيم (رئيس مجلس الوزراء الأسبق في سورية) في الرسالة (165) أن في قصتي (النهاية) غلطاً تاريخياً لأني قلت أن ناظم باشا (والي دمشق) زارها فقيراً محتاجاً، وخرج منها يائساً منكراً؛ وناظم باشا قد زار دمشق مكرماً، وخرج منها مودعاً معظماً. وكان ذلك في عهد حاكمية دولة الرئيس.

وقد كان دولة حاكم دمشق في بدء عهد الاحتلال، فلا تكون الزيارة التي يتحدث عنها دولته هي التي تحدثت عنها في قصتي، وإنما هي زيارة أخرى، لأن حوادث القصة وقعت سنة 1929 كما قلت في أول سطر منها، وكان هو حاكم دمشق قبل ذلك بسنين طويلة؛ وعلى ذلك لا يكون في قصتي خطأ، لأن ناظم باشا جاء دمشق آخر مرة في سنة 1929، وكانت حاله قريباً بما قلت في القصة، ولا يكون في كلام دولة الرئيس تصحيح للقصة. هذا ولدولته ولحضرة الكاتب شكري واحترامي.

علي الطنطاوي

ص: 85