الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 167
- بتاريخ: 14 - 09 - 1936
بعد المعاهدة
من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
للدكتور عبد الوهاب عزام
يروي بعض الصوفية أن الرسول صلوات الله عليه وسلامه كان إذا قفل من غزاة قال: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)؛ ويقولون إن الجهاد الأصغر قتال الأعداء وخوض المعامع وقراع المنايا، والجهاد الأكبر تقويم النفس وتطهيرها وإعدادها للرقابة على أعمالها والقيام بالعدل فيما بينها وبين الناس، ثم مجاهدة الأنفس الأخرى بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالرغبة والرهبة واللين والشدة، حتى تستقيم على السنن القويم، وتحتمل كل ما يحمّلها الواجب، وتأخذ كل ما يعطيها الحق؛ وحتى يجتمع الناس على شَرع لا تفرّقهم الأهواء، ولا تثور بينهم البغضاء؛ ثم النظر بعد هذا فيما يصلح الجماعة ويسعدها في معايشها.
صدق هؤلاء القائلون، فحرب العدوّ جهاد بّين لا تقعد عنه الأنفس العزيزة ولا تختلف فيه الكلمة؛ تدعو إليه العزة والكبرياء، والذود عن الأنفس والحرمات، ويصمد فيه المجاهد إلى عدو مرئي في معترك محدود. ولكن جهاد النفس، وإصلاح الجماعة وإسعادها، خفّي المسالك غامض الجوانب، تعترك به في النفس الواحدة منازع مختلفة، وتفترق بالجماعة أهواء متشاكسة، ويطول فيه المدى، وتمتحن العقول والعزائم.
فإن تكن الأمة المصرية قد مشت في عزتها إلى غايتها أو أشرفت على الغاية، إن تكن قد بلغت بالإباء والكبرياء والدأب والصبر ما أمّلت أو بعض ما أمّلت، إن تكن فرغت من الثورة والعداء إلى السلم والمودة، فإنما قفلت من جهادها الأصغر إلى جهادها الأكبر - الجهاد الذي ينظر في أحوال الأمة ما بطن منها وما ظهر، ليربّيها على الخير والحق، وينشئها على الخلق القويم، ويردّها جماعة صالحة متآخية، تجمعها المودّة ويعدل بينها الإنصاف، تلقى الخير والشر بقلوب موحدة وعزائم مجتمعة وآراء متناصرة - الجهاد الذي يعني بالجهلاء فيعلمهم، وبالمرضى فيأسوهم، وبالبائسين من الزراع والصناع فيأخذ بأيديهم إلى العيشة الراضية، ويقارب بين طبقات الأمة حتى يجمع شملها الخيرُ العام والمصلحة الشاملة - الجهاد الذي يهيئ للأمة وُلاة ينشرون السلام والأمان، ويقومون بين الناس
بالقسط في كل كبيرة وصغيرة، حتى تعمّ النصَفةُ القويَّ والضعيف، والنصير والمخالف، والمحبّ والمبغض؛ وتقوم للأمة حكومة يحمل كل واحد فيها قانوناً في الخلق، يكفل ألا يحيد قيد شعرة عن القانون الذي في الورق؛ ويتنزّل فيها المثل الصالح من الرؤساء إلى من دونهم حتى يشعر كل عامل أنه يتلقى العدل من فوقه يوحيه إلى من دونه، وأنه حين يعدل لا يتبرع ولا يمن على أحد، وإنما هو الحق والواجب لا محيد عنهما ولا مفر منهما، ولا يسع الأمر غيرهما؛ وحتى لا يُقضي في أمر إلا بما يقضي به عمر بن الخطاب لو عرض هذا الأمر عليه، لا محاباة ولا حيف ولا هوادة؛ القويّ ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له؛ وحتى يكون العامل الصغير في أقصى الأرض نائلاً آمناً عليه، كالحاكم الكبير في دواوين القاهرة؛ وحتى ييأس أكبر الموظفين وأقرب المقّربين من المحاباة يأس أصغرهم وأبعدهم. لكلٍّ حقه، وعلى كل واجبه، وفوق الناس جميعاً قانون الأمة وعدل الله - الجهاد الأكبر الذي يذهب بهذه المساوئ البادية في أنفسنا وأجسامنا وأزيائنا وطرقنا وأنديتنا ودواويننا ودورنا، والذي يأخذ الأمة بيد رحيمة حازمة لتوفي به على النجاة غير مبالية بصيحات المرضى الذين يكرهون الدواء، والمفسدين الذين ينفرون من الإصلاح الخ الخ.
لست أقول إن أمتنا ابتليت بالشر والفساد من بين الأمم، ولكنني أريد لها أن تكون (خير أمة أخرجت للناس) وأن تصير مضرب المثل بين الأمم في أخلاق أفرادها، ونظم جماعاتها، وسعادة أولادها.
سيقول الضعفاء: هذا مطلب عسير! وأنا أقول إنما تَطمح عزائمنا إلى المطالب العسيرة، وإنما يكافئ هممنا لمقاصد البعيدة. وسيقول الذين في قلوبهم زيغ: هذا هذيان! وينسون أن هذا الهذيان تنطق به القوانين كلها. فإن لم يكن عملنا مصدقا قوانيننا فما جدوى هذه القوانين؟. ليس في الأمر عسر، وليس في الأمر هذيان، ولكنه حق يسير إذا برئت النفوس من يأسها، وخرست الألسن عن هذيانها؛ وحسبنا أن يقوم على رأس الأمة (عُمر) واحد يضرب المثل ولا يتهاون في إنفاذه فإذا الناس كلهم رغبةً ورهبة يقتدون به، ويحاول كل منهم أن يجعل نفسه عُمَر آخر. إن نفوس هذه الأمة معمورة بالخير، وإنما أضرّ بنا أن رفعت في كنف العدو رايات للشر انحاز إليها كل شرير، وأشفق منها كل خير فازداد
المسيئون إساءة، وضعفت نوازع الإحسان في نفوس المحسنين. فاليوم نريد أن تُرفع في هذا البلد للخير رايات، ويُهاب بما في الأمة من أخلاق ليزداد المحسن إحساناً، ويكف المسيء عن إساءته، فإذا الناس أعوان على الخير أنصار له، فرحون به مغتبطون سعداء.
ذلكم الجهاد الأكبر تضطلع به هذه الأمة الكريمة، وتقودها إليه حكومتها الرشيدة مؤيدة موفقة مسددة إن شاء الله.
عبد الوهاب عزام
القطط
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
القط حيوان مغرور؛ وله العذر يا أخي والله. . ولو أن أمة من الأمم بدا لها في عصر من العصور أن تعبد أجدادي أو أن تعتقد أن روح الله حالة في أجسادهم لكنت حقيقاً أن أزهي وأتكبر وأتغطرس وأرفع رأسي حين أكلم الناس، وأزم بأنفي وأتبجح عليهم بما ليس عندي، وأتمدح بما ليس في، وأكون على العموم - وباختصار - نفاجاً فياشاً إذا كنت تفهم ما أعني.
ولست أتخذ القطط ولا أحبها أو أطيقها، لأن آبائي لم يكونوا ممن عبدوها أو آمنوا بحلول روح الله فيها وإن كانوا قد عبدوا في جاهليتهم ما هو أحط منها في مراتب الحياة - الأصنام والحجارة - ولكنك تكفر بالحجر فتكسره وتفرغ من أمره. أما القطط فتفيء في أمرها إلى الرشد ولكنها هي لا ترشد أبداً ولا يفارقها الغرور العظيم الذي داخلها مذ رأت نفسها معززة مكرمة - بل معبودة - بلا موجب، فالبلاء لهذا مقيم والمصيبة خالدة والعياذ بالله.
ومن غرور القط أنه لا يستأنس أبداً - يسكن بيتك ويأكل طعامك برضاك أو على الرغم منك، ومع ذلك لا يكون معك إلا على حرف. . . تمسح له شعره فيثني أرجله تحته ويرخي جفنيه ويروح يزوم أو (يقرأ) كما يقول العوام فكأنك تستلم حجراً مقدساً من فرط ما يكون من انصراف هذا الحيوان المتكبر عنك، وتدغدغه فلا يعني بأن ينظر إليك ليرى من أنت - أغريب أم صاحبه الذي يطعمه ويؤويه - بل ينحي عليك بأظافر يده وبفمه في آن معاً. وتقدم له اللقمة من الخبز فينظر إليها شزراً ويعرض عنها محتقراً لها ويحول رأسه عنك بكبر دونه كل كبر وتَرفع لا يطاق حتى لكأنك تلغو في حضرة البابا. . فإذا كان ما تعرضه عليه لحماً أو سمكاً أهوى عليه بأسنانه وهو معبس متجهم وانتزعه منك كأنما أنت تدنسه بلمسه أو حمله. ولا يكون معك أبداً إلا متحرزاً متوثباً متوقعاً منك الغدر ومتهيئاً لمباغتتك بالخيانة، وليس أطغى منه ولا أغلظ كبدا. وما أظن بالقارئ إلا أنه رأى ما يصنع القط بالفأر وكيف يمسكه بين يديه حتى يكاد يميته من الفزع ثم يطلقه عنه فيقف الفأر المسكين جامداً لا يتحرك ولا يكاد يصدق أنه حر وأن في وسعه أن يذهب ويجري. والقط
ساكت لا يمد إليه يداً ولا يبرز مخلباً فيطمئن الفأر ويشرع في الهرب وهو يتلفت حتى إذا وثق أنه آمن وثب عليه القط وهو يضحك في سره وغرس في جنبيه مخالبه وراح يشكه بها شكاً يكون خفيفاً تارة وثقيلاً أخرى ثم يكف عنه مرة أخرى - وعينه عليه - ويكتفي بأن يربض ويتربص له وأن يلاحظه وهو يتلوى من الألم. ويدرك الفأر أن الشك قد انقطع وإن كن حر ما لقي منه لا يزال شديداً فيتشهد ويقول (يا حفيظ. . أعوذ بالله. . على وجه من أصبحت في يومي المنحوس هذا يا ترى. . . على كل حال الحمد لله. . قدر ولطف. . وترى أين ذهب هذا الوحش الضاري. . يا حفيظ. . يا حفيظ. . اللهم استرنا. . . المهم الآن أن أذهب إلى جحري فإنه على ضيقه خير ألف مرة من ميدان هذه الغرفة التي لا آمن أن يثب علي فيها قط آخر. . والعياذ بالله) ويتوكل المسكين على الله ويقول (هيه. . يا معين ويروح يجر رجلاً بعد رجل؛ وذيله مسحوب وراءه على الأرض؛ ولا تبقى له قدرة على التلفت من فرط الإعياء ومن كثرة ما نزف منه من الدم القاني فيمضي إلى الجحر وهو لا ينظر لا إلى اليمين ولا إلى الشمال ولا قدامه ولا خلفه؛ حتى إذا قارب الجحر وانتعشت نفسه قليلاً وعظم أمله في النجاة والسلامة وطول العمر وهم بوثبة أخيرة إلى حيث لا تدركه القطط ولا تستطيع أن تتبعه، إذا بالقط المتربص على ظهره، ومخالبه في لحمه الطري، فيدرك الفأر اليأس ويستسلم ويقول في سره وهو يؤكل عسى الله أن يعوضني يوم النشور داراً أخرى لا قطط فيها. . ويلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يحلم بجنة الفئران.
والقطط تولد عمياء مطبقة الأجفان فيدركنا العطف عليها وترق قلوبنا لها فنعني بها ونتعهدها ونسقيها اللبن الذي هو لطعامنا، ونبرها ونسرها سنة بعد سنة، ونفرح بها ونعجب بمنظرها ونباهي الجيران، ثم يتفق أن نخرج يوماً وأن نوصد الأبواب ونحن لا ندري أن القط في إحدى الغرف ونغيب شيئاً ثم نعود إلى البيت ويدخل أحدنا حجرة النوم ليخلع ثيابه فيغلق الباب وراءه كعادته وإذا بالقط على السرير يتحفز للوثوب عليه وتمزيق لحمه - ما في ذلك شك - فكأنه ليس أمام قط صغير وإنما هو أمام نمر مفترس فيضطرب الرجل وتتخلخل ركبتاه ولا يعود يعرف أين الباب، والقط يموء بل يعوي ويتوثب كالمجنون وقد نسى كل ما كان من سابق النعمة ولم يبق له هم إلا الخروج من الغرفة أو
افتراس هذا الذي دخلها عليه وإن كان سيده وصاحب الفضل عليه.
وقد لقيت من قطط الجيران الأمرين فما أحب القطط كما أسلفت. وما أكثر ما يحدث أن أنسى نافذة مفتوحة أو باباً موارباً فيدخل القط ويمضي إلى أواني الطعام ويكشف عنها الغطاء - أي والله ولو كانت من النحاس الثقيل - ويلتهم كل ما بقى. . . . وقد كان لي جيران ما رأيتهم قط ينامون إلا بعد أن يغلقوا الأبواب والنوافذ جميعاً. وكنت أضحك إذ أسمع رب بيتهم يصيح في الليل - والصوت في الليل يسري - (يا حنيفة. . هل أغلقت باب المطبخ؟) فتصيح حنيفة من مرقدها والنوم يغالبها: (أيوه يا سيدي. . .) فلا يقتنع ويخشى أن يكون الكسل قد أغراها بالكذب فيقول (يحسن أن تقومي وتستوثقي) وبعد قليل أسمعه يؤنبها ويقول لها (ألم أقل لك. . هذه النافذة لم تكن محكمة الإيصاد. . . وهذا الباب. . . انظري. . . لو دفعه إنسان بيده لانفتح) فتحلف أنها أوصدت كل الأبواب والنوافذ فيقول (لا يا بنتي. . . دوري قبل النوم على كل الأبواب وكل نافذة وامتحني كل منفذ بيدك لتتحققي) وكنت أعجب لهذا المتفزع وأسأل نفسي عما يخيفه وهو في عمارة لها بواب لا ينام إلا بعد أن يدخل كل السكان ثم يغلق بابها بالمفتاح ويضعه - أعني المفتاح لا الباب - في جيبه. فإذا تأخر أحد السكان احتاج أن يدق ويقرع الباب. . ثم زال عجبي لما بلوت قطط الجيران. . وأيقنت أنه لا يخاف اللصوص وإنما يخاف القطط. . وله العذر.
والعامة تعتقد أن للقط سبع أرواح وما أظنهم إلا صدقوا، ومن كان يشك في ذلك فليتأمل كيف يسقط القط من فوق السطح العالي فلا يزيد على أن ينظر يمنة ويسرة - فأن في القطط تحرزاً شديداً - ثم ينهض ويمضي كأنما كان قد انحدر على بساط كهربائي. وتضربه بالحجر فلا يهيضه بل يرتد عنه. وهو مثال الفردية الصارخة والأثرة المجسدة. وما رأيت قطتين اتفقتا قط، وما اجتمع قطان في مكان إلا تحفزاً للقتال فترى كلا منهما قد رفع ذيله وقوس ظهره وراح يجس الآخر بعينه وهو يزوم ويقول:(واوووووووو) ويدور حوله ليغافله وينشب فيه أظفاره. والقطة هي الدابة الوحيدة التي تأكل صغارها فتأمل ذلك. ومن كان يعرف أن حيواناً مستأنساً آخر يفعل ذلك فليخبرني فإن العلم بهذا ينقصني.
ومن غرور القط أنه يعتقد أن ريقه تريق، فتراه يضطجع على جنبه ويلوي عنقه ويقبل على شعره بلسانه يلحسه ولا يخجل أن يستحم على هذا النحو أمام الناس، بل لعله يباهي
بذلك ويفخر قبحه الله؛ وهو مفطور على الغدر والخيانة فلا أمان له ولا اطمئنان منه لأحد من الخلق ولا لشيء من الأشياء فهو لهذا سيئ الظن، حتى إنك لتراه إذا صار على رف أو لوح من الخشب يخطو كأنما هو يمشي على الجمر فيضع كفاً وينتظر ويخيل إليك من وقفته أنه يختبر المواطئ بكفه ويقدر مبلغ ثباتها وقدرتها على احتمال ثقله. ثم يمد يده الأخرى وينتظر شيئاً زيادة في الاستيثاق ومبالغة في الحذر ولا يجد ما يبعثه على الشك، ومع ذلك يظل يتريث حتى تزهق روحي وأنا أنظر إليه. وإذا رابه شيء رد يده وسحبها من موضعها بسرعة وخفة؛ ولو كان الإنجليز قد خلقوا قبل القطط وسبقوها إلى الدنيا والحياة لقلت إن القطط أخذت ذلك عنهم وقلدتهم فيه فإنهم مثلها يقدمون على الشيء متحرزين، ويخطون خطوة ثم يقفون ينظرون ما يكون، فإذا جرت الأمور على غير ما يحبون أو يتوقعون ارتدوا بخفة وبسرعة وإلا نقلوا رجلاً أخرى وهكذا، فيظهر أنهم هم الذين يتقيلون القطط ويحاكونهم في هذا والله أعلم.
ولم يسرني قط وجود قطة في بيتي إلا مرة واحدة، وكان قطاً ملعوناً لا يزال كلما أوينا إلى مضاجعنا يتسلل - لا أدري من أين - إلى المطبخ ويرفع كل غطاء عن كل وعاء ويقلب كل صحن ويروح يعبث بما في المكان. وليست نقمتي عليه من أجل ما يسرق فقلما يجد شيئاً في المطبخ لأن عادتنا أن نأكل كل شيء ولا نبقي شيئاً قبل أن ننام، فلا تبيت الأوعية والصحون إلا فارغة نظيفة، والحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه. وإنما نقمتي عليه من أجل الضجة المزعجة التي يحدثها والصحون والأطباق التي يكسرها فنهب مذعورين من فرط الضوضاء ونذهب نعدو إلى المطبخ عسى أن ندرك شيئاً قبل أن يتحطم، وإذا بالقط اللعين يثب من الرف حين يرانا إلى النافذة دفعة واحدة. وأقسم أن كنت أغلقت النافذة واستوثقت منها قبل أن أنام كما رأيت جاري يفعل ولكن من يصدق. . وتروح زوجتي تكذبني وتزعم أني لا شك أهملت كعادتي أو أني اكتفيت بأن ألمس النافذة بيدي وباركتها ثم قفلت راجعاً وأنا واثق أنها ستغلق نفسها بقدرة الله ومن غير حاجة إلى معونتي. ونظل في هذا الخلاف السخيف الذي سببه لنا القط إلى الصياح. واتفق يوماً أن دخل علينا قط ضخم بلا استئذان فهممت بطرده إذ حسبنا ما يصيبنا من القطط بالليل، ولكني لمحت قطاً آخر واقفاً بالباب يشاور نفسه، ولم أكد أراه حتى كانت المعركة ناشبة بين القطين، وكانا يدوران
وذيلاهما مرفوعان وكل منهما يتحين الفرصة للوقوع في خصمه، وكانت أصواتهما المنكرة كأنها المسامير في آذاننا ولكنها كانت لهما كموسيقى الحرب على ما يظهر، ثم اشتبكا بعد أو وزن كل منهما صاحبه وأخذت المخالب تطول وتنغرز في أجسامهما والأسنان تساعدها، وكانا يتقلبان على الأرض - أعني على البساط - وهما يتصايحان بصيحات الحرب وأنا واقف من فرط السرور أشجعهما وأستحثهما وأقول للذي أراه يفتر منهما:(عليك به! اغرز مخلبك في عينه. . افقأها له ليعمى ولا يعود يرى النافذة. . برافو. . برافو. . أحسنت! هكذا تكون البطولة وإلا فلا. . أيوه. . أعد. . أعد. . بارك الله فيك. . مزق جلده. . أسلخه. . تمام. . مضبوط. . عضه. . عضه يا أبله. . لا لا لا. . لا تبعد. . عد إليه. . تذكر الدجاجة التي خطفها وحرمني وحرمك لذتها. . . تذكر - إذا كنت لا تعبأ بالدجاج - الفئران الطرية السمينة التي يصيدها كل ليلة ويأكل لحمها الغريض ويشرب دمها القاني. . . أقدم يا شيخ. . . أقدم. . . أو لم تسمع بقول الشاعر الحكيم: (وفاز بالطيبات الفاتك اللهج). . .) وهكذا صرت أهيجهما حتى أوسع كل منهما صاحبه عضاً ونهشاً ولاذ أحدهما بالفرار. . . ووقف الآخر برهة يلحس جراحه، ولكن الغريب أني لم أر دماً يسيل أو يقطر، ولم تأخذ عيني تمزيقاً في جلد أحد القطين على الرغم من عنف القتال. . . فهل كان مزاحاً. . . أو ريقه ترياق كما يدعى؟ ومهما يكن من ذلك فقد استرحت من القطط المتلصصة بعد هذه المعركة ولله الحمد. . . وبقيت الفئران قوانا الله عليها إنه سميع مجيب.
إبراهيم عبد القادر المازني
صور سياحة
ليلة في براتر
بقلم (سائح متجول)
للمدن العظيمة كما للأفراد روح وخواص معنوية تحدث أثرها في النفس؛ وللمدن العظيمة أيضاً ذكريات وتقاليد تنم عن هذه الروح والخواص، ومن خواص مدينة فينا أنها تتمتع بجاذبية مدهشة تنبعث من جميع مظاهرها وحياتها العامة؛ وللعاصمة النمساوية ماض باهر حافل بالذكريات العظيمة، وإذا كانت صروف الحرب والسياسة قد أسبلت على هذا الماضي الباهر سحابة من النسيان فإن المدينة التالدة ما زالت تحتفظ بهذا الروح المرح الجذاب الذي عرفته أيام المجد، في ظل إمبراطورية عظيمة، وفي ظل دولة الفن والموسيقى الزاهرة أيام أن كان يطربها ويشجيها ويبكيها آنا بعد آخر آلهة الفن الرائع: موتسارت وشوبرت ويوهان شتراوس.
وما زالت فينا برغم جميع الأحداث والمحن تفيض بالذكريات الحافلة، وما زال الروح النمساوي يرقرق نحو الماضي ويستوحيه ويستمد من تراثه كثيراً من آيات الظرف والأناقة والسحر؛ والخلق النمساوي يجنح بطبعه إلى الأدب الجم والرقة المتناهية؛ وإنك لن تشعر في أية عاصمة أوربية أخرى بما تشعر به في العاصمة النمساوية من آيات الترحيب وحسن الوفادة ورقة الشمائل والخلال.
ومن ربوع فينا وذكرياتها العزيزة حي (براتر) ومن ذا الذي لم يسمع باسم براتر من زوار العاصمة النمساوية، بل من ذا الذي لم يجذبه ذلك الحي المرح الضاحك الذي كان أيام الإمبراطور مرتع الأمراء والنبلاء، والذي ما زال مرتع الشباب والحداثة من كل الطبقات؟ إن حي براتر يمثل ناحية خاصة من حياة العاصمة النمساوية؛ ومع أنه حدث في روحه ومظاهره، فإنه ما زال من أشد الربوع والمعاهد إعراباً عن روح فينا الحقيقية. وإن أولئك الذين يعرفون كم تعبر أحياء مونمارتر وميجال ومونبارناس عن الحياة الباريسية الشعبية يستطيعون أن يفهموا كم يعبر حي براتر عن ذلك الجانب من حياة العاصمة النمساوية.
وليس حي براتر في الواقع أكثر من مجموعة كبيرة من الألعاب والملاهي الغريبة؛ ولقد عرفت القاهرة في بعض المناسبات شيئاً من هذه الملاهي باسم (لونابرك)، وكان آخرها ما
نظم في الشتاء الماضي أيام المعرض الزراعي؛ ولكن ما نشهده نحن في القاهرة من هذه الألعاب والملاهي ليس إلا جزءاً يسيراً مما يضمه حي براتر من الأندية والمسارح المختلفة التي تعرض فيها أحدث وأغرب الألعاب والمناظر البهلوانية المدهشة التي يطبعها جميعاً طابع المرح والحداثة والدعابة.
وفي براتر يجتمع أخلاط المجتمع من جميع الطبقات؛ ذلك أنه يضم فضلاً عن الملاهي والألعاب الكثيرة، طائفة من المقاهي والمطاعم الأنيقة التي يرتادها زوار الطبقات الرفيعة، ويقصدها المحبون ليعتكفوا في أركانها ومخادعها، ولينهلوا كؤوس الحب بعيداً عن صخب الأندية الحافلة؛ وقد كانت براتر وما تزال مهبط الحب. ولكم كانت في الماضي مسرحاً للحوادث الغرامية الأنيقة بين أبناء الطبقات الرفيعة؛ بل إن اسم براتر ليمثل في مأساة غرامية من أشهر وأروع ما عرف تاريخ الحب: ففي دروب براتر التقى الأرشيدوق رودلف وماري فتشرا في أواخر القرن الماضي؛ وكان الأرشيدوق رودلف ولد الإمبراطور فرنز يوسف وولى عهده يومئذ؛ وكان فتى مضطرم الأهواء يثور على الرسوم والتقاليد الملوكية، ويشغف بالتجوال في أحياء فينا والاغتراف من مسراتها الشعبية، وكان كثيراً ما يرتاد معاهد براتر ويمرح فيها. وكانت ماري فتشرا فتاة رائعة الحسن من أسرة نبيلة، فلمحها الأرشيدوق ذات يوم في براتر وهام بها حباً، وهنالك تفتحت في قلبيهما زهرة الحب. وكان العاشقان يتنزهان أحياناً في طريق براتر السلطانية المعروفة (بالدرب الكبير) وأحياناً يلتقين في مقهى هنالك يعرف (بدار الأنس) وهو ما يزال قائماً في براتر إلى يومنا. ونحن نعرف كيف كانت خاتمة العاشقين المؤسية في قصر مايرلنج في ضواحي فينا، حيث وجد الأمير وماري فتشرا في صباح ذات يوم من سنة 1889 قتيلين برصاص المسدس ولم تعرف أسباب المأساة وظروفها قط، وكل ما قيل يومئذ إن الأمير في نزعة من نزعاته قتل حبيبته ثم انتحر؛ وذاعت يعد ذلك روايات أخرى، بيد أن سر المأساة لم يعرف قط.
وفي هذه الحادثة التاريخية التي اقترنت باسم براتر ما يفسر منزلة براتر ومعاهدة في قلوب المجتمع النمساوي؛ وما زالت ذكريات هذه المأساة الغرامية تغشي أفق براتو، وما زالت ذكريات شهيرة أخرى تمتزج بمعاهد براتر وأنديته ومغانيه؛ وقد كانت هذه الحوادث
والذكريات، وما زالت مستقى لأقلام كثيرة، ومبعثاً لطائفة من القصص الشائق الشجي.
ومن الصعب أن نصف هنا كل ما ينتظم في براتر من المناظر والألعاب المدهشة؛ بيد أنن نعرض هنا بعض ما رأيناه وخبرناه منها، وإن منها لما يترك في النفس أثراً لا يمحى؛ وإذا كان معظم الألعاب والنزه مما قد أعد للأحداث، فإن منها ما تقتضي ممارسته إقداماً وجلداً، ولقد شهدنا ذات مساء لعبة أو نزهة مروعة خطرة معاً. وكنا أربعة من الأخوان، فاقترح علينا صديقنا الدكتور (ق) أن نركب القطار الطائر وصديقنا الدكتور أعرف الناس بفينا وبراتر، وكان منظر هذه القطر الطائرة بريئاً متواضعاً، فهي عبارة عن سيارات صغيرة أعدت لشخص واحد، وركبت على خطوط مكهربة، فركبنا جميعاً، وكان كل ما نصح به (ق) أن نمسك أنفسنا جيداً، وانطلقت القطر الطائرة بسرعة حتى جزنا نفقاً كبيراً مظلماً قد رتب على هيئة الجو والسماء، ونظمت في أفقه نجوم كهربائية، وهنا أخذت القطر الطائرة تسير الهوينا منعطفة حتى لقد تصورنا وشعرنا حقاً أننا نركب طيارة تعالج الرياح في الأفق، ولكن حدثت بعد ذلك مفاجأة مروعة؛ ذلك أن هذه الطيارات الخيالية اندفعت فجأة إلى الضوء بسرعة هائلة لتمثل حالة سقوط الطائرة، وأخذت ترتفع وتهبط في منحدرات متعاقبة بعنف مروع مدى دقيقة أو اثنتين، حتى لقد خيل إلينا غير مرة أن الطائرة ستقذف بنا من حالق، وكانت دورة عنيفة خطرة اقتضت منا أعظم جهد وجلد؛ ثم انطلقنا بعده إلى الضوء، وتمت التجربة الهائلة، ونهضنا بأقدام وأعصاب مزلزلة، وصديقنا الدكتور في القاطرة الأخيرة يحدجنا بخبث ويبسم لما ارتسم على وجوهنا من بوادر الانزعاج والشحوب.
وثمة مشهد آخر في براتر يستحق الوصف هو (دار الأشباح) وهو اسم يطابق المسمى، وهي عبارة عن دار كبيرة تخترقها أروقة مظلمة، ويجوبها المشاهد في عربة صغيرة تنطلق به في ظلام الأروقة، ثم تعترضه خلال التجوال هياكل عظيمة وأشباح مروعة، وأحياناً تلطمه يد رقيقة خفية، أو يرى في الظلام شبحاً يخرج من قبره فجأة ثم يعود بسرعة، أو يمر فوق هيكل عظمي فيرسل صيحة مزعجة، وهكذا يرى عدة من صور الفناء والعالم الأخير خلال وميض النور في الظلماء.
وربما كانت أشهر نُزه براتر وملاهيها نزهة العجلة الكبرى وعجلة براتر تشرف على
فينا منذ نصف قرن أو أكثر، وهي عبارة عن عجلة ضخمة يبلغ قطرها نحو سبعين متراً أو أكثر، وقد ركبت حولها مخادع كبيرة يركبها الرواد، ثم تدور بهم ببطء فترتفع بهم شيئاً فشيئاً، حتى تبلغ المخادع الذروة واحداً بعد الآخر، وعندئذ يشهد الراكب فينا بأنواره الساطعة وأبراجها الشاهقة، ثم تهبط العجلة بعد ذلك حتى يبلغ الراكب مكان النزول، وتستغرق الدورة نحو ربع ساعة. ولهذه العجلة الكبيرة شهرة خاصة بين الشباب، ولها في الحب ذكريات أيضاً، ذلك أن كثيراً من المحبين الذين تضيق بهم سبل اللقيا، يلتمسون مخادع منفردة في العجلة، ثم يقضون هذه الدقائق القليلة في بث لواعج الهوى، وتبادل القبلات الحارة.
وفي براتر يوجد معرض هو أغرب معرض من نوعه يسمى معرض المخلوقات العجيبة وفيه تعرض حقاً طائفة من أغرب المخلوقات البشرية مثل أضخم امرأة في العالم يبلغ وزنها ثلاثمائة كيلو، وأطول وأضخم رجل في العالم هو عملاق يبلغ طوله نحو ثلاثة أمتار، وأصغر مخلوقات بشرية، ونحو ذلك من غرائب المخلوقات والطبيعة.
وهنالك أيضاً في دروب براتر ومناظره والعاب عديدة أخرى يضيق المقام عن وصفها، وقد أعدت جميعاً للأحداث والشباب.
ويهرع لشباب كل مساء إلى براتر، يتفرقون في دروبها وأنديتها وملاهيها، وهي تغص بهم دائماً، وهناك يقضون ساعات في الحبور والمرح، وينسون هموم الحياة الثقيلة، وبؤس العيش والعطلة، لقاء دريهمات قليلة.
لقد كانت براتر وما تزال مرتعاً ومتنفساً للشباب؛ وهنالك بين هذه الدروب المتشعبة والمسارح الساطعة الصافية يجب أن ينسى المرء نفسه برهة، ويرجع إلى عهد الحداثة، ليشهد ويمارس هذه الألعاب الصبيانية التي تنفث رغم طابعها الصبياني كثيراً من روح المرح والدعابة، وهذا ما يفعله أهل فينا جميعاً، وهذا ما يفعله كل أولئك الذين يزورون العاصمة النمساوية، ذلك أن سحر براتر لا يقف عند مسارحها ومناظرها وألعابها، بل إن لبراتر سحراً معنوياً عميقاً يرتبط بماضيها وذكرياتها، وهذا السحر المعنوي يسبغ على اسم براتر نوعاً من الجلل لا تتمتع به عادة أمثال هذه الربوع المرحة الضاحكة؛ وإنما تتمتع به براتر، لأنها استطاعت خلال الأحداث والعواصف أن تحتفظ بماضيها وذكرياتها، وأن تبقى
كما كانت في الماضي مرتع الأنس والمرح والهوى.
وإذا كانت العاصمة النمساوية تفخر وتزهي بمتاحفها ومعاهدها الأثرية، وقصورها ومتنزهاتها البديعة، فإنها تحل براتر بين ربوعها محلاً عزيزاً؛ ذلك لأنها أيضاً أثر الماضي المجيد، ولأنها رمز العهد الضاحك؛ وللمدن العظيمة، كما للأشخاص، شعور يتجه نحو الماضي ويخفق للذكرى.
فلا تنس إن زرت العاصمة النمساوية يوماً أن تزور براتر، ولا تنس بالأخص أن تركب القطار الطائر رغم هوله وروعته، وأن تصعد في العجلة الكبيرة التي تجثم دائماً في قلب براتر زاهية بأنوارها الحمراء والخضراء، ولا تنس أن تزور دار الأشباح ومنزل الأنس، وكل هذه المعاهد والمغاني.
(? ? ?)
مهداة إلى الأستاذ دريني خشبة
من ذكريات زواجي
لأستاذ كبير
فوجئ قراء الرسالة منذ أيام بخبر زواج الأديب لكبير الأستاذ (د). عندما طلع عليهم بأغرودته التي جعل عنوانها (بلبلتي). فوجب على المعجبين بأدبه أن يتقدموا إليه بهدايا العرس، وكاتب هذه الكلمة واحد من هؤلاء المعجبين شعر بهذا الواجب فنهض لتنفيذه على الطريقة التي تتفق مع جهده. فهو يتقدم - على استحياء - بهذه الكلمات. وليسعد النطق إن لم تسعد الحال. . .
أذكر أني بعد أن خطبت زوجتي جلست إلى نفسي وقلت:
(اسمع يا فتى. . . ما أكثر أن تسمع الأزواج يشكون من زوجاتهم، وما أقل أن تجد من هو راض عن حالة زواجه! فهذا يشكو شدة غيرة زوجته عليه حتى إنها لتفتش جيوبه سراً كلما عاد من محل عمله لعلها تجد فيها رسالة تكشف عن سر مستور، أو ورقة تنم عن علاقة غير مشكورة. . .
وهذا يشكو شدة رقابة زوجته عليه حتى أنه لا يكاد يصل إلى مكتبه في محل عمله ساعة الصباح، وتعلم زوجته أن قد انقضت الدقائق العشر التي بين البيت والمكتب حتى تنهض إلى (تلفونها) تطلبه لتتمم عليه خشية أن يكون قد انصرف مبكراً إلى غير عمله. . .
وذلك يشكو من استعداد زوجته المدهش في إثارة الشكوك حول كل ما يعمل حتى ما ينقطع بينهما الجدال والشجار بسبب (سوء التفاهم) الذي تثيره دواما بارتيابها وعدم وثوقها فيه. . .
وذلك يشكو من أنه لا يكاد يقضي ساعة أو بعض ساعة مع إخوانه في جلسة مسائية هنيئة ثم يعود إلى بيته من بعدها راضياً منشرح الصدر حتى يلقى من عنت زوجته وعتابها له على أنه تأخر في هذا المساء عن موعده المعتاد ما يطارد من رأسه كل أثر من نشوة السرور التي أفادها في تلك الجلسة فما تلبث أن تنقلب نشوته إلى ثورة، وانشراحه إلى انقباض. ويبيت مهموماً كئيباً بعد أن كان يمني النفس بليلة سعيدة كلها بشر واغتباط).
استعرضت تلك الصور جميعها أمام عيني وعدت أقول لنفسي:
(هذه يا فتى حال إخوانك ممن سبقوك إلى ما أنت مقبل عليه من هذا الزواج! فماذا أنت صانع؟ وفتاتك ليست إلا واحدة من نساء الله اللائى طبعن على غرار واحد، وصببن في قوالب متشابهة!؟ فأنت وفتاتك بين أن تندمجا في زمرة أولئك التعساء الساخطين الشاكين إذا أنت سرت معها على نهج بقية الأزواج، وبين أن تعيشا عيش السعادة والهناء إذا أنت أغضيت عما هو عيب (جنسها) في الواقع قبل أن يكون عيب شخصها).
وعاهدت نفسي في ذلك اليوم على ألا تثيرني من زوجتي نزعة من تلك النزعات التي رأيتها تعمل على تعكير صفو الأزواج من إخواني ومعارفي، وقضيت قضاء سابقاً لأوانه بأنها حماقة ما بعدها حماقة أن يغضب الإنسان من أمر هو يعرف أنه لا شك حاصل ثم هو يتوقع حدوثه قبل أن يحدث!
وتزوجت. . . . . .
ورأيت أن نقضي شهرنا الأول في رمل الإسكندرية، فسافرنا على أجنحة الطائر الميمون الذي يقول الشعراء إن السعداء من الناس يسافرون عليه، وكنت في زيارتي السابقة القصيرة لثغر الإسكندرية قد عرفت أن بجهة الشاطئ توجد سلسلة من الحدائق البديعة التي تليق بعروسين أن يقضيا بين خمائلها بعض سويعاتهما الوردية اللون، ولكني لم أكن أعلم أين تقع بالضبط تلك الحدائق من محطة الشاطئ، ولم أشأ أن أتأبط ذراع فتاتي وأذهب أتخبط بها وأتسكع حتى أهتدي إلى موقع تلك الحدائق. وكان من عادتي أن أصحبها كل مساء لقضاء الوقت في مغنى من مغاني الثغر وملاهيه، ورأيت في ذلك المساء أن أفاجئها بارتياد تلك الحدائق دون أن أخبرها بوجهتي حين أخرج بها في نزهة المساء لكي تكون الزيارة أمتع لها وأوقع في نفسها. فانتهزت فرصة القيلولة وأنها غلبها النعاس وتسللت أنا من الفراش فوضعت ملابسي في عجلة وتلصص وخرجت من المنزل في هدوء وحذر أطير إلى جهة الشاطئ لأرى كيف يكون وصولنا إلى تلك الحدائق، وأي مواقف الترام أقرب إليها، وأي مداخلها أمتع منظراً، وأي طرقاتها أشهى مسلكاً، وأي أركانها أهنأ جلسة وأنعم مقاماً.
ووفقني الله في مهمتي فلم أغب عن منزلي أكثر من ساعة عدت بعدها وأنا أكاد أطير بجناحين لألقى عروسي فأحتملها إلى هذه المفاجأة السارة التي خبأتها لها. . . . . .
ودخلت الغرفة عليها، فوجدت وجهاً مربداً، ونظرات شزراء، وعينين حمراوين فيهما أثر الدموع ووقدة الشر. وأشهد لقد كانت مفاجأتها التي أعدتها هي لي أقوى ألف مرة من تلك المفاجأة الفاترة التي كنت جهدت في أن أعدها لها. . . . . .
- كفى الله الشر! مالك؟
-!؟
- خير إن شاء الله؟
-!؟
- هل حضر أحد بعد خروجي أو حدث حادث؟
-!؟
- تكلمي يا (ستي!).
-!؟
وأخيراً وبعد مناورات أعفي القارئ من سردها تبينت جلية الأمر فإذا هي غضبى لأني خرجت: أولاً - بغير علمها. . . . وثانياً - إلى مكان لا تعرفه هي. . . . وثالثاً - لأن هذا الخروج حدث في وقت لم يخلقه الله لخروج الرجل البريء. . . ورابعاً - لأني تغفلتها وهي نائمة وأتيت كل هذه الآثام؛ كل ذلك ولما ينقض على زواجنا أسبوع! أفلم يكن من الأليق تصفية هذه (الرنديفوهات) قبل الزواج؟ أم هي مقابلة عارضة حصلت في الصباح فتم ترتيب الموعد ليكون في هذا الوقت من المساء؟ وهل يليق. . .؟ وهل يجوز. . .؟ وهل يصح. . .؟ وما إلى ذلك من طوفان الأسئلة التي ليس أسهل من توجيهها بصرامة مدهشة عند النساء وليس أسهل من الغرق فيها باستسلام غريب عند الرجال!
يا سبحان الله! أبهذه البساطة تنعكس الآمال؟ وهل يمكن أن يغمر الإنسان كل هذا الخير فلا يلقى إلا كل هذا الشر؟! وماذا يكون من أمر زوجتي إذا أنا هفوت حقيقة كما قد يهفو الإنسان ما دام أنه ليس بمبرأ ولا معصوم!؟ وما فضل الحب إذا لم تكن دولة الحلم فيه غالبة على دولة الجهل، وساحة الغفران فيه أرحب من ساحة القصاص!؟
منذ ذلك اليوم بدأت أشعر بصعوبة قيامي بتعهداتي التي كنت عاهدت نفسي عليها من الاحتفاظ بهدوء الجو في بيتي وبصفاء العلاقات التي تقوم فيه. وأدركت أن الزوج مهما
سعى لرفع مستوى حياته الزوجية إلى درجة مناسبة من السعادة فإنه لن يوفق إلى شيء من ذلك ما دام مبدأ الزوجة هو أن تتهم زوجها قبل أن تستمع إليه، وتحكم عليه قبل أن تحاكمه! وعرفت أن الزواج الموفق هو الذي يجمع بين (صديقين) يتحابان في الله ويدخل كلاهما هذه الشركة العاطفية بذخيرة صالحة من التسامح وبعقيدة ثابتة في أن الهفوة الزوجية ينميها العقاب ويؤكدها الانتقام - وتقتلها المغفرة ويمحو أثرها الصفح الجميل، وأن (المثل الأعلى) سواء للزوج أو للزوجة لم يتم خلقه بعد فلا ينبغي لأحد الزوجين أن يطالب زوجه بأن يكونه!
(زوج سعيد)
القول المكشوف
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
لعل الأدب الإنجليزي أشد الآداب تحفظاً في المقال والتزاماً للوقار وعزوفاً عن المجون، فبينه وبين الأدبين الفرنسي والروسي، مثلاً، بون كبير في هذا المجال. وبعكس ذلك كان الأدب العربي الذي وسع من صريح العبارة عن ماجن القول وسفسافه ما لا يسيغه العصر الحالي؛ بل لم يكن يسيغه فضلاء العصر الذي قيل فيه، وذلك راجع للظروف المحيطة بالأدبيين.
فسيماء الوقار والتسامي التي تعلو الأدب الإنجليزي راجعة إلى ثلاثة عوامل رئيسية متشابكة هي: طبيعة الإنجليزي الهادئة، والتربية الإنجليزية التي تجعل غرضها الأول كبح نزعات الناشئ الجامحة وإلزامه ضغط النفس، وثالث العوامل هو الرأي العام القوي.
والرأي العام نتيجة للعاملين الأولين، ونتيجة أيضاً للنظام السياسي الديمقراطي الذي يجعل الأمر للشعب في كل مناحي الحياة، وهذا الرأي العام محافظ حريص على تقاليد الفضيلة يشهر الحرب على من يهم بخدشها، وهو من القوة بحيث لا يجسر كاتب أو شاعر أو ناشر على تحديه وإلا كان عليه الغرم المادي والأدبي، وقد ثار بالمستهترتين المتجاسرين على الدين والتقاليد أمثال بيرون وشلي فاضطرهم إلى مغادرة البلاد ولم يشفع لهم عنده نبوغهم ولا ما نالوه في غير إنجلترا من الصيت البعيد.
أما الأدب العربي فخالطته عوامل اجتماعية وسياسية جعلت اجتثاث جريء القول وبذيئه منه متعذراً: فهو قد ورث جفوة بداوته الأولى، وسرى إليه الفساد الذي تبع الفتوح واختلاط الأعاجم والموالي، وشجعت الحكومة الفردية المطلقة سريان هُجر القول بدل أن تدرأه، فكان من الخلفاء والأمراء من حرضوا على المهاجاة بين الشعراء، وأغضوا عن مجونهم ما داموا مشغولين به عن مناوأة سلطانهم، وأجازوا من وقعوا في خصومهم بقبيح الهجاء.
فالحكومة الفردية المستبدة قد حالت دون قيام رأي عام يقف للخارجين على تقاليده بالمرصاد، أو هي لم تَدَعْ لذلك الرأي العام السلطة أَو الهيبة الكافية لأن ينضح عن تقاليده، بل كثيراً ما حَمَتْ الشعراء الماجنين من غضبه. وهكذا الحكومة القائمة على أساس فاسد لا
يسعها - لشعورها بضعف مركزها - إلا مناصرة عوامل الفساد التي ترى مصلحة لها في بقائها، أو خَلْقُ تلك العوامل.
ولقد كان في الدولة الإسلامية عامل جليل الأهمية لو بقي تأثيره فاشياً لكان الأدب العربي أرقى الآداب على الإطلاق لفظاً وأعفها قصداً، وأعظمها تساميا: ألا وهو الدين الإسلامي الذي يحض على مكارم الأخلاق والذي كانت الدولة تقوم على أساس منه، ويتضح أثره في عصر الخلفاء الراشدين، وما كان من تأديب الحطيئة وردعه عن أعراض الناس.
ولكن هذا العامل السامي الجليل تُنُوِسيَ في غمار السياسة، وجرفه تيار التكالب على الملك والسلطة، فلم يَعُدْ الخليفة أو الأمير يغضب إلا أن يناله الشاعر ببذائه، فبشار بن برد الذي ضج عليةُ القوم ودهماؤهم عهداً طويلاً من فجوره وإقذاعه ظل مُعافَىَ ولم يمس بسوء حتى تمادت به جسارته إلى عرض الخليفة ذاته. أما ما دام الشاعر متقياً غضب الحاكم أو مجتلبا رضاه فلا ضير عليه أن يرمي باللؤم أنصار الرسول أو يفضل إبليس على آدم، أو يتهكم بيوم الحشر، أو يتفاخر بشرب الخمر، أو يتلهى بسب الرجال وقذف المحصنات، أو يتباهى بالتسلل إلى الخدور في غلس الظلام.
هكذا ضم الأدب العربي بجانب سامي الأغراض وشريف الأقوال وكريم الحكم والأمثال سقطاً من القول قوامه الإباحية والاستهتار، وقام من الأدباء من صدموا الناس في عقيدتهم وتقاليدهم ونالوا من أعراضهم وسمعتهم، وأودعوا الأدب من خسيس الأقوال ووضيع الأغراض ما ينافي مقاصد الأدب وسمو الفن بالنفس الإنسانية. ولما لم يكن للناس عاصم من شرهم من رأي عام أو حكومة ساهرة عَمَدَ من استطاع منهم بِحَولٍ أو مكيدة إلى الذب عن نفسه بنفسه، وهكذا لقي المتنبي وابن الرومي حفيهما على أيدي مهجويهما.
وهناك عامل اجتماعي لابد أنه كان من عوامل ذيوع هُجر القول في الأدب العربي، بل في المجتمع العربي ذاته: ألا وهو انسحاب المرأة من المجتمع شيئاً فشيئاً، ففقَدَ الأدب باحتجازها وراء الحجاب عاملَ تجمُّلٍ وتَوَقُّرٍ وتعفُّفٍ في اللفظ والغرض، وصار الافحاش من الذيوع بحيث لم يتردد كاتبان فحلان يمثلان مجتمعيهما تمثيلاً كبيراً: وهما البديع والحريري، في حشد مقاماتهما بمقذع السباب؛ بل خَصَّصَا لذاك مقامات بذاتها.
وأظهر ما يكون المجون والفحش في الشعر في أبواب الهجاء والخمريات والنسيب الخليع
والتشبيب بالغلمان. وقد أوغل بعض الشعراء في هذه لأبواب إيغالاً لا يكاد يصدقه العقل. ومن العجيب أن الطريقة التقليدية التي يجري عليها تاريخ الأدب العربي لا تزال تعد من فحول العربية شعراء ولم يكد يؤثر عنهم مقال في سوى هذه الأغراض الحيوانية. ومن البديهي أنه مهما تفنن الناظم وابتدع في وصف الخمر وتصوير الشهوات فلن يرفعه ذلك إلى مصاف الشعراء العظام، إذ الشعر الرفيع لا يقاس بحسن الديباجة وبراعة المعنى فحسب بل بشرف الغرض أيضاً.
فدواوين ابن أبي وبيعة وبشار وابن هانئ إن هي إلا استهتار واستسلام للشهوات وتمدح بالمخازي محكمة الديباجة بارعة النظم متنوعة الأوزان والقوافي، تتخللها حكمة شاردة أو مثل سائر ليس للناظم فيه إلا فضل التأنق في إعادة صوغه، فإذا كان هؤلاء وأشباههم من فحول الأدب والعربي فما أقصره عن بلوغ المثل الأعلى للأدب الراقي!
ومما يفترق الأدبان العربي والإنجليزي في استجازته من أبواب القول - وإن كان بمنجي من الفحش - الفخر، الذي لا يسيغه الأدب الإنجليزي بحال، على حين قد زخر الأدب العربي بما قيل فيه وعدّ باباً من أبواب الشعر التي تظهر فيها براعة الشاعر وتكمل بها منزلته. فالذوق الإنجليزي لا يسيغ أن يُزْهَى إنسان بما يتخيله في نفسه من مكارم وعظائم، بل من أول ما تطمح إليه التربية الإنجليزية - كما سبق الالماع - أن تكبح في الناشئ نزعة الزهو والعجب، وليس أَمْقَت في المجتمع الإنجليزي ممن يدل بنفسه. ولم يكن الشعر العربي في أول مره يعرف الفخر بالنفس، وإنما كان فيه فخر بالقبيلة والعصبية ولا بأس بهذا، ثم استباح بعض الشعراء فيما استباحوا لأنفسهم التمدح بالنفس صدقاً وادعاء، وغلوا في مدح أنفسهم غلوهم في مدح أصحاب النوال، بل أغربوا في المفارقة فجمعوا بين المدحين في القصيدة الواحدة، ونسبوا لأنفسهم الحكمة والشجاعة والمجد وشرف المحتد، وأجلسوا أنفسهم بجانب الشموس والبدور، وأوسعوا الدهر والحظ والناس ذماً بقدر ما أوسعوا أنفسهم مدحاً، وتلك جميعاً لعمر الحق بضائع النوكي!
فحرية القول - أو قل إباحته - فاشية في الأدب العربي القديم، بينما التحفظ ميزة الأدب الإنجليزي، وربما تغالي الرأي العام الإنجليزي في تحفظه وتشبثه بما يليق وحَجْرهِ على ما لا يليق الخوض فيه من حديث، فناهض مفكرين كان الخير الإنساني أو النفع العلمي كل
مقصدهم، كما كان موقفه من أوائل الداعين إلى ضبط النسل مثلاً، إلا أنه لا يلبث أن يخفف من غلوائه حين يتبين له شرف المقصد وفائدة الدعوة.
ولئن حمدت الحرية الفكرية الواسعة التي تمتع بها الفلاسفة والعلماء في الدول الإسلامية فما كذلك الحرية التي استباحها المجان من الأدباء، فالأولى حرية تساعد تقدم الفكر وترقي العلم، والثانية تؤدي إلى انحطاط الخلق وتضرب في دعائم المجتمع؛ الأولى حرية فكرية نافعة، والثانية إباحية خلقية ضارة. والأدب يرسم للأمة مثلاً عليا تتوخاها، فإذا تمادى في تصوير دنيء النوازع فإنه يهبط بالنفوس إلى مستوى منحط لا تريد عنه ارتفاعاً.
وللأدب المكشوف في العصر الحديث دعاته الذين يحضون على اطراح النفاق الذي تفرضه التقاليد وتصوير الطباع على حقائقها، على أن هناك فرقاً بين المذهب الحديث وبين ما كان فاشيا في الأدب العربي القديم: فأنصار هذا المذهب ذوو مبدأ هم مقتنعون برجاحته يرون أن الأدب يؤدي مهمته ويرقي الأخلاق الإنسانية بوصف دخائلها ومظاهرها دون تمويه، أما الآخرون فلم يكن لهم مبدأ ولا غاية سوى إرضاء الشهوات والنزوات وعلى الخلق الكريم العفاء.
وهيهات أن يخلو المجتمع الإنجليزي أو غيره من آثار المفاسد التي أفصح الأدباء المتقدمون في التعبير عنها، ولكن ما لا يقبله ذلك المجتمع هو المجاهرة بذلك والمفاخرة والتجاسر على تقاليد المجتمع التي ارتضاها لنفسه وقامت عليها أسسه، وإيغال ذلك في عالم الأدب الذي تحويه بطون الكتب وترويه الأجيال ويُقصد منه إلى السمو بالإنسانية.
فخري أبو السعود
نبوّة المتنّبي
للأستاذ محمود محمد شاكر
كتب الأخ سعيد الأفغاني كلمة عن (دين المتنبّي) في العددين من الرسالة (161و162) سنة 1936، وقد عرض فيها لنبوّة أبي الطيّب التي يزعمونها وقعت وكانت منه، ولم يجد مندوحةً عن القول (أو كما قال):(بأن تنبؤه في الأعراب أمر وقع حقيقة ولا سبيل إلى الشكّ فيه، تضافرت على ذلك كل المصادر الموثوقة حتى التي كانت تميل إليه كل الميل، فأنها لم تنف الأمر وإنما التمست له المعاذير) ثم علق على هذا فقال:
(قرأتُ أخيراً عدد المقتطف الذي كتبه الأستاذ شاكر عن المتنبيّ خاصّةً، فإذا به يذهبُ إلى نفي تنبؤ أبي الطيب الذي اتفقت عليه كل المصادر تقريباً. وقد أنعمت في تدبُّر الأسباب الحادية على النَّفْي فلم أجد فيها مقنعا به من القوة ما يقف لهذه الروايات الصحيحة!!
والتاريخ لا يثبت خبراً أو ينفيه تبعاً لميل مؤلّف أو رأيه، ولا بد فيه حال النفي من التعرض لجميع الأخبار المثبتة خبراً خبرا وهذا لم يصنعه الأستاذ شاكر!!
وأمر ادعاء المتنبي العلوية ليس فيه ما يهيج عليه الناس كل هذا، على رغم ذلك الخيال الجميل الذي لبس ادعاءه إياه في الكتاب المذكور!!
وإذا كان ما ذهب إليه الأستاذ صحيحاً، ففيم خجَلُ أبي الطيب وحياؤه كلما سئل عن أمر لقبه المتنبي؟ ولم كان يعمدُ إلى اشتقاقه من النبوة تارةً، ويعتذر بأنه شيء كان في الحداثة تارة، ويقول إنه يكره التلقّب به، وأنه (يناديه) به من يريد الغضّ منه؟ وعلى أي شيءٍ تقع كلمة كافور:(من ادعى النبوة بعد محمد أما يدّعي الملك مع كافور)؟ وكافور ليسَ من الذين يختلقون على شاعر، ولا ممن يروّج الاختلاق!!
وقد روى المعرّي - وهو الحجّة الثبت - أمر التنبُّؤ، وما حفّ به من حادث ومعجزات في رسالة الغفران. وأبو العلاء كان أحرى أن يشكَّ أو يكذب الخبر، لو أن في الأمر مجالاً للشكّ واحتمالاً للتكذيب، لأنه أشدُّ حبا للمتنبي، وعصبيّة له، وهو أنفذ بصيرة فيما يقال وأحكم نقداً للأخبار، مع قرب زمان، وصفاء ذهن، وقوة حجة، ومواتاة وسائل التحقيق إذ ذاك!!). انتهى. . . الرسالة سنة 1936 (العدد161 - ص1255).
وأنا قد قرأت هذا الكلام في موعده حين صدرت الرسالة وأدرتُ أن أردّه، ثم بدا لي أن
أدَعه حيث هو، فإن الذي قرأ ما كتبت يعلمُ مقدار ما في هذا الكلام من الجودة وحسن الأداء وقوة الحجة وجلاء البيان وسعة الاضطلاع وبلاغة الفهم، ولكن بعض أصحابنا لم يزل بي حتى أخذ مني موثقاً أن أقول كلمتي فيه.
وهذا النقد الذي رماني به أخي الأستاذ سعيد ليس مما يثيرني ويغريني بحمل السلاح والاستعداد للمعركة. ولست أقول هذا استصغاراً لما يقول أخي أو استكباراً لما قلت، بل هو حكمي عليه مجرداً من كل ما يجعل الحكم قاصراً أو باغياً.
وهذا الذي كتبه الأخ سعيد ليس مما أعده عندي نقداً، وإنما هو اعتراض، والاعتراض شبهة، والشبهة يزيلها البيان. أما النقد فأمر آخر لم يسوّغ للأخ أن يظفَر بالقدرة عليه فيما كتب.
وقد أُتي الأخ سعيد في كلامه من قِبل أنه عدَّ الأخبار المروية عن نبوة المتنبيّ وغيرها أخباراً صحيحة ابتداء، وهذا أوّل الزلل في نقد الناقد. ولا بد لمن يريد أن ينقد ناقداً أو يكتب فيما يتناول الروايات والأخبار أن يتحقق بدءاً بمعرفة الأصول في علم الرواية، وأن يستيقن من قدرته على ضبط الفكرة حتى لا تنتشر عليه وتتفرق، ويقع فيها الاختلاف والتضارب والمناقضة. فلا بُدَّ لي هنا من أن أدل الأخ على الأصل في الأخبار حتى يعرف فرقَ ما بين الذي انتهينا إليه، والذي وقف عنده غيرنا، ثمّ نكشف له عن الشبهة التي جعلته يعترض الذي كتبناه بالذي رفضناه ورددناه وأسقطنا الثقة به والاعتماد عليه.
فالأخبار جميعاً تحتمل الصدق والكذب كما يقولون، ومعنى ذلك أنها على حالة من البراءة الأولى لا توصف بصِدقٍ ولا بكذبٍ. ولا يستحق الخبر صفة الصدق إلا بالدليل الذي يدلّ على صدقه، فإذا لم تجد الدليل على صدقه ذهبت عنه صفة الصدق وبقي موقوفا. فإذا اعترضتْه الشبهات من قِبَل روايته أو من قِبَل درايته مالت به الشبهة إلى ترجيح الكذب فيه، فلا يؤخذ به ولا يعتمد عليه، ويكون عمل الناقد بعد ذلك أن ينظر في هذا الخبر نظرة التدبر ليستخرج الحقيقة التي من أجلها تكذَّبه راويه، وبذلك يقع على حقائق مدفونة قد سترها الراوي بما كَذَب. وقد أشرنا إلى ذلك في كتابنا (المقتطف يناير سنة 1936 ص111) وإليك ما قلناه:
(اعلم أن أكثر ما يُروى في ترجمة هذا الرجل وغيره من الرجال، إنما كان من الأحاديث
التي تتناقلها مجالس الأدباء، ولا يراد بها التحقيق، ولا ينظر فيها إلى صدق الرواية وسياق التاريخ وما إلى ذلك؛ بل إن كثيراً مما يروى في تراجم رجالنا كان مما يُراد به مضغُ الكلام في مجالس الأمراء أو في سامر الأدباء - هذا على أنها ربما حملت فيما تحمل أشياء لولا ورودها في هذه النصوص لافتقدنا من حلقات التاريخ حلقات لا ينتظم أمره إلا بها، ولا يستمر إلا عليها. فلمثل هذا كان لا بُدَّ لنا من النظر في النصوص وتمييزها، وردّ بعضها والأخذ ببعض، حتى لا تنقطع بنا السبل في الترجمة لهؤلاء الأعلام. فلا يفوتنك هذا إذا قرأت ما نكتب، أو أردت أن تقرأ أو تكتب).
وأنا حين أردت أن أكتب عن المتنبي نظرت في هذه الأخبار خبراً خبراً، فلم أجد دليلاً واحداً يجعلها تستحق عندي صفة الصدق فأبقيتها موقوفة، ثم عدت فنظرت فتناوشتها الشبهات واعتورتها الطعون، فلم أجد بداً من وسمها بالكذب، ثم عدت إليها فعارضتها بالعقل وشعر الرجل وحوادث التاريخ لأستخرج منها الحقائق التي يسترها الرواة والمتكذِّبون فوقعت لي أشياء هي التي جعلتها أصلاً فيما كتبت، وأنا على يقين من أن الأستاذ سعيد لم يتنبه إلى هذا الذي فعلناه، مع أنه هو الأصل في الكتابة والتحقيق، أما التسليم فليس يجدي شيئاً إلا التكرار والمتابعة، ثم الزلل والتورط فيما أراد الكذابون أن يحملوا الناس عليه ويوقعوهم فيه.
ويقيني أن الأخ سعيد لا يجد دليلاً على صحة هذه الروايات فيما يزعم إلا أنه قد رواها فلانٌ وفلانٌ، ورواها المعري - وهو الحجة الثبت - (وهو أشد منا حباً للمتنبي، وعصبية له، وهو أنفذ بصيرة وأحكم نقداً للأخبار مع قرب زمان وصفاء ذهنٍ وقوة حجة ومواتاة وسائل التحقيق إذ ذاك)، ونحن لا ننكر على المعرّي شيئاً من ذلك، ولكن الذي ننكره أن الذي كتبناه كان عصبيةً لأبي الطيب، أو حُباً له أو فيه. ليكن المعري صاحب عصبية، فذلك لا يجعلنا نحن من أهل العصبية حتى نبعث بالحقيقة، ونلعب بفن النقد من أجل أبي الطيب أو غيره من الرجال.
أما أن رواية المعري - وهو صاحب عصبية لأبي الطيب - مما يصحح هذه الأخبار أو يرجح الصدق فيها، فهو حكم خطأ لا يصح لأحد أن يتابع عليه، فإن أبا العلاء لم يُشهِد كتبه أنه لا يروي إلا الصحيح من الأخبار؛ وترك المعرّي الشك فيها أو تكذيبها ليس يقوم
أيضاً دليلاً على صحتها، وليس المعري بمنزهٍ عن الخطأ والغفلة، وهو من هو، فذهاب وجه النقد عن المعري ليس يكون طعناً فيه، ولا يوجب نسبة الكذب إليه، ولا نفي صفة الصدق عنه.
وأحبُّ أن أقرب إلى الأخ حقيقة هذه الروايات. . . فهو يعلم أن الرواة قد رووا للرسول صلى الله عليه وسلم معجزاتٍ كثيرة؛ وكثير من الذي رووه لم يثبته أهل العلم بالحديث على طريقتهم؛ وقد رواها قومٌ على عهد الصحابة والتابعين، وهي كذبٌ مخترعٌ بشهادة أئمة هذا العلم، وقد بقيت هذه الآثار مروية إلى يوم الناس هذا، وهي عند المتأخرين شائعة معروفة متداولة مصدقة، وقد وردت في كتب كثير من الأئمة العلماء. أفيكون تداولها وذيوعها وتصديق العامة لها، وورودها في بعض كتب العلماء هو الدليل الذي لا دليل غيره على صحة هذه الأخبار؟! وأكثر من ذلك، أيكون ظهورها على عهد الصحابة والتابعين - على قرب زمن كما يقول الأستاذ - وتصديق بعض العامة لها في ذلك العصر، وسكوت بعض العلماء عن الكلام فيها مما يدل على صدقها؟!
ونحن قد أتينا في الذي كتبناه عن المتنبي بالشبهات التي ترجح الكذب في هذه الروايات التي يراد بها الوضع من قدر الرجل والتحقير له، والطعن في نسبه أو عقله أو خلقه أو أدبه. لا. . بل بينا أن ألفاظ هذه الروايات وحدها تحمل أكبر شبهة، كالذي روي عن هذا اللاذقي المسمى معاذ بن إسماعيل، وقد روي الخبر بطوله في كتب كثيرة، وأوردناه بتمامه في كتابنا ص 45 - 47 واختصره الأخ سعيد في كلامه في العدد (161) من الرسالة، ولا أدري لم اختصره، فإن الذي يقرؤه يجد فيه سمة الوضع والكذب مستعلنة كما لم تستعلن في حديث غيره. وقد بينا بعض وجوه نقده في كتابنا من ص 49 - 52. فكانت حجة الأستاذ سعيد في رد قولنا وإسقاطه أنه (لم يجد فيه مقنعاً به من القوة ما يقف لهذه الروايات الصحيحة)، وكان حقاً على الأستاذ أن يعلمني وجوه الضعف في قولي حتى أستبرئ منه، أما هذه الكلمة المجرّدة فليست بالتي تسقط كلامنا جملة واحدة حتى ولو كان هذا الكلام سقطاً محضاً.
أما ما اعترض به علينا فنحن نبين له وجه بُطلانِه. يقول: (وإذا كان ما ذهب إليه الأستاذ صحيحاً، ففيم كان خجل أبي الطيب كلما سئل عن أمر لقبه المتنبي. . .؟) إلى آخر قوله:
فإن هذا الخجل الذي يزعمونه إنما هو من أباطيل الرواية، وقد أتى به القوم ليعضدوا قولهم في خرافة النبوة. وإذا كان أمر نبوته مشهوراً متعالماً أو كما يقول اللاذقي إن دعوته (قد عمت كل مدينة بالشام)، وقد بلغ من شهرتها أنه قبض عليه من أجلها بالشام أيضاً وحبس (دهراً طويلاً)، وأن له قرآناً أنزل عليه. . يزعم أبو علي بن حامد أن أهل الشام كانوا يحكون له سوراً منه كثيرة وأبو الطيب إذ ذاك بحلب، فكيف يُعقَل بعد هذه الشهرة أن يبتدر إليه هؤلاء فيسألونه عن حقيقة هذا اللَّقَب؟ إن السؤال عن (حقيقة اللقب) بعد هذه الشهرة التي يزعمونها ليدل دلالة قاطعة على وضع هذه الأحاديث المروية والأخبار المتداولة التي تهور كثير من الأدباء في التسليم بصحتها كما فعل الأخ سعيد. ولقد كان هؤلاء الذين يزعمون أنهم سألوا أبا الطيب عن حقيقة اللقب (المتنبي) يسألونه وهو بالشام، وفي الشام أظهر نبوته وفي الشام اشتهر أمره، وأكبر من ذلك أنهم يزعمون أنهم كتبوا عليه وثيقة أشهدوا عليه فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام وأنه تائب منه ولا يعاود مثله. فهلا كان الأولى بهم أن يظهروا على هذه الوثيقة ولما يمض عليها كثير دهر، وقد أخذها وال من الولاة فهي - ولا بد - محظوظة في ولايته. وكان أبو الطيب شجا في حلوق الأدباء والشعراء وكثير من أصحاب السلطان وهو في جوار سيف الدولة. وقد أوقعوا بينه وبين أميره بكل ما ملكوا من أسباب للوقيعة، أفتظن أنهم كانوا يحجمون عن إظهار هذه الوثيقة، وإحراجه بها، والعمل بها على تحقيره، ثم على المنافرة بينه وبين سيف الدولة!! كانت كل هذه النقائض بالشام، ومع ذلك لم يكن من أثرها إلا هذه الروايات الضعيفة التي تحمل ألفاظها الشكوك والريب.
وأسخف من هذه الرواية رواية من يروي أنه كان يعمد إلى التمويه على الناس بقوله: إن هذا اللقب (المتنبيّ) مشتقٌّ من النبوة، فليس يعقل أن أبا الطيب - وهو يعلم أن نبوته كانت مشهورة كما ذكر الرواة - يعمد إلى هذا التوجيه الضعيف الميت، وهو يعلم أنه كاذب، وأن الناس مكذبوه لأنهم يعلمون حقيقة الأمر.
واعتذاره بأنه يكره التلقب به، وأنه يدعوه به من يريد الغض منه فهو بسبيلٍ من ذلك في الضعف والسخف. على أنه مع ذلك لا يدلُّ دلالة ما على حدوث النبوة التي يزعمونها، بل على العكس من ذلك. . . إنه ليَدلُّ على أن هذا اللقب مفتعل موضوع للكيد لَهُ والغض منه،
وأنهم كانوا قد وضعوه له ليغيظوه به. ومثل ذلك كثير في كل عصر ومكان. ولعل الأخ سعيد لا يعدم رجلاً في بلده قد نبزه الناس بنبزٍ يغيظونه به، ولا نشك أن هذا الرجل (يكره التلقب به، وإنما يدعوه به من يريد الغض منه).
وأما كلمة كافور فهي كلمة مفتعلة موضوعة، وإلاّ تكن كذلك، فليس فيها ما يدلّ على شيءٍ محققٍ كان قد حدث من أبي الطيب. وكافور كان قد سمع هذه الدعوى التي يزعمونها عن نبوة أبي الطيب وسلم بها، ثم تكلم، وليس تسليم كافور بها سنداً لها يحقق تاريخها، ويثبت وقوعها بعد الذي ذكرنا لك من ضعف الروايات.
هذا وقد أراد الأستاذ سعيد أن يعلمنا سبل التحقيق في التاريخ فقال: (والتاريخ لا يثبت خيراً أو ينفيه تبعاً لميل مؤلف أو رأيه. . . إلى آخر قوله) وهو قد فعل أكثر من ذلك وأكبر، وذلك أنه بعد اعتراضه قال:(وكافور ليس من الذين يختلقون على شاعر، ولا ممن يروج الاختلاق)، ولم يرد في كلامنا ذكر كافور واختلافه حتى يعقب الأستاذ هذا التعقيب. هذه واحدة، والأخرى أن الأستاذ قد حكم على كافور حكماً لم يرد له ذكر في كتاب، فهل يستطيع أن يؤيد هذا الحكم بالدليل التاريخي والبرهان العقلي أن كافوراً لم يكن يختلق على الناس، ولا يروج الاختلاق. .؟! لقد أتينا نحن بالروايات ونقضناها بالدليل - ضعيفاً كان أو قوياً - أما أستاذنا فقد حكم على رجل بغير دليل ولا بينة من التاريخ أو غيره.
ثم بقي اعتراض الأستاذ الذي يقول فيه: (وأمر ادعاء المتنبي العلوية ليس فيه ما يهيج عليه الناس كل هذا). وأنا لا أعلم ماذا يريد الأستاذ سعيد بقوله (كل هذا)، وإذا أرادني على أن أجيبه على ذلك فليبين لي صورة المبالغة في قوله (كل هذا)، فأنا لا أعلم من أمر هذه المسألة أكثر من أن الرجل قبض عليه بالشام وحبس. أما هياج الناس فلم يرد له ذكر في كلامنا ولا في كلام الرُّواة. وأما حبسه أو قتاله من أجل العلوية فليس ببدع في التاريخ، وكان لزاماً على الأستاذ قبل أن يكتب هذه الجملة ويصوغ هذا الاعتراض أن يرجع إلى كتب التاريخ ليعلم أن الذين قاتلوا أبا الطيب وحبسوه، كانوا قد قاتلوا من قبله قوماً أو حبسوهم من أجل ادعاء العلوية، وكذلك فعلوا مع العلويين الذين خرجوا عليهم في أرضهم وديارهم. فقتاله وحبسه ليسا يثبتان أن هذا الذي كان من أبي الطيب إنما كان إظهاره النبوة لا ادعاءه العلوية.
وبعد، فلو حمل الأخ سعيد نفسه على تدبر الذي كتبناه في المقتطف عن المتنبي لما وقع هذا الاعتراض الذي حاك في صدره، وقد أشرنا مرات في كتابنا إلى وجوب ذلك، فقد كنا نترجم للرجل ترجمة صحيحة يقرؤها القارئ ليتمثل صورة هذا الشاعر العبقري وفاء له وتقديراً بعد مرور ألف سنة على وفاته، فلم يكن سبيلنا أن نتعرض لأصول النقد وشرحها وتفصيلها، ولم نأخذ الروايات جميعها بالنقد مرة واحدة، فأن ذلك كان يقتضي منا وقتاً كثيراً وكتاباً كبيراً، ولكن من يطلع على الذي كتبناه منصفاً متدبراً عارفاً بطرف من أصول نقد الرواية يعلم يقيناً أننا لم نكتب حرفاً واحداً إلا بعد أن استوفينا عندنا نقد الأخبار (خبراً خبراً) كما يريد الأستاذ سعيد، وليس عسيراً على المتدبر أن يستخرج من الذي كتبناه الأصول التي نقدنا بها هذه الأخبار. ولعل الأستاذ قد قرأ كثيراً مما فاضت به الصحف والمجلات عن المتنبي، وقرأ في خلال ذلك كثيراً من نقد الأخبار التي رويت، ولعله رأى أيضاً أن هؤلاء قد اتخذوا كتابنا مصدراً استنبطوا منه أصول النقد التي وضعناها، وقاسوا عليها فأخطئوا وأصابوا، وليس هو بأقل منهم حتى يفوته ما أصاب غيره.
محمود محمد شاكر
الحنين.
. .
للأستاذ محمد شوكت التوني
أخي الصديق. . .
تناولت منذ يومين رسالتك التي أثمرها صمت سنين خمس لم أتلق طوالها كلمة منك، ولا نبأ عنك - بمزيج مبهم من العواطف والأحاسيس. وأدركت - كما تدرك بعض الحقائق الخفية - أو المنكورة في بعض المناسبات - أن كثيراً مما نعتبره مبالغة قد يقع ويظهر لكل عين مجردة كحقيقة عارية، كما يصبح كثير من الوهم أو الخيال مخترعات تحس وتلمس، إذ أن محيط الحياة خفي الأمواج، وخفاء الأمواج يلد العجائب!
لقد كنت أحسبه مبالغة قول من يقول: (إن وصول خطابك قد أعاد إليّ بصري كما أعاد قميص يوسف الضوء إلى بصر يعقوب الحزين الكظيم).
فعرفت بعد ورود خطابك إليّ أن في هذا القول كثيراً من الحقيقة، وأن البصر قد يكون حاسة من الحواس الخمس وقد يكون نوراً ينبعث وهاجاً في القلب، والخاطر، والنفس، وأن بعض الانفعالات قد تسمو وترتقي فتمسى عند صاحبها أقوى من البصر، وأعظم من نفس الحياة. . .
لم ترد يا صديقي أن تكتب إليّ بالتحية، ومحوتها سلفاً من جبين كتابك مدركاً أن التحية إذا ألقيت مجاملة كانت نافلة وعملاً بين الصحاب غير نافع، وإن قصد بها التعبير عن الشوق فتحصيل حاصل. فليس بمنكر أن سنين خمساً لجديرة بأن تلهب قلبي صديقين مخلصين لم يتساقيا من كؤوس الود إلا أصفاها عنصراً وأحلاها مذاقاً وأبقاها أثراً.
ولكم كنت لبقاً وأريباً. وكانت كلماتك مؤثرة حين ذكرتني بعهدي الأدبي الخالي، وأيامه ولياليه الصافية المورد، والساعات التي كنا نمضيها باحثين في فنون الأدب، منتجين أبطال قصصنا، نراهم تحت أسماعنا وفي محيط أبصارنا يعيشون قطعاً من أكبادنا وخفقات من قلوبنا، ودمي تملؤها عواطفنا دماً وروحاً، فينبعث فينا شعور بالرضا والغبطة إن لم يصل إلى غبطة الإله بمن خلق - سبحانه - فهي تسمو وتعلو عن غبطة الوالد عند مرأى أبنائه ونماء فلذات كبده. . . لأن نظرة الأدب إلى أبنائه، وإرهاف أذنيه إلى أحاديثهم يغمرها الحنان الأبوي الغريزي فيعطل فيهما نواحي التفكير ويفسد عليهما حسن التقدير. أما أبناؤنا
نحن فكانوا دائماً محاطين منا بالعاطفة والفكر. . .!
. . . ولعلك يا صديقي حين تذكرني بهذا العهد السعيد الفائت لا تبغي أن تقطع نفسي ونفسك حسرات وتلهب سعير الحزن وتشعل جمرة الأسى، وإنما تقصد الهتاف للخفي المغيب في أعماقي كي تثيره للحركة بعد الخمود، فأنت تقول:(لقد انصرفت عن ميدان الأدب كي تؤدي واجباً وجب، وتقف في الصف الأمين تجاهد في سبيل بلادك وحريتها، وتناضل عن حرية الأفراد المرهقين بعسف المستبدين. والآن وقد انجلى الفجر البديع عن حياة جديدة لمصر بدأت تسفر عن وجهها وترفع النقاب عن جمالها، أما يراجعك الحنين إلى الأدب تغذي عالمه بقلمك. .؟).
أما الحنين يا صديقي فأقسم ما فارقني طوال ذلك العهد، وإنما كان معذبي ومسعدي.
فإن هوى النفس - كما تعلم - غلاب لا يقهر، نفاذ إلى مقصده لا يتقهقر، وهو أقوى من الرغبات وأشد منها عناداً، وأسبقها في النفس وجوداً، وهو - بعد - مرآتها العاكسة لعنصرها، فإذا كانت أمارة بالخير، فهواها هو الرشد، يبرز مقنعاً في صورة رأي صائب، أو حركة نافعة.
وكل من في هذا الوجود مسير بالنفس - الأمارة بالخير أو بالشر. ولكل هوى صورة كائنة حية هي ظاهرة في أعمال صاحبه تبدو لأعين الرائين من الناس. كما أن لها ناحيتها الخفية التي لا تظهر ولا تنم ولا تبين. وتلك أرق الصور وألطفها. تولد في الأعماق، وتعيش وتنمو إذا راقها المهد، ولذتها الحضانة، فتطول حتى تصاحب العمر إلى نهاية الأجل. . . تلك الصورة يا صديقي هي (الحنين). . . أثر قوي من هوى النفس وصورته الخفية، يعيش في جوانب العالم الإنساني الخفي ويسبح مع الأمل في الخيال، ويرف مع الرجاء في مسابح الروح، ولكنه أبداً لطيف لا يشف ولا يكتشف ولا يحاول غدر صاحبه فيبدو غصباً.
لا يعاند صاحبه ولا يجادله أو يخاصمه ولكنه أبداً متفق معه متسق وخياله وتفكيره، يقرب له جامحات الأماني ويهون عنده بالغات المصائب، ويذلل له شامسات المصاعب.
يناجيه ويناغيه ويغذيه في أوقات تأملاته وحين البأس، ويسعده ويبث في نفسه الترسل في العزاء في لحظات الأسى واليأس.
وصاحبك يا صديقي - كما تعرف ولا يعرف الكثيرون - فنان اتقدت شعلة الفن بين جوانحه منذ الصبى فأدرك معناها مبهمة كأنها الغريزة، واندفع في سيال مجراها يقرأ وينتج لا لمال أو شهرة، واستطاع أن يوفق بين حياة الدرس وحياة الفن، غير أن العمر قد تقدم بصاحبك إلى ميدان المسئوليات، وتوزع الجهد بين مختلف ما يطلبه الجهاد في سبيل بلاده، والجهاد في سبيل مهنته، ما يستغرق يومه كله إلا ساعات للنوم ما عرف النوم فيها إلا اسماً ورؤى! فألقى لذلك قلمه لا يكتب في الأدب ولا في الفن، وإنما يكتفي باختلاس بعض الوقت يغذي فيه بعض نهمته للقراءة والإطلاع.
وشقي صاحبك بهذا الجرمان، فقد تزاحمت عليه في حياته الجديدة موجبات للفن من حوادث ذاك الجهاد ومن ألوان ذلك العيش العتيد.
ولكم جلس إلى فكره وخياله ونفسه والشعلة متقدة والنفس راغبة، وقلمه في يده ملتهب الشوق، ويود بقطع الوتين أن يعيش في حياة الدنيا التي يرسمها ويصورها - بل يخلقها - ساعات هي من العمر إن كان بعض العمر حياة وبعضه عدم، فلا يلبث أن يناديه واجبه ولا يسعه إلا رد النداء.
ولعلك تعرف يا صديقي أن صاحبك المحامي يحيا - في مهنته - في محيط من آلام الناس وعذاب بني البشر، يعيش للمظلوم ويجاهد في سبيل الباكي الأسير.
والفنان كما تعرف أيضاً لا يعيش لنفسه وإنما يعيش للإنسانية مختزلة - في زمن حياته - في جيل معين وقوم معينين لا يستريح أو تسعده حياته إذا ظلت خواطره وأفانين إنتاجه وثمار فنه رهن محبسها - في قرارة النفس أو في مستقر الخيال والفكر - وإنما هو شقي بفنه إن لم يؤده إلى مستحقيه، فالشمعة وهي غير مضاءة فيها عناصر الضوء ولكن قيمتها عدم، فإذا أشعلت واتقد لهبها وبدأت تحترق وأعطت نفعها وهي تبذل حياتها طبقة طبقة حتى تخبو وتفنى، وحياة صاحبك - في عمله تعطي له في كل لحظة وحياً وإلهاماً. . . أولئك المظلومون يستصرخ لهم القضاء، والقضاء ظل الله في الأرض ولسان كلمته ويد قضائه وقدره، ولكنما فيه من قدسيته وتنزهه القليل اليسير، فقد ينصف المظلوم وقد ينخدع في حيلة الظالم، وكم تموت حقوق في يد قضاة الحقوق، وأولئك الأبرياء يقفون بين شاطئ الموت وشاطئ النجاة فوق موجة قلقة غير مستقرة، كلمة واحدة تقذف بالموجة إما إلى
اليمين حيث الحرية والحياة، وإما إلى اليسار حيث الفناء وملاقاة رب عادل منتقم كريم. حولهم - في هول موقفهم - أهل وصحب يبكي بعضهم بدموع من قلب حزين، ويتباكى بعضهم بدموع خادعة كاذبة. تتنازع الحياة بآلامها وحسراتها - نفوسهم أضعاف ما تنازع من يبكون عليه. . .
وذلك الأب قتل في سبيل دفع عار عن آله وأبنائه وأحفاده أو في سبيل الحصول على طعام يرد عن أولاده شر المسغبة، تقسو عليه الحياة فيقف في القفص الحديدي ينصت إلى شهادة ولده الصغير وهو يقص على القضاة ما رأى من جريمة أبيه. . .
وتلك الأم الحانية الرؤوم حاول ولدها قتلها عن غواية وطيش، فتدلف محطمة إلى ساحة القضاء تطلب البراءة له وتسترحم في مصيره من بيدهم المصير.
وذلك الزوج أعز زوجه ودللها ومهد لها نعيم الحياة فبادلته بالحب غواية وبالإخلاص خيانة، فأرداها وفقد نعيمها وهو يسير في أغلاله إلى جحيمه، وبذلك فقد النعيمين. . . في الدنيا وفي الآخرة!
ثم أولئك المجرمون - الباغون السفاكون فعلوا فعلتهم - في غاشية، ثم ردت إليهم إنسانيتهم فوقفوا أمام القضاء في ساعة الهول يوقنون بالنهاية المحتومة ويفزعون بالوهم إلى الأمل ويمدون - بأيديهم - حبل أعمارهم. . . بنظرة باسمة من محاميهم!
. . . هؤلاء وغيرهم، وحياتهم تلك اللحظات هي مختصر لكل محيط الحياة يعيش صاحبك في وسطهم ويحيا لهم ومن أجلهم يوحون إليه الرثاء للإنسانية والبكاء على أطلال الفانين وأشباح المعذبين. . . ويحاول فنه أن يقوم بواجبه كفنان، ولكن واجباً آخر أقوى جذباً وأشد فعلاً يطغى ولا يرضى إلا أن يكون وحده صاحب الحق على شؤون صاحبك الذي يعمل ويعمل، والحنين ماثل في عالمه الخفي يسعده ويعذبه. . . ذلك الحنين الذي ولدته العواطف المحبوسة والآلام الطائفة كل يوم - بل كل لحظة - بالنفس والقلب، ثم كبر ونما وطال واستطال على كل منزع، وركب كل منفذ، وصعد مع الروح إلى أعلى سبحاتها، وجرى مع الدم إلى أقصى شوط من شرايينه، وغاص إلى أعمق أعماق النفس وسبح في ظلماتها وتراوح في أمواج ضوئها وجاب أنحاء القلب وارتقى صخوره واتأد فوق لينه وامتطى متون غيومه. . حتى أصبحت أحسه كياناً في جوار كياني، أراه في بعض الأحيان ممثلاً
إلى جانبي في صورة طيف أو خيال، وقد أسمعه يناديني ويناجيني، وقد أضطر إلى أن أجيبه فأحدثه وأقارضه نداء بجواب ومناجاة بنجوى. . يسير معي - كالصديق الوفي - في النهار فيكاد يعزلني عن سائر الناس، وفي الليل. . . في الليل الأخير حيث تنام الناس وترقد الأعمال فأبقى في الوحدة والسكون. . . أنا وهو. . . والله ثالثنا. . .
ولكم حاولت أن أفلت من زمامه وأنجو من إساره وأفك عقالي من يديه فما زدت إلا تعلقاً به وتشبثاً بأردانه وأطرافه. . .
لقد غلبني على أمري ونزع شأني من إرادتي فرضيت أسره ولذت لي غلبته. . . وبات كما كان. . . مسعدي ومعذبي. . .
أما اليوم يا صديقي وقد انجلت الغمرة وهدأ ميدان المعركة، وبسم الشهداء في عليين وترنحت النفوس طرباً، ورقصت القلوب فرحاً، وآن للمجاهد في سبيل لحرية أن يغمد سيف جهاده، ويولي وجهه شطر إصلاح بلاده، فقد توفر لي من الوقت نصفه أو يزيد.
وسأراجع عهدي القديم وأحاول أن أفك إسار الحنين وأشفي داءه وأروي صداه وأتحرر أنا من أغلاله. . . لعله لا يبقى معذبي ويظل مسعدي وحسب.
سأمسك قلمي وأكتب للأدب والفن. لا أريد مالاً ولا شهرة، فحسبي من الثانية ما نلت، وحسبي من غنى شبع وري. . . وإنما لوجه الحق في صوره السامية: الله والوطن. نجاهد في ميدان الأدب والفن، وعذاب الجهاد في سبيل الحق أسمى مراتب اللذات.
محمد شوكت التوني
للتاريخ السياسي
معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وإنجلترا
- 2 -
ملحقات المعاهدة
ملحق للمادة الثامنة
1 -
من غير إخلال بأحكام المادة السابعة يجب ألا يزيد عدد قوات صاحب الجلالة الملك والإمبراطور التي توجد بقرب القنال على عشرة آلاف من القوات البرية وأربعمائة طيار من القوات الجوية ومعهم العدد الضروري من المستخدمين الملحقين للإدارة والأعمال الفنية، ولا يشمل هذا العدد الموظفين المدنيين كالكتبة والصناع والعمال.
2 -
توزع القوات البريطانية التي توجد بقرب القنال كما يأتي:
(أ) فيما يتعلق بالقوات البرية في المعسكر ومنطقة جنيفة على الجانب الجنوبي الغربي للبحيرة المرة الكبرى.
(ب) وفيما يتعلق بالقوات الجوية على مسافة خمسة أميال من سكة حديد بور سعيد - السويس، من القنطرة شمالاً إلى ملتقى سكة حديد السويس - القاهرة والسويس الإسماعيلية جنوباً مع امتداد على خط سكة حديد الإسماعيلية - القاهرة بحيث يشمل محطة القوات الملكية للطيران بأبي صوير وما يتبعها من الأراضي المعدة لنزول الطائرات والميادين الصالحة التي قد تنشأ شرقي القنال لإطلاق النار وإلقاء القنابل من الطائرات.
3 -
يعد في الأماكن المحددة آنفاً للقوات البريطانية البرية التي حدد عددها في الفقرة الأولى سالفة الذكر بما في ذلك أربعة آلاف من الموظفين المدنيين (مع خصم ألفين من رجال القوات البرية وسبعمائة من رجال القوات الجوية وأربعمائة وخمسين موظفاً مدنياً وهم الذين توجد لهم الآن معدات السكن) ما تحتاج إليه من الأراضي والثكنات الثابتة والمستلزمات الفنية بما فيها توفير الماء الذي قد تستلزمه الطوارئ، وتكون الأراضي والمساكن وموارد المياه مطابقة للنظم الحديثة؛ وفضلاً عن ذلك تقدم للجنود وسائل الراحة المعقولة مع مراعاة طبيعة هذه الجهات وذلك بغرس الأشجار وإنشاء الحدائق وميادين
الألعاب الخ. ويعد موقع لإقامة مصحة للنقاهة على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
4 -
تقدم الحكومة المصرية الأراضي وتنشئ المساكن وموارد المياه ووسائل الراحة ومصحة النقاهة المشار إليها في الفقرة السابقة باعتبارها ضرورية علاوة على ما هو موجود منها الآن في تلك الجهات وذلك على نفقتها الخاصة على ن تساهم حكومة جلالة الملك في المملكة المتحدة بدفع ما يأتي:
1 -
المبلغ الذي أنفقته الحكومة المصرية فعلاً قبل سنة 1914 في إقامة ثكنات جديدة أنشئت لتحل محل ثكنات قصر النيل في القاهرة.
2 -
تكاليف ربع الثكنات والمستلزمات الفنية للقوات البرية على أن يدفع أول هذين المبلغين في الوقت المحدد بالفقرة الثامنة الآتي ذكرها لانسحاب القوات لبريطانية من القاهرة. ويدفع المبلغ الآخر في الوقت المعين لانسحاب القوات البريطانية من الإسكندرية طبقاً للفقرة الثامنة عشرة الآتي ذكرها؛ وللحكومة المصرية أن تتقاضى إيجاراً مناسباً نظير استعمال المساكن المعدة لإقامة المستخدمين المدنيين ويتفق على قيمة الإيجار بين حكومة صاحب الجلالة والحكومة المصرية.
5 -
بمجرد نفاذ هذه المعاهدة تعين كل من الحكومتين فوراً شخصين أو أكثر تتألف منهم لجنة يعهد إليها بجميع المسائل المرتبطة بتنفيذ هذه الأعمال من وقت البدء فيها إلى حين تمامها. وتقبل مشروعات التصميمات ورسومها التخطيطية (الكروكية) والمواصفات التي يقدمها ممثلو حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة بشرط أن تكون معقولة وألا تتجاوز مدى التزامات الحكومة المصرية الواردة في الفقرة الرابعة. ويجب أن يقر ممثلو كل من الحكومتين في هذه اللجنة التصميمات والمواصفات الخاصة بكل عمل تقوم به الحكومة المصرية قبل البدء فيه. ويكون لكل عضو في هذه اللجنة وكذلك لقواد القوات البريطانية أو ممثلهم حق فحص الأعمال في جميع أدوار إنشائها كما يجوز لممثلي المملكة المتحدة من أعضاء اللجنة تقديم مقترحات بشأن طريقة تنفيذ العمل. ولهم أيضاً حق اقتراح تعديل التصميمات والمواصفات أو تغييرها في أي وقت أثناء سير العمل، وتنفذ المقترحات والمشروعات التي يقدمها ممثلو المملكة المتحدة في اللجنة بشرط أن تكون معقولة وأن لا تتجاوز مدى التزامات الحكومة المصرية الواردة في الفقرة الرابعة. وفيما يتعلق بالآلات
وغيرها من المهمات حيث تكون لوحدة الطراز أهميتها قد اتفق على أن تكون المهمات التي تشترى وتركب من الطراز المقرر والمستعمل عامة في الجيش البريطاني.
ومن المفهوم طبعاً أنه يجوز لحكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة أن تقوم على نفقتها الخاصة بعد استعمال القوات البريطانية هذه الثكنات والمساكن بإدخال التحسينات والتغييرات وإنشاء مبان جديدة في المنطقة المحددة في الفقرة الثانية السالف ذكرها.
6 -
تحقيقاً لبرنامج الحكومة المصرية في تحسين الطرق ومواصلات السكك الحديدية في القطر المصري ولإبلاغ وسائل المواصلات فيها إلى مستوى حاجات الفنون الحربية الحديثة - تتولى الحكومة - المصرية إنشاء الطرق والكباري والسكك الحديدية المبينة بعد وصيانتها.
1 -
الطرق
1 -
بين الإسماعيلية والإسكندرية عن طريق التل الكبير والزقازيق وزفتي وطنطا وكفر الزيات ودمنهور.
2 -
بين الإسماعيلية والقاهرة عن طريق التل الكبير ومن يستمر على ترعة المياه الحلوة إلى هليوبوليس.
3 -
بين بور سعيد والإسماعيلية فالسويس.
4 -
مواصلة بين الطرف الجنوبي للبحيرة المرة الكبرى والطريق الممتد من القاهرة إلى السويس على مسافة خمسة عشر ميلاً تقريباً غربي السويس.
ولإبلاغ هذه الطرق إلى المستوى العام للطرق الجيدة الصالحة لحركة المرور العامة سيكون عرضها عشرين قدماً ويكون لها تحويلات حول القرى الخ وتنشأ من مواد من شأنها أن تجعلها صالحة دائماً للانتفاع بها في الأغراض الحربية، وأن تنشأ بحسب ترتيب أهميتها سالف الذكر، وأن تطابق المواصفات الفنية المبينة بعد وهي المواصفات العادية للطرق الجيدة الصالحة لحركة المرور العام.
وتكون الكباري والطرق صالحة لتحمل صفين كاملين من سيارات النقل الميكانيكي الثقيلة ذات الأربع عجلات أو من ذوات الست عجلات أو من الدبابات المتوسطة الحجم. ففيما يتعلق بالسيارات ذات العجلات الأربع يكون البعد بين الدنجل الأمامي لأية سيارة وبين
الدنجل الخلفي للسيارة التي أمامها عشرين قدماً ويكون الثقل على كل دنجل خلفي أربعة عشر طناً وعلى كل دنجل أمامي ستة أطنان، وتكون المسافة بين الدنجلين ثماني عشرة قدماً. وفيما يتعلق بالسيارات ذات العجلات الست تكون المسافة بين الدنجل الأمامي لكل سيارة منها وبين الدنجل الخلفي للسيارة التي أمامها عشرين قدماً، والمسافة بين الدنجل الخلفي والدنجل الأوسط أربع أقدام، وبين الدنجل الأوسط والدنجل الأمامي ثلاث عشرة قدماً، ويكون الثقل على كل من الدنجلين الخلفي والأوسط 8 ، 1 طناً وعلى كل دنجل أمامي أربعة أطنان. أما الدبابات فتقدر باعتبار أن وزنها 19 ، 25 طناً وطولها الكلي خمساً وعشرين قدماً والبعد بين مقدم إحداها ومؤخر التالية لها رأساً ثلاثة أقدام، ويكون ثقل الـ19 ، 25 طناً محملاً على شريطين يرتكزان على مسطح قدره ثلاث عشرة قدماً من الطريق أو الكوبري.
السكك الحديدية
1 -
تزداد تسهيلات السكك الحديدية في منطقة القنال وتحسن لسد حاجة القوات بعد زيادتها في تلك المنطقة ولتسهيل سرعة نقل الرجال والمدافع والعجلات والمهمات بالقطارات وفقاً لما تقتضيه حاجة الجيوش الحديثة.
ويرخص بموجب هذا لحكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة بأن تنشئ على نفقتها الخاصة ما قد تقتضيه حاجات القوات البريطانية في المستقبل من الإضافات والتعديلات على السكك الحديدية. فإذا مست هذه الإضافات أو التعديلات الخطوط الحديدية المستعملة للنقل العام وجب الحصول على إذن بذلك من الحكومة المصرية.
2 -
يجعل الخط بين الزقازيق وطنطا مزدوجاً.
3 -
يحسن الخط بين الإسكندرية ومرسى مطروح ويجعل دائماً.
7 -
فضلاً عن الطرق المبينة في الفقرة السادسة 1 السالف ذكرها وللأغراض ذاتها ستنشئ الحكومة المصرية الطرق المبينة بعد وتقوم بصيانتها.
1 -
الطريق من القاهرة بمحاذاة النيل جنوباً إلى قنا وقوص.
2 -
من قوص إلى القصير.
3 -
من قنا إلى الغردقة.
وستنشأ هذه الطرق والكباري التي تقام عليها وفق نفس المستوى المبين في الفقرة السادسة ذكرها.
وقد لا يتيسر إنشاء الطرق المشار إليها في هذه الفقرة والطرق المشار إليها في الفقرة السادسة في وقت واحد ولكنها ستنجز بقدر المستطاع.
8 -
وحينما تتم الأماكن المشار إليها في الفقرة الرابعة على ما يرضي الطرفين المتعاقدين (ولا تدخل في ذلك المساكن الخاصة بالقوات التي ستبقى مؤقتاً بالإسكندرية طبقاً للفقرة الثامنة عشرة الآتي ذكرها) وتتم الأعمال المشار إليها في الفقرة السادسة السالف ذكرها (عدا السكك الحديدية المبينة في الشطرين 2و3 من الجزء ب من تلك الفقرة) تنسحب القوات البريطانية الموجودة في أنحاء القطر المصري غير الجهات الواقعة في منطقة القنال والمبينة في الفقرة الثانية السالف ذكرها مع استثناء القوات الباقية مؤقتاً بالإسكندرية، وتخلي الأراضي والثكنات ومنازل الطائرات البرية ومراسي الطائرات البحرية والأبنية التي تشغلها القوات وتسلم إلى الحكومة المصرية إلا ما قد يكون منها ملكاً للأفراد.
9 -
أي خلاف في الرأي بين الحكومتين في تنفيذ الفقرات 3 و4 و5 و6 و7 و8 السالف ذكرها يعرض للفصل فيه على لجنة تحكيم مؤلفة من ثلاثة أعضاء تعين كل من الحكومتين عضواً منهم ويعين الثالث بالاتفاق بين الحكومتين ويكون قرار اللجنة نهائياً.
10 -
تحقيقاً لحسن تدريب الجنود البريطانية قد اتفق على إعداد المناطق المحددة بعد لتدريبها. ويجري التدريب في المنطقتين أوب طول السنة. وتكون المنطقة ج للمناورات السنوية خلال شهري فبراير ومارس.
أ - غربي القنال من القنطرة شمالاً إلى خط سكة حديد السويس القاهرة جنوباً (بما في ذلك الخط المذكور) وإلى خط طول 31 ، 30 شرقاً بحيث تستمد كل الأراضي المنزرعة.
ب - شرقي القنال. حسب الحاجة.
ج - امتداد المنطقة (1) جنوباً إلى خط العرض الشمالي 29 ، 52 ومن ثم في الجنوب الشرقي إلى ملتقى خط العرض الشمالي 29 ، 30 بخط الطول الشرقي 31 ، 44 ومن هذه المنطقة شرقاً على امتداد خط العرض الشمالي 29 ، 30 ومساحات المناطق المشار إليها فيما سبق مبينة على الخريطة الملحقة بالمعاهدة (مقاييس رسم 1 - 500 ، 000).
11 -
تمنع الحكومة المصرية الطيران فوق الأراضي الواقعة على جانبي قنال السويس وعلى مسافة عشرين كيلو مترا منها إلا ما كان بقصد العبور من الشرق إلى الغرب أو بالعكس في ممر عرضه عشرة كيلو مترات عند القنطرة ما لم تتفق الحكومتان على غير ذلك. على أن هذا المنع لا يسري على قوات الطرفين المتعاقدين ولا على هيئات الطيران المصرية الصميمة ولا على هيئات الطيران التي تتبع حقيقة أي جزء من أجزاء مجموعة الأمم التي تتكون منها الدولة البريطانية وتعمل تحت سلطة الحكومة المصرية.
12 -
تضم الحكومة المصرية عند الضرورة وسائل المواصلات المعقولة للوصول من وإلى الجهات لتي ترابط فيها القوات البريطانية كما أنها تقدم ببور سعيد والسويس التسهيلات الضرورية لتفريغ المهمات الحربية والمؤن اللازمة للقوات البريطانية وخزنها، ومن هذه التسهيلات إبقاء فصيلة صغيرة بريطانية في هاتين الميناءين لتسلم وحراسة هذه المهمات والمؤن عند مرورها.
13 -
نظراً لأن سرعة الطيران الحديث وسعة مداه تقتضيان استخدام مساحات واسعة لحسن تدريب القوات الجوية فإن الحكومة المصرية تأذن للقوت الجوية البريطانية في الطيران حينما ترى ضرورة لذلك من أجل التدريب. ويكون لقوات الطيران المصرية مثل هذه المعاملة في الأراضي البريطانية.
14 -
نظراً لأن سلامة الطيران تتوقف على إعداد كثير من الأماكن لنزول الطائرات فإن لحكومة المصرية ستهيئ وتيسر على الدوام المنازل والمراسي الصالحة لنزول الطائرات البرية والبحرية في الأراضي والمياه المصرية. وستحقق الحكومة المصرية أي طلب يقدم من القوات البريطانية لإعداد المنازل والمراسي الإضافية التي تدل التجربة على ضرورتها لجعل العدد كافياً لحاجة المحالفة.
15 -
تأذن الحكومة المصرية للقوات الجوية البريطانية في استخدام منازل الطائرات البرية ومراسي الطائرات البحرية السالفة الذكر وفي إرسال مقادير من الوقود والمهمات إلى القوة منها لخزنها في مكان تقام عليها لهذا الغرض وفي القيام في أحوال الاستعجال بأي عمل قد تقتضيه سلامة الطائرات.
16 -
تمنح الحكومة المصرية جميع التسهيلات اللازمة لمرور مستخدمي القوات
البريطانية والطائرات والمهمات من والي منازل الطائرات البرية ومراسي الطائرات البحرية السالفة الذكر وتمنح مثل هذه التسهيلات لموظفي القوات المصرية وطائراتها ومماتها في القواعد الجوية للقوات البريطانية.
17 -
تكون للسلطات الحربية البريطانية حرية استئذان الحكومة المصرية في إرسال جماعات من الضباط يرتدون الملابس الملكية إلى الصحراء الغربية لدراسة الأرض ورسم الخطط الحربية ولا يرفض هذا الإذن دون مبرر معقول.
18 -
يرخص صاحب الجلالة ملك مصر لصاحب الجلالة الملك والإمبراطور في إبقاء وحدات من قواته في الإسكندرية أو على مقربة منها لمدة لا تتجاوز ثماني سنوات من تاريخ نفاذ هذه المعاهدة وهي المدة التقريبية التي اعتبرها الطرفان ضرورية لما يأتي:
أ - لإتمام بناء الثكنات في منطقة القنال نهائياً.
ب - لتحسين الطرق الآتية:
1 -
الطريق بين القاهرة والسويس.
2 -
بين القاهرة والإسكندرية عن طريق الجيزة والصحراء.
3 -
بين الإسكندرية ومرسى مطروح، وذلك للوصول بها إلى المستوى المبين في جزء أمن الفقرة السادسة.
ج - تحسين السكك الحديدية بين الإسماعيلية والإسكندرية وبين الإسكندرية ومرسى مطروح كما أشير إلى ذلك في الشطرين 2و3 من الجزء ب من الفقرة السادسة.
وتتم الحكومة المصرية العمل المبين في الشطرات أوب وج السالفة الذكر قبل انقضاء مدة الثماني سنوات المذكورة آنفاً، وستتولى الحكومة المصرية طبعاً صيانة الطرق ووسائل المواصلات المذكورة فيما تقدم.
19 -
تظل القوات البريطانية الموجودة بالقاهرة أو بجوارها إلى وقت انسحابها طبقاً لنص الفقرة الثامنة السالف ذكرها كما تظل القوات البريطانية الموجودة بالإسكندرية أو بجوارها إلى نهاية الوقت المحدد في الفقرة الثامنة عشرة السالف ذكرها متمتعة بالتسهيلات التي لها الآن.
في العدد القادم (تتمة الملحقات)
الفلسفة والإلهيات
اتفقت كلمة الشعوب الإسلامية على أن العصر الذهبي للخلافة قد ازدهرت فيه مذاهب في الفلسفة، كانت عربية إسلامية ذاعت في العالم ذيوعاً واسع المدى، وأن المعاهد الإسلامية قد مهدت لظهور الجامعات الأوربية، وكانت المثال الذي به تقتدي وعلى هداه تسير.
وهذه النظرة المنطوية على اعتبار الإسلام مصدر الحضارة الأوربية، نشأت في رحابه، ودرجت في ظلاله، واستقت من معينه، لا نراها منبثة في الكتب الأدبية التي أريد بها مجرد الدعاية فحسب، بل نراها شائعة - بحق أو غير حق - في أكثر البحوث القيمة التي ساهم فيها العلماء من المسلمين المحدثين وتناولت تقدم الأنظمة الإسلامية وتاريخها في العصر الوسيط.
وإنا لنرى في الأدب الغربي بين الحين والحين إشارة إلى ما يطلقون عليه اسم (الفلسفة العربية)، كما نرى طائفة من كتاب الغرب تذهب إلى أن الفلسفة المسماة بهذا الاسم ليست إلا خليطاً من آراء القدماء لا تجانس بين مواده المتنوعة، قد ترك ليتفاعل وينضج، فهم منتهون إلى أن ليس هناك شيء اسمه (فلسفة عربية) وإلى أن الشعوب الناطقة بالضاد لم تفعل شيئاً أكثر من أنها استولت على الفلسفة اليونانية التي كنت شائعة بين المسيحيين من أهل سوريا، والمثقفين من أهل حران الوثنيين، ثم أضافت إليها بعض عناصر استمدتها من فارس والهند.
ومهما يكن من شي فإن من الحق أن نرد الفلسفة العربية في مادتها وصورتها وغايتها إلى حضارة البلاد التي غزاها العرب، وأن نعتبر الفلسفة اليونانية المعين الذي استقوا منه مذاهبهم.
ومهما قيل عن هذا الأمر في العصور الحديثة فإن العلماء المسلمين في العصور المتقدمة لم يخطئوا السبيل إلى فهم هذه الحقيقة. فالجاحظ البصري المتوفى سنة تسع وستين وثمانمائة بعد الميلاد - وهو كاتب قدير متبحر كان تأثيره في أسبانيا الإسلامية على جانب عظيم من الأهمية - يعترف اعترافاً واضحاً بفضل الفكر اليوناني على أهل ملته فيقول: ألم تبلغنا كتب القدماء التي خلدوا فيها حكمتهم الرائعة، وعالجوا بين صفحاتها دروس التاريخ المتشعبة، حتى بدا الماضي حياً أمام أبصارنا؟ ألم تصل إلى أيدينا نفائس تجاربهم التي ما كنا بغير هذه الكتب لنعرفها أو لنصيب في الحكمة حظاً يذكر، أو نسلك للتحصيل سبلاً
معقولة؟
وفوق ذلك فإن الفلاسفة وعلماء الكلام لم يحاولوا في أكثر أبحاثهم أن يخفوا عن الناس النبع الذي نهلوا منه.
وما كان التعلل بالعلم ليخدع المسرفين في التعصب للقرآن وسنة النبي. فكانت الأبحاث العقلية المجهولة للعرب في عصر الرسول تلقى استنكاراً شديداً كما كان الذين يدخلون في الإسلام بدعة يستمدونها من مصدر أجنبي معرضين لهذا النوع من الاستنكار، وكانوا يقولون إن الفلسفة (حكمة مشوبة بالكفر) - وإذا استعرضت أسماء المؤلفات ككتاب: عرض لمخازي الإغريق ومنها للحكم الدينية - وكتاب البرهان الحسي على تفنيد الفلسفة في القرآن عرفت ما تتضمنه الكتب مما يؤيد ما نقول - وثمة حكاية متداولة عن فيلسوف معروف عدل عن آرائه وهو على فراش الموت، وكانت آخر عبارة قالها: صدق الله العظيم وكذب ابن سينا.
ومن الحق كذلك أن نذهب إلى القول بأن ما أضافه العرب من الثقافة الإنسانية إلى تراث من سبقهم من المفكرين لم يكن كبير الشأن ملموس الأثر. وبالرغم من هذا، ومع أننا على يقين من أن ما خلفته الحضارة الإسلامية لا خطر له، أوليس أكثر مما ورثته عن غيرها من الحضارات، فليس من العدل في شيء أن ننكر عليها توصلها إلى الجمع بين الأفكار الفلسفية على نمط مميز لها، تلك الأفكار التي عزاها علماء المسلمين إلى أنفسهم.
وإنه لمن الظلم البين أن نحقر من شأن الشغف في طلب العلم من أجل العلم، ذلك الحماس الذي كان يتقد في صدور جموع غفيرة من الناس في رحاب الدولة الإسلامية المترامية الأطراف.
وفي الحق أن لعبارة (الفلسفة العربية) معنى معيناً عند المستشرقين، فهم يعرفون أن بين العرب الخلص الدم واحداً فذا هو (الكندي) قد امتاز بطول باعه في المسائل الفلسفية، ولكنهم يعرفون - إلى جانب هذا - أن ذلك الخليط الغريب الذي يغلب عليه التنافر - والذي ائتلف من الأرسطاطالية والأفلاطونية الحديثة، وسلم به أكبر الفلاسفة المسلمين كتفسير معقول للكون - يعتبر عربياً قبل كل شيء وإن لم يكن إسلامياً، لأن أكبر زعمائه كثيراً ما كانوا مسلمين بالاسم أو زنادقة جهروا بذلك جهراً أدى إلى ضياع حياتهم أو فقدان
حرياتهم.
ولو أن العرب كانوا برابرة كالمغول الذين أطفئوا جذوة العلم في الشرق إطفاء لم ينبعث من بعدهم البتة - وقد لا ينبعث أبداً بسبب ضياع دور الكتب وفقدان الآثار الأدبية - لو أنهم كانوا كذلك، لتأخر عصر الأحياء عن موعده في أوربا أكثر من قرن.
وليس من شك في أن حياة طالب العلم قبل عهد الطباعة كانت تفيض دائماً بالضجر واليأس، وكان مألوفاً عند الكثيرين من طلاب العلم أن يقوموا في طلبه برحلة يقطعون فيها ألف ميل أو يزيد في سبيل البحث عن معلم يتلقون عنه العلم. ولبثوا يقاسون هذه المشقة حتى العصر الذي قامت فيه الجامعات الإسلامية - بل إلى ما بعد هذا العصر - وقد قام الشبان برحلات طويلة من الأندلس إلى مكة أو من مراكش إلى بغداد، تاركين دورهم وهم خالو الوفاض أملاً في التتلمذ لأستاذ يصادف اختيارهم.
ولعل في وسعنا الآن أن نقول كلمة في نشأة الجامعات الإسلامية: فأولاها هي المدرسة النظامية المعروفة ببغداد، وقد قام بتأسيسها نظام الملك صديق عمر الخيام ووزير السلطان السلجوقي (ألب أرسلان) سنة سبع وخمسين وأربعمائة للهجرة، أي في العام السابق للفتح النورماندي لإنجلترا. ثم قامت بعد ذلك بقليل جامعات أخرى في نيسابور ودمشق وبيت المقدس والقاهرة والإسكندرية وغيرها من البلدان، وكثيراً ما قامت في مدن اشتهرت بالعلم قبل قيام الإسلام كما سيأتي ذكر ذلك بعد.
من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع
لغة الأحكام والمرافعات
تتمة
للأستاذ زكي عريبي
- 6 -
أنشئت المحاكم الأهلية سنة 1883 فلم يَزُل عهد الركاكة دفعة واحدة. صحيح أنك لم تعد تطالع (هذا المرأة) و (تلك الرجل) و (هؤلاء الشخص) و (منه ينفهم) و (لذا وكون ما ذكر) و (من حيث ليس) و (ما توري) و (سبوق المخاطبة) و (تحت الأهمية) و (كون من سابقة التحقيق) و (كون من ذا يتضح) و (كان جاري المشاجرة)، لم تعد تطالع هذا وأمثاله، ولكنك تقع على لغة ما زالت سقيمة معتلة كلغة هذا الحكم الصادر من محكمة الجنايات الاستئنافية سنة 1887، قال يروي وقائع الجريمة:
(وكان عند القتيل قبلاً واصف أغا متبنيه وجاعلاً له نصيب في بعض ملكه، ثم كرهه وطرده واستبعده من المنزل قبل الواقعة بشهر وكان فيروز أغا مدخراً في منزله أمتعة ذات قيمة، فواصف وعبد الله وخديجة المذكورة عملوا على قتله باتفاق بينهم، وفي الليلة المعهودة توجه واصف أغا إلى المنزل وكان فيروز أغا خارجا عنه وكمن في السطح بواسطة خديجة حتى حضر فيروز أغا وكانت خديجة في صالة معتاد نومها فيها وعبد الله معد له محل بالحوش وفي آخر الليل اجتمع الثلاثة على بعضهم ودخلوا على فيروز أغا وأعدموه الحياة).
إلى أن قال يورد الأدلة على سبق الإصرار ويشير إلى النصوص:
(ومنها اعترافه (أي القاتل) أن خديجة كانت تشتري له ملابس وتناوله نقود من مصروف الأغا على أمل الأغا سيزوجها وهذا يفيد سبوق سعيه في إعدام الأغا.
وحيث أن هذه الأدلة قد أثبتت على عبد الله السوداني التعمد وسبق الإصرار والتربص على قتل فيروز أغا بالأسباب المذكورة صار عبد الله يستحق العقاب بالقتل عملاً بالمادة 208.
وحيث أن من يحكم عليه بالإعدام يشنق.
وحيث أن باقي المتهمين مثبوت اشتراكهم في السرقة باعتراف اثنتيهم).
وهاك ما يقوله حكم مدني ابتدائي صدر في السنة عينها (صحيفة 250 حقوق) يردد ما جاء في صحيفة الدعوى.
(وحيث أن حالة المرض الذي اعترى المدعي لا يمكن شفاه قطعياً وأن بعينه اليمنى غطاطة وأن علته من الجسيمة ولا يمكن أن يؤدي أشغاله بالميري، ولما كان قضى حياته في خدمة الحكومة وأفقد بصره في أثناء تأدية خدماته كان من باب العدالة أن يربط له معاش).
على أن المحكمة لم تكن أفصح عبارة فيما رأته من (أن المدعي يمكن معالجته واستحصاله بعدها على كمية من النظر).
بل انظر ماذا تقوله محكمة الاستئناف (في الأودة المدنية والتجارية):
(من حيث أن الأعمال المدعى بأجرائها سلامة بك (المدعي) في المدة المذكورة هذه ليست أعمال مستجدة صار تكليفه بها بل إنها استعلامات واستفهامات ويجب عليه في كل الأحوال استبقا تلك المأمورية في يوم أخلاه منها.
(وأن سلامة بك أجرى مناظرة المهمات المذكورة.
(ولهذا توضح للبيك الموما إليه بتلك الإفادة بأنه يعلم مسألة تلك الرسوم وأنه يلزم إعطاء أفكاره فيما تطلبه مصلحة السكة الحديد.
وهذا لا يعد عمل جديد.
(وحيث أنه لما علم للحربية بناء على طلب سلامة بك قررت اللجنة بتعيين واحد كاتب بماهية شهري 1200 قرش.
وحيث بناء على هذه الأسباب يتعين لغو الحكم الابتدائي).
وفي السنة عينها نشرت مجلة الحقوق بحثاً في (الاقتصاد المدني)؛ ولكن بوادر لغة سليمة بدأت تظهر وسط هذا الضعف كتلك التي يشرح بها هذا الحكم الصادر من إحدى المحاكم الابتدائية عدم قابلية بعض الالتزامات للانقسام.
(فلنبحث الآن عن ماهية التعهد غير القابل للانقسام فنجد أنهم عرفوه بقولهم هو ما كان
موضوعه شيئاً أو عملاً لا يمكن الوفاء به مقسماً وقت تكوين العقد. وقد قسم العلامة ديمولان الشهير التعهدات غير القابلة للانقسام إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول عدم الانقسام الناشئ عن العقد وهو المعبر عنه بعدم الانقسام الطبيعي أو المطلق أو الضروري. . .
فيظهر جلياً أن عدم الانقسام هذا هو اضطراري وخارج عن إرادة المتعاقدين لأنه ليس في وسعهم وقدرتهم تغبير ماهية وطبيعة الأشياء).
ثم طفرت لغة المحاكم طفرة سعيدة وظهر التحسن واضحاً ملموساً في العشر سنوات التالية على يد فحول غذى بهم القضاء الأهلي بعد سنة 1890. أنظر إلى هذه الدائرة بمحكمة الاستئناف كيف أصبحت تكتب برياسة حامد محمود وعضوية قاسم أمين ودوهلتس (حقوق سنة 1896).
(وحيث أن القاضي بتخطيه هذه الحدود (أي حين يتخطى القيود الموضوعة في قانون تشكيل المحكمة) صار عديم الصفة في الفصل وأصبح كأنه في بلد أجنبي. ومتى انعدمت صفة المحكمة في الفصل لا تكون أحكامها أحكاماً ولا قضاتها قضاة، وإنما يكونون كأفراد فصلوا فيما رفع إليهم وصاغوا فصلهم في قالب الأحكام. وإن كان ذلك في استطاعتهم فليس في وسعهم أن يمنحوها من عندياتهم ما حرمه الشارع من القوة).
وما أجمل هذا الإيجاز في بيان موضوع النزاع المطروح على دائرة أخرى (دائرة أحمد عفيفي وسعد زغلول وكوريت):
(وحيث أن نقطة النزاع في هذه الدعوى هي من هو ملزم بدفع مبلغ المائة وثمانين جنيهاً إلى الخواجة سكوبو، هل تكون الست نفيسة ملزمة أو الشيخ أحمد الحكيم أو الاثنان معاً؟ وفي الحالة لأخيرة: هل تلك الملزومية بالتضامن أم لا؟).
ومضى الرقي في طريقه بعد ذلك غير وان ولا متردد، فساير سمو الأسلوب نضوج الفكر، واكتشفت أو نحتت ألفاظ عربية كثيرة لتؤدي معاني فقهية حديثة، وغمر سيل هذه النهضة المباركة دور المحاكم كلها لا فرق بين جزئية وابتدائية واستئنافية. ثم جاءت محكمة النقض في العهد الأخير فطبعت لغة الأحكام بطابع جليل ممتاز جمع إلى دقة الأداء برشاقة اللفظ وجمال الأسلوب.
لسنا نبالغ ولا نلقى القول بغير دليل. (وعلى من مارى - كما يقول رئيس محكمة النقض
الجليل في خطبته الخالدة - أن يقرأ فأنه لا رأي لغير مطلع عليم).
وإن المطلع العليم ليحار أي زهر يقتطف وسط هذه الجنة الفيحاء. لقد طغى تيار الإجادة فاكتسح بقايا العجمة وضآلة التعبير وأصبحنا حتى في القضايا البسيطة أمام أحكام حبك نسجها وأشرقت ديباجتها. اقرأ هذا الحكم لقاض جزئي فاضل (إسكندر حنا) يقرر فيه القواعد التي يجب على سائقي السيارات مراعاتها إذا ما اقتربوا من تقاطع شارعين، ويتحدث عن ماهية هذه القواعد قانوناً:
(وحيث أن المدعي المدني يقول إنه كان سائراً في شارع رئيسي ومن حقه أن يأمن السير فيه ولا يعكر عليه أمنه السيارات الخارجة من الشوارع المتقاطعة فواجبها ألا تخرج إلى الشارع الرئيسي إلا بعد الاستيثاق من خلوه.
وحيث أنه ليس في اللوائح أو الأوامر الإدارية تقسيم الشوارع بين رئيسية وفرعية وما هي إلا قواعد أوحى بها العقل، فتواضع الناس على العمل بها اتباعاً لما تقضي به مصالحهم وما يستوجبه ضمان أرواحهم أثناء سيرهم في الطرق العمومية وتنظيمها لمرورهم. . . والواجب يقضي على من يقود سيارة في شارع متقاطع مع شارع رئيسي أن يتحقق قبل محاولة اجتيازه من خلوه أو من إمكانه المرور فيه قبل أن تدركه السيارات السائرة فيه، ولكن ليس معنى ذلك أن السائق الذي يسير في شارع رئيسي يتهاون في قيادته إلى حد الخطأ أو الإهمال، فأنه يتعين عليه أن يكون شديد الحذر كلما اقترب من نقطة التقاطع وأن يخفف من سرعة سيارته اجتناباً للمفاجآت التي قد تحصل على غرة).
بيان كامل لما احتواه رأس الكاتب من قهم صحيح لقواعد السير، خطته يراعة مالكة لناصية الألفاظ تضعها حيث يجب أن توضع في أسلوب سهل وشيق.
واقرأ هذا الحكم للقاضي (حسن جاد) في قضية رفعها رجل على شريكه في الجريمة بطلب استرداد ما دفعه إليه ثمناً لاشتراكه، ووجد القاضي نفسه أمام رأيين فقهيين لكل منهما أنصاره ومخالفوه. أنظر كيف يؤيد الرأي الذي اختاره لنفسه تأييد أديب بارع:
(وحيث أن المدعي عليه دفع بعدم قبول الدعوى قولاً منه بأن استرداد المبلغ على فرض حصول دفعه أمر غير جائز لأن الدفع إنما حصل تنفيذاً لارتكاب جريمة يعاقب عليها القانون.
وحيث أن هذه المسألة وإن اشتد الجدل وكثر التحاور واختلفت الآراء وتناقضت الأحكام بشأنها، إلا أن المحكمة ترى رجحان المذهب القائل بجواز الاسترداد. لا لأنه هو المذهب السائد المتغلب بين الشارحين والمحاكم فقط، بل لما فيه من مزايا وما في عكسه من آفات.
وتعليل ذلك ظاهر لأن في اعتماد الدفع إفراراً للمحظور وتشجيعاً للفاجر على فجره. دع أن القانون نفسه لا يرتب أثراً للعقد القائم على سبب غير مشروع، ولا يمكن أن تفهم هذه القاعدة وتدرك حكمتها إلا إذا محوت أثر التعاقد وعاد ما كان إلى ما كان.
ذلك خير من الرأي القائل بأنه لا ينبغي مساعدة أي من طرفي التعاقد لأنه ليس لمن خالف القانون أن يستعين بالقانون ليحميه. ذلك بأن أصحاب هذا الرأي وهذه حجتهم لم يعبئوا بما يترتب على المنع من معاملة القابض على السحت معاملة أخف وأصلح من معاملة القابض على الحلال. بل إن هذه الحجة قد تلتوي على أصحابها في بعض الأحوال ويكون من نتائجها أن تتفاوت المعاملة بين العاقدين فيحل لأحدهما ما يحرم على الآخر.
وهذا من الوجهة القانونية. وأدب النفس يقضي بأن ما خرج عن النظام العام يجب إرجاعه إليه؛ ولما كان تنفيذ العقد الباطل خروجاً عن النظام وجب إلغاء التنفيذ ورد الحالة إلى ما كانت عليه قبله. ومن مصلحة المجموع أن يعلم سلفاً كل مقدم على مباشرة عقد باطل أنه لا يملك تنفيذ العقد بل ولا يملك الاحتفاظ بما تم لمصلحته تنفيذاً للتعاقد).
لغة ممشوقة تحبب إليك لو كنت من قضاة الدرجة الثانية البحث في الدعوى وتصور لك قاضي الدرجة الأولى رجلاً له قيمته فلا تقبل على هدم حكمه إن أردت الإلغاء إلا بحذر واحتراس.
وهذا قاض ثالث - مصطفى مرعي - يجيد كتابة الأحكام على حداثة عهده بالقضاء. أنظر كيف انقلب قلم المذكرات الجامح يراعة متزنة هادئة تتخير لكل لفظ موضعه ولا تتزيد في الأسباب حرفاً. أنظر إليه يطبق قاعدة أن العبرة في العقود بمعانيها لا بمبانيها:
(وحيث أن الطعن الثاني الذي وجهه المدعي للعقد يتطلب البحث فيما إذا كان العقد المذكور قد استوفى شروط البيع فيكون ملزماً للبائع أو هو لم يستوف هذه الشروط خلافاً لظاهره فيكون هبة أو وصية يسترها بيع.
وحيث أن المحكمة عند إجراء هذا البحث لا تستطيع أن تنظر إلى العقد في ظاهره دون
أن ترجع إلى الظروف التي أحاطت بالمتعاقدين، لأن العبرة في وصف العقود بالحقيقة التي قصدها المتعاقدون لا بالصورة التي تدل عليها الألفاظ والنصوص. كما أن المحكمة لا تستطيع أن تنظر إلى العقد المذكور مستقلاً عن الورقة الأخرى التي استصدرها الوالد من ابنه على طول المدة التي تقرب من سنة بين تاريخ العقد وتاريخ الورقة سابقة الذكر لأن تحرير هذه الورقة معناه أن المتعاقدين أرادا أن يكملا بها العقد بحيث يصبح منه جزءاً لا ينفصل، أو تكون معه كلا لا يقبل التجزئة).
تلك نماذج للغة الأحكام في يومنا الحاضر أتينا بها على سبيل التمثيل لا الحصر، فإن مجموعات الأحكام زاخرة بثمار قرائح خصبة وأقلام مواتية.
(وعلى من مارى أن يقرأ فإنه لا رأي لغير مطلع عليم).
وحدث ولا حرج عن أحكام محكمة النقض والإبرام في عهدها الحاضر. ارجع إلى أي حكم تقع عليه يدك من أحكام دائرتيها. اقرأ ما شئت بلا تمييز تقرأ أدباً عالياً قد أسبغ على قضاء المحكمة العليا ما كان يجب له من روعة وجلال.
لسنا نحاول هنا تحليلاً لهذه الناحية من أدب العصر، ولكن من ذا يملك أن يمر دون أن يقف وقفة إعجاب وطرب على مثل هذا القول لمحكمة النقض ترسم به حدود حرية النقد:
(وبما أن ما ذهب إليه الحكم المطعون فيه من أن العرف جرى على المساجلة بالعبارات الحماسية والأساليب التخيلية وألفاظ التهويل والمبالغة والتحذير والترهيب لمجرد التأثير على النفس وحملها على التصديق في الشؤون التي ليس من المستطاع حمل الناظر على تصديقها بالطرق البرهانية الهادئة. هذا الرأي لا تجيزه محكمة النقض والإبرام، بل إنها تصرح بأن فيه خطراً على كرامة الناس وطمأنينتهم وتشجيعاً للبذاءة ودنس الشتائم. والحقيقة ليست بنت التهويل والتشهير والمبالغة والترهيب بل بنت البحث الهادئ والجدل الكريم. وإذا كان لحسن النية مظهر ناطق فإنه الأدب في المناظرة، والصدق في المساجلة).
بل انظر إلى لغة هذه العاطفة الجياشة تجلجل بحق الإنسان إذا عذبه إنسان لا فرق لدى حارسة القانون بين رجل ورجل:
(وبما أن هذه المعاملة التي أثبتت المحكمة أن المجني عليه كان يعامل الطاعنين بها هي إجرام في إجرام، ومن وقائعها ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون بالأشغال
الشاقة. وكلها من أشد المخازي إثارة للنفس واهتياجاً لها ودفعاً بها إلى الانتقام. ولو صح أن المأمور كان يطلب نوم الطاعنين بمركز البوليس كما يقول الشاهد الذي اعتمدت المحكمة شهادته، وكان هذان الطاعنان يتخوفان من تكرار ارتكاب مثل هذه المنكرات في حقهما كما يقول وكيل أحدهما في تقرير الأسباب وفي المرافعة الشفهية، فلا شك أن مثلهما الذي أوذي واهتيج ظلماً وطغياناً والذي ينتظر أن يتجدد إيقاع هذا الأذى به - لا شك أنه إذا اتجهت نفسه إلى قتل معذبه فأنها تتجه إلى هذا الجرم موتورة مما كان، منزعجة واجمة مما سيكون؛ والنفس الموتورة المنزعجة هي هائجة أبداً لا يدع انزعاجها سبيلاً إلى التبصر والسكون حتى يحكم العقل هادئاً متزناً فيما تتجه إليه الإرادة من الأغراض الإجرامية التي تتخيلها قاطعة لشقائها. ولا شك بناء على هذا أن لا محل للقول بسبق الإصرار، إذ هذا الظرف يستلزم ألا يكون لدى الجاني من الفرصة ما يسمح له بالتروي والتفكير المطمئن فيما هو مقدم عليه).
نظرة إلى الأمام
والآن وقد استدبرنا حياة اللغة القضائية كما كانت، واستعرضنا بعض الأدلة القائمة على نهضة حالية لا تنكر، نود لو استطعنا أن نزيح طرفاً من سجف المستقبل فنطل على ما يعده الزمن لهذه اللغة الكريمة العزيزة.
كأني بها وقد راق لها الجو وانبسط أمامها ميدان العمل فسيحاً غير محدود، كأني بها وقد استولت على مشاعر جيل جديد ممعن في الأدب وثقافة العصر، فراح يفكر فيها ويكتب ويؤلف، وكأني بهذا الجيل وقد ضرب بسهم في جهود البشرية نحو الكمال، وكأني بمصر وقفت على قدميها في طليعة العالم العربي تبادل الغرب ثقافة بثقافة وتبيعه علماً بعلم.
لست بحالم. إني أرى هذا اليوم رأي العين.
(تم البحث)
زكي عريبي
2 - نهضة المرأة المصرية
وكيف توجه للخير العام
للأستاذ فلكس فارس
نحن في الشرق، وما أعني سوى الشرق العربي، مجلي ثقافتنا وقوميتنا، لا يهمنا سوى إيجاد الطفل، ولم نزل مسيرين بعقلية القبائل الغازية فنطمح إلى إيجاد الأطفال دون مبالاة بما تؤثر منابتهم عليهم.
إن خير ما تستثمر به المرأة للخير العام إنما هو استثمارها أطفالاً يصلحون لتكوين الأمة القوية أجساماً والسليمة عقولاً، وما النهضة المتجلية بين العدد القليل من بنات الشرق بالنهضة التي يصح أن نراها نهضة عامة متغلغلة في قلب الشعب نفسه؛ فالمجتمع لم يزل في الشرق العربي بأسره يتبع الإفراط والتفريط في تكوين الأسرة، فالمرأة عندنا اثنتان: ضحية استبداد الرجل، وضحية الضلال والغرور بنفسها لضعف الرجل إزاءها.
ليس لنا إلا إلقاء نظرة على ما حولنا ليأخذ بصرنا مشهدين هما مقتل الأمة وعلة دمارها.
المشهد الأول: شاب يفتش عن فتاة لتكون أماً لبنيه، قيل له إن في إحدى الأسر الشريفة فتاة بيضاء اللون أو سمراء، واسعة الأحداق طويلة القامة فاتنة ساحرة فسعى في أثرها متوسلاً إلى أهلها بكفاءته، فأصبح زوجاً للمجهولة، نكرة ضمت إلى نكرة. . . . فلا يطول الزمن حتى يظهر التنافر الخفي الكامن في الفطرتين فتبدأ المآسي التي تختتم على الأغلب بإهداء المجتمع أطفالاً تيتموا وآباؤهم وأمهاتهم لا يزالون على قيد الحياة. وهنالك الأسر المتعددة لرجل واحد امتنع عليه العدل المشروط فأهدى المجتمع الأخوة الأعداء، وما يبر بأبيه من كان لأخيه عدواً. . .
المشهد الثاني: فتاة في ربيع الحياة، مقصومة الشعر، غلامية تصادر وتباطن أي رجل كان، مهتوكة الستر، محولة هيكل الإنسانية إلى مهبط غواية وطيش، إن لم يتجاوز عدد مراقصيها المئات، عدت مقصرة في ميدان الثقافة، متأخرة في حلبة الحضارة والارتقاء، لا يصل قلبها إلى من تقف عنده وتختاره زوجاً لماله أو لجاهه إلا بعد أن يكون هذا القلب قد تقطعت أعشاره خفوقاً، فهي إذ ذاك كالنعجة التائهة راجعة إلى حظيرتها بعد أن تركت قطعاً من صوفها، وقد تكون تركت قطرات من دمها على أشواك الطريق. . .
هي في بيت الزوج لنفسها أولاً، وكل غيرة تبدو منه إنما تتجلى لديها كفراً بالتمدن وتقهقراً معيباً، تعودت أوتار قلبها أن تشد جواباً لكل قرار، فهي تدفع بالإيقاع الموقت مرافقة رنين أي وتر وتستعذب نغماته، روحها شاردة مضللة، فهي منبت أطفال يأتون الحياة مروعين، في أعصابهم تشوش، وفي أدمغتهم اختلال. . .
هذه خطوط كبرى لرسوم تمر مشاهدها أمامنا كل يوم في هذه البلاد الشرقية، وهذه المشاهد هي مركز العلة فينا ومصدر كل ما نشكو من تأخر وانحطاط.
إن سيادة الرجل على المرأة لا تعني قتل الحوافز الطبيعية لتضليل الانتخاب الخفي وفيه سر تحسين الأنسال، كما أنه لا يعني استضعاف الرجل أمامها لتجعل نفسها ملهاة وألعوبة بين أيدي الفاحشين من الرجال.
لقد أدخلت مدنية الفرس على الحضارة العربية بدعاً لابد من التحرر منها، وجاءت المدنية الغربية تستهوي مجتمعنا بما اتضح زيفه لدى مفكري الغرب أنفسهم لخروجه عن المحور الطبيعي للحياة، وهذا الذي يراه أنصار الطفرة خليقاً بالإعجاب من حرية المرأة، المتطرفة، إن هو في نظرنا إلا عنوان عبوديتها وذل الرجل المتساهل فيها.
إن آدم وحواء أخرجا من الجنة وكل منهما حامل ناموس حياته، وسواء أكان ما جاء في التوراة تاريخاً حقيقاً للمؤمنين أم كان أسطورة خيالية لغيرهم، فإن المفكر ليجد فيه النظام الذي لا تستقر الإنسانية على سواه.
لقد تمردت المرأة في العالم الحديث على وظيفتها الطبيعية وصاح كثيرات من الكاتبات في وجه الدنيا قائلات: لا نريد أن يحسبنا الرجل آلة للاستيلاد، نحن مساويات له في مجال التفكير والعمل. وكهربت هذه الكلمات أعصاب العدد الأوفر من النساء فتمردن على الأمومة واندفعن مطالبات بالعمل الحر استناداً إلى مبدأ الشخصية قبل النوع؛ وهكذا نشأ العراك بين الرجل والمرأة في ميدان الأعمال وفي مجال الحقوق والواجبات.
إن الطبيعة نفسها قد قسمت العمل بين الرجل والمرأة فألصقت كفه بالمحراث وألصقت صدرها بالمهد. فحسبت المرأة أن في موضعها كل العبودية، وخيل لها أن في مركض جهود الرجل كل الحرية، فسلخت صدرها عن مستقر الطفل واندفعت إلى المحراث، فتعطل الحرث العميق في الأرض منابت القوت، وساد الظلام على البيت منابت الأطفال.
إننا نسمع المعترضات يصرخن قائلات: إننا لا ننازع الفلاح محراثه، بل ننازع الرجل حقنا في الاشتراك في الأعمال التي تقوم المدنية عليها؛ نريد التغلغل في دوائر الحكم والإدارات والمصالح فإن الله لم يحرمنا القوة الفكرية التي جاد بمثلها على الرجل. ونحن نجيب السيدات بحقيقة إن أنكرها العاملات منهن كنّ كاذبات مكابرات، فنقول وهل هذه الأعمال على اختلاف مظاهرها سوى محراث يحتك بالأرض القاسية وهو يرتوي بعرق العبودية والشقاء؟ أليس الرجل في الحكم والإدارة والتجارة والصناعة مرتبطاً بمحراث العبودية لهذا التراب يعالجه لاستخراج الخبز بعرق الجبين؟ وهل الأم تملأ البيت نوراً وحكمة وشعراً مستندة إلى ذراع زوجها ومنحنية على سرير طفلها أقل مجداً أمام الحياة من أكبر رئيس لأعظم مصلحة من مصالح الشعوب؟
ليس في العالم رجل عامل، أيا كان عمله لا يخضع إرادته لمن فوقه ولمن حوله، بل ولمن دونه في مراتب الهيئات العاملة، فليس ما تتوهمه المرأة حرية في أعمال الرجال إلا عبودية لهم. على أنه إذا تسنى للرجل أن يحتفظ بشيء من الكرامة لنفسه في هذه العبودية، فإنه ليمتنع على المرأة ألا تصطدم في مواقفه بإهانات أخف منها أثقل ما يمكن أن يلحقها من القيمين عليها، آباء أو أخوة أو أزواج.
لقد كان حق المرأة في جميع العصور تابعاً لحق الرجل وهو يسود عليها، إلى أن طرأ على أوربا انقلابها المعروف في بداية القرن التاسع عشر، فنشأ في المجتمع حق جديد غريب في عناصره، هو حق المرأة منفصلاً عن حق الأسرة التي يرأسها الرجل، وهكذا شاهدت الشمس ما لم تشهد مثله في أي عصر من العصور الغابرة: شاهدت النوع البشري منشقاً إلى فريقين متناظرين يتناطحان في الميادين العامة، بعد أن كان هذا النوع لبشري إنساناً واحداً من جسدين مندغمين ينبثق من اندغامهما فجر الحياة.
أما منشأ هذا التطور فانقلاب خطير لم يصور فجائعه أحد كما صوره الشاعر الخالد الفرد دي ميسيه، فإذا ما اقتطفنا بعض عباراته لا نخرج عن دائرة الموضوع الذي نحاول الإلمام بأطرافه.
قال: (في إبان الحروب الإمبراطورية، بينما كان الآباء والأخوة في بلاد الألمان قذفت الأمهات المضطربات بسلالة شاحبة جاءت الوجود عنيفة مستعرة الأحشاء.
تلك سلالة تمخضت بها الحياة بين حربين، وربيت في المدارس على دوي الطبول، فكان إذ ذاك ألوف من الأولاد يحدج بعضهم البعض الآخر شزراً وهم يمرنون على القوة عضلاتهم الضعيفة، وكان الآباء الملطخون بالدم يلوحون للأبناء من حين إلى حين فيرفعونهم لحظة إلى صدورهم المحلاة بالذهب ثم يتركونهم إلى الأرض ويعودون ممتطين صهوات الجياد).
وبعد أن وصف ميسيه سقوط نابليون مدفوعاً بجناحي القدر إلى أغوار الأوقيانوس البعيد، قال:
(وجرت في مجتمعات باريس أمور مروّعة، إذ انشق الرجال عن النساء، فلبس النساء البياض كالعرائس، واتشح الرجال السواد كالأيتام، ووقفت الفئتان تحدج إحداهما الأخرى بنظرات العداء. انفصل الرجال عن النساء فتولد عن هذه الانفصال شيء أشبه بالنصل القاطع لا شفاء لجرحه، وما ذلك النصل إلا عاطفة الاحتقار.
فقد الرجل حبّ المرأة، فاندفع إلى الخمر ليستعيض عما فقد، ونظر الناس إلى الحب نظرهم إلى الدين كأن كليهما توهم واغترار، وغصت المواخير بالرجال فأصبحت الفتاة مهملة بعد أن كانت تغذي الشبيبة بحبها الطاهر السامي، وعندما احتاجت هذه الفتاة إلى غذاء ورداء باعت نفسها وبذلت عرضها لتعيش. إن الشاب الذي ترك الفتات وكان يمكنه أن يستنير وإياها بأنوار شمس الله، ذلك الشاب الذي كان في وسعه أن يقتسم مع حبيبته لقمة الخبز مبللة بعرق جبينه ويتمتع بحبها في فقره، أصبح مستفرشاً لدمن الإنسانية في مواخير الفسق حيث يتلاقى بالفتاة التي تركها وهي مثقلة بالأوصاب، شاحبة مضعضعة، يجول على فمها الجوع ويرعى قلبها التبذل والفساد. .).
(يتبع)
فلكس فارس
في الأدب الإنكليزي
4 -
هل من انتحال في الأدب الإنكليزي؟
للسيد جريس القسوس
- 7 -
تشاترتن والانتحال
لم يكن أحد من معاصري تشاترتن يشك في صحة ادعائه أن هذه الأشعار منسوبة إلى الكاهن رولي، بل كلهم يوقنون أن تشاترتن إنما عثر على هذه المنظومات في مخطوطات الكنيسة وسجلاتها، فنقحها ونشرها في مختلف الصحف، معلناً أنها اكتشافات أدبية جديدة.
لهذا كان في برستل أدبيان كبيران من هواة الأدب الرولي، هما جورج كتكوت وهنري برْجمْ هذان حفزهما الولع بهذا النوع من الأدب إلى جمع كلّ ما يعزى إلى ذلك الكاهن الخيالي؛ من ذلك مخطوطة أدبية وضعها تشاترتن، ونسبها إلى رولي، فابتاعها برْجمْ منه بخمسة شلنات، ظاناً أنها بقلم الكاهن رولي.
ولقد بلغ بتشاترتن طموحه الأدبي إلى مراسلة الصحف، سنة 1761، حين بلغ السابعة عشر من العمر، أن أعلن اكتشافه لقصائد شهيرة (من نظم كاهن من كهنة برستل، اسمه رولي، عاصر هنري السادس، وإدوارد السابع)، لكنه لم يتلقّ جواباً مرضياً شافياً؛ لهذا بعث إلى الأديب النبيل هوراس ولبول مؤلف قصة (قلعة أوترانتو) ينبئه باكتشافاته الأبية. فردّ عليه الأديب ولبول رداً حسناً، يستزيد فيه معرفة عن ناظم هذه الأشعار، وعن مقدارها، واعداً أن ينشرها على نفقته الخاصة.
وما كان من تشاترتن إلا أن عاد فبعث إليه بكتاب رقيق، يشرح فيه بؤسه وفقره، ويتوسّل إليه في إيجاد عمل له، يستطيع به أن يسد عوزه؛ وأرفق ذلك الكتاب ببعض الأشعار الرولية الممتعة. غير أنه ما كاد ولبول يتسلم هذه الأشعار، حتى سرّ بها سروراً دفعه إلى إطلاع أصدقائه عليها؛ من هؤلاء الشاعران الكبيران طوماس جري وميسن فأدهشهما الأسلوب الرائع، والفن البديع، والنفَس الشعري العالي إدهاشاً خالطت معه أفكارهما الريبة في أمر انتسابها إلى كاهن قديم العهد. فكن ذلك بدء المشكلة الرولية في عالم الأدب
الإنكليزي.
لكن المشكلة لم تتطور وتتعقد إلا بعد وفاة تشاترتن، فقد جمعت هذه الأشعار ونشرت في مجلد خاص، كما بينا، سنة 1803؛ فأحدث نشرها ضجة صاخبة في عالم الأدب لم تخمد حتى يومنا الحاضر.
عندئذ بادر علماء اللغة إلى دراسة لغة هذه الأشعار دراسة وافية دقيقة، استطاعوا بها أن يكشفوا بعض الكشف عن حقيقة الأمر. فقد توصلوا في بحثهم إلى الاعتقاد الجازم بأن لغة هذه الأشعار لا يمكن أن تنسب إلى الشاعر رولي، إذ كيف يصح ذلك وكثير من مفرداتها لم تتسرب إلى اللغة الإنكليزية إلا بعد القرن الذي عاش فيها الكاهن رولي؟
وأخيراً استدلوا من بحثهم العميق على أن تشاترتن كان يعتمد في كتابة أشعاره على قاموسين في الاشتقاق للعالمين اللغويين بيلي وكَرْسي فقد كان دأبه في بدء الأمر جمع كل ما تقع عليه يده من المعاني والمفردات القديمة البالية؛ ثم كان ينحت ما يستطيع نحته منها، إذا رأى أن الوزن والقافية لا يستقيمان بغير ذلك.
ولقد أدرك علماء اللغة، وخاصة العلامة اللغوي الشهير ولتر سكيت أنه كان يكتب أولاً بلغة عصره، وبعد ذلك يحوله بمضاعفة حروف المفردات وغير ذلك من السبل الحاذقة إلى أسلوبه ولهجته الخاصة، بطريقة يحافظ فيها على جمال الأسلوب الشعري وروعته الفنية.
ولقد عثر علماء اللغة في شعر تشاترتن المنسوب إلى رولي على اقتباسات من شعر سبنسر وشكسبير، ودرايدن وبوب، وقري، لكنها موضوعة بطريقة لا يشتم منها سرقة أدبية، وإنما تدل على ذاكرة حادة، وعتْ هذه الأشعار، وأرسلتها في شتى المناسبات، بطريقة يتعذر معها على القارئ التمييز بين ما هو لتشاترتن، وما هو لغيره. وذلك مما يدل كل الدلالة على أن هذه الأشعار من نظم تشاترتن، لا الشاعر الخيالي رولي. إذ كيف يصح ذلك، ورولي - في رأي تشاترتن - عاش في عصر متقدم على هؤلاء الشعراء جميعاً؟
ومما زادهم ريبة وشكاً في أمر هذه الأشعار الرولية، إدراكهم - على ممر الأيام - حذق تشاترتن ومهارته في تقليد أساليب الكتاب والشعراء المعاصرين تقليداً يتعذر معه على القارئ التمييز بين أدب تشاترتن وأدب غيره. فكان مثلاً ينشر في مجلة & ومجلة مقالات رائعة، حاكى فيها أسلوب جونيس محاكاة مدهشة؛ ليس هذا فحسب، بل دفعه حذقه
في فنون الكتابة وأساليبها الشعرية والنثرية إلى تقليد صمُلِتْ وتشارتشل ومكْفرسن في أوشان وبوب في أسلوبه الكلاسيكي، وقري وكولنز
وقد طرق - فرق ذلك - معظم أبواب الأدب فخلّف آثاراً قيّمة في الرسائل السياسية، وأناشيد الرعاة والشعر الغنائي والهجائي، والرواية الملحّنة ومن أشهر آثاره في هذا الباب أوبرا (الثأر)
والحاصل أن دراسة تطور اللغة، واشتقاق مفرداتها؛ وعثور العلماء على معان في شعر تشاترتن مقتبسة من شعراء متأخرين، وإدراكهم حذقه في محاكاة الأساليب والفنون النثرية والشعرية، ونفي المؤرخين زعم تشاترتن بوجود كاهن اسمه رولي عاش في القرن الخامس عشر وعرفه الناس واستمعوا إليه - جميع هذه أظهرت بجلاء واضح بطلان زعم تشاترتن، ودلّت دلالة صريحة أن هذه الأشعار لم تكن في الحقيقة إلا من نفثات براعة ذلك الشاعر الشاب، وأنه إنما اخترع الكاهن رولي اختراعاً لتمثيل فكرة أو نحو خاص في حياته، أو ليلهي به الناس، وليُرضي به حاجة أدبية أو خلقية في نفسه.
عندئذ سما تشاترتن في أعين الأدباء وكبر، وأصبح ديوانه خير ما يمثل عبقرية الشباب في ميدان هذا الفنّ الجميل.
الكرك - شرق الأردن
جريس القسوس
الشاعر وسريره
للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير
في عزلتي - والصمت في أفقها
…
وفي ثراها الوحشة القاتلة -
أدير عينيّ فما إن ترى
…
عيناي إلا ظلمة شاملة!
تقطّعت فيها خيوط المنى
…
يا ويلتا. . حتى المنى الباطلة!!
كنت بها أمرح في جنَّةٍ
…
تسخر منها النُّوَب الهازلة
وحين غابَتْ فتلمستها
…
دوَّتْ بسمعي ضحكة هائلة!
عدتُ بها أحمل جَنْبي إلى
…
سريريَ المضطرب الحائرِ
كبائس أضناه فرط الطوى
…
مرّ بقصرٍ شامخٍ عامرِ
خارت به أركانه فارتمى
…
وا رحمتا للحَدَث الخائر!
يرنو إلى النور. . ويُذكي الأسى
…
في قلبه قهقهةُ السّامر!
مثل أغاني الموت طنانة
…
في أُذن المحتضَر البائر!
ويح سريري! هو بي مشفق
…
يوسعني عطفاً وتحنانا
يحضنني جذلان. . . حتى إذا
…
أدرك ما بي ارتدّ أسوانا!
كم وَدّ أن يسلس جنبي له
…
فما ارتضى جنبي ولا لانا!
لا. . يا سريري، خلّني والأسى! =نَمْ. لا تُبَلْ فوقك سهرانا!
ما كان أحراك بتنفيس ما
…
يبهظني لو كنتَ إنسانا!
أُقسُ على جنبي ترفِّه به
…
عنّي، ففي لينك آلامي!
يُذْكِرُني لينَ الرضى والهوى
…
ولين آمالي وأحلامي
ولن أُعافَى ما تذكّرتُها
…
ناكئةً في قلبي الدامي!
أعدُّ ساعاتيَ. . . يا ليتني
…
أسهو فلا أحسب أعوامي!
يا ليت لليأس سبيلا إلى
…
قلبي فَأُوقَى سُخْر أيامي!
يا ليت لليأس سبيلا إلى
…
قلبي فأحيا بفؤاد خلي
واعجبا منّيَ أَستَنْجِد الْ
…
يأس كأنّي لم يمتْ مأملي!
ما أنا فيه اليأسُ! لو لم أكن
…
عن راحة اليائس في معزل!!
مصيبتي هذا الشعور الّذي
…
يربط ماضيَّ بمستقبلي
مَنْ لي بإِنسائيَ نفسي، فلا
…
أذكر ما اسمي: خالد أم علي؟!
نجمة المساء
'
لألفريد دي موسيه
ترجمة أحمد فتحي مرسي
يا رسولَ السماءِ في ذلك الليْ
…
لِ ويا بهجة الظلام المهيبِ
من سُجوفِ المساء جبهتكِ الغرّ (م)
…
اء لاحت تنيرُ بعد الغروبِ
ما الذي ترقبين - من قصركِ الأز
…
رق - في ذلك الفضاءِ الرحيبِ
هدأت ثورةُ الرياح وقرَّت
…
وبدا الكونُ غارقاً في السكونِ
وغصون الرياض في الليل تبكي
…
فيهُز الربى بكاءُ الغصون
والفراش الجميلُ في هدأةِ الليْ
…
لِ يجوب الحُزونَ إثْر الحُزونِ
هو ذا ضوؤُك البهيج تجلى
…
وبدا زاهياً على الآكامِ
أنت في الليل دمعة من لجينٍ
…
تتلألأ على رداءِ الظلامِ
ترقبين المروجَ والراعيَ الشي
…
خَ يجوب الربى مع الأغنامِ
ما الذي تنشدين يا نجمتي الزه
…
راَء في ذلك الوجود الغافي
فوق هذي التلال قد بتُّ أرعى
…
وجهك الضاحك الجميل الصافي
أظلم الليلُ غير نظرتك الحيْ
…
رى تجلّى وضوئك الرجَّافِ
فلسطين
للسيد جورج سلستي
إِيْ فلسطين، قطعةً من سماءِ
…
كنتِ قبلاً، وجنَّةً من رُوَاءِ
تملأُ العينَ ساحراتُ مغاني
…
ك وتسبي الفؤاد منكِ المرائي
فالجمالُ المئنافُ ما شعَّ إلاَّ
…
تحت أَجوائِك الحِسانِ الوِضاءِ!
يطفحُ السهلُ منكِ بالرونق الضح
…
يان، والسفحُ بالسنى والسناءِ
وترفُّ الأمجادُ فوقكِ يا أرضَ الن
…
بوءاتِ، رفَّةَ الأَضواءِ
وجلالُ الماضي المضمَّخ بالسؤ
…
ددِ والعزِّ والعلى والإِباءِ!
كم تهاديتِ فوقَ هام التواري
…
خ، دنيا سحريَّةَ الأنحاءِ
يلعبُ النور فوق ضاحي صياصي
…
ها ويلهو على ثرى الأَوْداءِ!
كم تجلَّيتِ في الوجود سماءً
…
رصَّعتْها كواكبُ لأنبياءِ!
تنفحُ الناسَ بالعدالة والسل
…
م وبالحلم والتقى والإِخاءِ!
إِيْ فلسطينُ، مهبطَ لوحي والإل
…
هامِ والدينِ والهدى والحياءِ
جنةً كنتِ فاستحلتِ جحيماً
…
بوجود اليهودِ والأوصياءِ!
كنتِ بالأمسِ ملْءُ باحاتكِ السلمُ
…
فأصبحتِ ساحة الهيجاءِ!
قَثراكِ الفسيحُ قد غصَّ (بالتَنْك)
…
وبالطائراتِ رحبُ الفضاءِ
وتبارى بأهلك العُرْب تمثي
…
لاً وفتكاً، جندُ الوصيِّ المرائي!
فاستحلوا قتلَ البريء، فما يُبْ
…
صَرُ إلاَّ مضرَّجٌ بالدماءِ
وأديمٌ مخضَّبٌ وصعيدٌ
…
قد علتْهُ نثارةُ الأشلاءِ
إن تحت الدم المرقرقِ أفوا
…
ها وطئ الأشلاءِ رجْعَ نداءِ
تستفزّ النفوس للأَخْذ بالثأْ
…
رِ وللانتقام للشهداءِ!
والميامينُ لا تنامُ على الضي
…
م ولا تستكينُ للأعداءِ
ودماءُ الأحرارِ مَهْرُ المعالي
…
وصَداقُ الحريَّةِ الحمراءِ!!
اصعدي، اصعدي، فأنَّ الضحايا
…
يا فلسطينُ سُلَّمُ العلياءِ
القصص
قصة مصرية
قبلت زواجها
للأستاذ دريني خشبة
(الحوار في الأصل باللهجة المصرية)
جلس (عم حامد) على حفافي الماء يغسل آثاراً من الدم الأحمر القاني في ملابسه، ثم توضأ وولى وجهه شطر القبلة وطفق يصلي. . .
ولكنه كان يصلي صلوات غير منتظمة ولا متساوقة. . . فتارة كان يطيل الركوع جداً، وتارة كان يخطفه خطفاً. . . ومرة كان يطيل السجود حتى يظن أنه نائم، ومرة أخرى كان لا يكاد يمس الأرض جبينه حتى يستوي جالساً؛ وكان مرة يصلي ركعة واحدة ويسلم، ثم يصلي ركعتين أو ثلاثاً أو أربعاً. . . ومرة كان يستمر في صلاة طويلة لا تكاد تنتهي!. . . عشر ركعات أو خمس عشرة ركعة. . . وهكذا!!
وكان يعود إلى الترعة فيتوضأ ويتوضأ، ثم يعود فيصلي ويصلي. . . وكان يرفع كفيه إلى السماء، ويعلق عينيه المغرورقتين بزرقتها، ثم يلهج بذكر الله، ويصلي على نبيه، ويكثر من قول:(لا حول ولا قوة إلا بالله!!) ولكنه كان يكثر كذلك من قول: (عمر، عمر، عمر!) ثم يبكي بكاء مرا!
وكان كلبه الأمين يُقعي بعيداً عنه، وينظر إليه ويتعجب!
- (من عمر يا عم حامد؟ السلام عليكم!).
- (أوه! عبد الله! تعال يا عبد الله نصلي ركعتين لله!).
- (أي صلاةٍ الآن؟ باق على الظهر ساعة يا عم حامد!).
- (ساعة على الظهر! والله يا بني أنا فاكر أن لشمس لم تطلع بعد!).
- (لا يا عم حامد! نحن في الشتاء والغيوم تحجب السماء، ولكن من عمر الذي تناديه يا عم حامد؟).
- (عمر؟ عمر من؟ عمر بن الخطاب!).
- (وماذا تريد من عمر بن الخطاب في هذا البرد القارس؟).
- (لا شيء. . . فقط. . . ذكرته في جاهليته وقد خرج الفجرَ ليدس ابنته في التراب وكانت الطفلة تعبث بشعر ذقنه فينظر إليها ويبكي. . مسكين سيدنا عمر! كان له حق! كان له حق.
- (كان له حق حين ذهب يدفن ابنته حية؟! يا للقسوة؟).
- (والله كان له حق يا عبد الله! البنات! آه من البنات يا بني!).
- (استغفر الله يا شيخ! مالك مضطربً هكذا يا عم حامد؟).
- (أستغفر الله!؟ صحيح! أستغفر الله، أستغفر الله).
- (الله أكبر. . . ما هذا الدم يا عم حامد!).
- (دم! أيّ دم؟ آه! هذا من جرح بسيط في ذراعي يا عبد الله).
- (وماذا جرح ذراعك؟).
- (وقعت على هذا الحجر وأنا أتوضأ، وكانت عنده زجاجة. . . هل بذرتم البرسيم؟).
- (بذرنا البرسيم؟ نحن (نعلف) بهائمنا منه وأنت تسأل عن بذره؟ ماذا بك يا عم حامد؟).
- (لا شيء! اتركني يا عبد الله! أود أن أنام قليلاً، أنا متعب يا بني، لم أنم طول الليل. . .).
- (السلام عليكم يا عم حامد، كان الله في عونك! كان الله في عونك يا شيخ).
وانصرف الشاب الفلاح وفي قلبه وسواس يشغله؛ فهو لم يعهد عم حامد، الرجل الطيب، كما عهده اليوم شديد الحيرة بادي الارتباك مغبر الوجه؛ وعهده به الشيخ الهادئ الدمث المشرق الجبين الضاحك المُحَيَّا؛ ولكن الشاب مع ذلك لم ير أن يلحف حتى يقف على سر الفلاح الشيخ، الذي لا يوجد في القرية بأكملها من يصلي أكثر منه، أو يعطف على الضعفاء والمحتاجين كما يعطف هو على الضعفاء والمحتاجين. . .
ثم تعب عم حامد من كثرة ما صلى وناجى ربه، فنام على الحشيش اليابس المنتثر في المصلى، وطرح فوقه ذلك (البشْت) الذي صنعه بيديه من الصوف الغليظ الذي لا يُرى الشيخ إلا وهو يغزله، واسترسل في سبات عميق ممتلئ بالأحلام المخيفة والرُّؤى الدامية.
وأقبلت فتاة جريحة. . . فلاحة ساذجة، تضع فوق رأسها (طرحةً) من الشاش الأسود
مسبلة على العنق الطويل المربوط برباط كبير من الشاش الأبيض انتفخ القطن من تحته ليدل على جرح كبير في مكان خطر؛ وربطت كذلك ذراعها اليسرى كما ربطت عنقها.
أقبلت هذه الفتاة نحو المصَلى، ووقفت عند رأس عم حامد تنظر إليه في ذلة و؟ انكسار، وترسل من عينيها الدعجاوين دموعاً كالمطر حارَّة سخينة كأنها تفور من قِدْر تغلي. . . وكانت ثيابها البسيطة تزيد في جمالها الهادئ الحزين، وتبرز من الصدر ثديين ناضجين ينحدر عليهما الجلباب الفضفاض فيجعلهما كتماثيل مختار، وتبدي من أسفل قدمين صغيرتين بَلُّوريتين هدأ على كعبيهما خلخال كبير فضي تمتاز به أقدام الغيد الأماليد من قرويات مصر، وهو دائماً فتنة الأنظار في الريف المصري. على أن وجهها الشاحب المنزعج كان هو الآخر فتنة المفاتن! حاجبان رفيعان مقوسان تحت جبين ناصع فوق عينين كبيرتين حوراويْن، تضاعف سحرهما أهداب طويلة كحيلة، تلقي ظلالاً من الجمال المصري على الخدين البارزين المثمرين. . . كأنما خلقها الله محوراً لأمور جسَام تقع في ذلك البيت الصغير من تلك القرية الكبيرة البارزة في ريف المنوفية، توكيداً لخلق الفلاح المصري الذي يقدس العفاف في الفتاة، ولا يسمح أن يُفتَحَ قلبها إلا عن طريق أبويها.
وكان عم حامد يتقلب على شوك أحلامه، ثم استيقظ فجأة ليرى فوق رأسه (ثُريّا) ابنته. . . ثريا. . . التي حسب أنه قتلها وعشيقها بمحشّته الكبيرة. .
وفرك عينيه مرتين أو ثلاث مرات، ولكنه تأكد أنها هي. . . هي ثريا من غير شك.
- (بنت؟. . .).
- (. . .؟. . .).
- (ثريا؟!).
- (أبي. . .).
- (وكيف تركت محمود؟).
- (حالته خطرة جداً. . . قد يموت بعد ساعات).
- (آه. . . يا رب. . . يا رب. . . يا لطيف! غفرانك يا لطيف!).
وصمت لحظة، ثم نادى ابنته. . .
- (ثريا. . . سامحيني يا ثريا. . . سامحيني يا ابنتي. . . سامحيني. . . قولي الله
يسامحك يا أبي. . . قولي. . . الله! لماذا تبكين؟ الجروح تؤلمك؟ لا، لا. . . ستشفى هذه الجروح إن شاء الله. . . تعالي يا ثريا، تعالي، اجلسي إلى جانبي؛ تعالي، أنت خائفة! اطمئني يا بُنَية! اطمئني. . . لقد غسل دمك ودم محمود كل ما كان في قلبي من غيظ. . . الله يشفيه محمود ابن خالي، هل كنت تحبينه يا ثريا؟).
- (والله يا أبي لقد كان يبشرني بأنه سيخطبني إليك اليوم!).
- (لا حول ولا قوة إلا بالله! ولكن! على كل حل كان يجب ألا تسمحي له بتقبيلك. . .
أنا ظننت، لا سمح الله، أن بينكما. . . (شيئاً حراماً)!).
- (لا والله يا أبي، ما كان بيننا إلا كل طهارة).
- (لا عليك يا ثريا إذن. . . الله يشفيه يا بنية ويتزوجك وتتمتعان بشبابكما. . . لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا (أخطأت) لا ريب في ذلك. . . صحيح، أنا تسرعت. . . ولكن الحمد لله. . . لا بد أن أصلي ركعتين شكراً لله على سلامتك يا بنتي!).
وذهب عم حامد إلى الماء وتوضأ ثم راح يصلي صلاة خاشعة هادئة منظمة.
لقد كانت خلية من النحل تطن في رأس ثريا من أجل محمود، فلقد كانت تحبه، بل تعبده؛ ولقد كان يحاول أن يحملها بين ذراعيه الواهيتين الضعيفتين بعد أن فاجأهما عم حامد يتناجيان في منزله الخالي، فضربهما بمحشته تلك الضربات التي حسبها قضت عليهما، وغسلت عن عرضه عار الفضيحة التي زعمها تلحقه في ابنته. . . ولكن محموداً، القوي الجبار ذا العضل، عجز حتى عن حمل نفسه، لأن جروحه كانت أكبر، ولأن الدماء ظلت تتفجر منها وتنهمر، فسارت ثريا إلى جنبه تسنده على رغم ضعفها وإعيائها حتى بلغا دار حلاق الصحة القريبة، حيث وجداه يطبب فلاحين كثيرين ثمة، وحيث كان ابنه يضع (العَلَقَ) على أورام العجائز، أو يعالج الحمص في مرضى مساكين.
- (عم أبا طالب. . وحياة أبيك تلحق، اربط جروح ثريا، و. . . جروحي بعد ذلك. . .).
- (لا. . . لا يا عم أبا طالب. . . الحمد لله. . . عليك بمحمود أولاً!).
ولم يكن أحد من المرضى الكثيرين في دار عم أبي طالب من أهل القرية لحسن حظ الجريحين، فكانا يتكلمان بجرأة وصراحة، وأراد عم أبو طالب أن يصيد سمك الجنة من دماء الفتى والفتاة، فقال: (الله أكبر، ما هذه الجروح؟ هذه جناية بالتأكيد! لا بد أن أُبلِّغ!
سأبلغ الشرطة لضبط الحادثة. .) وترك ما يشغله من عمل بالفعل، ثم لبس معطفه الكحلي الكبير ويمم شطر الباب يوهم الجريحين أنه منصرف إلى مركز الشرطة للتبليغ عن الحادث.
- (يا عم أبا طالب! يا عم أبا طالب! خذ من فضلك!).
وكان صوت محمود وهو ينادي حلاق الصحة ضعيفاً وانياً.
- مالك يا سيد محمود؟ هذه جنية ولا بد أن أبلغ. . .
ثم اقترب الحلاق من الجريح البائس الذي لم يكن يمتلك أكثر من عشرة قروش، ومد يده.
- (هاك (بريزة) يا عم أبا طالب، ولما (أخف وتخف) ثريا. . .).
- (بريزة! م شاء الله، والله إنها مسألة لا يكفيني فيها جنيه وغرارتان من الأرز. . .).
- (لك ذلك يا عم أبا طالب. . . أسرع وحياة أبيك).
ورفضت ثريا أن تضمد جروحها قبل محمود، وحاول محمود أن يؤثرها على نفسه ولكن الحلاق الذي لا يعرف هذه العواطف تقدم بقطع القطن والشاش القذر وصبغة اليود والمرهم، فضمد جروح الفتى، ثم جروح الفتاة).
- (كيف حال محمود يا عم أبا طالب؟).
- (اسكتي، حالتك أحسن منه بكثير، مسكين، ربما لا يأتي عليه ثاني يوم يا. . .
على كل حال الجنيه وغرارتا الأرز لا آخذهما إلا منك. . . وإلا. . . فالفضيحة إن شاء الله!!).
- (ربنا يستر يا عم أبا طالب. . . إن شاء الله ربنا يشفي محمود، ويرى خاطرك).
وتركت ثريا حبيبها في منزل الحلاق وتهالكت على نفسها إلى الحقل لتلقى أباها، لأنها أعرف به، ولأنها واثقة أن ثورة الغضب التي سيطرت عليه لابد أن تكون قد هدأت وسكنت ريحها. . . ثم هي عارفة بورعه وتقاه وقلبه المؤمن الذي لا يحب لصاحبه أن يكون سافك دماء زكيه بغير جرم غير الظن، وكم من الظن ما هو إثم لو تدبر صاحبه. . . ذهبت إليه إذن. . . وكانت ألف فكرة تزدحم في رأسها طيلة الطريق. . . (تُرى؟ كيف أكلمه؟ وكيف أبدأ حديثي معه؟ هل سكن روعه؟ أم هو حين يراني ما أزال على قيد الحياة يثور ثائره ويتمم المأساة؟ آه يا ربي! أنحلم بالزواج وتأبى المقادير التعسة إلا الفضيحة؟. .
).
واختتم الشيخ المحطم صلاته، ونظر إلى ابنته بعينين رجراجتين تفيضان بدمع غزير، ثم دعاها لتجلس إلى جانبه فامتثلت ثريا، ودنت منه وقلبها يخفق وجسمها يرتجف، ثم جلست معه في المصلى، وبدلاً من أن يضغط بذراعيه على عنقها فيخنقها كما كان يخيل إليها، تناول رأسها لجميل فطبع على جبينها قبلة هادئة صامتة، وتحدرت دموعه على خديها، ثم جعل يرجو منها أن تسامحه!
وصمت الوالد وابنته لحظة، ولكن صراخاً مرعباً ارتفع فجأة من جهة القرية، فنظرت ثريا، وهالها أن ترى نسوة متشحات بالسواد يجتمعن قرب الحارة التي فيها دكان الحلاق!
- (أبي!. . أبي!. . محمود!. .).
- (محمود؟ ما له يا ثريا؟. . .).
- (مات!).
- (مات! لا حول ولا قوة إلا بالله. . . مسكين محمود!).
ومرّ غلام بهما مقبلاً من جهة القرية فسألاه: من مات؟ فأجابهما: (إنه محمود ابن عم حنفي. . مات عند حلاق الصحة من جروح في عنقه. . قتلوه! الله ينتقم منهم! قتلوه من أجل قفة ذرة!).
واسودت الدنيا في عيني عم حامد، وأيقن أنه ممض بقية حياته في غيابة السجن، وما كان أحوجه إلى نهاية مريحة ناعمة. . .
أما ثريا، فقد انهدت قواها، وطار لونها، وامتلأت عيناها الجميلتان الحزينتان بأشباح الوحشة، وفكرت في أحلامها التي طاشت، فكانت تتراءى لها طيوراً سودا كالخفافيش تملأ الغرب الذهبي الذي أوشكت شمسه أن تغيب!
- (أبتاه!).
- (نعم يا ثريا!).
- (لازم نروح!).
- (إلى أين يا بنتي؟).
- (هناك! عند. . . أل. . . (عزا)).
- (طبعاً يا بنتي. . . هي. . . لا عليّ أن يضعوا الحديد في يديّ! هذا أمر الله وقضاؤه! وإذا سألوك فيجب أن تعترفي بالحقيقة يا ثريا. . . لا حول ولا قوة إلا بالله. . .
وسار الشيخ المسكين وسارت في إثره ابنته، حتى إذا بلغا القرية ويمما شطر منزل حلاق الصحة لم يجدا أثراً لجنازة أو نحوها، فظن عم حامد أنهم ذهبوا بالميت إلى مسجد لقرية للصلاة عليه، ولذلك انثنى ليأخذ طريقه إلى المسجد، ولكن رأسا برز من نافذة في باب الحلاق أخذ يناديه فجأة:(يا عم حامد. . . يا عم حامد. . . هات ثريا وتعال. . .).
ونظر الشيخ، فرأى الحلاق نفسه هو الذي يناديه، فذهب إليه وصمت لحظة وهو يرمقه، ثم قال له:
- (أبا طالب! استرني يسترك الله! أنا ما صنعت ذلك إلا دفاعاً عن عرضي! هل بلّغت لشرطة؟).
- (اطمئن يا عم حامد، اطمئن، ولكن قبل كل شيء كم جنيهاً ستعطيني؟).
- (كل ما تطلب يا أبا طالب!).
- (خمسة جنيهات على الأقل يا عم حامد؟).
- (لك ذلك يا ولدي. . .).
- (تعال إذن. . . شرّف منزلي. . .).
ودخل الرجل. . . ودخلت في إثره ابنته، يحملان هموم الدنيا والآخرة!
يا للعجب! ماذا يرى؟ هاهو ذا محمود. . محمود حي لم يمت! وهو يدخن لفافةً بشغف ولذة. . . وإلى جانبه مأذون القرية، ورجلان من أكرم رجالها.
- (قبلت زواجها!).
- (قبلت زواجها!).
- (قولي يا ثريا. . . وأنا قبلته بعلاً لي!).
وتقدم الغلام الخبيث الذي كان أخبرهما أن محموداً قد مات، فسقاهم شراب الليمون المعطر بماء الورد. . .
دريني خشبة
البريد الأدبي
نظريات في الحرب
الجنرال لودندورف من أعظم قواد ألمانيا في الحرب الكبرى وأعظم الخبراء العسكريين المعاصرين، وله في الحرب ووسائلها وغاياتها نظريات خاصة بسطه في كتاب وضعه بعنوان:(الأمة أثناء الحرب)، وقد ظهرت أخيراً ترجمة إنكليزية لهذا الكتاب بنفس لعنوان وفي هذا الكتاب يحمل الجنرال لودندورف على نظريات كلاوزافتش في الحرب، وخلاصتها أن السياسة يجب أن تكون أداة للمشرعات العسكرية، وأن هذه المشروعات يجب أن تكون طريقاً مباشراً للحرب؛ ومع أن نظريات كلاوزافتش تعتبر في كثير من الأمم ولا سيما إنكلترا نظريات متطرفة خطرة، فإنها تعتبر في رأي لودندورف لينة قاصرة؛ ذلك لأنها في نظره تفسح للسياسة مجالاً أكثر مما يجب، ولأنها لم تدرك أهمية السيطرة العسكرية المطلقة. وكل ما يسلم به الجنرال لودندورف من نظريات سلفه هو أن الحقيقة الخالدة في الحرب (هي حصر الأغراض العسكرية في سحق جيوش العدو خلال الحرب). أم ما تبقى من نظريات كلاوزافتش فيرجع إلى ماض انقضى وحل محله عهد جديد. ويرى لودندورف أن الحرب الحديثة لم تبق حرب جيوش وقوى عسكرية فقط هـ وإنما هي حرب مطلقة تقوم على حرب الأمم ضد الأمم. ويجب بناء على ذلك أن تضع الأمة كل قواها العقلية والأدبية والمادية في خدمة الحرب، وأن تكون هذه القوة أثناء السلام مخصصة للحرب التالية. ذلك لأن الحرب في نظر لودندورف هي أعظم تعبير عن إرادة الأمة في الحياة، ولهذا يجب أن تكون السياسة عبداً مطلقاً للحرب وأداة مطيعة لها.
ويرى لودندورف أن الحرب وسيلة لا غاية لها؛ ولهذا يجب أن تعد الأمة للحرب، وأن تكون دائماً على قدم الاستعداد له. ويرجع لودندورف هزيمة ألمانيا في الحرب الكبرى إلى الدعاية النصرانية والدعاية اليهودية، ويقول إن العقيدة النصرانية، والحياة التي تترتب عليها، لها أهم أسباب الانحلال القومي في الحرب المطلقة؛ ولهذا يجب أن تستبدل بهذه العقيدة أخرى تقوم على العقائد الجنسية، أو بعبارة أخرى تقوم على الإيمان (بألمانيا) وألمانيا وحدها؛ ومن ذلك تتفجر الوطنية الصحيحة. وتؤمن المرأة بأن أعظم واجباتها ينحصر في إنتاج أبناء أقوياء للأمة يحملون أعباء الحرب المطلقة، ويخصص الرجال كل
قواهم لهذه الغاية. والخلاصة أن لودندورف يرى أن الغاية القومية المثلى هي أن يربى الشعب ويعد لغاية هي الحرب.
كتاب عن لوبية
نظمت في العام الماضي بعثة إنكليزية لتكتشف مجاهل صحراء لوبية بالسيارة، وأسندت رياستها للمستر كندي شو. وقد قطعت البعثة في جولاتها في الصحراء أكثر من ستة آلاف ميل؛ وأصدر أخيراً مستر ماسون هودر أحد أعضاء البعثة كتاباً عن هذه الرحلة الصحراوية عنوانه:(جنة الجهلاء وفيه يصف رحلة البعثة منذ قيامها بالسيارات من القاهرة واختراقها لصحراء لوبية جنوباً حتى الفاشر من أعمال السودان على خط 14 شمال خط الاستواء، ثم عودها إلى سواحل البحر الأبيض من طريق آخر، واختراقها (بحر الرمال الأعظم) الذي يغمر واحة سيوه. وقد كانت البعثة تجري في جولتها مباحث جيولوجية وجغرافية ونباتية وحيوانية لحساب الجمعية الجغرافية البريطانية التي جهزتها. وقد لقي أعضاء البعثة حتفه أثناء السير، وهو الكولونيل ستروث.
ويغرق مستر ماسون في وصف أهوال الصحراء ويقول لنا: إن الإنسان في الصحراء يفقد حواسه الحقيقية، ويرى في السهل الشاسع، وفي ضوء الشمس الساطع، الأرض المنبسطة تغلي وتترنح في السراب، وتملأ العين هواجس متعبة؛ وتُرى أشياء لا توجد، على حين لا تُرى أشياء خطرة، وقد لا ترى حتى يقع المكروه.
ويقول مستر ماسون: إن أغرب ما يلفت النظر وجود الحيوانات في هذا القفر الشاسع الذي لا توجد فيه قطرة من الماء؛ وكذلك مما يدهش الإنسان أن يرى في قلب الصحراء وادياً عجيباً تظله الأشجار الباسقة هو (وادي حوار) وهو واد لا يصل الماء إليه من أي النواحي.
معلومات عن بلاد التتار
وقعت في بلاد التركستان الصينية منذ ثلاثة أعوام حوادث عسكرية وسياسية خطيرة لن تتضح حقائقها لبعد الشقة وانقطاع المواصلات، ولكن جريدة (التيمس) الإنكليزية أوفدت إلى الصين مراسلاً خاصاً لها هو المستر بتر فلمنج ليقف على سير الحوادث بنفسه ويعلنها
للعالم، فسافر مستر فلمنج إلى الصين، وانقطعت أخباره شهوراً عدة حتى ظن أنه قتل أو ضل؛ ولكن ظهر فيما بعد أنه اضطر أن يخترق الصين كلها من بكين إلى الغرب ليصل إلى مدينة كشغر عاصمة بلاد التتار (التركستان الصينية)، وأنه نجح في مهمته، ودرس الحوادث والشئون في تلك الأنحاء درساً حسناً.
وقد أصدر مستر فلمنج أخيراً كتاباً جامعاً عن رحلته بعنوان (أنباء من بلاد التتار ويستخلص من رويته أن حكومة سنكيانج (التركستان الصينية) التي يرأسها الجنرال شنج واجهت ثورة خطيرة قام بها التتار والتونجان، وكادت الثورة تكتسح كل شيء لولا تدخل السوفييت العسكري ومعاونتهم للجنرال على تثبيت أقدامه؛ وكان الجنرال شنج قد قبض على زمام الحكومة منذ سنة 1933، وأرغم حكومة نانكين الصينية على الاعتراف بمركزه. والآن يسود حكم الجنرال شنج في معظم بلاد التتار، ولكن السلطان الحقيقي في يد السوفييت الذين يحتلون مراكز السلطة في البلاد كلها، ويحاذر السوفييت الآن من بث الدعوة الشيوعية في بلاد التتار، ولكنهم يبعثون أبناء الكبراء والموظفين في كل عام مجاناً إلى طشقند ليتعلموا في مدارسها، ويعدون بذور دعوتهم من طريق النشء.
وكتاب مستر فلمنج جدير بالقراءة، لأنه يتحدث عن بلاد شرقية لا نعلم الكثير من شؤونها. وقد كتب بأسلوب شائق.
النشيد القومي - (الغلطة الثانية)
نبهنا إلى الغلطة الأولى في هذا النشيد الذي يراد فرضه على مصر، وطلبنا الرد عليها وانتظرنا ثلاثة أسابيع فلم يرد أحد، وعلى ذلك فقد سلموا بها تسليماً تاماً بلا قيد ولا شرط، وأصبح قول ناظم النشيد:(سأهتف باسمك ما قد حييت) كاملاً معكوساً فاسداً يخالف العربية والعامية.
والآن نذكر الغلطة الثانية، ونحن على يقين أن صاحب المعالي وزير المعارف الرجل العالم والأديب سيكتفي بالغلطتين. أما القراء فلابد أن ينتظروا إلى نهاية العدد.
يقول ناظم النشيد:
غرامك يا مصر لو تعلمين
…
قصارى شعوري (دنيا ودين)
قصارى شعوري معناها غاية شعوري ونهاية شعوري. ومن الطريف أن بعض قراء
الصحف قرأ هذه الكلمة (قَصَارِى) بفتح القاف وكسر الراء!
ولكن ما هو إعراب (دنيا ودين)؟
أهي مرفوعة؟ لا. أهي مجرورة؟ لا. إذن هي منصوبة ولا وجه لنصبها إلا على التمييز، فهل تصلح تمييزاً أولاً؟
يشترط في التمييز أن يكون رافعاً لإبهام. والشعور هنا جنس مبهم يحتاج إلى تمام يفسر معناه، كالحب أو الكره أو الغضب وغير ذلك من أنواع الشعور. ولكن (الدنيا) ليست من أنواع الشعور فلا تصلح لرفع الإبهام عنه وتفسيره إلا إذا صح أن يقال: غرامك ي مصر غاية شعوري قمحاً وبناً وسكراً، أو نهاراً وجبالاً وحيواناً وسماء وأرضاً. وهذا كلام فاسد لا معنى له.
ثم أن الدين ليس شعوراً، بل هو عقيدة وعمل، فهو كذلك لا يصلح للتمييز هنا؛ وإذ صلح فأي مسلم يتجرأ على أن يعتقد أن غاية الشعور ونهايته من الدين الإسلامي غرام مصر؟ إذا اعتقد المسلم هذا ونادى به فهو زائغ العقيدة، ويكون النشيد القومي ضلالة يجب محوها، ويحرم على جميع المسلمين أن يقبلوه.
وإذا أريد من (دنيا ودين) الحياة الدنيا والحياة الأخرى كان هذا أقبح وأسخف. وأي مسلم يتجرأ على أن يقول: إن غرام مصر غاية شعوره من الحياة الآخرة؟
س. ط
بكلية الآداب
أقصوصة حب اللحم
علقت الرسالة على أقصوصتي (حب اللحم) تعليقاً فهمت منه أنها لم تفطن للسبب الذي من أجله آثرت هذا الحل الذي لم يرقها والذي (لا يرضي الخلق الجميل) على حد تعبيرها - ولعل الأستاذ المحترم صاحب التعليق فاته أن (روحية) هي بطلة القصة، وأنها لم تكن موافقة على تلك الجريمة التي دبرها صلاح. ولذلك قالت له:(حرم عليك يا صلاح. . .) ثم راعها أن تسمع السيارة تنقذف في النيل، فقالت:(وَيْ. . . اسمع! لقد انقذفت السيارة في الماء!!) فلما قال لها صلاح: (بمن فيه طبعاً!) لم تزد على أن قالت: (يا للقسوة!!) وقد
أخطأ الصفاف، فجعلها (يا للقوة) مُسْقِطاً السين.
وأحسب الأستاذ صاحب التعليق يعلم أن بطل القصة عادة يحمل رأي الكاتب وإن لم يكن هذا شرطاً غاماً، فقد تكون القصة كلاًّ لا يتجزأ، وقد تكون - بل ينبغي أن تكون عادةً - درساً يرمي إلى غرض ما. ومن سياق القصة تحس الكراهية الشديدة لقصر العلاقة بين الزوجين على الجنس دون القلب، وكان بيومي أفندي رمز الجنس في القصة، وكان صلاح رمز الروح فيها. فأي شيء لا يرضي الخلق الجميل في أن ينتصر الروح على الجنس ويقذف به في النيل؟
واحسبني أهيج زعماء ثقافة اليسار إذا قلت إن القانون لجنائي في الشريعة الإسلامية معطل في مصر، فكيف يكون القصاص من زوج زان وسكير ومبذر تضبطه زوجته غير مرة زانياً وسكيراً ومبذراً؟ هل تملك تطليقه؟
هذا ولا يفوتني أن أعتب على صاحب التعليق أسلوبه، فأنني لا أنشد بقصصي الكثيرة إلا خُلُقاً جميلاً.
دريني
(الرسالة) نوافق الأستاذ الدريني على أنه ينشد بقصصه الخلق
الجميل، وهو ولا شك يوافقنا على أن الدين والقانون هما
جوهر الخلق الجميل، والدين يأذن للزوجة المضرورة أن
تطلب الطلاق وتثبت الضرار فيحكم القاضي بالتفريق،
والقانون لا يجيز لحبيب الزوجة ولا لغيره أن يقتل الزوج
وعشيقته على هذه الصورة.
الكتب
الحياة الجديدة
تأليف الأستاذ نقولا يوسف
للأستاذ دريني خشبة
للأستاذ سلامة موسى في مصر مدرسة عرف تلاميذها بالدؤوب والنشاط الذهني، وهم جميعاً من الشباب المثقف المتشوّف دائماً لمستقبل حافل مليء بالأماني والآمال والأحلام. وهم دائما يفخرون بأنهم يمثلون ثقافة اليسار في مصر خاصة والشرق عامة، ومن هنا نزوعهم إلى الثورة في تفكيرهم، ومن هنا أيضاً تبرمهم بثقافة اليمين وتحرشهم بزعماء مدارسها. ونحن لا يسعنا إلا أن نمتدح تلاميذ هذه المدرسة بالرغم مما يتورط فيه بعضهم من البذاء والتطاول، وبالرغم من أن الأستاذ سلامة نفسه يفسح في مجلته لهذا البعض من السفهاء مجالاً واسعاً يهرجون فيه تهريجاً لا يتفق ومقام الأستاذ ومكانته الرفيعة في نهضة هذا البلد.
بيد أن للأستاذ تلاميذ بارزين، استطاعوا بعد كفاح عظيم وجهد متصل أن يفسحوا لأسمائهم أماكن ظاهرة في محيط التفكير المصري. ولعل من أفضل هؤلاء التلاميذ لأستاذ المفكر المطلع صديقنا (نقولا يوسف) الذي أخذ نجمه يتألق في السياسة الأسبوعية، ثم في عشرات من المجلات والصحف والأندية، عُرف فيها جميعاً بسمو الغاية في تفكيره وحرارته الوطنية في حبه لمصر، ومحاولته دائماً الاندماج في الأوساط المختلفة ليترك فيها خمائر من ذهنه الخصب وثقافته الواسعة واطلاعه الشامل.
ولقد بدا للأستاذ الصديق أن يجمع كل ما كتب، ويصدره في مجلد حافل غني (عن دار المجلة الجديدة) وكتب إلي يسألني عن رأيي في كتابه هذا. . . ولا أحسب في ذلك توريطاً لي من قلمه البارع يجعلني أثني على عمله الثناء كله من دون أن أعرض لبعض نواحي الكتاب بنقد شديد يكاد يشبه الذم.
جمع الأستاذ فصوله القيمة وجعلها في ثلاثة أبواب، أولها (بحوث عالمية) من مثل (فن الحياة، الإنسانية بين الحرب والسلم، في الوحدة العالمية، في الأدب الجديد. . . الخ).
وثانيها (شئون مصرية) من مثل: (في الأدب المصري. الكاتب المصري بين البيئة والوصف، تجديد الموسيقى المصرية، احتضار الحجاب، الفلاح، وتجديد القرية. . الخ). وثالثها (دراسات أدبية وفنية) من مثل: (في الفن الإغريقي، شعراء الأرستقراطية، في الأدب الهندي، ساعات مع بوذا وطاغور وملتون وشالي، ولز والعصر الجديد. . . الخ).
ولست أدري لماذا حشد الأستاذ كل هذه الفصول في كتاب واحد؟ ولم لم يصدرها في ثلاثة كتب حتى يكون من الممكن أن يستقل كل منها بفكرة متحدة وغاية واحدة؟ إن الكتاب كبير ضخم، وهو بضخامته غير المتناسبة يتخم القارئ ويصده عن متابعة القراءة، خصوصاً وأكثر القراء كسالى، وأكثر بحوث الكتاب دسمة غزيرة الفكر، والكتاب ليس قصة يغري أولها بآخرها، ولكنه حشد من الآراء التي لا يربطها في الظاهر أي رابط، وإن رَمَت في النهاية إلى التثقيف العام.
إن القسم الثالث من الكتاب، وهو أمتع أقسامه الثلاثة، كان يمكن أن يكون كتاباً مستقلاً يكاد لا يكون له نظير في المكتبات العامة. وإن أي بحث من بحوثه ليشهد للكاتب بسعة الاطلاع وعظم الجهد الذي عانى في كتابه بعد تحضير مواده الكثيرة. . . فالبحث الأخير مثلاً (ولز والعصر الجديد) هو عصارة شهية لهذا الكاتب الإنجليزي المأسوف عليه، لقي في إعدادها حضرة الكاتب كل عناء ومشقة؛ ويكفي أن تعرف أنه تناول أكثر كتب ولز، فلخصها وشرح لك طريقته في كتابة كل منها؛ لتعلم أي جهد جبار كان يبذل أديبنا عندما اعتزم كتابة فصوله في هذا القسم الثالث من الكتاب. ومثل هذا الفصل لا يمكن أن ينتهي منه الكاتب في أقل من شهر تقريباً. أفليس من الحرام إذن أن يجتمع ذلك البحث الكلي و (شؤون مصرية) أو (تأملات على شاطئ البحر) في كتاب واحد؟! ما لولز وما لهذه الموضوعات (وليست المواضيع يا أستاذ نقولا!) الإنشائية يا صديقي؟ ما لولز وتنيسون وطاغور وبوذا وأندريه شينيه وهوراس. . . وما لخواطر في مقبرة وخواطر في حديقة وخواطر في الطريق وفي العمل؟! أفلم يكن أخلق بهذه التراجم العالمية أن تستقل في كتاب واحد يكون له خطره وفائدته؟!
وقل مثل ذلك في القسمين الآخرين.
هذا من حيث شكل الكتاب، وإن يكن إغفال الصور - خصوصاً للمترجم لهم - قد شوه
بعض جمال هذا العمل. أما من حيث موضوعه، فأكاد أمدحه (على طول الخط) لولا هذا الغلو في الدعوة إلى العالمية في زمن تقوم فيه دكتاتوريات تريد أن تلتهم العالم وتذل الحريات. أجل، إن الإخاء الإنساني الذي يراد أن يشمل قارات الأرض جميعاً حلم جميل، ولكنه في زمننا هذا يعتبر حلم الضعفاء والنَّوْكي والمهزومين؛ ونحن في عصر تنشد فيه مصر من أبنائها وطنيةً حادةً متأججة، وطنية الدبابات والطائرات والغازات السامة التي هي أسلحة هذا الزمان الظالم المقاحم. . . الزمان الذي شهد بعينيه الكليلتين سقوط عرش أسد يهوذا تحت سنابك نيرون!
أنا أعرف أن الأستاذ نقولا رجل الأحلام والشعر والموسيقى، ولن أنسى مطلقاً رنين كلماته في أذني في ليالي أسيوط المقمرة. . . ولكني أوقظه في غير رحمة ولا عطف، ليقرأ بعينيه النفاذتين بنود المعاهدة المصرية الإنجليزية، والبرقيات المخيفة المزعجة عن تسلح الدول.
لنعطف ولتسِلْ نفوسنا رقة ورحمة، ولكن على المصريين. . على أنفسنا. . . أما على الثعابين والعقارب، فلا!
وليثق الصديق نقولا أن ولز الذي مات فلم يشعر به أحد، كما مات توماس مور فلم يشعر به أحد كذلك، لا بد أنه ندم على جميع طوبوياته التي كتبها. وليفكر الصديق نقولا أيضاً في مصر اليوم فقط، أو إلى ما بعد عشرين سنة فحسب. . . أما في العالم بعد ألفين سنة، فهذه أضغاث أحلام. . .
عمل جليل لا شك يستحق من أجله نقولا يوسف ألف تهنئة، وهدية سنية من المجلة الجديدة.
دريني خشبة