المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 168 - بتاريخ: 21 - 09 - 1936 - مجلة الرسالة - جـ ١٦٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 168

- بتاريخ: 21 - 09 - 1936

ص: -1

‌مصر والبلاد العربية

للدكتور عبد الوهاب عزام

بين مصر والبلاد العربية كل ما يؤلف بين الأقوام من وشائج القربى والتاريخ، وكل ما يُحكم القرابة من عقائد وعواطف وآلام وآمال، وكل ما يؤكد الأخوة من حقائق ومنافع. والكلام في هذا تبيين ما لا يعوزه البيان.

يذهب المصري إلى أحد الأقطار العربية فكأنما برح بقعة في مصر إلى أخرى؛ يرى وجوهاً يعرفها ولا تنكره، ويسمع من أحاديث الماضي والحاضر ما يسمعه في بلاده، ويحدَّث عن الهموم والمطامح التي تنطوي عليها نفسه ويخفق بها قلبه. حيثما توجه وجد أهلاً بأهل وأخواناً بإخوان، وأبصر من ذكَر التاريخ، ومشاهد الحاضر، وخطط المستقبل، ما يوحي إليه أنه في وطنه وبين قومه. وكأنه لا يذهب إلى هذه البلاد إلا ليرى بعينيه ما حدثه به التاريخ وأحكمته في نفسه النشأة والتعلم.

ذهبت مرات إلى فلسطين والشام والعراق، فكان يخيّل إلي أينما سرت لا أخطو إلا على صفحات من التاريخ المجيد، ولا أرفع بصري إلا إلى عنوان من عناوينه في صورة مسجد، أو مدرسة، أو قبة حنت على عظيم من أسلافنا أبطال الإسلام والعربية. وطوفت في العراق مدنه وقراه، وحضره وباديته؛ فكانت بغداد عندي القاهرة، بل أجل ذكراً؛ وكانت الكوفة والبصرة والموصل أعظم أثراً في نفسي من طنطا والمنصورة وأسيوط؛ وكانت مضارب شمر وبني تميم أذهب بي في التاريخ من مضارب القبائل المصرية. وأما دمشق الجميلة الجليلة فما دخلتها على أحداث التاريخ ورفعتني مواكبه فسارعت إلى الجامع الأموي أنشد قول شوقي:

هذا الأديم كتاب لا كفاء له

رثّ الصحائف باق منه عنوان

ولست بدعاً في هذا فما أحسب مصرياً ذهب إلى هذه البلاد إلا شعر بما أشعر به

وليس الأمر بيننا تشابك أقوام واتصال أوطان فحسب ولكنه الحب المؤكد، والود الصريح، ينطق على ألسنة القوم، ويتجلى في أساريرهم، ويبين في أعمالهم، ويشهد به اهتمام القوم بكل صغيرة وكبيرة في مصر، وتحدثهم عن علمائها وأدبائها وأحزابها وقادتها حديث المحب العارف الخبير، وحرصهم على قراءة ما تخرجه مصر من كتب ومجلات وجرائد.

ص: 1

وكثيراً ما نرى في الشام والعراق من يعلم عن مصر أكثر من أبنائها. وإذا تحدث هؤلاء الاخوة الكرام عن مصر أشادوا بذكرها، وأكبروا حضارتها، واعظموا مآثرها على العربية والإسلام، معترفين مغتبطين لا جاحدين ولا كارهين، وعدوا مجدها مجدهم، وعزها عزهم، وفخروا بها كما يفخرون ببلادهم.

وتطلع البلاد العربية إلى مصر، وإنزالها هذه المنزلة أجدى الوسائل إلى التقريب بينها، وتوحيد سننها في التربية والتعليم، والتأليف بين أبنائها. ولم يأل إخواننا جهداً في التودد والتقرب. فماذا يجب على مصر؟ ليست مصر أقل شعوراً بإسلامها وعربيتها، ولا أضعف تقديراً للوشائج التي تحكم بهذه البلاد أواصرها، والمصالح التي توثق بها علائقها، ولكن التاريخ السياسي في العصر الأخير فرق بين هموم مصر وهموم أخواتها، وشغلها بغير الذي شغلوا به؛ فلما أفاقت قليلاً إلى نفسها وموقفها بين الأقطار والأمم لم يلحقها شك فيما بينها وبين أخواتها من أواصر وعرى لا تقوى الحادثات على فصمها. وكلما خف عنها عبء المصائب ازدادت شعوراً وبصراً بمكانتها بين أخواتها وما يجب عليها.

إن على مصر أن ترعى القرابة وتجزي الود بالود؛ وعليها أن تضطلع بالتبعات التي تحملها إياها ثقة البلاد العربية بها، وإقامتها منها الأخ الأكبر. أسمع أحياناً بعض المتحدثين بهذا يقولون إن على مصر أن تستغل هذه الثقة؛ وحاشا لله أن يكون الأمر استغلالاً أو اتجاراً، إنما هو أخوة ومودة، وتبعات وواجبات، وتعاون على الوقوف في معترك الحياة، وتآزر على بلوغ الغاية التي تلتقي عندها مقاصدنا جميعاً. يجب على مصر أن تصلح نفسها وتكمل حضارتها، وتعمل ما يوافق مكانتها، وتسن السنن الصالحة لنفسها وغيرها. يجب عليها أن تشارك في السراء والضراء، ولا تقف بمعزل عن مصائب البلاد العربية ومسراتها، بل تشارك جهد اليد واللسان والقلب. وعليها ألا تألو جهدا في إمداد من يستمدها، وبذل ما تُسأل من معونة في العلم والأدب وغيرهما موحية إلى كل مصري يذهب إلى البلاد العربية أنه يذهب ليؤدي واجباً ويعاون أخا، وأن واجبه حيثما كان من هذه البلاد كواجبه في مصر، وأن مقصده الأول أن يبذل من قواه على قدر طاقته، لا يبغي جزاء ولا شكورا، وإن لم يقصر إخواننا في الجزاء والشكر.

ثم على مصر ألا تتردد في الاستفادة بما في هذه البلاد من مزايا، فلا ريب أن فيها من

ص: 2

الآداب والأخلاق والصناعات ما يجدي علينا أن نتلقاه عنها ونحتذيها فيه.

بالمودة والتآخي والتعاون وشعور كل جماعة بمكانها من الجماعات الأخرى، وإدراكها مالها وما عليها في الجماعة الكبيرة الشاملة، يتهيأ للبلاد العربية ما بين بحر الظلمات ونهر دجلة ما تطمح إليه من مجد وسعادة، وما يكافئ تاريخها من حضارة، حتى تؤدي نصيبها من الخير للجماعة البشرية كلها. وما أعظم ما ينتظر المجد من العرب! وما أعظم ما تؤمل الإنسانية فيهم!

عبد الوهاب عزام

ص: 3

‌مصرع هرة

للأستاذ عبد الحميد العبادي

كانت لنا هرة لطيفة، ظريفة، خفيفة الجسم، مرهفة الحس، طوافة بالليل، جوالة بالنهار؛ وكان أولادي يحبونها هي وصغارها الثلاث، ويَحْبونها بالفضل من طعامهم، والكثير من عبثهم؛ وعلى مر الأيام نشأت بين صغار الأنس وصغار الحيوان ألفة جعلت كلا يحتمل عبث كل، ويجد في ذلك لذة ومتاعاً.

وشاء حر القاهرة الذي اتقدت جذوته في أوائل الشهر المنصرم أن ينتجع أولادي بعض السواحل فراراً من وقدة الحر، وابتراداً بهواء البحر ومائه؛ وشاءت ظروفي الخاصة أن أبقى في القاهرة وحيداً إلا من خادم يرعى شؤوني إذا حضرت، ويحرس المنزل إذا غبت. ففقدت الهرة وصغارها بتبدل الحال ما اعتدنه من الطعام إلا قليلاً يمسك الرمق ويستبقي الحياة.

وكأن الهرة استشعرت شيئاً من الأنفة والأباء، فلن ترض بالدون، ولم تصبر على الهون، وانطلقت تضرب في الأرض تبتغي سعة الرزق لنفسها ولصغارها، فكانت تعود من حين لأخر مطبقة فمها على مسلاخ أرنب، أو مشاش عظم، أو عصفور اقتنصته في بعض الحدائق، فتجمع صغارها على ما وفقت له من الرزق، فيكون لهن منه عوض عما فقدن من الزاد.

وأحبت الهرة أن تعود صغارها السعي معها في كسب القوت، فكانت تبرز خارج الدار وتناديهن فيتسارعن إليها، متواثبات، سائلات الأذناب، مؤللات الآذان، محدقات العيون، فيجسن جميعاً خلال الحديقة، فلا يعدمن صرصارا أو جرادة يتبلغن بها بعد أن يلعبن بها طويلاً.

ودرجت الأيام على تلك الحال، وكأن القطط استطبن حياة السعي، وذقن حلاوة الرزق المجلوب بالجد، فعدن لا يأبهن لما كنت أرفدهن به من وقت لآخر من كسرة خبز، أو نغبة لبن، أو عرق لحم ينهسنه، أو عظمة يتعرقنها

غير أن صروف الأيام لا ينجو من كيدها إنسان ولا حيوان، ولا يسلم من آفاتها من يمشي على اثنتين، وما يدب على أربع. فقد كنت ذات يوم جالساً في منزلي وقت الظهيرة، وكنت

ص: 4

ضيق الصدر، لَقِس النفس، كأنما أتوقع حدثاً يحدث، أو خطباً يلم، وإذا بي أبصر الهرة تلج من باب الدار بهيئة أنكرتها: أبصرتها تمشي متحلجة، متخلعة، تخالف بين يديها ورجليها، وتقوم وتقع، وتصطدم بما يلقاها في طريقها، فأثبتها النظر، فرأيت، وما أفضع ما رأيت! رأيتها مشجوجة شجاً قبيحاً، فأدركت من فوري أن فظاً غليظ القلب، محمقاً من طباخي الحي قد أعنتته الهرة في طلاب العيش، فأهوى إلى رأسها بسكينه، فشتر إحدى عينيها، وكاد يشطر الرأس شطراً.

وأدركت أن المسكينة تحاول الوصول، على ما بها، إلى صغارها، فطفقت أجمعهن لها من هنا وهنا، وما هي إلا أن أحستهن حتى تحوَّت عليهن، ترضعهن وتمسحهن بلسانها على عادتها. فلما جن الليل جعلت أريد الهرة على الخروج من المنزل، لعل برد هواء العشى ونسيم السحر ينفعها، ولكنها رفعت إلي رأسها وكأنها تستعفيني من الخروج ليلتها تلك، ولأقض بعد ذلك ما أنا قاض. فنزلت على وحي حالها ودلالة منظرها، وانصرفت إلى مضجعي. فلما كان الصباح إذا بي أصحو على مواء موجع صادر من الهرة، فأسرعت إليها فوجدتها تعالج سكرات الموت؛ وما هي إلا لحظة حتى غدت جثة هامدة لا حراك بها. كل ذلك والقطيطات حيال ذلك المنظر الذي لم يعرفنه بعد، مبهوتات صامتات مأخوذات. وكأنهن وقد سكنت حركة أمهن يتمثلن بالشعر الذي وضعه الشاعر الإنكليزي، بيرون، على لسان (قابيل) عندما رأى أخاه (هابيل) ميتاً، ولم يكن رأى الموت قط:

أخي! ما عراك؟ وكنت الغداة

ذكي الفؤاد، قوي البدن

على العشب ملقى، فماذا دهاك؟

أنوم، وما الوقت وقت الوسن؟

سكنت، وأمسك منك اللسان

وهل مات حي إذا ما سكن؟

ألا ما هلكت! وإن كان في

شحوبك معنى بهيج الحزن

نعم! لقد كان في حال تغير الهرة الميتة معنى هاج حزن القطط، فقد لذن بأركان المكان واجمات، ولو ألهمن النطق لتمثلن بقول النابغة:

من يطلب الدهر تدركه مخالبه

والدهر بالوتر ناج غير مطلوب

ما من أناس ذوي مجد ومكرمة

ألا يشد عليهم شدة الذيب

حتى يبيد على عمد سراتهم

بالنافذات من النبل المصابيب

ص: 5

إني وجدت سهام الموت معرضة

بكل حتم من الآجال مكتوب

وثارت نفسي لهذا المنظر الأليم، وذكرت قسوة الإنسان على العجماوات مع أنه مستأمن عليها، مستحفظ لها، مسؤول عنها. وذكرت ما جاء في صحيح الأثر من أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. وذكرت قول الرسول العربي:(إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور): ونهيه عليه السلام أصحابه عن اقتعاد الرحال في المجالس حتى لا يعلق بها شوك يؤذي الإبل عندما توضع على ظهورها، وقول عمر لرجل رآه يعنف بماشية يسير ليذبحها:(يا هذا سقها إلى الموت سوقاً رفيقاً)، وذكرت رسالة (الحيوان والإنسان) التي ختم بها إخوان الصفاء رسائلهم، وكيف ذهبوا فيها مذهباً لطيفاً في التدليل على أن الإنسان في حقيقة الأمر حيوان من الحيوان، لا يفضل غيره من الأنواع إلا بالعمل الصالح المنجي له في الدنيا والآخرة. ذكرت كل ذلك فعلمت أن البون لا يزال عندنا شاسعاً بين القول والعمل، وأن المبادئ الجميلة لا تزال إلى حد بعيد مجرد حبر على ورق، وذلك من سوء حظ الإنسانية الصحيحة.

أما بعد! فلا تبعدي أيتها الهرة المظلومة! فكأس المنية لا تبرح دائرة على الخلائق، يشرب بها الرفيع والوضيع؛ وسيان في حكمها من يمشي سوياً وما يمشي مكباً على وجهه. إن الموت لعمري واحد، ولكن الموتات تختلف؛ وموتتك أيتها الهرة؛ من أشرف الموتات. لم تموتي حتف أنفك، ولم تموتي في مسعى باطل. لقد قضيت جاهدة، مجاهدة، وذهبت في ريعان عمرك ضحية الواجب، والسعي الصالح. إذا طالت الأعمار بأقوام رضوا بالهوان والمسكنة، وآثروا العافية المذلة على الجهاد المشرف. نعم، إنك لم تجدي في هذا العالم من ينصفك، ويطلب بثأرك، ولكنك واجدة عند القوة الممسكة لهذا الكون خير الجزاء. ألم تدخل امرأة في هرة أماتتها ظمأ وجوعاً؟ أليس معنى أن الإنسان إذا تجرد من الرحمة فهو عند الله لا يستحي أن يقصها منه إذا طغى عليها وتجبر؟ ألا كفى بذلك للنفس، لو تعلمين، تأساء وتعزية.

891936

عبد الحميد العبادي

ص: 6

‌الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

- 2 -

عنى الفارابي كل العناية بموضوع السعادة علما وعملا، فخصه بكتابين من كتبه شرح فيهما مختلف آرائه الصوفية، وبين الوسائل الموصلة إلى السعادة؛ وهذان الكتابان هما: تحصيل السعادة، والتنبيه على السعادة، اللذان طبعا في حيدر آباد سنة 1345 و 1346هـ، وقد امتازا - مقرونين إلى الرسائل الفارابية الأخرى التي وصلت إلينا - بغزارة مادتهما ووضوح أسلوبهما؛ وحبذا لو فكرنا في إعادة طبعهما بمصر. ولم يكتف الفارابي بهذه الدراسة النظرية، بل جد في أن يتذوق السعادة بنفسه، وأن يصل بتفكيره وتأمله إلى مرتبة الفيض والإلهام كما صنع أفلوطين من قبل. ويقال إنه حظي بذلك مرة أو مرتين.

وواضح أنه ليس في مكنة الناس جميعاً الصعود إلى مرتبة هذه السعادة، ولا يبلغها إلا النفوس الطاهرة المقدسة التي تستطيع أن تخترق حجب الغيب وتصعد إلى عالم النور والبهجة. يقول الفارابي:(الروح القدسية لا تشغلها جهة تحت عن جهة فوق، ولا يستغرق الحس الظاهر حسها الباطن، وقد يتعدى تأثيرها من بدنها إلى أجسام العالم وما فيه، وتَقْبَل المعلومات من الروح والملائكة بلا تعليم من الناس، والأرواح العامية الضعيفة إذا مالت إلى الباطن غابت عن الظاهر، وإذا مالت إلى الظاهر غابت عن الباطن. . . وإذا اجتمعت من الحس الباطن غابت إلى قوة غابت عن أخرى مثل البصر يُخَبَّل بالسمع، والخوف يشغل عن الشهوة، والشهوة تشغل عن الغضب، والفكرة تصد عن الذكر، والتذكر يصير عن التفكر، أما الروح القدسية فلا يشغلها شأن عن شأن).

فالروح القدسية إذن واصلة، ترى المغيب، وتسمع الخفي، وتجاوز عالم الحس إلى عالم المشاهدة الحقيقية والبهجة الدائمة. هذه هي نظرية الاتصال التي قال بها الفارابي واعتنقها الفلاسفة اللاحقون، وقد لعبت دوراً هاما بوجه خاص لدى فلاسفة الأندلس. وهي كما ترى ضرب من التصوف النظري القائم على البحث والدراسة يقربنا إلى الله ونعيمه المقيم. والتصوف في جملته ساد العالم الإسلامي منذ زمن بعيد تحت مؤثرات كثيرة بين فارسية

ص: 8

وهندية ومسيحية وإغريقية. وفي رأي كل متصوف أن الغرض الرئيسي من العمل والتأمل هو الاتصال أو الفناء في الله. يقول رينان: (لم يعرف الشرق أن يقف في العبادة عند حد المبالغة والإسراف، بل كان الاتحاد مع العقل الكلي بوسائل خارجية حلم الطوائف الصوفية في الهند والفرس. وهناك سبع درجات - كما يقول المتصوفة - تقود المرء إلى الغاية النهائية التي هي الفناء المطلق أو النرفانا البوذية، حيث يصل الإنسان أن يقول: أنا الله) ومشكلة أنا وأنت من المشاكل الهامة في تاريخ التصوف الإسلامي، فأنا وهو الشخص الإنساني يعمل على أن ينمحي في أنت وهو الله، وما الحلول الذي قال به الحلاج والذي درسه الأستاذ ماسنيون دراسة عظيمة إلا أوضح مظهر لهذه المشكلة في الإسلام، فهو يتلخص في اختفاء الإنسان في الله، وبذا يتحد أنا وأنت اتحاداً كاملاً.

كان الفارابي صوفياً في قرارة نفسه، يعيش عيشة الزهد والتقشف ويميل إلى الوحدة والخلوة. وقد أفاض مؤرخو العرب في وصف تقشفه وإعراضه عن الدنيا. وابن خلكان خاصة يضعه في مصاف الزهاد والنساك. وبالرغم من أنه عاش في بلاط سيف الدولة بن حمدان وجالس العظماء لم يغير شيئاً من عوائده ولم يخرج عن زهده وتقشفه. فجليس الملوك هذا وصفي الأمراء كان يرى في أغلب الأحيان بالقرب من الطبيعة يناجيها ويستكشفها أسرارها ويستمليها ما حوت من عظات. وقد رووا أنه كتب الكثير من كتبه على شواطئ المجاري المائية وبين الثمار والأزهار. فهذا الاستعداد الفطري الذي نشأ عليه، وهذه النزعة الصوفية التي تمكنت منه، أثرت من غير شك في آرائه وأفكاره، وكانت عاملاً في تكوين نظرية السعادة الفارابية. وأسلوب الفارابي نفسه يتفق مع هذا الاستعداد ويتلاءم مع هذه النزعة؛ فهو إلى الغموض أميل، وفي باب التعمق والتركيز أدخل. وهذا شأن الصوفية جميعاً يرسلون الجمل المختصرة المعماة. وكثيراً ما عانى المستشرقون صعوبات في تفهم عبارات الفارابي وإدراك كنهها، وشكوا من غموضها وتعقدها.

ويجب أن نضم إلى هذا المؤثر الداخلي عاملاً آخر خارجياً، ألا وهو الوسط الذي عاش فيه أبو نصر، فقد تفشت في العالم الإسلامي لعهده أفكار صوفية كثيرة صادرة عن أصل هندي أو فارسي أو إغريقي أو مسيحي. ولا يستطيع أحد أن ينكر تأثره بهذه الأفكار، وفي كتاباته

ص: 9

ما ينهض دليلاً على ذلك. فقد جارى المتصوفة وشرح لنا المراتب التي يمر بها من يرغب في السعادة. والمرتبة الأولى في رأيه هي مرتبة الإرادة، وتتلخص في شوق زائد ورغبة أكيدة في تنمية المعلومات واكتساب الحقائق الخالدة. فإن كانت هذه الرغبة مؤسسة على دوافع حسية أو خيالية فهي مجرد إرادة، وإن قامت على التفكير والتأمل فهي اختيار حقيقي. وبعد الاختيار تجيء السعادة التي تحدثنا عنها من قبل. فهذا التدرج في جملته يشبه من بعض الوجوه منازل الصوفية.

وفوق هذا فقد عاصر الفارابي كبار الصوفية الذين يقولون بالحلول، وعلى رأسهم الجنيد المتوفى سنة 911 ميلادية وناشر نظرية الاتحاد الصوفية ومردد الجملة المأثورة: اللهم مهما عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب). ويروى أن الشبلي دخل عليه يوماً وبحضرته زوجه، فأرادت أن تحتجب، ولكنه أبى عليها ذلك قائلاً: لا خير للشبلي عندك. ولم يكد الأخير يسمع هذه الكلمة حتى بكى. فقال الجنيد لزوجه على الأثر: استتري فقد أفاق الشبلي من غيبته. والحلاج تلميذ الجنيد من معاصري الفارابي كذلك، فقد توفى سنة 922 للميلاد. وهو صاحب الجملة المشهورة:(أنا الحق) التي لاقى من جرائها حتفه. وعلى يديه سما مذهب الحلول إلى أوجه وبدا في أوضح صوره، وتم الاتحاد الكامل بين أنا وأنت. وأشعار هذا العصر الصوفية مملوءة بالغيبة والحضور، والوجد والوجود، والنسيان والذكر. يقول بعضهم:

وجودي أن أغيب عن الوجود

بما يبدو علي من الشهود

ويقول الآخر:

عجبت لمن يقول ذكرت ربي

فهل أنسى فأذكر ما نسيت

شربت الحب كأساً بعد كأس

فما نفد الشراب ولا رويت

ربما يبدو بعد الذي تقدم أنا ميالون إلى أن نعقد صلة بين تصوف الحلاج وتصوف الفارابي، وأن نثبت أن آراء أوائل المتصوفة قد أثرت تأثيراً مباشراً في أفكار فلاسفة الإسلام الصوفية، ولكنا نسلم بذلك من ناحية النزعة والتوجيه العام فقط، أما من جهة النظريات في تكوينها وتفاصيلها فأنا نرفضه للأسباب الآتية:

أولاً: تصوف الفارابي نظري مبني على الدراسة والبحث قبل كل شيء. فبالعلم، والعلم

ص: 10

وحده، تقريباً نصل إلى السعادة. أما العمل ففي المرتبة الثانية ومهمته ثانوية للغاية. على عكس هذا يقرر الصوفية أن التقشف والحرمان من الملذات الجسمية وتعذيب الجسم هو الوسيلة الناجعة للاتحاد بالله. يقول الجنيد:(ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات).

ثانياً: - وهذا فرق جوهري - الاتصال الذي يقول به الفارابي مجرد سمو إلى العالم العلوي وارتباط بين الإنسان والعقل الفعال دون أن يمتزج أحدهما بالآخر. أما المتصوفة فينظمون من العبد والرب وحدة غير منفصلة، ويقولون بحلول اللاهوت في الناسوت. وعلى هذا يتلاشى أنا في أنت تماماً ولا يتميز الخلق من الخالق. وهذا هو سر حملة أهل السنة على هذا الخلط غير المقبول والغلو المفرط. حقاً أن الفارابي يذهب في فقرة واحدة غريبة إلى أن الإنسان حين يصل إلى درجة السعادة يحل فيه العقل الفعال. غير أنه لا يمكن أن يقبل هذا التعبير على علاته ويجب أن يحمل حملاً مجازياً. فأن صاحبه يلاحظ غير مرة أن العقل المستفاد وهو أسمى درجات الكمال الإنساني يختلف في طبيعته ووظيفته ومرتبته عن العقل الفعال. ويرى الفارابي فوق هذا أن الموجودات في تدرجها مكونة من طبقات بعضها فوق بعض؛ والله مثال الكمال المطلق، وبينه وبين الإنسان والعالم الأرضي كله فواصل متعددة. فنظريات الفارابي الميتافيزيقية والفلكية المختلفة لا تسمح بأن يتحد الخلق مع الخالق أو أن يمتزج العقل الإنساني بالعقل الفعال.

وأخيراً على كلمة اتحاد واتصال فتؤذنان بالفرق الواضح بين نظرية الحلول الحلاجية ونظرية السعادة الفارابية؛ فأن الكلمة الأولى التي تنصرف عادة إلى نظرية المتصوفة تدل على الاندماج التام بين المخلوق والخالق، في حين أن الكلمة الثانية التي تطلق على نظرية الفلاسفة تشعر فقط بمجرد علاقة بين الإنسان والعالم الروحي.

فالواجب علينا إذن أن نبحث عن منبع آخر يمكن أن تكون نظرية السعادة الفارابية في جملتها قد استقيت منه. وإذا شئنا تعرف هذا المنبع وجب علينا أن نصعد إلى أرسطو وإلى كتابه الأخلاق النيقوماخية بوجه خاص. يقول جلسون: (ليس ثمة فكرة ولا عبارة لدى أرسطو لم تنظر ولم ينتفع بها شراحه. وهذه الملاحظة صادقة على العموم في كل المشاكل التي درسها وخاصة في مشكلة العقل). ونظرية الاتصال التي نحن بصددها تؤيد هذه

ص: 11

الملاحظة تمام التأييد، فإنها مأخوذة نصاً عن أصل أرسطي؛ وذلك أن أرسطو في شرحه للخير يقول في الكتاب العاشر من الأخلاق النيقوماخية إنه فضيلة تتكون في الوحدة وبالتأمل العقلي وتخالف الفضائل الإنسانية الأخرى المتعلقة بالجسم. هو قوة تأملية تكتفي بنفسها وتدرك الحق المطلق، وفضيلة عليا لأنه يتصل بأسمى شيء في الإنسان وهو العقل. وباختصار هو فضيلة الفضائل لأنه يصدق على الجانب القدسي حقيقة في الإنسان. ليس هناك شك في أن هذه الفقرات أساس لنظرية الفارابي في السعادة والاتصال. ففي رأيه، كما في رأي أرسطو، الحياة العقلية غاية في نفسها. ومتى جد الإنسان في الدراسة والنظر والبحث والتفكير تشبه بالله والعقول المفارقة التي هي إدراك مستمر وتأمل دائم. ومتى انقطع الإنسان إلى هذا المجهود النظري أقترب من الكائنات العلوية، وفاز بسعادة ليست وراءها سعادة. فأرسطو الواقعي مصدر الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية، و (الأديمونيا) الأرسطية عماد لنظرية السعادة الفارابية. وإذا تتبعنا كل ما وصل إلينا من كتب أرسطو لم نجد فيه إلا نصين اثنين يشعران بروح خفية وينزعان نزعة صوفية. وهما ما أشرنا إليه آنفاً في كتاب الأخلاق النيقوماخية وما جاء في كتاب النفس خاصاً بوظيفة العقل الفعال وأثره في تكوين المعلومات العامة. وكلا النصين أثر تأثيراً عميقاً في فلاسفة الإسلام وآرائهم الصوفية والنفسية. حقاً إن الفارابي ضنين بأسراره ولا يجب أن يقف قراءه على مصادر أفكاره؛ بيد أن عباراته تكفي للبرهنة على ما ذهبنا إليه. وأبن رشد الذي يعتنق نظرية الفارابي في الاتصال يقول لنا إن هذه النظرية جواب على سؤال أرسطو ولم يجب عليه. فبعد أن وضح كيف يدرك (النوس) أو العقل الحقائق المجردة قال:(سنرى فيما بعد إذا كان في مقدور العقل الإنساني - ولو أنه غير مفارق - أن يدرك أشياء مفارقة بذاتها). ولما لم يف أرسطو بوعده أخذ فلاسفة الإسلام على عاتقهم أن يتلافوا هذا النقص ويجيبوا على هذا السؤال.

غير أن أرسطو وحده لا يكفي في توضيح نظريات الفارابي التصوفية؛ ذلك لأن بينه وبين الفيلسوف العربي مدرسة الإسكندرية التي أثرت كذلك في فلاسفة الإسلام عامة وعلى رأسهم الفارابي. والاتصال الذي يقول به الفارابي لا يختلف كثيراً عن (الاكْستَاسيس) أو الجذب الذي قالت به مدرسة الإسكندرية. فالاثنان يعتمدان على التأمل والنظر وينتجان

ص: 12

هياما وغبطه تخرج بنا من عالم الحس والمادة إلى نور الحقيقة واليقين. نعم انه يصعب علينا أن نحلل هاتين الظاهرتين تحليل نفسياً دقيقاً، ولكنا نستطيع أن نلاحظ انهما يمثلان أسمى أعمال العقل الإنساني التي ترمي إلى الخير الأعلى. ومتى وصل المرء إلى مرتبتهما أحس بسعادة تجل عن الوصف وغبطة لانهاية لها. وفي عبارات الفارابي ما يعلن عن الأصل الإسكندري الذي أعتمد عليه والذي لا يمكن أن يكون شيئاً آخر سوى كتاب الربوبية. ولنكتف بتقديم نص واحد من كل طرف يشهد بذلك. يقول الفارابي:(إن لك منك غطاء فضلاً عن لباسك من البدن، فاجتهد أن ترفع الحجاب وتتجرد، وحينئذ تلحق. فلا تسل عما تباشره، فإن ألمت فويل لك، وإن سلمت فطوبى لك. وأنت في بدنك تكون كأنك لست في بدنك، وكأنك في صقع الملكوت، فترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فاتخذ لك عند الحق عهداً، إلى أن تأتيه فرداً). ويقول صاحب كتاب الربوبية أو أثولوجيا: (ربما خلوت أحيانا ً بنفسي وخلعت بدني فصرت كأني جوهر مجرد بلا جسم. فأكون داخلاً في ذاتي وراجعاً إليها وخارجاً من سائر الأشياء سواي، وأكون العلم والعالم والعلوم جميعاً. وأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما أبقى معه متعجباً، وأعلم عند ذلك أني من العالم الشريف جزء صغير. وحين أوقن بذلك أرقى بذهني إلى العالم الإلهي، ويخيل إلي كأني قطعة منه. فعند ذلك يلمع لي من النور والبهاء ما تكل الألسن عن وصفه والآذان عن سمعه. ومن الغريب أني أشعر بأن روحي مملوءة بالنور مع أنها لم تفارق البدن). هذان النصان من غير تعليق ناطقان بالقرابة القربى والعلاقة الوثيقة بين الجذب الذي دعا إليه رجال مدرسة الإسكندرية، والاتصال الذي جد في طلبه الفارابي. وكتاب الربوبية هو المرآة التي عكست كثيراً من آراء أفلوطين وأتباعه على العالم الإسلامي.

(يتبع)

إبراهيم بيومي مدكور

ص: 13

‌العودة

للأستاذ محمد عبد الله عنان

هانحن أولاء نعود إلى الوطن بعد طول الغيبة والتجوال؛ نعود إليه بقلوب تخفق ابتهاجاً بالعود، وكما غادرناه بقلوب تخفق ابتهاجاً للسفر واستقبال أسابيع تخالها دائماً تفيض متاعاً للنفس واستجماماً للجسم وانتعاشاً للروح المضني.

ولكن السفر لا يحقق دائماً الأمل؛ ففي كثير من الأحيان يغدو التجوال مشقة وضنى؛ ذلك أن الذهن المضطرم يذكيه الجديد في كل لحظة فلا يفتأ يطلب المزيد من المناظر والصور، والمشاعر الحساسة تجد دائماً ما يثيرها في تلك الآفاق الاجتماعية الجديدة التي تلامسها في كل خطوة؛ وشغف الملاحظة يحفز دائماً إلى المعرفة والبحث؛ وإذا كان في ذلك متاع للعقل والروح، ففيه دائماً للجسم والقوي.

على أن السياحة نزهة العصر؛ ولقد كانت السياحة فيما مضى مشقة ومخاطرة؛ وإنه ليحضرنا ونحن نكتب هذه السطور، ونخترق العباب المتلاطم، في بهو أنيق وثير من أبهاء (الكوثر) وصف المقري مؤرخ الأندلس لرحلته من المغرب إلى الإسكندرية في نفس المياه، وما يصوره لنا من روعة البحر وأهواله، فنذكر كيف استطاعت العبقرية البشرية أن تذلل الموج المروع، وأن تسير فوقه المدن الأنيقة السابحة آمنة مطمئنة، وأن تجعل من اختراق العباب المضطرم آية النزه والمسرات.

ولقد شاد الشعراء والكتاب من قبل بمزايا السياحة ومتاعها على ما كان يحفها في تلك العصور من المشاق والمخاطر؛ ذلك أن للجديد دائماً سحراً لا يقاوم، والنفس البشرية مفطورة على حب الاطلاع واكتشاف المجهول؛ وقد كانت بلاد العالم يومئذ مجاهل بعضها بالنسبة لبعض، فكان السفر اكتشافاً لآفاق ومجتمعات مجهولة؛ أما اليوم فقد اختفى المجهول من العالم المتمدن، ولكن بقى الجديد يجذبنا سحره دائماً إلى عوالم ومجتمعات مختلفة نأنس في اكتشافها ودراستها لذة ومتاعاً للعين والنفس والروح.

وقد يستغرق التجوال في تلك العوالم والمجتمعات الجديدة كل حواسك وأفكارك؛ ولكنه مهما أفاض عليك من البهجة والسحر، لا يستطيع أن يخمد في نفسك نزعة الحنين إلى الوطن وما تزال ذكرى الوطن تمثل في ذهنك في كل خطوة، أحياناً مقرونة بالزهو، وأحياناً

ص: 14

بالأسف، وفقاً لمختلف الظروف والأحوال؛ وما يزال شبح العود الذي لا يفارقك منذ اليوم الذي تغادر فيه الوطن يلوح لك، ويقوى كلما ضعف سحر التجوال، حتى يحل دور السأم؛ وعندئذ يجذبك الوطن إليه بكل ما فيه من تأثير وسحر، ويغدو العود سعادة تسارع إلى اجتنائها.

وهانحن نعود إلى الوطن سعداء بالعود.

ولقد غادرنا الوطن في ظروف دقيقة تبحث فيها قضيته، وتعالج مصايره على يد زعمائه الأوفياء، فكنا خلال المرحلة نتطلع إلى أنباء المفاوضات المصرية الإنكليزية ونتلقفها حيث كنا وأنى استطعنا؛ وكانت الصحف والأنباء الأوربية ضنينة بها كل الضن فلا تنشر عنها إلا كلمات يسيرة؛ وكانت الصحف الإنكليزية بالطبع أكثر تحدثاً عنها؛ وكنا كلما شعرنا خلال السطور بأن أزمة تعترض المفاوضات زدنا لهفة وقلقاً؛ فلما جاءت الأنباء بأن الأزمات كلها قد ذللت، وبأن المعاهدة قد وقعت بالحروف الأولى، وبأن وفد مصر سيمثل إلى لندن، هللنا وكبرنا، وفاضت نفوسنا أملاً واستبشاراً؛ ولما جاء يوم الأربعاء السادس والعشرين من أغسطس، وهو اليوم الذي حدد لتوقيع المعاهدة لبثتا - ونحن في فينا - ننتظر النبأ الخطير بفارغ الصبر، وكان الراديو أسبق المصادر إلى إذاعته في مساء نفس اليوم؛ وفي صباح اليوم التالي ظهرت الصحف النمساوية وفي صدرها نبأ توقيع المعاهدة، ووصف موجز للعبارات التي تبادلها زعيم الأمة المصرية ومستر إيدن وزير الخارجية الإنكليزية؛ ثم توالت الأنباء بعد ذلك عن استقبال مصر للحادث المشهود، واحتفائها به احتفاء يتفق مع عظمته وخطورته، فكان أكبر أسفنا أننا لم نكن بمصر في تلك الأيام التاريخية لنشهد بأعيننا ذلك المنظر الرائع: منظر أمة تستقبل وثيقة تحريرها وتعلن ابتهاجاً بما جنت من ثمار جهاد طويل وشاق.

ومن غرائب الاتفاق أن تكون نفس الفترة التي تمت فيها المفاوضات بين مصر وإنكلترا ووقعت معاهدة الصداقة المصرية الإنكليزية، أعني ما بين يوليه وأغسطس هي نفس الفترة التي شهدت فيها مصر ضياع استقلالها وحرياتها منذ أربعة وخمسين عاماً.

الله أكبر! لقد دخلت مصر في عهد جديد وافتتحت صفحة جديدة من تاريخها.

فرعى الله مصر في عهدها الجديد، ووفقها على يد زعمائها وقادتها الأوفياء إلى تحقيق ما

ص: 15

تطمح إليه من عظمة وسعود.

وحان وقت الرحيل بعد أيام، واستحكم حنين العود، فكان التردد على مكاتب السفر والتحري عن المواعيد وعن مختلف الطرق، وكانت أزمنة الأمكنة في البواخر من أي الثغور دليلاً على اضطرام حمى العود؛ وإنك لتأنس في هذه الفترة التي تهيأ فيها إجراءات العود، والتي تقوم فيها بآخر جولة في المدينة وفي منتدياتها شعوراً غريباً من الأسف والارتياح معاً. أما الأسف فلاختتام فترة من الرياضة النفسية والعقلية قلما نظفر بها في مصر. وأما الارتياح فلاختتام فترة من التجوال المبهظ والوحشة؛ ذلك لأن السياحة ما زالت ترفاً غالياً برغم ما تقدمه بعض الدول لتذليلها من التسهيلات في مسائل العملة والسكك الحديدية؛ وقد ذهبت ألمانيا وإيطاليا في ذلك إلى حدود مغرية حقاً، ولكنك ما تكاد تزور ألمانيا أو إيطاليا حتى تشعر بأن هذه التسهيلات لا تعد شيئاً مذكوراً بالنسبة لما تعانيه من غلاء فادح في كل شيء؛ وليس من المبالغة أن نقول إن نفقات المعيشة في أوربا وبخاصة في فرنسا وسويسرا، تبلغ على الأقل مثليها في مصر؛ ولقد قيل مراراً إن مصر لا تقدم شيئاً لتسهيل السياحة، وإنها يجب أن تجاري الدول الأخرى في تنظيم بعض تسهيلات مغرية للسياح؛ ولكن من المحقق أن تكاليف السياحة في مصر هي أرخص منها في أي بلد من بلاد العالم، ويكفي أن تتقدم مصر بهذه الميزة للسائحين.

هذا وليس من ريب في أنه مهما كانت مسرات السياحة ومغرياتها فإن السائح يشعر في بلاد الغربة بنوع من الوحشة يعروه من آن لآخر، فإذا حان أوان العود شعر بنوع من الارتياح للتخلص من هذه الوحشة واستعادة الإيناس في الوطن والأهل.

ودعنا العاصمة النمساوية في صمت، وتزودنا بالنظرات الأخيرة من هاتيك الربوع والمعاهد الضاحكة، وازدلفنا إلى محطة الجنوب لنستقل القطار إلى (جنوة) حيث نستطيع اللحاق (بالكوثر) وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب حين مررنا بجبال الألب قبالة (زيمرنج)، وهناك تأخذك الطبيعة بجمالها الرائع، وتمتد الأشجار والأزهار على الربى إلى مالا تدرك العين.

وفي ضحى اليوم التالي كنا في البندقية نتجول في ساحة سان ماركو، ونطوف بكنيسة سان ماركو وقصر الدوجات ونقطع (قنطرة الزفرات) ما بين القصر والسجن، ونتأمل هاتيك

ص: 16

المعاهد والآثار التي تذكرنا بصفحة من أروع صحف العصور الوسطى.

ولقد شعرنا حين هبطنا البندقية أن يد التجديد قد صقلتها وأسبغت عليها مسحة من البهاء لم تكن لها من قبل، ووصلت كثيراً من أحيائها وطرقاتها المائية باليابسة، وكان عهدنا بها أنك لا تستطيع التنقل فيها إلا (بالجندولا)، فإذا بك اليوم تستطيع أن تقطعها سيراً من المحطة إلى الميدان - ثم إلى أنحاء كثيرة منها؛ وإنك لتشهد اليوم هذا التجديد أينما حللت في إيطاليا؛ وتلك آثار الفاشستية بلا ريب، وآثار تلك الروح الإنشائية التي تنفث إلى إيطاليا حياة جديدة في كل شيء.

وأخيراً انتهينا مساء إلى جنوة؛ وفي ضحى اليوم التالي ازدلفنا إلى الميناء فرحين باستقبال أول قطعة من أرض مصر؛ أجل هاهي ذي الكوثر تقف باسمة في ركن من خليج جنوة الكبير، وهاهو ذا العلم المصري الأخضر يخفق على ساريتها؛ وإنه لمنظر يبعث إلى الفخر والزهو أن ترى سفناً مصرية صميمة تشق عباب هذه المياه؛ ولقد كان لمصر مدى العصور الوسطى بحرية عظيمة تجوس خلال هذا البحر، وكانت سفنها التجارية كثيراً ما تمثل إلى البندقية وسرقوسة وجنوه، وكان للربابنة والبحارة السكندريين في تلك العصور شهرة خاصة؛ وكان لمصر أسطولها الحربي والتجاري إلى ما قبل زهاء قرن فقط، ولكن صروف الزمن حرمت مصر مدى قرن من امتطاء صهوة المياه؛ والآن يستأنف سيره، وتعود مصر فتسير سفنها في هذا العباب، وتعيد لنا النيل والكوثر سيرة غمرها النسيان دهراً؛ فعسى أن تكون النيل والكوثر نواة بحرية مصرية تجارية عظيمة تملأ جوانب هذا البحر نشاطاً، وتملأ نفوسنا غبطة وفخراً.

تلك الخواطر وعواطف تثيرها في النفس تلك السويعات الفريدة في حياتنا: سويعات يغمرها متاع التجوال وبهجة الجديد دائماً، ويملأها شجن البعاد أحياناً؛ على أنها ذكريات عزيزة في حياتنا نتطلع دائماً إلى تجديدها. وإن العود إلى الوطن ليملأ اليوم نفوسنا غبطة وسعادة خصوصاً وأننا نعود إليه في مستهل عهد جديد يجيش بآمال وأماني جديدة؛ ولكن أمل العود إلى التجوال يهتف بنا في نفس الوقت لنجوز نفس المشاعر والظروف مرة أخرى.

(الباخرة كوثر في 13 سبتمبر)

ص: 17

محمد عبد الله عنان

ص: 18

‌بين عالمين

مصر. . .

شهد الخلائق إنها لنجية=بدليل من ولدت من النجباء

لفقيه الشيعة الأكبر

الأستاذ محمد الحسين آل كاشف الغطاء

غير مجازف كثيراً - لو قال قائل - ليست مصر وليدة الأزمان وبنت الدهر، ونسلية الأحقاب، بل هي أم الزمان ووالدة الدهر، وجدة الليالي والأيام؛ كما أن ما نرى لها اليوم من الحضارة الزاهرة، والثقافة الباهرة، ليس بالأمر الحديث، ولا الشيء المستطرف؛ وتقدمها في العلوم والصنائع والمعارف والفنون يكاد يتصل تاريخه دورة الأفلاك، ونشأة الكون.

ولكن لا شيء من هذا أريد، ولا إياه أعني بالبيان؛ وإنما أريد بهذه الكلمة التمهيدية أن أقول: إن الفقه الإسلامي وأحكام الشريعة الإسلامية قد تحورت عن وضعها القديم ونشأتها الأولى فأصبحت (ولاسيما في القرون المتوسطة) كعقد الجمان المتلألئ، ولكن قد طمرته الأتربة وغمرته الأقذاء والأقذار حتى حجبت جماله، ولم يستبن منه سوى بصيص من اللمعان ينبئ العارف عن كنز دفين، وجوهر ثمين؛ وما كانت صحاح أحكام هذه الشريعة المقدسة توجد إلا عند رجالات من فرق المسلمين أو عند بعض طوائف منهم، ولكن لا صوت لهم ولا صيت، ولا تعرفهم أمم العالم من شرق أو غرب، وإنما كان مراجع الإسلام الذين تؤخذ منهم الأحكام هم أولئك الخشب المسندة والهياكل المفخمة التي لها بزتها الخاصة وشاراتها المعينة، الذين تنصبهم السلطات الزمنية لسياستهم حسب تلك الظروف بأسماء مصطلحة كما يقال (شيخ الإسلام) و (أمين الفتوى) و (مفتي الحنفية) و (مفتي الشافعية) وهكذا وهلم جرا إلى ما شاء الله.

وكانت الشريعة الإسلامية تضج إلى الله وإلى العلماء الأصحاء في تطهيرها من تلك الأوضار وفكها من تلك القيود والأغلال.

وبقى الحال على هذه الكوارث لا يزداد الأمر على تمادي الأيام ومرور القرون إلاَّ شدة

ص: 19

العمى ورسوخاً في الجهل، وضياعاً للحقائق، وتكاثفاً في الحجب على محيا الشريعة الغراء، مثل تكاثف الغيوم السوداء على جبين الشمس. ويعرف كل ذي لبّ: أن (مصر) قد سبقت الأقطار العربية في كثير من أسباب الحضارة، فدخلت قبلها في أكثر أبواب الثقافة، ولها فضيلة السبق إلى التطور الحديث والأنظمة الجديدة - إن في الأدب أو في العلم والتعليم، أو التأليف والنشر، أو غير ذلك من أبواب المعارف.

ولكني أتنسم أن العناية قضت أن يكون لها السبق أيضاً حتى في نشر ما قبرته قرون الجهل والعصور المظلمة من الفقه الإسلامي وأحكامه الصحيحة وكشف ما تراكم على محياه من غيوم الأوهام وتحطيم تلك القيود والأغلال وطرحها عنه، وأحد شواهدي على ذلك - الكتيب الصغير، وأقول: الصغير على حد قوله:

إن الكواكب في علو محلها

لترى صغاراً وهي غير صغار

ذاك كتاب (نظام الطلاق في الإسلام)، وكان مؤلفه الأستاذ العلاَّمة أهدى إلي نسخة منه. وبعد أن طالعته مرة أو مرتين راقني وأعجبني؛ ولا أقول: أعجبني دقة بحثه، وبراعة تحقيقه، ولطف أسلوبه، واعتدال سليقته، وأن كان حائزاً على أوفر نصيب من كل ذلك، وإنما الأمر الذي يوشك أن يكون قد تفّرد به وامتاز - هو صراحته وبسالته ومشيه على ضوء دلالة الكتاب والسنة، وعدم مبالاته بما اصطلحوا عليه من الإجماع الذي جعلوه آلة تخويف ومهماز تهويل، وإن قام على خلافه الدليل. يعرف هذه البسالة أهل هذا الفن ومن خاض لجج تلك الغمرات.

كان بعض أساتيذي العظم وقد انحصرت به في أواخر عمره مرجعية تقليد الأمامية في سائر الأقطار، وحاز من النفوذ والإكبار - ما قلما كان يتفق من السلف - وفي الوقت نفسه كان يقول:

وددت لو أعرف سنة وفاتي حتى أعلن وأجاهر بفتاوى في نفسي يساعد عليها الدليل، وتخفف عن المسلمين العبء الثقيل. فكأنه رضوان الله عليه - كان يخشى من إفشاء تلك الفتاوى حدوث الضوضاء من جهل العامة وجمود الخاصة المتسلحة بدعوى تلك الاجماعات. وكم لتلك الكلمة من الأكابر من نظائر!

فمثل - طلاق الثلاث، وطلاق الحائض، والحلف بالطلاق والعتاق وأمثالها من القضايا

ص: 20

التي لم تزل من عهد قديم من المسلمات الرائجة عند جمهرة المسلمين، ويُدعى اتفاق المذاهب الأربعة عليها، فإذا نهض رجل في هذا العصر يهدم تلك المباني الراسخة بمعول الحجة البالغة والبرهان القاطع، أفلا يكون شجاعاً باسلاً وعالماً تحريراً؟

نعم طالعت الكتاب فما سنح لي موضع للملاحظة والتعليق عليه إلا في اختياره وجوب الإشهاد في الرجعة كوجوبه الطلاق، واستغرابه من علماء الإمامية الفرق بينهما، فكتبت إليه كتاباً في بيان الفارق بينهما من ناحية الدليل تارة ومن ناحية الاعتبار أخرى، فكنت أحسبه كتاباً خصوصياً لا يتجاوز حظيرة ما بيني وبينه؛ ولكن كأن مروءته، وكأن شهامته، وكأن حبه للخير وتعميم الفائدة دفعته إلى نشره والتعليق عليه؛ فما أنا ذات يوم إلا وبعض شباب النجف من تلامذة المدارس يقول لي: إن مجلة (الرسالة الغراء) نشرت كتاباً لكم مع الجواب عليه. . . وحيث أن صديقنا الأستاذ الزيات حفظه الله منذ حمل الرسالة، وأنشأ مجلتها الزاهرة، لم يتكرم بإتحافنا بها كما يصنعه جملة من الصحافيين الكرام، لذلك استعلمنا من ذلك الشاب مظانها، فذكر المكتبة العامة الحكومية في النجف الأشرف، فأوعزنا إلى إدارتها فأرسلت إلينا عددي 157 و159 فقط؛ نظرت فيهما المقالين نظرة خفيفة ثم استرجعتهما الإدارة عملاً بقانونها، ولكن بعض أبناء أعيان النجفيين الذين في بغداد أرسل إلي عفواً من غير طلب الأعداد الثلاثة، فوجدت بع إعادة النظر فيها أن الأستاذ السابق الذكر قد أسهب في الجواب عما قدمنا إليه في الكتاب. وفي الحق أنه قد استفرغ وسعه وبذل جهده وأحاط بالموضوع من جميع أطرافه شأن المجتهد الفقيه الذي يلزمه في سبيل استنباط الحكم الشرعي استفراغ الوسع، واستقصاء النظر، وبذل أقصى الجهد في تحصيل الدليل على الفتوى من الكتاب والسنة وكلمات العلماء. وهكذا صنع الأستاذ سدده الله فيما ذهب إليه من وجوب الإشهاد على الرجعة والتقصي عما أبديناه من الفرق، فقد حشد زمرة من كلمات الأساطين وجملة من الروايات والأحاديث التي يراها تشهد بصحة دعواه. . . وحيث أن من سجيتي التجافي عن إطالة المناظرة وتسلسلها خوفاً من أن يؤدي ذلك الجدل والمراء وحب الغلب بحق أو باطل، وإذا أبديت رأيي في موضوع فلست بملتزم أن يقبله كل أحد، ولا يلزمني أن أدفع كل ما يقال عليه، وإنما علي أن أحتج وأقول، ولغيري حرية الاختيار في الرد أو القبول. ولذلك لا أريد هنا أن أتعقب كل جملة مما ذكره الأستاذ

ص: 21

بالمناقشة والمناوشة فيكون ذلك تطويلاً ولعله من غير طائل، ولكني أيضاً - شغفاً بنشد العلم وتعميم الفائدة أريد أن أؤسس قاعدة أصولية فقهية ينتفع بها الفقيه والمتفقه في مقام الاستنباط، ويرجع كل منهما إليها عند الحيرة والارتباك، مستفادة أيضاً من ذات الكتاب والسنة، وهي أنه إذا قام الدليل الشرعي من كتاب أو سنة احتمالان متكافئان لا يترجح أحدهما على الآخر بمرجح داخلي أو خارجي، هنالك ينظر الفقيه إي الاحتمالين أسهل على العباد وأيسر في مقام العمل، فيلزم الأخذ به والفتوى على طبقه، لما ورد في الأدلة العامة من أن الشريعة الإسلامية مبنية على الرفق والتسهيل، مثل قوله تعالى:(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقوله عز شأنه: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وقوله صاحب الشريعة: (جئتكم بالشريعة السمحاء) وقوله: (يسروا ولا تعسروا) وكثير من أمثال ذلك.

ونضرب لذلك مثلاً فنقول: قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) قام فيه احتمالان: احتمال العود إلى الطلاق فقط، واحتمال العود إليه وإلى الرجعة المشار إليها بقوله تعالى (فإمساك بمعروف). فلزوم الإشهاد في الطلاق متيقن على كلا التقديرين، أما في الرجعة فمحتمل لزومه ومحتمل عدمه. ولو تنازلنا مع الخصم وقلنا بتكافؤ الاحتمالين من حيث نفس الآية، وأغمضنا عما قلناه من دلالة السياق على اختصاصه بالطلاق فقط، وإن الرجعة والإشهاد كليهما من أحكام الطلاق وهما في رتبة واحدة، فلو كان الإشهاد واجباً في الرجعة للزم أن يكون ما هو في رتبة الشيء متأخراً عن ذلك الشيء ضرورة تأخر الحكم عن الموضوع، فيكون الشيء متقدماً ومتأخراً - حكماً وموضوعاً - وهذا خلف وإحالة، وتناقض في الدلالة. ولكن أغمضنا عن ذلك كله وقلنا بتكافؤ الاحتمالين، فاللازم بحكم تلك القاعدة الأخذ بأسهلهما وأقلهما كلفة وهو عدم لزوم الإشهاد. وقد تقرر في فن الأصول أيضاً أنه إذا تعارضت الأدلة أو تزاحمت الاحتمالات فالمرجع الذي يستراح إليه هو الأصل المقرر في ذلك المورد. ولا ريب أن الأصل في المورد هو عدم الوجوب وعدم اللزوم، ويعضد ذلك ما يزيح العلة ويقطع دابر الشكوك والأوهام. ذاك ما ورد في أخبار أهل البيت سلام الله عليهم مثل ما في صحيحه محمد بن مسلم قال: سئل أبو جعفر الباقر (ع) عن رجل طلق امرأته واحدة ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها ولم يشهد على رجعتها، قال: هي

ص: 22

امرأته ما لم تنقض العدة. وقد كان ينبغي له أن يشهد على رجعتها. وإن كان جهل ذلك فليشهد حين علم. ولا أرى بالذي صنع بأساً، وإن يشهد فهو أحسن. وفي أخرى: يشهد رجلين إذا طلق وإذا رجع. فإن جهل فغشيها فليشهد الآن على ما صنع وهي امرأته؛ وإن كان لم يشهد حين طلق فليس طلاقه بشيء. وفي ثالثة: الطلاق لا يكون بغير شهود، والرجعة بغير شهود رجعة، ولكن ليشهد بعد فهو أفضل، وعلى هذا النمط أخبار أخرى كثيرة صريحة في الفرق بين الطلاق والرجعة، وأن الأول لا يصح وليس بشيء بدون الإشهاد بخلاف الثاني غايته أنه يستحب في الرجعة الأشهاد، وهو استحباب إرشادي معلوم المصلحة وهي الحذر من الجحود وإنكار الزوج أو الزوجة مشياً مع الأغراض والأهواء التي قد تتفق لأحدهما. مثل هذا لا يصلح أن يكون علة للوجوب، فأن الإلزامات الشرعية وجوباً أو تحريماً إنما هي لأحداث الدواعي إلى فعل الواجب واجتناب الحرام. فإذا كانت الدواعي في الغالب حاصلة في النفوس فلا مقتضى للإلزام. ألا ترى أن الله سبحانه قال في كتابه الكريم:(وأشهدوا إذا تبايعتم) ولكن الفقهاء من الفريقين اتفقوا على الظاهر، على أن الأمر هنا للاستحباب وأنه إرشادي محض، لأن الدواعي للإشهاد ولاسيما في الأموال الخطيرة كالعقار والضياع وأمثالها متوفرة عتيدة، فلا حاجة إلى إلزام الشارع به بعد أن كانت الناس مندفعة إليه بأنفسها حرصاً على الضبط واستعداداً للطوارئ من جحود وإنكار. فأمر الشارع بالإشهاد إرشاد إلى أمر واقع، وتحفظ لازم، وليس معناه أن البيع باطل بدون الإشهاد، بل معناه أنك إذا تبايعت بغير إشهاد فقد غررت بنفسك، وخاطرت بمالك فلا لوم إلا عليك. وهكذا الأمر بالإشهاد في الرجعة إذا خشي كل منهما إنكار الآخر فأنه يندفع إليه طبعاً، وينساق له قسراً.

والإشهاد في الطلاق ليس لهذه الغاية فقط، وإلا لكان حاله كحال سائر العقود والإيقاعات كالبيع والإجارة والصلح والعتق والوقف، فلا شيء من هذه وغيرها يجب فيه الإشهاد سوى الطلاق لحكمة هي أدق وأعمق، وهي ما أشرنا إليه في كتابنا السابق. وكذا النكاح لا يجب الإشهاد فيه عندنا بحيث لا يصح بدونه، ولكن النفوس منساقة ومجبولة على الإشهاد فيه للضبط والاستعداد للطوارئ من ميراث وغيره. وأحسب أن هذا البيان سيكون كافياً عما أفاده الأستاذ في ملاحظته الأخيرة إذ يقول صفحة 1319 من المقال المنشور في

ص: 23

(الرسالة): (وما اشترط في صحة الرجعة إنما اشترط ضماناً لبقاء الحياة الزوجية صحيحة سالمة من إرادة العبث بها وبعداً عن مواطن الشبهات وعن الإضرار بالمرأة عن إرادة النكول والجحد لإضاعة حقها) إلى آخر ما أفاد حفظه الله. فأن هذا كله صحيح ومتين، ولكن لا يصح بل لا يصلح أن يكون علة تبعث الشارع على الحكم بالوجوب بعد أن كانت الدواعي والبواعث متمكنة من النفوس بالإشهاد عند ملابسة الشك والخوف كما يشهدون في النكاح والبيع مع عدم وجوبه شرعاً. . . ومصاص الحقيقة وزبدة المخض أن الكلام تارة في صحة العمل في حد نفسه مجرداً عن كل الملابسات والعوارض فنقول مثلاً: إن العتق يصح بقول السيد لعبده (أنت حرّ) فيصير العبد حراً بمجرد إنشاء المولى هذه الصيغة، ولا حاجة إلى شهادة ولا كتابة ولا غيرهما. . . والكلام تارة أخرى من حيث الطوارئ كعروض خصومة أو نزاع بين السيد والعبد واحتمال الجحود والإنكار، فلا إشكال في أن الحاجة من هذه الناحية ماسة إلى الإشهاد وهو ضروري. وكذا الكلام في سائر الإيقاعات والعقود كالبيع مع الكتاب المجيد أمر فيه بالإشهاد (وأشهدوا إذا تبايعتم) ولكن لم ينسب القول بوجوبه إلا إلى بعض أهل الظاهر، وهو شاذ نادر. والخلاصة أن مقام الثبوت شيء، ومقام الإثبات شيء آخر؛ ونحن حيث قلنا بعدم وجوب الإشهاد في الرجعة أردنا مقام الثبوت على حدة في الطلاق الذي يتوقف ثبوته على الإشهاد. أما مقام الإثبات فالرجعة وغيرها سواء في أنها محتاجة ومتوقفة على الشهادة في الجملة (وإنما أقضي بينكم بالبينات والإيمان).

وأرجو أن تكون هذه النبذة كافية في سد باب هذه المساجلة، وأخشى لو زاد البحث على هذا أن تدخل في نوع المجادلة. نعم بقيت في الطلاق قضايا مهمة كثيراً ما يقع بها الابتلاء ولم يتعرض الأستاذ أيده الله لها في كتابه.

(منها) طلاق المفقود زوجها الغائب غيبة منقطعة كما وقع الابتلاء بهذا في الحرب العامة بكثرة. ولفقهاء الأمامية طريقة خاصة حسب الوارد عندهم من أحاديث من أحاديث أهل البيت (ع) في التحري أربع سنوات، ومع اليأس وعدم النفقة يطلقها حاكم الشرع.

(ومنها) ولي الصغير فأنهم جوزوا أن يعقد له ولم يجوزوا الطلاق عنه، وإطلاق كلماتهم يشمل حتى صورة المصلحة.

ص: 24

(ومنها) طلاق الممتنع زوجها عن القيام بنفقتها تمرداً وعصياناً ومشاقة وإضراراً، حاضراً كان أو مسافراً، فانهم لم يجوزا لحاكم الشرع طلاقها عنه تمسكا في هذه القضايا بساق الحديث المشهور (الطلاق بيد من أخذ بالساق) وأنها ابتليت فلتصبر، وهو عندنا محل نظر، والجواز أقرب، والأدلة عليه متوفرة وقد طال المقال وضاق المقام عن ذكرها.

وفي الختام - أرد على أخي وخليلي في الله - تحيته الطيبة المباركة - بمثلها بل بأحسن منها، داعياً له بطول العمر ومزيد التوفيق، وأن يؤلف بين قلوبنا، ويجمع كلمتنا على الهدى والحق في خدمة الإسلام، ومناصرة هذا الدين الحنيف إن شاء الله.

(النجف الأشرف)

محمد الحسين آل كاشف الغطاء

ص: 25

‌في الأدب المقارن

الأثر الأجنبي في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

تتفق اللغتان العربية والإنجليزية في خروجهما من جزيرة منعزلة، وانتشارهما في إمبراطوريتين متراميتين، وفي تأثر أدبيهما بهذا التوسع العظيم وبالاختلاط بالأمم الأخرى وآدابها، ولكنهما يختلفان في كيفية هذا التأثر ونواحيه ومداه، لاختلاف الظروف التي اكتنفت قيام الإمبراطوريتين.

فقد صحبت قيام الدولة الإسلامية ظروف أربعة كان لها أبعد الأثر في تاريخها السياسي وفي تاريخ أدبها: فهي أولاً قد قامت على أساس دعوة دينية تنتظم الأمم، وتسوي بين الناس، وتعد المؤمنين بها من مختلف الأجناس إخواناً. وهي ثانياً جاءت مبكرة غاية التبكير، ولم تنقضِ على تأسيس الدولة العربية الأصلية في الوطن الأصلي - جزيرة العرب - غير سنوات قلائل. وثالثاً تم تأسيسها بسرعة نادرة المثال في التاريخ نتيجة نجاح العرب الحربي الباهر، وأخيراً انبسط سلطانها على أمم تفوق العرب الفاتحين غنى وحضارة وثقافة.

هذه العوامل الأربعة - بما انطوت عليه من خير وشر - كانت حاسمة في مستقبل الدولة العربية. فمساواة الإسلام بين الناس - مساواته بين العرب الفاتحين وبين الأعاجم المغلوبين - هيأت لهؤلاء أن ينافسوا العرب في الحكم والرياسة وكافة أسباب الحياة. وقيام الإمبراطورية مبكرة قبل أن تتوطد الدولة في وطنها الأصلي من جهة جعل قبضة الوطن الأول على ممتلكاته واهية سرعان ما انحلت، وانفصلت جزيرة العرب أو كادت عن بقية الإمبراطورية وعادت إلى ركودها الأول، وخرجت منها عاصمة الحكم؛ ومن جهة أخرى الحكم الفردي المطلق هو النظام الوحيد القادر على إدارة تلك الأصقاع المترامية، فأهملت الشورى التي حض عليها الإسلام، والتي كانت مرعية قبل أن تمتد أطراف الدولة وتخرج العاصمة من الجزيرة. وسرعة تأسيس الإمبراطورية غمر الفاتحين بطوفان من الثروة نشر الترف والفساد نشراً يزري بكل ما عرفته رومة عقب فتوحها شرفاً وغرباً. وامتداد سلطان العرب على أمم تفوقهم حضارة وثقافة جعل من الحتم استعانتهم بأبناء تلك الأمم في

ص: 26

الإدارات والصناعات التي لم يكن لهم بها عهد من قبل.

وقد استفاد العرب من سياسة المساواة والتسامح والعدل التي جروا عليها في إدارة إمبراطوريتهم أن انتشر دينهم ولغتهم فمحقاً الأديان واللغات السابقة في معظم أملاكهم وحلاَّ محلها. ولكن دولتهم جاءت - من جراء أربعة العوامل آنفة الذكر - شعوبية لا عربية صميمة، مستبدة الحكومة، مترفة المجتمع، متنافرة العناصر، منطوية على عناصر كثيرة من عناصر الانحلال.

كانت الظروف التي لابست قيام الإمبراطورية الإنجليزية وانتشار اللغة والأدب الإنجليزيين عكس هذه تماماً: فقد توطدت الدولة الإنجليزية في وطنها الأول توطداً تاماً مدى قرون قبل أن تتجه إلى التوسع الخارجي؛ واقتبس الإنجليز حضارة جيرانهم وثقافتهم حتى صاروا في مقدمة الأمم. فلما راحوا ينشرون سلطانهم لم يخضعوا أمماً تفوقهم مدنية كما كانت حالة العرب مع الفرس، أو حالة الرومان مع الإغريق؛ وتكامل بناء إمبراطوريتهم تدريجياً مع سير الزمن وتطور الحوادث، فلم يُبتلَوْا بسيل مفاجئ من الثروة والترف يزعزع دعائم مجتمعهم ويوهن متانة أخلاقهم، ولم يكونوا بسبيل دعوة دينية أو إنسانية تسوّى بين القاهر والمقهور، بل كانوا وما يزالون يعتبرون رسالتهم إخضاع الآخرين وحكمهم لا مساواتهم بأنفسهم؛ ومن ثم ظلوا متعالين عن الأمم المغلوبة مستأثرين بالكلمة العليا دونها متحاجزين عن أفرادها في المجتمع لا يخالطونهم ولا يزاوجونهم إلا في النَّدر.

لذلك كله قامت دولتهم إنجليزية صميمة، واتسق للنظام الديمقراطي أن يزداد تمكناً مع ازدياد اتساع الدولة، بعكس ما كان في حالتي العرب والرومان؛ وظل للوطن الأول في الإمبراطورية الإنجليزية المقام الأول، وبقيت به حاضرة الحكم التي تجمع سلطتها الأطراف وتؤثر في غيرها من أجزاء الإمبراطورية أضعاف ما تتأثر بالغير.

تلك الظروف التي صاحبت امتداد الإمبراطوريتين واختلاط الأمتين بالعناصر الأجنبية كان لها جميعاً أعظم أثر في تاريخ أدبيهما كما كان لها أثر في تاريخها السياسي، وهو أثر مزدوج يشمل معالجة أبناء الأمم المفتوحة لأدب الأمة الغالبة، كما يشمل اطلاع أبناء هذه الأخيرة على آداب الأمم المقهورة؛ وهنا أيضاً يتباين الأدبان العربي والإنجليزي.

ص: 27

فالعرب قد سمحوا للمسلم من أية أمة أن يباريهم في معاناة أدبهم كما باراهم في شؤون الحرب والحكم، فما لبث الأجانب الداخلون في العربية أن بذوا العرب في هذا الباب بحكم قديم ثقافتهم وتليد حضارتهم كما بذوهم في غيره، وما لبثوا أن صار منهم أئمة الأدب العربي، واستأثروا أو كادوا بكتابة الدواوين ووزارة الخلفاء وصلات الأمراء.

ولم يكن من الخير في شيء للأدب العربي أن يتسلط عليه أولئك الغرباء الواغلون، وكانت لهم فيه آثار سيئة: فهم مهما تكن ثقافتهم ومهما بلغ انكبابهم على دراسة العربية غرباء بطبعهم عن الأدب واللغة والذوق الأدبي العربي وتقاليده ومراميه، فلم يكتبوا أو ينظموا على السجية بل كانوا دائماً مقلدين متعلمين: قلدوا متقدمي العرب باندماجهم في العربية، فكانوا عنصر تقليد ومحافظة، لا عنصر ابتداع وتجديد في الأدب؛ وتعملوا في اللفظ تظاهراً بتفقههم في اللغة، فأدخلوا الصنعة والبهرج والزيغ في الأدب بدل أن يوسعوا أغراضه ويسموا بمعانيه.

فَسَريَانُ العنصر الأجنبي الأعجمي في الأدب هو مرجع تغلب الصنعة على الطبع في كثير منه، ومرجع تغلب نزعة التقليد على نزعة التجديد في كل عصوره. وكفى بهذين داعياً إلى جمود الأدب ثم تدهوره. ولا شك أنه لو بقى الأدب وقفاً على العرب الصميمين، وظلت الكلمة العليا للعرب في الدولة، وظلت هذه الدولة محدودة المساحة لا تتجاوز كثيراً حدودها الطبيعية، لجاء الأدب أقرب إلى الطبع وأحفل بمظاهر الفن وأوسع مدى وأسمى أفقاً وأطول عمراً، ولكان له تاريخ غير الذي كان.

أما الأدب الإنكليز - وسنن الإنجليز التي جروا عليها في توسعهم واتصالهم بالأمم الأخرى هي ما قدمنا - فكان أقطابه بعد قيام الإمبراطورية - كما كانوا قبلها - إنجليزاً أقحاحاً يعبرون عن الطبع الإنجليزي والبيئة الإنجليزية، ويفقهون روح لغتهم وتراث أدبهم، ويصدرون عن تقاليدهم المجيدة؛ فلا غرو جاء الأدب الإنجليزي طبيعياً فنياً صادق التعبير سامي المقصد بعيداً عن التكلف ثواراً على الجمود.

فهذا فرق ما بين الأمتين في الاتصال بالأجانب؛ وهناك فرق بينهما في الاتصال بآداب أولئك الأجانب لا يقل خطورة عن سابقه. فالعرب الذين قبلوا الأعاجم أنداداً في دينهم ولغتهم وأدبهم ترفعوا عن آداب تلك الأمم، ولم يروا بأنفسهم - وهم معادن البلاغة وفحول

ص: 28

الخطابة، ولغتهم لغة الدين والدولة والقرآن - حاجة إلى الاطلاع على آداب غيرهم، فنظروا إلى الأدبين الفارسي واليوناني وغيرهما شزراً، وخسروا بذلك كثيراً وضاق أفق أدبهم كثيراً لاعتزاله غيره.

على حين أن الإنجليز الذين ضنوا بقوميتهم وترفعوا عن سواهم من الأمم في الحكم وفي المجتمع لم يترفعوا عن آداب تلك الأمم الجديرة بالدرس، فانتفعوا قبل توسعهم وبعده بالآداب الإيطالية والفرنسية والألمانية، بله آداب الأمم البائدة من إغريق ورومان، أوسعوا كل ذلك درساً واطلاعاً ونقلاً، فأخصبوا أدبهم أي إخصاب، ووسعوا أطراف لغتهم ذاتها. وعلى هذا النحو استفاد الإنجليز بخير ما في الآداب الأجنبية دون أن يفقدوا شخصيتهم في غمار تلك الآداب، أو يسمحوا للأثر الأجنبي أن يفسد ملكتهم الأصلية وطبعهم الخاص.

فالظروف التي أحاطت باتصال العرب بغيرهم، وتأثر أدبهم بالآداب الأجنبية، والسنن التي استنها العرب في معاملة الأجانب، لم تكن خير ما يساعد الأدب العربي على النمو الصحيح والازدهار الطويل؛ واللغة العربية المحكمة البناء، البارعة التعبير، الغنية الجوانب، التي أينعت أحسن إيناع تحت سماء البادية لم يتح لها في أرض الحضارة من يوجهون بليغ أساليبها أحسن التوجيه إلى دراسة النفس الإنسانية ووصف المجتمع البشري، وكان رقيها العلمي في ظل الإمبراطورية الإسلامية أعظم بكثير من رقيها الأدبي.

فخري أبو السعود

ص: 29

‌عمر بن الخطاب

للأستاذ علي الطنطاوي

(أهدي هذا الفصل إلى. . . . . . صاحب (الرسالة)، اعترافاً بفضله وفضل رسالته علي، فأنه لولا التشجيع الذي تفضل علي به يوم صدر كتابي (أبو بكر الصديق) لم يؤلف هذا الكتاب)

(علي).

- 1 -

. . . في يوم وَهِج من أيام الصيف، قد خَدِر واشتدّ حرّه، في الهاجرة الملتهبة، كان يسير على رَمْضاء مكة - وقد تسعَّرت الأرض وتوقدت، واستحالت جمرة مشتعلة - رجل ضخم الجثة مفرط الطول، شديد الأسر، قد توشح سيفه، وأقبل مسرعاً يطأ الأرض وطأ عنيفاً، فتحس كأن قد تقلقلت تحت أقدامه، ويرمي كل شيء حوله بنظرات حادة ينبعث منها الغضب، ويتطاير منها الشرر، لا يبالي بالشمس المتقدة، ولا الحصى المتسعّرة، ولا يحفل السموم الذي هب سخناً يلفح الوجوه، كأنه فيح جهنم. . . لأن له غاية فهو يسعى إليها، إنه يريد أن يقتل (سيّد العالم)!

ذاك هو (عمر) الجاهليّةِ. . . رجل يعيش في الظلام، وراء سور التاريخ، لم يَدْنُ منه، ولم يلجْ حماه، ولم يُلْقَ عليه نوره؛ رجل يمشي في هذه القافلة الجاهلية، التي تبدأ من وسط الرمال، في قلب الصحراء، ثم تسير على الرمال، رمال الصحراء، ثم تنتهي في الرمال، في الصحراء. . . تبدأ من العدم، وتنتهي إلى العدم، قبل أن تبلغ أرض المدنية، أو تصل إلى حدود العمران، أو تدنو من مهاد العلم والحضارة والحياة. . .

رجل يعيش بغير أسم، ويموت بلا ذكر!

- 2 -

قف أيها الرّجل! تودع من جاهليتك، إن عرشك في التاريخ قد أُعِد لك لتستوي عليه، إن محمداً صلى الله عليه وسلم سيضع في يدك المفتاح الذي يفتح لك أبواب (التاريخ) الذي جهلك وأنكرك، ولم يَدْرِ بك. . . لتدخل حرمه، ثم تعلوا في مراقيه، ثم توغل في ساحاته

ص: 30

وأبهائه، حتى تصل إلى السدّة العليا، فتجلس عليها، دون الأنبياء وفوق العظماء!

قف أيها الرجل! ألقِ عنك هذا السلاح الذي جئت تحارب به دين الله: إن دين الله لا يحارب!

ارم هذا السيف الذي توشحته لتقتل محمداً، وتقضي على بدعته الجديدة، وتبيد أصحابه التسعة والثلاثين! إن محمداً رسول الله وسيد كل من قال: أنا إنسان، لن يقتل! إن هذه البدعة التي كتب لها أن تغلب على العالم، وتبقى ما بقى الزمان ظافرة منصورة لن يقضى عليها. إن هؤلاء التسعة والثلاثين رجلاً سيملكون الدنيا؛ سيصيرون أربعين ألفاً، أربعين ألف ألف، أربعمائة ألف ألف، سيصيرون هم سكان هذه الكرة. . . إنهم لن يبيدهم سيفُك يا عمر!

بل سيعزّهم الله بك، ويستجيب فيك دعاء نبيّه ومصطفاه، صلى الله عليه وسلم. . . فتعال! اغمد هذا السيف. اقبض هذه اليد التي رفعتها لتضرب بها امرأة. تعال اغتسل من شركك وجهالتك وجفائك وقسوتك. إنك ستمشي إلى مشرق النور، إلى دار الأرقم في أصل الصفا، فتشهد فيها أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله!

يا لسرّ الكلمة السماوية: لا إله إلا الله محمد رسول الله! لقد نقلت عمر من ظلمة الجاهلية إلى نور الإسلام، ومن حضيض الخمول إلى قُنّة المجد، ومن مهامِهِ النسيان إلى صدر التاريخ. . لقد ذهب عمر الفظّ القاسي الذي كان مطية لقريش في ظلمها وشركها وجبَروتها الزائف، فينصر الباطل على الحق، والشرك على التوحيد، وجاء الفاروق العادل الرؤوف الرحيم، البطل الخالد العظيم، العبقريّ الذي أدار أربع ممالك، لقد جاء أمير المؤمنين، سيف الإسلام وعزّ الدين!

يا للعجب العجاب! إن الرجل الذي خرج في الهاجرة المحرقة، في هذا اليوم العصيب، منتضياً سيفه، لا يلوى على شيء حتى يقتل محمداً، قد رجع وهو يحب محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر من أمّه وأبيه والناس أجمعين!

إنها قد تعرض للمرء لحظات تبدل مجرى حياته، ولكنا لا نعرف - ولا يكاد يعرف أحد - مثل هذه اللحظة المباركة، التي قلبت هذا الرجل قلباً، فارتقى مرّة واحدة من بدويّ منكر لا يعرفه إلا قومه، إلى عبقريّ سيعرفه التاريخ بأنه قاهر كسرى وقيصر وباني الكوفة

ص: 31

والبصرة، وأنه أقوى وأرق وأعقل وأعدل ملوك الزمان - هذه اللحظة التي أثرت في حياة العالم فأزاحت دولاً وأقامت دولاً، وثلت عروشاً، وبَنت حضارات.

أسلم الفاروق، فليفرق بين الحق والباطل، ولينتقل الإسلام من دين مستتر يفرّ من قريش العاتية الظالمة المستكبرة، مختبئ في حاشية من حواشي مكة التي يصول في بطاحها الشرك ويجول، وتقوم حول كعبتها الأصنام، إلى دين ظاهر مجاهد، يجابه الخصوم، ويصمد للأعداء. لقد كان الإسلام ساكناً تحت الصفا يعمل بهدوء ويتكامل في الخفاء، كما تتكامل البذرة في باطن الأرض؛ فليخرج الغصن ولينمُ في الهواء، وليسمُ إلى العلاء، ليكون منه بعد ثلاثين سنة الدوحة التي تمتد فروعها من صحراء أفريقيا إلى سهول خُراسان، ومن جبال الأناضول، إلى ساحل عُمان. . .

ليعلن الإسلام (بمظاهرة) تسير في شوارع مكة على رأسها (حمزة) أسد الله و (عمر) الفاروق حتى تنتهي إلى المسجد الحرام، فيصلي المسلمون عند الكعبة أول صلاة بجماعة، وإمامهم إمام الأنبياء وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، ولتتقطع أفئدة قريش من الحنق، وليموتوا بغيظهم. انهم لا يستطيعون أن يصنعوا شيئاً. لقد أسلم الفاروق، وفرق الله به بين الحق والباطل! إنها (مظاهرة) صغيرة، لم يسر فيها إلا أربعون رجلاً، ولكنّ هؤلاء الأربعين هم الذين صنعوا الأربعمائة مليون مسلمي اليوم، ولا يعلم إلا الله ماذا يصنعون غداً. . . ولكن فيهم حمزة، فيهم عمر العظيم، فيهم خلاصة الإنسانية، وأفضل الأنس والجن والملائكة، محمد رسول الله!

إن هذه (المظاهرة) التي سار فيها أربعون شخصاً مائتي خطوة، من الصفا إلى الكعبة، لهي أعظم (مظاهرة) عرفها التاريخ لأعظم مبدأ قام لتقرير التوحيد، وتأييد الحق ونصرة الفضيلة، وتحقيق المثل العليا في الحق والخير والجمال.

إنها تسير أبداً، تسير في الأدمغة والقلوب، ما بقيت أدمغة وقلوب يحفّ بها الإجلال والإكبار.

- 3 -

ولكن ماذا كان عمر لولا الإسلام؟ هل كانت هذه العبقرية النادرة، وهذه النفس العجيبة التي تظهر لو لم يلمسها (محمد) بيده الكريمة ويهزها ويُفِضْ عليها من نوره؟

ص: 32

هل كان لعمر هذه المكانة في التاريخ وهذه المنزلة في النفوس؟ هل كان يعيش إلى هذا العصر ويؤلف فيه عشرون كتاباً، ويبقى إلى العصر الآتي ويكتب فيه ألف كتاب؟

إن من يدقق في سيرة عمر، ويقابل بين عمر الجاهلية - على قلّة ما لدينا من أخباره - وعمر الإسلام، ويرى كيف استحال عمر من شخص إلى شخص، وتبدلت طبائعه وأفكاره في اللحظة التي وقف فيها أمام النبي صلى الله عليه وسلم ونطق بكلمة الشهادة وكيف ولد في تلك اللحظة ولادة جديدة وبدأ يصعد في مدارج العلاء. . . إلى ذروة المجد. . . إلى الجنّة، علم أن عمر مدين للإسلام بكل شيء.

نعم، قد تظهر هذه العبقرية ولو لم يتداركها الإسلام، وتبدو آثارها، ويصبح عمر زعيماً من زعماء مكة، يبرز ويعظم أثره في قريش، ثم لا يتجاوز اسمه هذا الوادي الذي يمتد ستة أكيال من جرول إلى الحجون، بعرض كيلين أثنين - أما أن يتخطى أثره الأخشبين إلى البادية، ويقطع البادية إلى الشام والعراق، وينفذ إلى الأجيال الآتية فشيء لم يكن ليناله عمر لولا الإسلام.

وماذا كانت تصنع هذه العبقرية وهي محصورة في هذا الأفق الضيق؟ وما كان يصنع وهو يعيش في بلدة منقطعة عن العالم تائهة في لجٍّ من الرمال ما له آخر لا صلة لها بالبلدان العامرة إلا صلة التجارة الضعيفة، ولا تأتيها أخبار العالم إلا رثة بالية، ولا نبأ عندها من فلسفة يونان، أو حكمة الهند، أو أخبار السياسة الدَّوْلية بين فارس والروم؟

هل يغير مصباح محبوس في صندوق مغلق؟ أم يشتعل وحده لا يدرى به أحد، ثم يفنى زيته، فينطفئ وحده لا يعلم به إنسان؟

أما كانت تمضي عبقرية عمر كما مضت ألوف من العبقريات دفنت حية في بقعة معتزلة من بقاع الأرض، في قوم متأخرين، ولم تتصل بسمع التاريخ؟

أما إن عمر شعاعة من نور الإسلام، ومعجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم!

- 4 -

لما استفاق بنو قريش من الغشية التي أصابتهم عند ما أسلم عمر عادوا يكيدون للدين، ويؤذون النبي والمسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم ماضٍ في دعوتهم، صابر على

ص: 33

أذاهم، ينذرهم بطش الله، ويعدهم إذا أسلموا ملك فارس والروم، ويعدهم جنة عرضها السماوات والأرض، وهم ماضون في إعراضهم، لا يتدبرون القرآن، ولا تخشع له قلوبهم التي هي أشد قسوة من الحجارة (وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهارُ، وإِنَّ منها لمَا يشَّقَّقُ فيَخرُجُ مِنْهُ المَاءُ، وَإِنَّ مِنْها لمَا يَهبطُ مِنْ خَشْيَةِ الله) يا لهذه القلوب التي هي أغلظ من الجبال! (لَوْ أَنْزَلْنَا هذا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). وهذه القلوب التي أنزل عليها القرآن لا تخشع ولا تلين!

طلعت الشمس على وادي مكة أربعة آلاف وأربعمائة وأربعا وعشرين مرّة والمشهد واحد لم يتغير.

نبي الله يدعو الناس إلى الله، سراً وعلناً، فرادى وجمعاً، ليلاً ونهاراً؛ وبنو قريش يناوئونه ويحاربونه ويؤذونه، يلقون الشوك في طريقه وهو ماشٍ، ويرمون سلى الجزور على رأسه وهو ساجد، ويُغرون به سفهاءهم وأحداثهم، ويفتنون في تعذيب المسلمين، وتخرق لهم أدمغتهم الشيطانية طرقاً في التعذيب تقشعر لهولها الأبدان، ويقاطعون المسلمين لا يكلمونهم ولا يبايعونهم ولا يزوجونهم، ويحصرونهم في الشِّعب سنتين، ثم يعدون عدد الجريمة الكبرى، يأتمرون بالنبي ليقتلوه، ويضيّعوا دمه في القبائل، فلا يقدر عليه بنو عبد مناف.

فختام الصبر على هذا؟ أيقف هؤلاء المشركون الجاهلون من رؤوس قريش وزعماء مكة في وجه الإسلام، الذي ما جاء لقريش ولا للعرب، ولا للقرن السابع الميلادي، ولكن جاء رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، في كل عصر وفي كل بادية ومصر؟ أهؤلاء يمحون الإسلام من الأرض محواً؟ يا للسخفاء المغرورين! (يُريدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبى اللهُ إلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) وينصر نبيه، ويظهر دينه (عَلَى الدِّينِ كُلِّه).

لم يعد في قوس الصبر مَنزَع، فليس الإسلام في طريقه - نحو أرض الشام - نحو الظلال والأعناب، فليستقر في الطريق، (في المدينة) حيناً، ثم ليخرج من يثرب، ليعم العالمين.

أيها المسلمون. . . هاجروا إلى المدينة!

أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا إرسالاً مستخفين مستترين، ينسلّون من مكة انسلالاً، فلا تدري بهم قريش، إلا وهم في المدينة على رأس الجيش الذي يسحق رؤوس الكفر في (بدر)، ثم يمضي إلى (فتح مكة).

ص: 34

لكن عمر؟ عمر القويّ الذي ما لان للمشركين؛ عمر الذي أعلن إسلامه وذهب يضرب المشركين ويضربونه، ويجد في ذلك لذة وراحة؛ عمر الذي حماه خاله أبو جهل، وأجاره من أذى قريش، فضرب وجهه بجواره وأباه، وعاد إلى قريش يَضرب ويُضرب، ثم لا يكون إلا غالباً، يدفع عن نفسه، وعن المستضعفين من المسلمين.

عمر يذهب من مكة مستخفياً؟ معاذ الله يا عمر!

تهيأ عمر للهجرة، فتقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى بيده أسهماً، واختصر عنزته وذهب إلى المسجد، فاستقبل قريشاً بالسلاح الكامل، فطاف بالبيت سبعاً، ثم أتى المقام فصلى، ثم وقف على الملأ من قريش، فأعلن وحده الحرب عليهم جميعا. . . . فقال:

(شاهت الوجوه! لا يرغم الله إلا هذه المعاطس! من أراد أن يُثكل أمّه؛ أو يوتِم ولده، أو يُرمل زوجتَه، فليلقني وراء هذا الوادي!).

قال علي رضي الله عنه: فما تبعه إلا قوم من المستضعفين، علمهم ما أرشدهم، ثم مضى لوجهه.

- 5 -

سيقول قائل: ما لعمر يعلن هجرته، ويمشي على رؤوس الأشهاد من صناديد قريش، والنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه يهاجران مستخفيين؟ أيكون عمر أشجع من النبي ومن أبي بكر؟

لا والله، ما هو بأشجع منهما، ولقد وقف عمر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعد لم يسلم، ولم يجيء إلا ليقتله، فلما أمسك بتلابيبه ونتره، سقط على الأرض، على قدم النبي، وهو يرتعد من هيبته صلى الله عليه وسلم. وكان الصحابة - وفيهم عمر - إذا جد الجد، وحمى الوطيس، ودارت رحى الحرب، استتروا بالنبي صلى الله عليه وسلم واحتموا به. ولما كانت الردة ورمت العرب عن قوس واحدة، وخاف الصحابة وخاف عمر، وأرادوا المسالمة والملاينة، قام أبو بكر وحده في وجه العالم وصارعه حتى صرعه. فكان عمر يعرفها له أبداً. . . فعلام إذن هاجر عمر جهاراً نهاراً! وهاجرا مستخفيين؟

إن في الأمر لسراً، هو غير الشجاعة والجبن، ذلك أن القائد العام عندما ينتقل من جبهة من جبهات الحرب إلى جبهة أخرى، لا يقف في الطريق على عدو، ولا يلقى حرباً، وإذا رأى

ص: 35

نفراً من الأعداء، يستتر منهم، وينأى عنهم، لأنه إذا سلك سبيل الشجاعة الساذجة، وأقبل عليهم يقاتلهم، ضيع الجيش الذي ينتظره، ولا يعمل إلا به، وخسر المعركة الكبرى لينتصر على نفر من الأعداء في معركة على الهامش، ثم إن فراره لا يعد جبناً ولا عجزاً، وإقدامه لا يعد شجاعة ولا استبسالاً.

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم القائد الأكبر، لا في حرب قريش أو هوازن - فما قريش؟ وما هوازن؟ ولكن في حرب الشرك والجهل والظلم، في الحروب التي تمتد أبداً بين الحق والباطل، فلا يدافع عن الحق قوم إلا كانوا تحت راية محمد، فهل يدع مهمته الكبرى، لينتشر على نفر من قريش؟

ذلك هو سرّ الهجرة.

(لم ينته الفصل)

علي الطنطاوي

ص: 36

‌2 - جامعة الإسكندرية

بقلم الأديب إبراهيم جمعة

علماء الجامعة في عصرها الأول - فليتاس القوصي - زنودوتس - زيارة ميناندر الأثيني وافتتاح مسرح الإسكندرية - اكتشاف فيلون للبحر الأبيض الجنوبي - دراسة مانيتو وتيموثيوس وهيكتاتس للعقائد المصرية القديمة - اقليدس وهيروفيلوس - سوتر يكلف بالدراسة والتصنيف آخر الأمر - قيمة كتاباته - الفن - أخذ الإيطاليين عن الإسكندريين.

يميل الباحثون الألمان إلى نسبة هذه الجمهرة من العلماء إلى بطليموس الأول المعروف باسم بطليموس سوتر، وهو الذي يعتبره (سسميل) صاحب الفضل الأوفى في خلق حركة فكرية أدبية علمية في الإسكندرية قام هو بحمايتها، وترأس مجالسها، وأصغى إلى المناقشات الشديدة الاحتدام التي خلت في بعض الأحايين من الفائدة العلمية، فأصبح جدلاً شخصياً لا طائل تحته.

عهد بطليموس سوتر بتربية ابنه (فيلادلف) إلى عالم ذاع صيته في ذلك العصر هو فليتاس القوصي، وهو شاعر ينسب إليه أول مجهود أدبي عرفته الإسكندرية في الشعر الرثائي، بل أول مجهود عرفه العالم أجمع من هذا النوع من الشعر، وهو إلى هذا من أشهر علماء اللغة الإغريقية الذين صنفوا فيها، ووضعوا لها موسوعة كبرى حوت كل مصطلحاتها.

هذا وقد تابع زنودوتس البيزنطي التأليف والتصنيف في قواعد الإغريقية، وقام بجهد يشكر في مراجعة مخلفات (هوميروس).

ويحتمل أن يكون بطليموس سوتر هو المؤسس لمسرح الإسكندرية، وأن تكون دعوته (لميناندر الأثيني) بقصد حضور حفلة افتتاح المسرح الكبير وشهود بعض رواياته التي وضعها في أثينا تمثل في الإسكندرية؛ وقد كانت زيارة ميناندر للإسكندرية تطويقاً لجيد الجامعة بأثمن درر العصر، واعترافاً بالمكانة الناشئة والنجاح الظاهر الذي صحب جهود البطالسة الأوائل في توفير جو علمي من الطراز الأول لمدينتهم الجديدة.

ووكل سوتر إلى أمير البحر (فيلون) أمر التجوال في البحر الأحمر قصد الوصول إلى أطرافه الجنوبية؛ وقد وفق هذا إلى اكتشاف البحر الأحمر الجنوبي، وكان لهذا الاكتشاف أثره في عصر بطليموس فيلادلف ومن خلفه في التجارة وفي تزويد الجامعة بأبحاث

ص: 37

عظيمة القيمة سنأتي على ذكرها في موضعها - كما عهد سوتر أيضاً إلى هيكتاتيس الأبديري، ومانيثو، وتيموثيوس أمر دراسة (الميثولوجيا) المصرية القديمة، ابتغاء تزويد الإمبراطورية البطليموسية الناشئة بما يحتاج إليه كيانها من العقائد.

والحقيقة أن كل هذه الجهود هي دون ما بلغته جامعة الإسكندرية في هذا العصر من التفوق في الهندسة على يد أستاذها الأكبر (اقليدس الإسكندري) وفي التشريح على يد أستاذه الفذ (هيروفيلوس).

وإقليدس أشهر معلمي هذا العصر إطلاقاً، وهو أبو الهندسة كما يقولون، مؤسس مذهب البحث العلمي؛ وكتابه (الأصول) أنماط في صميم المنطق أكثر منها موضوعات في الرياضة، وإليه يرجع الفضل في جعل عصر سيده بطليموس سوتر عصر تفوق رياضي عظيم الشأن، كان ولا يزال له أثره في تقدم العلم والعقل البشري.

وكان (هيروفيلوس) أبا للتشريح، كما كان (أبقراط) اليوناني أبا للطب من قبل، وبفضل هيروفيلوس سجل التاريخ لمصر السبق في دراسة (الأمعاء) دراسة دقيقة، وكانت الحكومة تمده بالمجرمين المقضي عليهم بعقوبة الإعدام ليجري فيهم تجاربه - كما أمدته حظيرة الحيوان الملحقة بالمتحف بأنواع من الحيوان شرحها ودرسها واستنبط من كل ذلك طريقة علمية للتشريح ساعدت بدورها على رفع شأن الإسكندرية في العلوم الطبية.

وتآزرت جهود هذا العالم وجهود إقليدس على خلق مكانة للإسكندرية ظلت مقترنة باسم المتحف الإسكندري حتى وقتنا هذا.

ويجدر بنا أن نذكر أنه بينما كان الإسكندريون مشغوفين بمباحث العلم البحت في الرياضة والطب وما شاكلهما، كان الأثينيون مشغولين بدراسة الفلسفة من رواقية وأبيقورية، أما اشتغال الإسكندرية بالفلسفة فقد جاء متأخراً حين أسس فلاسفتها مذاهبها الخاصة التي أشهرها الأفلاطونية الحديثة وسنعرض لها في بحثنا هذا بكثير من التفصيل.

كانت لبطليموس سوتر شواغل سياسية إلى جانب انهماكه في رفع شأن الإسكندرية، وأهم تلك الشواغل منافسته لديمتريوس ملك مقدونية، لانتزاع السلطة البحرية على البحر الأبيض الشرقي من يده، وما لبث حتى انتزع قبرص من الملك المقدوني وجعلها مركزاً لأسطوله، وغدت له بهذا سيطرة غير منازعة على المياه الشرقية من البحر الأبيض. وكان

ص: 38

من شواغله أيضاً رغبته الملحة في نقل جثمان سيده (الإسكندر) إلى مصر، ابتغاء الفخر بحيازة جثمان العاهل العظيم، ولم يهدأ لسوتر بال حتى تم له ذلك، وبهذا خلا نهائياً من مشاغله الخارجية، وخصص كل عنايته بعد ذلك للمكتبة والمتحف اللذين نالا من ماله وانتباهه الشيء الكبير. ومن أمره أنه شغف مع المشغوفين بالدراسة والتصنيف؛ ومن المعروف عنه أنه وضع مصنفاً في حروب الإسكندر الأكبر التي ساهم فيها كأحد قوادها. ويصف (أريان) مؤلَّف سوتر بأنه من أدق المراجع وأوفاها في هذا الشأن، ويضعه في رأس كتب المراجع التي صدر عنها تاريخه، وقد يكون هذا حقاً، كما قد يكون ملقاً للملك المؤلف.

والمذكرات الخاصة التي يضعها القواد عن أعمالهم في الحروب يغلب عليها المبالغة، وحسن تقدير تلك الأعمال وتعظيم نتائجها مما قد يكون إغراقاً وتورطاً في الباطل، وهي لهذا لا يصح أن تتخذ سنداً من أسانيد التاريخ إلا بكثير من الحيطة والحذر. وينسب إلى نابليون الأول شيء من هذا في مذكراته التي كتبها عن نفسه، ولم يتحرر يوليوس قيصر من مثل ما ينسب إلى نابليون في مذكراته عن (الحرب الغالية).

ويذكرون أن سوتر كتب أيضاً عدة رسائل عن الشؤون العامة في عصره نشرها (ديونيسودورس) أحد تلاميذ (أرستاكاس) العالم الإسكندري، يؤسفنا أننا لم نعثر على شيء منها حتى الآن.

وفي أواخر أيام سوتر كان لا بد له من تسوية مسألة وراثة العرش، إذ كان له أكثر من وريث، وكان أكثر هؤلاء الوراث خطراً على العرش البطليموسي (بطليموس) ابن له من يونانية، أحذ ديمتريوس ملك مقدونية الموتور يشد أزره ويناصره على بطليموس (فيلادلف). وكان النزاع بين هذين الوريثين نزاعاً بين روحين مختلفتين: روح مصرية، وروح يونانية؛ وكان انتصار إحداهما على الأخرى انتصاراً لإحدى الروحين، وتحديداً لمستقبل البلاد. وكان ميل الملك الأب مع أبنه فيلادلف، وكان هوى الشعب مع الأخير إذكاء للروح القومية الجديدة التي بدأها وارث ملك الإسكندر في مصر سوتر العظيم، وإنهاضاً لمدينة هلينية الأصل حقاً، ولكنها من حق الإسكندرية، ومن جهدها وإحيائها. كان الملك الأول يأنس في الملك الابن فيلادلف سياسة مشابهة لسياسته، أساسها المحافظة على

ص: 39

الصبغة المشتركة التي جمعت بين اليونانية الهلينية والمصرية الفرعونية، والتي حرص البطالسة على التمسك بها كأساس لملكهم الجديد، لا مناص منه، إبقاء على دولتهم من أن تبيد.

والذي يتأمل كيف عنى سوتر بتربية ابنه فيلادلف على أيدي خير الأساتذة، يرى كيف كان يحرص على أن ينتهي ملكه إلى هذا الوريث دون سواه، وقد كان أن نزل سوتر لابنه فيلادلف عن العرش، ولكنه ظل يظهر في بلاط ابنه مدة عامين كأحد الرعايا، ومات عام 283 ق. م مخلفاً على الزمن سجلاً حافلاً بالحوادث الجسام قَلَّ أن تتوفر لحاكم.

استطاع سوتر أن يركز دراسة العلوم والآداب والفلسفة والطب في عاصمة ملكه، ولكن هل استطاع أن يجعل الإسكندرية كعبة الفنون في هذا العصر؟

إذا كان لنا أن نحكم بالشواهد التي بين أيدينا وهي تلك النقوش البديعة التي ترى فوق العملة المتخلفة عن هذا العصر في دور العاديات، لما تأخرنا عن الحكم قطعاً بتقدم الفن في ذلك العصر؛ غير أنه لا يجب أن يغيب عن بالنا ونحن في هذا الصدد أن الفن الإغريقي كان عليه أن يغالب فناً من أقوى الفنون التي عرفها تاريخ العمارة هو الفن الفرعوني. والمشاهد بوجه عام أن المباني التي أقامها البطالسة خارج الإسكندرية روعي فيها أن تكون فرعونية الصبغة، ولكنها لم تخل من التأثر بالفن الإغريقي؛ ولم يكن للبطالسة من ذلك مناص، تشبهاً بالفراعنة وإرضاء لذوق الشعب المصري الذي لم تنسه الأحداث السياسية قوميته، ولم يمجد على مرور الزمن أبطالاً غير أبطاله، ولم يعرف عنه أنه أسلم القياد كله للمدنية الدخيلة، ولاسيما للجانب الديني منها، بل بقي محافظاً على دين أجداده محافظة تامة. لهذا ظلت المباني ذات الصبغة الدينية على النمط الفرعوني.

تأثر البطالسة بالديانة المصرية أكثر مما تأثر المصريون بالفن الإغريقي، ولذلك بقيت الصبغة المصرية كما أسلفنا ظاهرة في الفن الذي عرف عن العصر البطليموسي، إلا في الإسكندرية ذاتها، حيث كان كل شيء يونانياً صرفاً؛ فأقيم في الإسكندرية في هذا العصر المتحف والملعب والمسرح والسينما حيث دفن الإسكندر، وكانت كلها من غير جدال آية في إبداع الصنعة الإغريقية، رغم ما يحاول البعض إشاعته من تأخر الفن في هذه الفترة من الزمن.

ص: 40

والأدلة المادية على تقدم الفن الإغريقي في مصر في هذا الزمن ما أبدعته يد نحات لتابوت من الرخام البديع الصنع ما يزال محفوظاً في متحف القسطنطينية لملك مجهول الاسم من ملوك صيدا، هو تحفة من تحف الحفر وحذق الألوان، وتلك المشاهد التاريخية التي ترى محفورة على الأحجار تمثل المعارك بين الفرس والإغريق، إلى تلك الصور الرمزية التي قصد بها الإشارة إلى امتزاج الشرق والغرب عن طريق الحضارة الإغريقية، إلى مناظر الصيد وغير ذلك مما لا يفوقه سوى (البارثنون) في أثينا.

وأغلب الظن أن الإسكندرية بما توفر لها من سمو المكانة لا بد أن تكون قد استهوت أمهر البناءين، ورجال الفنون حيث بلاط سوتر وفيلادلف وعطاؤهما المغدق لكل من برز في ناحية من النواحي؛ ولا شك أن الإسكندرية عروس البحر الأبيض المتوسط لم تكن إلا من خلق هؤلاء الفنانين وإبداعهم.

وقد كتب م. شريبر مقالاً ممتعاً عن فن نشأ بالإسكندرية وتقدم فيها، وانفردت به، هو صناعة الأواني الذهبية والفضية التي تتخذ عادة مقياساً لتقدم الحرف اليدوية، والتي لا تزال شاهدة على قولنا بين محتويات دور الآثار. ويحاول هو أن يثبت أن الإسكندريين كانوا الأساتذة في هذا المضمار وفي غيره. ففي رأيه أن أسلاف (بنفنتو سليني) الإيطالي، والمدرسة الإيطالية التي زعيمها هذا الأخير حاكت فن الإسكندرية في الشعر والفن. وهو يدلل بقوة على حب الإسكندريين للطبيعة وتقديرهم لروائعها، وعلى أن الإسكندرية كانت حلقة الاتصال بين العلم والفن، وبين القديم والحديث، وبين الشرق والغرب. . . الخ.

ليس الفن في ذاته ناحية من نواحي نشاط جامعة الإسكندرية، ولا هو عادة يتصل بالدراسة الجامعية اتصالاً مباشراً، ولكنا سقنا هذه الكلمة القصيرة عن الفن الإغريقي الإسكندري، لأنه جانب من جوانب المدنية، كان يستلزم من الإسكندريين ولا شك إلماماً بالأصول الهندسية التي لا غنى لفن العمارة عنها. ونحن وإن كنا لم نحصل على ما نقطع الرأي به من أن الهندسة التي اشتهرت بها الإسكندرية منذ عهد اقليدس كانت تطبق ويستفاد منها عملياً في فن العمارة، إلا أننا نرجح إمكان استفادة الفن من هندسة إقليدس استفادة كبرى.

ولنا في بعض مقالاتنا التالية عود إلى نقل إيطاليا وخاصة جامعة (بدوا) في العصور الوسطى عن جامعة الإسكندرية نظامها والكثير من تراثها الفكري حيث شاع منها إلى

ص: 41

أوربا من قطر إلى قطر ومن عصر إلى عصر.

(حقوق النقل محفوظة لصاحب المقال)

إبراهيم جمعة

ص: 42

‌للتاريخ السياسي

معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وإنجلترا

- 3 -

محضر متفق عليه

رغب الوفد المصري ووفد المملكة المتحدة أن يسجلا في محضر المفاوضات ما اتفقا عليه من تفسير لبعض نصوص معاهدة التحالف، وفيما يلي بيان هذه التفسيرات:

1 -

من المفهوم طبعاً أن التسهيلات المنصوص عليها في المادة السابعة التي تقدم إلى صاحب الجلالة الملك والإمبراطور تشمل إرسال قوات أو إمدادات بريطانية في الحالات المعينة بتلك المادة.

2 -

من المفهوم أنه كنتيجة لأحكام المادة السادسة تتبادل الحكومتان المشورة في حالة خطر قطع العلاقات.

وعليه ففي حالة قيام ضرورة دولية مفاجئة يخشى خطرها يعمل بمبدأ التشاور المتبادل نفسه.

3 -

تشمل (طرق المواصلات) المشار إليها في الجملة الثانية من المادة السابعة المواصلات الإخبارية (الأسلاك البحرية والتلغرافات والتليفونات واللاسلكي).

4 -

تشمل الإجراءات الحربية والإدارية والتشريعية الوارد ذكرها في الجملة الثالثة من المادة السابعة الإجراءات التي بموجبها تراعي الحكومة المصرية في استعمال حقها بالنسبة لمواصلات الراديو الكهربائية مستلزمات محطات التلغراف اللاسلكي التابعة للقوات البريطانية في مصر، وتواصل العمل مع السلطات البريطانية لمنع أي تدخل بين موجات محطات التلغراف اللاسلكي البريطانية والمصرية، كما تشمل الإجراءات التي تكفل الرقابة الفعالة على جميع وسائل المواصلات المشار إليها في تلك المادة.

5 -

يراد بكلمتي (منطقة جنيفة) الواردتين في الفقرة الثانية (أ) من ملحق المادة الثامنة امتداد شاطئ البحيرة المرة الكبرى من نقطة تبعد ثلاثة كيلومترات شمالي محطة جنيفة إلى نقطة تبعد ثلاثة كيلومترات جنوب شرقي محطة قايد بعرض ثلاثة كيلومترات من شاطئ

ص: 43

البحيرة.

6 -

من المتفق عليه بالنسبة إلى (ب) من الفقرة الثانية من ملحق المادة الثامنة أن تحدد بالضبط وفي أقرب وقت مستطاع الأماكن التي ستحل بها القوات الجوية بالمنطقة المشار إليها هناك.

وينقل كذلك إلى هذه المنطقة مستودع قوات الطيران الملكية الموجودة الآن بأبي قير، على ألا يتأخر ذلك عن تاريخ انسحاب القوات البريطانية من القاهرة طبقاً للفقرة الثامنة.

7 -

من المتفق عليه بالنسبة للفقرة الثالثة من ملحق المادة الثامنة (أ) أن تشمل أبنية الثكنات البريطانية أماكن للمتزوجين من الضباط، ولنسبة معينة من الرتب الأخرى. (ب) إنه وإن كان يمكن الآن تحديد موضع مصحة النقاهة تحديداً نهائياً إلا أن العريش قد تصلح لهذا الغرض. (ج) إن الحكومة المصرية جرياً على الخطة التي سلكتها فعلاً لمصلحة سكان تلك المناطق ستتخذ جميع التدابير الصحية الممكنة لمكافحة الملاريا في الجهات المجاورة للمناطق التي توجد بها القوات البريطانية.

8 -

من المتفق عليه بالنسبة للفقرة السادسة من ملحق المادة الثامنة أنه فيما يتعلق بالطريق رقم (2) إذا لم تستطع الحكومة المصرية الاتفاق مع شركة قنال السويس على استخدام القوات البريطانية والمصرية لهذا الطريق وإصلاح الأجزاء التي لم تصل بعد إلى مستوى الأجزاء الأخرى إلى أن تفي بالشروط المبينة في الفقرة السادسة فأن الحكومة المصرية ستنشئ طريقاً جديداً يصل ما بين هذه الأماكن.

9 -

من المتفق عليه بالنسبة للفقرة الثانية عشرة من ملحق المادة الثامنة أن يقتصر عدد أفراد الفصيلة المشار إليها على الحد الأدنى اللازم بالضبط لاستلام هذه الأدوات وحراستها.

10 -

من المتفق عليه بالنسبة للفقرة الثالثة عشرة من ملحق المادة الثامنة أن الطيران سيكون لأغراض التدريب؛ على أن يكون في الغالب فوق المناطق الصحراوية، ولا يكون فوق المناطق المسكونة إلا حين تقتضي الضرورة ذلك.

11 -

من المتفق عليه طبعاً فيما يتعلق بالفقرة الثانية من المذكرة المصرية الثانية أن الحكومة المصرية هي التي تدفع نفقات البعثة العسكرية، وأن كلمتي (التدريب الصحيح)

ص: 44

الواردتين في هذه الفقرة يشملان التدريب في الكليات والمعاهد الحربية والبريطانية.

12 -

لا تنطبق الفقرة الثانية من المذكرة الثانية إلا على الأشخاص الذين يكونون بالفعل في ذلك الوقت من أفراد القوات المصرية المسلحة.

13 -

يراد بكلمة (المعدات) الواردة بالفقرة الثالثة من المذكرة المصرية الثانية كل المهمات التي يحسن بالقوات التي تعمل معاً أن تتخذها من صنف واحد فلا تشمل الملابس ولا المنتجات المحلية.

ملحق للمادة الحادية عشرة

إلى أن يتفق الطرفان على غير ما يأتي تطبيقاً للفقرة الأولى من هذه المادة يتعين أن تكون المبادئ العامة التي يراعيانها في المستقبل بالنسبة للاتفاقات الدولية هي أنها لا تطبق على السودان إلا بعمل مشترك تقوم به حكومة المملكة المتحدة وحكومة مصر وأن مثل هذا العمل المشترك يكون لازماً تماماً كذلك إذا أريد إنهاء اشتراك السودان في اتفاق دولي كان ينطبق عليه.

والاتفاقات التي يراد سريانها على السودان تكون على العموم اتفاقات ذات صفة فنية أو إنسانية، وتشمل مثل هذه الاتفاقات في الغالب على الدوام حكماً خاصاً بالانضمام اللاحق إليها، وفي مثل هذه الأحوال تتبع هذه الطريقة لجعل الاتفاق سارياً على السودان.

ويجري الانضمام بوثيقة مشتركة يوقعها عن مصر وعن المملكة المتحدة كل فيما يخصه شخصان مفوضان في ذلك تفويضاً صحيحاً.

وتكون طريقة إيداع وثيقة الانضمام في كل حالة موضع اتفاق بين الحكومتين.

وفي حالة ما إذا أريد أن يطبق على السودان اتفاق لا يحتوي على نص بالانضمام تكون طريقة تحقيق ذلك موضع تشاور واتفاق بين الحكومتين.

وإذا كان السودان بالفعل طرفاً في اتفاق وأريد إنهاء اشتراكه فيه تشترك المملكة المتحدة ومصر في إصدار الإعلان اللازم لهذا الإنهاء.

ومن المتفق عليه أن اشتراك السودان في اتفاق ما وإنهاء ذلك الاشتراك لا يكونان إلا بعمل مشترك يجري خصيصاً بالنسبة للسودان ولا يستنتجان من مجرد كون المملكة المتحدة ومصر طرفين في الاتفاق أو من نقضهما لهذا الاتفاق.

ص: 45

وفي المؤتمرات الدولية التي تجري فيها المفاوضات في مثل هذه الاتفاقات يكون المندوبان البريطاني والمصري بطبيعة الحال على اتصال دائم بالنسبة لأي إجراء قد يتفقان على أنه مرغوب فيه لصالح السودان.

محضر متفق عليه

1 -

من المتفق عليه بالإشارة إلى الفقرة الأولى من المادة الحادية عشرة أن يقدم الحاكم العام إلى حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة وإلى الحكومة المصرية تقريراً سنوياً عن إدارة السودان، وأن يبلغ التشريع السوداني إلى رئيس مجلس الوزراء المصري مباشرة.

2 -

من المتفق عليه بالإشارة إلى الفقرة الثانية من المادة الحادية عشرة أنه بينما يكون تعيين الوطنيين المصريين في الوظائف الرسمية بالسودان خاضعاً بالضرورة لعدد الوظائف المناسبة الخالية ووقت خلوها ومؤهلات المرشحين المتقدمين لها فإن أحكام تلك الفقرة تسري فوراً بمجرد نفاذ المعاهدة؛ وتكون ترقية الموظفين في حكومة السودان بدون اعتبار للجنسية إلى أية درجة كانت وذلك بالاختيار تبعاً للجدارة الشخصية.

3 -

ومن المفهوم أيضاً أن هذه النصوص لا تمنع الحاكم العام من أن يعين أحياناً في بعض الوظائف الخاصة أشخاصاً من جنسيات أخرى إذا لم يتيسر وجود ذوي المؤهلات من الرعايا البريطانيين والوطنيين المصريين أو من السودانيين.

4 -

من المتفق عليه فيما يتعلق بالفقرة الثالثة من المادة الحادية عشر أنه نظراً لأن الحكومة المصرية ترغب في إرسال الجنود إلى السودان فإن الحاكم العام سيبادر بالنظر في أمر عدد الجنود المصرية اللازمة للخدمة في السودان والأماكن التي يقيمون فيها والثكنات اللازمة لهم؛ وسترسل الحكومة المصرية فوراً بمجرد نفاذ المعاهدة ضابطاً مصرياً عظيماً يستطيع الحاكم العام استشارته في هذه الأمور.

5 -

بما أنه قد تم الاتفاق بين الحكومة المصرية وحكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة على أن مسألة الدين المستحق لمصر على السودان والمسائل المالية الأخرى المتعلقة بهما تبحث بين وزارة المالية المصرية ووزارة المالية بالمملكة المتحدة، وبما أن هذا البحث قد ابتدأ بالفعل فقد رؤى أنه ليس من الضروري أن تتضمن المعاهدة أي نص

ص: 46

خاص بهذه المسالة.

خطاب من فخامة المندوب السامي

خطاب للمندوب السامي

إلى دولة مصطفى النحاس باشا رئيس مجلس الوزراء

سيدي:

في خلال مناقشتنا في المسائل التفصيلية المتصلة بالفقرة الثانية من المادة الحادية عشرة أقترح ندب خبير اقتصادي مصري للخدمة في الخرطوم وأبدى الحاكم العام رغبته في تعيين ضابط مصري سكرتيراً حربياً له، وقد سجل الاقتراح والرغبة المشار إليهما واعتبرا مقبولين من جهة المبدأ؛ كما إنه قد اعتبر من المرغوب فيه ومن المقبول أن يدعى مفتش عام الري المصري بالسودان إلى الاشتراك في مجلس الحاكم العام كلما نظر المجلس في مسائل متصلة بأعمال مصلحته.

وتفضلوا. . . . الخ

إمضاء

ملحق للمادة الثالثة عشرة

إن الأغراض التي ترمي إليه التدابير الواردة في هذا الملحق هي:

1 -

الوصول على وجه السرعة إلى إلغاء الامتيازات في مصر وما يتبع ذلك حتماً من إلغاء القيود الحالية التي تقيد السيادة المصرية في مسألة سريان التشريع المصري (بما في ذلك التشريع المالي) على الأجانب.

2 -

إقامة نظام انتقال لمدة معقولة تحدد، ولا تطول بغير مبرر. وفي حدود تلك المدة تبقى المحاكم المختلطة وتباشر الاختصاصات المخولة الآن للمحاكم القنصلية فضلاً عن اختصاصها القضائي الحالي.

وفي نهاية فترة الانتقال هذه تكون الحكومة المصرية حرة في الاستغناء عن المحاكم المختلطة.

2 -

تتصل الحكومة المصرية كخطوة أولى في أقرب وقت مستطاع بالدول ذوات

ص: 47

الامتيازات بقصد (أ) إلغاء كل قيد يقيد التشريع المصري على الأجانب، و (ب) إقامة نظام انتقال للمحاكم المختلطة كما هو وارد في الشطرة الثانية من الفقرة الأولى سالفة الذكر.

3 -

إن حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة بصفتها دولة من ذوات الامتيازات وبصفتها حليفة لمصر لا تعارض بتاتاً في التدابير المشار إليها في الفقرة السابقة، وستتعاون تعاوناً فعلياً مع الحكومة المصرية في تحقيق هذه التدابير باستعمال كامل نفوذها لدى الدول ذوات الامتيازات في مصر.

4 -

من المتفق عليه أنه في حالة ما إذا وجد من المستحيل تحقيق التدابير المشار إليها في الفقرة الثانية فإن الحكومة المصرية تحتفظ بحقوقها كاملة غير منقوصة إزاء نظام الامتيازات بما فيه المحاكم المختلطة.

5 -

من المتفق عليه أن الشطرة (أ) من الفقرة الثانية لا تعني فقط أن موافقة الدول ذوات الامتيازات لن تكون ضرورية لسريان التشريع المصري على رعاياها، ولكنها تعني أيضاً انتهاء الاختصاص التشريعي الحالي الذي تباشره المحاكم المختلطة بالنسبة لتطبيق التشريع المصري على الأجانب، ويتبع ذلك ألا يكون للمحاكم المختلطة في سلطاتها القضائية أن تقضي في صلاحية سريان قانون أو مرسوم مصري طبقه البرلمان المصري أو الحكومة المصرية على الأجانب.

6 -

يصرح صاحب الجلالة ملك مصر بمقتضى هذا أن أي تشريع مصري يطبق على الأجانب لن يتنافى مع المبادئ المعمول بها على وجه العموم في التشريع الحديث، وأنه فيما يتعلق بالتشريع المالي على الخصوص فأن هذا التشريع لن يتضمن تمييزاً مجحفاً بالأجانب بما في ذلك الشركات الأجنبية.

7 -

لما كان من المعمول به في أكثر البلاد أن يطبق على الأجانب قانون جنسيتهم في مسائل الأحوال الشخصية فسينظر بعين الاعتبار إلى أنه من المرغوب فيه أن تستثنى من نقل الاختصاص - على الأقل في البداية - مسائل الأحوال الشخصية الخاصة برعايا الدول الممتازة التي ترغب في أن تستمر محاكمها القنصلية في مباشرة هذا الاختصاص.

سيقتضي نظام الانتقال الذي يوضع للمحاكم المختلطة ونقل الاختصاص الحالي للمحاكم القنصلية إليها (الأمر الذي سيكون بطبيعة الحال خاضعاً لأحكام الاتفاق الخاص المشار إليه

ص: 48

في المادة التاسعة) إعادة النظر في القوانين الحالية الخاصة بتكوين المحاكم المختلطة واختصاصها بما في ذلك إعداد وإصدار قانون جديد لتحقيق الجنايات.

ومن المفهوم أن إعادة النظر هذه ستتضمن فيما تتضمنه المسائل الآتية:

1 -

تعريف كلمة أجنبي بصدد الاختصاص المقبل للمحاكم المختلطة.

2 -

زيادة عدد موظفي المحاكم والنيابات المختلطة بما يقتضيه التوسيع المقترح لاختصاصها.

3 -

الإجراءات المتعلقة بمسائل العفو أو تخفيف عقوبة الأحكام الصادرة على الأجانب والإجراءات المتعلقة بتنفيذ عقوبة الإعدام الصادرة عليهم.

محضر متفق عليه

من المتفق عليه بالنسبة للفقرة السادسة من ملحق المادة الثالثة عشرة أن المسائل التي ينطوي عليها هذا التصريح لا تخضع لقضاء أي محكمة في مصر.

المذكرة المصرية الأولى

سيدي:

بالإشارة إلى المادة الثانية من المعاهدة التي وقعناها اليوم أتشرف بإخباركم أنه نظراً لأن حضرة صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وايرلندا والأملاك البريطانية وراء البحار وإمبراطور الهند سيكون أول ملك أجنبي يمثله في مصر سفير فإن السفراء البريطانيين سيعتبرون ذوي أقدمية على باقي الممثلين السياسيين المعتمدين لدى بلاط صاحب الجلالة ملك مصر. وتكون محتويات هذه المذكرة خاضعة لإعادة النظر في الوقت وبالشروط المنصوص عنها في المادة السادسة عشرة من المعاهدة.

المذكرة المصرية الثانية

سيدي:

أريد أن أسجل هنا مسائل معينة أخرى تم التفاهم عليها وتتصل بالشؤون العسكرية في معاهدة التحالف التي وقعناها اليوم

1 -

يسحب الموظفون البريطانيون من الجيش المصري وتلغى وظائف المفتش العام

ص: 49

والموظفين التابعين له.

2 -

نظراً لأن الحكومة المصرية ترغب في استكمال تدريب الجيش المصري بما فيه سلاح الطيران وتنوي لمصلحة المحالفة التي تم عقدها أن تختار المدربين الأجانب الذين قد ترى حاجة إليهم من بين الرعايا البريطانيين وحدهم فإنها قد اعتزمت أن تنتفع بمشورة بعثة عسكرية بريطانية للمدة التي تراها ضرورية للغرض المذكور، وتتعهد حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة بأن تقدم البعثة العسكرية التي تطلبها الحكومة المصرية كما تتعهد بأن تقبل من ترى الحكومة المصرية إيفاده من رجال جيشها للتعلم بالمملكة المتحدة وأن تكفل لهم التدريب الملائم. ونظراً للظروف التي هيأتها هذه المعاهدة سوف لا ترغب الحكومة المصرية بطبيعة الحال في إيفاد أحد من أفراد قواتها المسلحة ليتلقى دراسته في أي معهد أو وحدة من معاهد التدريب أو وحداته في غير المملكة المتحدة، على ألا يمنع ذلك الحكومة المصرية من أن توفد إلى أي بلد آخر رجال الجيش الذين لا يتيسر قبولهم في معاهد المملكة المتحدة ووحداتها.

3 -

يتعين لصالح المحالفة ونظراً لاحتمال ضرورة التعاون في العمل بين القوات البريطانية والمصرية ألا يختلف طراز أسلحة القوات المصرية من برية وجوية ومعداتها عن الطراز الذي تستعمله القوات البريطانية. وتتعهد حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة بأن تبذل وساطتها لتسهيل توريد تلك الأسلحة والمعدات من المملكة المتحدة بمثل الأثمان التي تدفعها حكومة صاحب الجلالة كلما رغبت الحكومة المصرية في ذلك.

المذكرة المصرية الثالثة

سيدي:

بالإشارة إلى المادة الرابعة عشرة من المعاهدة التي وقعناها اليوم أتشرف بإبلاغكم أن الحكومة المصرية تنوي إلغاء إدارة الأمن العام الأوربية فوراً، ولكنها ستستبقي لمدة خمس سنوات من نفاذ المعاهدة عنصراً أوربياً معيناً من بوليس المدن، ويبقى هذا البوليس في المدة المذكورة تحت إمرة ضباط بريطانيين.

وتسهيلاً لإحلال موظفين مصريين بالتدريج محل العنصر الأوربي المذكور مما يضمن تجانس العمل في نظام البوليس تنوي الحكومة المصرية أن تستغني كل عام عن خدمة

ص: 50

خمس موظفي البوليس الأوربي.

وستفضل الحكومة المصرية على العموم بالنظر لمعاهدة الصداقة والتحالف التي وقعناها اليوم الرعايا البريطانيين الحائزين للمؤهلات المطلوبة عندما تستخدم خبراء من الأجانب.

(تمت ملحقات المعاهدة)

ص: 51

‌3 - نهضة المرأة المصرية

وكيف توجه للخير العام

للأستاذ فليكس فارس

من هذا الموقف دفعت الإنسانية في الغرب أوائل خطواتها على سبيل المدنية الحديثة، فكان التمرد على النظم القديمة البالية، وكانت الثورات التي خضبت الأرض بدماء الأسياد والعبيد، بدماء الظالمين والمظلومين، بدماء الأبرياء والمجرمين، نجيعاً واحداً رقص الشعب فوقه صاخباً باكياً ضاحكاً في سكرة الأماني المحطمة والآلام المخدرة.

من مثل موقف الرومان ومن مثل موقف العرب حين سادت الخرافات بين الشعوب خرجت أوربا إلى عهدها الجديد، ولكن عيسى لم يكن هاديها، ولا كان محمد ماشياً في طليعتها. كان إنجيل الغرب حقوق الإنسان التي كتبها الثائرون بالدم المتمرد، وكان قرآنها القوانين التي سنها نابليون لإقامة الموازنة بين الحقوق، ولكن هذا الإنجيل الحديث الذي استمد من إنجيل عيسى المساواة والإنصاف لم يتناول سواهما من مبادئ الإحسان والعطف والمغفرة والرحمة، وهذا القرآن الجديد: قوانين نابليون المستمدة من مذاهب الأئمة في الشرع الإسلامي وقف عند حد التنظيم المادي لحقوق الناس، فقصر عن الأخذ بما في قرآن النبي الهادي من الدعوة إلى المعروف والبر بإلادنين والأبعدين من بني الإنسان.

رأت بلاد الغرب أن الدين قد أصبح سلطة تواطأت طويلاً مع السلطان المدني المطلق وما حوله من سادات الإقطاع، وامتنع عليها أن نسلخ إنجيل عيسى عن هذه السلطة فأنكرتها وأنكرت عيسى وتعاليمه معها. وسارت المدنية الحديثة في طريقها مستنيرة بالعلم الوضعي منكرة كل ما لا تقع الحواس عليه، فأصبحت القوة وحدها المسيطر الأعلى تنبسط قاعدة رهيبة للعجل الذهبي فتمده باعتلائها ويمدها بلمعانه وصولته.

وبقيت المسيحية دين الغرب، ولكنها حصرت في كنائسه وانكمشت مبادئها عن الحياة نفسها، وبينما كانت تتلى في المعابد كل يوم الآيات التي هبطت على جبل فلسطين فهزت الدنيا وقلبت المدنيات القديمة، وتتلى بعدها رسائل الحواريين التي كتبت في السجون لتحرير الإنسان، كانت مدنية روما الوثنية تنبعث من كل جانب لتدور حول الكنائس مقهقهة ساخرة.

ص: 52

كان العذارى يخرجن من الكنائس بعد سماعهن قول بولس الرسول بالتستر وحجب الشعور والاحتشام والطاعة للقيمين، فيذهبن إلى المراقص نصف عاريات كأنهن الدمى الرومانية نفخ إبليس فيهن نسمة الحياة.

إن غريزة المرأة في الأصل لا تطمح إلا إلى الطريق الذي اختطه لها الناموس الطبيعي في تكوينها، وما أحبت امرأة رجلا إلا وكانت محبتها خيالاً سابقاً لمحبة الطفل الكامنة فيها.

وإذا كانت الفتاة قد لجأت إلى المواخير كما يقول الفريد دي ميسيه لتأكل بثدييها، وتلتقي هناك بمن منع على نفسه أن يكون قيماً عليها فأصبح مستثمراً لشقائها، فأنها لم تلبث أن تعودت إذلاله لها في عرضها فلجأت إلى العمل لتأكل بعرق جبينها احتفاظاً على الأقل بحق اختيارها للرفيق الموقت أو بحق التمرد على أنوثتها الكاسرة من عزتها، وهكذا بعد أن كان الفتى يلقى الفتاة التي تحول عنها المواخير ليذلها، أصبحت هي تلاقيه في ميادين الأعمال لتزاحمه متملصة من إذلاله.

سوف يأتي يوم وهو غير بعيد تنتبه المدنية فيه إلى أن الرجل الكامل الذي ينشده العلماء في الغرب لن يخلق لهم من التمرين لقوى العقل وقوى الجسد ولا من فحص الخلايا بالمجهر حتى ولا من التلقيح بالمواد الكيميائية أو غدد القرود، فيتحققون أن الرجل المتفوق إنما هو أبن الحب الصحيح؛ فالمحبة وحدها هي السبيل إلى إدراك الحق والقوة والجمال.

لندع العالم المتمدن يفتش بعلومه ونهضته على هذا الحب الذي تخيله كارل ماركس متجلياً في الحرية التامة للناس في أهوائهم فجاءت روسيا البلشفية تثبت انخداعه في نظرياته، ليقتنعوا أنهم لن يتوصلوا في تجاربهم إلا إلى العبر الزاجرة المؤلمة.

أما نحن أبناء هذا الشرق العربي الذي انبثق الحق فيه انصباباً من الداخل بالإلهام لا تلمساً من الخارج، فلنا المسك المفتوح منفرجاً أمامنا للاعتلاء والخروج إلى النور بعد هذا الليل الطويل، إذا نحن أخذنا بروح ما أوحاه الحق إلينا.

لا بترقية الزراعة والصناعة، ولا بنشر التعليم والتهذيب، ولا بجعل البلاد جنة في أرضها غنى وتنظيماً، تنشأ الأمة ويخلق الشعب الحر السعيد.

إن الجنين الذي يحمل أسباب شقائه وهو في بطن أمه لا يمكنه أن يصير رجلاً حراً قوياً يفهم حقيقة الحياة ويتمتع بالعظمة الكامنة فيها.

ص: 53

إن الاهتمام بإيجاد الطفل الصالح أولى من العمل لإعداد العلم والتهذيب لطفل نصقل مظاهره صقلاً وتتحطم كل محاولة نصرفها للنفوذ إلى علته المستقرة فيه منذ تكوينه.

ليس الفقير المتسول، ولا العليل المتألم، ولا الشيخ الهرم يتمشى بلا عزاء إلى قبره؛ ليست المرأة المستعبدة بلقمة، ولا الفتاة المخدوعة المنطرحة على أقذار المواخير؛ ليس كل هؤلاء الناس الأشقياء في الحياة بأشقى من الأطفال يجور عليهم الآباء والأمهات قبل أن يقذفوا بهم إلى الوجود ثم يرهقوهم بالقطيعة والإهمال حين يدرجون على الأرض بأقدامهم الناحلة المرتجفة.

الرجل الذي يمسخ حبه شهوة، والمرأة المتقصفة المتهتكة التي تجعل هيكل نسمات الله مركعاً لنفايات البشر من عباد الخيانة والطيش، إنما هما آدم وحواء مطرودين من الجنان إلى أرض الجهود المضيعة والآلام المحتمة. ومن يدري أن حديث معصية الأبوين الأولين ليس رمزاً لخيانة الحب، تلك الخيانة التي تنزل اللعنة بمرتكبيها وبأبنائهم من بعدهم.

إن هذه الحقائق التي استجليناها من قلب الحياة لتملي علينا المبادئ التي يجب أن نأخذ بها لتوجيه المرأة للخير العام.

إننا، ولا ريب، تجاه نهضة نسائية تبشر بارتقاء قريب، ولكن هذه النهضة مقصورة على عدد قليل من السيدات اللواتي لم ينخدعن بمظاهر المدنية الغرارة فأدركن أن المرأة المترجلة الضلول ليست هي من نرجو لإحياء الأسرة وخلق الأمة الحية.

الظلمات كثيفة، والمشاعل قليلة، ولكن هذه المشاعل كفيلة إذا رفعت بإنارة نساء اليوم ونساء الغد وإرشادهن إلى ما ثوى فيهن من فطرة شرقية سامية.

ليس كالمرأة من يصلح المرأة أو يفسدها. فليذهب صوت المرشدات متغلغلاً في كل طبقات الأمة مهيباً بنسائها إلى النهوض. وليست النهضة التي نرجوها للخير العام بين النساء مما يستلزم الوقت الطويل، لأنه إذا كانت نهضة الرجال في أمة تقتضي تحصيل العلوم بأنواعها وفروعها سياسية وإدارية وصناعية وزراعية وفلسفية، وتستلزم لبلوغ هذا الغرض امرار السنين الطوال درساً وتفكيراً، فليس الحال على هذا المنوال في إنهاض المرأة.

نهضة الرجل فكرية عملية، أما نهضة المرأة فإحياء إيمان وإشعال عاطفة. وقد لا تحتاج

ص: 54

نساء بلدة لأكثر من خطب معدودة تلقيها امرأة ملهمة يملي عليها الحق الأعلى ما تقول، فتخلق من كل فتاة زوجة صالحة، ومن كل زوجة أما رؤوما.

إن الشريعة في هذا الشرق العربي إنما هي وحي من السماء لخير المجتمع في مختلف الأحوال والعصور؛ ولشرعة الزواج بخاصة في هذه البلاد ما ليس لأي قانون ابتدعه الناس في سائر المعمور من حكمة ومرونة، فهي عقد فيه للجاهلية المنحطة روادع وقيود، وللمستنيرة الراقية الفاضلة بحال رحب يمتد فيه حقها قدر استحقاقها.

الحق استحقاق وليس هبة؛ وما ظلمت نساء الشرق في أدوار انحطاطه إلا لقصورهن عن نيل هذا الحق.

أما وقد آذنت الساعة بالنهوض، وقيض الله لمصر والشرق العربي من يرى إصلاح المجتمع بتساوي أهمية وإصلاح الهيئات الحاكمة فيه، فقد حق على النابهين رجالاً ونساء أن يؤدوا رسالة الإصلاح لإحياء الأمة واستعادة مجدها.

فلنستثمر إذن نهضة الناهضات في سبيل الخير العام لإقالة الأسر من كبواتها على الأس الآتية:

1 -

إحياء شعور المرأة بقداسة رسالتها، فتحس بأن لها شخصية مستقلة يسودها الانتخاب الطبيعي للرفيق مترفعاً عن كل استهواء للمطامع والشهوات المضللة. إن أشقى الناس من ضعفت شخصيته إلى درجة التردد في اختياره، وأذل فتاة في الحياة من تقف حائرة بين طلابها فتنصب ميزان الترجيح ذاهبة مع الاعتبارات الفانية للتحكم بالحوافز الخفية العالقة بأهداب الخلود.

2 -

تمكين عقيدة المرأة في أن حريتها كامنة في عبوديتها (لاشتياقها) كزوجة وكأم، وإن انعتاقها من هذه العبودية إنما هو كفر بربها وبذاتها.

3 -

تفهّم سيادة الرجل القوام على المرأة على ما قصده الشرع من تأمين الحاجة والرعاية والصيانة، فلا تؤول كما يحلو لبعض الرجال تأويلها بأنها تحكم وإرهاق واستبداد بالشخصية التي خلقها الله فأودعها إرادته. إن من يفهم السيادة تحكماً بالذات لا خدمة لها إنما ينصب نفسه قواماً على فضل الله وقدره.

4 -

إقصاء المرأة عن كل عمل يقصيها عن واجباتها، إذ لا بد لكل مجتمع تترجل نساؤه

ص: 55

أن تتأنث رجاله، وليس برجل من لا غيرة فيه.

5 -

أن تتيقن المرأة أن قسطها أوفر من قسط الرجل في تكوين رجال الأمة، لأنه وإن تساوت وإياه بتكوين جسم الجنين من ذرات متساوية قيمة وعدداً، فإن أثر شخصيتها فيه ليفوق أثر شخصية الرجل، فهي المستودع والمرضع والمربي الأول.

6 -

أن تعلم المرأة ويعلم الرجل قبلها أن إقامة أسرة على أنقاض أسرة إنما هو من قبيل البناء على الرماد، وما يصلح الرماد أساساً يثبت عليه أي بناء.

7 -

أن تثق الفتاة من أن طهارة روحها وعفاف جسمها إنما هما الركن الذي يبني الرجل سعادته عليه، فتحرص على هذا العفاف لأن عثرته حتى في زواج خاطئ عثرة لا تقال؛ وقلما نرى امرأة خرجت ظالمة أو مظلومة من بيت مهدّم وتمكنت من بناء بيت جديد لا تساوره الأشباح ولا تدور في زواياه الخفية الوساوس والشكوك.

8 -

أن ينتبه رجال الشرع إلى ظاهرة خطيرة في أحوال الأسرة المصرية وهي ظاهرة الطلاق بنسبة مروعة تدل على ضعف العقيدة الدينية وعلى انحطاط في الأخلاق، وكلاهما نذير الدمار.

9 -

أن تعمل المصلحات النابهات بخاصة على إيجاد حضارة واحدة تتبعها نساء مختلف العناصر المكوّنة للوطن، إذ لا معنى لهذا الاختلاف في حياة الأسر التي تتفق كتبها السماوية على تنظيم الحياة بالمبادئ الأدبية العليا.

إن لم يقم المجتمع على عادات وتقاليد وأزياء واحدة، فإن إقامة الوطن على مثل هذا المجتمع المختلط لمن أصعب الأمور. وما تجتمع النساء في بلادنا من عديد الطوائف إلا بين طبقة معلومة اقتبست من المدنية الغربية ما يضج منه عقلاؤها، وليس الاتحاد الذي ننشده بين الأسر ما نرى فيه نساءنا الشرقيات من كل طائفة عاريات على الشواطئ أو نصف عاريات في المقاصف والمراقص.

إن وحدة العادات والأخلاق التي نصبو إليها إنما تقوم على الحرية المصونة التي تبيح للمرأة المباهاة بفكرها ومزاياها الشريفة وتصدها عن المباراة بجمالها وعواطفها وهما نور بيتها الذي يجب ألا يوقد إلا بين جدرانه.

على هذه المبادئ تعم النهضة نساء البلاد فتنشأ الحضارة الخاصة الملائمة لهذا الشعب؛ وما

ص: 56

تسعد أمة تقتبس أساليب حياتها مما يتنافر وحوافز دمها وصوت القبور في روحها.

كل إنسان يجبن أمام الحوادث في حياته فيلين لها حوافزه وفطرته إنما هو الشخصية المفقودة التائهة والشبح الباكي والحيّ المستحجر؛ وقد تلمع أحداق مثل هذا الإنسان بالمجد والظفر، ولكن أنوار السعادة تبقى منطفئة في عينيه.

ونحن كأمة لا يمكننا الانفلات من هذا الناموس الثابت. إن فطرتنا مقدورة علينا كامنة فينا؛ وكل أمة تحيا على غير فطرتها فهي أمة باكية بدموع صامتة، هي أمة مستضعفة مستعبدة لا معنى لحياتها ولا سعادة فيها.

نحن بحاجة إلى نهضة روحية أدبية تصلح منابت أطفالنا بعقيدة يحييها النابهون في الشعب تحت جنح إيمانه الشرقي المكين، وليس كالعقائد في شعب ما يكفل كرامته ويضمن اعتلاءه.

بين بعض قبائل الصحراء عقيدة أصبحت فطرة في أفرادها، وهي اعتبار الكذب عاراً دونه أي عار، فإذا ما ارتكب الكذب أحد أفراد القبيلة اضطر رئيس أسرته إلى قلع إطنابه والهرب بنسائه وأطفاله إلى بعيد حيث يواري في النفي الأبدي ما التصق به من عار.

إلى خلق مثل هذه العقائد يجب أن تتوجه جهود الناهضات من النساء فيصبح الرأي العام سياجاً حرابه الزراية والاحتقار، يصد كل امرأة تقصر عن المحافظة على حقها أو تطمح إلى تجاوزه، وتصد كل رجل يقصر في واجباته كقوام على المرأة أو يسيء استعمال هذه الواجبات. وهكذا يساق الرجل إلى معاملة زوجته كما يريد أن تعامل ابنته في زواجها.

إن عقائد الأمم الاجتماعية إنما تحفظها صدور النساء قبل صدور الرجال، وتنبيه مثل هذه العقائد والتقاليد في فطرة بنات الشرق لعمل يسهل على رسولات الحق إذا عضدتهن السلطات الزمنية والروحية في هذا السبيل.

(تم البحث)

فليكس فارس

ص: 57

‌الجاحظ

في مقالة (الفلسفة والإلهيات)

للأديب محمد طه الحاجري

جاء في المقالة التي نشرتها (الرسالة) عن (الفلسفة والإلهيات) مترجمة عن الأستاذ الفرد جيوم، بقلم الأديب الفاضل توفيق الطويل عبارة مروية عن شيخ الكتاب أبي عثمان الجاحظ في صدد الدعوى بأن مرد الفلسفة العربية في مادتها وصورتها وغايتها إلى حضارة البلاد التي غزاها العرب، وأن المعين الذي استقوا منه مذاهبهم هو الفلسفة اليونانية.

والذي يجب التنبيه إليه أولاً هو أن هذه العبارة مروية بالمعنى، بل بأصل المعنى، لا بالنص الذي كتبه الجاحظ، والذي لا ينبغي أن يعدل عنه أو يتسامح في إيراده، إذا كنا نلتزم الأسلوب العلمي (الجامعي) في البحث والاستشهاد، ولا سيما حين يكون النص المروي من ميراثنا الأدبي، ردّ إلينا، وورد في سياق عربي وموضوع عربي، ثم كان بعد ذلك لإمام من أئمة الأدب العربي. أما أن يترجم النص إلى الإنجليزية، مع ما تستلزمه طبيعة الترجمة من إضعاف المعنى وإخفاء بعض خصائصه، ثم ترجمة هذه الترجمة إلى اللغة العربية، فصنيع غريب من شأنه أن يهلهل المعنى وينهكه، حتى لا يبقى منه في العبارة المنقولة إلا ظل خفيف ناصل. ولقد عرض الجاحظ نفسه لهذا المعنى في كتابه (الحيوان) في سياق كلامه عن الترجمة وخصائصها.

ولكن وزر هذه المخالفة للأسلوب العلمي لا يرجع، فيما نحسب، إلى المترجم الفاضل بقدر ما يرجع إلى ضعف الروح الأدبية العربية التي تركت الجاحظ - وهو شيخ الكتاب وأمير البيان العربي بلا منازع - مغمور القدر مجهول المكان، وتركت ما أبقت عليه أحداث الزمن من ذخائر كتبه - وهي طرف فنية لا تكاد تظفر المكتبة العربية بما يناظرها - وكأنما هي كتب ألغاز وطلسمات من كثرة ما منيت به في نشرها من تحريف وتصحيف وخرم وتشويه وسوء طبع وفساد كبير.

أما أصل هذه العبارة المترجمة فهو - فيما نرى - ما يلي: (مأخوذاً من كتاب الحيوان، الجزء الأول، صفحة 42، 43 في أثناء الفصل القيم المستفيض الذي كتبه الجاحظ في

ص: 58

فضل الكتب والترغيب في اصطناعها).

(ولولا ما أودعت لنا الأوائل في كتبها، وخلّدت من عجيب حكمتها، ودونت من أنواع سيَرها؛ حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لما حسن حظنا من الحكمة، ولضعف سببنا إلى المعرفة).

أما الاستشهاد بهذه العبارة التي سيقت في فضل الكتب على تلك الدعوى العريضة التي يلج الكاتب فيها، والتي يزجيها الهوى وتصوغها العصبية، فاستشهاد ضعيف متهافت كما ترى، فليس فيها إلا ما بقوله كل ناظر في تاريخ العلم من أنه حلقات متصلة مترادفة، يكمل لاحقها سابقها، وينبني آخرها على أولها إنبناء الحاضر على الماضي، في جميع مجالات الحياة وفروع المعرفة، وإن كتب الأوائل هي التي أوجدت هذه الصلة، ومهدت للفكر العربي سبيله.

على أن هذا الاستشهاد غريب من ناحية شخصية الجاحظ، فإنه من المثل القوية التي تبين إلى حد كبير بروز الشخصية العربية في عالم المعرفة، واصطباغها صبغة مستقلة. ويلاحظ قارئ كتابه الحيوان أنه كثيراً ما ينقل عن صاحب المنطق بصيغة التمريض:(وزعم صاحب المنطق) ويعقب عليه أحياناً بعبارات يتبين فيها اعتداده بنفسه، إذ يقول مثلاً:(وقد سمعنا ما قال صاحب المنطق من قبل، وما يليق بمثله أن يخلّد على نفسه في الكتب شهادات لا يحققها الامتحان، ولا يعرف صدقها أشباهه من العلماء).

أمثل صاحب هذا الأسلوب الشامخ بنفسه يزج في معرض الاستشهاد على أن الفلسفة العربية ليست إلا صورة من الفلسفة اليونانية، مشوبة ببعض الفلسفات الفارسية والهندية؟!

وبعد، فنرجو ألا يحسب أحد أننا نغض بهذه الكلمة العاجلة، وبهذا التعقيب على صورة من صور الاستدلال من القيمة العلمية لكتاب (تراث الإسلام) الذي نرجو أن نرى فيه صورة من صور البحث الدقيق إن شاء الله.

محمد طه الحاجري

ص: 59

‌ترجمة وتلخيص

خطاب أندريه جيد في تأبين مكسيم جوركي

للسيد ماجد شيخ الأرض

ألقى كاتب فرنسا العظيم خطابه التأبيني في ساحة موسكو الحمراء حيث شيع جثمان كاتب روسيا العالمي مكسيم جوركي إلى مقره الأخير قال:

ليست المصيبة بموت الكاتب الكبير مكسيم جوركي بمصيبة الاتحاد السوفييتي وحده، إنما رزء العالم كله، مادت لهوله الأرض من أقصاها لأقصاها. ولقد كان يسمع هذا الصوت الجبار الناطق بلسان الشعب الروسي العظيم في كل قطر، وينفذ صداه إلى كل قلب. ولست أعبر في هذا الموقف عن شعوري وحدي، فهو شعور الآداب الفرنسية، بل هو شعور الأدب في أوربا، بل هو شعور الثقافة في العالم كله.

بقيت الثقافة زمناً طويلاً وقفاً على الطبقات الرفيعة، فلا يرد منهلها إلا فئة من الناس توفرت لهم أسباب الفراغ، وما أخالكم تجهلون كيف تتوفر أسباب هذا الفراغ الذي تكدح من أجله الأغلبية الساحقة من البشر، لتدع وقتاً تتلهى فيه تلك الطبقة الرفيعة القليلة بالثقافة والفنون الجميلة. وما أظنكم تجهلون أيضاً أن ورود منهل الثقافة ليس بمستطاع لكل من آنس في نفسه ميلا أو ذكاء أو مقدرة. لقد ظهر في ميدان الثقافة رجال كبار من عامة الشعب أمثال موليير وديدرو وروسو، لكنهم كتبوا لغير طبقتهم وما قرأهم إلا الذين توفر لهم الفراغ.

تشاءم الناس لثورة أكتوبر العظمى التي حررت الأغلبية الساحقة من النير المستحكم على رقابها، فقالوا وكرروا القول بأن الثقافة أساس مدنية الإنسان مهددة بالتأخر والانقراض، لكن الأمور برهنت على عكس ما توهموه، فأن النظام الجديد رحب بالثقافة وعمل على ازدهارها.

ودلت التجارب على أن الخطر آتٍ من نظام الرجعة الذي ارتأته الطبقة السائدة. وقد اجتمع الكتاب لحفظ الثقافة في مؤتمر وجدوا فيه أن الخطر عليها كان في العناصر الفاشستية التي تبغي الهيمنة على الفكر وجعله أداة تسخره في سبيل أغراضها، وفي العناصر الوطنية المتطرفة البعيدة عن محبة الوطن الصحيحة، وأخيراً وجدوه في الحرب التي تسعى إليها

ص: 60

تلك العناصر القائمة على البغضاء وحب الذات.

لقد كان عليّ أن أرأس مؤتمر الكتاب المنوي عقده في لندن، لكن النبأ باشتداد مرض جوركي اضطرني أن أشخص مسرعاً إلى موسكو. ففي هذه الساحة الحمراء التي شهدت أحداثا كثيرة سجل بها التاريخ صحائف بعضها في الشرف والمجد، وبعضها في الخزي والعار، وإلى جانب ضريح لينين العظيم الذي تصوب إليه أعين لا يحصى لها عد، أعلن بالنيابة عن الكتاب المجتمعين في لندن وبالأصالة عن نفسي أن حفظ الثقافة وتقدمها معلق بأهداب الرجال القائمين بالحركات الثورية التقدمية، ومصيرها منوط بمصير الاتحاد السوفيتي الذي نحميه نحن الثوريين بكل ما أوتينا من قوة.

إن فوق كل مصلحة لأي شعب على هذه البسيطة مصلحة تجمع بين الطبقات العاملة المشتغلة الموزعة بين هذه الشعوب، وإن فوق كل أدب ناطق بلسان من الألسن، أدبا إنسانياً يعمل على نشر ما في كل أدب خاص من الفضائل؛ وقد وصفها ستالين بقوله:(وطنية في الشكل، اشتراكية في الأصل).

لقد قلت مراراً بأن الكاتب بقدر ما يكون ذاتياً مخلصاً لذاتيته، تكون غاياته سامية وعامة. وليس من كاتب روسي شديد الميل لروسيته مثل مكسيم جوركي، لذلك فأنا لا نجد كاتباً روسياً ذاع صيته وكثر قراؤه مثل مكسيم جوركي.

شاهدت أمس الجماهير الغفيرة التي جاءت تلقي التحية الأخيرة على جثمان جوركي المسجى على فراش الموت، واسمحوا لي إذا صارحتكم، بأني ظللت أسرح النظر في هذا الموج المتدفق من الأطفال والنساء والعمال الذين كان جوركي صديقهم وترجمانهم، بنشوة وإعجاب؛ لكن نشوتي لا تلبث أن تنقلب إلى ألم يحز في قلبي كلما تذكرت بأن كل هؤلاء في غير الاتحاد السوفيتي، من الذين لا يسمح لهم بالدخول إلى مثل هذه القاعة، وهم من الطبقة التي كتب لها الشقاء، وحرمت عليها لذة العلم والتثقيف، كأنما ألصق على باب حديقة العلوم (ممنوع الدخول، هنا حديقة خاصة) ولكن إعجابي لا يلبث أيضاً أن يصبح كمداً يقطع في أحشائي كلما شعرت بأن ما يبدو لهم طبيعياً ما زال عندي شيئاً خارقاً يدهش له حسي وبصري، فلا أتمالك كلما ذكرت أو شعرت بذلك عن إرسال عبرة.

ماجد شيخ الأرض

ص: 61

‌فلسطين

بقلم أبو سلمى

هذي الدماء من وراء الأبدِ

تصيح: أين العالَم المحمدي

لا روحه تلهب آفاق الورى

أو نفسه تغفو على المهنّدِ

تحرر العبيد في أوطانهم

ولا أرى فيه سوى مستعبد

هذي فلسطين استحالت هَرَماً

مقدّساً فقبلوا الترب النّدي

من كل قطر عربيٍّ فتيةٌ

ثائرة ترعى أصول المحتد

هبَّت على الوادي وأجرت دمها

متّحداً، يا للدم المتّحد!

فيه من الخلود أزكى طيبة

وهو يَدُ الثورة بل أسمى يدِ

أخت صلاح الدين عشت حرَّةً

تأبى لك العلياء أن تهوّدي

دعي (عصابة اللصوص) جانباً

واعتمدي على بنيك اعتمدي

كم وعدوا؟! إن الرصاص وحده

هو الذي يُنجز كل موعد

معركة اليرموك هذا نقعها

يروح فوق هامنا ويغتدي

يُطلّ من بين العصور عاطراً

فيه من الماضي عبير السؤدد

كل شعوب الأرض في جهادها

تمشي على آثارنا وتقتدي

أيامنا تطوي دهوراً جمة

النار فيها تنتهي وتبتدي

يا قائد الثورة سعّر نارها

وزجّ - في قاع السعير - المعتدي

وأخضب لياليها دماً واسمع صدى

قول الزمان: يا كواكب شهدي

وأطلع على الأيام وأنشر وهجاً

فيه سني الجهاد والتمرّد

واخلع على الجبال أَبراد العلى

حق لها يوم اللقا أن ترتدي

وقدْ فلسطين إلى تاريخها

وقل لها سودي وإِلاّ استشهدي

أمّ العروبة اضحكي يا أُمَّنا

فكُلُّنا اليوم أبرّ وَلد

يهفو إلى بيض الصفاح باسما

الخود قبل الشيخ قبل الأمرد

تنثر ما فوق الثرى قلوبنا

لينبت استقلالنا بعد غد

فيا قلوب الثائرين أنشدي

على المدى ويا سفوح ردّدي

ص: 63

(فلسطين)

أبو سلمى

ص: 64

‌المجنونة

بقلم عثمان أبو حلمي

في غابة مجهولَةِ السرِّ

مملوءة بالشوك والزهْرِ

أبصرتها في ظلمةٍ تجري

من خلفها ولدانُها تجري

إنسيّةٌ هي أو لسرعتها

جنيِّةٌ فالعين لا تدري!

تبكي وتضحكُ في تقلبها

بمدامعٍ تجري على النحر

وبكاؤها سخرٌ فإِنَّ لها

قلباً يضمُّ صلابَة الصخر

تقسو وتعطف فهي غاضبةٌ

في حين تُبدي باسمَ الثغر

وتكاد تذهل من تلونها

فكأنَّها الحرباءُ في قفر!

سحرتْ بنيها فهي ساحرةٌ

بالطبع لم تعكف على سحر

فتّانةٌ تغري مظاهرها

أمّا الحقيقة فهي كالقبر!

فتنتْ بنيها فهي غانيةٌ

في العين منهم بل وفي الفكر

وهي العجوزُ، هي العجوزُ إذا

ذكرتْ تبوءُ بأشنع الذكر

لكنّها معبودةٌ أبداً

منهم، لعل لذاك من سرِّ!

كم بُلِّغوا عن غدرها قصصاً

وأقلها المملوءُ بالغدر!

وهمو سكارى في محبتها

من غير ما كأس ولا خمر

وهمو حيارى في وجودهمو

ووجودهم كسحابةٍ تجري

أبصرتها في الغالب جاريةً

صخاَّبة مسدولة الشعر

وتكادُ تغضبُ حيث لا تدري

وتكادُ تبسم حيث لا تدري

تغذو بنيها حين تفجعهم

في أنفسٍ صيغت من الشرِِّ

ورأيتها في الغاب تأكلهم

أكلاً ولكن أكل مضطر

ولقد أراها جدّ ساكنة

من بعد طول الضحك والبِشْرِ

ظلَّتْ طويل الدهر عابثةً

بهمو وهم في غمرة الدهرِ

حتى توارى الكلُّ عن نظري

بين النجود وشامخ الصخرِ

مجنونة دنياكمو، وكفى

بيَ ما أبنتُ لها من السِّرِ!

ص: 65

(الإسكندرية)

عثمان حلمي

ص: 66

‌في ربى لبنان

بقلم عبد الوهاب أدهم

قف حيِّ لبنان وانظر حسن لبنانا

إن كنت مثلي كئيب النفس أسوانا

في كل بقعة أرض أيكة برزت

توحي إلى النفس أحلاماً وسلوانا

يعانق الأرْزُ فيها الأرزَ مغتبطا

ويسحب الدّوح أذيالا وأردانا

ترقرق الماء في أنحائها فغدت

خمائلا، وغدا لبنان بستانا

والطير يرقص من لهوٍ ومن طربٍ

فيملأ الأرض أنغاماً وألحانا

تبارك الله! ما أسمى بدائعه

فكيف أضمر بهتاناً وكفرانا؟

لبنان! يا جنّة الدنيا وزينتها

خلَّفت قلبي غداة البين ولهانا

مازلت أذكر (فالوغا) و (عاليةً)

و (بَحْمَدونَ) و (شاغورا) و (حمّانا)

حتى امتطيتُ إلى (الفيحاء) هادية

تطوي بيَ الأرضَ أنجادا ووهدانا

يا أهل لبنان! إنا أمة قبضت

نواصي الأرض أحقاباً وأزمانا

لا تأنفوا أن تقولوا: إننا عرَبٌ

كم أبقت العرب للأقوام إحسانا

والحرّ يفخر بالأنساب فافتخروا

بعبد شمسٍ وقحطان وعدنانا

إن دال سلطانهم فالدهر ذو عجب

يهوي الأبيُّ ويسمو النذلُ أحيانا

أشبالَ (غسان) هبّوا من ضلالتكم

ألهاكُم الغيُّ عن رُشدٍ وألهانا!

(غَسّانُ) باقٍ على الأيام مفخرة

فهل سعيتم لِتُحيوا مجد (غسانا)؟!

(دمشق)

عبد الوهاب أدهم

ص: 67

‌القصص

قصص مختارة من الأدب التركي

النارُ المُوقَدَة. . .

لمحمود يساري بك

أثبتت مرفقيها فوق المنضدة، وأسندت رأسها بكفيها وعيناها السوداوان شاخصتان نحو نقطة مجهولة وهي تفكر، وكان نظرها الحاد يرسل شعاعاً زاد لمعانه سواد المقلتين ولون الكحل والحالك.

وها قد مضت بضع دقائق بدون أن تمس شفتاها هذا القدح البلوري وتذوق هذا الشراب السائغ.

لمَ كانت غارقة في بحر عميق من التفكير؟ وما الذي كانت تفكر فيه؟ وما عسى أن يدور في هذا الرأس المتوج بالشعر الأصفر المقصوص على آخر (مودة)؟ وهل هي كاذبة حتى تفكرها العميق يا ترى؟ وهل يحاول هذا الرأس أن يخدع نفسه أيضاً؟

نظرت إليها نظرة الفاحص المدقق، فوجدتها قد غيرت شكل حاجبيها بالنقوش والتخطيط الأسود فحرمته تلك الصورة الطبيعية التي صورها الخالق فيها. أما الحمرة التي تبدو على وجنتيها فلم تكن ذلكم اللون القرمزي الذي ابتدعته يد القدرة فيها، بل كانت مفعول الأصباغ، وأضاع هذا أيضاً شكله الطبيعي. ونظرت إلى شفتيها فإذا لونهما ليس ذلك اللون القاني الذي أودعته يد القدرة في شفتي حواء!. . ثم استمعت إلى حديثها فإذا صورتها ليس ذلك الصوت الملائكي الذي كانت تناجي به أمها وهي في المهد صبية، بل يكاد يكون خشناً من تأثير الخمر والسهر.

- فيم تفكرين؟

ظلت جالسة في مكانها لا تتحرك ولا تتململ ولم تجب على سؤالي هذا بغير أنة طويلة.

- أوه. . .

ولو كان بين ذرات الهواء بارود لأشعله هذا الشهيق الذي خرج من صدرها كما يشتعل الغاز إذ تمسه نار.

ص: 68

- إنك تتألمين هذه الليلة.

- إني أحب. . .

- أوَ تحبين أنت؟

وكانت لا تزال محافظة على هيئتها. .

- إنك لا تصدق ذلك، أليس كذلك؟

كانت جالسة معي كي أنعم عليها بثمن شرابها، وكنت أعرفها منذ أمدٍ بعيد. . . منذ صباها، ولم تنس أن تفاتحني ساعة أن اقتعدت مقعدها بجانبي بعزمها على الشرب بقولها:

- أريد أن أشرب اليوم.

ولم أرفض رجاءها هذا فأمرت لها بقدح من الشراب لا إكراماً لسواد عينيها ولا حباً بجمالها، بل شفقة عليها ورحمة بها، فلقد كنت أراها كئيبة حزينة هذه الأيام.

- ومن تحبين؟

فرفعت رأسها من بين يديها كمن أفاق من ذهول عميق وأجابت:

- إن من أحبه (نكرة).

وكأن سؤالي هذا قد أثار منها سراً دفيناً وهاج لها ذكرى أليمة حتى راحت تحرق الأرم وتهدد الهواء بقبضتها كمن يتوعد أحداً. . . فتفرست في وجهها ملياً.

فدمدمت بكلمات غامضة. . .

- لِمَ تتفرس في وجهي هكذا كأنك تعرفه؟ أو كأنك تقول لي بأنه (معلوم) لديك! إنه (أحد النكرات)!. فلا تتعب نفسك في معرفته سدى!

قالت ذلك وأنشبت أظافرها الحادة في خديها من فرط تأثرها وابتسمت ابتسامة الحزين طفح كأس اصطباره:

(هو أحد (النكرات) أما إنه لم يكن كذلك؟ فلأن هؤلاء (النكرات) يفهمون أقوالنا ويتكلمون مثلنا ويشعرون كما نشعر. ويرون كما نرى! أما أنتم! فإن تكلمنا معكم اضطررنا إلى أن نزن كلامنا كلمة كلمة وقلوبنا تخفق رعباً، خوفاً من أن تعثر ألسنتنا وتلفظ كلمة سهواً فنصبح أضحوكة في نظركم! وإذا تكلمتم أنتم أصغينا إليكم بكل حواسنا حتى نفهم ما تقولونه. . . وترانا نعمل المستحيل حتى لا نظهر أمامكم بمظهر الجاهل الغر والأحمق

ص: 69

البليد! ولا أقول أنتم معشر (المهذبين) المثقفين - لا تحبوننا نحن معشر النساء، كلا فأنكم تحبوننا ولكنكم تريدون من (المرأة) أن يكون شعورها وعواطفها جميلة، مصبوغة، مزينة، رقيقة كوجهها وشفتيها وأظافرها! ولا تكلفون أنفسكم مشقة فهم المرأة، وإنما تريدون من المرأة أن تفهمكم!

- أو تحبين؟!

وكان صوتها اضطراباً كلما ازدادت حزناً

- (لقد أصبت في سؤالك هذا!

- وكيف أصبتُ في سؤالي؟

- لأنك عنيت به الحقيقة. . أيمكن أن أحبّ أنا، أو نحب نحن؟ حقاً أنحب نحن؟ أو تصدق أنت ذلك؟ لقد سألت نفسي مراراً. . فلقد تمرّ من أدمغتنا أفكار عوجاء وهوجاء، وترينا الأيام حوادث عصيبة رهيبة تدك أعصابنا دكا فتجعلها واهنة القوى ضعيفة التفكير معدومة المقاومة تفقد معها خاصة التفريق بين الشعور الذي نشعر به من صميم القلب، وبين الإحساس الذي نحس به لمجرد اللهو والعبث، وفي أيهما نحن صادقون. . . ومن ثم أنتم!. . . آه منكم!! قالت ذلك وصرت أسنانها وضربت الأرض بقدميها كمن يحاول أن يسحق شيئاً سحقاً، أو يقطعه إرباً إرباً. نحن نخدعكم ما دمتم على وجه البسيطة ونسيء إليكم دواماً. أليس كذلك؟ ولكن ماذا تقولون في الإساءة التي تسيئون إلينا بها أنتم معشر الرجال؟

أكبر الإساءة التي تُرتكب نحونا هي إساءتكم. . نصدُق لكم قولاً وفعلاً فلا تثقون فينا! وإذا ما أحببناكم فلا تصدقوننا! نقسم لكم الأيمان المغلظة فلا تؤمنون بنا!! وتشتبهون حتى في طعامنا وشرابنا! والشبهة مرض يسري أيضاً وينشب أظفاره فينا، ونأخذ نشتبه حتى في أنفسنا فنحب، فتأتي الشبهة على بالنا فتحملنا على الشك في حبنا هذا! وتنغص منا العيش. . وتتسع دائرة الشبهة هذه فلا نثق حتى في أنفسنا!

تحسبون أننا نحب من أجل المال. أو يظهر أننا نحب من أجل المال! وأضرب لك مثلاً. . أنا ذلك المثال. فأنا أيضاً امرأة أحب من أجل المال، أليس كذلك؟

قالت ذلك وتوقفت عن الكلام ومدت يدها إلى القدح الذي كان أمامها فشربته إلى الثمالة.

لم يصدقوا أنني أحب حقاً. . . وهذا الرجل الذي أحبه أيضاً يعطيني كل ما يربحه من

ص: 70

عمله وأرد له عطاءه. فيصرّ هو أيضاً. . . يظن أنني ما أحببته إلا من أجل المال! هو أيضاً. . . هو أيضاً. . .

وكانت أكتافها تهتز من شدة انفعالها.

حيث أننا لا نحب. . وأن قلوبنا قدت من صخر. . أو أنها لا تعرف للصدق معنى وحبنا كاذب. . وأن أساسنا كاذب. . .).

وكانت عيناها تنظران نحو الباب. . وما كادت تلفظ الكلمة الأخيرة من كلامها حتى هبت مذعورة تطلب مني السماح لها بالذهاب.

- أستميحك عذراً، هاهو قد جاء. قالت ذلك ومدت يدها تصافحني وعيناها شاخصتان نحوه، فودعتها وأنا أنظر إلى القادم أتفحصه. . نظرت ملياً فرأيت (الخطاط) الأسود قد كسا حاجبيها لوناً غير اللون الطبيعي، ولعب (المنقاش) فيه فأضاع بلعبه ذلك الشكل الطبيعي الإلهي. . .

وهذا اللون القرمزي الذي يعلو خديها ليس ذلك اللون الذي أودعه الله في الوجنات. . .

ونظرت إلى شفتيها فما رأيت فيهما تلك الحمرة الطبيعية التي تحاكي الدم القاني. . واستمعت إلى صوتها فإذا به قد فقد حلاوته، وليس بذلك الصوت الملائكي الساحر الذي كانت تنادي به أمها وهي في المهد.

وشيء واحد لم يتغير فيها، ذلك هو عيناها!. . .

لقد كانت عيناها تشتعلان بنار الحرص كما اشتعلت عينا حواء حينما نظرت إلى آدم لأول مرة. .

محمود يساري

ص: 71

‌بيت الحظ!!.

.

بقلم عبد المعطي المسيري

كان الشيخ مرسي غانم - أو الشيخ النزهي كما يسمونه في القرية - جالساً مع نفر من القرويين ينصتون بانتباه للعمدة وهو يحدثهم نفس الحديث الذي يقصه كل ليلة منذ انتهى إليه أن سعادة المدير ونجله سيشرفان القرية ليقيم بها الابن بضعة أيام إراحة لأعصابه كما أشار الطبيب. وكان العمدة يتحدث في هذه الليلة بحماس، ويلقي التعليمات والأوامر بوجه متجهم وصوت أجش كعادته في بعض الأحيان، وذلك لأن المأمور أنبأه في الصباح أن سعادة الباشا ستكون زيارته بعد الغد وأنه - أي المأمور - يهمه أن يهتف الأهالي بحياة الباشا وأن يكون بأيديهم سعف النخل وأغصان وأن تستقبله النساء بالزغاريد. . .

وانصرف شيخنا النزهي بعد أن عرف نصيبه في هذا الاحتفال وهو أن يبعث زوجته وابنته زينب لتنظيف غرف المنزل المعد لنجل المدير وأن يكون مع المستقبلين الهاتفين. . .

سار الشيخ صوب النهر إلى أن أتى الشاطئ فخلع نعليه وشمر عن ساعديه وجلس يتوضأ، وبعد أن انتهى من صلاة العشاء أخذ طريقه إلى المنزل وهو يكثر من الحوقلة التي اعتادها عقب كل صلاة، ولكنه كان في هذه المرة يرددها بنغمة الأسف على تأخره هذا وتوقعه ضجر الزوجة والأولاد. . .

دفع الباب واحتوته الغرفة فعاود الحوقلة بصوت عال، وأحزنه أن يرى الطعام على المائدة الخشبية وحوله عائلته، وقد غلب النعاس جميع أفرادها، فبدأ بإيقاظ الزوجة، وهذه أخذت تهز الأولاد من أكتافهم معلنة إليهم في ابتهاج وفرح عودة أبيهم؛ ثم أخذ الجميع يتناولون الطعام حتى أتوا عليه فقامت زينب - الفتاة الكبرى - وأتت بالماء فغسلوا أيديهم ومدت أختها يدها وتناولت أرغول والدها من شباك الحجرة وقدمته إليه، بينما تدحرج أحمد الصغير خارج الغرفة وعاد وهو يدفع أمامه آنية نحاسية وضعها أمام أمه.

تناول الشيخ أرغوله وبعد أن تثاءب وتمطى قربه من فمه، فسرى الصوت في فضاء الحجرة وتبعته نقرات الأم على الآنية النحاسية، وأخذ الأولاد في التصفيق متبعين نفس النغمة حتى حمى الوطيس، وأخذت زينب تغني أغنية ريفية مطلعها:

ص: 72

يَلْحِنَّا، يَلْحِنَّا، يا قَطر الندى

يا شباك حبيبي يا عيني جلاب الهوى

وقامت فاطمة الصغيرة وتأهبت للرقص كعادتها حتى إذا أدركها التعب ارتمت على الأرض ليأخذ أحمد دوره. . . خفت صوت الأرغول وسكنت النقرات والأصوات، وساد في جو الغرفة الهدوء إلى أن عاود أحمد النشاط فنطق بأغنيته المحبوبة يا لليل يا ليل. . . ثم عاد الشيخ لأرغوله مشجعاً ولده وطاب لهم أن يغنوا ثانية أغانيهم البلدية، وعاد المرح وارتفع صوت زينب وتبعها الجميع مرددين مصفقين، وقامت فاطمة للرقص ونافسها أحمد بحركات ساذجة تبعث على الضحك والسرور، وبين آونة وأخرى يتعثر أحمد فيسقط على الأرض وأحياناً تسقط معه فاطمة فتتزايد القهقهة من الجميع إلى أن أدركهم الكلال فنهضت زينب وقادت أمامها اخوتها إلى الغرفة الثانية المعدة لنومهم.

على هذه الوتيرة كانت تعيش عائلة الشيخ مرسي، وعلى هذا الضرب كانوا يقضون لياليهم. أما في النهار فكانوا يعملون في الحقل بكل نشاط وابتهاج، لكل منهم عمله حتى أحمد الصغير كان يتدرب على مراقبة البقرة التي تدور حول الساقية. . .

حياة بسيطة لا تعقيد فيها، كلها سعادة وكلها أمن واطمئنان: الشيخ يرى أن سعادته في ابتسامة زوجته وفي نماء المحصول وصحة أولاده، والأولاد يرونها في هذا الحب المتبادل الذي يربط بين قلوب الجميع، والزوجة تراها في رضاء الزوج ومرح الأولاد.

. . . وفي هذه الليالي الضاحكة حيث يرقصون وينشدون وكثيراً ما التمس سكان القرية السرور والفرح والترويح عن النفس في بيت هذه الفرقة الموسيقية التي لم تعرف الشقاوة الطريق إلى أفرادها حتى أطلق سكان القرية على بيت الشيخ (بيت الحظ).

قبيل الفجر كانت زينب توقظ أمها واخوتها لقضاء ما يلزم للمنزل وتهيئة الماشية وإعداد الفطور استعداداً للذهاب إلى بيت العمدة المعد لسكن (ألبك الصغير) وتم كل شيء وأخذت هي وأمها طريقهما إلى بيت العمدة.

قامتا بما يجب عليهما من غسل أرضية الغرف وتنظيف ما علق بها من الغبار وغير ذلك، وما وافت الظهيرة حتى كل شيء على ما يرام، وحضر العمدة وجاءت على أثره سيارة كبيرة تحمل الأشياء التي يتألف منها الأثاث، وأخذ الرجال في الترتيب وأصدر العمدة أمره إلى الأم وأبنتها بتهيئة الطعام للرجال.

ص: 73

بينما كانت زينب تعمل مع أمها سمعت صوت موسيقى رائعة ينبعث من إحدى الغرف فتركت ما بيدها وانطلقت إلى مصدر الصوت يدفعها حب الاستطلاع: نغمة جديدة تطرق أذنيها لأول مرة، وعلى باب الغرفة وقفت تنصت للصوت المنبعث من جهاز الراديو مأخوذة لا تستطيع ضبط عواطفها ولا امتلاك نفسها.

لم يكن يخطر ببالها قبل الآن أن في العالم غير أرغول أبيها وآنية أمها، ولم تسمع أن هناك أغاني سوى تلك التي تغنيها؛ نعم إنها شاهدت وسمعت فرقة الشيخ راشد التي تزور القرية من حين إلى آخر لتقيم الأفراح لعائلاتها، ولكن زينب كانت تفضل دائماً حفلات منزلها، وأين موسيقى الشيخ راشد من الموسيقى التي تسمعها الآن؟؟ وعقب اسطوانة الموسيقى سمعت زينب صوتاً رائعاً حنوناً:

(اللي حَبِّك يا هناه)

ثم موالاً بلدياً فرأت اختلافاً بيناً بين ما سمعت الآن وبين ما تسمع وتقول كل ليلة فأنكرت موسيقى منزلها، بل أنكرت نفسها وصغرت أمامها الألاعيب التي يقومون بها كل ليلة وأيقنت أن في العالم لذة وسعادة أشهى وأمتع من لذتهم وسعادتهم.

في مساء تلك الليلة كانت زينب تسمع أرغول والدها بملل وضجر كأن أذنيها لم تتعوداه، وودت لو ينتهي الوالد لتذهب إلى حجرتها حيث تتمثل في هدوء ذلك الصوت الشجي الساحر، وانتظر الوالد طويلاً أن يسمع صوتها ولكن دون جدوى، وظن أن لعملها الشاق في بيت العمدة أثراً في ذلك فأذن لها في الذهاب إلى النوم وهو لا يخفي كدره، وأخذ يلعن الباشا والبك والعمدة لأنهم كانوا سبباً في حرمان زينب من قسطها في الغناء والسرور، وحاول أن يشرك معه فاطمة وأحمد في الزمر والرقص ولكنهما آثرا أن يذهبا مع زينب، ومضت تلك الليلة صامتة فاترة على غير المألوف.

وفي الصباح كان البشر يلوح على محيا زينب عندما علمت أن زوجة العمدة أرسلت في طلبها لإعادة نظافة غرف ألبك الصغير).

بعد أن أتمت ما أشارت به زوجة العمدة انسلت حيث غرفة الراديو وجلست القرفصاء بجوار الباب تنصت بنشوة غريبة ولذة قوية، ودهشت إذ رأت فاطمة وأحمد يبلغانها غضب أمها لغيابها وقلقها، ولكنهما لم يلحا عليها في الإياب واطمأنا لصوت الراديو، وقفز

ص: 74

أحمد على كتفيها يحاول رؤية مصدر الصوت من فرجة الباب، وارتسم الذهول على وجه فاطمة واستولى على ثلاثتهم الصمت، ولم ينتبهوا إلا على صوت العمدة وهو يحدث (ألبك) عندما هما بمغادرة الغرفة لتناول الغداء، والتفت العمدة إلى زينب فنهرها وأمرها بأخذ أخويها والرجوع إلى المنزل حتى لا تقلق أمهم.

في هذا المساء لم تنهض فاطمة لمناولة والدها الأرغول، ولم يتأهب أحمد للرقص وارتسم الوجوم على وجوه الجميع، وفقدت تلك الفرقة الساذجة الانسجام والتجانس، فرفع الشيخ يده وتناول الأرغول، ولكن الأولاد نفروا واستنكروا هذا الصوت، وفزعت زينب من نقرات أمها على الآنية النحاسية وملكها الحياء فلم تعد تغني، وكيف تغني بعد أن سمعت (اللي حبِّك يا هناه!).

لم يعرف الرجل حلاً لهذه المشكلة ولم يقو على فهم الدافع الذي ألح على زينب فحال بينها وبين مشاركته في الغناء فتحول عنها إلى أخويها وأومأ إليهما أن يأخذا بنصيبهما، ولكن فاطمة فأفأت لتعبر عن تأففها وتأتأ أحمد ففهم الشيخ السر. . .!! قرأ لغتهما المضطربة ذلك اللغز الذي أفسد حياته وذهب بسعادته.

وحار الشيخ في الأمر. لقد سمع هو أيضاً وسمعت أمهم ولكنهما لم يتأثرا، وأدرك بفطرته أن الصغار على استعداد للتمرد والثورة. . . أدرك الشيخ أنه ناضل نفسه لأنه آمن بأنه المغلوب إذا التمس السبيل إلى حياة الترف فآثر أن يكبح جماح نفسه ويعيش بأحلامه، وأدرك أن صغاره قد بهرهم النور وأن بريقه الساطع قد ألهب في قلوبهم ناراً فثاروا على حياتهم المظلمة. . . فلم يملك إلا التنهد العميق. . . وأراد أن يلعن ذلك اليوم الذي جاء فيه (ألبك) إلى القرية، ولكن الكلام مات على شفتيه. . .

ولأول مرة تراقصت الدموع في عيني الشيخ وعز على الأم أن ترى هذا المشهد الذي لم تدرك سببه، فهزت الأولاد وحاولت أن تدفعهم إلى المرح، ولكن ذلك كان عبثاً، فرمى الشيخ أرغوله وتمدد على فراشه يبكي سعادته الهاربة. . .

ونهضت زينب فغادرت أخويها وهي تقلب بصرها فيما حولها من القذارة وتقارن بين ما ترى وبين الأثاث الثمين والصور الجميلة والموسيقى الرائعة الحنون، وكانت تود لو أن حياتها كلها نهار حتى لا تقع عينها على منزلها هذا الذي صار كل ما فيه يجلب إلى نفسها

ص: 75

الحزن والأسف.

وانتقل الرقص والمرح من بيت الحظ الريفي إلى بيت العمدة حيث المنية يجذب ظلها هؤلاء السذج ويفرض عليهم سلطانه، وبينما كان الأول للوجوم والامتعاض في الليل كان الثاني للفرح والسرور بالنهار.

وانقضت أيام ألبك في القرية ورحل بأثاثه وجهازه وترك وراءه أسرة سلبها سعادتها وأحلامها. . . وبينما كانت سيارته تنهب الأرض في طريقها إلى المدنية كان الشيخ النزهي ينظر إليها والأسى يملك عليه نفسه، حتى إذا غابت عن بصره حطم أرغوله وألقى ببقاياه في النهر. . .

عبد المعطي المسيري

ص: 76

‌البريد الأدبيّ

هـ. ج. ولز. لمناسبة عيده السبعيني

يبلغ الكاتب الإنكليزي الكبير هربرت جورج ولز اليوم، أعني في الحادي والعشرين من سبتمبر، السبعين من عمره، وبهذه المناسبة تستعد دوائر الأدب الإنكليزي لتكريم الكاتب الكبير والاحتفاء بذكراه السبعينية. ففي مساء الثالث عشر من أكتوبر يقيم نادي القلم الإنكليزي مأدبة كبرى يدعو إليها أقطاب الكتاب من جميع أنحاء العالم، ويتولى الكلام عن شخصية ولز ومواهبه الأدبية عدة من أكابر الكتاب مثل جورج برناردشو، وأندريه موروا، وجوليان هكسلي، وأرثر بليس وغيرهم.

ونذكر بهذه المناسبة كلمة عن ولز وعن آثاره؛ فهو اليوم في طليعة كتاب إنكلترا وكتاب العالم، وهو كاتب اجتماعي من النوع الشامل (أنسيكلوبيدي) فله في القصة، وفي التاريخ، وفي النقد، وفي الاجتماع وغيرها. وكان مولده في سبتمبر سنة 1866 في بروملي؛ وكان أبوه رياضياً محترماً؛ وقد وصفه ولز في كتابه (لاعب الكركيت القديم) ولم يتلق ولز أولاً تربية جامعية، ولكنه انصرف منذ حداثته إلى القراءة وتأثر أيما تأثر بكتب أفلاطون وفولتير؛ واشتغل أولاً صانعاً بمعمل أحد الكيميائيين، وعكف على الدراسة في نفس الوقت؛ ورأى فيه ناظر مدرسته نجابته فعينه مدرساً معه فاستمر في هذا المنصب حتى سنة 1884، ثم رحل إلى لندن، والتحق بمدرسة العلوم في كنسنجتون؛ وقد وصف هذه المرحلة من حياته في قصته التي يؤيد فيها قضية المرأة تأييداً قوياً. ودرس ولز البيولوجيا والجيولوجيا والطبيعيات والفلك؛ وفي أواخر ذلك العهد فكر في أن يضع تاريخاً جامعاً للعالم. وحصل ولز أخيراً على إجازة العلوم بتفوق؛ وعاد إلى الاشتغال بالتدريس، مع الاستمرار في الدرس حتى حصل على إجازة جديدة للعلوم من جامعة لندن في سنة 1890. وفي ذلك الحين التقى بكاثرين روبنس التي غدت زوجته فيما بعد. وفي سنة 1893 أصيب ولز بصدع في الأوعية الدموية أرغمه على ترك التدريس والانقطاع إلى التأليف. وكان أول ظفر أدبي حقيقي ناله ولز مقالاته في مجلة (فورتنتيلي) بعنوان ثم كتب بعد ذلك عدة مقالات ورسائل علمية في بعض المجلات الكبرى. ومنذ سنة 1894 يعالج ولز كتابة القصة وقد بدأها بكتابة (جزيرة الدكتور مورو) ثم أتمها بقصة الزيارة

ص: 77

العجيبة وكان الصحفي الكبير ستيد أكبر عون لولز على إظهار مواهبه القصصية؛ وكانت الصبغة العلمية تطبع قصصه الأولى مع خيال فائق متزن؛ ونستطيع أن نذكر من هذه المجموعة ما يأتي: ووغيرها.

وعالج ولز بعد ذلك القصة الاجتماعية، وعرض في قصصه إلى مشكلة الحب والزواج والعلائق الجنسية؛ ومن هذه المجموعة قصصه الآتية:

ولمستر ولز ميول اشتراكية معتدلة تبدو في كتاباته. بيد أنه ليس اشتراكياً بالمعنى السياسي، وكل ما هنالك أنه يرى أن الاشتراكية يجب أن تطبق في حدود اقتصادية معقولة بعيداً عن المؤثرات والعوامل السياسية.

وأشهر كتب ولز تلك التي يعرض فيها تنظيم المجتمع؛ وفي هذه المجموعة يصل ولز ذروة قوته وافتنانه، ونستطيع أن نذكر من هذه المجموعة ما يأتي: وهي قصة؛ ، وهو عرض فلسفي.

وأما في التاريخ فقد كتب ولز بطريقة جديدة موجزة ولكن قوية؛ وأشهر كتبه في التاريخ: (سنة 1920)(سنة 1920) و (سنة 1925).

ويعرض ولز نظرياته الاجتماعية عن طريق الأدب بجميع صنوفه، ويمتاز في ذلك بقوة لا نظير لها اليوم في الأدب الإنكليزي. وإليك طائفة أخرى من كتب ولز التي اشتهرت بتأثيرها الاجتماعي:

وولمستر ولز كتب كثيرة أخرى يضيق المقام عن ذكرها.

جوستاف كان

توفى أخيراً كاتب وشاعر فرنسي كبير هو جوستاف كان زعيم النزعة الرمزية في الشعر؛ ومن الغريب أنه توفى في ختام الحفلات التي نظمت هذا الصيف في باريس احتفاء بهذا الضرب من الأدب. وقد ولد كان في متز سنة 1859 وتلقى تربية جامعية حسنة ودرس اللغات الشرقية واشتغل منذ فتوته بالصحافة. وفي سنة 1887 ظهر ديوانه الأول بعنوان القصور الريفية فكان فتحاً جديداً في عالم الشعر؛ ذلك لأن (كان) نزع فيه نزعة جديدة حرة كانت قدوة لجيل جديد من الشعراء؛ وأتبع كان ديوانه الأول عدة مجموعات شعرية أخرى نذكر منها: (أغاني المحب) ' (والقصائد الأولى) وعالم الأشباح والمطر

ص: 78

والربيع وغيرها.

وكتب كان أيضاً في القصة، وله في ذلك عدة آثار حسنة نذكر منها:(الملك المجنون) و (زهرات الهوى) و (الزانية الحساسة) ' وله مجموعة قصص صغيرة عنوانها: (قصص هولندية)

وقد اشتهر جوستاف كان بمقدرته النقدية؛ وكانت جولاته النقدية الأولى في الشعر والأدب في مجلاته التي أنشأها تباعاً مثل وكانت آراؤه النقدية نماذج حسنة للنقد القوى المتزن.

ولجوستاف كان أثر ظاهر في تطور الشعر الفرنسي في العصر الأخير.

العلاقة بين الطلاق والجنون

من أنباء أمريكا الأخيرة أن إحصاءات اجتماعية دقيقة قد عملت في أقسام الأمراض العقلية في ولاية (مساشاست) لتعرف العلاقات الزوجية والأمراض العقلية، وقد دلت هذه الإحصاءات دلالة واضحة على أن للزواج أثراً محسوساً في ضبط الأعصاب وتحسن الميول العقلية. مثلا ذلك أنه وجد أن معظم سكان المصحات العقلية أناس مطلقون بين رجال ونساء، ثم يأتي بعد ذلك في الترتيب العددي الأرامل رجالاً ثم الأرامل نساء، ثم الأعزبون من الجنسين؛ كذلك دلت الإحصاءات على أن نسبة المجانين من المتزوجين هي أقل النسب العددية بالنسبة لجميع الطوائف الأخرى.

وهذه الملاحظات تقوم على دراسة عدد كبير من المصابين بأمراض عقلية يبلغ عددهم زهاء 62 إلفاً في ملاجئ نيويورك ومساشاست، خلال خمسة الأعوام الأخيرة.

حول قصيدة البلبلة

بعثت إليَّ (الرسالة) بهدايا الشعراء والشاعرات والكتاب والأدباء المشكورين الذين ثارت فيهم نخوة الشرق العزيز فناصروني بأغاريدهم العذبة الحلوة التي يضيق عنها نطاق هذه المجلة المحبوبة، والتي سأحتفظ بها إلى الأبد تحية وذكرى. ولست افضل أحداً من أصدقائي حين أراني مضطراً إلى التنويه بشاعرة الزقازيق الحزينة (السيدة م. أبو السعود) التي نرجو لها ـأنا وفتاتيـ توفيقاً من الله العليّ، وبان يهدي لها رجلها الغويّ.

أما أستاذنا العظيم (حسن جلال بك) فله منا اجزل الثناء وسنتخذ من كلمته العالية، بعد

ص: 79

كتاب الله، نبراساً وحكمة.

(د. . .)

أثر إسلامي هام

علمنا أن الجمعية الأسيوية البنجالية بكلكته في الهند اقتنت أخيراً أثراً هاماً من اندر الآثار الإسلامية وهو كتاب (خريدة القصر) لعماد الدين الأصفهاني المتوفى في القرن السابع الهجري. والكتاب في ترجم الشعراء في عصر المصنف في جميع البلاد الإسلامية العربية وهو كبير ولا يوجد كاملاً فيما نعرف في مكاتب العالم. وهذه النسخة أيضاً جزء من الكتاب ويحتوي على تراجم شعراء حلب وغيرها، ولكن الذي يزيد في قيمة هذه النسخة وندرتها أنها مكتوبة بخط المصنف.

مخطوطة نادر في مكتبة الأزهر

في أثناء نقل مكتبة رواق المغاربة إلى مكتبة الأزهر العامة عثروا على مخطوط نادر هو نسخة من كتاب الذخيرة في أصول مذهب الإمام مالك، للإمام القرافي، ولا يوجد من هذا الكتاب إلا جزء واحد في مكتبة الجامع الأحمدي بطنطا وقسم صغير في دار الكتب المصرية.

النشيد القومي - غلطة الكفر

المصيبة الكبرى في هذا النشيد أنه موضوع على مبادئ (أنقره) من نقل ألفاظ الألوهية والشريعة وصرفها عن الله ودين الله إلى الوطن. وهذا إلحاد فظيع إن جاز في غير مصر لم يجز أن يكون في مصر.

يعين الدين الإسلامي معنى الآخرة ومعنى اليقين بالحساب والبعث، فيجيء صاحب هذا النشيد فيقول: غرامك يا مصر. . قصارى شعوري دنيا ودين، وحبك آخرتي واليقين.

إذن فلا آخرة ولا يقين بالآخرة.

وكما يقال: تعالى اله، سبحانه وتعالى، يقول صاحب النشيد: تعاليت يا مصر!!

ويقول الله في كتابه العزيز عن جنة الآخرة: (تلك الجنةُ التي وُعِدَ المتقون)، فينقلها صاحب النشيد إلى مصر ويقول: ألستِ الكنانةَ في أرضِه= (وموعود جنته والنعيم)

ص: 80

إذن فالجنة التي وعد المتقون هي مصر، وإلا فما معنى قوله (وموعود جنته)؟

والطامة الكبرى قوله: وصوتك يا مصر وحي الإله.

فمتى أضيف الوحي إلى الله فقد تعين معناه وخرج من كل المعاني اللغوية التي تفيدها لفظة الوحي كالإشارة والرمز ووسوسة الشيطان، ولا يفهم أي مسلم على وجه الأرض من قولك: وحي الله، أو وحي الإله، أو الوحي الإلهي إلا معنى واحداً. فكأن هذا النشيد موضوع عمداً لإفساد عقيدة المسلمين وتشكيكهم فيها وحملهم على اعتقاد خلافها والنزول بألفاظ الألوهية والشريعة وتجرئ الناس عليها.

ونحن لا نصدق أبداً أن وزارة المعارف تعمل لهذا الغرض بإذاعة هذا النشيد. فإن لم تعلن تبرؤها منه وتأمر بإبطال إذاعته وتنشر ذلك في الصحف كلها، فقد وجب على الأزهر أن يتقدم إلى المعركة ويفهم وزارة المعارف أن الإله الذي يعبده المسلمون ليس هو الإله رع!!

وسنرى ويرى الشباب الإسلامي

س. ط

بكلية الآداب

حول النشيد القومي

راقني ما كتبه الأديب (س ط) عن النشيد القومي وأرى تعقيباً على ذكر الغلطة الثانية (قصارى شعوري دنيا ودين) أن (دين) معطوفة على التمييز المنصوب فمن حقها أن تكون منصوبة منونة (ديناً) فإذا أريد الوقوف عليها انقلب تنوينها ألفاً فتصير (دينا) لا غير. ولا وجه لحذف الألف منها اعتذاراً بضرورة الشعر فليست هذه من ضرورات الشعر المباحة فتكون هذه غلطة مزدوجة.

متولي أحمد كيوان

ديوانان جديدان للدكتور إقبال

علمنا أن الدكتور محمد إقبال الشاعر الفيلسوف الهندي الكبير صنف ديوانين جديدين في الشعر أحدهما باللغة الأردية، وسماه (صور إسرافيل) وهو تحت الطبع، والآخر باللغة

ص: 81

الفارسية وقد صنفه متأثراً من مرضه الأخير ومن الحادثة الفاجعة الشرقية وهي سقوط الحبشة أمام القوة الإيطالية الغاشمة وقد سماه بشطر من البيت وهو (بس جيه بايد كرد أي أقوام شرق) معناه (وماذا يجب أن نعمل أيتها الأمم الشرقية؟) وفي آخر هذا الديوان قصيدة طويلة خاطب فيها روح النبي عليه الصلاة والسلام للشؤون الإسلامية والشرقية الحاضرة وهو أيضاً تحت الطبع. ونحن نهنئ الدكتور على شفائه وإصداره هذين الديوانين، وندعو الله أن يوفقه للكتاب الذي ينوي تصنيفه من زمن بعيد باللغة الإنجليزية وهو (مقدمة لدراسة الإسلام).

السيد أبو النصر الحسيني الهندي

ص: 82