الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 169
- بتاريخ: 28 - 09 - 1936
المُعْجَم السياسي
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وحدثني صاحب سر (م) باشا قال: كنا في سنة 1920 وهي بنت سنة 1919؛ وقد اجتمعت الأمة على مقاطعة لجنة (ملنر) لا تكلِّمها فجعلت السكوت ثورة. وأعلن الشعب أن كلمته في لسان الوفد ينطق الوفد بها نطق النبي بما يوحى إليه، فما يكون لأحد غيره أن يقولها ولا أن يقول أُوحي بها إليّ. وأبى اللورد ملنر أن يصدق أن للمصريين إجماعاً يُعتد به، وأنهم دخلوا في السياسة دخولاً ثابتا فرسخوا فيها، وأنهم أصبحوا مع الإنكليز كالإنجليز الذين يقولون عن أنفسهم في مثلهم السائر: ينبغي أن نكون أحراراً مثل أعمالنا.
وزعم اللورد لنفسه أن هذه الأحزاب المصرية لا يتفق منها اثنان أبداً إلا كان بينهما ثالث يختلفان عليه وهو الطمع في مناصب الحكم، واستخرج من ذلك أن المصري والمصري كشِقَّي المِقراض لا يتحركان في عمل إلا على تمزيق شيء بينهما؛ فإن لم يكن بينهما (الشيء) لم يكن منهما شيء.
وذهب الرجل يتظنى ويحدس على ما يخيل له الظن، وقد حسب أن إنكلترا يحق لها أن تقول في المصريين ما يقول الله في خلقه كما ورد في الأثر: إنما يتقلبون في قبضتي؛ وكما تقول اليوم لأهل فلسطين من العرب: (إن يَشَأ يُذْهبْكم ويَأتِ بخَلْقٍ جديد). . . . وكان اللورد هذا رجلاً ممارساً لمشاكل السياسة، دخالاً فيها، داهية من دهاة القوم، له في قلبه عينان وأذنان غير ما في وجهه كحذاق السياسيين؛ وهو يعرف أن سياسة قومه لا تدخل في شيء إلا دخول الإبرة بخيطها في الثوب، إن خرجت هي تركت الخيط وقد جَمَعَ وشد. . . . فأراد أن يمتحن مذهب المصريين في إجماعهم على الاستقلال، وقدر أنه واجد من الفلاحين عوناً ومادة لمكرِه السياسي، وحسب الوفد صورة جديدة من طبقة (الباشاوات) القديمة، ينزلون من الشعب منزلة اليد التي تمسك القيد من الرِّجْل التي فيها القيد، ويضعون معنى كلمة الحاجة في كلمة السياسة، ويقولون الوطن وهم يريدون الجاه، ويقيمون الشعب كالسُّلم ينتصب قائماً بأيديهم ليحمل أرجلهم الصاعدة عليه.
فجاء اللورد إلى مصر، فوجد الأمة كلها قد حَذِرت منه وتيقظت له، حتى نصحه رشدي باشا بأنه لن يجد في مصر هرَّة تفاوضه؛ ولكنه كان مستيقنا أن أذُن السياسة الإنكليزية
(كالراديو) لصوتين: صوت الدنانير وصوت الجماهير، فمر في البلاد يرسم على الهواء علامات استفهام، وانْصَفَقَ عنه الناس وأهملوه، وكان يسير في دائرة الصمت التي مركزها أبو الهول، فبدأ وظل يبدأ حتى انتهى وما زال يبدأ. . . وساح في البلاد سياحة طويلة وكأنه لم يسافر إلا من شفَة (أبو الهول) السُّفلى إلى شفته العُليا.
قال صاحب السر: وجاء اللورد لمقابلة الباشا، فمرَّ عليَّ مرور كتابٍ مقفل لا أعرف منه إلا العنوان؛ غير أنه رجل بمقدار الرجل الذي يخالف أمة كاملة تكاد تحسبه مطوياً على زوبعة، وترى له قوتين تحسُّ من أثرهما الرهبة والإعجاب، وإذا تأملته قلت إن اللطف والظرف أضعف شمائله، وإن الدهاء والحيلة أقوى مواهبه.
فلما لقيت الباشا من الغد سألني كيف رأيت اللورد ملنر؟ فقلت: والله يا باشا إنه كالضرورة ما يتمناها أحد ولكنها تجيء.
فضحك الباشا وقال: يا ليت لنا نحن الشرقيين ضرورة تصنع ما صنع اللورد؛ إنه كشف لنا في ذات أنفسنا عن حقيقة من أسمى الحقائق السياسية، وهي أن الشعب الذي يصر ولا يزال يصر، يجعل الإغراء لا يغري والخوف لا يخيف.
ويا ليت الأمم الشرقية تتعلم هذا الصمت السياسي عن مجاوبة الكلمة الاستعمارية أحياناً، فإن صمتَ الأمة المصرية عن جواب (ملنر) كان معناه أن قدرة الأمة هي المتكلمة كلامها بهذا الصمت، تعلن للعالم أن الواجب الشعبي قد وضع قفله على كل فم.
ولقد فسر اللورد هذا السكوت بتفسيره السياسي فأدرك منه أن في الشعب أنفة وحمية وقوة، وأن حساب الضمير الوطني أصبح لهذه الأفئدة كالحساب الإلهي للنفوس المؤمنة، كلاهما مستعلِنٌ يُخافُ ويُتقى، وكلاهما له كلمة محرمة.
أية معجزة هذه التي جعلت كلمة الأجنبي تتخذ في أذهان أمة كاملة شكل قائلها، فاجتمعت لها الجلود على معنى الرفض، وأصبح كلُّ فرد يعرف محله من الكل، وخضعت الطبائع بجملتها لقانون العزة القومية الذي يلزمها ألا تخضع للأجنبي؟
إن الأمم بعض مسائل نفسية كهذه المسألة؛ فلو أن لنا خمسة دروس سياسية مختلفة كدرس (ملنر) لكانت لنا في الإيمان الوطني كالصلوات الخمس.
والآن تعلمت الأمة أن الشعب العزيز هو الذي ينظر في فض مشاكله إلى الحل وإلى
طريقة الحل أيضاً، وقد كان (ملنر) هو أول أساتذتنا في تعليمنا الطريقة.
وهذا الدرس يجب أن يكون درساً للشرق كله، فإن السياسة الاستعمارية قائمة فيه على خداع الطريقة في حل مشاكله، فيحلونها ويعقدونها في نص واحد؛ ويثبت الكلام الذي يتفقون عليه أن المراد منه زوال الخلاف، ويثبت العمل بعد ذلك أن المراد كان زوال المقاومة.
وفي السياسة الأوربية موافقات دميمة كالنساء المشوهات، فإذا عرضوا واحدة منها على من يريدون أن يزوّجوه. . . . فأباها وفتح لها عينيه بكل ما فيهما من قوة الأبصار، أعفوه منها وقالوا له سنأتيك بالجميلة. ثم يذهبون بها إلى معهد التجميل اللغوي فيصقلونها ويصبغونها ويضعون لها أحمر السياسة وأبيضها ثم يعرضونها جديدة على صاحبهم ذاك، وما صنعوا ما به صارت الدميمة غير دميمة، ولكن ما به رجع غيرُ الأعمى كالأعمى ولهم عقول عجيبة في اختراع الألفاظ حتى لتكون شدة الوضوح في عبارة هي بعينها الطريقة لإخفاء الغموض في عبارة أخرى. وكثيراً ما يأتون بألفاظ منتفخة تحسب جزلة بادنة قد ملأها معناها وهي في السياسة ألفاظ حبالى تستكمل حملها مدة ثم تلد.
ولهم من بعض الكلمات كما لهم من بعض الرجال السياسيين، فيكون الرجل من دهاتهم رجلاً كالناس وهو عندهم مسمار دقوه في أرض كذا أو مملكة كذا، ويكون اللفظ لفظاً كاللغة وهو مسمار دقوه في وثيقة أو معاهدة.
ثم ضحك الباشا وقال: إن أرضنا تخرج القطن وسياستنا تخرج ألفاظاً كالقطن لا توضع في المغزل إلا مدت وتحولت. وإذا ذهبنا نخالفهم في التأويل والتفسير لم نجد عندنا المعجم السياسي الذي يملي النص. أتدري يا بني ما هو المعجم السياسي؟
أما إنه لو كان كتاباً يتألف من مليون كلمة لذهبت كلها عبثاً وباطلاً وهراء، ولكنه ذلك المعجم الحي، ذلك المعجم الذي يتألف من مليون جندي. . . . . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
وجع القلب
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
وجدت بالتجربة أني لا أستطيع أن أحب كما تريد المرأة من الرجل - ولست أعني أني عاجز عن الحب، فما أعرف لي في هذه الدنيا عملاً غير ذلك. فأنا أحب الطعام الجيد والشراب اللذيذ والنوم الهنيء والراحة التامة؛ وأحب الكتب والصديق الموافق الذي لا ينغص الحياة على صاحبه بطول المخالفة وكثرة المكابرة ودوام الشذوذ؛ وأحب أشياء كثيرة لا أستطيع أن أحصيها. ولكني أحب نفسي وهذا هو البلاء الأكبر. وليس هو ببلاء، إذا أردت الحق، ولكن المرأة تراه كذلك. وعندها أنك تبيع نفسك حين تحبها. ولا بأس بأن يبيع المرء نفسه أحياناً، ولكن بيعها لا يستلزم أن تترك حبها وتكف عنه. وهل يعقل أن تفيض حبك على الناس والأشياء ولا تختص نفسك ببعض هذا (الفيضان؟) غير أن غير المعقول عندك هو المعقول عندها والذي لا يجوز خلافه ولا صبر لها على سواه، فهي من أجل ذلك تسود عيشك وتريك النجوم في الظهر الأحمر. على أن الرجل يستطيع أن يخفي حبه لنفسه أو يموهه ويستره بما يحجبه، ولا أظن أن في هذا عسراً فأنه يفعل هذا كل ساعة ولا يزال يعزو أعماله إلى بواعث أخرى يظنها أشرف وأسمى من حب النفس، فهو مثلاً يأكل لا لأنه يشتهي الطعام بل لأن من واجبه أن يحرص على أن يظل قوياً قادراً على خدمة النوع الإنساني، وعلى نفس هذا فقس! غير أن هناك ما لا سبيل إلى ستره وكتمانه وتمويهه، إذ من الواضح مثلاً أن من العبث أن تنظر إلى اليمين وأن تروح تزعم أنك إنما كنت تنظر إلى الشمال، فإن اتجاه العين لا يخفى ولفتة الوجه لا مغالطة فيها. فإذا كانت النظرة إلى امرأة وأنت مع أخرى فالويل لك ولستُ مسئولاً عنك. . . . قالت لي مرة إحداهن وأنا معها وقد رأت عيني تدور:(بص هنا) وجذبتني من ذراعي، فقلت وأنا مستغرب:(ولماذا لا أبص هناك؟) قالت: (كده) بهذا الإيجاز الذي لا يفيد شيئاً؛ فقلت: (كده يعني ماذا؟ قالت: (كده) ولم تزد. فضاق صدري فقد عجزت أن أفهم سر هذا الأمر المتعب أو حكمته وقلت: (يا ستي. . إن الله خلق عيني متحركة غير ثابتة فكيف ألزمها الثبات؟ ثم هبيني استطعت ذلك فلماذا أتكلفه؟).
فقالت: (عيب!).
فصحت (عيب؟؟ يا خبر اسود!!).
فقالت: (لا يليق أن تنظر إلى الفتيات في الطريق).
ففهمت ولكني لم أقتنع وقلت: (إن لي على هذا رداً طويلاً فهل تسمحين بأن تسمعيه؟).
قالت بتهكم: (نعم يا سيدي. . .).
فتجاوزت عن لهجة السخرية إذ حسبي موضوع واحد للخلاف وقلت: (أولاً - لماذا تظهر الفتيات لنا معاشر الرجال في الطريق إذا كن لا يردن أن ينظر إليهن أحد؟ ثانياً - وهذا أهم - لماذا يظهرن في حفل من الزينة إذا كان لا يرضيهن أن يدير الرجال فيهن عيونهم؟ ثالثا - وهذا هو الأهم - بأي وجه ألقى الله يوم القيامة إذا كنت أغمض عيني وأتكلف العمى ولا أنظر إلى مخلوقاته التي أبدعها؟؟ وقد خلق لي عينين فلا عذر لي، ورزقني غير ذلك وسائل القدرة على إدراك معاني الجمال في خلقه سبحانه. . أليس من الواضح أن مما يخجلني يوم القيامة أنه تعالى خلقني بصيراً فآثرت العمى، ومحساً مدركاً ففضلت الجهل والبلادة؟؟ وأخيراً - لا آخراً - ما الضرر على كل حال من النظر إلى الناس؟؟ ماذا خسرت الفتاة التي نظرت إليها؟. . هل أنا أكلتها بعيني؟؟ هل نقصت شيئاً؟؟ إني أراها على العكس قد زادت. . . نعم زادت. . . لماذا تنظرين إلي هكذا؟؟ هل نطقت كفراً؟؟ أقول لك زادت لأنها استفادت إحساساً جديداً مؤيداً لإحساسها بجمالها، ولو كنت لم أنظر إليها لكانت خليقة أن يساورها الشك فيما تحس من نفسها أو تعتقد، فأنا قد أفدتها راحة البال واطمئنان الخاطر، وإني لجدير بالشكر على هذا لا اللوم).
فصاحت بي بعد طول الصمت: (طيب اسكت بقى).
فقلت وأنا ضجر: (هكذا أنتن يا نساء!! إذا أعوزتكن الحجة قلتن: طيب أسكت بقى. . ولكني لا أنوي أن أسكت (بقى) فقد مرن لساني على الدوران وأنا أحس اليوم أني أوشك أن أقول كلاماً بديعاً).
فصاحت بي: (أنا معك فكيف تنظر إلى غيري؟).
فقلت: - وقد فهمت - (آه. . . . هذه هي المسألة. . . قولي هذا من الصبح يا ستي. . . نعم أنت معي. . . وإنك لحسبي من عالم الجمال والفتنة، ولو وسعني غير هذا لما كنت حسبي. . . ولكني قانع غير متذمر. . . غير أنك مع الأسف لست كل النساء. . وأنت
تغنين عن جنسك أحياناً ولكنك لا تستطيعين أن تغني عن هذا الجنس في كل حين؛ وليس ذنبي أنك قاصرة).
فقاطعتني صائحة: (قاصرة؟؟ أشكرك).
قلت: (نعم قاصرة عن اختزال جنسك كله في شخصك الواحد).
فأبت أن تسمع مني بعد ذلك فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله. . الأمر لله. . . سكتنا يا ستي. . فلعلك تكونين مسرورة).
ولكنها لم تكن مسرورة ولم تغفرها لي قط. . . وأنا أقول تغفرها بغير تعيين أو تبيين لأني والله لا أدري إلى هذه الساعة أي شيء أغضبها وأثار نقمتها علي.
وحدث مرة أخرى أن كلفتني أن أشتري لها فاكهة وكنت أعرفها تحب الجوافة حباً جماً فانتقيت حبات طيبة الرائحة ذكية العبق واشتريت لها فاكهة أخرى، ولكن الجوافة كانت هي المهمة والتي عليها الكلام؛ وذهبت بحملي إليها، ودخلت به حجرة الانتظار، وقلت لخادمتها:(قولي لسيدتك صباح الخير يا نور العين. لقد حضر سيدك، ونور عينك اليمنى - واليسرى أيضاً في الحقيقة - ومعه حمل بعير من الجوافة بل من أبدع أنواعها).
فذهبت الخادمة وأبلغتها الرسالة فأطلت تلك من باب غرفتها - بوجهها فقط - وصاحت وهي فرحة - صحيح؟؟ جوافة؟؟ حلوة؟؟).
ففتحت الكيس وأخرجت واحدة ورفعتها لها بين أصابعي وأدرتها أمام عينها فابتسمت ابتسامة السرور وقالت: (حالاً. حالاً. . . دقيقة واحدة) ودخلت.
وبقيت أنا أتمشى في الحجرة، ولم يكن فيها ما يسلي المرء، ولم يكن معي كتاب أقرأه وأزجي به الفراغ فجعلت أقوم وأقعد، وأنظر تارة في المرآة، وأمسح الطربوش تارة أخرى، وأنفض عنه ما علق به من التراب. . ومسحت الحذاء أيضاً. . مسحته مرتين حتى صار جلده كالمرآة، وحتى حدثتني نفسي أن أخلعه أنظر إلى وجهي فيه، ولكني خفت أن تدخل علي وأنا أفعل ذلك. . وتأملت الحرير الذي كسيت به الكراسي، ورفعت طرف السجادة وجسستها وفركت وبرها بأصابعي، ثم لم أجد شيئاً آخر أصنعه في هذه الغرفة، فانحططت على كرسي كبير وثير واضطجعت وفي مأمولي إذا نمت ألا توقظني حين تدخل، ولكني لم أنم لأن رائحة الجوافة الذكية كانت قوية، فقد نسيت الكيس الذي هي فيه
مفتوحاً، فتسور إلى أنفي أريجها وملأ صدري وأدار رأسي، فأحسست بالجوع ولكني ضبطت نفسي وشددت على اللجام وقلت:(اللهم أخزك يا شيطان!) غير أن الشيطان شديد الغواية قوي الفتنة فجعل يقول لي: (وما حبة واحدة تأكلها فتنيم بها هذه الثعالب التي تمزق أحشاءك؟) فقلت: (والله لقد صدق اللعين. . فلآكل حبة واحدة من الجوافة اللذيذة. . ثم إن هذا عدل. . أفأحملها وأحرمها؟؟ وأكون كالعير التي يقولون إنها يقتلها الظمأ وهي تحمل الماء على ظهورها في القرب؟ أو كالحمار الذي يحمل أسفاراً؟؟.).
ومددت يدي إلى الكيس وأنا يقظان كنائم، وتناولت منه من غير أن أنظر إليه: وطابت الجوافة في فمي، فأقبلت عليها آكل وآكل - ولكن بغير احتفال والله - وإذا بصاحبتنا تدخل مؤهلة مرحبة باسطة يديها للسلام، ثم إذا بها تقف في وسط الغرفة الفسيحة وعينها مفتوحة جداً عليّ، فلم أستغرب، فقد كان فمي محشواً وأسناني تعمل دائبة كالليل والنهار. وتنبهت إلى واجني حين رأيتها تحملق على هذا النحو، فبلعت ما بقي في فمي بسرعة، ومططت عنقي ليسهل الانزلاق - أعني البلع - وانحنيت على الكيس لأتناوله وأقدمه إليها وأسرها به - أعني بالجوافة التي فيه - وإذا به ينطبق بين يدي لأنه فارغ!!
الحق أقول إني بهت، فما كان يخطر لي في بال أن آكل كل هذه الجوافة. ولو أن إنساناً راهنني أن أفعل لفزعت وأشفقت على نفسي، ولكن هذا الذي لم أكن أحسب أن لي قدرة عليه وقع اتفاقاً. . وقد سرني هذا في الحقيقة لأنه كان من بواعث الاطمئنان لي على صحتي، وكان جديراً بها أن تهنئني وتقرح لي، فإن الجوافة كثيرة وهي في السوق أكوام عظيمة، والجيد الطيب ليس بالقليل، وثمنه تافه لا يستحق الذكر. . . ولكنها وجمت يا أخي لا أدري لماذا؟ ووقفت جامدة لا تتحرك كأنما سمرت إلى الأرض، فأزعجني ذلك وخفت أن يكون قد أصابها شيء لا قدر الله، وأقبلت عليها أسألها عما جرى لها؛ فلما أفاقت أشارت بيدها - دون أن تتكلم - أن اذهب. . اذهب ولا ترني وجهك! فاستغربت أن تلقاني بهذه الجفوة بعد ذاك الترحيب والتأهيل والبشر الذي كان يفيض به وجهها وهي مطلة به من بين مصراعي الباب، وتمنيت لو أنها تبقى أبداً ووجهها بين المصراعين ليبقى لي بشرها وحلاوة ابتسامتها!!
الحق أني لا أفهم النساء. . . . وهل تستطيع أنت أن تفهم كيف يفسد الحال وتقع النبوة
بين رجل وامرأة من أجل أقة من الجوافة ثمنها قرش ونصف قرش؟ إن كنت تفهم هذا فإني أحسدك وأدعو لك بالتوفيق إن شاء الله.
إبراهيم عبد القادر المازني
صور سياحية
1 -
فرنسا وباريس
بقلم سائح متجول
تأثرت مصر بالثقافة الفرنسية طوال القرن الماضي؛ ولم يكن ذلك لأن مصر أمة من أمم البحر الأبيض تميل بخواصها وموقعها إلى الأخذ بالثقافة اللاتينية، ولكن لأن ظروفاً خاصة اجتمعت منذ الغزوة البونابارتية لتحمل مصر فيما بعد على الاستعانة بالفرنسيين في مشروعات الإصلاح والتجديد وإرسال بعوثها العلمية الأولى إلى فرنسا. هذا هو الأصل في تأثر مصر بالثقافة الفرنسية، وهو عارض تاريخي محض، لا دخل فيه للعوامل الجغرافية أو الميول والخواص الجنسية؛ ومن ثم فأنا نرى أثر الثقافة الفرنسية في مصر يضمحل اليوم، لأن مصر تختار اليوم لنفسها من مختلف الثقافات، لتبني ثقافتها القومية، ولا تقف عند ثقافة دون أخرى.
ومع ذلك فما تزال الثقافة والآداب الفرنسية تحظى منا بأكبر عناية؛ وما تزال فرنسا تجذب منا أكبر عدد من الزائرين؛ وما يزال اسم باريس يثير في نفوسنا سحراً لا يقاوم؛ بل إن كثيراً من أولئك الذين لم يروا باريس يعرفونها معرفة عقلية وروحية شاملة: يعرفونها من الكتب والصحف والسينما، وتربطهم بها روابط فكرية قوية؛ وما تزال أول أمنية للسائح المبتدئ أن يرى باريس.
وقد حظيت باريس من العربية بكتب ورسائل عديدة، وحظيت في العهد الأخير بكتابين لاثنين من كتابنا المعروفين، وصفت فيهما معاهدها ومغانيها وجوانب كثيرة من حياتها الاجتماعية، وانك لتقرأ في الكتابين فصولاً وشذوراً تفيض إعجاباً بفرنسا وباريس وكل ما هو فرنسي، بل إنك لتشعر من خلال تلك الفصول الحارة المنمقة أن فرنسا هي أمة الأمم، وأن باريس هي مدينة المدن وإلهة الجمال والعلوم والفنون؛ وما زالت هذه الألوان الوردية المغرقة تطبع كل ما نكتب عن فرنسا وباريس.
على أنه يلوح لنا أن هذه الفتنة التي قد تجد مبرراتها في بعض المؤثرات والظروف الخاصة، والتي تثيرها في معظم الأحيان أهواء وميول خاصة، ويذكيها الجهل بأحوال الأمم والعواصم الأخرى، وانعدام روح المقارنة الذي تتضاءل أمامه الصور والألوان
الخلابة؛ يلوح لنا أنها فتنة مبالغ فيها، وأن شيئاً من الملاحظة البريئة، وقليلاً من الاتزان في الوصف والرواية، وطرح المؤثرات والاعتبارات الخاصة مما يعاون على عرض صور أصدق وأدق من تلك الصور الوردية التي عرفناها وألفناها.
ومهما يكن في هذه الصور القديمة من صدق؛ ومهما يكن لهذه الفتنة القديمة من مبررات، فأنا نقول لأولئك الذين يرون العالم كله في فرنسا وفي باريس: إن الأمور قد تغيرت أعظم تغير في فرنسا وفي باريس.
وكاتب هذه السطور سائح متجول يرى ويلاحظ، ولكنه لا يدعي الوصول إلى المجهول والخارق، وإنما يلاحظ ويقدر ما تهدي إليه المشاهدة والتجارب بعيداً عن كل اعتبار وهوى.
لم تقدم فرنسا أية تسهيلات للسياحة سواء في مسألة النقد أو السكك الحديدية أو الفنادق أو غيرها كما فعلت ألمانيا وإيطاليا، وما زالت تعتمد على جاذبيتها القديمة؛ غير أن فرنسا تخدع اليوم في قيمة هذه الجاذبية؛ وقد انحط موسم السياحة في فرنسا انحطاطاً عظيماً، ولم تعد باريس كما كانت في الماضي تعج بعشرات الألوف من الأجانب ولا سيما الأمريكيين والإنكليز؛ وأهم عامل في هذا التحول هو ارتفاع قيمة الفرنك الفرنسي بالنسبة لنقد البلاد التي خرجت عن معيار الذهب. فالأمريكي أو الإنكليزي أو المصري الذي يزور فرنسا يفقد نحو أربعين في المائة من قيمة نقده؛ أضف إلى ذلك الغلاء الفاحش الذي يغمر كل شيء في فرنسا؛ ففي الفندق والمطعم والمقهى، وفي الملاهي والتنقل وكل ما يتصل بالحياة اليومية، نشعر بوطأة هذا الغلاء المرهق، وتشعر كأن النقد يذوب بين يديك سراعاً.
ولنضرب أمثلة مادية؛ فالغرفة البسيطة في فندق متوسط تكلف في اليوم من 25 إلى 40 فرنكاً (من 33 إلى 52 قرشاً) ووجبة الطعام في مطعم متوسط تكلف من 15 - 25 فرنكاً (20 - 33 قرشاً) هذا عدا الخدمة وهي من 10 إلى 15 في المائة؛ وثمن البيضة الواحدة في المقهى أو حيث تتناول إفطارك فرنكان ونصف (3 ، 5 قروش) وثمن الواحدة من الموز أو التفاح أو الخوخ شراء يتراوح بين فرنك ونصف وثلاثة حسب النوع والحجم؛ وأما في المقهى فما خلا القهوة والنبيذ والكونياك والبيرة، فإن أثمان المشروبات الأجنبية تبلغ حدوداً تزهدك دائماً في طلبها؛ والسجائر الفرنسية رخيصة ولكنها سخيفة لا يقبلها
الذوق، والسجائر الأجنبية تكلف ضعف ثمنها وأحياناً ثلاثة أمثال؛ وأما التنقل في مدينة عظيمة كباريس فلست أحدثك عن (التاكسي) لأنه ترف لا يطيقه سوى الأغنياء، ولكني أقول إن أجور الأمنيبوس والترام الذي بقيت منه خطوط قليلة هي الضعف وأحياناً ثلاثة أمثال أجورها التي نعرفها هنا؛ ولولا شبكة الترام الأرضي (المتروبولتان) التي تربط أحياء باريس وأطرافها ربطاً عجيباً بأجر زهيد (سبعين سنتيما أو نحو قرش صاغ) لكانت باريس أتعس العواصم من حيث المواصلات.
هذه أمثلة وملاحظات نعني بها السائح المتوسط ولا نعني بها طبقة الطلبة أو أولئك الذين يلجئون إلى بعض الفنادق الشعبية الرخيصة حول الحي الجامعي في سان ميشيل وفوجيرار، ويتناولون طعامهم في مطاعم العمال، فهؤلاء حقاً يستطيعون أن يستمرئوا نوعاً من العيش الرخيص لا يستسيغه السائح المتجول مهما كان من تواضعه وقناعته.
ولا تنس إلى جانب ذلك الغلاء المرهق تلك الضريبة التعسفية التي أصبحت رذيلة اجتماعية شنيعة في فرنسا (وفي غيرها أيضاً) ونعني (البقشيش)، ففي كل مكان وفي كل مناسبة، في التاكسي وفي المطعم والمقهى والمسرح وأينما حللت، يمثل شبح البقشيش، ويطلب بإلحاح خشن؛ وكل شيء يتطلب عطية حتى ولو لم تقدم أية خدمة؛ والشره خلة بارزة لتلك الطبقة التي تحتك بها في كل لحظة ونعني طبقة الخدم والسقاة؛ وروح الجشع تبدو في كل مكان؛ وقد تدخل المسرح أو الملهى الواحد فيطلب إليك البقشيش أربعة أو خمسة متعاقبون من الخدم قبل أن تجلس في موضعك، وإذا ترددت قيل لك إنا هنا لا نتناول أجراً ونعتمد على البقشيش، وإذا لم تتذرع بشيء من الحزم والبرود كانت الخسارة فادحة؛ هذا إلى المفاجآت السيئة في الحساب؛ ففي معظم الأحيان تدفع أكثر مما تتوقع لأسباب وأبواب غير معقولة ولكن لا مفر من إجابتها.
ولقد قيل في يونيه الماضي إن البرلمان الفرنسي قد أقر قانونا بإلغاء (البقشيش)، وقد صدر القانون فعلاً، ولكنا أسأنا فهمه وإدراك مقصده، فلم يكن قصد الحكومة الاشتراكية أن تحرم الخدمة ومن إليهم من نعم هذه الضريبة المرذولة، بل كان قصدها أن تجعل (البقشيش) حقاً وضريبة مشروعة لا عطية فقط، وأن تحفظ كرامة هذا الخادم أو العامل فلا ينتظر البقشيش كعطية أو نفحة وإنما يرى فيه حقاً مكتسباً ينظم دفعه حسب الظروف والأحوال؛
ولهذا كان أول ما قرأنا في تعليمات الفندق في مرسيليا ما يأتي: (بما أن البقشيش قد ألغي، فقد قررت إدارة الفندق أن تحتسب بدل خدمة قدره عشرة في المائة!).
ومما يلاحظه السائح في فرنسا، وفي باريس بنوع خاص، أن الأمانة في المعاملات ليست متوفرة دائماً؛ وربما كان أول وأشهر التجارب التي يلاقيها السائح في ذلك هي مسألة التاكسي؛ فإذا لم تكن تعرف الطريق أو لك فكرة عنه فويل لك من السائق؛ وقلما تجد سائقاً يقودك إلى المكان المقصود مباشرة، ولا بد أن يطوف بك حيناً قبل أن يقودك إغليه، وعبثاً تلاحظ أو تعترض، وعند الحساب تضاف إلى الأجر ملحقات زائفة يؤيدها السائق بالصخب والوعيد؛ والويل لك إذا ترددت في الدفع؛ وهذه تجربة أعتقد أن كل سائح مستجد يلقاها في فرنسا؛ وقد بلوتها ير مرة وسمعت في شأنها روايات مدهشة مضحكة معاً عن تفنن السائقين في ابتزاز الملحقات غير المشروعة. وإنك لتلقى مثل هذا الغش أحياناً في المطعم والمقهى إذا لم تحسن مراجعة الحساب؛ ومن الحق أن نقول إنك تلقى مثل هذه التجارب في غير فرنسا، وإنك تلقاها في إيطاليا وباقي أمم البحر الأبيض، ولكن يندر أن تلقاها في أمة من الأمم الشمالية.
وحب المال خلة مشهورة في فرنسا، وهي تذهب إلى حد الجشع المثير، وإنك لتلمس هذا الشره في كل المعاملات، وتشعر بأن روح المادة والاستغلال تطغى على كل شيء وكل اعتبار، ومن ثم كان شغف الكسب بأي الوسائل، وكان تجلي الأثرة وانعدام روح المعاونة والمروءة في معظم الطبقات التي تحتك بها. ومن النادر أن تجد في باريس من يتقدم لمعاونتك أو إرشادك لمعرفة مكان أو غيره بشيء من التطوع أو الرقة التي تأنسها في بلاد أوربية أخرى؛ وإذا قدم إليك مثل هذا العون شعرت أنه مقرون بالسرعة والمن، وأحياناً بالتكلف والجفاء، كأن وقت الفرنسي كله وكلماته كلها من ذهب؛ وكثيراً ما تجاب بهز الأكتاف و (ليس عندي وقت) وأمثالها.
هذا وقد أفسدت الروح الاشتراكية أخلاق الطبقات الدنيا وآدابها، فالعامل والصانع والبائع والخادم والموظف الصغير، هؤلاء جميعاً يتصورون أنهم سادة الموقف في فرنسا، وأن المستقبل لهم. وإنك لتلاحظ هذا الأثر السيئ بنوع خاص في طبقة العمال والخدم، فهم يؤدون أعمالهم بتكلف ولا يحفلون بشيء؛ وهم يشعرونك دائماً عند الحديث أنهم سادة
مثلك، ولهم في ذلك إشارات وألفاظ وقحة. وقد كان لحوادث أسبانيا في هذه الطبقات أثر عميق ملموس؛ وكم سمعنا في الفندق والمطعم وفي الشارع والمترو من بعض أفراد هذه الطبقات أن الحكومة الاشتراكية إذا لم تجب مطالب الطبقات العاملة، وإذ لم تسع إلى تحسين الأجور وتخفيض مستوى المعيشة، فإن ما وقع في أسبانيا سوف يقع قريباً في فرنسا.
وقد عرفت فرنسا أنها بلد الجدل السياسي؛ ولكن هذا الجدل يحتدم اليوم في فرنسا بشدة ظاهرة ويغمر كل الطبقات؛ وقد تشهد هذا الجدل في الشارع وفي المقهى وفي الترام، وتسمع أغرب الآراء وأشدها تطرفاً. وتلقى الصحف على اختلاف نزعاتها رواجاً عظيماً بين كل الطبقات، وتلقى الصحف والنشرات الاشتراكية رواجاً خاصاً بين الطبقات العاملة. وقد لفت نظري كتابان يعرضان للبيع بكثرة ويقبل الناس على شرائهما، أولهما رسالة عن حياة مسيو (ليون بلوم) رئيس الوزارة الفرنسية الحاضرة، والثاني كتاب عنوانه (دوريو رجل الغد)، ودوريو هو النائب الشيوعي الذي خرج على الحزب الشيوعي وعلى أوامر موسكو وكون لنفسه شعبة خاصة تتقدم كل يوم في الأهمية والعدد؛ ويرى كثيرون أن دوريو هذا سيكون من قادة الغد، وأنه ربما اضطلع بدور عظيم في التطورات السياسية المقبلة.
ومما يلفت النظر بنوع خاص حالة القلق السياسي التي تسود فرنسا اليوم، وتبدو ظاهرة في كتابات الصحف وفي تعليقات الأفراد، ويشمل هذا القلق الشؤون الداخلية والخارجية معاً؛ ففي ميدان الشؤون الداخلية يشعر الكثيرون بأن فرنسا مقبلة على تطورات سياسة هامة، وأنه ربما اقترنت هذه التطورات بشيء من العنف. وفي ميدان الشؤون الخارجية يرى الكثيرون أن احتمالات الحرب الأوربية تتقدم بسرعة، وأن نشوبها ربما كان أقرب مما يتصور الناس، وأن فرنسا ستدعي في القريب العاجل إلى خوضها.
(يتلى)
(? ? ?)
الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
- 3 -
تمتاز فلسفة الفارابي بظاهرتين رئيسيتين: نزعة روحية نامية، واتجاه صوفي واضح. والمذهب الروحي والتصوف يقتربان في الواقع ويتلاقيان في نواح كثيرة. وهاتان الظاهرتان تبدوان لدى فلاسفة الإسلام بدرجات مختلفة. وقد نفذ التصوف الفارابي على الخصوص إلى أعماق المدرسة الفلسفية العربية وأثر في صوفية المسلمين بوجه عام. ولم يقف أثره عند القرون الوسطى، بل تعداها إلى التاريخ الحديث. وبما أنا أسلفنا القول في شرح نظرية السعادة الفارابية وبيان مصادرها الأرسطية والأفلوطينية فأنه يجدر بنا الآن أن نلقي نظرة على الأثر الذي أحدثته فيمن جاء بعد الفارابي من فلاسفة ومفكرين؛ وكي تكون هذه النظرة مستوفاة يحسن أن نبين من جانب إلى أي حد تأثر كبار فلاسفة الإسلام بآراء الفارابي التصوفية، كما تأثروا بأبحاثه الأخرى؛ ومن جانب آخر ينبغي أن نحدد العلاقة بين هذا التصوف الفلسفي وما ذهب إليه صوفية المسلمين المتأخرون. وحبذا لو استطعنا أخيراً أن نوازن بين نظرية السعادة الفارابية وبعض الأفكار الصوفية التي اعتنقتها طائفة من الفلاسفة المحدثين. وبالجملة سنتابع هذه النظرية في خطواتها المتتالية إلى أن نسلمها إلى العصور الحديثة، وسنحاول عرض صورة مختصرة لتاريخها العام.
إذا كان في فلاسفة الإسلام من يصح أن نسميه تلميذ الفارابي وخليفته الأعظم فهو بلا جدال ابن سينا. حقا إن التلميذ عدا على الأستاذ وأخفى اسمه وانتزع مكانته وقضى على شهرته، وأصبحنا ونحن نعزو إلى ابن سينا آراء وأفكاراً هي في الحقيقة من صنع الفارابي وابتكاره؛ بيد أن الأول يعترف للثاني بأياديه عليه، ويقر له بالسبق والأولوية، ويدين له بالخضوع والأستاذية. ولقد بلغ من تعلق ابن سينا بنظريات أستاذه أن بذل كل مجهود في تفهمها وأفاض في شرحها وتوضيحها بحيث منحها نفوذا وسلطاناً لم تنله على يدي صاحبها ومبتكرها. ورب فكرة فارابية غامضة مبهمة تبدو لدى ابن سينا، وهو صناع اليدين، في ثوب قشيب ومظهر خلاب. وإذا كان ابن رشد هو شارح أرسطو غير منازع في الفلسفة المدرسية، فإن ابن سينا هو شارح الفارابي الماهر في الفلسفة الإسلامية. وقد يؤخذ علينا
أحياناً أنا نحاول تحليل أفكار الفارابي على ضوء ما كتب ابن سينا، إلا أن الرجلين في رأينا متضافران ومتكاملان، يوضح كل واحد منهما صاحبه ويتممه. ولئن كان للفارابي فضل السبق، فلابن سينا فضل البيان والإيضاح. ومن ذا الذي يدعي أن في مقدوره دراسة أرسطو دراسة كاملة دون الرجوع إلى شراحه من المشائين وغيرهم؟ ولو احتفظ لنا الدهر بكل ما كتب الفارابي فلعلنا لم نستعن دائماً على تفهمه بمؤلفات أتباعه؛ فأما وما وصل إلينا من كتبه نزر يسير، فنحن مضطرون إلى توضيح غامضه بمختلف الوسائل. على أن المؤرخ الذي يعنيه أن يبين كيف نشأت فكرة ما، يلزمه كذلك أن يوضح كيف نمت وتطورت.
اعتنق ابن سينا مختلف آراء الفارابي التصوفية وتولاها بالشرح والدرس في رسائل متعددة نخص بالذكر منها كتاب الإشارات والتنبيهات، وهذا الكتاب بين المؤلفات السينوية (نسبة إلى ابن سينا) يتيمة العقد وجوهرة التاج الثمينة وثمرة النضوج الكامل. يمتاز بسمو أسلوبه وعمق أفكاره وتعبيره عن آراء ابن سينا الخالصة التي لا تشوبها نظريات المدارس الأخرى. وقد وقف صاحبه الجزء الأخير منه على الأبحاث التصوفية، ويقع في نحو خمسين صفحة تعد من أحسن ما خلفته المدرسة الفلسفية الإسلامية في هذا الباب. فقد أخذ ابن سينا على حسب عادته أفكار الفارابي وفصل القول فيها وعرضها عرضاً مسهباً مرتباً. فهو يحدثنا عن (التجريد) و (البهجة والسعادة) و (مقامات العارفين) و (أسرار الآيات) ويشرح نظرية الاتصال شرحاً مستفيضاً. وهذا هو القدر لذي جمعه وترجمه مهرن إلى الفرنسية ونشره تحت عنوان: ' وهاكم نموذجاً من حديث ابن سينا العذب ولغته السامية التي تترجم عن معان سبقه بها الفارابي يقول: (إن للعارفين مقامات ودرجات يخصون بها في حياتهم الدنيا دون غيرهم. فكأنهم في جلاليب من أبدانهم قد نضوها وتجردوا عنها إلى عالم القدس. ولهم أمور خفية فيهم، وأمور ظاهرة عنهم، يستنكرها من ينكرها، ويستكبرها من يعرفها، ونحن نقصها عليك. . . العارف يريد الحق الأول لا لشيء غيره ولا يؤثر شيئاً على عرفانه، وتعبده له فقط؛ لأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه، لا لرغبة أو رهبة. . . العارف هشّ بشّ بسّام يبجل الصغير من تواضعه مثل ما يبجل الكبير، وينبسط من الخامل ما ينبسط من النبيه. وكيف لا يهش وهو فرحان
بالحق وبكل شيء فأنه يرى فيه الحق. وكيف لا يسوي والجميع عنده سواسية؟. . العارف لا يعنيه التجسس والتحسس، ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر كما تعتريه الرحمة فإنه مستبصر بسر الله في القدر. وإذا أمر بالمعروف أمر برفق ناصح لا بعنف مُعَير. وإذا جسم المعروف فربما غار عليه من غير أهله. العارف شجاع، وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت؟ وجواد، وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل؟ وصفَّاح، وكيف لا ونفسه أهون من أن تحرجها زلة بشر؟ ونساء للأحقاد، وكيف لا وذكره مشغول بالحق).
يصف ابن سينا كأستاذه المراحل التي تقود المرء إلى السعادة ويتكلم عن الزهد والعبادة، ثم عن العرفان الذي هو السعادة الحق. (فالمعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد، والمواظب على نفل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد، والمنصرف بفكره إلى قدس الجبروت مستديما لشروق نور الحق في سره يخص باسم العارف). وليست السعادة مجرد لذة جسيمة، بل هي غبطة روحية وسمو معنوي واتصال بالعالم العلوي؛ هي عشق وشوق مستمران، وما العشق الحقيقي إلا الابتهاج بتصور حضرة الحق؛ وما الشوق إلا الرغبة الدائمة في كمال هذا الابتهاج. (والنفوس البشرية إذا نالت الغبطة العليا في حياتها الدنيا كان أجل أحوالها أن تبقى عاشقة مشتاقة لا تخلص من علاقة الشوق، اللهم إلا في الحياة الأخرى. وتتلو هذه النفوس نفوس بشرية مترددة بين جهتي الربوبية والسفالة على درجاتها، ثم تتلوها النفوس المغموسة في عالم الطبيعة المنحوسة، التي لا مفاصل لرقابها المنكوسة). والوسيلة الأولى والرئيسية لإدراك السعادة هي الدراسة والبحث والنظر والتأمل. وأما الأعمال البدنية والحركات الجسمية ففي المرتبة الثانية، ولا يمكن أن تحل محل التهذيب الفكري والرقي العقلي بحال.
قد يخيل للقارئ بعد هذا التحليل أن ابن سينا أميل من أستاذه إلى متصوفة القرن العاشر أمثال الجنيد والحلاج. ولا سيما وكتاباته مملوءة بمصطلحات الصوفية وألفاظهم الفنية. فهو يردد كلمة الزهد والوجد والقوت، ويبين حقيقة المريد والعارف والعابد، ويحلل بعض العواطف النفسية كالعشق والشوق التي شغلت كبار متصوفي المسلمين. غير أنه على الرغم من كل هذا لا يزال ابن سينا وفياً لأستاذه في نظرياته التصوفية كما وفي له في كل مذهبه الفلسفي، ولا أدل على هذا من إعراضه عن فكرة الاتحاد التي زعمها الجنيد
والحلاج ونقده نقداً فيه دقة وتعمق. فهو يرى أن غاية السعادة ليست إلا مجرد اتصال بين العبد وربه يحظى فيه الإنسان بضرب من الإشراق لا يصدران عن الله مباشرة، بل بواسطة العقل الفعال. وأما الاتحاد المزعوم الذي يقضي بأن يندمج الخلق في الخالق فغير مقبول عقلاً، لأنه يستلزم أن يكون الشيء واحداً ومتعدداً في آن واحد. ذلك لأنا لا نقبل أن نعد العقل الفعال فرداً واحداً في الوقت الذي نقرر فيه أنه محتو على كل النفوس الواصلة، كما لا نستطيع أن نسلم بفردية العارف في حين أنا نعترف باشتماله على حقيقة أخرى خارجة عنه. وانظر كيف يصوغ ابن سينا هذا الدليل. (قد يقولون إن النفس الناطقة إذا عقلت شيئاً فإنما تعقل ذلك الشيء باتصالها بالعقل الفعال وهذا حق. قالوا واتصالها بالعقل الفعال هو أن تصير هي نفس العقل الفعال، لأنها تصير العقل المستفاد، والعقل الفعال هو نفسه يتصل بالنفس فيكون العقل المستفاد، وهؤلاء بين أن يجعلوا العقل الفعال متجزئاً قد يتصل منه شيء دون شيء، أو يجعلوه متصلاً بكليته بحيث يصير النفس كاملة واصلة إلى كل معقول (وكلا الغرضين باطل)، على أن الإحالة في قولهم إن النفس الناطقة هي العقل المستفاد حينما يتصورونه قائمة). ويضيف ابن سينا إلى هذا:(إن قول القائل إن شيئاً ما يصير شيئاً آخر لا على سبيل الاستحالة من حال إلى حال ولا على سبيل التركيب مع شيء آخر ليحدث شيء ثالث بل على أنه كان شيئاً واحداً فصار واحداً آخر، قول شعري غير معقول، فإنه إن كان كل واحد من الأمرين موجوداً فهما اثنان متميزان، وإن كان أحدهما غير موجود فقد بطل الذي كان موجوداً).
فتصوف ابن سينا لا يختلف إذن عن تصوف الفارابي في شيء، وسيلتهما وغايتهما متحدتان. يقول البارون كارادي فو:(لا يبدو التصوف عند ابن سينا إلا في آخر المذهب كتاج له، وهو متميز تماماً من الأجزاء الأخرى؛ وابن سينا يدرسه دراسة فنية كأنه فصل من الفلسفة يشرحه شرحاً موضوعياً، وبالعكس ينفذ تصوف الفارابي إلى كل شيء، والألفاظ الصوفية منتشرة في كل ناحية من مؤلفاته؛ ونشعر جيداً أن التصوف ليس مجرد نظرية اعتنقها، بل حالاً نفسية). ونحن نسلم مع البارون أن تصوف الفارابي - على عكس ابن سينا - يعبر عن عاطفة صادرة من القلب، وحياة الرجلين تشهد بذلك، ولكنا نرفض من الناحية النظرية أن يكون ثمة فرق بين تصوف التلميذ وتصوف الأستاذ، كلاهما يعتمد
على أساس واحد، ويشغل مكاناً متعادلاً في مذهبيهما؛ وكل ما هنالك من تباين هو وضوح ابن سينا وطريقته التعليمية المنظمة التي يدرس بها المسائل على اختلافها. وأما الألفاظ الصوفية فقد لاحظنا آنفاً أنها أكثر لدى ابن سينا منها عند أستاذه.
إذا كان الفارابي وابن سينا بطلي الدراسة الفلسفية في الشرق، فابن باجة وابن طفيل وابن رشد هم أعلامها في الغرب. وبما أن البحث العلمي في الشرق أسبق منه في الغرب فإن أهل الأندلس مدينون لإخوانهم المشارقة بكثير من آرائهم ونظرياتهم. لذلك لم يكن بدعاً أن تقتفي المدرسة الفلسفية الأسبانية أثر المدرسة الشرقية، وأن نرى ابن باجة وابن طفيل مثلاً يتبعان خطى الفارابي وابن سينا. وكم يسوءنا أنا لا نعرف حتى الآن عن ابن باجة الشيء الكثير، فإن معظم كتبه قد باد، وما بقي منها لا يزال مخطوطاً وموزعاً بين المكاتب الأوربية. وكتابه الرئيسي وهو تدبير المتوحد لم يصلنا عن طريق عربي، ولو لم تحتفظ لنا المترجمات العبرية بأجزائه الهامة ما وقفنا على خبره. ويرجع الفضل في استكشافه إلى مستشرق إسرائيلي من رجال القرن التاسع عشر هو سلمون منك صاحب الفلسفة اليهودية والعربية ومترجم دلالة الحائرين إلى الفرنسية. وإذا اعتمدنا على ما نقله (منك) أمكننا أن نقرر أن نظرية الاتصال الفارابية قد نالت حظوة كبيرة لدى ابن باجة. وكتابه تدبير المتوحد قائم على إثبات أن الإنسان يستطيع الاتصال بالعقل الفعال بواسطة العلم وتنمية القوى الإنسانية. والفضائل والأعمال الخلقية جميعاً ترمي إلى سيادة النفس العاملة واستيلائها على النفس الحيوانية. وبالجملة يجب على المرء أن يسعى جهده إلى الاتصال بالعالم العلوي مشتركاً مع الجمعية أو منعزلاً عنها، فإن كانت الجمعية صالحة قاسمها في مختلف شؤونها، وإن كانت طالحة لازم الخلوة والانفراد. وهنا يبدو ابن باجة متأثراً بالصوفية المسلمين فوق تأثره بالفارابي، فإن الأخير لم يدع إلى الوحدة قط؛ ومن شرائط المدينة الفاضلة في رأيه أن تقود الأفراد إلى السعادة إن لم تصل بهم إليها. وكتاب تدبير المتوحد في جملته مستقى من مؤلفات الفارابي وابن سينا، اللهم إلا الجزء الخاص بنظام العزلة والانفراد فهذا تغلب عليه نزعة صوفية بحتة.
ومهما يكن فقد وضع ابن باجة الحجر الأساسي في بناء المدرسة الفلسفية الأسبانية وسار على نهجه ابن طفيل. وحياة ابن طفيل غامضة غموض حياة ابن باجة، ومؤلفاته ليست
أعظم حظاً من مؤلفات سابقه فقد باد معظمها ولم يبق منها إلا شذرات متفرقة. بيد أن روايته الفلسفية المشهورة (حي بن يقظان) التي وصلت إلينا تشتمل على مذهبه عامة في أسلوب جذاب وخيال بديع، وتعد هذه الرواية من أطرف ما خلف فلاسفة الإسلام، وقد ترجمت إلى لغات عدة، وكانت في غالب الظن نموذجاً نسج على منواله روبنسون كروزو. وابن طفيل يحاول أن يثبت فيها أن القوى الإنسانية تستطيع وحدها الاتصال بالله. فقد تصور شخصاً نشأ منعزلاً عن الناس ولم يتأثر بالجمعية قط ومع هذا تمكن بعقله الفردي إدراك الحقائق الكونية والتدرج منها إلى حقيقة الحقائق التي أفاضت عليه بالنور والمعرفة، وهذا الشخص هو (حي بن يقظان) الذي ولد في جزيرة قرب خط الاستواء ولم ير أباً ولا أماً، وإنما منحته الطبيعة غزالة تولت إرضاعه وتغذيته. ولم يكد يشب ويترعرع حتى اتجه نظره إلى ما حوله، فبحث في الظواهر الكونية وسر تغيرها، وانتهى إلى أن وراءها أسباباً خفية تتصرف فيها وصوراً تشكلها، وهذه الصور صادرة عن كائن قديم يسميه الفلاسفة العقل الفعال. ولم يزل يبحث ويعلل حتى أدرك أن سعادة الإنسان وشقاءه راجعان إلى قربه من ربه وبعده عنه. ووسيلة القرب والصعود إلى عالم النور والملائكة هي النظر والتأمل. سواء أكان هذا الفرض مقبولاً أم مرفوضاً لدى علماء الاجتماع المحدثين فإنه يبين لنا أولاً كيف تأثر ابن طفيل بفيلسوف الأندلس الأول ابن باجة، فأن (حي بن يقظان) يحمل في ثناياه كثيراً من خصائص (التوحيد) الذي أشرنا إليه من قبل. وثانياً في لغة (حي) الخيالية وصوره المجازية ما يعبر تعبيراً صادقاً عن نظريات الفارابي في السعادة والاتصال.
أما ابن رشد فلم ينح هذا النحو الخيالي الفرضي، بل درس مشكلة الاتصال بالعقل الفعال دراسة علمية منظمة، مبيناً أن هذا الاتصال في ذاته لا يتنافى مع أصول علم النفس المعروفة. وقد وضع في هذا الموضوع ثلاث رسائل مستقلة احتفظت لنا المصادر العبرية باثنتين منها. وهو يرى أن الطفل يولد وفيه استعداد لتقبل المعلومات العامة، فإذا ما أخذ في الدراسة والتعلم تحول هذا الاستعداد إلى عقل بالفعل، ولا يزال هذا العقل ينمو ويرقى حتى يتصل بالعقول المفارقة ويستمد منها الفيض والإلهام، وهذا هو الكمال الأسمى الذي نطمح إليه جميعاً؛ والطريق الموصلة إليه هي تنمية المعلومات وترقية المدارك الإنسانية، فالعلم
وحده سبيل السعادة والاتصال بعالم العقول والأرواح. أما ما يذهب إليه المتصوفة من أن الإنسان يستطيع الصعود إلى هذه المرتبة دون علم ولا بحث فادعاء باطل وقول هراء. وعل في هذا الذي قدمنا ما يكفي لإثبات أن ابن رشد اعتنق كزملائه فلاسفة الأندلس الآخرين - وإن يكن أقلهم تصوفاً - نظرية السعادة الفارابية. ومن الغريب أنه لم يدخر وسعاً في نقد الفارابي وابن سينا وتجريحهما، ولا سيما إذا أحس منهما انحرافاً عن سنة أرسطو، ومع ذلك لم ينج من أثرهما، ولم يستطع أن يكوِّن لنفسه مذهباً مستقلاً يخالف مذهبهما، وهو أشد ما يكون تأثراً بهما في المسائل التصوفية. فهو يعلن مثلهما أن العلم سبيل الوصول والسعادة الروحية، وأن أسمى درجات الكمال أن يخترق المرء الحجب ويرى نفسه وجهاً لوجه أمام الحقائق العلوية، ويرفض رفضاً باتاً أن يكون تقشف الصوفية وزهدهم وسيلة التجرد والاتصال؛ فمن الفارابي إلى ابن رشد اعتنق فلاسفة الإسلام بلا استثناء نظرية السعادة. والفارابي وابن سينا يدعمان هذه السعادة رأساً على الدراسة والنظر، مع الاحتفاظ بمكان للعقل العملي والحركات الجسمية؛ وابن باجة وابن طفيل يوسعان الجانب العملي؛ وابن رشد يعود أخيراً فيقرر مع أرسطو أن الخير الأسمى لا يتم إلا بالعلم والتأمل.
(يتبع)
إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
في الأدب المقارن
طور الثقافة في الأدبين العربي والإنكليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
يمر أدب كل أمة بثلاثة أطوار كبرى تتبع عهود رقي الجماعة: فطور الهمجية يليه طور البداوة ويلي هذا طور الحضارة؛ وفي الطور الأول لا يكون للأدب وجود مستقل بنفسه، بل يكون الشعر تعبيراً ساذجاً عن بسيط العواطف ممتزجاً بالغناء والرقص، ويكون النثر شذوراً من الخرافات والمعتقدات المتوارثة عن الآلهة والجان وقوى الطبيعة؛ ويأتي الطور الثاني بارتقاء عقلية الجماعة بممارستها أعمالاً أرقى وأدق واختلاطها بالأمم الراقية؛ وفي هذا الطور يتميز الشعر ويستقل عن غيره من الفنون وتتسع جوانب النثر، ولكن يظل الشعب على رغم ارتقائه العقلي فطرياً متبدِّيا، حتى إذا عبر هذا الطور إلى طور الحضارة ازداد ترفاً في الحياة ومارس العلوم المنظمة وعرف الكتابة، فظهر في أدبه أثر الثقافة والفن والصناعة.
وقد مر الأدب العربي بالطور الثاني من هذه الأطوار في عهد الجاهلية وصدر من الإسلام: ففي ذلك العهد كان العرب على جانب يعتد به من الرقي العقلي لمزاولتهم التجارة ووقوفهم على حضارة الفرس والروم، وفي ذلك العهد نضجت اللغة العربية نضجاً عظيماً وبلغ الشعر من الرقي شأواً بعيداً، بيد أن الأدب ظل فطرياً بعيداً عن أثر لثقافة والدراسة والتدوين والصنعة، ثم نهض العرب نهضتين علميتين في مدى قرنين: أولاهما بظهور الإسلام ونزول القرآن وفتح الأقطار، والثانية بترجمة علوم الأقدمين، وبذلك انتقل الأدب العربي إلى الطور الثالث من أطوار رقيه: وطور الحضارة والثقافة.
وقد انتقل الأدب الإنكليزي إلى هذا الطور أيضاً بنهضتين متواليتين: الأولى في القرن السادس عشر بوصول حركة إحياء علوم الأقدمين - البونان والرومان - من أوربا إلى إنكلترا، والثانية في القرن التاسع عشر عقب التقدم الصناعي العلمي الذي كانت إنجلترا رائدته وكان من أبنائها كثير من أئمة النهضة العلمية الحديثة في علوم الفلك والحياة والطب والنفس وغيرها.
ويلاحظ أن هناك اختلافاً في توالي النهضتين في الأمتين: فقد كانت نهضة العرب العلمية
الأولى داخلية وليدة الدين الذي نشأ بين أظهرهم، وكانت الثانية خارجية آتية من نقل علوم الأمم الأخرى، بينما في إنجلترا جاء هذا النقل عن الأقدمين أولاً ثم كانت النهضة التالية داخلية نتيجة لتحسين أبناء البلاد لما نقلوه من علوم غيرهم.
وقد أوفى العرب على الغاية في الشغف بالعلوم والجد في تحصيلها، وأظهر أمراؤهم من التقدير للعلم وأهله والرغبة في خدمته والبذل في سبيله ما لم يظهره ملوك دولة في التاريخ، وكانت رعايتهم للعلماء - بعكس ما كان تقريبهم للشعراء - جليل النفع بعيد الأثر.
وكان للعرب من اللغة العربية الرحبة الجوانب، الطيّعة الأسلوب، الغنية بطرائق الاشتقاق، خير معوان في جِدهم في درس العلوم، وامتلأت جوانب اللغة بضروب الدراسات والثقافات، وكان رقيها العلمي في عهد الدول الإسلامية يفوق كثيراً رقيها الأدبي: فبينما ظل أدباء الجاهلية دائماً أساتذة للمتأخرين يحتذونهم في الأدب، أمعن علماء الإسلام وفلاسفته في مذاهب من التفكير والبحث لم يسمع بها الجاهليون ولا خطرت لهم على بال.
ولم يقصر أدباء العربية عن غيرهم في تلك الحلبة العلمية المحتدمة، ولم يكونوا دون سواهم غفاً بالعلم وطلباً لشوارده، بل كان أكثرهم مثقفين ثقافة علمية وأدبية عالية، وقد تلقوا علومهم على طريقة عهدهم: فمن نشأ في يسار أُحضر له المؤدبون، ومن ترعرع في بيت علم وفضل قام أبوه بتأديبه، ومن قصر به جده عن هذا وذاك بين الأدباء واختلف إلى العلماء حيث كانوا يجلسون للدرس؛ أما المدارس والجامعات فلم تنشأ إلا متأخرة، قبيل بدء عهد الركود الفكري، ولم يكد يتخرج فيها عَلم من أعلام الأدب.
وكان من خصائص الثقافة الإسلامية ترامي أطرافها واختلاف أجناس الخائضين غمارها وشمولها شتى العلوم والمذاهب والعقائد من متفرق الأمم وامتزاج العلم بالأدب والدين بالفلسفة فيها، وقد ظهر أثر كل هذا في المؤلفين وفي مؤلفاتهم: كانوا طموحين في طلبهم العلم يبغون تمثُّل كل ما في عصرهم من مناحي التفكير، وكانوا كذلك طموحين في مؤلفاتهم يحبون أن يودعوها كل فن. ولو أردنا أن نشير إلى الأدباء الذين نالوا حظاً عظيما من الثقافة لأحصينا أكثر أدباء العصر العباسي الزاهي بين القرنين الثاني والخامس الهجري. ويكفي أن نذكر من الشعراء المعري الحكيم المعنى بشؤون الكون والفلك والحياة
الاجتماعية، ومن الكتاب الجاحظ العالم الكلف بدراسة الحيوان وتذوق كل قديم وجديد وقريب وبعيد في الحياة والكتب، والذي كان - كما قيل - يستأجر المكاتب ليلاً ليبيت فيها يستوعب محتوياتها.
تماثَلَ الكتاب والشعراء في الأخذ من الثقافة بنصيب، ولكن كان لكتاب على العموم أوفر حظاً من الثقافة عامة ومن العلوم خاصة، واقتصر بعض الشعراء على الدراسة الأدبية، لأن الكتاب كانوا يترشحون للوزارة وكتابة الدواوين والولاية وتأديب أبناء الأمراء، ولا بد لتلك المناصب من دراية واسعة وإلمام شامل، ولأن كثيراً من الشعراء لم يكن للشعر عندهم غاية وراء استدرار الصلات والجوائز، ولم تكن وظيفته عندهم تسجيل الآراء والخوالج النفسية، فلم يكن بهم كبير حاجة إلى دراسة العلوم التي تهذب الفكر، بل كن حسبهم أن يقفوا على مذاهب القول التي سلكها المتقدمون من الشعراء المداحين، والبحتري أبرز أولئك الشعراء الذين عاشوا في صميم عهد الثقافة بنجوة عنها، فقد كان حريصاً على استبقاء السذاجة البدوية، وجاء أكثر ديوانه الضخم مدحاً لمن يرجو عندهم العطاء، وهجواً لمن خيبوا منه ذلك الرجاء.
كان أعلام الأدب الإنجليزي كذلك على جانب عظيم من الثقافة، وقد حصلوا - عدا من قعدت بهم ظروف غير مواتية كشكسبير وجونسون - علومهم في الجامعات التي أخذ نظامها عن العرب وأصبحت مواطن العلم والدرس، ونَبُهَ صيت بعضهم وهم ما يزالون طلاباً بها، وتشترك ثقافتهم مع ثقافة أدباء العربية في الاشتمال على الفلسفة اليونانية؛ ولكن بينما كانت دراسة الأدب العربي القديم تتم الباقي من ثقافة الأديب العربي، كانت دراسة الأدب اليوناني تكمل ذلك الجانب من ثقافة الأديب الإنجليزي. ومن ثم كان معظم الأدباء الإنجليز ملمين باللغتين اليونانية واللاتينية؛ ولمعرفة اللغات أثرها العظيم في تكوين الأديب وتوسيع أغراض القول؛ ويكثر الالماع إلى اليونان والرومان: تاريخهم وأساطيرهم ومشهوري رجالهم في الأدب الإنجليزي، كما تكثر الإشارة إلى الجاهلية والجاهليين في الأدب العربي.
ويتشابه رجال الأدبين في الرحلة عن الوطن في نشدان العلم: فقد كان أدباء العربية يطوفون في البلاد في طلب أئمة العلوم يلزمونهم، وفي طلب نوادر الكتب يستنسخونها،
وربما أضافوا إلى ذلك حج البيت الحرام. وكذلك جرت سنة الأدباء والمتعلمين عامة من ذوي اليسار الإنجليز على الارتحال بعد نيل درجاتهم العلمية إلى أوربا وخاصة إلى إيطاليا مبعث النهضة الأوربية، وربما أضافوا إلى ذلك الحج إلى آثار بلاد الإغريق مهد العلوم والآداب والفنون القديمة؛ ولهذه الرحلة عن الوطن - فضلاً عن كسب العلم ومصاحبة العلماء - أعظم الأثر في تكوين نفس الأديب وتوسيع أفق خياله.
وكان لانتشار الثقافة في الأمتين آثاره المتشابهة في الأدبين: فارتقيا خيالاً وأسلوباً وأغراضاً ومعاني، واتسعت جوانبهما، وظهر فيهما التفنن والصنعة المقصودة، وظهرت لغة علمية دقيقة التعبير بجانب لغة أدبية أنيقة التحبير، وظهرت روح النقد وتجلت نزعة الشك من جراء اصطدام العلوم المستحدثة بالعقائد الموروثة، واشتدت المنازعات الأدبية، واحتدمت المشادات بين أنصار القديم وأتباع الجديد، وظهرت آثار المذاهب الفلسفية واصطلاحات النظريات العلمية في رسائل الكتاب وقصائد الشعراء، ونبغ من المثقفين من يجمعون بين صناعتي العلم والأدب.
ولا ريب أن هذا الطور الثالث من أطوار رقي الأدب التي أُشير إليها في صدر هذه الكلمة - طور الحضارة والثقافة - هو أرقى ما يصل إليه الأدب وفيه ينال ما قدر له من أسباب الكمال، وفيه أنتج الأدب العربي خير نتاجه، فالأدب لا يبلغ غايته إلا في حضارة تحيط به، وثقافة تغذيه، وروح نقد تستحثه. وقد دام هذا الطور الأدبي في العربية زهاء ثلاثة قرون حافلة، تخلف لنا منها تراث زاخر يشهد بشغف العرب بالعلم وولوعهم بالأدب، ثم عملت عوامل الفساد السياسية والاجتماعية عملها، فاضطرب المجتمع، وجمدت الأفكار، ودخل الأدب في طور تدهوره الطويل.
فخري أبو السعود
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مدير مصلحة الكيمياء
صلة الحديث
أراد متشنيكوف أن يفسر حصانة الإنسان من الأمراض فنسبها إلى كريات دمه البيضاء، وأسمى هذه الكريات بالفاجوسات ومعناها (الملتهمة) لأنها تلتهم المكروب الداخل في الدم فتهضمه وتعدمه. فالحصين من الناس من قويت فاجوساته على المكروب الغازي، والقابل للعدوى منهم هو الذي تضعف فاجوساته من المكروب فتنهزم أمامه. وقاد متشنيكوف الدفاع عن النظرية الفاجوسية في باريس، وقاد الألمان مدفوعين بالعداء السياسي للفرنسيين حركة منظمة ضد هذه النظرية. وعزوا حصانة الناس إلى بعض خصال في مصل دمائهم. وبالغ متشنيكوف في كراهة الألمان فلم يطق أن يسمع من أحد أن لمصل الدم شأناً في حصانه الإنسان أصلا.
الحَصانة واليهودي الأفَّاق
ولم يكن المعمل الذي استقله متشنيكوف في معهد بستور مملا فحسب، فقد كان فيه من الألوان ومقتضيات الفن ما في مَشغَل رسام وكان فيه من أسباب التفريج والتسلي ما في مِهرجان لهوٍ منصوب بقرية، وكان فيه من الحمية والحرارة واللذة القوية ما يجده المشاهد في سِرْك كثير الشِّعاب رحب الجناب، فلا تعجب بعد ذلك إذا علمت أن الشباب من أطباء أوربا قصدوه من كل ركن فيها يطلبون صيادة المكروب عنده؛ أما عقولهم فانطاعت عفوا لهذا الباحث الكبير، وقد كان كذلك منوّماً مغناطيسياً خطيراً، وأم أصابعهم فقد سبقتهم إلى إجراء عشرات الألوف من التجارب التي انطلقت من رأس أستاذهم حثيثة كما تنطلق الصواريخ في الألعاب النارية من أصولها المتفرقعة.
كأني بك تسمعه ينادي: (يا سيد سَلْتيكوف! هذا تلميذ للأستاذ بفيفار الألماني يقول إن مصل الخنزير الغيني يستطيع أن يحيي خنازير أخرى غينية من الموت بكوليرا الخنازير. فهل لك أن تتفضل بإجراء تجربة تمتحن بها هذه الدعوى؟) فلا يكاد يتلقى هذا العابد لسيّده
مشيئة متشنيكوف حتى يهرع إلى تحقيقها، وهو يعلم حق العلم أي تحقيق يُراد - تحقيق أن هذا الأستاذ الألماني إنما ادعى باطلاً وقال خَرَفا. وكانت تعرض لمتشنيكوف مئات من تجارب دقيقة لا تصبر عليها أصابعه الملولة فيدفع بها إلى بلاجو فستشنسكي أو إلى هوجنشمت أو إلى فجنر أو إلى غرجيفسكي أو إلى سفتشنكو الذي نسيه الناس الآن، أو إذا كان هؤلاء مشغولين إذن فإلى زوجته أُلجا فقد كان يغريها بترك ما هي فيه من رسم الزيت أو تشكيل الصلصال لتقوم ببعض هذه التجارب؛ وكانت جديرة بحل أعقد العُقد. ففي هذا المعمل كان مائة قلب ولكنها دقت معا؛ وكان به مائة رأس ولكن بها فكرة واحدة ولها غاية واحدة: أن تكتب أنشودة شعرية حماسية كبرى عن تلك لكرات الصغيرة المكوّرة الشفّافة الأفاقة التي تدور في دمائنا تتشمم عن مكروبة عادية قاتلة، فإذا وجدتها سبحت نحوها واخترقت جدران الأوعية الدموية إليها حيثما كانت؛ فإذا لقيتها فالحرب العوان بينهما حتى يذهب السوء المنذر عن الجسم أو هي تموت دونه.
وكانت المؤتمرات الطبية الكبرى في تلك الأيام مؤتمرات صاخبة ثائرة ملؤها الحجاج في أمر المكروب وأمر الحصانة؛ وكان متشنيكوف يحضرها دائماً؛ فقُبيل اجتماع أحدها بأسابيع كنت ترى معمله لا يهدأ أبداً من كثرة ما تروح الأقدام وتجيء فيه؛ وكنت تسمع متشنيكوف يصيح برجاله: (هيّا، هيّا، فلا مندوحة عن الإسراع حتى تتم كل التجارب التي نريدها لإثبات حجتي). فيقوم الأعوان المخلصون العابدون باقتصاد ساعتين فساعتين من نومهم كل ليلة في سبيل العمل؛ ويشمّر متشنيكوف نفسه عن ساعديه، ويرفع محقنة بيمينه ويضربه في شتيت الحيوانات وعديدها، يحْضرها له مساعدوه حتى يتصبب العرق من جباههم. فمن صغار أنواع كبيرة من الخنافس إلى الضفادع الخضراء إلى التماسيح، إلى سميدرات مكسيكية عجيبة حتى لجرُّوا الشباك في قيعان البرك يطلبون سمك الفرخ والجدجون نعم يقوم بحّاثنا الفيلسوف المجنون على كل هذه الخلائق الهادئة المتطامنة التي لا تشكو ولا تتضرر فيطلق فيها المكروب من محاقنه وقد لمعت عيناه واحمر وجهه العريض فبات كاللهب المتأجج من خلف لحيته، وقد تلوث شاربه بما تناثر عليه من المكروبات بسبب انفعالاته النفسية وتلويحاته الشعرية. وكان يقول:(أنا إنما أكثر تجاربي هذا التكثير لأزيد نظريتي إثباتاً).
كان عقل متشنيكوف لا يفتأ يتخيل الخيالات عن الطبيعة، ويبتدع القصص عن الكون، ولكن من العجيب المدهش أن هذه الخيالات كثيراً ما تحققت عند التجربة، وهذه القصص كثيراً ما ثبتت عند البحث والاستقصاء. صاح ألماني يقول:(ليس في نظرية الفاجوسات التي خلقها متشنيكوف شيء ذو بال أو خطرٌ كبير، فكل الناس يعلم أن المكروبات قد تُرى داخل الفاجوسات، ولكن هذه الفاجوسات الأفّاقة لا تَخْفُر لجسم ولا تدفع عنه سوءا، وإنما هي قَشّاشة تأكل من الفضلات ما تلقَى، فهي إذا أكلت المكروبات فلا تأكل لا الميّت منها). وكان المؤتمر اللندني لعام 1891 يزداد موعده اقتراباً، فصاح متشنيكوف يطلب خنازير غينية، فلما جاءته حقنها فحصّنها ببشلات تشبه بشلات الكوليرا كان اكتشفها صديقه القديم المنكود الدكتور (جماليّه)؛ وبعد أسبوع أو نحو أسبوع قام هذا الفيلسوف اللحيانيّ فحقن زريعة حية شريرة مُخطِرة من هذه البشلات في بطون الحيوانات الحصينة، وأخذ في الساعات التي تلت يمتص من هذه البطون في فترات قصيرة قطرات من سائلها بواسطة أنبوبة دقيقة من الزجاج، ثم يضع هذه القطرات تحت عدسة مجهره القذرة، قَذَرَ قلةٍ أو قذر كثرة، ليرى ما تصنع فاجوسات الحيوانات الحصينة ببشلات الدكتور جماليّه. حدّق في المجهر ليرى، فرأى غاية مُناه! رأى هذه الفاجوسات المكوّرة الزاحفة المتثاقلة قد أكلت من هذه البشلات حتى امتلأت!
قال متشنيكوف: (والآن علي أن أثبت أن هذه المكروبات التي بداخل هذه الفاجوسات مكروبات لا تزال حيّة تُرزق). وقتل الخنزير الغيني وشق بطنه فانفتح، فمصّ منه شيئاً من هلامه الرمادي؛ وما كان هذا الهلام إلا خلاياه الأفاقة اجتمعت في البطن لحرب المكروب الداخل والتهامه. وبعد زمن قليل ماتت تلك الخلايا الأفاقة، تلك الفاجوسات التي لا تحتمل الحياة خارج الجسم طويلاً؛ ماتت فانشقَّت فخرجت منها تلك البشلات الحية التي كانت ابتلعتها وهي في بطن الخنزير. فلم يُلبّث متشنيكوف طويلاً حتى حقن هذه البشلات في خنازير غير حصينة فما أسرع ما قتلتها.
وبهذه التجربة، وبعشرات من تجارب بارعة من أمثالها، أرغم متشنيكوف خصومه فاعترفوا له بأن الفاجوسات تلتقم المكروبات الخبيثة أحياناً. ولكن الذي يؤسف له أن متشنيكوف أضاع حياته وأنفق طاقة عقله الجبار في عمل تجارب قصد بها الدفاع عن فكرة
حِواريّةٍ لا كشف أسرار الطبيعة. نعم لقد كنت تجاربه بديعة مألوفة، وكثيراً ما كانت تلذّ الفكر وتُمتع الخيال، ولكنها كانت مصطنعة اصطناعا، وكانت ترمى بعيداً عن الغرض الأهم الأخطر وهو كشف السر في أننا حصينون. كان له رأس يقدر على احتواء الكثير الشتيت من المعارف، فما كان أجدرها أن تتجه بكل حولها وذخيرتها إلى حل عقدة الحصانة، فتفسر لنا كيف أن الطفل قد ينشأ في مباءة من السل ثم هو لا يجيئه، بينما طفلة أخرى تُنَشَّأُ على قواعد الصحة في عناية وحذر فلا تبلغ سن العشرين حتى تموت من السل. هذه هي أُحْجية الحصانة المستغلة، وهي إلى اليوم أحجية مستغلة. فانظر ما كان يصنع تجاهها متشنيكوف؟ كان يقول: لا شك أن الفاجوسات في هذه الحالة لا تعمل عملها، فهي لا شك لأمرٍ ما تعطلت)، ثم هو يهرع إلى المعمل ليُدهش خصيمه بإثبات أن فاجوسات التماسيح تأكل بشلات حمى التيفود. وما للتماسيح وللتيفود وهو لا يصيبها أبداً!
وأخلص له مساعدوه في المعمل إخلاصاً نادراً عجيباً، فأذنوا له فأطعمهم بشلاّت حيّة خبيئة من بشلات الكوليرا ليثبت أن الدم لا دخل له في حصانتنا منها. وبلعَ البشلاتِ فيمن بلع شابةٌ من تلك الأوانس الجميلات اللاتي يسترشد بوجوههن ويستوحى من فتنتهن، ومضت سنوات أُغرم فيها باللعب بأرواح أعوانه البُحّاث وهم عبّاده الطائعون، وأقرّ بأنه إنما كان جنوناً ذلك الاغرام. وليس شيءٌ يعذره من هذا الاغرام ويصفح عنه هذا الإجرام إلا أنه هو نفسه لم يتأخر خطوة عن مسايرتهم بالمخاطرة بحياته، بل لقد بلع هو نفسه من أنابيب البشلات أكثر مما بلعه أيهم منها؛ وفي أثناء هذا التلاعب بالنار مرض أحد أعوانه مرضاً شديداً وظهرت عليه أعراض الكوليرا الأسيوية الصميمة، فندم متشنيكوف ندامة كبرى، وكان يقول في وجيعته وأساه:(أي جوبي! ليس لي بعد موتك حياة)، فلما سمعت أُلجا ذلك منه اتخذت حيطتها فلزمت زوجها الشهير ليل نهار خشية أن يعاوده خاطر انتحاره القديم؛ وكثيراً ما كان جاءه ولكنه لم يثمر ثماره أبداً. وفي ختام هذه التجارب الغريبة، أخذ من دم الناجين من أعوانه فحقنه في دم خنازير غينية، ثم حقن هذه الخنازير بزريعات من بشلات كوليرا حادة، فماتت هذه الخنازير ولم تنفعها دماء هؤلاء الرجال شيئاً. فاغتبط بهذا الفلاح، وكان يكره أشد الكره أن يكون للدم خطر في هذا أبداً، وكتب:(إن كوليرا الإنسان مَثَل آخر من أمثلة الأمراض التي لا يمكن أن يُعزى سبب لشفاء منها لمناعة الدم أصلاً).
وقد يكون من تلاميذه تلميذ وهبه الله مقداراً غير عادي من استقلال الرأي وحرية الفكر، فيقع في أبحاثه على خاصة عجيبة من خواص الدم، فيأتي إلى أستاذه يهمس في أذنه بالذي اكتشف، فإذا بالأستاذ تطول قامته، وترتفع هامته، وينتفخ صدره زهواً وكبراً كأنه موسى الكليم يهبط جبل الطور إلى الوادي؛ وإذا به يأمر بهذا الخارج الثائر الزنديق الذي لا يؤمن بنظريته أن تُحرق جثته، ثم هو يقوم على الجثة يفرغ ماء عينيه بكاء وقد عزّه العزاء وافتقد فيه الصبر والسلوان. لم يكن معمله بالمكان الهانئ الوادع السعيد للبحّاث الذين يطلبون الحقيقة الصرف. ومع هذا فإلى متشنيكوف يعزى بعض الفضل في اكتشاف طائفة من أعجب خواص الدم، ذلك لكثرة التجارب التي أجريت في معمله ولاختلاف عدد كبير من بحّاث متحمسين عليه فيه. مثال ذلك الباحث الشهير برديه جاء يعمل مع الأستاذ، والأستاذ في أكبر مجده وأذيع صيته. وكان برديه ابن معلم قرية صوني ببلجيكا؛ وكان حيياً لا يُؤبه لمظهره؛ وكانت به عادات من إهمال وقلة مبالاة؛ وكانت له عينان زرقاوان كالماء ذاهلتان لا تبصران شيئاً مما تقعان عليه، ولكنهما أبصرتا ما لم يبصره غيره من البحاث. بدأ عمله في معمل متشنيكوف، وأخذ يبحث في الدم يستجلي خفاياه، فاستجلى أموراً جليلة منه، وذلك في ظل لحية متشنيكوف وعلى صدى صيحته الصارخة بالفاجوسات وللفاجوسات. ووضع هذا البلجيكي أسس تلك الاختبارات العجيبة الدقيقة التي يختبر بها الدم اليوم في جنايات القتل ليُعرَف أهو من إنسان أو حيوان. وفي هذا المعمل قام بأبحاث أدّت بعد سنوات إلى اختبار الدم الشهير الذي به يُكشَف عن وجود الزُّهري في دم الإنسان، ذلك الاختبار المعروف اليوم باختبار فَسَرْمَنْ
على أن برْديه لم يَسلم من غضبات متشنيكوف أحياناً كثيرة، ولكن الأستاذ كان كثير العُجْب بتلميذه، وكان كلما وجد برديه في الدم شيئاً يضر بسمعة المكروبات - ومع هذا قد ينفع في تحصين الناس منها - أغمض متشنيكوف عينه على القذى كارهاً وقام يغري نفسه بإجراء تجارب لا بأس بها تثبت أن هذا الشيء الذي وجده برديه في الدم إنما جاء أصلاً من الفاجوسات. ولم يُقم برديه في معمل منتشنيكوف طويلاً. . . .
واقترب ختام القرن التاسع عشر، وتحوّل بحث المكروبات، فبعد أن كان يَنْفُر إليه كل مخاطر مغامر، أخذت تعالجه طائفة من شباب الأطباء انصرفوا إليه في هدوء وسلام وتؤدة
وتبصر واحترفوه احترافاً، فلم يجمحوا فيه بالخيال، ولم يتنبئوا فيه بالغيب. عندئذ تحوّل متشنيكوف كذلك بعض التحوّل عن غضباته المرة وإساءاته المنكرة إلى كل من لم يكن يرى الأمور بعينه. ونال الشارات وحظِيَ بالمكافآت المالية. ودخل يوماً مؤتمراً دخول الملك المستعظم فحظي فيه حتى بتصفيق الألمان واحترامهم. وكان عندئذ آلاف من البحّاث قد لمحوا آلافاً من الفاجوسات تبتلع آلافاً من المكروبات. ولو أن هذه لم تفسر لنا سبب الحصانة - لم تفسر لنا كيف أن رجلاً تصيب صدره النيومونيا فتقتله، بينما رجل آخر تصيبه فتعتريه نوبة من عرق صبيب يشفى عقبها - إلا أنه مع ذلك ثبت يقيناً أن الفاجوسات تأكل مكروب النيومنيا أحياناً وتذهب به وبشره. وهذا الثبوت لا شك يرجع فضله إلى متشنيكوف بصرف النظر عن فساد حججه وضيق صدره وقلة تسامحه وعناده. ولا شك كذلك في أن هذا ثبوت لحقيقة علمية كبرى ليس بمستغربٍ أن تؤدي إلى تخفيف آلام البشرية لو أن القدر ساق إلى هذا العالم البائس عبقرياً حلاّما حذّاقاً للتجربة يفضح لنا السر في أن الفاجوسات تأكل المكروبات أحياناً ثم هي تَعَفّ عنها أحياناً، أو لعله فوق ذلك يغريها بأكلها دائماً أبداً.
(يتبع)
أحمد زكي
ميلاد.
. .!
للأديب محمد طه الحاجري
لم يكد الفجر يستفيض من وراء الأفق، كما يستفيض الأمل الباسم من وراء الضلوع، حتى استيقظ أهل ذلك البيت الصغير من إغفاءتهم، ونفضوا عنهم بقايا أحلامهم، واستقبلوا نور الفجر الساحر فأشرقت به قلوبهم، وانبسطت له وجوههم، ثم لم يلبثوا حتى كانوا يحفون بفتاة لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها، تئن أنيناً خافتاً لا يكاد يتجاوز نطاق صدرها، وقد نطقت حركاتها وأسارير وجهها بما يعتلج في أحشائها من ألم، وما تبذله لقاءه من جهد؛ فكانت تنحني إلى أمامها - من ذلك الألم الممض - فتعتمد على يديها، ثم ترفع كفها لتخفي دموعاً تترقرق في عينيها، والسيدتان الجالستان إلى سريرها تحاولان التسرية عنها، وتخفيفَ همّها، وطردَ الأشباح المفزعة التي كانت تساور خيالها، وتضاعف من آلامها؛ ولم يمنعهما وقار السنّ من أن يصطنعا في الحديث شيئاً من الفكاهة والمرح، يبدد وجوم الموقف. . . ويبعد شياطين الوساوس.
أما ذلك الرجل الفاضل الذي كان ينظر إليها، وإن وجهه ليعبر عن شتى العواطف من الألم والعطف والإشفاق والرجاء، فإنه لم يلبث أن غلبته عواطفه، فقام من مكانه، وذهب إلى غرفة أخرى، وأخذ يدعو الله ويضرع إليه أن يكون في عون هذه المسكينة التي تعاني - للمرة الأولى في حياتها - ما تعانيه كل امرأة مثلها خلقت لتكون وسيلة امتداد النوع الإنساني.
ترى ماذا كان يجول في خاطر ذلك الرجل الذي لبث زماناً لا يحس بعاطفة الأبوة إلاّ حنيناً إليها، ورغبة قوية حافزة في الاشتمال عليها، وهاهو ذا الآن يوشك أن يكون أباً كما صار أنداده من قبل، وهاهي ذي رجولته توشك أن تستوي وتأخذ كمالها بهذا القادم المنتظر؟؟
سبحانك اللهم! جعلت في الإيثار كمال الرجولة، فاتسمت الأثرة بالطفولة، ثم جعلت الرجولة درجات بعضها فوق بعض: هذا زوج يكد لنفسه ولغيره، وهذا أب يرى خير بنيه فوق خيره، وهذا عميد أسرة يتولى أمرها ويكدح لمجدها وينافح من دونها، وهذا زعيم أمة قد اضطلع بشؤونها، وسهر على شجونها، وباع ماله ونفسه في سبيلها، فبل الذروة في الرجولة، وأشرف على أقصى غايات الكمال الإنساني.
أيقولون إن الإنسان أنانيّ بطبعه؟ فما الذي يدفع بالرجل الكامل لأن يكون زوجاً يشرك امرأته في أسباب حياته، وأبا يخلط بين غيره وذاته، وقائداً يضحي بنفسه في سبيل أمته، ومصلحاً ينير لغيره فيطفئ من ذبالته؟ إنما هي غريزة التكمل، فإذا ضعفت تلك الغريزة، فرغب الشبان عن الزيجة، وانصرفوا عن بناء الجماعة، واحتفلوا بخيرهم الذاتي وحده، فقد رجعوا على أعقابهم، ونكسوا على رؤوسهم، وانعكست سنة الخليقة فيهم، فعادوا أطفالاً، وكان من الطبيعي أن يكونوا رجالاً.
تُرى ماذا كان يجول في نفس ذلك الشاب الذي نيّف على الثلاثين، وقد جلس يتمتم بالدعاء، ويرفع يديه إلى السماء، في زي شرقي أنيق، ومحيا مشرق وضئ، لولا ما يرتسم عليه من خطوط فيها من معنى الألم قسط موفور؟
إنما هي مشاعر مبهمة لا تكاد تبين أو تتعين، مترادفة ينسخ لاحقها سابقها، مختلطة بين الماضي والحاضر والمستقبل، لا تكاد تستقر على عهد من العهود الماضية، حتى تحط على آخر في حدود الغيب المحجوب؛ ولا يكاد يألم لما تعانيه زوجه من ألم المخاض، حتى تنسخ هذه الغاشية موجة من النور البهي الساطع المنتشر من عالم الغيب على نفسه الحائرة بين عالم الغيب وعالم الشهود.
أما تلك المرأة الصغيرة فلعل خواطرها كانت حزينة مبتئسة، أكثر منها فرحة مستبشرة، ملتفتة إلى الوراء أكثر من اتجاهها إلى الأمام؛ تنظر إلى الماضي الماثل أمام قلبها، فتغرورق عيناها بالدموع، فتحاول إخفاءها عمن جلس حولها؛ ثم يعروها الألم فتئن وتتوجع وتنحني انحناءة تستل كل ما في النفس من معاني الإشفاق والعطف والرحمة، وتبعث في القلب كل مشاعر الأسى والوجيعة؛ ثم تنظر حولها فتعود بها الذاكرة إلى الفقيدة العزيزة التي فقدتها منذ بضعة من الشهور قليلة، فلا تزال صورتها تلقاءها، متألقة بنور الحب، محفوفة بمعاني الدموع. . . أمها التي لم تكن تشعر بعطف غير عطفها، ولم يكن لها من القلوب غير قلبها، ولم تكن تدري من صور الحب غير صورة حبها. كانت تلك الفتاة وحيدتها، فكانت تستأثر بعطفها وحنانها. ثم ضرب القدر ضربته الصارمة القاضية، وانتزعها انتزاعة عنيفة قاسية، حين كانت ترجو وترقب أن تستمع بحفيدها وامتداد وجودها.
إيه يا روح الأم المرفرفة على سرير فتاتها! امسحي على قلب هذه المسكينة بيدك الروحية الطاهرة، وانشري عليها من ذلك الضوء الذي يغمر ذاتك المجردة، وابعثي في قلبها الطمأنينة التي تسود عالم الروح الأسمى، وانقليه في شفقة الأم الرحيمة، ورقة الروح الكريمة، من الماضي القريب الزاخر بمعاني الأحزان والآلام، إلى المستقبل الزاهر بورود الآمال والأحلام. .!
مضى الزوج إلى مصلاه، يلتمس الروح والطمأنينة في جوار ربه، ويعوذ به من القلق الذي جعل يعبث بقلبه، ويستروح نفحات الملأ الأعلى التي تتأرج فيه. ثم عاد إلى بيته فإذا هو يتلألأ بمعاني الفرح الطروب، كأن الحياة قد أفرغت في هذه البقعة الصغيرة كل ما تدخره من السرور والبهجة. لشتان ما بين هذه الساعة والتي قبلها في رأي قلبه! فقد امتلأ الفراغ الذي كان يشعر به بين جنبيه، والذي كان يشعره أن حياته فارغة لا قيمة لها، والذي كان لا يملؤه إلا الهم والابتئاس حين يرى رجلاً يداعب طفله ويدلله، فتثور غريزته المحرومة، وتضطرب في صدره أيما اضطراب. . . لقد ابتدأ منذ اليوم حياة الأبوة المجيدة والرجولة الصحيحة، وأصبح يشعر لوجوده بكيانين: أما أحدهما فقد بلغ الذروة، وأما الثاني فلا يزال في سفح الحياة يحبو ويتشبث. . . فأي سعادة تغمر قلبه! وأي صورة من الفرح والغبطة ترتسم على وجهه! لقد ظفر اليوم لنفسه بالحياة في أنضر صورها، فما كهذا اليوم في حياته كلها.
وأما الأم فقد تنزلت عليها رحمة ربها، فنسخت تلك المعاني الحزينة من قلبها، وأقبلت عليها الحياة الجديدة المنبعثة من وليدها، فمسحت كل ما أبقى الموت من أثر في نفسها، وقد استغرقت كل عواطفها في تلك الفلذة المشتقة منها.
إيه أيها الوليد الملقى في مهده في جو من الغموض والإبهام وفي هالة من الحب والرعاية والإعظام! ما هو ذلك الشأن الذي جعلك مناط الأمل ومعقد الرجاء، وقد تكون سبب الشقوة ومستقر العناء؟ وما هي تلك الخطورة التي جعلت مقدمك بين التهليل والتكبير، وجعلت استهلالك مقروناً بهتاف الفرح وصوت البشير؟ وما أنت في ذلك الوجود الزاخر إلا ذرة أو أقل من ذرة في عباب المحيط الواسع! ألأنك تمثل الحياة في شتى أشكالها؟ ألأنك تحمل بين جنبيك ميراث الإنسانية جميعها؟ ألأنك الوحدة التي يقوم عليها بناء الكون بما يضم من
أشتات ويجمع من مفارقات؟ قد يكون كل ذلك صحيحاً لا ريب فيه. ولكن سنن الوجود ونواميس الخليقة قد طبعت على التحتيم الذي لا مفر منه، والجبر الذي لا اختيار فيه، حتى ليعد من العبث الذي يهيم به العقل أحيناً أن يحول تعليلها، أو يجتهد في تأويلها. فأنت أنت كما أراد الله أن تكون؛ وهذا الاحتفال الذي يحف موكبك العظيم هو جزء من النواميس التي قدرها الله لنظام الوجود، ولا مبدل لكلمات الله.
محمد طه الحاجري
الفخر في شعر أبي الطيب
للأستاذ طه الراوي
عضو المجمع العلمي العربي
نريد أن نتحدث عن أبي الطيب، ولكن هل غادر المتحدثون عنه من متردم؟ ماذا نقول في شاعر ملأ الدنيا وشغل الناس من متقدمين ومتأخرين، بله المعاصرين، من بين مادح وقادح، ونقد وشارح، حتى كان من ازدحام أولئك الأعلام حول هذا المنهل أن ازدهرت خزانة الأدب بعشرات الأسفار، فهل من جديد نقوله؟ هذا ما جال في خاطري عندما تلقيت دعوة لجنة المهرجان المحترمة.
على أنه لابد من القول، فلابد من اختيار ناحية من نواحي شاعرنا والتحدث عنها، فإن وفقت إلى جديد فهو الهدف، وإلا فقد أبلغت عذراً. لا خلاف في أن أبرز نواحي أبي الطيب وأبرعها جمالاً وأروعها جلالاً هي العظمة؛ وقد صورها لنا بشعره أبرع تصوير وأروعه، وقد فخر في ذلك ما شاء وشاءت عبقريته، فليكن موضوعنا إذن:(الفخر في شعر أبي الطيب).
والفخر في شعر هذا الناقم الثائر جذوة من نفه ونفحة من روحه، بل هو ترجمان طموحه، أو قل هو ذوب نفسه الكبيرة، تارة يتألف قولاً وطوراً يتمثل فعلاً.
ومن ثم جاء هذا الضرب من شعر شاعرنا مطبوعاً بطابعه الخاص، بعيداً من التكلف والتعسف، بريئاً من كثير من العاهات التي علقت بغيره من شعر أبي الطيب، ولا يدانيه في ذلك إلا الوصف، ووصف المعارك خاصة، وكل ما يتصل بالرجولة والبطولة.
ويرى المخلفون الرعاديد أن الفخر ضرب من ضروب العجرفة الفارغة والجبروت الكاذب، وتلك خديعة طباعهم الخاملة، وسجية نفوسهم الخانعة المستخذية التي تستمرئ الهون، وتقنع بالدون. أما النفوس المجبولة من طينة الشرف فتأبى إلا مساماة النجوم ومغالبة الخصوم، ذلك لأن الله برأها حرة فلا تلين للذلة، ولا تدين بالقلة، والعربي مجبول على الأباء والأنفة، مفطور على العزة وسمو الهمة والطموح إلى معالي الأمور.
وبهذه السجايا أحرز ما أحرز في ماضي الزمان من عظمة الشأن وبسطة السلطان.
وقد افتخر سيد ولد آدم عليه السلام في غير ما موقف، وهو القائل في بعض مواقفه
الحربية:
أنا النبي لا كذب
…
أنا ابن عبد المطلب
وهذا داهية بني حرب يقول: وضعت رجلي في الركاب يوم صفين للهرب، فتذكرت قول ابن الاطنابة:
أبت لي همتي وأبى بلائي
…
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
…
مكانك تحمدي أو تستريحي
فانثنيت عما أنا في سبيله.
ولعمري ما أُخذنا في عصورنا المتأخرة إلا من ناحية تلك الفلسفة السقيمة العقيمة، فلسفة الاستكانة والتماوت التي تسربت إلينا من بثوق المغلوبين على أمرهم، المفجوعين بحريتهم، المصابين بعزتهم وأنفتهم؛ ثم جاء الطامعون بنا فنفخوا في نارها، وضاعفوا من أضرارها، إلى أن أصبحنا نخاف من كل شيء حتى من أنفسنا، ونرى يومنا أسوأ من أمسنا.
فإذا أردنا أن نعيد سيرة أولينا جذعة، فعلينا أن نغذي نفوس ناشئتنا بكل ما من شأنه أن يغرس فيها الشمم والطموح إلى معالي الأمور والترفع عن دناياها، وإرخاص الحياة في سبيل العز، والاعتقاد بأن الحياة بغير الحرية ضري من ضروب الموت الخفي؛ والشعر الفاخر أو الفخر الشاعر من أجدى الأغذية النفسية وأنجع الأدوية الروحية.
ودوحة الفخر في شعر أبي الطيب كثيرة الأفنان، باسقة الأغصان؛ وموقفنا هذا المحدود بالدقائق أضيق من أن يتسع للإحاطة بجميع أطراف هذا الموضوع فلا بد من الاقتصار والاختصار. وليكن اقتصارنا على غصنين هما أكثر تلك الأغصان أزهاراً وأينعها ثماراً، وهما إمامته الأدبية، وأمنيته السياسية.
نشأ أبو الطيب صباً بالمعالي متيماً بها، لا يفارقه طيفها سُرىً أمامه وتأويباً على أثره. وتمثلت له أمنيته بالسيادة والملك فكان يبغي أن يقهر العتاة من جبابرة عصره، ويديل للعرب من أولئك الموالي الذين تسنموا العروش من طريق الختل والغدر.
وإنما الناس بالملوك ولا
…
تُفلح عرب ملوكها عجم
بكل منصلت ما زال منتظري
…
حتى أدلت له من دولة الخدم
أيملك الملك والأسياف ظامئة
…
والطير جائعة لحم على وضم
نبتت هذه الأمنية في رأس أبي الطيب من يوم عرف نفسه، وملكت عليه مشاعره واستبدت براحته، ولم تزل تطوح به من بلد إلى بلد حتى لفظ نفسه وسكن رمسه.
وكان لها فاتحة شعره وخاتمته. قيل له وهو في المكتب ما أحسن هذه الوفرة! فقال:
لا تحسن الوفرة حتى ترى
…
منشورة الضفرين يوم القتال
على فتى معتقل صعدة
…
يَعُلها من كل وافي السبال
وقال من قصيدة هي آخر ما نظم، وقد وجدت في رحله بعد قتله:
سدِكت بصرف الدهر طفلاً ويافعاً
…
فأفنيته عزماً ولم يُفني صبراً
أريد من الأيام ما لا يريده
…
سواي ولا يجري بخاطره فكرا
وأسألها ما استحق قضاءه
…
وما أنا ممن رام حاجته قسرا
انظر كيف تبادرت هذه الأمنية في نفسه حتى أصبح يراها من حقه الذي لا ينبغي أن يغالب عليه.
ولي همة من رأى همتها النوى
…
فتركبني في عزمها المركب الوعرا
تروق بنى الدنيا عجائبها ولي
…
فؤاد ببيض الهند لا بيضها مغرى
ومن كان عزمي بين جنبيه حثه
…
وخيّلَ طول الأرض في عينه شبرا
صبحت ملوك الأرض مغتبطا بهم
…
وفارقتهم ملآن من حنق صدرا
ولما رأيت العبد للحر مالكا
…
أبيت إباء الحر مسترزقاً حرا
إلى أن قال:
فإن بلغت نفسي المنى فبعزمها
…
وإلا فقد أُبلغت في حرصها عذرا
الملك هدف أبي الطيب، ولكن المسالك اشتبهت عليه؛ فتارة يسلك طريق البراعة في اليراعة، وطوراً يرى طريق السيف أهدى وأجدى، وحيناً يرى أن المال هو الذي يجمع عليه الرجال، وآناً يرى السبيل أن يتولى عملاً لبعض الملوك، ثم يجعله مركزاً لحركته ونواة لمملكته.
فهو في هذه السبل إلى أن لقي مصرعه.
وقد جرب الثورة الحمراء في مقتبل عمره فأخفق، وعاد ممتطياً صهوة البيان، يغالب
الأقران ويصارع أحداث الزمان، وتغزوه الرزايا من كل مكان، وهو معتصم بالصبر ثابت العزم.
كان شاعرنا قوي الثقة بمكانته البيانية منذ حداثته، يقول في صباه:
إن أكن مُعْجباً فعُجْب عجيب
…
لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا ترب الندى ورب القوافي
…
وسِمام العدا وغيظ الحسود
وقال:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت
…
وإذا نطقت فأنني الجوزاء
وإذا خفيت علي الغبى فعاذر
…
ألاّ تراني مقلة عمياء
ولما تكاثر حساده واحتشدوا له وأسمعوه مر الهجاء قال:
أرى المتشاعرين غروا بذمي
…
ومن ذا يحمل الداء العضالا
ومن يك ذا فم مر مريض
…
يجد مرا به الماء الزلالا
وقل لعلي بن أحمد الأنطاكي:
دعاني إليك العلم والحلم والحجا
…
وهذا الكلام النظم والنائل النثر
وما قلت من شعر تكاد بيوته
…
إذا كتبت يبيض من نورها الحبر
كأن المعاني في فصاحة لفظها
…
نجوم الثريا أو خلائقك الغر
ويقول للقاضي أبي الفضل الأنطاكي:
لا تجسر الفصحاء تنشد ههنا
…
بيتاً ولكني الهزبر الباسل
ما نال أهل الجاهلية كلهم
…
شعري ولا سمعت بسحري بابل
ويقول لأبي العشائر:
شاعر المجد خدنه شاعر اللف
…
ظ كلانا رب المعاني الدقاق
ونظر إلى من حوله من شعراء سيف الدولة وفيهم الصفوة من سحرة ذلك العصر فلم يعتبرهم شيئاً مذكوراً:
خليلي إني لا أرى غير شاعر
…
فَلِمْ منهم الدعوى ومني القصائد
ويقول عن سيف الدولة:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق
…
أراه غبارى ثم قال له الحقِِ
وقد لحظ في شعره عناصر الخلود فقال:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
…
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
على أن اعتداد شاعرنا بإمامته في البيان لم يشغل باله كثيراً، إذ كان يقينه بهذه الإمامة أقوى من أن يحتاج إلى الجدال والنضال إلا حين يبخسه حقه بعض الشعراء، أو يغفل عنه بعض الأمراء، فينبه هذا ويجيب ذاك؛ وإنما الشغل الشاغل لذهنه تلك الأمنية التي عقد بها فكره وحبس عليها جهده، ومارس منها معشوقة خلابة جذابة، ولكنها لا تلين بحال، ولا تدين بوصال؛ فأكثر من التغني بها وهي لاهية عنه بالسود التنابيل:
سيصحب النصل مني مثل مضربه
…
وينجلي خبري عن صِمَّة الصِّم
لقد تصبرت حتى لات مصطبر
…
فالآن أقحم حتى لات مقتحم
إلى أي حين أنت في زي محرم
…
وحتى متى في شقوة والي كم
وإلا تمت تحت السيوف مكرماً
…
تمت وتلاق الذل غير مكرم
فثب واثقاً بالله وثبة ماجد
…
يرى القتل في الهيجا جني النحل في الفم
أعجب الأدباء بامرئ القيس حيث يقرن في شعره بين معاطاة الكؤوس ومشهد الحرب الضروس؛ قالوا: وهذا غاية في الشجاعة. أما شاعرنا فقد خلف امرأ القيس وراءه، وقصر كل لذته على اصطدام الصفوف بالصفوف ومقارعة الحتوف بالحتوف. طلب إليه بعض أصحابه أن يشرب معه فقال:
ألذ من المدام الخندريس
…
وأحلى من معاطاة الكؤوس
معاطاة الصفائح والعوالي
…
وإقحامي خميساً في خميس
فموتي في الوغى عيشي لأني
…
رأيت العيش في أرب النفوس
وقال في مثلها:
لأحبتي أن يملأوا
…
بالصافيات الأكْوُبا
وعليهم أن يبذلوا
…
وعلي ألا أشربا
حتى تكون الباترا
…
ت المسمعاتِ فأشربا
وقال:
ألا حبذا قوم نداماهم القنا
…
يُسَقونها رياً وساقيهم العزم
وكثيراً ما كان يفسح لهذا المطمح مجالاً في صدور قصائده التي يمدح به أمراء زمانه، وبذلك يتنكب نهج لشعراء في تصدير قصائدهم بالغزل ويتغزل هو بقدود الرماح وبيض الصفاح، ويتغنى بالجلاد والكفاح، فكأنه يقول لهم: لكم ليلاكم ولي ليلاي ولكل أن يتغزل بحبيبته. قال في صدر قصيدة يمدح بها علي بن أحمد الأنطاكي:
أطاعن خيلا من فوارسها الدهر
…
وحيداً وما قولي كذا ومعي لصبر
وأشجع مني كل يوم سلامتي
…
وما ثبتتْ إلا وفي نفسها أمر
تمرست بالآفات حتى تركتها
…
تقول أمات الموت أم ذعر الذعر
ولا تحسبن المجد زقاً وقينة
…
فما المجد لا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى
…
لك الهبوات السود والعسكر المجر
وفي صدر أخرى يمدح بها علي بن أحمد المري:
ل افتخار إلا لمن لا يضام
…
مدرك أو محارب لا ينام
أقراراً ألذ فوق شرار
…
ومراماً أبغي وظلمي يرام
دون أن يشرق الحجاز ونجد
…
والعراقان بالقنا والشام
ولم يفارقه هواه في ليلاه بعد أن حل بكنف سيف الدولة ووجد فيه ذلك الملك الهمام، ملء العين والسمع والفؤاد، فهو ذا يقول:
ولقد ذخرت لكل أرض ساعة
…
تستجفل الضرغام عن أشباله
تلقى الوجوه بها الوجوه وبينها
…
ضرب يجول الموت في أجواله
أما في مصر فقد صانع الأسود أولاً ثم لما أعياه أمره نفث من سمه ما شاء، وفارقه على تلك الحال المعلومة، حتى ضمته الكوفة إلى صدرها، وهناك أملى قصيدته المشهورتين المقصورة والميمية، وأودعهما ذلك اللهيب المتأجج، فمن قوله في الثانية:
ما زلت أضحك إبلى كلما نظرت
…
إلى من اختضبت أخفافها بدم
أُسيرها بين أصنام أشاهدها
…
ولا أشاهد فيها عفة الصنم
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي
…
المجد للسيف ليس المجد للقلم
أكتب بنا أبداً بعد الكتاب به
…
فإنما نحن للأسياف كالخدم
وهنا كرر إيمانه بهذه الحقيقة:
أسمعتني ودوائي ما أمرت به
…
فإن غفلت فدائي قلة الفهم
وهذا الإيمان لم يمنع شاعرنا من ارتياد عضد الدولة وامتداحه؛ فهل نتهمه بقلة الفهم على حد تعبيره هو؟ لا. والذي يلوح لنا من منطق الحوادث أن شاعرنا رأى يده فارغة وأن الإقدام على الثورة يتطلب رجالاً، ولا رجال في مثل ظروف شاعرنا إلا بالمال، فانطلق يلتمسه في مواطنه؛ ويظهر أنه جاء بما فيه البلغة، ولكن المنية حالت دون الأمنية، ولنا على هذا كلام يضيق الوقت عن بسطه.
والمال في نظر أبي الطيب إنما هو وسيلة إلى غيره، وقد اتهمه بعض حساده بالشح وفي طليعتهم أبو بكر الخوارزمي ذلك الشتامة الذي لم يسلم من أوضار لسانه إلا القليل.
وحالة شاعرنا تنطق ببراءته من هذه التهمة. أما أقواله فبرهان آخر:
وما حاجتي في عسجد أستفيده
…
ولكنها في مفخر استجده
غَثاثة عيشي أن تغث كرامتي
…
وليس بغث أن تغث المآكل
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
…
مخافة فقر فالذي فعل الفقر
بقى علينا أن نسأل من أين تسربت هذه الفكرة إلى رأس أبي الطيب؟ والجواب أن لنفسه المجبولة على التعالي أقوى نصيب في تكوين هذه الفكرة وتغذيتها وتنميتها، فقد خلق شاعرنا شجاع لقلب، أبي النفس، حمي الأنف، خصيب العقل، ملتهب الفطنة، فياض العاطفة، صباً بمعالي الأمور زاهداً في سفسافها.
والعامل الآخر في هذه الفكرة الأوضاع السياسية في البلاد الإسلامية يومئذ، فقد كانت هذه البلاد مسرحاً للفتن والدسائس، ونهباً مقسماً بين رجال الثورات وأرباب الدعوات وأهل الختل والغدر، وقد ساهم في ذلك حتى العبيد، وحسبك بكفور على ذلك مثالاً فقد صار:
يدبر لأمر من مصر إلى عدن
…
إلى العراق فأرض الروم فالنوب
فما بالك بفتى يعربي توفرت فيه كل أسباب السيادة ومزايا الرياسة؟
ولكن ما الحيلة وقد كبا به جده دون الغاية، وحالت المنية دون الأمنية؟ ولا ضير فقد سعى وليس عليه إدراك النجاح.
على أن الجد الذي خانه في ميدان السياسة، حلق به في سماء المجد الأدبي فأطلعه فيها شمساً تفيض بالنور على مر الدهور؛ وإن أخطأته إمارته السياسية فقد اعتزت به إمارته
الأدبية، وتلك فانية لأنها تدور حول الحطام، أما هذه فباقية على مر الأيام.
طه الراوي
المرأة المسلمة
في القرن التاسع للهجرة (الخامس عشر للميلاد)
بقلم الآنسة نعيمة المغربي
تطلع علينا مكتبة الأديب السيد حسام الدين القدسي بالقاهرة من حين إلى آخر - بطائفة صالحة من الكتب العربية القديمة، فينبش كنوزها الدفينة، ويعرض جوهرها على أنظار عشاق الأدب، وهواة لغة العرب، وهي خدمة موفقة يضطلع بها الأديب المذكور، ويقصد من ورائها خدمة ثقافتنا العربية القديمة وأبنائها الذين يقدرون حسن اختياره وحميد مجهوده. من ذلك أنه باشر طبع كتاب (الضوء اللامع) في تراجم رجال القرن التاسع تأليف المحدث الكبير والمؤرخ النقادة شمس الدين السخاوي؛ وهذا الأثر من أعظم آثار السخاوي وأكثرها شهرة، يقع في عدة مجلدات ضخمة، ظهر منها إلى اليوم اثنا عشر جزءا. وقد خص المؤلف الجزء الثاني عشر من كتابه بتراجم نساء القرن التاسع. وكثيراً م اقتصر على اسم المترجمة وتاريخ ولادتها ووفاتها والإجازة التي تلقتها من شيوخها إن كن ثمة إجازة. ومع هذا فالباحث يستطيع أن يستخرج من (الضوء) فوائد جمة ذات قيمة تزداد وضوحاً كلما أوغل المطالع في مطالعته وازداد للمؤلف صحبة في تتبع أخبار من ترجم من نساء عصره، فهو يقع من وقت إلى آخر على حوادث طريفة وفوائد ممتعة من أحوال نساء ذلك العهد.
والكتاب يشتمل على ترجمة ألف امرأة ونيف؛ وهو عدد كبير لا يسعه كتاب واحد لو أن المؤلف توخى الإسهاب والإطالة، ولكنه لجأ إلى الإيجاز وإهمال التفاصيل كما مر. ولا أعرف السبب الذي حدا بالمؤلف رحمه الله إلى ذكر بعض نساء عصره م دام أنه لم يظفر من أخبار حياتهن بما يستحق الذكر والتدوين. وكنت أرجع أحياناً إلى كتاب (شذرات الذهب) بغية زيادة الاستيثاق من ترجمة بعض من ترجم المؤلف لهن، فأجد صاحب (الشذرات) أيضاً قد نحا منحى (صاحب الضوء) في الاختصار والاقتصار على الاسم والوفاة. ولعل عذر المؤلفين في ذلك أن نساء عصرهم كن ذوات حياة مختصرة فتبع ذلك اختصار في الترجمة، وقد يكون السبب في ترجمة هؤلاء في (الضوء اللامع) أنهن يمتتن إلى مؤلفه بقرابة أو تلمذة أو جوار أو صداقة والد؛ كما لمحنا ذلك في تراجم كثيرات منهن.
وما يدرينا أن بعضهن كن يكلفنه ترجمتهن حباً لتخليد ذكرهن ولو بالاقتصار على اسمهن، وهذا كما يفعل بعض نساء زماننا؛ (بل وبعض رجاله) إذ يرغبن إلى رجال الصحافة أن يذكروهن في صحفهن مباهاة بين أترابهن.
وعلى كل فأن هذا الجزء روض نسائي حافل بشتى أنواع الأزهار والرياحين؛ تقرؤه بلذة وشغف، إذ تتوفر لديك فيه النماذج المتنوعة عن المرأة المسلمة في ذلك العهد الذي ساد أو بدأ يسود فيه الانحطاط. ولعل أبرز طابع في (الضوء) هي الصراحة التي امتاز بها المؤلف في معظم ما كتب وخلد من أثر، وفي هذه الصراحة ما يشوق القارئ ويُغريه بالمطالعة ومرافقة المؤلف إلى النهاية.
أتى المؤلف على طائفة كبيرة من نساء عصره وعرض علينا من أحوالهن وجوهاً مختلفة وأشكالاً متعددة ونفسيات متباينة وعقليات متغايرة. فمنهن المحدثة العالمة، والحافظة البارعة؛ ومنهن التقية الورعة والمحتسبة الصابرة؛ ومنهن الحبشية السوداء والجركسية الحسناء، ومنهن سليلة الملوك والسلاطين؛ ومن أثر فيها كيد الحاسدين وسحر الساحرين. يذكرهن لنا كما عرفهن ووصلته أخبارهن. وكثيرات منهن عاصرن المؤلف وكن من المعجبات به المعتقدات بسعة فضله وغزارة علمه.
ففي القرن التاسع للهجرة كانت المرأة المسلمة في مصر والشام برغم ما يعزى إليها من تأخر تتلقى عن الأئمة ويتلقون عنها. يجيزها العلماء وتجيزهن؛ يناظرها الأدباء وتناظرهن؛ تحفظ دواوين الشعر وتروي عن الشعراء؛ ذات فكر ثاقب وقريحة نيرة ورغبة ملحة في التحصيل، لا يعتريها سأم ولا ملل في طلب العلم والأخذ عن أساطينه، وحفظ كتب الفقه والأدب، ودواوين الشعر والمذاكرة فيها.
ومما يلحظه المطالع أن معظم نجوم (الضوء) لمعن في سماء مصر وتفيأن ظلال نخيلها وارتوين من ماء نيلها؛ واغترفن من بحار علومها. وقد أحببت أن أحصي الشواعر فلم أظفر بسوى واحدة نظمت الشعر وكان بينها وبين المؤلف وسواه من العلماء مساجلة ومناظرة، فهي تشبه من هذه الجهة شاعرة الشام في القرن العاشر للهجرة لسيدة عائشة الباعونية المدفونة في صالحية دمشق. ومن هنا يتبين أن إقبال النساء على قرض الشعر في ذلك العصر أعني القرن التاسع كان قليلاً، وكانت جل رغبتهن يومئذ في تلقي علوم
الحديث وروايته. وللبيئة - ولا ريب - أثر في خلق هذا الميل فيهن وطبعهن بهذا الطابع.
والشاعرة الوحيدة التي ذكرها (السخاوي) وترجمها ترجمة مفصلة هي (فاطمة) المشهورة بلقب (ستيتة) ابنة القاضي كمال الدين محمود بن شيرين الحنفي. قال المؤلف ما نصه:
(ولدت كما كتبته لي بخطها في سادس المحرم سنة خمس وخمسين وثمانمائة بالقاهرة ونشأت فتعلمت الكتابة وتزوجت الناصري محمد بن الطلبغا ثم مات عنها فتزوجها العلاء علي بن محمد ابن بيبرس حفيد ابن أخت الظاهر برقوق فاستولدها بيبرس، ولاحظ لها في ذلك مع براعتها في النظم وحسن فهمها وقوة جنانها حتى كانت فريدة فيما اشتملت عليه. وقد حجت وجاورت وسكنت بجوارنا. ومما كتبت به إلي بعد مجيء الخبر بموت أخويَّ من نظمها:
قفا واسمعا مني حديث أحبتي
…
فأوصاف معناهم عن الحسن جلت
أناس أطاعوا الله نارت قلوبهم
…
وأيصرت الأشياء من غير نبأة
وقد كوشفوا عن كل ما أضمر الفتى
…
ونارت قلوب منهم ببصيرة
ومنها:
أثابكم ربي وعظم أجركم
…
على فقد أحباب وأحسن جيرة
كرام سموا علماً وحلماً وسؤددا
…
وكنتم بهم في غبطة ومسرة
قطعتم لذيذ العيش وصلاً بقربهم
…
فوا أسفا عند الفراق وحسرة
ومم كتبه إليها المؤلف مجاوباً: (يا بديعة المعاني، ورفيعة المباني، ومن فاقت الكثير من الرجال فضلاً عن النساء، وراقت أبياتاً فحاكت الخنساء؛ حفظ الله تعالى دينك ودنياك الخ).
ولها أشعار كثيرة وقصائد مطولة تدل على مبلغ اجتهادها في تحصيل العلم والأدب. ولها أيضاً مطارحات شعرية مع بعض الأدباء رجحوها بها عليهم.
ومما يستحسن ذكره ومرت الإشارة إليه أن المؤلف ذكر ترجمة موجزة لبعض قريباته: منهن جدته وعمته وابنة شقيقه وأخته بالرضاع ووالدة امرأته التي أصيبت بالفالج وماتت عقب ذلك لدى سماعها خبراً مكذوباً عن وفاة المؤلف وابنتها زوجته وهما في الحج. وكذلك جاريته (أبرك) الحبشية (التي كانت ضابطة لبيتهم قانعة صافية).
ومن يتأمل الكتاب وتراجم نسائه يلمح وقوع أمور في ذلك العصر لا يزال يقع مثلها في
عصرنا الحاضر مع تقادم العهد وتطاول الزمن: فمن هذا القبيل:
(سعادات) ابنة الشيخ نور الدين البوشي. تزوجها البقاعي بعد موت والدها ونالها منه من الذل ما لم يكن لها في حساب، بل نال طلبة أبيها من أجل مساعدتها ما شاء الله، وكذا مس أخاها منه كل سوء فلم تحتمل وسألته الطلاق بعد ولادتها منه وأشهدت عليها أنها متى رامت نظر الولد أو أخذه كانت ملتزمة بخمسمائة دينار، وسمحت بمفارقة ولدها ومهجتها مع مزيد حبها له). وكذلك (فاطمة) ابنة الحنبلي تزوجها سبط العز الحنبلي عز الدين محمد بن الشهاب الجوجري فلم يحصل التئام ففارقهما بعد بذل له وإبراء).
وما كان المؤلف ليحجم عن انتقاد ما يجب انتقاده من أحوال مترجمات كتابه:
(إلف) ابنة القاضي علم الدين البلقيني، تزوجها عبد القادر ابن الأحمدي، ثم عبد القادر بن الرسام الحموي، ثم أمير المؤمنين المستنجد بالله يوسف، ثم فارقها واتصلت بابن عمها البدر أبي السعادات بعد موت زوجته أختها وأقبلت حينئذ على الخير وقررت في مدرسة جدها عند قبره قرّاء في كل يوم، وقامت بأمر المدرسة وبتفقد الفقراء والأرامل، وتزايد ذلك بعد موت ولدها حتى صارت فريدة في أقربائها وأمثالها، ورتبت قرّاء يقرءون عندها الحديث والتفسير)، إلى أن يقول:(ولا أحمد كثيراً من تصرفاتها خصوصاً فيما يتعلق بالأيتام).
وكنا نرغب لو أن المؤلف كان أكثر إيضاحاً فيذكر لنا ما لم يعجبه من تصرفاتها وهي التقية الصالحة التي زخرت حياتها بعمل البر والإحسان.
وقد قص علينا حادثة لعب فيها السحر دوره، وذهب ضحيته نفسان بريئتان لا نعلم مبلغ التهمة المنسوبة إليهما من الصحة.
(شيرين) الرومية، هي أم الملك الناصر فرج بن برقوق، ولما تسلطن ابنها صارت (خوند الكبرى) وسكنت قاعة العواميد بقلعة الجبل بعد أن تحولت منها (خوند ازد) زوجة سيدها، ولم تلبث إلا يسيراً حتى تعللت ولزمت الفراش، وكثرت القالة بسببه، واتهم جماعة بسحرها، وظن ابنها أن ذلك من بعض الخوندات زوجت أبيه وبغضاً، لأنها مع كونها بارعة الجمال سارت سيرة جميلة من الحشمة والرياسة والكرم مع الاتضاع الزائد والخير والدين. ولها معروف ومآثر حسنة، جدّدت بمكة رباط الخوزي ووقفت عليه وقفاً وأصلحت
ما كان تهدم منه. ماتت في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانمائة ودفنت بالمدرسة البرقوقية رحمها الله. ذكرها شيخنا في (إنبائه) باختصار وقال: (كانت كثيرة المعروف والبر). زاد العيني: (واتهمت جارية بسحرها فضربت حتى اتهمت نصرانياً كاتباً فعوقب فلم يقرّ فحبس حتى مات هو والجارية).
وما زال هذا الضعف الخُلقي في الخوف من السحر والاعتقاد به سائداً إلى اليوم في الأقطار العربية على اختلاف بينها في درجة ذلك، وحوادث ملوك الجان، ما زالت ترن في الآذان.
والكتاب مفيد لا تمل قراءته ولا تسأم صحبته. فهو كالبستان فيه من كل فاكهة زوجان، وما أحوجنا إلى مطالعة أمثال هذه الكتب التي ترينا صورة واضحة جلية عن حياة نساء تلك العصور وتطلعنا على درجة ثقافتهن، وطريقة تعلمهن. والكتب في تراجم النساء مما تركه لنا السلف قليلة جداً وهذا منها، ولا تنس الجزء الثامن من طبقات ابن سعد الخاص بالصحابيات رضوان الله عليهن.
(دمشق)
نعيمة المغربي
نزهات في الخريف
للكاتب الفرنسي جوستاف دروز
ترجمة السيد حسين رفعت
اطَّلعت على الخريف في حقوله الوسيعة، وعواصفه المريعة وتنهداته الذاهبة في الفضاء، وأوراقه الذابلة الصفراء، وهي تترنح بين أنفاس الجو ونسمات الريح؟؟
أعرفت مخارفه المبتلة، وشمسه المعتلة، وأشعتها الواهنة، الواهنة في مثل بسمة العليل وضحكة المضني؟
أبصرت بضحضاحه الراكد ومائه الراقد في جنبات الطريق؟ أعرفت كل هذا؟
إن كنت علمته فأنت غير خال من التعصب له، أو التحامل عليه، كما أحبه بعضهم فجنوا به، وكرهه آخرون فتطوعوا لسبه. أما أنا - علم الله - فهو أثير عندي، حبيب إليْ. ولخريف واحد أثمن عندي من صيفين وأجمل. فأنا أهيم بقطع اللهب الكبيرة، وأستريح بمقربة المدفأة المتواضعة، وكلبي ممدد ساكن بين دزلكي المبلل الرطب، ومقعدي الدافئ الوثير.
وكم يحلو لك التأمل في سعير اللهب المضطرب، يلعق بأنيابه الدقيقة قطع الحديد العتيقة، ويضيء الظلمات النائية البعيدة.
وتسمع زفيف الريح في أهراء القمح، ويطرق أذنك صرير الأبواب ونباح الكلاب، وقد تمردت على سلاسلها الحديدية ومقاودها المعدنية. وتميز برغم دوي الغابة الملاصقة وهي تزمجر بظهرها المقصوف صراخ الأغربة القاتم، وهي تصارع العاصفة وتنازل الرياح القاصفة.
وتشهد الوسمي يقرع ألواح الزجاج الصغيرة، فتفكر في هؤلاء الذين هم في الخارج وأنت تمدد رجليك نحو المصطلى.
أجل أنا جد مفتون بالخريف، وصغيري العزيز يهواه كما أهواه. وليس مظهر جماله ومبعث جلاله في اجتماع العائلة حول الموقد، ينعمون بدفئه المثير، ولآلائه الكثير، وإنما له أيضاً من عواصفه الهوج، ورياحه الداوية، وأورقه الذاوية ما يحبب إلى النفس المجازفة بين هذه الأنواء الصاخبة، وتلك الرياح الغاضبة.
وكم من المرات ذهبنا كلانا نرود الحقول والمزارع، بين سفعات القر، وتلبدات السحب، وقد أحسنا الكساء، وأثقلنا الرداء، ولبسنا أحذيتنا الضخمة المتينة، فكنت أرتفق سعده وآخذ عضده، ثم نسير دون اتجاه معين ولا غرض مقصود.
وكان حينئذ لم يتجاوز الخامسة من عمره، ولكنه يخب في مشيته خبب الرجال؛ فكنا نأخذ الطريق الضيقة المفروشة بالأعشاب النضرة السوداء، خلال أشجار الحور الرمادية التي كانت تسمح للعين بأن تخلص إلى ما وراءها من الأفق، وتخترق ما دونها إلى بسمات البرق، فتلمح في قرارة البعد تحت السماء البنفسجية صفحة من العصائب الصفر الباردة، وتشاهد سقوف الأكواخ المتهدمة، ورؤوس المداخن المتداعية، تتصاعد منها سحب رهوة في زرقة لطيفة كأن الريح تطاردها بعنف وتصاعدها بقسوة.
وكان طفلي الصغير يطفر من المرح وقد أمسك بيده قبعته حذراً من أن تطير، وكان يحدجني بعينيه الرجراجتين تحت فيض المدامع وقد ضرج البرد وجنته، وفي مؤخر أنفه لؤلؤة صافية قد أشرفت على السقوط، وكان على ما به فرحاً مسروراً. وكنا نقطع السهل الرطب وقد حفت جوانبه بنمير النهر العذب، وزينت شواطئه بالقصب المتشابك، وعرائس النيل المتلاحمة وزهور النهر المتنوعة.
وكنا نشاهد قطعاناً من البقر وقد غاصت حتى أعالي سوقها بين الأعشاب السامقة، وهي ترعى في سكون واطمئنان، وفي حفرة صغيرة عند جذور شجرة من الحور تجثم طفلتان متناظرتان في جلستهما في ظل معطف كبير، وقد لفهما إليه وجذبهما عليه؛ وهما ترعيان رعيلهما والرجلان نصف عاريتين في الحذاء الممزق، والوجهان المرتجفان قد برزا من واقية المطر.
وكان يقتطع علينا سيرنا المجد - في الفينة بعد الفينة - غدران واسعة قد عكست عليهما صفحة السماء الخافتة، فكنا نتريث برهة على ضفاف هذه البحيرات، وقد داعبت صفحتها ريح الشمال ونشاهد الأوراق الطافية وهي تساقط من أعالي الأشجار، وتسبح في مهاوي الريح، وتثوي على وجه المستنقع، فأحمل طفلي الحبيب بين ذراعي ونجوز العدوة الأخرى فنشاهد في أطراف الحقول السمراء الخاوية المحراث المقلوب، والوتد المنصوب، وعسالج الكرم المعراة قد امتدت على الأرض، والحمائل الصلبة الرطبة قد تجمعت أكواماً،
وتكدست أقساماً.
(حلب)
حسين رفعت
المجاهد
للأستاذ عبد الحليم عباس
هات لي عتادي.
فقد انتهت المعركة بيني وبين نفسي. هي تريدني أن أقرّ، وأريدها تحيا ساعةً من نهار في جحيم المعركة؛ وهي تريدني أن أعيش في الحياة، وأريدها أن تسعد مع الموت.
هاهو ذا الظلم مستعلياً أبداً، كشأنه في كل عصر؛ لا أزعم أني سأمحقه، فقصارى الجهد أن أضع من جمجمتي حجراً في الزاوية.
هات لي عتادي.
فما قيمة العمر يمضي، وصليل القيد يصك سمعي، ورؤية الظلم تُعشي نواظري وما الحياة إن خلت من جمال الحق وعظمة الحرية، إلا جبُ منتن أكبرنا فيه حشرة.
هات لي عتادي.
فلو عرف الناس لذة الحياة لقدَّسوا الموت، ولو ذاقوا حلاوة الإيمان بالحق لدلفوا طُعمةً للنار. . . وما خير عيشٍ يرين عليه الظلم، وما لذةُ حياةٍ كل ما فيها متعة للظالمين؟
هات لي عتادي.
فلست أرهب موتاً يتساوى فيه الشقيُّ مع السعيد، والراسف بالقيد مع الذي قيَّده، فرب جفنٍ ما رقأت دموعه، ورب قلبٍ ما التأمت كلومه، وجد له في الموت وفي ظل القبر برد الراحة وهناوة العزاء.
هات لي عتادي.
وتعالي انظري عزة الحق الأعزل، واستخذاء الباطل المسلح. . . هاهما يتلاحمان. . . فلمن الغلبة؟ أللباطل فقديماً غَلَب، أم للحق فتلك ومضات في حلوكة التاريخ؟
منذ ساعة فتحَّ الحق عيني، وأنار الإيمان قلبي، فرأيت مواكب الأحياء على حقيقتها سائرة تتململ ولا تشكو، وتجرع الغصة ولا تئن، ورأيت الحقَّ فيما بينها مهيض الجناح، مشنوءا حامله، فعلمت أن من يعرف الحق ويؤمن به كل عمره، مهما طال - ساعةً من نهار.
منذ ساعة فتحَّ الحق عيني، فرأيت الإنسانية، ترجع إلى الوراء فعلمت أنه إن لم يصدها الإيمان، وتلتقي بها القوة المؤمنة، فغير بعيدٍ ذلك اليوم الذي تحتفل به لأكل لحم البشر!
وسار المجاهد، رافع الرأس، منتصب القامة، يتلألأ على وجهه نور اليقين، ويرف عليه روح من الحق، قال وكأنه يخاطب نفسه:
ليست حقيقة الحياة في الحياة، وإنما هي فيما وراءها؛ وليس الموت في سبيل الحق غير اتحاد بهذه الحقيقة التي هي (الله).
للفضيلة دربٌ مختصر، وهو أن تضع بدل كلمة (أنا)(نحن)، والحجة القاطعة على أنك وضعت هذه بدل تلك أن تكتبها بدمك، لتقيمها على حجارة رمسك.
ليس العمر مجموعة أيام، وإنما هو سجل أعمال؛ فرب كهل لم يعش غير أيام، ورب فتىً لا تحصر عمره الأعوام؛ فإذا لم يك من الموت بد، فلم لا تزد بعمرك ساعة جهاد، لتطاول الحقب ولتدرج مع الأجيال؟
يقولون إن الجهاد بابٌ من أبواب الجنة، أتدري لماذا؟ لأن من يستعلي على الظلم ساعة في ساحة الموت، يشارك الحكمة الأزلية في عملها، وهي الجهاد لتثبيت الحق، في هذه الأرض. فمحالٌ أن ترضى الحكمة الخالدة في غير نزوله في كنفها. . . . . في الجنة.
وطويت الأرض تحت قدمي المجاهد، فسار يلفُّ السهل بالحزن، ويطوي البيد، حتى شارف المعركة، فوقف يتأملها برهة، وقد فاضت عليه قدسية الجهاد، والتمعت عيناه ببريق جميل، هو بريق عظمة الموت، فأخذ يتمتم:
إيه يا وطني! سماؤك وأرضك، جبالك الشم ووهادك الفيح، كلٌّ لها في القلب موطن حرمةٍ وجلال. تمنيت أن لي ألف نفسٍ أفديك بها، ولكنها نفسٌ واحدة، فدونكها جهد المُقل.
إيه يا وطني! مهبط الذكريات، ومغدى الأمل، غذتني تربتك، وبعثت فيَّ الحياة نسماتك؛ ليس الظلم المخيم على ربوعك إلا جزءاً من الظلم المنيخ على العالم بكلكله، وفي هذا بعض العزاء.
إيه يا وطني! هانحن أولاء تسارعنا لنجدتك، لا نطلب خلوداً، فإننا نعرف التاريخ لا يتسع صدره لذكر أمثالنا. ليس التاريخ إلا سير العظماء، وهيهات أن تعرف الدنيا إلا ضرباً واحداً منهم، أقواهم وأقدرهم على الفتك والظلم الذي زحفنا لصدامه، ولسنا نطلب جاهاً أو متاعاً من متاع الفانية فإننا نعرف أن التكالب على الجاه في ظل العبودية، قتالٌ على الجيفة، تقوم به طائفة نسميها الكلاب.
ولكننا آثرنا الموت على الحياة، لتزهو الحياة في يوم، وليسعد فيها هذا البشر اللاغب المتعب. . وثرنا لأننا علمنا أن الموت في سبيل الحق حياةٌ رائعةٌ مديدة. . . ودوت قنبلة أعقبتها طلقات، فانتفض المجاهد وانحدر يهدر كالسيل الأتيّ. . . إلى المعركة، إلى الموت! وما هي إلا ساعة حتى استشهد، فقد كن يقاتل كالمجنون!
أين المجاهد؟!
أما جسمه (فكم مقلةٍ في منقار طائر، وكم خد عتيق، وجبين رقيق، قد فلق بعمد الحديد).
أم روحه فقد مشت كالنسيم، توقظ الرمم، وتدفع الأمم إلى الموت في سبيل الحرية. . .
(شرق الأردن)
عبد الحليم عباس
3 - لمعات
مهداة إلى شاعر الإسلام وفيلسوفه محمد إقبال جواباً لكتابيه
(أسرار خودي) و (رموز بي خودي)
للدكتور عبد الوهاب عزام
جال في الظلماء صوت هاتف
…
فظلام الليل منه راجف
مدّ في الظلماء نوراً من نغَمْ
…
مُزّقَتْ منه دياجير الظُلم
أشُعاعٌ فيه صوت صائح
…
أم كلام منه نورٌ لائح؟
أذِن الركب لهذا المنشد
…
أطرب الناشدَ صوت المنشد
سال في القلب مسيل المطر
…
ينبت الروح بسهب مُقفر
أو خرير الماء من نبع زلال
…
بشّر الغارق في بحر الرمال
رنّ في نفسي رنين الجرس
…
صاح في أذني فقيد مُبلِس
طوت البيداءُ عنه السابلة
…
وهداه الصوت شطر القافلة
سبق القلبُ إليه الأذنا
…
كبلال لصلاة أذّنا
دار قلبي شطر هذا المطربِ
…
دورة الإبرة شطر القطُب
(غنّني يا مُنيتي لحن النشور
…
ابركي يا ناقتي. تم السرور
عُدت يا عيدي إلينا. مرحباً
…
نعمَ ما روّحتِ يا ريح الصبا)
حبذا الصوت فمن هذا البشير؟
…
ومن الهاتف بالقلب الكسير؟
ومَن المسعد في هذي الهموم؟
…
ومن البارق في هذي الغيوم؟
ومن الهابط في نور السما
…
هادياً في الأرض جيلاً مظلما؟
ومن الهادي إلى أرض الحبيب
…
يعرف النهج وقد حار اللبيب؟
ومن السائق شطر الحرَمِ
…
وإلى الأصنام سير الأممِ؟
ومن القارئ في بيت الصنم
…
سورة الإخلاص في هذا النغم؟
ومن الحرّ الذي قد حطما
…
في قيود الأسر هذا الأدهما؟
ومن الآبي على كل القيود
…
ومن القاطع أغلال العبيد؟
ومن الباعث في ميْت الأمم
…
ثورة العزة من هذي الهمم؟
لاح كالغُرة في هذا السواد
…
بصّ كالجمرة في هذا الرماد
جرف الناس أَتِيٌّ مزبد
…
ضل فيه المقتدي والمرشد
وطغى اللج عليه والتطم
…
فرسا كالصخر في هذا الخضمّ
عارض الموج على أغماره
…
وطوى اللج على تياره
سبح اللج وبالشط استقر
…
داعياً والناس غرقى في النهَر
يجرف التيار جسما جامدا
…
تقذف اللجة قلباً خامداً
إن عزم الحر بحر مزبد
…
جائش في الدهر لا يتئد
هذه الأقدار في تسيارها
…
همم الأحرار في أسفارها
ومَن الشاعر يذكي القافية
…
فهي نور وهي نار حامية؟
تقشعر الأرض من أوزانه
…
ويهيم النجم من ألحانه
وكأن الدهر صوت كُتبا
…
قد حكاه الشعر صوتاً مطربا
هو بالأشعار بحر فائض
…
وهو للأزمان قلب نابض
حدّثته الأرض عن أخبارها
…
وحبته الزهر من أسرارها
هو بالأمس خبير بغدِ
…
وهو اليوم نجيُّ الأبد
كشف الله عن الغيب له
…
فلسان الغيب يُملي قوله
عرف الشرق وراد المغربا
…
فانجلى السرّ له. ما كُذِبا
فرأى العلم سبيلاً للردى
…
إذ رأى القلب خلياً من هدى
صوت (إقبال) على شط المزار
…
أسمع اليقظان في هذي الديار
(يتبع)
عبد الوهاب عزام
على الشاطئ
يا شراع. . .!
بقلم أحمد فتحي مرسي
اتئد واجرِ في لعباب رُوَيداً
…
واسرِ في اليمِّ آمناً يا شراع
يلثم الماءُ صفحتيْكَ، ويمضي
…
ويحييكَ في الشروق الشعاع
قد مضيتَ الغداةَ تنسابُ في الما
…
ءِ كما انساب في السطورِ اليراع
وكأنَّ المياهَ شِقَّا مِقَصٍّ. .
…
صاغَهُ ماهرُ البنانِ صنَاع
فإِذا جئت مُقْبِلاً فافتراقٌ
…
وإذا رُحت مُدبِراً فاجتماع
لهف نفسِي عليك في لُجّةِ اليمِّ (م)
…
ولليمِّ ثورةٌ ونزاع
حارَ ربانُكَ القديرُ لَديْهِ
…
أخفقت حِيلةٌ، وأقصر باع
وادلهمَّ الفضاءُ واشتدت الري
…
يح فُصُمَّتْ لهولِها الأسماع
وكأن المجدافَ إذ يضربُ الما
…
َء وللماءِ رجّةٌ واندفاع
طائرٌ في شراكِهِ يتلوَّى
…
ولرجليهِ في الشباك صراع
أيهذا الذي تولى بعيدا
…
لك منى تحيةُ ووداع
يا عروسَ العباب قد زفّها الطيْ
…
رُ وراقت من حولها الأسجاع
وبناتُ الهديل في البرِّ تشدو
…
ردَّدَ السهل شدَوَها واليفَاع
ومياهُ العبابِ ترقُصُ نشوى
…
فانخفاض على المدى وارتفاع
يا غريباً عن الحمى ووحيداً
…
أترى أنت في النوى ملتاع
أنت في لجة الحياة مضاعٌ
…
وكذا كلُّنا لديها مُضَاع
وخداعٌ هذي لحياة. فهل يُغْ
…
ريك من جانب الحياةِ الخداع
حولك اليمُّ في جلال وصمت
…
سيِّد آمر، ومَلْك مطاع
ثابت في الخطى يروقك لينٌ
…
في خطاهُ وهدأةٌ واتداع
فاتئد واجر في العبابِ رُويداً
…
واسر في اليمِّ آمناً يا شراع
أحمد فتحي مرسي
أغنية
في سكون الليل في صمت الهدوءْ
…
في شعاع القمر المنسكب
زورق ضمَّ ملاكين سرَى
…
يتهادى فوق شطِّ العرب
فوق غصن البان
…
رفرف القُمْري
يُنْشِدُ الألحان
…
بالهوى العُذْري
أنتِ عطر مجنّحٌ شفقي
…
طاف يذكو على الفضاء ويعبق
أنتِ معنى مقدس علوِيّ
…
شعَّ نوراً في مهجتي يتألق
أنتِ حلم منور ذهبّي
…
هلَّلَ القلب مذ رآه وصفق
علمي الغيد التثني
…
كيف بالله يكون
غرد الطيرُ فغنَّى
…
حبذا منكِ اللحون
(البصرة)
ع. خ. طه
قبل النوى
للسيد إلياس قنصل
كفكفي هذه الدموع الغوالي
…
إنها بين أضلعي جمرات
أمر الدهر أن نلوّع بالبع
…
د، وليست تردُّه العبرات
واحفظيها لمن يعيش خليا
…
وأمانيُّ نفسٍه ذاويات
قد يكون الشقاء في الحب لكن
…
حيث لا حبّ لا تكون حياة!
كفكفي هذه الدموعَ فلن يُدْ
…
رِك منا البعاد ما يتمنى
إن يكن حب غيرنا ثمراتٍ
…
تشتهي في ابتدائه، ثم تُجْني
فهوانا عواطف عاليات
…
نفث الطهرُ بينها ألف معنى
والشعور الذي تغلغل في القل
…
ب وأمسى من نبضه ليس يفنى
كفكفي هذه الدموع الغوالي
…
إن لله مأرباً يخفيه
وليحلْ شوقنا الملح سروراً
…
بكؤوس من الرجا نسقيه
وليكن صبرُنا على البعد قربا
…
ناً إلى معبد الهوى نهديه
ليس يبغي عنادنا الدهر لكن
…
جوهر الحب أن نعذَّبَ فيه!
(عاصمة الأرجنتين)
إلياس قنصل
القصص
قصة مصرية
القبلة الأولى و. . . الأخيرة!
للأستاذ دريني خشبة
(الحوار في الأصل باللهجة المصرية)
كان ذلك في مصحة. . . .
وكانت فتاة شاحبة ذات عينين كبيرتين شاعريتين، تطل منهما نفس حزينة متألمة، تارة تحلق في السماء تدعو الله اللطيف وتصلي له، وتارة تنظر إلى المصحة التي اجتمعت فيها أمراض وأحزان وأماني؛ وكانت تجلس فوق مقعد منفرد في زاوية منعزلة في الحديقة الصينية التي تكسبها التماثيل البوذية والظُّلات والرابية الكبيرة ومساقط المياه ذات الخرير جلالاً ورونقاً وهدوءاً يشبه موسيقى الأرواح الباكية التي ترفرف أبداً في سماء تلك المصحة الرحيمة.
وكانت الفتاة تسبل فوق رأسها شُفوفاً من الحرير البنفسجي تداعبه نسمات الحديقة كلما هبت رُخاءً في ناحيتها. . . ولكنها تركت السماء كلها، بما تفيض به من رحمة ولطف، واتجهت بكل روحها إلى نافذة بعينها في المصحة، وراحت تحدق فيها تحديقاً شديداً، ثم أخرجت من (شنطته) منديلاً صغيراً وضعت فيه لآلئ غالية كانت أوشكت تنهمر من عينيها.
وكانت الشمس قد آذنت بغروب، وكانت تصب ذهب أشعتها على نوصي التماثيل الرائعة، ولكنها كانت تصب أكثر هذا الذهب على ناصية بوذا الأكبر كأنها تستهزئ به، لأنه إله من حجر! وكانت ألف فكرة تزدحم في رأس (سِهام) كلما تقَشَّعت الشمس قليلاً قليلاً عن رأس لتمثال، فتبتسم ابتسامة ساخرة. . . وتخفي دمعة كبيرة في منديلها الصغير.
وأقبلت جارية (حبشية) فحّيت لفتاة، وأشارت إليها سهام فجلست عند طرف المقعد المنفرد المصنوع من جريد النخل. . .
- (سيدتي!).
- (. . .؟. . .).
- (أرسلني ألبك الكبير أناديك).
- (ولماذا عاد مبكراً هذا المساء؟).
- (لا أدري، وهو يقول إنه يود أن يشرب الشاي مع سهام هانم).
- (وإذا لم تكن لسهام رغبة في الشاي ولا في القيام من هنا فـ. . .).
- (سيدتي! ألا ترحمين شبابك؟).
- (أرحم شبابي كيف يا مسعدة؟).
- (مِن هذا الذي أنت فيه!).
- (وماذا أنا فيه يا مسعدة؟).
- (الكر المتصل والحزن الذي لا حد له. . .).
- (أشكرك يا مسعدة. اذهبي فاعتذري عني للبك - أنا لم أعد أحب الشاي في هذه الساعة).
- ولم في هذه الساعة؟).
- (لأنها كنت أول شكواه من هذا المرض الخبيث، ومن يدري، فربما كانت أول شكواي أنا أيضاً. . .).
- (يا سيدتي ارحمي شبابك قلت لك. إنها أيام ويغادر المصحة سليماً معافى، ألست تثقين في تأكيدات الدكتور؟).
- (الدكتور؟. . . أنت طيبة القلب يا مسعدة! أنت طيبة القلب جداً).
- (الدكتور يؤكد أن سيدي نادر بك يتعافى يومياً، وسيتماثل للشفاء قريباً، وأن أرى أنك تتلفين صحتك بهذا اليأس الذي يدمي قلبك ويجرح نفسك ويقرح عينيك؛ سيدتي سهام هانم: ألا تسمعين نصيحتي؟).
- (وأي نصيحة يا مسعدة؟).
- أنت شبة جميلة، والمستقبل أمامك مشرق بسام، والدنيا مقبلة تكاد تتمرغ تحت قدميك و. . . أوه. . . لا أجرؤ أن أقول. . .).
- بل قولي يا مسعدة، قولي. . . أنا شابة جميلة. . . والمستقبل أمامي مشرق بسام. . .
والدنيا مقبلة تكاد تتمرغ تحت قدمي. . . . . . الله الله يا مسعدة. . . ثم ماذا؟).
- (سيدتي سهام. . . إني أعتذر!!).
- (تعتذرين! تعتذرين من أي شيء! بل لابد أن تقولي ألستِ (داده) يا مسعدة).
- (لا. . . لا أجرؤ. . .).
- (لا تجرئين على أي شيء يا مسعدة. . . إن لم تقولي فإنك تحزنينني).
- (ولكن على شرط. . . إن لم ترقك الفكرة فلا تضمريها لي).
- (لك هذا يا مسعدة).
- (ألا تستطيعين أن تصرفي قلبك عن نادر بك. .).
- (أهذه نصيحتك أيتها العجوز! اذهبي فلن أشرب شاياً قلت لك).
- (أ. . . أ. . .).
- (اذهبي. . . اذهبي).
- (يا مسعدة قلت لك لا شأن لك بسهام ونادر، لقد كان يعبدها قبل مرضه. وكان يوشك أن يخطبها لولا وفاة والدته. . . وهي أيضاً تحبه حباً يمتزج بكل قطرة من دمائها، إنها تكاد تجن من أجله. . . إنها لا تنام أبداً، و. . .).
- (وماذا يا عثمان. . .).
- (وهي تنسرق كل ليلة إلى المصحة وتزوره، وأخشى أن تكون أصيبت بمرضه، لأني أسمعها تسعل كالمسلولين. . . مسكينة. . .).
- (لا قدر الله يا شيخ. . . إنها حزينة فقط، وأنا لا أدري لحزنها سبباً، فألف شاب جميل غني يتمنون أن تصبح لأحدهم زوجة. . ولكنها تأبى إلا أن تسمع لقلبها. . قُتل الحب، إنه لا عقل له! لقد كلمني اليوم عصام بك وألح علي في محاولة التأثير عليها، وهو يضع كل ما يملك رهن تصرفها، فماله هذا الشاب الوجيه؟! صحة وثروة وأسرة. . . وشباب!).
- (يا ابنتي رفقاً بنفسك، أقسم لك بالله وبشرفي أن الدكتور أكد لي اليوم أن لنادر أياماً قليلة جداً ويغادر المتشفى سليماً معافى. . .).
- (سليماً معافى. . . متمتعاً. . . بكامل صحته.، هيه. . . يا رب، سيغادر المتشفى إلى الأبد. . . هذه هي الحقيقة!).
- (أجل، سيغادره لتعيشا معاً في نعيم إلى الأبد! سهام!).
- (بابا. . .).
- (هلمي نجلس قليلاً في الحديقة، هلمي يا ابنتي، القمر جميل، والنسيم رَخِيّ، و. . .).
- (بابا. . .).
- (سهام!).
- (أنا لا أحب الحديقة ولا أحب القمر. . . لنبق هنا. . . الدنيا برد!).
- (يا ابنتي لا تعبسي للدنيا هكذا. . .).
- (الدنيا؟ آه يا بابا. . . سأعبس لها إلى أن يشاء الله!).
- (لا حول ولا قوة إلا بالله. . . سهام، أنت تحرقين نفسك وتتلفين روحك في نار عاطفية كان ينبغي ألا تجعلي لها وزناً في رجاحة عقلك وسلامة تفكيرك. . . لقد كنت أحاول أن أصارحك بحقيقة نادر ولكني كنت أخشى على قلبك الغض وشبابك الرطب أن تعصف بهما كلماتي، مع أنه لخيرك. . . سهام! استيقظي يا ابنتي! حقاً لقد أحبك نادر كما تحبينه، وكنت أنا نفسي ألمس محبته لك وهو يكلمني من أجلك، وعندما سلّمني (السوار الماسي الجميل) الذي جعله تقدمةً لزواجه منك، كنت أشهد في عينيه دموعاً محبوسة تريد أن تنهمر، عرفت منها أثر تحقيق الأحلام في نفوس الشباب - ولقد كنت أوشك أن أرفض هذا الزواج أول الأمر، لما كنت ألحظه في صحة نادر من التدهور والتهدم، لكني قرأت حبه في عينيك، وشهدت حرارة روحه تتورد في خديك، فتألمت، وفرحت، وذكرت (المرحومة) والدتك وما كانت تتمناه لك من السعادة الأبدية ورخاء البال، فوافقت، وضاعف ألمي وفرحي أن رأيتك سعيدة به بقدر ما هو سعيد بك، وهنا فقط. . . غلطتي. . . غلطتي التي لا يغفرها لي إلا أني لم أكن أعرف أن تدهور صحة هذا الشاب النبيل هو أول هذا المرض الخبيث العضال. . . سهام! استجمعي قواك! لا تجزعي هكذا. . . إن ألف شاب جميل رقيق القلب وافر الغنى في انتظارك. . . وقد خاطبني الكثيرون فعلاً قبل أن يعترض طريق حظك ولدي نادر. . . سهام. . تشجعي! أنت صغيرة يافعة يا بنيَّة! نحن كلنا نرثي لشباب نادر، وكنا نضرع إلى الله أن يشفيه!. . . و. . .
- (بابا. . .).
- (سهام!).
- (ماذا تقول؟ كنا نضرع إلى الله!. . . ماذا قال لك الدكتور اليوم؟).
- (هذا هو الذي كنت أخشى أن يكون! ليهدأ قلبك يا بُنيَّتي، وليستيقظ عقلك الساهي. . . أريد ألا أفقد ابنتي الوحيدة كما فقدت زوجتي ارحمي أباك الشيخ المحطم الذي لم يعد له أمل في الحياة غيرك. . . أنت شمسه المشرقة فلا تحرميه من دفئها إلى الأبد. . . إن ثلج لمشيب يطفئ روحي قليلاً قليلاً. . . وكلما رأيتك يا سهام ارتد إليَّ شبابي، وانهزمت آلامي، وتفرجت كروبي. . . فلولاك للحقت بأمك، ولولاك لأغطش ظلام المنون حياتي. . . سهام! انظري إليَّ! أرهفي أذنيك! تحملي الصدمة معي. . . نادر في الطور الأخير من المرض. . .).
- (بابا. . .).
- (سو. . .! سهام! هي صدمة كبيرة لا شك، وأشد منها أنني أرجوك. . . أرجوك يا ابنتي. . . أرجوك. . . يا. . . سهام!).
وساد بين الرجل وابنته صمت عميق، تخللته دموع أَسْوَانة. . . ثم وصل الأب حديثه قائلاً:
- (أرجوك يا ابنتي أن تقطعي علائقك بنادر. . . دعي ما في القلب للقلب، ولكن لا تذهبي إليه. . . لا تزوريه في المصحة. . . لقد أنذرني الدكتور مرتين، وقد فصل الممرضة المسكينة التي كانت ترحم دموعك وترثي لحبك فتوصلك إليه في ظلام الليل خلسة! العدوى يا سهام! أنت غالية عندي جداً، وعزيزة عليَّ جدً، وإذا فقدتك فقدت كل شيء. . . سهام! سهام! تكلمي يا ابنتي! ردي عليَّ! ماذا؟ تبكين!؟ أنت طفلة. . . لا، لا. . . ألم يخلق الله غير نادر. . .).
- (بلى. . . بلى يا أبي! لم يخلق الله غير نادر لي. . . لي أنا على الأقل! ولذلك. . . لا أعدك! لا يمكن أن أعِدَك يا بابا. . . و. . . أنا متعبة جداً. . . أريد أن أنام. . . عن إذنك).
مسكينة سهام! لقد جاءت نصيحة والدها متأخرة جداً! لقد كانت تنتظر حتى تنام أعين الرقباء، وتغفى جفون الليل، ثم تنسل في جنح الظلام إلى المصحة، غير حفلة ببرد الشتاء،
ولا قر الصحراء؛ وهناك كانت ترشو البواب الفقير، وتجزل له العطاء، ثم تعرج إلى الطابق العلوي، فإذا لقيها بعض الخدم حفوا بها واحتفوا، فتنفح هذا قرشاً وذاك قرشين، حتى تلقى الممرضة الصغيرة الجميلة التي كانت تعرف سر قلبها وعلالةَ نفسها، فتنسى هذه كل قوانين المصحة في سبيل قوانين الحب، وتمضي بين يديها إلى غرفة نادر. . . المسلول المدنف البائس. . . فتقف لحظة خاطفة، وتستأذن. . . لتخلي الطريق المكهرب بين القلبين الحبيبين.
وكان نادر يقدر لسهام تجشمها الصعاب من أجله، وكان يلقاها دائماً بابتسامة عذبة محزونة، وعينين سادرتين مغرورقتين، وروح تكاد تثب لتلقها بذراعين من سرور!
يا لله. . . ويا للحب!!
لم يكن نادر يجهل خباثة مرضه، ولم يكن يجهل أن عدواه شديدة الفتك، وكانت سهام كنزه الروحي الذي يضمن له السعادة والأحلام، ولذلك كان يحرسها دائماً بإبعاد فمه عن ناحيتها، وكان يزوي وجهه عنها أو يدسه في منديل كلما كلمها. وكانت هي لا تبالي أن تدنوا منه لتدلل له على أنه حياتها، وأنها لا تبالي أن تصاب بمثل ما يشكو منه، وذلك من عمى الحب وجهله؛ بيد أنه كان يرجوها في حرارة أن تبتعد، فإذ لم تُصِخْ، دس رأسه بين الوسادتين، وراح ينتحب. فتشفق عليه وتبتعد.
وفُصلت الممرضة التي كانت تُسهل لها زيارة نادر لفتنةٍ شبت بين الخدم من أجل قروش سهام. . . والحق أن الرحمة بالمحبين في هذه الأماكن الخطيرة حماقة من الرحماء المشفقين!
على أن سهاماً لم تَعيَ بزيارة نادر، بل استطاعت بقروشها أيضا أن تنفذ إليه مرات ومرات!
ولم تكن سهام تجهل أن فتاها في الطور الأخير من مرضه، ولم تكن في حاجة لأن يخبرها أبوها بذلك، ولكن تلّقي الأخبار السيئة يكون جديداً كلما امتلأت به الأذن مرة بعد أخرى، وضاعف وقع الخبر في نفس سهام أن الدكتور أكّده. فلما ذهبت إلى مخدعها لتنام طفقت تتقلب في أشواك من الهموم، وفوق إبر من الأفكار السوداء التي تشبه الخفافيش.
وذهب أبوها إلى مخدعه كذلك، ولكنه ما كاد يستقر فيه حتى سمع ابنته تسعل. . . ثم
تسعل. . . وهنا هاجت خلية من اليعاسيب في رأسه، فنهض من فوره وتوجه إلى غرفتها؛ ولكنه وقف عند الباب يَتسمَّع ويتسمّع. . .
(أه يا نادر. . . يا حبيبي يا نادر. . . كيف أعيش بعدك يا نادر؟. . .
وكان الصوت ضعيفاً عميقاً يتشقق عن صدر ممزق ونفس محروبة؟
ودخل الوالد الذاهل عن نفسه فجلس بجانب ابنته على سريرها ومر بأصابعه على رأسها فأحس كأنه يحترق.
وكانت سهام ما تنفك تسعل. . . وتسعل.
ونهض أبوها فتكلم مع أحد أصدقائه الأطباء في (التليفون) فجاء على عجل. . . وزار سهاما. . . وبكل أسف كان هو نفس الدكتور الذي تسبب في فصل الممرضة من المصحة.
وداعبها الطبيب بكلمات حلوة منمقة معسولة، وخرج ولم يكلم أباها. . ولكنها سمعته يقول وهو يطوي الدرج (أنا قلت، أنا قلت. . .) فكانت حماقة أدهى من حماقة الممرضة!
وتبسمت سهام تبسماً حزيناً، وجعلت تتمتم (نادر؟ سويا يا نادر!!).
ولما أحضرت قوارير الدواء وزجاجاته حدجتها الفتاة بنظرات الاشمئزاز ولم تذق منها جرعة!
واشتدت وطأة المرض على سهام، ولم تكن هناك وسيلة خير من انتقالها إلى المصحة، المصحة نفسها. . . ولم تشعر بغضاضة وهي تلم شعثها لتنتقل إليها، بل كانت تحس كأنها ذاهبة إلى الجنة لتلقى ثمة حبيبها الذي خيل لها كأنه دخلها منذ بعيد. . ومن العجيب أن صحتها تقدمت تقدما محسوساً في الأيام لأولى، لأن شعور الفرح والرضى لمجاورة نادر كان يغمر قلبها ويفعمه بالمسرة.
وجاءت ساعة الهول والفزع الأكبر.
أقضت سهام ليلة مقرورة ممتلئة بالوساوس؛ ولم تكن عينها تغفل قليلاً إلا لتصحوا فزعة من أحلام سوداء تتعلق بنادر. . . فلقد رأته مسجى فوق سريره، وقد تناثر الورد من حوله، ولف في ثوب حريري أبيض كبير هفهاف، ووقف عند رأسه عصفوران أبيضان يغردان تغريداً مشيجاً حزيناً. . ثم ما هي إلا لحظة حتى أغمض النائم عينيه. . . وطار العصفوران إلى السماء. . .!
وهبت سهام مذعورة. . . وآلت ن تذهب إلى نادر، وعبثاً حاولت الممرضة الطيبة الموكلة بها أن تطمئنها. . . وعبثاً حاول الخدم معاونة الممرضة في تسكين روح سهام. . . التي راحت تصرخ بملء صوتها الضعيف المحشرج. . . وهبت تناضل الجميع لتمضي إلى حيث فتاها المريض.
وجاء الطبيب. . . وفشلت كل مساعيه في إقناعها بالنوم والراحة. . . وأخيراً سمح لها.
كانت تمشي ضعيفةً موهونة متثاقلة، وطوت الدرج في مشقة. . . وكانت تسعل سعالاً مؤلماً. ولما دنت من غرفة حبيبها المسكين وقفت تسترق السمع.
(آه. . . . آه) ثم سعال يعقبه (سهام! يا سهام! أنائمة أنت! شفاك الله ي حبيبتي! ألا أراك! وداعاً إذن!) وكان الصوت خشناً كأنه يخرج من بين شقي رحا!
- (نادر! ملك يا نادر!).
- (سهام!).
- (أجل! أنا سهام، مالك! أمتعب أنت؟).
- (لا، ولكني أعتب عليك، أ. . . أتنزلين. . . آه).
- (مالك يا نادر؟).
- (اذهبي إلى غرفتك فاستريحي. . . الدنيا برد. . . ارحمي نفسك. . . أنا شاكر لك. . . آه. . .).
- (بل أجلس معك يا نادر. . . مالك!).
- (لا شيء لا تنزعجي؟).
وكان الطبيب الرحيم البار ينظر إليهما ويبكي؟
- (خبرني يا حبيبي. . . أتشكو شيئاً!).
- (اطمئني يا سهام. . . يجب أن تعيشي لوالدك ولشبابك).
- (أنت تزعجني!).
- (لا تنزعجي أبداً!. . . فأنا. . .).
وضعف الصوت قليلاً. . . ثم قليلاً
- (مالك. . . مالك. . . يا دكتور، تعال. . . اكشف عليه!).
- (لا فائدة يا سهام! يجب أن تعيشي! سهام!).
- (نعم يا حبيبي!).
- (أل. . . آه. . . كم أستحي أن أقول لك؟).
- (بل قل. . . قل يا نادر!).
- (كنت حلم أن فوز منك بقبلة تنير لي طريقي إلى الدار الآخرة!).
ودنت منه، وقبل أن تهوي على فمه تقبله، انقض الدكتور فحال بينهما!؟!
يا للسخف!
ولان قلب الدكتور فوضع منديله على وجه نادر، وأشار إلى الفتاة، فدنت منه. . . وطبعت عليه قبلة باكية. . . ولكنها أحست بشفتيه الباردتين المثلوجتين. . . وبحركة خاطفة رفعت المنديل وحدقت في وجه الفتى. . . ولكن. . . وا أسفاه. . . لقد فارق الحياة.
وتوجهت سهام إلى الله بنفس حزينة راضية. . . وغادرت المصحة بعد أيام، ولكن لا إلى قصر أبيها وحدائقه. . . ولا إلى أحلامها وأمانيها.
دريني خشبة
البريد الأدبي
رد وبيان - حول أغلاط مزعومة
نشرت (الرسالة) في عددها الصادر في 31 أغسطس (العدد رقم 165) مقالاً بعثت به إليها أثناء غيبتي في أوربا عنوانه (أسبوع في سبتمانيا: من ذكريات العرب والإسلام في غاليس)، عرضت فيه بعض حقائق وملاحظات أثارتها في نفسي زيارتي لسبتمانيا وقواعدها في أواخر شهر يوليه الماضي.
وقد لُفت نظري عقب عودتي بأيام قلائل إلى كلمة نشرتها إحدى الصحف السورية لكاتب يزعم أنه اكتشف في مقالي أغلاطاً شنيعة في التاريخ والجغرافيا، وينتهز الفرصة فيوجه إليَّ وإلى (الرسالة) وصاحبها فيضاً من الغمز البذيء الذي ينم في كل كلمة منه عن حقد مضطرم وسوء نية يعلم الله وحده مصدرهما والباعث عليهما.
وأنا أربأ بقلمي و (بالرسالة) عن التورط في هذا المعترك الوضيع، معترك السباب والقذف، وأكتفي بالرد على ما جاء في الكلمة خاصاً بالأغلاط المزعومة.
نقل الكاتب عبارتين من مقالي هما موضوع المناقشة، وهذه أولهما:
(ولقد كانت سبتمانيا - وهو سمها القديم، ومعناه ذات المدن السبعة - أو لانجدوك الحديثة، أول أرض إفرنجية غزها العرب عقب افتتاح الأندلس، واتخذوها قاعدة لغزواتهم في جنوب فرنسا، وجعلوها ولاية أندلسية سميت بالثغر أو الرباط لوقوعها على ساحل البحر الأحمر. . .).
وأظن أنه لا يخفى على فطنة أي قارئ أن كلمة (الأحمر) هنا إنما هي خطأ مطبعي أو سهو قلمي لا شك فيه، جاءت مكان (البحر الأبيض)؛ ولا يمكن بداهة - والمقال كله على سبتمانيا وجنوب فرنسا والأندلس - أن يخطر ببال قارئ أن كاتب هذا المقال يقع في مثل هذا الخطأ الساذج. وإذن فالجهل المقرون بسوء النية هو وحده الذي يملي على الكاتب ملاحظته الخرقاء، وقوله إني أجهل الجغرافيا، وأنتقل بالقاري من شواطئ البحر الأبيض إلى شواطئ البحر لأحمر.
وكيف يتصور إنسان سوى هذا الحاقد المصدور أن الخطأ هنا حقيقي وقد كتبتُ مسودة المقال وأنا أتجول في سبتمانيا ذاتها وعلى شواطئ البحر الأبيض نفسه؟
ومن الأسف أنه قد تسربت إلى المقال بعض أغلاط وتحريفات مطبعية أخرى، خصوصاً وأني لم أتول تصحيحه بنفسي كما عادتي نظراً لتغيبي في أوربا، وكان ثمة تحريف آخر هول في شأنه الكاتب تهويلاً سخيفاً؛ فقد نقل العبارة الآتية التي وردت أثناء حديثي عن موقعة رونشفال:
(ولرونشفل ذكرى خالدة في التاريخ والقصص الفرنسيين، فقد كانت مسرحاً للموقعة الشهيرة التي مزق فيها العرب جيش كارل الأكبر (شارلمان)، حين عوده من غزوته لأسبانيا الشمالية، التي نظم فيها رولان وصيف شارلمان أنشودته الشهيرة
والكاتب يظن أنه يقول جديداً حين ينقل إلينا من (لاروس) أن رولان ليس هو ناظم الأنشودة، وأن ناظمها لم يعرف.
ونعود فنقول هنا إن سوء النية الذي يملي على الكاتب كل عباراته أعماه عن أن يرى في العبارة كلها ثغرة ونقصاً يقطعان بأن هناك تحريفاً؛ فقد سقطت في الواقع منها كلمات غيرت كل مبناها ومعناها؛ وقد كان النص، على ما أذكر:(وفي تلك الموقعة، وفي أبطالها الإفرنج ولا سيما هرودلاند أو رولان وصيف شارلمان نظمت الأنشودة الشهيرة) أو ما في معناه.
ومع ذلك فالحديث عن موقعة رونشفال ومصرع رولان وأنشودته يكوّن فصلاً من كتابنا (تاريخ العرب والموريسكيين في أسبانيا)؛ وقد نشر هذا الفصل فعلاً في مجلة (الهلال) الغراء في عددها الصادر في أول فبراير سنة 1934 (ص 453 وما بعدها)؛ وهذا ما ورد فيه خاصاً بهذه النقطة:
(وتضع الرواية الإفرنجية تاريخ الموقعة في 18 أغسطس سنة 778 (ذي القعدة سنة 161)؛ وبينما تقنع الرواية العربية بالإشارة إليها في عبارات موجزة إذا بالرواية الإفرنجية والكنسية تفيض في تفاصيلها إفاضة ظاهرة. وأوثق وأدق الروايات الإفرنجية عنها هي رواية اينهارت مؤرخ شارلمان ومعاصره، فهو يفصل حوادثها ويذكر من هلك فيها من الأمراء والسادة، ومنهم اجهارد رئيس الخاصة، وانسلم محافظ القصر، وهرودلاند حاكم القصر البريتاني. وهرودلاند هو رولان بطل الأنشودة الشهيرة التي نظمت عن هذه الموقعة، والتي ما زالت أثراً خالداً لقريض الفروسية في العصور الوسطى؛ ذلك أن
الأسطورة اتخذت من حوادث هذه الموقعة موضوعاً لقصة حربية حماسية حرفت فيها الوقائع الأصلية أيما تحريف، ولكنها تستبقى مكان الموقعة وبعض أشخاص التاريخ.
(وهي نورمانية الأصل ظهرت لأول مرة في القرن الحادي عشر أعني بعد الموقعة بثلاثة قرون، ودونت أولاً في بعض القصص اللاتينية، ثم دونت بالنظم في قصيدة طويلة بعنوان (أنشودة رولان).
هذا ما كتبناه ونشرناه منذ أعوام عن أنشودة رولان، نكرره هنا ليعرف الكاتب أننا لسنا في حاجة إلى تصحيحاته المستقاة من معجم الأحداث.
أما كون رولان كان وصيفاً لشارلمان أم لا، فهذه نقطة لا أهمية لها، وقد كان رولان أو هرودلاند أحد البارونات الإقطاعيين؛ وكان من الشرف الملوكي يومئذ أن يلتحق البارونات بمناصب الوصفاء في البلاط، وكان هرودلاند من هؤلاء.
وبعد، فهذا ما يزعم الكاتب أنه أخطاء شنيعة اكتشفها في مقالنا، وهذا ما يريد أن يتخذه تكأة للتعريض بنا وبالكتاب المصريين والأدب المصري.
وهذه نغمة نعرفها؛ وقد نعرف الباعث عليها.
بيد أن الكاتب يوهم إذ يحسب أنه يستطيع أن ينال منا بمثل هذا الإسفاف.
أما إشارته إلى كتابنا (ديوان التحقيق والمحاكمات الكبرى) فنكتفي بأن نرد عليه بأن المراجع التي ذيلنا بها كل فصل من فصوله تكفي لأن تخرس ألسنة السفهاء والمتحاملين.
محمد عبد الله عنان
الجاحظ في كتاب (تراث الإسلام)
نشرت (الرسالة) الغراء منذ عددين استهلال فصل الفلسفة والإلهيات في كتاب (تراث الإسلام) ورد فيه كلام للجاحظ يتضمن الاعتراف بفضل الفكر اليوناني على أهل الملة الإسلامية؛ ثم نشرت في العدد المضي مقالاً للأديب الكريم محمد طه الحاجري أثبت فيه نص الجاحظ وذكر الكتاب الذي ورد فيه هذا النص.
والذي سيطلعون على فصل الفلسفة والإلهيات في هذا الكتاب سيعرفون من تعليقاتي الجهد الشاق الذي تحملته في البحث عن النصوص التي وردت فيه، ولا سيما أن المؤلف كان في
أكثر هذه النصوص لا يشير إلى المراجع التي استقاها منها.
والقراء يعرفون أن الجاحظ قد ألف العديد من الكتب والرسائل وأنه كان يتناول في الكتاب الواحد موضوعات شتى واتجاهات متباينة قد لا يربطها عنوان الكتاب. فمعرفة نص له في كتاب مجهول الاسم أمر عسير كل العسر. ومع ذلك فقد حاولت جهد الطاقة أن أعرف الكتاب الذي ورد فيه هذا النص فلم أوفق؛ فاتصلت بالأستاذ جيوم مؤلف الفصل - في إنجلترا - لعله يهديني إلى الكتاب الذي ورد فيه النص، فرد معتذراً بنسيان المصدر. . . ولما كنت أعلم أن لهذا النص خطره من حيث إنه يحمل اعترافاً له قيمته العلمية فقد تعمدت أن أثبت في ذيل الصفحة التي ورد فيها كلام الجاحظ تعليقاً أوردت فيه نصوصاً لعلماء المسلمين وفلاسفتهم (كالشهر ستاني، وابن خلدون، وابن سبعين) وكلها تؤيد هذه النظرة التي ذهب إليها الجاحظ.
ويستنكر الأديب الكريم من المؤلف استشهاده بهذا النص على أن الفلسفة العربية ليست إلا صورة من الفلسفة اليونانية مشوبة ببعض الفلسفات الفارسية والهندية. وهذه ملحوظة لم أهمل الالتفات إليها والرد عليها في تعليق آخر قد نشرته الرسالة مع المقال وذكرت فيه آراء بعض مؤرخي الفلسفة الإسلامية من علماء الغرب وانتهيت إلى تقرير الرأي بأن للفلسفة الإسلامية كياناً خاصاً يميزها من غيرها من سائر الفلسفات لأن ثمرات من عبقرية أهلها.
على أن هذا الرأي لا ينفي القول بأن الجاحظ وغير الجاحظ من علماء المسلمين وفلاسفتهم قد اعترفوا بما كان لليونان من فضل على أهل الملة الإسلامية؛ بل أسرف أكثرهم فعزا إليهم الفلسفة الإسلامية في شتى آفاقها.
وإني لأشكر للأديب الكريم اهتمامه بالأمر ومسارعته بالرد؛ فلو تأخر رده أسبوعاً واحداً لكان الكتاب في أيدي قرائه. وتعذر علينا تبليغ النص إليهم.
توفيق الطويل
عضو لجنة الجامعيين لنشر العلم
هل للشاعرة ما للشاعر من الحرية في التعبير الشعري؟
حول رسالة آنسة
قلت في إحدى مقالات (شعراء الموسم في الميزان) أثناء نقد قصيدة السيدة منيرة توفيق: (والمرأة المصرية تستمد صمتها من أبي الهول، ولا أعني إلا الإمساك عن التعبير عن الإحساس والعواطف تعبيراً صادقاً؛ فمن شعرت من بنات مصر فإنما تقول في الأخلاق والنصائح، متجاوزة خوالج النفس ودقائق الحس، لأن طبعها الصموت الحي يأبى الحديث عنها، وأعتقد أنها لو فعلت، وكانت موهوبة التعبير والأداء لأتت بالغرائب).
ومنذ أيام وردت إلي هذه الرسالة في بريد (الرسالة)، وهي بعد الديباجة:
(طالعتني الرسالة في عددها - 162 - بكلمتكم الغراء عن المرأة المصرية وتنحيها عن التعبير الشعري في ميادين الأدب بإحساس النفس وخوالجها.
أقول الشعر بالسليقة ثم أخذته دراسة لميلي الفطري، ولدي الكثير في الغزل والوصف والرثاء والحماسة إلى غيره من أبواب الشعر ولكني لا أجرؤ على نشره؛ وقد دفعتني كلمتكم إلى إرفاق مقطوعات من بعض ما لدي دفاعاً عن المرأة المصرية. فإن استشعر أستاذي فيها خيراً أقبلت على النشر وواليت الإنتاج.
أنتظر رأيكم على صفحات (الرسالة) وكم في (الكنانة) من مثيلاتي؛ وتنازل بقبول أسمى تحياتي.
ف. ع. ح آنسة
فهذه الآنسة، وإن كانت تعبر عن إحساسها لا تجرؤ على نشر ما تقول، كما تقول، وتدفع عن المرأة المصرية تهمة القصور باطلاعنا على قطع من شعرها أكثرها في الغزل. . . ونسوق إلى القارئ منه شيئاً:
تقول في أبيات عنوانها (سهام):
كان الفؤاد يقول لو ذقت الهوى
…
ونعمت حيناً مثل من ناجى اللوى
ظن الغرام عادة لم يدر ما
…
يخفيه من ليل المحب وما طوى
ذكر اللقاء وما به من لذة
…
لكنه جهل الصبابة والنوى
فنصحت مهلاً يا فؤادي واتئد
…
ليس الغرام كما ظننت بما احتوى
لكنه ما يرعوى عن غيه
…
ومضى به شوق الغرام إلى الهوى
والآن من سهم اللحاظ معذب
…
قد ذاب من وله يود لو ارعوى
وهذه جرأة نجرؤ على أن نقول إن فيها كسباً جديداً للأدب، فإذا كان الشعر يستمد أكثر ما يستمد من العاطفة، فالمرأة هي العاطفة، وهي تلهم الرجل الشعر، فإذ تشعر هي فإنما تنفق عن سعة وتتدفق من معين.
والحق أن المرأة إنما تحجم عن هذا الميدان لأنها تخشى إنكار لرجل عليها، فهي لا تقول الشعر المعبر عن حقائق نفسها لأنها ترى أنها ستقوله لنفسها، فتؤثر الصمت؛ ولعل رسائل الحب الخاصة أفسح مجال لها، فهي تحسن فيها وتبدع، فلو أتيح لها أن تظهر في حلبة الشعر مطلقة الحرية في التعبير لبذت وفاقت.
وبعد، فإلى الآنسة (ف. ع. ح) يساق الحديث:
أشكرك على خطابك الرقيق، وأحيي فيك هبة الشعر التي تبدو فيما بعثت به، وإن كان يعوزه الشيء الكثير من سلامة الأسلوب ومتانة النسج وصحة المعاني، وترتيب الأفكار. ولعل ما قرأته في نقدنا للشعراء يهون عليك وقع هذا الكلام، فقد عاهدنا الحق أن نسلك سبيله لا نحيد عنه. وإن كان هذا بدء معالجتك لقرض الشعر فهو يبشر بالإجادة؛ فأحب لك الآن أن تقبلي على المطالعة والدراسة أكثر مما تقبلين على الإنتاج والنشر.
عباس حسان خضر
عيد جوسلين وذكرى لامارتين
في أوائل شهر سبتمبر أقيم في مدينة ماكون بفرنسا عيد أدبي مؤثر؛ وماكون هي مسقط رأس الفونس دي لامارتين ومرتع طفولته وحداثته؛ ولكن العيد الأدبي الذي أقيم بها لم يكن خاصاً بشخص لامرتين، بل بإحدى منظوماته الشعرية الشهيرة، ونعني (جوسلين) التي مضى على صدورها مائة عام.
احتفل إذن بالعيد المئوي (لجوسلين) في ماكون، وأثيرت ذكرى الشاعر الكبير، ورأس هذه لحفلات المؤثرة مسيو هنري بوردو عضو الأكاديمية الفرنسية، وكان من ضمنها حج أصدقاء الشاعر إلى ضيعته (ميلي) التي قضى فيها أعذب أعوامه وشاد بذكرها في (مذكراته) وإلى قصر سان بوان حيث قضى أعوام مجده، ثم إلى قصر مونصو حيث
قضى أعوامه الأخيرة في غمر من البؤس والنسيان.
ما منظومته (جوسلين) التي عرفت أيام صدورها منذ مائة عام أعظم ظفر أدبي يمكن تصوره فتكاد تنسى اليوم إلى جانب منظومات وروايات أخرى للامارتين؛ ذلك أنها لم تكن خير ما نظم من حيث الصناعة والصقل، ولكنها كانت من أبدع ما نظم من حيث الروح، والقوة، والطابع الغنائي.
وجوسلين قصة شعرية كبيرة في أكثر من ثمانية آلاف بيت، وكانت حسبما يريد ناظمها أول قسم من ديوان شعري ضخم يسمى (الرؤى) وبطلها جوسلين وهوفتي يتيم وولد قروية فقيرة، حملته ظروف الأسرة على الالتحاق بمدرسة الكهنة على رغم إرادته؛ وكان ذلك أيام الثورة، فلم يلبث أن طرد من المعهد قبل إتمام دروسه؛ وعندئذ فر إلى الجبال ليتقي المطاردة التي كان يعرض إليها رجال الدين يومئذ، وعاش في كهف في الجبال، وعطف عليه راع كان يمده خفية بالطعام والشراب.
وفي ذات يوم رأى جوسلين شيخاً وفتى يطاردهما القتلة فتقدم لعونهما، وأسلمه الشيخ فتاه، ولكن لم ينج من رصاص لقتلة فخر قتيلاً، بينما التجأ ولده ناجياً إلى كهف جوسلين.
وعاش جوسلين مع هذا الفتى الحدث في وئام وحب أخوي؛ ولكن حدث ذات يوم أثناء هبوب العاصفة أن جرح الفتى، ولاحظ جوسلين دهشاً مرتاعاً، أثناء العناية به، أن يعني بفتاة لا بفتى، فعندئذ هام جوسلين بالفتاة (لورانس)، وأخذ يحلم بالاقتران به.
ولكن الدهر لم يلبث أن فرق بينهما. ذلك أن جوسلين دعاه أسقفه ومربيه وهو على أهبة الموت ليقوم له بالواجبات الأخيرة، ولم ير جوسلين بداً من قبول التضحية، فهرول إلى الأسقف، وقام بواجبه. وفي أثناء ذلك تركت لورانس العنان لأهوائها وغدت فتاة خاطئة، ودارت الأيام دورتها، فالتقى جوسلين ثانية بلورانس يطلب إليها الصفح ويحمل إليها الغفران.
تلك هي خلاصة (جوسلين) والمعروف أنها صورة لقصة واقعة بطلها راهب من أصدقاء الشاعر يدعى الأب (دومون)، كان من رجال الدين أيام الثورة، فعهد إليه ذات يوم أحد أصدقائه الأشراف بصغرى بناته لكي ينقذها من خطر السجن والإعدام فهام كل منهما بالآخر، وأثمر الحب ابنة سميت الآنسة ميلي؛ وعاش القس محترماً مبجلاً يزاول مهنته
بعطف ورقة حتى توفي؛ ونظم لامارتين فيه قصيدة مؤثرة؛ وما زال قبره في تلك الأنحاء يعرف بقبر (جوسلين) بطل منظومة لامارتين.
من أرض البكم
صدر أخيراً بالألمانية كتاب عنوانه (من أرض البكم) بقلم الكسندرا آنسروفا: وأرض البكم هي سجون روسيا السوفيتية ومعاقلها التي خصصت لنفي الأحياء وإخراس الألسن؛ والكسندرا آنسروفا هي نبيلة من نبيلات روسيا القيصرية، كانت أيام الثورة فتاة في السادسة عشرة، فقبض عليها البلاشفة وزجوها إلى السجن بين من زج من النبلاء والنبيلات؛ وما زالت الكسندرا تتقلب من سجن إلى سجن ومن منفى إلى منفى بلا تهمة ولا ذنب معين إلا أنها من النبيلات، وتعاني أروع الآلام المادية والمعنوية، تارة في جزر البحر الأبيض الشمالي، وتارة في سيبيريا حتى سنة 1932؛ وعندئذ أفرج عنها بعد اعتقال دام نحو خمسة عشر عاماً، وبعد أن ظهرت براءتها ناصعة؛ فلبثت في موسكو مدى عامين تدون مذكراتها عن (أرض البكم) ثم غادرت بعد ذلك موسكو إلى ألمانيا، وهنالك نشرت كتابها المذكور.
والكتاب يصف السجون والمعاقل الروسية في عهد البلاشفة وصفاً دقيقاً مروعاً، ومنه يتبين أنها ليست في العهد الحالي أقل شناعة وروعة منها أيام القياصرة؛ وفي الكتاب ملاحظات وحقائق غريبة عن الحياة الجديدة في روسي البلشفية.
الثقافة الألمانية في عصر النازي
نشرت الكاتبة الأمريكية دوروثي تومبسون في مجلة (الشؤون الخارجية) الأمريكية مقالاً عن (الثقافة في عصر النازي) استعرضت فيه خواص الحركة الأدبية والثقافية في ألمانيا الحاضرة، ومما قالته إن العالم الخارجي يدهش اليوم لأن أصوات الكتاب الألمان لا تسمع، ولأنهم رضوا طائعين أن يكونوا آلة صماء للسياسة والوحي السياسي، ولكن الحقيقة أن هنالك مبررات قوية لهذا الخضوع المطبق؛ ذلك أن الحركة الفكرية والثقافة كلها قد وضعت في ألمانيا الحاضرة تحت نظام حديدي مطلق، ومن المستحيل اليوم أن يصدر في ألمانيا كتاب أو نشرة ديموقراطية أو اشتراكية، أو أدب يصطبغ بالصبغة الدولية مخالفاً
للنزعة القومية الداخلية. وقانون الصحافة الجديد قوامه عصبة من الكتاب المتعصبين لنظريات الجنس هم أعضاء جمعية الصحافة القومية، ولهم وحدهم الحق في الكتابة تحت الرقابة الحزبية، ويعاقب من يخرج منهم على قانون الجمعية أو على مبادئها بالحبس سنة؛ وكل ناشر يشجع كاتباً ليس ملتحقاً بجمعية الصحافة وينشر له شيئاً يعاقب بالحبس والغرامة وكل ما يكتب تفرض عليه رقابة صارمة؛ وتخضع الحركة الفنية لمثل هذا النظام الحديدي؛ وترى مس تومبسون أن ما يسود الحركة الثقافية اليوم من تلون ونفاق أساسه الاضطهاد والخوف يجعلها في نظر العالم المتمدن مأساة مروعة تفوق تلك المأساة التي يعرضها الكتاب المنفيون أنفسهم؛ فبين أولئك المنفيين اليوم أعظم كتاب ألمانيا المعاصرة مثل توماس مان، وأخيه هينريش، وأرنولد زفايخ، وأريك ريمارك، وطائفة أخرى من أقطاب الكتاب اليهود.
والأدب الألماني يصدر اليوم في ظل النازي بكثرة، ولكنه أدب محتضر تنقصه روح الابتكار، وينتظر زعماء النازي عبثاً ظهور العبقريات الأدبية الممتازة. ذلك أن حرية الفكر هي روح كل أدب وفن؛ وما دام التفكير مصفداً والآراء مملاة، فسوف يكون ثمة أدب وثمة كتب ومجلات، ولكن لن يكون ثمة أدب جميل أو رفيع؛ وسيكون ثمة كتاب، ولكن كتاب محترفون أرقاء.
دائرة معارف للجنس الأسود
سيكون للسود في القريب العاجل دائرة معارف خاصة تتحدث عن كل ما يتعلق بهم من الخواص الجنسية والشؤون السياسية والاجتماعية، والتاريخ والمدنية؛ وتعد هذه الموسوعة الجديدة الآن في أمريكا؛ وقد وضع المشروع منذ سنة 1932، وانتخب لرآسة اللجنة المشرفة على تنفيذه زعيم السود الدكتور دي بوا أستاذ علم الاجتماع في جامعة اتلانتا؛ وتشمل اللجنة ممثلين لجمعية تقدم العلوم الأفريقية، ومجلس الجمعيات العلمية الأمريكية ولجنة التعاون الدولي؛ وستعنى الموسوعة بالتحدث عن جميع أطوار حياة الجنس الأسود وتاريخه ومدنيته، سواء في إفريقية أو أمريكا؛ وسيكون لهذه الموسوعة الطريفة شأن عظيم في دوائر الأدب والسياسة والاجتماع؛ وسيعطى لها اسم (موسوعة الرجل الأسود)
مذكرات ملوكية
صدرت أخيراً ترجمة إنكليزية لمذكرات الأميرة أولاليا الأسبانية، وهي ابنة الملكة إيزابيلا وعمة الفونسو ملك أسبانيا السابق؛ وتشغل هذه المذكرات زهاء سبعين عاماً تنتهي بقيام الجمهورية في أسبانيا سنة 1931؛ وتتضمن أخباراً وقصصاً ونبذاً كثيرة عن معظم الحوادث التي تمس أسبانيا، وعن جميع القصور الأوربية التي تتصل الأمير أولاليا بمعظمها بصلة القرابة؛ وتبسط الأميرة بنوع خاص الأسباب والعوامل التي أدت إلى سقوط الملكية الأسبانية، والتي شرحتها غير مرة للأسرة المالكة، ولم يحفل بنذيرها إنسان. كذلك تتضمن المذكرات نبذاً كثيرة عن عظماء هذا العصر الذين اتصلوا بالبلاط الأسباني.
الكتب
رسائل الأهالي
على طريق الهند
للأستاذ عبد الفتاح السرنجاوي
رسالة قيمة أخرجتها إلى شباب الشرق جريدة الأهالي التي كانت تصدر في بغداد وعُطلت وا أسفاه منذ طويل، وهي بحث علمي قوي رجع كاتبه الفاضل فيه إلى أكثر من تسعين مرجعاً من السجلات والمحفوظات الرسمية والأوراق البرلمانية وتقارير الخبراء العسكريين والدبلوماسيين ونصوص المعاهدات، وكتب المؤلفين المهتمين بدراسة شؤون الشرق أمثال أندريو وبوشام وتشرشل وكرزون وفوكس ومون وإسكويث والسير وليم ولكوكس والسير ارنولد ولسون وغيرهم.
وقد تبدأ هذه الرسالة بمقدمة جغرافية عن أهمية الخليج الفارسي وسواحله العربية والفارسية والشمالية، ثم يجاوز الكاتب هذا إلى كلام في تاريخ الخليج، ثم يثبت أن المصالح المادية وتجارة أوربا مع الشرق كانت سابقة للأطماع السياسية، وينتهي إلى أن الإنجليز إنما سيطروا على الخليج الفارسي في سبيل الهند موضحاً أهمية الهند للرأسمالية الإنجليزية وكاشفاً في قوة وجرأة عن سياسة هذه الرأسمالية واستخدامها الهنود لمصلحة الاستعمار وارتكابها الأخطاء الوحشية في سبيل تحقيق ذلك كله. ويرى الكاتب الفاضل أن وادي الفرات أقرب الطرق إلى الهند؛ ويشرح موقف إنجلترا إزاء المسألة الشرقية، واهتمامها بطريق السويس والفرات؛ ويبين ما نشأ من نزاع بين الرأسمالية الدولية من أجل سكة حديد بغداد حتى قيام الحرب العالمية.
ويرى كاتب الرسالة فوق ما تقدم أن الثورة الصناعية جعلت الإنجليز في حاجة إلى كثير من المواد الغفل، وقد يكون اهتمامهم بالعرق لأنها طريق الهند أولاً ولأنها أيضاً حقلٌ يستطيعون أن يحصلوا منه على القطن والحبوب، وتفسير ذلك اهتمام الإنجليز بمشروعات الري العراقية التي أسفرت عن فشل مروّع. ثم يشير إلى مرحلة أخرى كشف فيها النفط ودعي الجنرال فيشر إلى الاستعاضة به عن الفحم وما بذلته إنجلترا في سبيل تأسيس
الشركات وعقد الصفقات والمقاولات حتى سنة 1931.
وينتقل إلى أن الحالة السياسية كان لها أثرها في علاقات الإنجليز بالشرق، فقد قامت النهضة التركية وسيقت تركيا لإعلان الحرب وتقاسم الاستعماريون أملاكها، ثم كان أخيراً انتصار مصطفى كمال والقضاء على الأطماع البريطانية في تركيا ذاتها.
كذلك ظهر السيد جمال الدين الأفغاني ونشر آراءه الحرة في إيران فقامت حركات دستورية واضطرابات عنيفة سنة 1905 و 1908. ثم قامت الحركة الوطنية بعد 1917 فخذلت الاستعمار البريطاني ونصَّبت رضا شاه بهلوي ملكاً على إيران الجديدة.
كذلك قاتل الأفغان ضد الاستعمار تحت راية أمان الله حتى الحرب العامة التي أعلن أمان الله بعدها الاستقلال وأسس العلاقات السياسية مع روسيا. ثم جاوز هذا حرب الإنجليز وعقد معهم صلح (راوال بندي)، وسار في سبيل الإصلاح الداخلي والنهوض بالأفغان حتى قامت عليه الثورة المدبرة التي أنزلته عن عرشه وأجلست مكانه نادر شاه.
وتشير الرسالة إلى بوادر ليقظة في الهند بعد فظائع الاستعمار البريطاني مما أدّى إلى عقد المؤتمر الوطني الهندي ونجاحه في الدعوة إلى الثورة في وجه الإنجليز حتى سنة 1912، ثم اقتربت الحرب العظمى فاستملت إنجلترا الهنود لتضمهم إلى صفوفها. وبعد انتهاء الحرب عمد الإنجليز إلى إصلاحات سنة 1919 ثم قامت الحركة الوطنية بزعامة غاندي فحكم عليه وانقسمت الجبهة الوطنية ودارت مفاوضات مؤتمر الطاولة المستديرة وانتهى الأمر بتخاذل غاندي وانصرافه عن قضية الوطن الهندي إلى قضية المنبوذين.
كذلك مصر قامت فيها حركة وطنية بدأها محمد علي الكبير ورعاها إسماعيل والطبقة الأرستقراطية؛ وهنا يناقش الكاتب الوضع الاقتصادي للبلاد، ويتتبع أدوار الوطنية التقليدية على يد عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول، ويبين كيف أن اتحاد الجهات العليا مع الإنجليز، وتآمر الأرستقراطيين مع السياسة الاستعمارية جعل الوطنية التقليدية على وشك الزوال. ذلك ختام الفصل الذي تعرضت فيه الرسالة لمصر. على أن ما شهده العالم من تضحيات الشباب المصري، وتكوين الجبهة الوطنية ممثلة جميع الأحزاب، وعقد معاهدة 1936، لا شك يجعل الوطنية التقليدية التي شار إليها الكاتب الفاضل تدخل في دور جديد يُقضى فيه على مساومة المستعمرين وخذلان قضية الوطن برعاية مصالح الطبقة الخاصة.
ثم يناقش الكاتب الفاضل بعد هذا تعاون روسيا السوفيتية مع الشرقين الأوسط والأدنى، وإلغاء الامتيازات، وعقد المعاهدات مع تركيا وإيران وأفغانستان، وتكوين الجبهة الشرقية ضد الاستعمار، وما كان فوق ذلك من أثر النظام السوفيتي في حكومة تركيا الجمهورية مستدلاً بمشروع السنوات الخمس التركي.
وببحث الفصل الأخير من فصول هذه الرسالة القيمة في النزاع الاستعماري في الشرق الأدنى وكيف أن الإنجليز يستعينون بأمراء العرب ضد الوحدة الإسلامية، وكيف أن سياستهم قد انخذلت في الشرق بعد الانقلاب الروسي، فعمدت إنجلترا إلى سياسة جديدة هي مفاوضة فرنسا وعقد المؤتمرات لتوزيع العروش والتيجان، وبذلك حكمت جبهة الدفاع في البلاد العربية واتخذت العرق مقراً لها. وأخيراً يشير إلى المعاهدة العراقية الإنجليزية ويرى أن الخلاص لا يكون إلا بالانتباه إلى مكائد الاستعمار للعراقيين ولشعوب الشرق على حد سواء، وبالاستفادة من موقع العراق الخطير على إنقاذ أنفسهم من ويلات المستعمرين، وأن يتذكروا دائماً أن خلاصهم من الاستعمار منوط بتعاون شعوب الشرق كافة وبزوال الاستعمار من جميع البلاد الشرقية.
ذلك نموذج سام للكتابة القومية الشرقية التي لا يختص بها قطر دون آخر من بلاد الشرق، والتي تريد أن تجعل من الشرق بأسره جبهة قوية في وجه الاستعمار. والواقع أن الشعوب المغلوبة على أمرها في أشد الحاجة إلى مثل هذه الكتابة الشعبية التي تنير لها سبل الحياة الحرة وتشعرها بما ينصب فوق رأسها من إرهاق وعسف؛ ذلك هو الأدب الحي الذي يقلب أوضاع الجماعات ويهدم الفاسد من أنظمة الحكم ليقيم محلها أنظمة صالحة تنفذها حكومات صالحة تعمل لصالح المحكومين وتستمد منهم وجودها وقوتها، والشرق العربي والطوراني ظلاً طويلاً مسخرين لصالح الحاكمين والمستعمرين الذين أذلوا الجماعات، ووقفوا في سبيل إظهار مواهب الفرد وقوته، وحالوا دون أن يعمل لصالح الجماعة التي يعيش فيها. ورسائل الأهالي التي نحن بصددها كتابة شعبية صريحة كتبتها أقلام جريئة قوية لا تخشى في الحق لومة لائم ووجهتها إلى شباب الشرق تثير فيه الحماسة وتذكي جذوة القومية الشرقية العزيزة وتجلي عن ويلات الاستعمار ومساوئه وتفتح عين الشرق على خير وسائل الخلاص، وهذه الأقلام المخلصة لا ريب حقيقة بالتعظيم والتقدير.
عبد الفتاح السرنجاوي
مدرس التاريخ بمعهد القاهرة